فصل: ذكر حديث وقعة أبي القدس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)



.ذكر حديث وقعة أبي القدس:

قال الواقدي رحمه الله تعالى: سألت من حدث بهذا الحديث عن حصن أبي القدس قال: ما بين عرقا وطرابلس مرج يقال له: مرج السلسلة وكان بازائه دير وفيه صوامع وفيه صومعة راهب عالم بدين النصرانية وقد قرأ الكتب السالفة وأخبار الأمم الماضية المتقدمة وكانت تقصده الروم وتقتبس من علمه وله من العمر ما ينوف عن مائة سنة وكان في كل سنة يقوم عند ديره عيد آخر صيام الروم وهو عيد الشعانين فتجتمع الروم والنصارى وغيرهم من جميع النواحي والسواحل ومن قبط مصر ويحدقون به فيطلع عليهم من ذروة له فيعلمهم ويوصيهم بوصايا الإنجيل وكان يقوم في ذلك العيد سوق عظيم من السنة إلى السنة وكان يحمل له الأمتعة والذهب والفضة ويبيعون ويشترون ثلاثة ايام وما كان المسلمون يعلمون بذلك ولا يعرفونه حتى دلهم عليه رجل نصراني من المعاهدين وقد اصطفاه وأمنه وأهله فلما ولى أبو عبيدة أمر المسلمين أراد ذلك المعاهد أن يتقرب إلى أبي عبيدة رضي الله عنه فعسى أن يكون فتح الدير والسوق على يديه فأقبل إليه وأبو عبيدة قد أطال الفكر فيما يصنع واي بلد من بلاد الروم يقصد فمرة يقول: أسير إلى بيت المقدس بالجيش فإنها أشرف بلدهم وكرسي مملكة الروم بها قيام دينهم ووقتا يقول: اسير إلى انطاكية وأقصد هرقل وأفرغ منه وبينما هو يفكر في أمره وقد جمع المسلمين إذ أقبل ذلك المعاهد وكان من نصارى الشام فقال: أيها الأمير إنك قد أحسنت الي وأمنتني ووهبتني أهلي ومالي وولدي وقد اتيتك ببشارة وغنيمة تغنمها المسلمون ساقها الله إليهم فإن اظفرهم الله بها استغنوه غنى لا فقر بعده فقال أبو عبيدة: أخبرنا ما هذه الغنيمة وأين تكون فما علمتك إلا ناصحا فقال: أيها الأمير إنها بازائك على دير الساحل وهو حصن يعرف بأبي القدس وبازائه دير فيه راهب تعظمه النصرانية ويتبركون بدعائه ويقتبسون من علمه وله في كل سنة عيد يجتمعون إليه من كل النواحي والقرى والأمصار والضياع والأديرة ويقوم عنده سوق عظيم يظهرون فيه فاخر ثيابهم من الديباج والذهب والفضة يقيمون عنده ثلاثة ايام او سبعة وقد قرب وقت قيام السوق فتأخذون جميع ما فيه وتقتلون الرجال وتسبون النساء والذرارى وهذه غنيمة يفرح بها المسلمون ويوهن لها عدوكم.
قال الواقدي: فلما سمع أبو عبيدة ما قاله المعاهد فرح رجاء أن يكون ما قاله المعاهد غنيمة للمسلمين فقال للمعاهد كم بيننا وبن هذا الدير قال عشرة فراسخ للمجد السائر قال أبو عبيدة: وكم بقي إلى قيام السوق قال: أيام قلائل قال أبو عبيدة: فهل يكون لهم حامية يلي أمرهم ويصد عنهم قال المعاهد لسنا نعرف ما ذكرت في بلاد الملك لانه لا يصيب بعضنا بعضا لهيبة هرقل في قلوبهم فلما سمع أبو عبيدة قال هل بالقرب منه شيء من مدائن الشام قال: نعم بالقرب من السوق مدينة تسمى طرابلس وهي مينا الشام إليها تقدم المراكب من كل مكان وفيها بطريق عظيم كثير التجبر وقد أقطعه الملك إياها من تجبره وهو يحضر السوق وما كنت أعهد أن لهذا السوق حامية من الروم إلا أن يكون الآن لخوفهم منكم ولو سار إلى الدير والسوق أدنى المسلمين لرجوت لهم الفتح أن شاء الله تعالى.
فقال أبو عبيدة: أيها الناس أيكم يهب نفسه لله تعالى وينطلق مع جيش ابعثه فتحا للمسلمين فسكت الناس ولم يتكلم أحد فنادى أبو عبيدة ثانية وإنما يريد خالدا بقوله واستحى أن يواجهه في ذلك لاجل عزله فقام من وسط الناس غلام شاب نبت شعر.
عارضيه واخضر شاربه وكان ذلك الشاب عبد الله بن جعفر رضي الله عنه وكانت أمه أسماء بنت عميس الخثعمية وكان ابوه جعفر رضي الله عنه قد مات في غزوة تبوك وخلف ولده عبد الله صغيرا فتزوجها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلما كبر وترعرع كان يقول لأمه: يا أماه ما فعل أبي فتقول يا ولدي قتله الروم وكان يقول: لئن عشت لآخذن بثأره فلما مات أبو بكر وتولى عمر رضي الله عنه جاء عبد الله إلى الشام في بعث بعثه عمر مع عبد الله بن انيس والجهني وكان فيه مشابهة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقه وخلقه وهو أحد الأصحاب الاسخياء فلما قال أبو عبيدة رضي الله عنه: أيها الناس من ينطلق إلى هذا الدير وثب عبد الله بن جعفر الطيار رضي الله عنه فقال أنا أول من يسير مع هذا البعث يا أمين الأمة ففرح أبو عبيدة وجعل يندب له رجالا من المسلمين وفرسان الموحدين وقال له: أنت الأمير يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقد له راية سوداء وسلمها إليه وكان على الخيل خمسمائة فارس منهم رجال من أهل بدر وكان من جملة من سيره مع عبد الله أبو ذر الفغاري وعبد الله بن أبي اوفي وعامر بن ربيعة وعبد الله بن أنيس وعبد الله ابن ثعلبة وعقبة بن عبد الله السلمي ووائلة بن الاسقع وسهل بن سعد وعبد الله بن بشر والسائب بن يزيد ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم أجمعين.
قال الواقدي: ولما أن اجتمعت الخمسمائة فارس تحت راية عبد الله بن جعفر وةما منهم إلا من شهد الوقائع وخاض المعامع لا يولون الأدبار ولا يركنون إلى الفرار عولوا على المسير وقال أبو عبيدة لعبد الله بن جعفر: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقدم على القوم إلا في أول قيام السوق ثم إنه ودعهم وساروا.
قال الواقدي: وكان في هذه السرية مع عبد الله بن جعفر وائلة بن الاسقع وكان خروجهم من أرض الشام وهي دمشق إلى دير ابي القدس في ليلة النصف من شعبان وكان القمر زائد النور قال وأنا إلى جانب عبد الله ابن جعفر فقال لي يا ابن الاسقع ما أحسن قمر هذه الليلة وأنوره فقلت: يا ابن عم أردت رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه ليلة النصف من شعبان وهي ليلة مباركة عظيمة وفي هذه تكتب الأرزاق والآجال وتغفر فيها الذنوب والسيئات وكنت أدرت أن أقومها فقلت: إن سيرنا في سبيل الله خير من قيامها والله جزيل العطاء فقال صدقت ثم اننا سرنا ليلتنا فبينما نحن سائرون إذ أشرفنا على صومعة راهب وعليه برنس اسود فجعل يتأملنا وينظر في وجوهنا فتفقدنا واحدا بعد واحد ثم جعل يطيل النظر في وجه عبد الله ثم قال اهذا الفتى ابن نبيكم فقلنا لا قال أن نور النبوة يلوح بين عينيه فهل يلحق به فقلنا هو ابن عمه فقال الراهب هو من الورقة والورقة من الشجرة فقال عبد الله أيها الراهب وهل تعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال وكيف لا أعرفه واسمه وصفته في التوراة والإنجيل والزبور وانه صاحب الجمل الأحمر والسيف المشهر فقال عبد الله فلم لا تؤمن به وتصدقه فرفع يده إلى السماء وقال حتى يشاء صاحب هذه الخضراء فأعجبنا كلامه وسرنا والدليل بين ايدينا إذ أتى بنا إلى واد كثير الشجر والماء أمرنا أن نكمن فيه ثم قال لعبد الله بن جعفر إني ذاهب أجس لكم الخبر فقال له عبد الله: أسرع في مسيرك وعد إلينا بالخبر قال فانطلق مسرعا وأقام عبد الله بن جعفر يحرس المسلمين بنفسه إلى الصباح قال فلما اصبحنا صلينا صلاة الصبح وجلسنا ننتظر رجوع الرسول فلم يأت وأبطأ خبره علينا فقلق المسلمون عليه لاحتباسه وخافوا من المكيدة ووسوس لهم الشيطان وساءت بالدليل الظنون فما من المسلمين إلا من ظن بالمعاهد شرا إلا أبا ذر الغفاري رضي الله عنه فإنه قال ظنوا بصاحبكم خيرا ولا تخافوا منه كيدا ولا مكرا أن له شأنا تعلمونه قال فسكت الناس بعد ذلك وإذا بصاحبهم قد اقبل قال وائلة بن الاسقع فلما رايناه فرحنا به وظننا إنه يأمر بالنهوض إلى العدو فاقبل حتى وقف وسط المسلمين وقال: يا أصحاب محمد وحق المسيح ابن مريم إني لا أكذبكم فيما أحدثكم به وإني رجوت لكم الغنيمة وقد حال بينكم وبينها ماء.
فقال له عبد الله رضي الله عنه: وكيف حيل بينا وبينها قال حال بينكم وبينها بحر عجاج وذلك إني اشرفت على السوق وقد قام فيه البيع والشراء فاجتمع فيه أهل دين النصرانية وقد دار أكثرهم بالدير دير أبي القدس واجتمع إليه القسس والرهبان والملوك والبطارقة فلما نظرت إلى ذلك لم ارجع حتى اختبرت ما السبب الذي تجمعت له الخلق زيادة على كل سنة وذلك إني مضيت واختلطت بالقوم وإذا بصاحب طرابلس قد زوج ابنته ملكا من ملوك الروم وقد أتوا بالجارية إلى الدير ليأخذوا لها من راهبهم قربانا وقد دار بها فرسان الروم المنتصرة في عددهم وعديدهم كل ذلك خوفا منكم لانهم يعلمون إنكم بأرض الشام يا معاشر المسلمين وما ارى لكم صوابا أن تصلوا إلى القوم لانهم خلق كثير وجم غفير وجمع غزير فقال عبد الله بن جعفر رضي الله عنه في كم يكون القوم وكم خررتهم فقال: أما السوق ففيه أكثر من عشرين الفا من عوام الروم والأرمن والنصارى والقبط واليهود من مصر والشام وأهل السواد والبطارقة والمنتصرة وأما المستعدون للحرب فخمسة آلاف فارس فما لكم بالقوة طاقة وأن وقع طائح في بلادهم انضاف إليهم امثالهم فإن بلادهم متصلة بهم وأما أنتم فعددكم يسير والعرب منكم بعيد.
قال الواقدي: فصعب ذلك على عبد الله بن جعفر وعلى المسلمين وسقط في ايديهم وهموا بالرجوع فقال عبد الله بن جعفر معاشر المسلمين ما الذي تقولون في.
هذا الأمر فقالوا: نرى أن لا نلقي بأيدينا إلى التهلكة كما أمر ربنا في كتابه العزيز ونرجع إلى الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه والله لا يضيع أجرنا قال فلما سمع عبد الله قولهم قال: أما أنا فأخاف أن فعلت ذلك أن يكتبني الله من الفارين وما ارجع او أبدى عذرا عند الله تعالى فمن ساعدني فقد وقع اجره على الله ومن رجع فلاعتب عليه فلما سمعوا ذلك من عبد الله بن جعفر اميرهم وبذل مهجته استحيوا منه وأجابوه بأجمعهم وقالوا: افعل ما تريد فما ينفع حذر من قدر ففرح باجابتهم ثم عمد إلى درعه فأفرغه عليه ووضع على رأسه بيضة وشد وسطه بمنطقة وتقلد بسيف أبيه واستوى على متن جواده وأخذ الراية بيده وامر الناس بأخذ الأهبة فلبسوا دروعهم واشتملوا بسلاحهم وركبوا خيولهم وقالوا: للدليل سر بنا نحو القوم فستعاين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عجبا قال وائلة بن الاسقع رأيت الدليل قد اصفر وجهه وتغير لونه وقالوا: سيروا انتم برأيكم وما علي من امركم وخرج قال أبو ذر الغفاري فرأيت عبد الله بن جعفر يتلطف به حتى سار بين يديه يدله على القوم ساعة ثم وقف وقال أمسكوا عليكم فانكم قد قربتم من القوم فكونوا في مواضعكم كامنين إلى وقت السحر ثم أغيروا على القوم قال وائلة بن الاسقع فبتنا ليلتنا حيث امرنا ونحن نطلب النصر من الله تعالى على الأعداء فلما أصبح النهار صلي بهم عبد الله بن جعفر صلاة الصبح فلما فرغوا من صلاتهم قال: ما ترون في الغارة.
فقال عامر بن عميرة بن ربيعة أدلكم على أمر تصنعونه قالوا: قل: قال اتركوا القوم في بيعهم وشرائهم واظهار امتعتهم ثم اكبسوا عليهم على حين غفلة وغرة من امرهم فصوب الناس رأيه وصبروا إلى وقت قيام السوق ثم اظهروا السيوف من أغمادها وأوتروا القسى وشرعوا لاماتهم وعبد الله بن جعفر امامهم الراية بيده فلما طلعت الشمس عمد عبد الله إلى المسلمين فجعلهم خمسة كراديس كل كردوس مائة فارس وجعل على كل مائة نقيبا وقال تاخذ كل مائة منكم قطرا من أقطار سوقهم ولا تشتغلوا بنهب ولا غارة ولكن ضعوا السيوف في المفارق والعواتق وتقدم عبد الله بن جعفر بالراية وطلع على القوم فنظر إلى الروم متفرقين في الأرض كالنمل لكثرتهم وقد أحدق منهم بدير الراهب خلق كثير والراهب قد اخرج رأسه من الدير وهو يعظ الناس ويوصيهم ويعلمهم معالم ملتهم وهم إليه شخوص بابصارهم وابنة البطريق عنده في الدير والبطارقة وابناؤهم عليهم الديباج المثقل بالذهب ومن فوقهم دروع وجواشن تلمع وبيض وهم ينظرون صيحة بين ايديهم او طارقا يطرقهم من خلفهم ونظر عبد الله إلى الدير والى ما أحدق به والى الراهب وما حول صومعته فهاله ذلك من امرهم وصاح فيهم قبل الحملة وقال: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم احملوا بارك الله فيكم فإن كانت غنيمة وسرور فالفتح والسلامة ويكون الاجتماع تحت صومعة الراهب وأن كان غير ذلك.
فهو وعدنا الجنة ونلتقي عند حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصحابة قال وطلب عبد الله الجم العظيم فغاص فيهم وجعل يضرب بسيفه ويطعن برمحه ويحمل المسلمون من ورائه وسمع الروم اصوات المسلمين مرتفعة بالتهليل والتكبير فتيقنوا أن جيوش المسلمين قد ادركتهم وكانوا لذلك منتظرين وعلى يقظة من امرهم فأما السوقة فانهم تبادروا إلى اسلحتهم والمتع عن أنفسهم وأموالهم وأخرجوا السيوف من الأغمدة وانعطفوا على قتال المسلمين عطفة الاسد الضاري وطلبوا صاحب الراية ولم يكن مع المسلمين راية غيرها فأحدقوا بالراية من كل جانب ومكان وقامت الحرب على ساق وثار الغبار وانعقد وأحدق الروم بالمسلمين فما كان المسلمون فيهم إلا كشامة بيضاء في جلد بعير اسود وما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف بعضهم بعضا إلا بالتهليل والتكبير وكل واحد مشتغل بنفسه عن غيره وقال أبو سبرة إبراهيم بن عبد العزيز بن ابي قيس وكان من السابقين والمتقدمين بايمانهم في الإسلام وصاحب الهجرتين جميعا قال شهدت قتال الحبشة مع جعفر بن ابي طالب رضي الله عنه وشهدت المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر وفي أحد وفي حنين وقلت: إني لا اشهد مثلها فلما قبض الله صلى الله عليه وسلم حزنت عليه ولم استطع أن اقيم بالمدينة بعد فقده فقدمت مكة فأقمت بها فعوتبت في منامي من التخلف عن الجهاد فخرجت إلى الشام وشهدت اجنادين والشام وسرية خالد خلف توما وهربيس وشهدت سرية عبد الله بن جعفر وكنت معه على دير ابي القدس فانستني وقعتها ما شهدت قبلها من الوقائع بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك إني نظرت إلى الروم حين حملنا عليهم في كثرتهم وعددهم وقلنا ما ثم غيرهم وليس لهم كمين عظيم قال فرأينا اجسادهم هائلة وعليهم الدروع وما يبين منهم إلا حماليق الحدق لهم طقطقة وزمجرة عندما يحملون حتى نظرت إلى المسلمين قد غابوا في اوساطهم ولا اسمع منهم إلا الأصوات تارة يجهرون بها وتارة اقول هلكوا.
ثم انظر إلى الراية بيد عبد الله بن جعفر رضي الله عنه مرفوعة بذلك وعبد الله يقاتل بالراية ويكر على المشركين ولا يثني ويجاهد على صغر سنة ولم تزل الحرب بيننا كلما طال مكثها اشتد ضرامها وعلا قتامها والتهب نارها وصار عبد الله في وسط القوم وهم حوله كالحلقة الدائرة والروم يحدقون به فجعل كلما حمل يمينا حملت يمينا وأن حمل شمالا حملت شمالا ولم نزل في الحرب والقتال حتى كلت منا السواعد وخدرت منا المناكب قال: وعظم الأمر علينا وهالنا الصبر وتثلم سيف عبد الله في يده وكادت تقع فرسه من تحته فالتجأ بأصحابه في موضع فاجتمع أصحابه إليه فنظر المسملون إلى رايته فقصدوها وما منهم إلا مكلوم من المشركين فضاق لذلك ذرعه وما نزل في نفسه مثل ما نزل بالمسلمين فألجأ إلى الله تعالى أمره وفوض إلى صاحب السماء شأنه ورفع يده إلى السماء وقال في دعائه يا من خلق خلقه وابلى بعضهم ببعض وجعل ذلك محنة لهم أسألك بجاه محمد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما جعلت لنا من امرنا فرجا ومخرجا ثم عاد إلى القتال وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلون معه تحت رايته فلله در ابي ذر الفغاري رضي الله عنه فإنه نصر ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهد بين يديه قال عمرو بن ساعدة فلقد رايته مع كبر سنه يضرب بسيفه ضربا شديدا في الروم وينتمي إلى قومه ويذكر عند حملاته اسمه ويقول: أنا أبو ذر والمسلمون يفعلون كفعلة إلى أن بلغت القلوب الحناجر وظنوا أن في ذلك الموضع قبورهم.
قال الواقدي رحمه الله تعالى: حدثني عبد الله بن انيس الجهني قال كنت أحب جعفرا واجب من اولاده عبد الله فلما قبض أبو بكر رضي الله عنه وكان قائما مقام ابيه نظرت إلى أمه أسماء بنت عميس حزينة فكرهت أن انظر إليها في ذلك الحزن وايضا أن أبا بكر رضي الله عنه في المسير إلى الشام فاستأذن عبد الله بن جعفر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسير إلى الشام وقال لي يا ابن انيس الجهني اشتهي أن ألحق بالشام ومعنا عشرون فارسا أكون مجاهدا أفتصحبني فقلت: نعم فودع عمه عليا رضي الله عنه وودع عمر رضي الله عنه وسار يريد الشام ومعنا عشرون فارسا حتى أتينا تبوك فقال: يا ابن انيس أتدري موضع قبر ابي فقلت: نعم فقال: أشتهي أن ارى الموضع قال فما أتينا الموضع فأريته موضع مصرع أبيه وموضع الوقعة وقبر ابيه جعفر رحمه الله تعالى وعليه حجارة فلما نظر إليه نزل ونزلنا معه وبكى وترحم فأقمنا عنده إلى صبيحة اليوم الثاني فلما رحلنا رايت عبد الله يبكي ووجهه مثل الزعفران فسألته عن ذلك فقال رأيت ابي البارحة في النوم وعليه حلتان خضراوتان وتاج وله جناحان وبيده سيف مسلول اخضر فسلمه إلى وقال: يا بنى قاتل به اعداءك فما وصلت إلى ما ترى إلا بالجهاد وكأني اقاتل بالسيف حتى تثلم قال عبد الله بن انيس وسرنا حتى أتينا عسكر ابي عبيدة رضي الله عنه بدمشق فبعثه أمير تلك السرية إلى دير ابي القدس قال عبد الله بن انيس فلما رأيت بينه وبين الروم قلت: يوشك أن يذهب عبد الله فسرت كالبرق ورجعت إلى ابي عبيدة رضي الله عنه فلما راني قال أبشارة يا ابن انيس ام لا فقلت: انفذ المسلمين إلى نصرة عبد الله بن جعفر ومن معه ثم حدثته بالقصة فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه أنا لله وأنا إليه راجعون ايصاب عبد الله بن جعفر ومن معه تحت رايتك يا أبا عبيدة وهي أول امارتك.
قال الواقدي: ثم التفت خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال له: يا أبا سليمان سألتك بالله الحق عبد الله بن جعفر فأنت المعد لها فقال خالد: أنا لها أن شاء إله وما كنت انتظر إلا أن تأمرني فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه استحيت منك يا أبا سليمان فقال والله لو أمر علي طفل صغير لاطيعن له فكيف اخالفك وانت اقدم مني إيمانا.
واسبق اسلاما سبقت باسلامك مع السابقين وسارعت بايمانك مع المسارعين وسماك رسول الله بالأمين فكيف الحقك او انال درجتك والان اشهدك إني قد جعلت نفسي حبيسا في سبيل الله تعالى لا أخالفك ابدا ولا وليت امارة بعدها ابدا.
قال قال الواقدي: فاستحسن المسلمون قوله فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه يا أبا سليمان الحق اخوانك رحمك الله قال فوثب خالد رضي الله عنه كأنه الاسد وسار إلى رحلة فأفرغ عليه درع مسيلمة الكذاب الذي سلبه منه يوم اليمامة والقى بيضة على رأسه واردفها قلنسوة وتقلد بحسامه وانصب في سرجه كأنه السيل ونادى بجيش الزحف هلموا إلى جزب السيوف فأجابوه مسرعين كأنهم العقبان وبادروا إلى طاعة الرحمن واخذ خالد الراية بيده وهزها على ركابه ودار به عسكر الزحف من كل جانب وودع المسلمون بعضهم بعضا وساروا وسار خالد وعبد الله بن انيس يدلهم على الطريق قال رافع بن عميرة الطائي كنت يومئذ من أصحاب خالد بن الوليد رضي الله عنه ولم يزل مجدا في السير والله عز وجل يطوي لنا البعيد فلما كان عند غروب الشمس اشرفنا على القوم والروم كالجراد المنتشر قد غرق المسلمون في كثرتهم فقال خالد: يا ابن انيس في جانب أطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إنه واعد أصحابه أن يلتقوا عند دير الراهب او موعدهم الجنة.
قال الواقدي: فنظر خالد نحو الدير فشاهد الراية الإسلامية وهي بن عبد الله بن جعفر وما من المسلمين إلا من اصيب بجرح وقد ايسو من الحياة الفانية وطعموا في الحياة السرمدية والروم تناوشهم بالحرب وتكثر الطعن الضرب وعبد الله بن جعفر يقول لأصحابه: دونكم والمشركين واصبروا لقتال المارقين واعلموا إنه قد تجلى عليكم ارحم الراحمين ثم قرأ الاية قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] فلما نظر خالد رضي الله عنه إلى صبرهم وتجلدهم على القتال اعدائهم لم يطق الصبر دون أن حمل عليهم وهز رايته وقال لأصحابه: دونكم القوم القباح فأرووا من دمائهم السلاح وابشروا بالنجاح يا أهل حي على الفلاح قال الواقدي رحمه الله تعالى: فبينما أصحاب عبد الله بن جعفر في اشد ما يكونون فيه إذ خرجت عليهم خيل المسلمين وكتائب الموحدين كأنهم الطيور وعليها الرجال كأنهم العقبان الكاسرة والليوث الضارية وهم عائصون في الحديد وقد ارتفع لهم الضجيج وبخيلهم العجيج فلما نظر عبد الله وأصحابه إلى ذلك ظنوا إنها نجدة الأعداء فأيقنوا بالهلاك والفناء وجعلوا ينظرون إلى الخيل التي رأوها هي قاصدة إليهم ففزعوا وظنوا أن كمينا من الروم قد خرج لقتالهم فعظم عليهم الأمر وقل منهم الصبر وأخذهم.
البهر وقد لحق بالمشركين الدمار واتاهم حرب مثل النار والسيوف تلمع والرؤوس من الرجال تقطع والأرض قد امتلات قتلى وهم في أيدى المشركين كالأسرى والقوم في أشد القتال والسيف يعمل في الرجال إذ نادى فيهم مناد وهتف بهم هاتف خذل الأمن ونصر الخائف يا حملة القران جاءكم النصر من الرحمن ونصرتهم على عبدة الصلبان وقد بلغت القلوب الحناجر وعملت المرهفات البواتر وإذا بفارس على المقدمة كأنه الاسد الزائر او الليث الهادر ويده تشرق بالانوار كاشراف القمر فنادى الفارس باعلى صوته ابشروا يا معاشر حملة القران بالنصر المشيد أنا خالد بن الوليد فلما نظر المسلمون الرباية وسمعوا صوت خالد رضي الله عنه كانهم كانوا في لجه واخرجهم فاجابوه بالتهليل والتكبير وكانت اصواتهم كالرعد القاصف والرياح العواصف ثم حمل خالد بن الوليد رضي الله عنه بجيش الزحف الذي لا يفارقه ووضع السيف في الروم قال عامر بن سراقة فما شبهت حملته إلا حملة الاسد في الغنم ففرقهم يمينا وشمالا قال فثبت المسلمون وكل علج من الروم شديد يمانع عن نفسه وخالد يطلب أن يصل إلى عبد الله بن جعفر.
ولما نظر المسلمون إلى الخيل المقبلة عليها ولم يعلموا ما هي حتى سمعوا صوت خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس دونكم الأعداء فقد جاءكم النصر من رب السماء ثم حمل المسلمون معه قال وائلة بن الاسقع لقد كنا ايسنا من أنفسنا وايقنا بالهلاك حتى أتتنا المعونة من الله عز وجل فحملنا بحملة اخواننا قال فما اختلط الظلام حتى نظرت إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه والراية بيده وهو يسوق المشركين بين يديه سوق الغنم إلى المراعي والمسلمون يقتلون يأسرون فلله در ابي ذر الغفاري وضرار بن الأزور والمسيب بن نجية الفزاري لقد قرنوا المواكب وهزوا المضارب وقتلوا الروم من كل جانب والتقى ضرار بعبد الله بن جعفر رضي الله عنه فنظر إليه والدم على اكمام درعه كأكباد الإبل فقال شكر الله تعالى لك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم والله إنك لقد أخذت بثأر ابيك وشفيت غليلك فقال عبد الله بن جعفر رضي الله عنه من الرجل المخاطب لي وكان الظلام قد اعتكر وضرار ملثم لا يبين منه إلا الحدق فلم يعرفه عبد الله فقال أنا ضرار بن الأزور صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مرحبا بطلعتك وبأخ منا عدل لنا وقام لنصرتنا.