فصل: ذكر فتح القلعتين زبا وزلوبيا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)



.ذكر فتوح الفرماء والبقارة والقصر المشيد:

قال فلما نزل المقداد على الفرماء تأهب أهلها للقتال فنزل بالصامت بن مرة ما نزل به فعلم أنه بيد القوم لأنه ليس له ناصر ولا معين فصالح المقداد على أن يؤدي لهم اربعة آلاف مثقال من الذهب وأربعمائة ناقة وألف رأس من الغنم وإن يمهلوه إلى تمام السنة فإن شاء دان إلى الإسلام والا ارتحل بأمانه فأجابه المقداد إلى ذلك وارتحل المقداد وهلال بن أوس ونزلوا على البقارة وكان عليها بن الأشرف فاسلم هو ومن معه ومضوا إلى القصر المشيد ففتحوه صلحا ثم ارتحلوا ونزلوا على الوردة وكان اسمها الواردة فسلمها أهلها وارتحلوا إلى العريش فصالحهم أهلها وكذلك أهل رفح وبيدا ومياس ونخلة وعسقلان.
قال ابن إسحاق: حدثني يوسف بن عبد الأعلى قراءة عليه بجامع الرملة سنة مائتين وعشرين من الهجرة قال: حدثني موسى بن عامر عن رفاعة عن جده عبد العزيز بن سالم عن أبي يعلي العبدي عن طاهر المطوعي عن أبي طالب الفشاري عن وهبان بن بشر بن هزان قال سمعت الشرح كله من محمد بن عمر الواقدي وهو يؤمئذ قاضي بغداد في الجانب الغربي.

.ذكر فتوح ديار بكر وأرض ربيعة:

حدثنا عدنان بن يحيى الخرثي عن معمر الجوني ومن طريق آخر عن ابن عمير.

.ذكر فتح القلعتين زبا وزلوبيا:

قال الواقدي: لما فتحت الرقة صلحا عول عياض بن غنم على المسير إلى رأس العين وكان يملك يومئذ الجزيرة ملك من ملوك الروم يقال شهر ياض بن فرون وكان جيشه مائة ألف وتحت يده وفي عمالة من العرب المتنصرة السلطان بن سارية التغلبي وهبيرة وهم ثلاثون الفا من الأبطال وانهم لما اتصلت بهم الاخبار بفتح الرقة وإن المسلمين قاصدون إليهم مع عياض بن غنم وخالد والمقداد أتو إلى الملك شهر ياض برأس العين وقالوا له: اعلم أيها الملك أن اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد أتو ديارنا وقصدوا نحونا ونحن علينا الطلب أكثر منكم ومطلب القوم أننا ندخل في دينهم فاضرب خيامك بظاهر البلد واظهر بجيش حتى نلقاهم فإما لنا وأما علينا فأجابهم إلى ذلك وقال غير أني أخاف أن تنهزموا عني فأعطوا رهائن استوثق منهم ورتب آلة الحصار وأخرج الخزائن والأموال ورتب الحرس على الأسوار وزاد في عمق الخندق وعرضه وأرسل إلى جملين وكفرتوتا ودارا وماردين وحران والرها وتل مرزة والسن والموزر وأقام ينتظر عياض بن غنم.
قال: حدثنا عبد الله بن أسلم عن عاصم بن عبد الله عن ابن إسحاق الأموي عن يزيد ابن أبي حبيب عن راشد مولاه قال لما عول عياض بن غنم الأشعري على المسير إلى رأس العين إلى قتال الملك شهر ياض بعث قبل مسيره أشعث بن عويلم وعبد الله بن غسان إلى القلعتين المعروفتين بزبا وزلوبيا فقال عبد الله يوقنا لعياض بن غنم اعلم أيها الأمير أن هاتين القلعتين اللتين ذكرتهما حصينتان منيعتان إحداهما من الجانب الشرقي والأخرى من الجانب الغربي وهما كانتا تحت ولايتي وإن صاحبهما كان من قبلي وهو أحد بني عمي واسمه اشفكياص بن مارية كني باسم أمه وكنت قد زوجته ابنتي فأخذت في صداقها الحصن الشرقي من الفرات وقد رأيت إنك تأمرني بالتقدم على هذين الحصنين حتى أحل في القلعة الغربية فإن فتحتها كانت الأخرى في قبضتنا فقال له: لله درك يا.
عبد الله لقد نصحت الإسلام وأهله فجزاك الله خيرا أحسن ما جازى بهأولياء سر على بركة الله وعونه فإذا استقر بك المكان ثلاثة أيام أنفذت اليك شعيبا وعبد الله ومن معهما من المسلمين وبعد الفتح أن شاء الله تنزلون الينا فقال يوقنا استعنا بالله وتوكلنا عليه ثم إنه أخذ معه من صناديد جماعته مائة ولم يأخذوا معهم ثقلا سوى جنيب من الخيل واحد وسار من أول الليل وترك عياض بن غنم علي الباسل فجدوا السير بقية ليلتهم فلما كان قبل الفجر أشرفوا على الخانوقة فوجدوا فيها ألفا من الأرمن وهم بالعدة الكاملة فلما أشرف عليهم يوقنا ومن معه وهم يتحدثون بلغة الروم أنسوابهم وسألوهم عن خبرهم فقالوا: هذا البطريق المعظم يوقنا صاحب حلب قد هرب من العرب وأقبل لنصرة صاحب هذه القلعة فلما سمعوا بذلك فرحوا وصقعوا بين يدي يوقنا وأرسل المقدم عليهم خيالا وأمره بالسرعة ليبشر اشفكياص بقدوم يوقنا إليه وهروبه من العرب وإنه يستأذن عليه فمضى الرجل وأخبر اشفكياص فأطرق إلى الأرض ثم قال لوزيره وحق المسيح والأنجيل ما جاء إلا لينصب علينا ويملك هاتين القلعتين منا كما فعل بطرابلس وصور وما أنا بالذي يأمن فما ترى أيها الوزير.
قال ابن إسحاق: ولقد بلغني أن هذا الوزير كان من أهل القراءة وكان أديبا عاقلا لبيبا ممن قرأ الكتب السالفة والأخبار الماضية وقرأ ملاحم دانيال وكان منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم يسكن في دير مترهبا وهو ما بين السر 3 وحلب فتعبد فيه زمانا طويلا حتى شاع ذكره بين أهل دين النصرانية ثم بعد ذلك أخبر الروم بأنه قد وقع بحافر من حوافر حمار المسيح فكانت الروم ينذرون له النذور والصدقات وشاع خره وسما ذكره فسمي ذلك الدير بدير حافر وإنه في بعض الايام خرج من ديره إلى مزرعة له هناك وإذا برجل من البدو قد عبر وهو راكب على ناقة وكان الحر قد اشتد فأوى إلى ظل حائط الدير وأناخ ناقته وعقلها ونام والراهب ينظر إليه فلما غرق في نومه أتت حية من مزرعة الراهب وفي فمها باقة نرجس فجعلت تروح عليه حتى استفاق وذلك الراهب ينظر إليه فلما أفاق أتى إليه وسلم عليه و قال له: من أي الناس أنت قال من العرب قال الراهب قد علمت ذلك وإنما أسألك عن دينك قال ديني الإسلام الذي كان عليه أنبياء الله كلهم عليهم أفضل الصلاة والسلام فقال لعلك على دين هذا الرجل الذي في أرض الحجاز قال: نعم.
قال ابن إسحاق: وكان البدوي ورقة بن الصامت الهذلي ابن أخت رواحة الانصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حضر غزوة تبوك وحضر يوم السلاسل وكان أديبا ليبيا شاعرا لا يتكلم إلا بسجع وكان أبو عبيدة قد وجهه لما كانوا في حصار قلعة حلب إلى صاحب الرقة يدعوه إلى الإسلام فقال الراهب وكان اسمه شوجوان بن كربان قد بلغني.
أنكم تقولون ما خلق الله خلقا أعظم ولا أكرم ولا أرحم من محمد وتركتم آدم ونوحا وإبراهيم واسحق ويعقوب والاسباط وموسى وداود وسليمان وعيسى فأريد أن تبين لي حقيقة ذلك فقال ورقة بن الصامت اسمع ما أقول ولا تتبع الفضول أما علمت أن عالم الملائكة اجتمعوا بالبيت المعمور ووقع بينهم الجدل في تصاريف الامور وافتخر الكروبيون على الروحانيين والمسبحون على المقربين فزاحمهم ابليس بدقة عبادته ومشيد مباني زهادته فقال أنا المخلوق من ضرام النار البارع في خدمة العزيز الجبار اين أنتم من وقوفي على أقدام الاهتمام مائة ألف عام وتعبدي في السموات وأكنافها وبروجها واعرافها وأوساطها وأطرافها وجبال الأرض وأكنافها فعارضه جبريل بالامتحان والابتداء وصرفه عن حجة الافتخار والادعاء و قال له: ما أنت في الافتخار إلا في الحضيض المحضوض أن لله نبيا في عالم الملكوت محجوبا قد طال اشتياقنا إليه ووردنا الخبر فيما يريد وجعل نهاية عبادتنا الصلاة عليه فأيقن من المفاخر بالنزول ومن اطلاق شمس ادعاء بالأفول وقال رب فهل إلى لقائه من سبيل والى الوصول إليه من دليل فقال جبريل اقطع مسافة الامنية وخض بحر الاعتراف بعز الربوبية وثق بحبال العز المكين فإنك لخدمة من كون من نور التكوين عليه منقوش بقلم التمكين: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يّس:3] فخلع ابليس لباس العمل واستعمل أجنحة الامل وألقى قلادة الادعاء ونكس تاج الكبرياء واستعد لقوادم الطلب وداخله من قول جبريل غاية العجب وجعل همة عزمه تحصيل السبب وحذر من سوء المنقلب.
وقال: يا للعجب أنا مع صدق طويتي في المعاملة والانابة وخلوص سريرتي في طلب الزيادة هل يكون أحد مثلي او يبلغ درجة فعلي وكيف ذلك وإذا رفعت رأسي بالتسبيح أعاين ما حول العرش وإذا سجدت لعظمة الله أنظر ما تحت الفرش فنودي أتفتخر علينا بجواهر طاعتك وتوفر أسباب بضاعتك ونحن وفقناك لطاعتنا ومعاملتنا وأريناك أطراف ارضنا وسمواتنا من قواك على خدمتي من جعلك معلما لملائكتي وعزتي وجلالي لولا أحمد ما خلقت ملكا ولا أجريت فلكا ولا أنرت قمرا ولا أمضيت قدرا ولا أسرجت شمسا ولا أقررت عرشا ولا بسطت فرشا ولا خلقت جنة ولا نارا ولا فجرت أنهارا ولا بحارا ولا جعلت النجوم طوالع ولا غوارب ولا الدنيا مشارق ولا مغارب ولكن طر بأجنحة عجل في طلب الايثار حتى يميتك الله بين الجنة والنار قال فسار بفلك طلب النجوم على قدم مطايا التفريد حتى اخترق ما بين العرش والكرسي واختبر كل جني وانسي وكلما مر بمغني من المغاني راى معنى من المعاني وذلك أنه لما رأى أصنافا من الملائكة على اختلاف الأحوال من الاجتهاد والطاعة والأعمال وجميع عباد الله الشاكرة موقوفة على خدمة سيد الدنيا والآخرة وعلم معنى عبادتهم وتحقق آثار ارادتهم زاد به الاعجاب فاستعظم وجود ذلك في عالم.
التراب وقال: أي رب أين أجده وأناديه أم كيف التوصل إلى سبيل ناديه فقال اطلب نهر السلسبيل فهناك تجد إلى نظره سبيل فسار تحت مشيئة القدر إلى أن وصل إلى النهر فرأى ضوءا يلوح واسراره بصفات ما فيه تبوح ودار به المقربون والروحانيون والمسبحون والصافون والراكعون والساجدون وقطب عبادتهم دائرة على الاستغفار لأنه صاحب الافتخار وكلما سبحوا وسجدوا يستغفرون للذين آمنوا به قال فانتظم في سلكهم واسلك سبيل مسلكهم لتفوز بالنظر في جملة من حضر وإذا بنور أحمد قد تعلى ومن سرادقات قصره تجلى فسجدت الملائكة له بمعنى عظيم وقالوا: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فرد لما غشيه النور الوارد ونطق لسان حسده بما في جسده من ذا الذي ملأ الأكوان بعبادته وافتخر على الملائكة بخالص مجاهدته وإذا بالنداء معاشر الملائكة دعوا النظر إلى المغاني وحققوا النظر إلى الفضائل والمعاني فاحدقت الملائكة نحو القصر بالأعين وإذا في جوانبه أربعة أعين فقالوا: يا رب العزة قد تركنا المغني فما حقيقة هذا المعنى قال هذه العيون عيون أنهاره وسيوف أنصاره ومعالم سنته بحساب نسبته وأبواب علمه ومقر حكمه وزينة دينه وأعلام يقينه وأول عين هي عين التصديق والعين الثانية هي عين العدل والتحقيق والعين الثالثة هي عين النور والحياء والتوفيق والعين الرابعة عين العلم والتشريق فعين التصديق لصديقه وعين العدل لفاروقه وعين الحياء لصهره ورفيقه وعين العلم لأخيه وشقيقه فانظروهم بعين التبجيل والوقار وأكثروا لهم الدعاء والاستغفار فأنا الذي قلت فيهم: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
فلما علم شوجوان كلام ورقة بن الصامت لم يرد عليه جوابا ولا أبدي له خطابا غير أنه عرف الحق فكتمه ولم يزل شوجوان في الدير حتى أخذ المسلمون حلب فانتقل إلى اشفكياص فاستوزره قال فلما استشاره في أمر يوقنا قال له: اعلم أيها الملك أن يوقنا من الملوك وأبناء الملوك وقد قرأ الكتب وأخوه كان أفضل منه في الدين وقد صحب هؤلاء العرب واطلع على سرائرهم ونظر إلى دينهم وربما أنه علم عند النظر أن دين المسيح افضل من دين هؤلاء العرب وقد هرب من أيديهم اليك فإن كان الرجل قد أتى بغير حمل ولا ثقل فاعلم أنه هارب من القوم اليك فيجب عليك أن تخرج إلى لقائه وتعظم شأنه وترفع مكانه فلما سمع اشفكياص ذلك خرج بعسكره للقائه وبقي الوزير في القلعة قال فسمعت ابنة يوقنا أن اباها قد أتى فنزلت تسبح فس سرب لها تحت الأرض مع جواريها وخدمها وقصدت القلعة الثانية فوجدت اشفكياص قد خرج للقاء أبيها والوزير شوجوان في مرتبة وزارته فقام اليها وصقع بين يديها وخدمها فجلست تتحدث معه فقال لها خذي على نفسك الحذر فإن الملك قد خرج وأخاف أن يبطش هذا اللعين بأبيك وأعلمي أنه ما تبع هؤلاء العرب إلا وقد.
تحقق عنده أن دينهم الحق وقولهم الصدق فقالت له الجارية: فما تقول أنت في دين القوم قال هو والله الحق والدين الصدق وإني كنت كاتم هذا السر فلما سمعت ذلك تبسمت وقالت والله لقد رضيت لنفسي ما رضيه أبي ولكن أنت أكتم هذا عني.
قال الواقدي: وإن اشفكياص لقي عبد الله يوقنا وسلم بعضهما على بعض وترجل كل منهما لصاحبه وشكا كل واحد منهما ما يجده من الشوق ثم ركبا وسارا إلى القلعة فنزل يوقنا فيها ومن معه وأتت ابنته وسلمت عليه وبكت وبكى وأما اشفكياص فإنه معول على القبض على يوقنا و قال له: أيها الملك كيف رأيت هؤلاء العرب في دينهم وعدلهم وسياستهم في ملكهم فقال يوقنا أن القوم يزعمون أنهم لا يريدون ملك الدنيا وإنما يريدون ملك الآخرة ومع هذا قد ملكوا الشام وأرض مصر وما تغيروا عن طباعهم وأنفسهم الدنيئة وأول الأمر وآخره أنهم أظهروا الناموس حتى ملكوا البلاد ولما كشفت أسرارهم وتحقق أخبارهم ورأيت بيان ما هم عليه هربت منهم وبعدت عنهم بعد أن ظننت أنهم على الحق ونصحت لهم وملكتهم طرابلس وصور وغيرهما وانطاكية وقد علمت أن المسيح قد غضب علي إذ تركت دينه وما أمر به من القربان وما أوصى به يوحنا المعمدان ولست اظن أن لي تطهيرا من دون الذنوب ومساوي العيوب ثم إنه أظهر البكاء والتوجع والشكوى فلما عاين اشفكياص ما فعله وسمع كلامه انطلى عليه و قال له: ايها الملك إذا كنت قد ندمت على قبيح فعالك ورجعت إلى الدين الصحيح بقلبك فابشر بقبول التوبة وزوال الحوبة واعلم أن باب التوبة مفتوح وعلم القبول لأهل الندامة يلوح وقد قرب عيد الصليب وبقي له عشرون يوما وهذا مرقس الراهب بدير السكرة وهو من أعظم أهل دين النصرانية فسر إليه ليغمسك في ماء المعمودية فتخرج نقيا من الذنوب فقال يوقنا أفعل ذلك ولكن من يضمن أن يعيش فعندها قامت ابنته وصقعت وقالت والله يا أبت ما أدعك تمضي حتى أتملى منك بالنظر وقبلت يد أشفكياص وقالت يا سيدي أريد أن تأذن لأبي أن يسير معي إلى حصني فقال هو الليلة عندي وليلة غد يكون عندك فعلم يوقنا أنه لا بد من الاكل معه ولا بد في سماطه من لحم خنزير ولا بد من الخمر فقال: أيها السيد أينما كنت فأنا في نعمتك وخيرك فقال شوجوان لاشفيكاص اعلم أيها الملك أن الملك يوقنا كثير الشوق إلى ابنته ولهما زمان ما رأيا بعضهما وما يخفى عليك ذلك والصواب أن يكون الليلة عندها وليلة غد يكون عندك فقال افعلوا ذلك قال فأخذت أباها ونزلت في السرب إلى القلعة الشرقية وعبر أصحابه إليه في المركب فلما جن الليل قالت الجارية لأبيها يا أبت كيف تركت العرب بعد صحبتك لهم ونصحك لدينهم أرأيت أن القوم على باطل وإن دينك الاول أفضل منه فرجعت إليه.
فقال يوقنا أي بنية والله ما أتيت اليك إلا من شفقتي عليك وقد افترقنا في الدنيا وأخاف أن يكون الفراق في الآخرة أيضا وقد علمت وتيقنت أن هذين الحصنين نصب أعين المسلمين وأنت تعلمين أن قلعتي كانت أمنع من كل قلعة بالشام وقد ملكتها العرب ونزعت ملوكها عن أرضهم وبلادهم فاتقي الله يا بنية في نفسك واعملي لخلاص نفسك من الزبانية والجحيم الحامية والخلود في الهاوية وأرجعي إلى الله من قريب واكفري بدين الصليب فوالله ما ثم دين أفضل من دين الإسلام وعليه كان المسيح والانبياء عليهم الصلاة والسلام وإنما غرر بالنصارى وحيدهم عن طريق الحق رجل يقال له بولص: كان من اليهود أضلهم عن الطريق المستقيم وشرع لهم الضلال القديم حتى كفروا بما جاء به الخليل إبراهيم وهؤلاء العرب قد اتبعوا ما أمر الله به وأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولديهم القول الراجح والفضل الصالح وانهم طلقوا الدنيا ثلاثا وطلبوا بعد لاجتماع شتاتا فارضي لنفسك ما رضي أبوك لنفسه فقالت والله ما قلت شيئا إلا وأنا به عارفة وقد رضيت لنفسي ما رضيت لنفسك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله قال ففرح بإسلامها ثم قال: أي بنية ما الذي نصنع في أمر هذا الكافر اللعين الفاجر قالت والله لقد قال لي الوزير شرجوان: انه مصر على قبضك وقال إنك ما أردت إلا لتنصب عليه فقال يوقنا إذا كان الامر كذلك فاصنعي لنا سماطا وسيري إليه واستدعيه هو وخواصه فأنا آمر أصحابي أن يقبضوا عليهم وعليه إذا اشتغلوا بالطعام والشراب فإذا فعلنا ذلك كانت القلعتان في قبضتنا ونسلمهم إلى أصحاب نبينا ثم إني أريهم أننا هربنا منهم إلى أن نحصل في قرقيسيا فلعل الله أن يفتحها على أيدينا وهذا هو الرأي.
قال الواقدي: فلما ذهب الليل وأتى النهار أمرت جماعتها بصنع الطعام والحلويات وغيرها فلما صنعوا ذلك وصفوا الموائد وعليها من كل حار وبارد نزلت في السرب وقصدت اشفكياص في قلعته ووقفت بين يديه وصعقت له فقام لها اعظاما وقال لها كيف الملك يوقنا وأحواله فقالت أيها الملك انه ما نام الليل وهو متفكر في القيامة وأحوالها والجحيم ومآلها ولقد أراد اليوم المسير إلى مدينة قرقيسيا وإن يقصد الراهب المعظم قرياقوس وقد أخرته إلى أن تحضروا معه على السماط وتمضي أنت وهو إلى جرجيس حتى يرجع إلى دينه وقد جئت اليك لتحضر سماطي وضيافتي أنت وأصحابك وخواصك وتأكلوا من طعامي وتشربوا من شرابي وتمضي أنت وهو إلى جرجيس حتى يرجع إلى دينه وقد جئت اليك لتحضر سماطي وضيافتي أنت وأصحابك وخواصك وتاكلوا من طعامي وتشربوا من شرابي ومدامي والكل من فضلك وانعامك واحسانك وتجبر خاطري قال فأبى اشفيكاص مما دخل على قلبه من يوقنا إذ لم يبت عنده وخاف أن يقبضه فقال له الوزير شرجوان: أيها الملك ليس هذا برأي وإذا امتنعت نفر قلبه منك وما يدريك أيها الملك أنه ندم على ما سلف منه وقد أقر بالذنب واعترف وانك إذا أكلت على سماط ابنته ودعوتهم أنت إلى سماطك فافعل بعد ذلك فيهم ما شئت.
قال: وكان هذا الكلام من شرجون لاشفكياص سرا من ابنة يوقنا فقام عند ذلك وقال لوزيره احفظ مكاني حتى أعود اليك ولم يكن له ولد يرثه في الملك قال فأخذ معه خواصه من قومه وحجابه وبني عمه ونزل في السرب والجارية أمامهم وجواريها بين يديه بالشمع وقد علم الوزير أنه ما بقي يعود إليه بعدها فلما حصل اشفكياص في قلعة زلوبيا وثب للقائه يوقنا وأصحابه وكان قد أوصاهم بما يفعلونه فلما وقعت العين على العين أقبل يوقنا إليه ليعانقه وضمه إلى صدره وقبض عليه قبضة الاسد على فريسته وفعل أصحابه كما فعل وضربوا في الحال رقابهم ولم ينتطح فيها شاتان ولم يعلم بما فعلوه أحد ثم نزلوا من فورهم من السرب ومضوا إلى زبا فوجدوا شرجوان ينتظرهم فلما رآهم تبسم وأعلن بكلمة التوحيد وقال لله درك يا عبد الله فقد شرح الله صدرك للإيمان وأرضيت الملك الديان فجزاه يوقنا خيرا وملك قلعة اشفكياص وجعل يدعو بالرجال ويعرض عليهم الإسلام فمن اسلم تركه وضمن بعضهم بعضا حتى لا ينهزم أحد منهم ويروح إلى صاحب قرقيسيا ويخبره بما صنع يوقنا وبعد أيام أشرف عليهم عبد الله بن غسان وسهيل بن عدى في ألفي فارس فأراهم يوقنا التمنع والاعراض وناشبهم القتال خمسة أيام وقد عرفوا أن ذلك منه حيلة وأرسل يعلمهم في السر أن القلعتين في يده والليلة أسلمهما اليكم وأظهر الهرب إلى قرقيسيا فلعل الله أن يفتحها على يدي فلما كان من الليل أمر شرجون أن يسلمهما إليهم ثم أن المسلمين أعلنوا بالتهليل والتكبير ووقع الصائح من كل جانب وشهروا القواضب وكان في يومه هذا قد وصل الرسول من صاحب قرقيبسيا بالهدايا والتحف إلى يوقنا يهنئه بالسلامة والخلاص من العرب والرجوع إلى دينه فقبل يوقنا الهدية وأنزل الرسول في خيام أصحابه وكانوا قد ضربوا لهم وطاقا في الجانب الشرقي فلما صار أصحابه المسلمين في قلعة أبا أظهر يوقنا الفزع والهلع وقال: وحق ديني ما هؤلاء العرب إلا شياطين ثم إنه أخذ بعض ثقل ابنته في الليل وساروا يطلبون قرقيسيا ففي ذلك قال طريف أحد بني ربيعة بن مالك وهو سائر صحبة المسلمين الصحابة رضي الله عنهم هذه الابيات:
اتينا إلى أرض الفرات مع الزبا ** ونحن نروم الروم من كل فاجر

وقد أمنا ليث الحروب وسهمها ** همام شجاع قاتل كل كافر

وأعني بيوقنا عليه تحية ** يناصب للاعدا حيلة غادر

وقاتل أبناء الصليب وحزبهم ** بحد حسام ماضي الصفح باتر

وصاح على الملعون قوم زلوبيا ** فأورده في الحال سكنى المقابر

وملكنا في القلعتين كلاهما ** بسعد وأقبال ونصرة قادر

سيحظى غداة البحث يوم معاده ** بروح وريحان وحور قواصر

حدثنا سيف بن عمرو التميمي قال: حدثنا الأنصاري عن الملهب عن طلحة عن محمد ابن أبي الدقيلي بن ميسور قال لما كان من أمر يوقنا واشفكياص ما ذكرناه وأرى من نفسه الهرب سار مع ابنته وأصحابه والرسول معهم يرومون قرقيسيا وهم منهزمون فوصلوها مساء ودخلوا معه على شهرياض وأعلموه بأخذ القلعتين وكيف فعل معهم العرب فأيقن بهلاكه وأخذ بلاده فقال له يوقنا: أيها السيد لا تخف فنحن نقاتل بين يديك حتى نموت وإن نزلت العرب علينا يريدون حصارنا لأرينك العجب بقتالهم ولن يصلوا اليك بسوء فوثق بقوله وخلع عليه وطيب قلبه وأنزله بدار جواره وبعث شهرياض من ليلته إلى خاله وهو يومئذ ملك أرض ربيعة براس العين فأرسل يستنصر به على العرب ويعلمه أن العرب قد أخذوا قلعتي زبا وزلوبيا وإن الرجل المعظم يوقنا ملك حلب قد هرب منهم بعد خدمته لهم وهو عندي فسار الرجل الرسول إلى دير مريع ومنه إلى المجدل إلى راس العين فوجد رسول شهر ياض الملك بأعظم تحصين قد أعد آلة الحصار وزاد في عرض خندقها ونصب خيامه ومضاربه على مغاربها وعلى طريق النقب وهو معول على لقاء عياض بن غنم ومن معه وقد جمع عنده سائر عرب الجزيرة من بني تغلب وغيرهم وقد صنع لهم سماطا واستدعى بأمرائهم وهم نوفل بن مازن والفريد بن تغلب بن عاصم والأشجع بن وائل وميسرة بن وائل وميسرة بن عاصم وخرام بن عبد الله بن الاصم وقال لهم.
يا فتيان العرب لم نزل نرعى صغيركم وكبيركم وحريمكم وعبيدكم وقد أبحناكم أرضنا ترعون في حزنها وسهلها ونرضى منكم بما تؤدون الينا من أوباركم فأنتم آمنون وهؤلاء بنو عمكم قد ملكوا الشام ومعاقله وأرض مصر وما معها ولم يكفهم ذلك حتى أقبلوا الينا يريدون أن يزاحمونا على ملكنا ويخرجونا من أرضنا وقد علمتم أن القوم أن ظفروا بكم لا يبقون عليكم ولا يرضون منكم إلا أن تدخلوا في دينهم أو تقاتلوا عن دينكم وأهلكم وأموالكم فكونوا يدا واحدة لا ينفصل منكم شيء كما كان جبلة بن الأيهم وآل غسان مع الملك هرقل فإن نحن نصرنا على القوم فالأرض لنا ولكم على السواء وإن كانت الأخرى فنموت على دين واحد ويبقى ذكرنا إلى الابد قال فاجابوه إلى ذلك وتحالفوا وتعاقدوا أن يموتوا على سيف واحد فأعطاهم الاموال والعدد والسلاح وساروا معه قال ثم أن رسول صاحب قرقيسيا قدم عليه وأعطاه كتاب ابن أخته شهر ياض فلما قرأه وفهم ما فيه وإنه يطلب منه النجدة أرسل إليه يوريك الارمني وهو الذي بنى تل المؤزر والسن وتل عرب وعابدين والسوائد فأرسله ومعه أربعة آلاف فلما قدم الارمني ومعه أربعة آلاف فارس إلى قرقيسيا وكانوا قد قطعوا جسرهم الذي كان على الخابور وكان الجسر على أعمدة من حديد وعليها سلاسل وعلى السلاسل أرماح.
وكذلك ايضا من ناحية الفرات وحفورا حول مدائنهم خندقا عميقا عريضا وحصنوا مدائنهم غاية التحصين واقاموا ينتظرون عسكر الصحابة رضي الله عنهم.