فصل: تفسير الآيات (21- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (21- 22):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}
لما فرغ سبحانه من ذكر المؤمنين، والكافرين، والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب التفاتاً للنكتة السابقة في الفاتحة. و(يا) حرف نداء، والمنادى أيّ: وهو اسم مفرد مبني على الضم، و(ها) حرف تنبيه مقحم بين المنادى، وصفته. قال سيبويه: كأنك كررت (يا) مرتين، وصار الاسم بينهما كما قالوا: ها هو ذا.
وقد تقدّم الكلام في تفسير الناس، والعبادة، وإنما خص نعمة الخلق، وامتنّ بها عليهم؛ لأن جميع النعم مترتبة عليها، وهي أصلها الذي لا يوجد شيء منها بدونها، وأيضاً، فالكفار مقرُّون بأن الله هو: الخالق {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] فامتن عليهم بما يعترفون به، ولا ينكرونه. وفي أصل معنى الخلق، وجهان: أحدهما التقدير، يقال: خلقت الأديم للسقاء: إذا قدّرته قبل القطع. قال زهير:
ولأنت تفرى ما خلقت وبع ** ض القوم يخلق ثم لا يفرى

الثاني: الإنشاء، والإختراع، والإبداع. ولعل أصلها الترجي، والطمع، والتوقع، والإشفاق، وذلك مستحيل على الله سبحانه، ولكنه لما كانت المخاطبة منه سبحانه للبشر كان بمنزلة قوله لهم: افعلوا ذلك على الرجاء منكم، والطمع، وبهذا قال جماعة من أئمة العربية منهم سيبويه. وقيل: إن العرب استعملت لعل مجردة من الشك بمعنى لام كي. والمعنى هنا: لتتقوا، وكذلك ما وقع هذا الموقع، ومنه قول الشاعر:
وَقُلتْمُ لَنَا كُفُّوا الحروبَ لَعلنا ** نَكُفّ وَوَثَّقْتُم لَنَا كُلَّ مَوثِقِ

فَلَمَّا كفَفَنْاَ الحَربَ كانت عُهُودُكمُ ** كَشَبّه سَرَابٍ في المَلأ مَُتَألقِ

أي: كفوا عن الحرب لنكف، ولو كانت لعل للشك لم يوثقوا لهم كل موثق، وبهذا قال جماعة منهم قطرب. وقيل إنها بمعنى التعرّض للشيء كأنه قال: متعرّضين للتقوى. و{جعل} هنا بمعنى صيّر لتعدّيه إلى المفعولين، ومنه قول الشاعر:
وقد جعلت أرى الإثنين أربعة ** والأربع اثنين لما هدَّني الكبر

و{فِرَاشاً} أي: وطاء يستقرون عليها. لما قدّم نعمة خلقهم أتبعه بنعمة خلق الأرض فراشاً لهم، لما كانت الأرض التي هي مسكنهم، ومحل استقرارهم من أعظم ما تدعو إليه حاجتهم، ثم أتبع ذلك بنعمة جعل السماء كالقبة المضروبة عليهم، والسقف للبيت الذي يسكنونه كما قال: {وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: 32]. وأصل البناء: وضع لبنة على أخرى، ثم امتنّ عليهم بإنزال الماء من السماء. وأصل ماء موه، قلبت الواو لتحركها، وانفتاح ما قبلها ألفاً فصار ماه، فاجتمع حرفان خفيفان، فقلبت الهاء همزة. والثمرات جمع ثمرة. والمعنى: أخرجنا لكم ألواناً من الثمرات، وأنواعاً من النبات، ليكون ذلك متاعاً لكم إلى حين. والأنداد جمع ندّ، وهو المثل والنظير. وقوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة حالية، والخطاب للكفار، والمنافقين.
فإن قيل: كيف وصفهم بالعلم، وقد نعتهم بخلاف ذلك حيث قال: {ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] {ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} [البقرة: 18]. فيقال: إن المراد أن جهلهم، وعدم شعورهم لا يتناول هذا، أي: كونهم يعلمون أنه المنعم دون غيره من الأنداد، فإنهم كانوا يعلمون هذا، ولا ينكرونه كما حكاه الله عنهم في غير آية.
وقد يقال: المراد، وأنتم تعلمون، وحدانيته بالقوّة، والإمكان لو تدبرتم، ونظرتم. وفيه دليل على وجوب استعمال الحجج، وترك التقليد. قال ابن فُورَك: المَراد وتجعلون لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد. انتهى. وحذف مفعول تعلمون للدلالة على عدم اختصاص ما هم عليه من العلم بنوع واحد من الأنواع الموجبة للتوحيد.
وقد أخرج البزار، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: ما كان {يا ايها الذين آمنوا} فهو أنزل بالمدينة، وما كان {يُذْهِبْكُمْ يا أَيُّهَا الناس} فهو أنزل بمكة.
وروى نحو ذلك عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، والطبراني في الأوسط، والحاكم وصححه.
وروى نحوه أبو عبيد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر من قول علقمة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن مردويه، وابن المنذر عن الضحاك مثله. وكذا أخرج أبو عبيد عن ميمون بن مهران.
وأخرج نحوه أيضاً ابن أبي شيبة، وابن مردويه عن عروة، وعكرمة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَيُّهَا الناس} قال: هي للفريقين جميعاً من الكفار والمؤمنين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: {لَعَلَّكُمْ} يعني (كي).
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عون بن عبد الله بن عتبة؛ قال: لعل من الله واجب.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة في قوله: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض فِرَاشاً} [البقرة: 22] أي: تمشون عليها وهي: المهاد والقرار {والسماء بِنَاء} [البقرة: 22] قال: كهيئة القبة وهي سقف الأرض وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن أنه سئل: المطر من السماء أم من السحاب؟ قال: من السماء.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن كعب قال: السحاب غربال المطر، ولولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض، والبذر.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن خالد بن معدان قال: المطر ماء يخرج من تحت العرش، فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا، فيجتمع في موضع يقال له: الأبزم، فتجيء السحاب السود، فتدخله، فتشربه مثل شرب الإسفنجة، فيسوقها الله حيث يشاء.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة قال: ينزل الماء من السماء السابعة، فتقع القطرة منه على السحاب مثل البعير.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن خالد بن يزيد قال: المطر منه من السماء، ومنه ما يستقيه الغيم من البحر، فَيُعْذبُهُ الرعد والبرق.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المطر عن ابن عباس قال: إذا جاء القطر من السماء تفتحت له الأصداف، فكان لؤلؤاً.
وأخرج الشافعي في الأم، وابن أبي الدنيا في كتاب المطر، وأبو الشيخ في العظمة عن المطلب بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ساعةٍ من ليلٍ، ولا نهارٍ إلا والسماء تمطر فيها، يصرفه الله حيث يشاء».
وأخرج ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: ما نزل مطر من السماء إلا ومعه البذر، أما لو أنكم بسطتم نطعاً لرأيتموه.
وأخرج ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: المطر. مزاجة من الجنة، فإذا كثر المزاج عظمت البركة، وإن قلّ المطر، وإذا قلّ المزاج قلت البركة، وإن كثر المطر.
وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يصرفه حيث يشاء، وينزل مع المطر كذا وكذا من الملائكة يكتبون حيث يقع ذلك المطر، ومن يرزقه، ومن يخرج منه مع كل قطرة.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} أي: لا تشركوا به غيره من الأنداد التي لا تضرّ، ولا تنفع {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {أَندَاداً} قال: أشباهاً.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود: {أَندَاداً} قال: أكفاء من الرجال يطيعونهم في معصية الله.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {أنداداً} قال: شركاء.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والنسائي، وابن ماجه، وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: قال رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال: «جعلتني لله ندا ما شاء الله وحده».
وأخرج ابن سعد عن قتيلة بنت صيفى قالت: «جاء حبر من الأحبار إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون، قال: وكيف؟ قال: يقول أحدكم لا والكعبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من حلف، فليحلف بربّ الكعبة فقال: يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله نداً، قال: وكيف ذلك قال: يقول أحدكم ما شاء الله وشئت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمن قال منكم ما شاء الله قال ثم شئت».
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان».
وأخرج أحمد، وابن ماجه، والبيهقي، وابن مردويه عن طفيل بن سخبرة: «أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مرّ برهط من اليهود فقال: أنتم نعم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيراً ابن الله، فقالوا: وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله، وشاء محمد. ثم مرّ برهط من النصارى فقال: أنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، قالوا: وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبح أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخطب، فقال: إن طفيلاً رأى رؤيا، وإنكم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم، فلا تقولوها، ولكن قولوا ما شاء الله وحده لا شريك له».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفا سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله حياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص، ولولا القط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل ما شاء الله وشئت، وقول الرجل لولا الله وفلان، هذا كله شرك.
وأخرج البخاري، ومسلم عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أي: الذنب أعظم؟ «قال: أن تجعل لله ندّاً، وهو خلقك» الحديث.

.تفسير الآيات (23- 24):

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}
{فِى رَيْبٍ} أي: شك {مما نزلنا على عبدنا} أي: القرآن أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم. والعبد مأخوذ من التعبد، وهو التذلل. والتنزيل التدريج، والتنجيم. وقوله: {فَاتُواْ} الفاء جواب الشرط، وهو: أمر معناه التعجيز. لما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية، ويبطل الشرك، عقبه بما هو: الحجة على إثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وما يدفع الشبهة في كون القرآن معجزة، فتحدّاهم بأن يأتوا بسورة من سوره. والسورة الطائفة من القرآن المسماة باسم خاصّ، سميت بذلك، لأنها مشتملة على كلماتها كاشتمال سور البلد عليها. و{من} في قوله: {مّن مّثْلِهِ} زائدة لقوله: {فأتوا بسورة مثله}. والضمير في {مثله} عائد على القرآن عند جمهور أهل العلم. وقيل: عائد على التوراة والإنجيل، لأن المعنى: فأتوا بسورة من كتاب مثله؛ فإنها تصدّق ما فيه. وقيل يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى من بشر مثل محمد: أي: لا يكتب، ولا يقرأ. والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر، أو القائم بالشهادة، أو المعاون، والمراد هنا: الآلهة.
ومعنى {دُونِ}: أدنى مكان من الشيء، واتسع فيه حتى استعمل في تخطي الشيء إلى شيء آخر، ومنه ما في هذه الآية، وكذلك قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين} [آل عمران: 28] وله معان أخر، منها التقصير عن الغاية، والحقارة، يقال هذا الشيء دون: أي: حقير، ومنه:
إذا ما علا المرءُ رامَ العُلا ** وَيقنعُ بالدون من كان دُونا

والقرب يقال: هذا دون ذاك: أي: أقرب منه، ويكون إغراء، تقول: دونك زيداً: أي خذه من أدنى مكان {مِن دُونِ الله} متعلق بادعوا: أي: ادعوا الذين يشهدون لكم من دون الله إن كنتم صادقين فيما قلتم، من أنكم تقدرون على المعارضة، وهذا تعجيز لهم، وبيان لانقطاعهم. والصدق خلاف الكذب، وهو مطابقة الخبر للواقع، أو للاعتقاد أولهما على الخلاف المعروف في علم المعاني.
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} يعني فيما مضى {وَلَن تَفْعَلُواْ} أي: تطيقوا ذلك، فيما يأتي، وتبين لكم عجزكم عن المعارضة {فاتقوا النار} بالإيمان بالله، وكتبه، ورسله، والقيام بفرائضه، واجتناب مناهيه، وعبر عن الإتيان بالفعل، لأن الإتيان فعل من الأفعال لقصد الاختصار، وجملة {لن تفعلوا} لا محل لها من الإعراب، لأنها اعتراضية، ولن للنفي المؤكد لما دخلت عليه، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها؛ لأنها لم تقع المعارضة من أحد من الكفرة في أيام النبوّة، وفيما بعدها، وإلى الآن. والوَقُود بالفتح: الحطب، وبالضم: التوقد أي: المصدر، وقد جاء فيه الفتح. والمراد بالحجارة الأصنام التي كانوا يعبدونها؛ لأنهم قرنوا أنفسهم بها في الدنيا، فجعلت وقوداً للنار معهم.
ويدل على هذا قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] أي: حطب جهنم. وقيل المراد بها حجارة الكبريت، وفي هذا من التهويل مالا يقدّر قدره من كون هذه النار تتقد بالناس، والحجارة، فأوقدت بنفس ما يراد إحراقه بها.
والمراد بقوله: {أُعِدَّتْ} جعلت عدّة لعذابهم، وهيئت لذلك.
وقد كرّر الله سبحانه تحدّي الكفار بهذا في مواضع في القرآن، منها هذا، ومنها قوله تعالى في سورة القصص: {قُلْ فَأْتُواْ بكتاب مّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صادقين} [القصص: 49] وقال في سورة سبحان: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] وقال في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صادقين} [هود: 13] في سورة يونس: {وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يُفْتَرِى مِن دُونِ الله ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ العالمين * أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صادقين} [يونس: 37- 38].
وقد وقع الخلاف بين أهل العلم هل وجه الإعجاز في القرآن هو: كونه في الرتبة العلية من البلاغة الخارجة عن طوق البشر، أو كان العجز عن المعارضة للصرفة من الله سبحانه لهم عن أن يعارضوه، والحق الأول، والكلام في هذا مبسوط في مواطنه.
وقد أخرج أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبيّ من الأنبياء إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {وَإِن كُنتُمْ في رَيْبٍ} قال: هذا قول الله لمن شكّ من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {وَإِن كُنتُمْ في رَيْبٍ} قال: في شك {مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ} قال: من مثل القرآن حقاً، وصدقاً لا باطل فيه، ولا كذب.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن مجاهد {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ} قال: مثل القرآن {وادعوا شُهَدَاءكُم} قال: ناس يشهدون لكم إذا أتيتم بها أنها مثله.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {شُهَدَاءكُمُ} قال: أعوانكم على ما أنتم عليه {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} فقد بين لكم الحق.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} يقول: لن تقدروا على ذلك، ولن تطيقوه.
وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد؛ أنه كان يقرأ كل شيء في القرآن، {وقودها} برفع الواو الأولى، إلا التي في السماء ذات البروج {النار ذَاتِ الوقود} [البروج: 5]- بنصب الواو- وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الكبير، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إن الحجارة التي ذكرها الله في القرآن في قوله: {وَقُودُهَا الناس والحجارة} [البقرة: 24] حجارة من كبريت خلقها الله عنده كيف شاء.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس مثله.
وأخرج ابن جرير أيضاً عن عمرو بن ميمون مثله أيضاً.
وأخرج ابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {وَقُودُهَا الناس والحجارة} قال: «أوقد عليها ألف عام حتى احمرّت، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة لا يطفأ لهبها».
وأخرج ابن أبي شيبة، والترمذي، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً مثله.
وأخرج أحمد، ومالك، والبخاري، ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية؟ قال، فإنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهنّ مثل حرّها».
وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن ماجه، والحاكم وصححه عن أنس مرفوعاً، نحوه أيضاً.
وأخرج مالك في الموطأ، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: أترونها حمراء مثل ناركم هذه التي توقدون، إنها لأشد سواداً من القار.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {أُعِدَّتْ للكافرين} قال: أي: لمن كان مثل ما أنتم عليه من الكفر.