فصل: تفسير الآيات (66- 70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (66- 70):

{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}
{لَوْ} حرف امتناع، و(أن) مصدرية، أو تفسيرية؛ لأن {كَتَبْنَا} في معنى أمرنا. والمعنى: أن الله سبحانه لو كتب القتل والخروج من الديار على هؤلاء الموجودين من اليهود ما فعله إلا القليل منهم، أو لو كتب ذلك على المسلمين ما فعله إلا القليل منهم، والضمير في قوله: {فَعَلُوهُ} راجع إلى المكتوب الذي دلّ عليه كتبنا، أو إلى القتل والخروج المدلول عليهما بالفعلين، وتوحيد الضمير في مثل هذا قد قدّمنا وجهه. قوله: {إِلاَّ قَلِيلٌ} قرأه الجمهور بالرفع على البدل. وقرأ عبد الله بن عامر، وعيسى بن عمر {إِلاَّ قَلِيلاً} بالنصب على الاستثناء، وكذا هو في مصاحف أهل الشام، والرفع أجود عند النحاة. قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} من اتباع الشرع والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم {لَكَانَ} ذلك {خَيْراً لَّهُمْ} في الدنيا والآخرة، {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} لأقدامهم على الحق، فلا يضطربون في أمر دينهم {وَإِذّن} أي: وقت فعلهم لما يوعظون به {لآتيناهم مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً ولهديناهم صراطا مُّسْتَقِيماً} لا عوج فيه ليصلوا إلى الخير الذي يناله من امتثل ما أمر به، وانقاد لمن يدعوه إلى الحق.
قوله: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول} كلام مستأنف لبيان فضل طاعة الله والرسول، والاشارة بقوله: {فَأُوْلَئِكَ} إلى المطيعين، كما تفيده من {مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} بدخول الجنة، والوصول إلى ما أعدّ الله لهم. والصدّيق المبالغ في الصدق، كما تفيده الصيغة. وقيل: هم فضلاء أتباع الأنبياء. والشهداء: من ثبتت لهم الشهادة، والصالحين: أهل الأعمال الصالحة. والرفيق مأخوذ من الرفق، وهو: لين الجانب، والمراد به: المصاحب لارتفاقك بصحبته، ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض، وهو منتصب على التمييز، أو الحال، كما قال الأخفش.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ} هم: يهود، كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضاً.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن سفيان أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ نحوه.
وقد روي من طرق أن جماعة من الصحابة قالوا: لما نزلت الآية لو فعل ربنا لفعلنا. أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن.
وأخرجه ابن أبي حاتم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير.
وأخرجه أيضاً عن شريح بن عبيد.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والضياء المقدسي في صفة الجنة، وحسنه عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: إنك لأحب إليّ من نفسي، وإنك لأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي، فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي، وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يردّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى نزل جبريل بهذه الآية: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} الآية.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه.

.تفسير الآيات (71- 76):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)}
قوله: {يا أيها الذين آمنوا} هذا خطاب لخلص المؤمنين، وأمر لهم بجهاد الكفار، والخروج في سبيل الله، والحذر، والحذر لغتان: كالمثل، والمثل. قال الفراء: أكثر الكلام الحذر، والحذر مسموع أيضاً، يقال: خذ حذرك أي: احذر، وقيل: معنى الآية: الأمر لهم بأخذ السلاح حذراً؛ لأن به الحذر. قوله: {فانفروا} نفر ينفر بكسر الفاء نفيراً، ونفرت الدابة تنفر بضم الفاء نفوراً. والمعنى: انهضوا لقتال العدوّ. أو النفير اسم للقوم الذين ينفرون، وأصله من النفار، والنفور، وهو: الفزع، ومنه قوله تعالى: {وَلَّوْاْ على أدبارهم نُفُوراً} [الإسراء: 46] أي: نافرين، قوله: {ثُبَاتٍ} جمع ثبة، أي: جماعة، والمعنى: انفروا جماعات متفرقات. قوله: {أَوِ انفروا جَمِيعاً} أي: مجتمعين جيشاً واحداً. ومعنى الآية: الأمر لهم بأن ينفروا على أحد الوصفين؛ ليكون ذلك أشدّ على عدوّهم، وليأمنوا من أن يتخطفهم الأعداء، إذا نفر كل واحد منهم وحده أو نحو ذلك، وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً} [التوبة: 41] وبقوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ} [التوبة: 39] والصحيح أن الآيتين جميعاً محكمتان: إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى نفور الجميع، والأخرى عند الاكتفاء بنفور البعض دون البعض.
قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ} التبطئة والإبطاء التأخر، والمراد: المنافقون كانوا يقعدون عن الخروج، ويقعدون غيرهم. والمعنى: أن من دخلائكم وجنسكم ومن أظهر إيمانه لكم نفاقاً من يبطيء المؤمنين ويثبطهم، واللام في قوله: {لِمَنْ} لام توكيد، وفي قوله: {لَّيُبَطّئَنَّ} لام جواب القسم، و{من} في موضع نصب، وصلتها الجملة. وقرأ مجاهد، والنخعي، والكلبي {لَّيُبَطّئَنَّ} بالتخفيف {فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ} من قتل أو هزيمة أو ذهاب مال. قال هذا المنافق قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم حتى يصيبني ما أصابهم {وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ مِنَ} غنيمة أو فتح {لَّيَقُولَنَّ} هذا المنافق قول نادم حاسد {ياليتنى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً}.
قوله: {كَأَن لَّمْ يَكُنِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} جملة معترضة بين الفعل الذي هو {ليقولن} وبين مفعوله، وهو: {يا لَيْتَنِى} وقيل: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً. وقيل: المعنى: ليقولنّ كأن لم تكن بينكم وبينه مودّة أي: كأن لم يعاقدكم على الجهاد. وقيل: هو في موضع نصب على الحال. وقرأ الحسن: {لَّيَقُولَنَّ} بضم اللام على معنى من. وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم {كَأَن لَّمْ تَكُنْ} بالتاء على الفظ المودّة. قوله: {فَأَفُوزَ} بالنصب على جواب التمني. وقرأ الحسن: {فَأَفُوزَ} بالرفع.
قوله: {فَلْيُقَاتِلْ في سَبِيلِ الله} هذا أمر للمؤمنين، وقدّم الظرف على الفاعل للاهتمام به. و{الذين يَشْرُونَ} معناه: يبيعون، وهم المؤمنون، والفاء في قوله: {فَلْيُقَاتِلْ} جواب الشرط مقدّر، أي: لم يقاتل هؤلاء المذكورون سابقاً الموصوفون بأن منهم لمن ليبطئن، فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم البائعون للحياة الدنيا بالآخرة، ثم وعد المقاتلين في سبيل الله بأنه سيؤتيهم أجراً عظيماً لا يقادر قدره، وذلك أنه إذا قتل فاز بالشهادة التي هي أعلى درجات الأجور، وإن غلب، وظفر كان له أجر من قاتل في سبيل الله مع ما قد ناله من العلوّ في الدنيا والغنيمة، وظاهر هذا يقتضي التسوية بين من قتل شهيداً، أو انقلب غانماً، وربما يقال: إن التسوية بينهما إنما هي في إيتاء الأجر العظيم، ولا يلزم أن يكون أجرهما مستوياً، فإن كون الشيء عظيماً هو من الأمور النسبية التي يكون بعضها عظيماً بالنسبة إلى ما هو دونه، وحقيراً بالنسبة إلى ما هو فوقه.
قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون في سَبِيلِ الله} خطاب للمؤمنين المأمورين بالقتال على طريق الالتفات. قوله: {المستضعفين} مجرور عطفاً على الاسم الشريف، أي: ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، وسبيل المستضعفين حتى تخلصوهم من الأسر، وتريحوهم مما هم فيه من الجهد. ويجوز أن يكون منصوباً على الاختصاص، أي: وأخص المستضعفين، فإنهم من أعظم ما يصدق عليه سبيل الله، واختار الأوّل الزجاج، والأزهري.
وقال محمد بن يزيد: أختار أن يكون المعنى، وفي المستضعفين، فيكون عطفاً على السبيل، والمراد بالمستضعفين هنا: من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال الكفار، وهم: الذين كان يدعو لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعيّاش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين» كما في الصحيح. ولا يبعد أن يقال: إن لفظ الآية أوسع، والاعتبار بعموم اللفظ لولا تقييده بقوله: {الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا} فإنه يشعر باختصاص ذلك بالمستضعفين الكائنين في مكة؛ لأنه قد أجمع المفسرون على أن المراد بالقرية الظالم أهلها: مكة. وقوله: {مِنَ الرجال والنساء والولدان} بيان للمستضعفين.
قوله: {الذين ءامَنُواْ يقاتلون في سَبِيلِ الله} هذا ترغيب للمؤمنين، وتنشيط لهم بأن قتالهم لهذا المقصد لا لغيره {والذين كَفَرُواْ يقاتلون في سَبِيلِ الطاغوت} أي: سبيل الشيطان، أو الكهان، أو الأصنام، وتفسير الطاغوت هنا بالشيطان أولى لقوله: {فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً} أي: مكره، ومكر من اتبعه من الكفار.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {فانفروا ثُبَاتٍ} قال: عصباً، يعني سرايا متفرقين {أَوِ انفروا جَمِيعاً} يعني كلكم.
وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عنه قال في سورة النساء: {خُذُواْ حِذْرَكُمْ فانفروا ثُبَاتٍ أَوِ انفروا جَمِيعاً} نسختها: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} [التوبة: 122].
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله: {ثُبَاتٍ} أي: فرقاً قليلاً.
وأخرج عن قتادة في قوله: {أَوِ انفروا جَمِيعاً} أي: إذا نفر نبي الله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد أن يتخلف عنه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ} إلى قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} ما بين ذلك في المنافقين.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مقاتل بن حيان في الآية قال: هو فيما بلغنا عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد ابن جبير {فَلْيُقَاتِلْ} يعني: يقاتل المشركين {فِى سَبِيلِ الله} في طاعة الله {وَمَن يقاتل في سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ} يعني: يقتله العدوّ {أَو يَغْلِبْ} يعني: يغلب العدوّ من المشركين {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يعني: جزاءً وافراً في الجنة، فجعل القاتل والمقتول من المسلمين في جهاد المشركين شريكين في الأجر.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله: {فِى سَبِيلِ الله والمستضعفين} قال: وفي المستضعفين.
وأخرج ابن جرير، عن الزهري قال: وسبيل المستضعفين.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه من طريق العوفي عن ابن عباس قال: المستضعفون أناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا منها.
وأخرج البخاري، عنه قال: «أنا وأمي من المستضعفين».
وأخرج ابن جرير، عنه قال: القرية الظالم أهلها مكة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عائشة مثله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: إذا رأيتم الشيطان، فلا تخافوه، واحملوا عليه {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً}. قال مجاهد: كان الشيطان يتراءى لي في الصلاة، فكنت أذكر قول ابن عباس، فأحمل عليه، فيذهب عني.

.تفسير الآيات (77- 81):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)}
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} الآية، قيل: هم جماعة من الصحابة أمروا بترك القتال في مكة بعد أن تسرعوا إليه. فلما كتب عليهم بالمدينة تثبطوا عن القتال من غير شك في الدين بل خوفاً من الموت، وفرقاً من هول القتل، وقيل: إنها نزلت في اليهود، وقيل: في المنافقين أسلموا قبل فرض القتال، فلما فرض كرهوه، وهذا أشبه بالسياق لقوله: {وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} وقوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} الآية. ويبعد صدور مثل هذا من الصحابة. وقوله: {كَخَشْيَةِ الله} صفة مصدر محذوف، أي: خشية كخشية الله، أو حال، أي: تخشونهم مشبهين أهل خشية الله، والمصدر مضاف إلى المفعول، أي: كخشيتهم الله. وقوله: {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} معطوف على {كخشية الله} في محل جر، أو معطوف على الجار والمجرور جميعاً، فيكون في محل الحال كالمعطوف عليه، و{أو} للتنويع على أن خشية بعضهم كخشية الله، وخشية بعضهم أشد منها.
قوله: {وَقَالُواْ} عطف على ما يدل عليه قوله: {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ} أي: فلما كتب عليهم القتال، فاجأ فريق منهم خشية الناس: {وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنَا} أي: هلا أخرتنا، يريدون المهلة إلى وقت آخر قريب من الوقت الذي فرض عليهم فيه القتال، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم، فقال: {قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ} سريع الفناء لا يدوم لصاحبه، وثواب الآخرة خير لكم من المتاع القليل {لِمَنِ اتقى} منكم، ورغب في الثواب الدائم {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي: شيئاً حقيراً يسيراً، وقد تقدّم تفسير الفتيل قريباً، وإذا كنتم توفرون أجوركم، ولا تنقصون شيئاً منها، فكيف ترغبون عن ذلك، وتشتغلون بمتاع الدنيا مع قلته وانقطاعه.
وقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت} كلام مبتدأ، وفيه حثّ لمن قعد عن القتال خشية الموت، وبيان لفساد ما خالطه من الجبن، وخامره من الخشية، فإن الموت إذا كان كائناً لا محالة فمن لم يمت بالسيف مات بغيره. والبروج جمع برج: وهو البناء المرتفع، والمشيدة: المرفعة من شاد القصر: إذا رفعه، وطلاه بالشيد، وهو الجصّ، وجواب {لولا} محذوف لدلالة ما قبله عليه.
وقد اختلف في هذه البروج ما هي؟ فقيل: الحصون التي في الأرض، وقيل: هي القصور. قال الزجاج، والقتيبي: ومعنى مشيدة مطوّلة. وقيل: معناه مطلية بالشيد، وهو الجص، وقيل: المراد بالبروج: بروج في سماء الدنيا مبنية، حكاه مكيّ عن مالك، وقال: ألا ترى إلى قوله: {والسماء ذَاتِ البروج} [البروج: 1] {جَعَلَ في السماء بُرُوجاً} [الفرقان: 61] {وَلَقَدْ جَعَلْنَا في السماء بُرُوجًا} [الحجر: 16] وقيل: إن المراد بالبروج المشيدة هنا: قصور من حديد.
وقرأ طلحة بن سليمان: {يُدْرِككُّمُ الموت} بالرفع على تقدير الفاء، كما في قوله:
وقال رائدهم أرسوا نزاولها

قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} هذا، وما بعده مختص بالمنافقين، أي: إن تصبهم نعمة نسبوها إلى الله تعالى، وإن تصبهم بلية، ونقمة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردّ الله ذلك عليهم بقوله: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} ليس، كما تزعمون، ثم نسبهم إلى الجهل، وعدم الفهم، فقال: {فَمَالِ هَؤُلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} أي: ما بالهم هكذا.
قوله: {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله} هذا الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته، أي: ما أصابك من خصب، ورخاء، وصحة، وسلامة، فمن الله بفضله، ورحمته، وما أصابك من جهد، وبلاء وشدّة، فمن نفسك بذنب أتيته، فعوقبت عليه. وقيل: إن هذا من كلام الذين لا يفقهون حديثاً، أي: فيقولون ما أصابك من حسنة، فمن الله. وقيل: إن ألف الاستفهام مضمرة، أي: أفمن نفسك، ومثله قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ} [الشعراء: 22] والمعنى، أو تلك نعمة، ومثله قوله: {فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغاً قَالَ هذا رَبّى} [الأنعام: 77] أي: أهذا ربي، ومنه قول أبي خراش الهذلي:
رموني وقالوا يا خويلد لم ترع ** فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

أي: أهم هم؟ وهذا خلاف الظاهر، وقد ورد في الكتاب العزيز ما يفيد مفاد هذه الآية، كقوله تعالى: {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقوله: {أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
وقد يظن أن قوله: {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} مناف لقوله: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} ولقوله: {وَمَا أصابكم يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله} [آل عمران: 166]، وقوله: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] وقوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد: 11] وليس الأمر كذلك، فالجمع ممكن، كما هو مقرّر في مواطنه. قوله: {وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً} فيه البيان لعموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الجميع، كما يفيده التأكيد بالمصدر، والعموم في الناس، ومثله قوله: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} [سبأ: 28]، وقوله: {قُلْ ياأيها الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] {وكفى بالله شَهِيداً} [الفتح: 28] على ذلك.
قوله: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} فيه أن طاعة الرسول طاعة لله، وفي هذا من النداء بشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلوّ شأنه، وارتفاع مرتبته ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، ووجهه أن الرسول لا يأمر إلا بما أمر الله به، ولا ينهي إلا عما نهى الله عنه: {وَمَن تولى} أي: أعرض {فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي: حافظاً لأعمالهم، إنما عليك البلاغ، وقد نسخ هذا بآية السيف {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: أمرنا طاعة، أو شأننا طاعة.
وقرأ الحسن، والجحدري، ونصر بن عاصم بالنصب على المصدر، أي: نطيع طاعة، وهذه في المنافقين في قول أكثر المفسرين، أي: يقولون إذا كانوا عندك طاعة {وَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ} أي: خرجوا من عندك. {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ} أي: زوّرت طائفة من هؤلاء القائلين غير الذي تقول لهم أنت، وتأمرهم به، أو غير الذي تقول لك هي من الطاعة لك وقيل: معناه: غيروا وبدّلوا وحرّفوا قولك فيما عهدت إليهم، والتبييت: التبديل، ومنه قول الشاعر:
أتوني فلم أرض ما بيتوا ** وكانوا أتوني بأمر نكر

يقال بيت الرجل الأمر: إذا دبره ليلاً، ومنه قوله تعالى: {إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول} [النساء: 108] {والله يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ} أي: يثبته في صحائف أعمالهم ليجازيهم عليه.
وقال الزجاج: المعنى ينزله عليك في الكتاب. قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: دعهم وشأنهم حتى يمكن الانتقام منهم وقيل: معناه: لا تخبر بأسمائهم. وقيل: معناه: لا تعاقبهم. ثم أمره بالتوكل عليه، والثقة به في النصر على عدوه، قيل: وهذا منسوخ بآية السيف.
وقد أخرج النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف، وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا نبي الله كنا في عزة، ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة؟ فقال: «إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم»، فلما حوّله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} الآية.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في تفسير الآية نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد: أنها نزلت في اليهود.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ} الآية، قال: نهى الله هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ في قوله: {إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} قال: هو الموت.
وأخرجا نحوه، عن ابن جريج.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة {فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} قال: في قصور محصنة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال: هي قصور في السماء.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن سفيان نحوه.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، عن قتادة في قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} يقول: نعمة {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} قال: مصيبة {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} قال: النعم والمصائب.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} قال: هذه في السرّاء والضرّاء، وفي قوله: {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ} قال: هذه في الحسنات والسيئات، وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} يقول: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها، وفي قوله: {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ} قال: ما أصابه يوم أحد أن شجّ وجهه، وكسرت رباعيته.
وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق العوفي عنه في قوله: {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} قال: هذا يوم أحد يقول: ما كانت من نكبة فبذنبك، وأنا قدّرت ذلك.
وأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد أن ابن عباس كان يقرأ: «وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَنَا كتبتها عَلَيْكَ» قال مجاهد: وكذلك قراءة أبيّ، وابن مسعود.
وأخرج نحو قول مجاهد هذا ابن الأنباري في المصاحف.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} قال: هم أناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنا بالله ورسوله؛ ليأمنوا على دمائهم وأموالهم {فَإِذَا بَرَزُواْ} من عند رسول الله {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ} يقول: خالفوا إلى غير ما قالوا عنده، فعابهم الله.
وأخرج ابن جرير، عنه قال غير أولئك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.