فصل: تفسير الآيات (116- 122):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (116- 122):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)}
قوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} قد تقدّم تفسير هذه الآية، وتكريرها بلفظها للتأكيد، وقيل: كررت هنا لأجل قصة بني أبيرق، وقيل إنها نزلت هنا لسبب غير قصة بني أبيرق. وهو ما رواه الثعلبي، والقرطبي في تفسيريهما عن الضحاك: أن شيخاً من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلا أني لم أشرك بالله شيئاً مذ عرفته، وآمنت به، ولم أتخذ من دونه، ولياً، ولم أوقع المعاصي جرأة على الله، ولا مكابرة له، وإني لنادم وتائب ومستغفر، فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ} عن الحق {ضلالا بَعِيداً} لأن الشرك أعظم أنواع الضلال، وأبعدها من الصواب.
{إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا} أي: ما يدعون من دون الله إلا أصناماً لها أسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة وقيل المراد بالإناث: الموات التي لا روح لها كالخشبة، والحجر. وقيل المراد بالإناث: الملائكة لقولهم الملائكة بنات الله. وقرئ: {وثنا} بضم الواو والثاء جمع وثن، روى هذه القراءة ابن الأنباري عن عائشة. وقرأ ابن عباس {إلا أثنا} جمع وثن أيضاً، وأصله {وثن} فأبدلت الواو همزة، وقرأ الحسن {إلا أنثا} بضم الهمزة والنون بعدها مثلثة، جمع أنيث كغدير وغدر.
وحكى الطبري أنه جمع إناث كثمار وثمر.
وحكى هذه القراءة أبو عمرو الداني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وقرأ بها ابن عباس، والحسن، وأبو حيوة. وعلى جميع هذه القراءات، فهذا الكلام خارج مخرج التوبيخ للمشركين، والإزراء عليهم، والتضعيف لعقولهم، لكونهم عبدوا من دون الله نوعاً ضعيفاً {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً} أي: وما يدعون من دون الله إلا شيطاناً مريداً، وهو إبليس لعنه الله، لأنهم إذا أطاعوه فيما سوّل لهم فقد عبدوه.
وقد تقدّم اشتقاق لفظ الشيطان. والمريد: المتمرّد العاتي، من مرد: إذا عتا. قال الأزهري: المريد الخارج عن الطاعة.
وقد مرد الرجل مروداً: إذا عتا، وخرج عن الطاعة فهو مارد ومريد ومتمرّد.
وقال ابن عرفة: هو الذي ظهر شرّه، يقال شجرة مرداء: إذا تساقط ورقها وظهرت عيدانها، ومنه قيل للرجل أمرد: أي: ظاهر مكان الشعر من عارضيه.
قوله: {لَّعَنَهُ الله} أصل اللعن الطرد، والإبعاد.
وقد تقدّم وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط. قوله: {وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} معطوف على قوله: {لَّعْنَهُ الله} والجملتان صفة لشيطان، أي: شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله له وبين هذا القول الشنيع.
والنصيب المفروض: هو المقطوع المقدّر، أي: لأجعلنّ قطعة مقدّرة من عباد الله تحت غوايتي، وفي جانب إضلالي حتى أخرجهم من عبادة الله إلى الكفر به.
وقوله: {وَلأَضِلَّنَّهُمْ} اللام جواب قسم محذوف. والإضلال: الصرف عن طريق الهداية إلى طريق الغواية، وهكذا اللام في قوله: {وَلأَمَنّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ} والمراد بالأماني التي يمنيهم بها الشيطان: هي الأماني الباطلة الناشئة عن تسويله ووسوسته. قوله: {وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الأنعام} أي: ولآمرنهم بتبتك آذان الأنعام: أي: تقطيعها فليبتكنها بموجب أمري. والبتك: القطع، ومنه سيف باتك، يقال بتكه وبتكه مخففاً، ومشدّداً، ومنه قول زهير:
طارت وفي كفه من ريشها بتك

أي: قطع.
وقد فعل الكفار ذلك امتثالاً لأمر الشيطان واتباعاً لرسمه، فشقوا آذان البحائر والسوائب، كما ذلك معروف.
قوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله} أي: ولآمرنهم بتغيير خلق الله، فليغيرنه بموجب أمري لهم. واختلف العلماء في هذا التغيير ما هو؟ فقالت طائفة: هو الخصاء وفقء الأعين، وقطع الآذان.
وقال آخرون: إن المراد بهذا التغيير هو أن الله سبحانه خلق الشمس والقمر والأحجار، والنار، ونحوها من المخلوقات لما خلقها له، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، وبه قال الزجاج وقيل المراد بهذا التغيير: تغيير الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور حملاً شمولياً، أو بدلياً.
وقد رخص طائفة من العلماء في خصاء البهائم إذا قصد بذلك زيادة الانتفاع به لسمن أو غيره، وكره ذلك آخرون، وأما خصاء بني آدم فحرام، وقد كره قوم شراء الخصي. قال القرطبي: ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز وأنه مثلة وتغيير لخلق الله، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حدّ ولا قود، قاله أبو عمر بن عبد البر.
{وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مّن دُونِ الله} باتباعه وامتثال ما يأمر به من دون اتباع لما أمر الله به، ولا امتثال له {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} أي: واضحاً ظاهراً {يَعِدُهُمْ} المواعيد الباطلة {وَيُمَنّيهِمْ} الأماني العاطلة {وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} أي: وما يعدهم الشيطان بما يوقعه في خواطرهم من الوساوس الفارغة {إِلاَّ غُرُوراً} يغرّهم به ويظهر لهم فيه النفع، وهو ضرر محض، وانتصاب {غروراً} على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: وعداً غروراً، أو على أنه مفعول ثان، أو مصدر على غير لفظه. قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهراً تحبه، وله باطن مكروه وهذه الجملة اعتراضية.
قوله: {أولئك} إشارة إلى أولياء الشيطان، وهذا مبتدأ، وخبره الجملة، وهي قوله: {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}. قوله: {مَحِيصاً} أي: معدلاً، من حاص يحيص وقيل ملجأ، ومخلصاً؛ والمحيص اسم مكان، وقيل: مصدر. قوله: {والذين ءامَنُواْ} إلخ جعل هذا الوعد للذين آمنوا مقترناً بالوعيد المتقدّم للكافرين.
قوله: {وَعْدَ الله حَقّا} قال في الكشاف مصدران: الأوّل مؤكد لنفسه، والثاني مؤكد لغيره، ووجهه أن الأوّل مؤكد لمضمون الجملة الاسمية، ومضمونها وعد، والثاني مؤكد لغيره، أي: حق ذلك حقاً. قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} هذه الجملة مؤكدة لما قبلها، والقيل مصدر قال كالقول، أي: لا أجد أصدق قولاً من الله عز وجل؛ وقيل: إن قيلا اسم لا مصدر، وإنه منتصب على التمييز.
وقد أخرج الترمذي من حديث عليّ أنه قال: ما في القرآن آية أحبّ إليّ من هذه الآية: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} قال الترمذي: حسن غريب.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن أبي مالك في قوله: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا} قال: اللات والعزة، ومناة كلها مؤنثة.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب في الآية قال مع كل صنم جنيه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا} قال: موتى.
وأخرج مثله عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن.
وأخرج مثله أيضاً عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر عن الحسن قال: كان لكل حيّ من أحياء العرب صنم يعبدونها يسمونها أنثى بني فلان، فأنزل الله: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا}.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الضحاك قال المشركون: إن الملائكة بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، قال: اتخذوهنّ أرباباً، وصوروهنّ صور الجواري، فحلوا وقلدوا، وقالوا هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده: يعنون الملائكة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله: {وَقَالَ لأُتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ} إلخ، قال: هذا إبليس يقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة.
وأخرج ابن المنذر عن الربيع ابن أنس مثله.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الأنعام} قال التبتيك في البحيرة والسائبة يبتكون آذانها لطواغيتهم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن أنس أنه كره الإخصاء، وقال فيه نزلت: {وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة، والبيهقي، عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خصاء البهائم والخيل.
وأخرج ابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صبر الروح، وإخصاء البهائم وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله} قال: دين الله.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك مثله.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن سعيد بن جبير مثله أيضاً.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن قال: الوشم.

.تفسير الآيات (123- 126):

{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)}
قرأ أبو جعفر بتخفيف الياء من أماني في الموضعين، واسم ليس محذوف، أي: ليس دخول الجنة، أو الفضل، أو القرب من الله بأمانيكم، ولا أمانيّ أهل الكتاب، كما يدل على ذلك سبب نزول الآية الآتي، وقيل: ضمير يعود إلى وعد الله، وهو بعيد، ومن أمانيّ أهل الكتاب قولهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقولهم: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80].
قوله: {مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قيل المراد بالسوء: الشرك، وظاهر الآية أعمّ من ذلك، فكلّ من عمل سوءاً: أي سوء كان فهو مجزي به من غيره فرق بين المسلم والكافر. وفي هذه الجملة ما ترجف له القلوب من الوعيد الشديد، وقد كان لها في صدور المسلمين عند نزولها موقع عظيم كما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة، قال: لما نزلت: {مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاربوا وسدّدوا، في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، والشوكة يشاكها» قوله: {وَلاَ يَجِدْ لَهُ} قرأه الجماعة بالجزم عطفاً على الجزاء.
وروى ابن بكار عن ابن عامر {وَلاَ يَجِدْ} بالرفع استئنافاً، أي ليس لمن يعمل السوء من دون الله ولياً يواليه ولا نصيراً ينصره.
{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} أي: بعضها حال كونه {مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} وحال كونه مؤمناً، والحال الأولى لبيان من يعمل، والحال الأخرى لإفادة اشتراط الإيمان في كل عمل صالح {فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى العمل المتصف بالإيمان {يَدْخُلُونَ الجنة} قرأ أبو عمرو، وابن كثير: {يَدْخُلُونَ} بضم حرف المضارعة على البناء للمجهول. وقرأ الباقون بفتحها على البناء للمعلوم {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} أي: لا ينقصون شيئاً حقيراً، وقد تقدّم تفسير النقير: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} أي: أخلص نفسه له حال كونه محسناً، أي: عاملاً للحسنات {واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم} أي: دينه حال كون المتبع {حَنِيفاً} أي: مائلاً عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، وهو الإسلام: {واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً} أي: جعله صفوة له، وخصه بكراماته، قال ثعلب: إنما سمي الخليل خليلاً؛ لأن محبته تتخلل القلب، فلا تدع فيه خليلاً إلا ملأته، وأنشد قول بشار:
قد تخللت مسلك الروح مني ** وبه سمي الخليل خليلاً

وخليل فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم وقيل: هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب.
وقد كان إبراهيم عليه السلام محبوباً لله ومحباً له. وقيل: الخليل من الاختصاص، فالله سبحانه اختص إبراهيم برسالته في ذلك الوقت واختاره لها، واختار هذا النحاس.
وقال الزجاج: معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل {وَللَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} فيه إشارة إلى أنه سبحانه اتخذ إبراهيم خليلاً لطاعته لا لحاجته، ولا للتكثر به، والاعتضاد بمخاللته {وَكَانَ الله بِكُلّ شَئ مُّحِيطاً} هذه الجملة مقررة لمعنى الجملة التي قبلها، أي: أحاط علمه بكل شيء: {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49].
وقد أخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: قالت العرب: لا نبعث، ولا نحاسب، وقالت اليهود، والنصارى: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 11] وقالوا: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} [البقرة؛ 80] فأنزل الله: {لَّيْسَ بأمانيكم وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر عن مسروق قال: احتج المسلمون، وأهل الكتاب، فقال المسلمون: نحن أهدى منكم، وقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم، فنزلت ففلج عليهم المسلمون بهذه الآية: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مسروق قال: تفاخر النصارى، وأهل الإسلام، فقال هؤلاء نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء نحن أفضل منكم، فنزلت.
وقد ورد معنى هذه الروايات من طرق كثيرة مختصرة ومطوّلة.
وأخرج عبد بن حميد، والترمذي، وابن المنذر، عن أبي بكر الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما نزلت هذه الآية: «أما أنت، وأصحابك يا أبا بكر، فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون، فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة».
وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة، وأبي سعيد أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما يصيب المؤمن من وصب، ولا نصب، ولا سقم، ولا حزن حتى الهمّ يهمه إلا كفر الله به من سيئاته» وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس أن ابن عمر لقيه، فسأل عن هذه الآية: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} قال: الفرائض.
وأخرج الحاكم، وصححه عن جندب: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يتوفى: «إن الله اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً».
وأخرج الحاكم أيضاً وصححه، عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم؟