فصل: تفسير الآيات (137- 141):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (137- 141):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)}
أخبر الله سبحانه عن هذه الطائفة التي آمنت ثم كفرت ثم آمنت، ثم كفرت، ثم ازدادت كفراً بعد ذلك كله، أنه لم يكن الله سبحانه ليغفر لهم ذنوبهم، ولا ليهديهم سبيلاً يتوصلون به إلى الحق، ويسلكونه إلى الخير؛ لأنه يبعد منهم كل البعد أن يخلصوا لله، ويؤمنوا إيماناً صحيحاً، فإن هذا الاضطراب منهم تارة يدّعون أنهم مؤمنون، وتارة يمرقون من الإيمان ويرجعون إلى ما هو دأبهم، وشأنهم من الكفر المستمرّ، والجحود الدائم يدلّ أبلغ دلالة على أنهم متلاعبون بالدين، ليست لهم نية صحيحة، ولا قصد خالص. قيل المراد بهؤلاء: اليهود فإنهم آمنوا بموسى، ثم كفروا بعزير، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ وقيل: آمنوا بموسى، ثم كفروا به بعبادتهم العجل، ثم آمنوا به عند عوده إليهم، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بالآية: أنهم ازدادوا كفراً واستمروا على ذلك كما هو الظاهر من حالهم، وإلا فالكافر إذا آمن وأخلص إيمانه، وأقلع عن الكفر، فقد هداه الله السبيل الموجب للمغفرة، «والإسلام يجبّ ما قبله»، ولكن لما كان هذا مستبعداً منهم جداً كان غفران ذنوبهم، وهدايتهم إلى سبيل الحق مستبعداً.
قوله: {بَشّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} إطلاق البشارة على ما هو شرّ خالص لهم تهكم بهم، وقد مرّ تحقيقه. وقوله: {الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء} وصف للمنافقين، أو منصوب على الذمّ، أي: يجعلون الكفار أولياء لهم يوالونهم على كفرهم، ويمالئونهم على ضلالهم. وقوله: {مِن دُونِ المؤمنين} في محل نصب على الحال، أي: يوالون الكافرين متجاوزين ولاية المؤمنين {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة} هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والجملة معترضة. قوله: {فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} هذه الجملة تعليل لما تقدّم من توبيخهم بابتغاء العزّة عند الكافرين، وجميع أنواع العزّة، وأفرادها مختص بالله سبحانه، وما كان منها مع غيره، فهو من فيض، وتفضله كما في قوله: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] والعزة: الغلبة. يقال عزّه يعزّه عزّا: إذا غلبه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ في الكتاب} الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق؛ لأن من أظهر الإيمان، فقد لزمه أن يمتثل ما أنزله الله؛ وقيل إنه خطاب للمنافقين فقط كما يفيده التشديد والتوبيخ. وقرأ عاصم، ويعقوب: {نزل} بفتح النون والزاي وتشديدها، وفاعله ضمير راجع إلى اسم الله تعالى في قوله: {فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً}. وقرأ حميد بتخفيف الزاي مفتوحة مع فتح النون، وقرأ الباقون بضم النون مع كسر الزاي مشدّدة على البناء للمجهول.
وقوله: {أن إذا سمعتم آيات الله} في محل نصب على القراءة الأولى على أنه مفعول {نزل}.
وفي محل رفع على القراءة الثانية على أنه فاعل، وفي محل رفع على أنه مفعول ما لم يسمّ فاعله على القراءة الثالثة. و{أن} هي المخففة من الثقيلة، والتقدير أنه إذا سمعتم آيات الله. والكتاب: هو القرآن. وقوله: {يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} حالان، أي: إذا سمعتم الكفر، والاستهزاء بآيات الله، فأوقع السماع على الآيات. والمراد: سماع الكفر والاستهزاء. وقوله: {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ في حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي: أنزل عليكم في الكتاب أنكم عند هذا السماع للكفر، والاستهزاء بآيات الله لا تقعدوا معهم ما داموا كذلك حتى يخوضوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بها. والذي أنزله الله عليهم في الكتاب هو قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ في حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] وقد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود، حال سخريتهم بالقرآن، واستهزائهم به، فنهوا عن ذلك.
وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص، والاستهزاء للأدلة الشرعية، كما يقع كثيراً من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة، ولم يبق في أيديهم سوى قال إمام مذهبنا كذا، وقال فلان من أتباعه بكذا، وإذا سمعوا من يستدلّ على تلك المسألة بآية قرآنية، أو بحديث نبوي سخروا منه، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأساً، ولا بالوا به بالة، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع، وخطب شنيع، وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه العايل، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل، مقدّماً على الله، وعلى كتابه، وعلى رسوله، فإنا لله، وإنا إليه راجعون، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها، والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم، فإنهم قد صرّحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم، كما أوضحنا ذلك في رسالتنا المسماة بالقول المفيد في حكم التقليد وفي مؤلفنا المسمى بأدب الطلب ومنتهى الأرب اللهم انفعنا بما علمتنا، واجعلنا من المقتدين بالكتاب والسنة وباعد بيننا وبين آراء الرجال المبنية على شفا جرف هار، يا مجيب السائلين.
قوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ} تعليل للنهي أي: إنكم إن فعلتم ذلك، ولم تنتهوا، فأنتم مثلهم في الكفر. قيل: وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر كما في قول القائل:
وكل قرين بالمقارنِ يقتدي

وهذه الآية محكمة عند جميع أهل العلم إلا ما يروى عن الكلبي فإنه قال: هي منسوخة بقوله تعالى: {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ}
[الأنعام: 69] وهو مردود، فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله، ويستهزئون بها. قوله: {إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين في جَهَنَّمَ جَمِيعاً} هذا تعليل لكونهم مثلهم في الكفر، قيل: وهم القاعدون، والمقعود إليهم عند من جعل الخطاب موجهاً إلى المنافقين.
قوله: {الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} أي: ينتظرون بكم ما يتجدد، ويحدث لكم من خير أو شرّ، والموصول في محل نصب على أنه صفة للمنافقين، أو بدل منهم فقط دون الكافرين، لأن التربص المذكور هو من المنافقين دون الكافرين، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم، {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ الله قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ} هذه الجملة، والجملة التي بعدها حكاية لتربصهم، أي: إن حصل لكم فتح من الله بالنصر على من يخالفكم من الكفار {قَالُواْ} لكم {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} في الاتصاف بظاهر الإسلام، والتزام أحكامه والمظاهرة والتسويد، وتكثير العدد {وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ} من الغلب لكم، والظفر بكم {قَالُواْ} للكافرين {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} أي: ألم نقهركم ونغلبكم ونتمكن منكم، ولكن أبقينا عليكم. وقيل المعنى: إنهم قالوا للكفار الذين ظفروا بالمسلمين ألم نستحوذ عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم؟ والأوّل أولى، فإن معنى الاستحواذ: الغلب، يقال: استحوذ على كذا، أي: غلب عليه، ومنه قوله تعالى: {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} [المجادلة: 19] ولا يصح أن يقال: ألم نغلبكم حتى هابكم المسلمون، ولكن المعنى: ألم نغلبكم يا معشر الكافرين، ونتمكن منكم فتركناكم، وأبقينا عليكم حتى حصل لكم هذا الظفر بالمسلمين: {وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ المؤمنين} بتخذيلهم وتثبيطهم عنكم حتى ضعفت قلوبهم عن الدفع لكم، وعجزوا عن الانتصاف منكم؛ والمراد أنهم يميلون مع من له الغلب، والظفر من الطائفتين، ويظهرون لهم أنهم كانوا معهم على الطائفة المغلوبة، وهذا شأن المنافقين أبعدهم الله، وشأن من حذا حذوهم من أهل الإسلام من التظهر لكل طائفة بأنه معها على الأخرى، والميل إلى من معه الحظ من الدنيا في مال أو جاه، فيلقاه بالتملق، والتودد، والخضوع، والذلة، ويلقى من لا حظ له من الدنيا بالشدّة، والغلظة، وسوء الخلق، ويزدري به، ويكافحه بكل مكروه، فقبح الله أخلاق أهل النفاق وأبعدها.
قوله: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} بما انطوت عليه ضمائرهم من النفاق والبغض للحق وأهله، ففي هذا اليوم تنكشف الحقائق، وتظهر الضمائر، وإن حقنوا في الدنيا دماءهم، وحفظوا أموالهم بالتكلم بكلمة الإسلام نفاقاً {وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً} هذا في يوم القيامة إذا كان المراد بالسبيل: النصر والغلب، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة. قال ابن عطية: قال جميع أهل التأويل: إن المراد بذلك يوم القيامة. قال ابن العربي: وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه، وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوّله يعني قوله: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} وذلك يسقط فائدته، إذ يكون تكرار هذا معنى كلامه وقيل المعنى: إن الله لا يجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين يمحو به دولتهم، ويذهب آثارهم، ويستبيح بيضتهم، كما يفيده الحديث الثابت في الصحيح: «وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً» وقيل إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين ما داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل، ولا تاركين للنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] قال ابن العربي: وهذا نفيس جداً. وقيل: إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعاً، فإن وجد، فبخلاف الشرع. هذا خلاصة ما قاله أهل العلم في هذه الآية، وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ} الآية، قال: هم اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة، ثم كفرت، وآمنت النصارى بالإنجيل، ثم كفرت.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عنه في الآية قال: هؤلاء اليهود آمنوا بالتوراة، ثم كفروا، ثم ذكر النصارى، فقال: {ثُمَّ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ} يقول: آمنوا بالإنجيل، ثم كفروا، {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: هؤلاء المنافقون آمنوا مرتين، ثم كفروا مرتين، ثم ازدادوا كفراً بعد ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} قال: تمادوا على كفرهم حتى ماتوا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن أبي وائل قال: إن الرجل ليتكلم في المجلس بالكلمة من الكذب؛ ليضحك بها جلساءه، فيسخط الله عليهم جميعاً، فذكروا ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: صدق أبو وائل، أو ليس ذلك في كتاب الله؟ {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ في حَدِيثٍ غَيْرِهِ}.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: أنزل في سورة الأنعام {حتى يَخُوضُواْ في حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] ثم نزل التشديد في سورة النساء {إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ}.
وأخرج ابن المنذر، عن سعيد بن جبير، أن الله جامع المنافقين من أهل المدينة والكافرين من أهل مكة الذين خاضوا واستهزءوا بالقرآن في جهنم جميعاً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد: {الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} قال: هم المنافقون يتربصون بالمؤمنين {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ الله} إن أصاب المسلمين من عدوّهم غنيمة قال المنافقون {أَلَمْ نَكُن} قد كنا {مَّعَكُمْ} فأعطونا من الغنيمة مثل ما تأخذون {وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ} يصيبونه من المسلمين قال المنافقون للكفار {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} ألم نبين لكم أنا على ما أنتم عليه، قد كنا نثبطهم عنكم.
وأخرج ابن جرير عن السديّ {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} قال: نغلب عليكم.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الشعب، والحاكم وصححه عن عليّ أنه قيل له: أرأيت هذه الآية: {وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً} وهم يقاتلوننا، فيظهرون ويقتلون، فقال: ادنه ادنه، ثم قال: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً}.
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: في الآخرة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن أبي مالك نحوه أيضاً.
وأخرج ابن جرير، عن السديّ {سَبِيلاً} قال: حجة.

.تفسير الآيات (142- 147):

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}
قوله: {إِنَّ المنافقين يخادعون الله} هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض قبائح المنافقين وفضائحهم، وقد تقدم معنى الخدع في البقرة، ومخادعتهم لله هي أنهم يفعلون فعل المخادع، من إظهار الإيمان وإبطان الكفر، ومعنى كون الله خادعهم: أنه صنع بهم صنع من يخادع من خادعه، وذلك أنه تركهم على ما هم عليه من التظهر بالإسلام في الدنيا، فعصم به أموالهم، ودماءهم، وأخر عقوبتهم إلى الدار الآخرة، فجازاهم على خداعهم بالدرك الأسفل من النار. قال في الكشاف: والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته، وكنت أخدع منه. والكسالى بضم الكاف جمع كسلان، وقرئ بفتحها. والمراد أنهم يصلون، وهم متكاسلون متثاقلون لا يرجون ثواباً، ولا يخافون عقاباً. والرياء إظهار الجميل ليراه الناس، لا لاتباع أمر الله، وقد تقدّم بيانه، والمراءاة المفاعلة. قوله: {وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً} معطوف على {يراءون} أي: لا يذكرونه سبحانه إلا ذكراً قليلاً أو لا يصلون إلا صلاة قليلة، ووصف الذكر بالقلة لعدم الإخلاص، أو لكونه غير مقبول، أو لكونه قليلاً في نفسه؛ لأن الذي يفعل الطاعة لقصد الرياء، إنما يفعلها في المجامع، ولا يفعلها خالياً كالمخلص.
قوله: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك} المذبذب المتردد بين أمرين، والذبذبة الاضطراب، يقال ذبذبه فتذبذب، ومنه قول النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ** ترى كل ملك دونها يتذبذب

قال ابن جني: المذبذب القلق الذي لا يثبت على حال، فهؤلاء المنافقون متردّدون بين المؤمنين، والمشركين، لا مخلصين الإيمان، ولا مصرّحين بالكفر. قال في الكشاف: وحقيقة المذبذب الذي يذبّ عن كلا الجانبين، أي: يذاد، ويدفع فلا يقرّ في جانب واحد، كما يقال: فلان يرمى به الرجوان، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذبّ؛ كأن المعنى: كلما مال إلى جانب ذبّ عنه. انتهى. وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح الذالين. وقرأ ابن عباس بكسر الذال الثانية، وفي حرف أبي {متذبذبين} وقرأ الحسن بفتح الميم والذالين، وانتصاب {مذبذبين} إما على الحال، أو على الذمّ، والإشارة بقوله: {بين ذلك} إلى الإيمان والكفر. قوله: {لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} أي: لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين، ومحل الجملة النصب على الحال، أو على البدل من مذبذبين، أو على التفسير له {وَمَن يُضْلِلِ الله} أي: يخذله، ويسلبه التوفيق {فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي: طريقاً يوصله إلى الحق.
قوله: {سَبِيلاً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين} أي: لا تجعلوهم خاصة لكم، وبطانة توالونهم من دون إخوانكم من المؤمنين، كما فعل المنافقون من موالاتهم للكافرين: {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} الاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي: أتريدون أن تجعلوا لله عليكم حجة بينة يعذبكم بها بسبب ارتكابكم لما نهاكم عنه من موالاة الكافرين.
{إِنَّ المنافقين في الدرك الاسفل مِنَ النار} قرأ الكوفيون {الدرك} بسكون الراء، وقرأ غيرهم بتحريكها. قال أبو علي: هما لغتان والجمع أدراك؛ وقيل جمع المحرك أدراك مثل جمل وأجمال، وجمع الساكن أدرك مثل فلس وأفلس. قال النحاس: والتحريك أفصح. والدرك: الطبقة. والنار دركات سبع، فالمنافق في الدرك الأسفل منها، وهي الهاوية، لغلظ كفره وكثرة غوائله، وأعلى الدركات جهنم، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية.
وقد تسمى جميعها باسم الطبقة العليا، أعاذنا الله من عذابها: {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} يخلصهم من ذلك الدرك والخطاب لكل من يصلح له، أو للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
{إِلاَّ الذين تَابُواْ} استثناء من المنافقين، أي: إلا الذين تابوا عن النفاق {وَأَصْلَحُواْ} ما أفسدوا من أحوالهم {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} أي: جعلوه خالصاً له غير مشوب بطاعة غيره. والاعتصام بالله: التمسك به والوثوق بوعده، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الذين تابوا، واتصفوا بالصفات السابقة. قوله: {مَعَ المؤمنين} قال الفراء: أي: من المؤمنين يعني الذين لم يصدر منهم نفاق أصلاً. قال القتيبي: حاد عن كلامهم غضباً عليهم، فقال: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ المؤمنين} ولم يقل هم المؤمنون. انتهى. والظاهر أن معنى: (مع) معتبر هنا، أي: فأولئك مصاحبون للمؤمنين في أحكام الدنيا والآخرة. ثم بين ما أعدّ الله للمؤمنين الذين هؤلاء معهم، فقال: {وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً} وحذفت الياء من {يؤت} في الخط، كما حذفت في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله {يَوْمَ يدع الداع} [القمر: 9] و{سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 17] و{يَوْمَ يُنَادِ المناد} [ق: 41] ونحوها، فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين.
قوله: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ} هذه الجملة متضمنة لبيان أنه لا غرض له سبحانه في التعذيب إلا مجرّد المجازاة للعصاة. والمعنى: أيّ منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم، فإن ذلك لا يزيد في ملكه، كما أن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه: {وَكَانَ الله شاكرا عَلِيماً} أي: يشكر عباده على طاعته، فيثيبهم عليها، ويتقبلها منهم. والشكر في اللغة: الظهور، يقال دابة شكور: إذا ظهر من سمنها فوق ما تعطى من العلف.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن الحسن في قوله: {إِنَّ المنافقين يخادعون الله} الآية، قال: يلقى على كل مؤمن، ومنافق نور يمشون به يوم القيامة حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين، ومضى المؤمنون بنورهم، فتلك خديعة الله إياهم.
وأخرج ابن جرير عن السديّ نحوه.
وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد، وسعيد بن جبير نحوه أيضاً.
ولا أدري من أين جاء لهم هذا التفسير، فإن مثله لا ينقل إلا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في الآية قال: نزلت في عبد الله بن أبيّ، وأبي عامر بن النعمان.
وقد ورد في الأحاديث الصحيحة وصف صلاة المنافق، وأنه يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام، فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك} قال: هم المنافقون: {لاَ إلى هَؤُلاء} يقول: لا إلى أصحاب محمد {وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} اليهود، وثبت في الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرّة وإلى هذه مرّة فلا تدري أيهما تتبع؟».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في قوله: {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} قال: إن لله السلطان على خلقه ولكنه يقول عذراً مبيناً.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن، فهو حجة. والله سبحانه أعلم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن ابن مسعود في قوله: {إِنَّ المنافقين في الدرك الأسفل مِنَ النار} قال: في توابيت من حديد مقفلة عليهم، وفي لفظ مبهمة عليهم: أي: مغلقة لا يهتدي لمكان فتحها.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة نحوه.
وأخرج ابن أبي الدنيا، عن ابن مسعود نحوه أيضاً.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة في قوله: {ما يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ} الآية، قال: إن الله لا يعذّب شاكراً ولا مؤمناً.