فصل: جبلة يحارب خالدا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)



.جبلة يحارب خالدا:

قال الواقدي: فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد رضي الله عنه وداروا من حوله وسار عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه عن يمينه ورافع بن عميرة عن يساره وعبده همام من ورائه وأصحابه محدقون به وسلم خالد البطريق صاحب قنسرين إلى عبده همام وقال اوثقه إلى جانبك ولا تبرح من مكانك وأبشر بالنصر من الله عز وجل.
قال الواقدي: واقبلت إليهم العرب المنتصرة يقدمهم جبلة بن الأيهم في عنقه صليب من الذهب الأحمر وفيه طوق من الجوهر وعليه ثياب الديباح المزركش ومن فوقه درع مذهب الزرد وعلى رأسه بيضة من الذهب وعلى أعلاها صليب من الجوهر وفي يده رمح طويل وسنانه يضيء كالقنديل وصاحب عمورية كالبرج المشيد ومن حوله الأعلاج المدلجة وقد أحدق بهم الجيش من كل جانب فلما نظر صاحب عمورية إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه وقد ملك صاحب قنسرين وهو في يده اسير خاف أن يعجل عليه خالد فأقبل إلى جبلة وقال له: وحق المسيح ما هؤلاء العرب إلا شياطين إلا ترى إلى هذا العربي ومعه وهم عشرة رجال وقد أحدق بهم هذا الجيش العظيم وما يفكرون فيه وقد ملكوا صاحبنا وهو معهم اسير ولا يخلص من ايديهم وإني خائف عليه أن يقتلوه وهو عزيز عند الملك هرقل فاخرج إلى هذا العربي وقل له يخلي صاحبنا ويوصله إلينا حتى نجود لهم بأنفسهم فإذا اطلقوا صاحبنا حملنا عليهم وقتلناهم عن آخرهم قال رافع ابن عميرة الطائي فبينما نحن وقوف حول خالد بن الوليد رضي الله عنه وجيش الروم والعرب المنتصرة محدقون بنا ونحن لا نفكر في كثرتهم لانا واثقون بالله عز وجل وإذا بجبلة بن الأيهم وهو ينادي برفيع صوته ويقول: من انتم من أصحاب محمد المعروفين من انتم من العرب التابعين اخبرونا من قبل أن ينزل بكم.
الدمار فكان المكلم له خالد وبادره بالخطاب وقال له: بل نحن من أصحاب محمد المختار المعروفين بأهل القبلة والإسلام والأكرام والأنعام وأما سؤالك عن انسابنا فنحن الآن من قبائل شتى وقد جعل الله كلمتنا واحدة ونحن مجتمعون عليها وهي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله زاده الله تعالى شرفا فلما سمع جبلة كلام خالد بن الوليد غضب غضبا شديدا إذ لم يفكر فيه ولا فيمن معه.
فقال جبلة يا فتى أنت أمير هؤلاء العرب فقال خالد: لست أميرهم بل اخوهم في الإسلام وهم اخواني المؤمنون فقال جبلة من أنت من أصحاب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فقال خالدا أنا المعروف بكبش بني مخزوم أنا خالد بن الوليد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الرجل الذي عن يميني هو عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه وهذا الذي عن شمالي من أهل اليمن من كرام طيء وهو رافع بن عميرة الطائي صهري وفؤادي وذلك إني أخذت من كل قبيلة شجاعها المعروف وبطلها الموصوف فلا تزدر بقتلنا ولا تفرح بكثرتهم فما انتم في القتال إلا كطيور وقع عليها صائدها وهي كامنة في اوكارها فألقى القانص الشبكة عليها فما انفلت منها إلا النجيب.
قال الواقدي: فزاد غضب جبلة من كلام خالد وقال له: ستعلم أن كلامك عليك ميشوم إذا دارت بك الاسنة وبقيت أنت ومن معك طعاما للوحوش في هذه الفلاة تمزقكم بكرة وعشيا فقال له خالد: ذلك لا يكثر علينا وهو سهل لدينا فأنت من العرب التي قد نسبت لعبادة الصليب فقال أنا سيد بني غسان ومن ملوك همدان أنا ملك غسان وتاجها أنا جبلة بن الأيهم فقال أنت المرتد عن دين الإسلام ومن اختار الضلالة على الهدى وسلك سبيل الغي وصل وغوى فقال جبلة لست كذلك أنا الذي اخترت العز على الذل والهوان فقال خالد: فانك على ذل نفسك حريص وإنما الكرامة غدا في دار البقاء والبعد عن دار الشقاء فقال جبلة: يا اخا بني مخزوم لا تفرط علينا في المقال فإنما بقائي عليك وعلى أصحابك بسبب هذا الأسير الذي في يدك لاني اخاف أن حملت عليكم قتلته وهو معظم عند الملك هرقل وقريب عنده في النسب فأطلقه من يدك حتى أجود عليكم بأنفسكم فقال خالد: أما اسيري فلا اطلقه من يدي حتى اقتله ولا أبالي لما صنع بي بعده وأما قولك تحمل علي وعلى من معي بهذه الجموع فما انصفت في المقال فإذا أردت النصفة في القتال فجمعكم عظيم وعددكم كثير ونحن عشرة رجال وقد فارس وهذا اميركم فإن قتلتمونا فقد خلصتم اسيركم وأن اظفرنا الله أحدقت بنا اعنت خيولكم واسنة رماحكم وطيال سيوفكم فابرزوا فارسا بكم وما النصر إلا من عند الله فما يعظم عليكم هلاك اسيركم إذا هلكت أنفسكم قبله.
قال الواقدي: فعند ذلك نكس جبلة راسه واقبل يحدث صاحب عمورية بجواب خالد بن الوليد رضي الله عنه فغضب صاحب عمورية غضبا شديدا وانتضى سيفه فلما نظر خالد بن الوليد إلى البطريق وقد جرد سيفه علم إنه يريد القتال فلما هم صاحب عمورية بالحملة امسكه جبلة ومنعه عن الحملة واوقفه تحت صليبه واقبل جبلة على خالد بن الوليد وقال: يا اخا بني مخزوم أن الحرب كما ذكرت تحتمل النصفة وهؤلاء بنوا الأصفر اعلاج الروم غنم ما يعرفون النصفة في البراز وقد حدثتهم بحديثك معي وقد رضوا منك بالمبارزة فمن أراد منكم المبارزة فليبرز قال رافع بن عميرة الطائي فعزم خالد بن الوليد أن يبرز فمنعه عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه وقال: يا أبا سليمان وحق القبر الذي ضم اعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق شيبة ابي بكر الصديق رضي الله عنه لا يبرز لهؤلاء القوم غيري وابذل المجهود فيهم فلعلي الحق بأبي بكر الصديق فتركه خالد وقال اخرج شكر الله مقالك وعرف لك مفالك قال فخرج عبد الرحمن ابن ابي بكر الصديق رضي الله عنه وهو على فرس كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان دفعه له من قسمة غنيمة وقعة اجنادين وكان الجواد من خيل بني لخم وجذام من العرب المتنصرة وكان كالطود العظيم وعبد الرحمن غارقا في الحديد والزرد النضيد وبيده قناة تامة الطول فجال عبد الرحمن بجواده بين عساكر الروم والعرب المتنصرة ودعاهم إلى القتال والبراز والنزال وقال دونكم والقتال فأنا ابن الصديق ثم جعل يقول:
أنا ابن عبد الله ذي المعالي ** والشرف الفاضل ذي الكمال

أبي المجيد الصادق المقال ** أدين هذا الدين بالفعال

ثم طلب البراز قال رافع بن عميرة فخرج إليه خمسة فوارس من شجعان الروم فما كان يجول عبد الرحمن على الفارس إلا جولة واحدة فيصرعه قتيلا فلما قتل الخمسة فوارس توقفوا عنه فهم بالحملة على عسكر الروم فخرج إليه جبلة بن الأيهم وقد اشتد به الغضب فلما قرب من عبد الرحمن قال له: يا غلام قد تعديت علينا في فعالك وبغيت علينا في قتالك فقال عبد الرحمن وكيف ذلك وما البغي من شيمتنا قال جبلة لانك قد ملأت الأرض من قتلانا وما خرجت إليك اقاتلك لانك لست لي كفؤا في القتال وإنما خرجت إليك لأن رجلا من أصحابك قد خرج يعينك وليس هذا من شيم الأشراف والانصاف قال فلما سمع عبد الرحمن كلام جبلة تبسم وقال: يا ابن الأبهم تريد أن تخدعني وأنا تربية الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد شهدت معه الوقائع والقتال فقال جبلة: لست مخادعا وما قلت إلا حقا فقال عبد الرحمن فأخرج بإزاء من خرج معي فارسا من قومك أن كنت صادقا في مقالتك واحمل على علي فاني كفء كريم.
قال الواقدي: فلما نظر جبلة بن الأيهم إلى عبد الرحمن وانه لا يؤتي من قبل الخداع والحيل قال هل لك يا غلام أن تلقي بيدك إلينا واغمسك في ماء المعمودية غمسة تخرج منها نقيا من الذنوب كما خرجت من بطن أمك وتكون من حزب الصليب والإنجيل وتأكل القربان وتأخذ الجائزة العظيمة من الملك هرقل وازوجك ابنتي واقاسمك نعمتي واتفضل عليك باكرامي وانعامي وأنا الذي مدحني شاعر نبيكم حيث يقول:
أن ابن جفنة من بقية معشر ** لم تغذهم آباؤهم باللوم باللوم

يعطي الجزيل ولا يراه بأنه ** إلا كبعض عطية المذموم

لم ينسني بالشام إذ هو بارح ** يوما ولا متنصرا بالروم

أن جئته يوما تقر بمنزل ** تسقي براحته من الخرطوم

فأسرع إلى ما عرضته عليك لتنجو من المهالك وتكون في النعم والعيش السليم فقال عبد الرحمن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يا ويلك يا ابن اللئام أتدعوني من الهدى إلى الضلال ومن الإيمان إلى الكفر والجهالة وأنا ممن وقر الإيمان في قلبه وعرف رشده من غيه وصدق نبي الله وابغض من كفر بالله فدونك والقتال ودع عنك الخديعة والمحال وتقدم إلى ما عزمت عليه حتى أضربك ضربة أعجل بها حمامك وارغم بها انفك وتستريح العرب من أن تنسب إليك لانك كافر بالرحمن وعابد للصلبان قال فغضب ج 4 بلة من كلام عبد الرحمن جعل عليه وهم به ورفع رمحه يريد أن يطعنه فزاع عبدلارحمن من الطعنة وحمل على جبلة حملة عظيمة وتطاعنا بالرماح حتى كل عبد الرحمن من حمل قناته فرماها من يده وانتضى سيفه وتعاركا في الحرب فهجم عبد الرحمن على جبلة وضرب رمحه فبراه فرمى جبلة باقي الرمح من يده وانتضى سيفه من غمده وكان من سيوف كندة من بقايا كأنه صاعقة بارقة ما ضرب به شيءا إلا براه وحمل على عبد الرحمن رضي الله عنه حملة عظيمة قال رافع بن عميرة الطائي: فعجبنا والله من عبد الرحمن وصبره على قتال جبلة ومنازلته على صغر سنه وقلة أعوانه ثم التقيا بضربتين واصلتين فسبقه عبد الرحمن بالضربة فأخذها جبلة من حجفته فقطع الدرق ونزل السيف إلى البيضة فاثنى سيف عبد الرحمن عنها لأنها ذات سقاية عظيمة فجرحه جرحا واضحا اسأل دمه وضربه جبلة ضربة واصلة فقطع ما كان عليه من الزرد والدروع والثياب ووصلت الضربة إلى منكبه فجرحته فلما أحسن عبد الرحمن رضي الله عنه بالضربة قد وصلت إليه ثبت نفسه وارى قرينه كأن الضربة لم تصل وحرك جواده واطلق عنان فرسه حتى لحق بخالد بن الوليد رضي الله عنه وأصحابه فلما وصل إليهم قال له خالد: قد وصل إليك عدو الله بضربته فقال: نعم وأظهر له ضربته وما لحقه فأخذوه.
عن فرسه وسدوا جراحه فقال: يا ابن الصديق أن كان جبلة قد وصل إليك بضربته فوحق بيعة ابيك لافجعنهم في اسيرهم كما فجعوني بك ثم صاح خالد بعبده همام وقال قدم هذا العلج فقدمه بين يديه فضربه بسيفه فأطاح رأسه عن جسده فلما نظرت الروم إلى صاحبهم وقد قتله خالد فجعهم ذلك وغضب جبلة وقال أبيتم إلا الغدر وقتلتم صاحبنا ثم صاح في الروم والعرب المتنصرة وهموا بالحملة ونظر خالد إليهم وقد حملوا على المسلمين فقال لعبده همام قف أنت عند عبد الرحمن فامنع عنه من أراده بسوء ثم قال لأصحابه: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج أحد منكم عن صاحبه وكونوا حولي فما اسرع الفرج والنصر من الله عز وجل فوقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حول خالد بن الوليد رضي الله عنه كما امرهم وما قصدهم إلا من آيس من نفسه وحملت الروم والعرب المتنصرة بأجمعهم وثبت لهم المسلمون الأخيار وعظم بينهم القتال ودارت بهم الأهوال قال ربيعة بن عامر والله لقد كان خالد بن الوليد كلما كثرت الخيل حولنا وازدحمت علينا يتقيها بنفسه ويفرقها بسيفه ولم نزل كذلك حتى أخذنا العطش والظما قال رافع بن عميرة الطائي فلما رايت ذلك قلت لخالد بن الوليد: يا أبا سليمان لقد نزل بنا القضاء فقال والله لقد صدقت يا أبا عميرة لاني نسيت القلنسوة المباركة ولم اصحبها معي.
قال الواقدي: وقد عظم عليهم الأمر وعز منهم الصبر وأخذهم الانبهار ورأوا من المشركين الدمار والأرض قد ملئت من قتلى المشركين وهم بين الروم كأنهم أسرى واذ قد نادى بهم مناد وهتف بهم هاتف وهو يقول: خذل الأمن ونصر الخائف أبشروا يا حملة القرآن جاءكم الفرج من الرحمن ونصرتم على عبدة الأوثان هذا وقد بلغت القلوب الحناجر وعملت السيوف البواتر ودارت عليهم الحوافر.
قال الواقدي: حدثنا بسرة عن إسحاق بن عبد الله قال كنت مع ابي عبيدة رضي الله عنه فبينما نحن في شيرزة وابو عبيدة في مضربه وإذا به قد خرج في بعض الليل من مضربه وهو ينادي النفير النفير يا معشر المسلمين لقد أحيط بفرسان الموحدين قال فأسرعنا إليه من كل جانب ومكان وقلنا له ما نزل بك أيها الأمير فقال الساعة كنت نائما إذ طرقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرني وقال لي معنفا يا ابن الجراح أتنام عن نصرة القوم الكرام فقم والحق بخالد بن الوليد رضي الله عنه فقد أحاط به القوم اللئام وإنك تلحق به أن شاء الله تعالى رب العالمين.
قال الواقدي رحمه الله تعالى: فلما سمع المسلمون قول ابي عبيدة رضي الله عنه تبادروا إلى لبس السلاح والزرد وركبوا خيولهم وساروا يريدون خالدا ومن معه قال فبينما الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه على المقدمة في أوائل الخيل إذ نظر إلى فارس يسرع به جواده وهو أمام الخيل ويكر في سيره كرا فأمر أبو عبيدة رضي الله عنه رجالا.
من المسلمين أن الحقوا به فلم يقدروا على ذلك لسرعة جواده قال فلما كلت الخيل عن ادراكه نظر أبو عبيدة إليه وظن إنه من الملائكة قد ارسله الله امامهم غير إنه نادى به الأمير أبو عبيدة على رسلك أيها الفارس المجد والبطل المكد ارفق بنفسك يرحمك الله فوقف الفارس حين سمع النداء فلما قرب أبو عبيدة من الفارس إذا هي أم تميم زوجة خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال لها أبو عبيدة: ما حملت على المسير امامنا فقالت: أيها الأمير إني سمعتك وانت تصيح وتضج بالنداء وتقول أن خالدا أحاطت به الأعداء فقلت أن خالدا ما يخذل أبدا ومعه ذؤابة المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ حانت مني التقاتة إلى القلنسوة المباركة وقد نسيها فأخذتها وأسرعت إليه كما ترى فقال أبو عبيدة: لله درك يا أم تميم سيري على بركة الله وعونه قالت أم تميم: كنت في جماعة نسوة من مذحج وغيرهم من نساء العرب والخيل تطير بنا طيرا حتى اشرفنا على الغبرة والقتال ونظرنا الاسنة والصوارم تلوح في القتال كأنها الكواكب وما للمسلمين حس يسمع قالت: فانكرنا ذلك وقلنا أن القوم قد وقع بهم عدوهم فعند ذلك كبر الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه وحمل وحملت المسلمون قال رافع بن عميرة فبينما نحن قد أيسنا من أنفسنا إذ سمعنا التهليل والتكبير فلم تكن إلا ساعة حتى أحاط جيش المسلمين بعسكر الكافرين ووضعوا السيوف من كل جانب وعلت الأصوات وارتفعت الزعقات قال مصعب بن محارب اليشكري فرأيت عبدة الصلبان وهم هاربون ورأيت خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو ثابت في سرجه متشوف إلى الأصوات من اين هي وإذا بفارس قد خرج من الغبار وهو يسوق فرسان الروم بين يديه ويهربون منه حتى أزاح من حولنا الكتائب والرجال فأسرع خالد بن الوليد إليه وقال من أنت أيها الفارس الهمام والبطل الضرغام فقالت: أنا زوجتك أم تميم يا أبا سليمان وقد أتيتك بالقلنسوة المباركة التي تنصر بها على أعدائك فخذها إليك فوالله ما نسيتها إلا لهذا الأمر المقدر ثم سلمتها إليه فلمع من ذؤابة رسول الله صلى الله عليه وسلم نور كالبرق الخاطف.
قال الواقدي: وعيش عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وضع خالد القلنسوة على رأسه وحمل على الروم إلا قلب أوائلهم على أواخرهم وحملت المسلمون حملة عظيمة فما كان غير بعيد حتى ولت الروم الأدبار وركنوا إلى الفرار ولم يكن في القوم إلا قتيل وجريح واسير وكان جبلة أول من انهزم والعرب المتنصرة أثره فلما رجع المسلمون من اتباعهم اجتمعوا حول راية الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه وأتباعه وسلموا على الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وعن المسلمين وشكروا الله على سلامتهم ونظر أبو عبيدة رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد وأصحابه وهم كأنهم قطعة ارجوان فصافحه وهنأه بالسلامة وقال لله درك يا أبا سليمان قد أشفيت الغليل وأرضيت الملك الجليل ثم قال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه يا معاشر الناس قد رأيت أن نسير من وقتنا هذا ونغير.
على قنسرين والعواصم ونقتل الرجال وننهب الأموال فقال المسلمون: نعم ما رأيت يا أمين الأمة.
قال الواقدي: فانتخب أبو عبيدة رضي الله عنه فرسانا فجعلهم في المقدمة عياض بن غانم الاشعري وساروا حتى اشرفوا على قنسرين والعواصم فقال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: شنوا الغارات فشنوا الغارات عليهم وسبوا الذراري وقتلوا الرجال فلما نظر أهل قنسرين إلى ذلك غلقوا مدينتهم واذعنوا بالصلح وأداء الجزية فأجابهم أبو عبيدة رضي الله عنه إلى ذلك وكتب لهم كتاب الصلح وفرض على كل رأس منهم أربعة دنانير وبذلك أمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال الواقدي: لما فتح أبو عبيدة رضي الله عنه قنسرين والعواصم قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشيروا علي برأيكم رحمكم الله فإن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} الآية فهل اسير إلى حلب وقلاعها وانطاكية وملوكها وعساكرها او نرجع إلى ورائنا فقالوا: أيها الأمير كيف نرجع إلى حلب وانطاكية وهذه ايام انقضاء الصلح الذي بيننا وبين أهل شيزر وأرمين وحمص وجوسية ولا شك إنهم قد أخذوا الحصار وقووا بلادهم بالأطعمة والرجال ونخاف أن يتغلبوا علينا فيما أخذناه من البلاد ويغيروا علينا لا سيما بعلبك وحصنها فانهم اولو شدة وعديد ونرى من الرأي أنا نرجع إليهم ونقاتلهم فلعل الله عز وجل أن يفتح على ايدينا قال فاستصوب ورجع على طريقه فوجدوا البلاد كما قالوا: قد تحصنت بالعدد والرجال والطعام ولم يكن لابي عبيدة قصد إلا حمص فوجدها قد تحصنت بالعدد والعديد وقد بعث إليها الملك هرقل بطريقا من أهل بيته وكان من أهل الشدة والبأس ومعه جيش عرمرم وكان اسم البطريق هربيس فلما نظر أبو عبيدة إلى ذلك ترك على حمص خالد بن الوليد رضي الله عنه وسار هو إلى بعلبك فلما قرب منها وإذا بقافلة عظيمة فيها جمع من الناس ومعهم البغال والدواب وعليها من انواع التجارات وقد اقبلت من الساحل يريدون بعلبك فلما نظر أبو عبيدة رضي الله عنه إلى سوادها قال لمن حوله من الفرسان ما هذا إلا جمع كثير أمامنا فقالوا: لا علم لنا بذلك فقال علي بخبرهم فسارت الخيل إليهم وأخذت اخبارهم ورجع بعضهم بخبرها والقافلة من قوافل الروم محملة متاعا قال شداد بن عدي وكانت أحمال القافلة أغلبها سكر وكانت لاهل بعلبك فلما سمع أبو عبيدة ذلك قال أن بعلبك لنا حرب وليس بيننا وبينهم عهد فخذوا ما قد ساقه الله إليكم فإنها غنيمة من عند الله.
قال الواقدي: فاحتوينا على القافلة وكان فيها أربعمائة حمل من السكر والفستق والتين وغير ذلك وأخذنا أهلها اسارى فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه كفوا عن القتل.
واطلبوا منهم الفداء فابتعناهم أنفسهم بالذهب والفضة والثياب والدواب وصنعنا من السكر العصيدة والفالوذج بالسمن والزيت ودعس المسلمون دعبنا وبتنا حيث حوتنا القافلة فلما اصبح الصباح أمرنا أبو عبيدة رضي الله عنه بالمسير إلى بعلبك والنزول عليها وكان قد هرب قوم من القافلة وأخبروا أهل بعلبك بالقافلة.
قال الواقدي: وكان على بعلبك بطريق عظيم يقال له هربيس: وكان شديد البأس شجاع القلب فلما أتاه الخبر بقدوم عساكر المسلمين جمع رجاله وأهل الحرب وأمرهم بلبس السلاح والعدد وخرج بعسكره وجعل يسير وهو يعلم أن الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه سائر إليهم بجيوش المسلمين فلما انتصف النهار وتراءى الجمعان وكان هربيس معه سبعة آلاف فارس سوى من اتبعه من سواد بلده ونظر طوالع جيش أبي عبيدة رضي الله عنه ونظر المسلمون إلى ذلك نادوا النفير فعندها تبادرت الفرسان وتقدمت الشجعان وشرعوا رماحهم وجردوا سيوفهم وصف هربيس رجاله وعباهم تعبيئة الحرب فقال له بعض بطارقته: ما الذي تريد أن تصنع مع العرب فقال اقاتلهم لئلا يطمعوا فينا فينزلوا على مدينتنا فقالوا له: الرأي عندي أن لا تقاتل العرب وارجع سالما أنت ورجالك فإن أهل دمشق الشام ما قدروا عليهم ولا ردهم عساكر اجنادين ولا جيوش فسلطين وقد بلغك ما فيه كفاية مما جرى لهم بالأمس مع صاحب قنسرين وصاحب عمورية والعرب المتنصرة وكيف ردهم هؤلاء العرب على أعقابهم منهزمين والصواب إنك تفوز بنفسك وبمن معك وأرجع.
فقال هربيس لست أفعل ذلك ولا أنهزم أمام العرب وقد بلغني أن عسكرهم الكبير على حمص مع الأمير ابي عبيدة الذي كان فيها خالد بن الوليد وهذه غنيمة ساقها المسيح لنا فقال ذلك البطريق الناصح أما أنا فلست أبتع رأيك ولا أقاتل العرب ثم لوى عنان فرسه راجعا إلى بعلبك واتبعه خلق كثير من القوم واما هربيس فإنه صف رجاله وزحف يريد القتال فلما نظر أبو عبيدة رضي الله عنه ذلك وإنهم قد عولوا على الحرب صف رجاله وعساكره وقال: أيها الناس اعلموا رحمكم الله تعالى أن الله قد وعدكم وأيدكم بالنصر حتى هزم أكثر هؤلاء القوم وهذه المدينة التي أنتم قاصدون إليها وسط ما فتحتموه من البلاد وأهلها قد أكثروا من الزاد والعدد والقوة فإياكم والعجب وانتصروا وأغزوا أعداء الدين وانصروا الله ينصركم وأعلموا أن الله معكم ثم حمل الأمير أبو عبيدة وحمل المسلمون قال عامر بن ربيعة وعيش عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين ما كان بيننا وبينهم إلا جولة الجائل حتى ولوا الأدبار وطلبوا الاسوار ودخل هربيس المدينة مع أصحابه وفيه سبع جراحات فتلقاه الذي أشار عليه لا تقاتل العرب وقال له: وأين غنائم العرب التي غنمتوها فقال هربيس قبحك المسيح أتهزأ بي وقد.
قتلت العرب رجالي وقد جرحت هذه الجراحات فقال له البطريق: ألم أقل لك إنك مهلك نفسك ورجالك.
قال الواقدي: ثم أن الأمير أبا عبيدة سار حتى نزل على بعلبك فنظر إلى مدينة هائلة وحصن حصين والقوم قد اغلقوا الأبواب وقد أحرزوا أموالهم ومواشيهم في جوفها واطلع المسلمون على الأموال كأنها الجراد المنتشر قال فلما نظر الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه إلى البلد وتحصينه وامتناعه وكثرة رجاله وشدة برده وذلك إنه بلد لا يزايله البرد في الشتاء والصيف فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه لخواص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الرأي في ذلك فاجتمع رأيهم على شورى واحدة وهو أن يحاصروا القوم ويضيقوا عليهم فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه أصلح الله الأمير إني أعلم أن الروم أزدحم بعضهم ببعض من كثرتهم وأظن أن المدينة لا تسعهم وأن طاولناهم رجونا من الله النصر وأن يفتحها الله على أيدينا فقال الأمير يا ابن جبل من أين علمت أن القوم يتضايقون في مدينتهم فقال: أيها الأمير إني كنت أول من اسرع بجواده قبل واشرفت على هذه المدينة والقلعة البيضاء ورجوت أن نلحق سوابق الخيل فرأيت القوم يدخلون المدينة من جميع الأبواب مثل السيل المنحدر والمدينة مشحونة بأهل السواد والقرى والمواشي ودوابهم فيها وقد ضاقت بهم وهذه اصوات القوم في المدينة كانهم النحل من كثرتهم فقال أبو عبيدة: صدقت يا معاذ ونصحت وايم الله ما عرفتك إلا مبارك الرأي سديد المشورة.
قال الواقدي: وبات المسلمون تلك الليلة يحرس بعضهم بعضا إلى الصباح ثم كتب أبو عبيدة رضي الله عنه إلى أهل بعلبك كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من أمير جيوش المسلمين بالشام وخليفة أمير المؤمنين فيهم أبو عبيدة بن الجراح إلى أهل بعلبك من المخالفين والمعاندين أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى وله الحمد أظهر الدين وأعز أولياءه المؤمنين على جنود الكافرين وفتح عليهم البلاد وأذل أهل الفساد وأن كتابنا هذا معذرة بيننا وبينكم وتقدمة إلى كبيركم وصغيركم لانا قوم لا نرى في ديننا البغي وما كنا بالذين نقاتلكم حتى نعلم ما عندكم وأن دخلتم فيما دخل فيه المدن من قبلكم من الصلح والأمان صالحناكم وأن أردتم الذمام ذممناكم وأن ابيتم إلا القتال استعنا عليكم بالله وحاربناكم فأسرعوا بالجواب والسلام على من اتبع الهدى ثم كتب: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48] وطوى الكتاب وسلمه إلى رجل من المعاهدين وأمره أن يسير به إلى أهل بعلبك ويأتيه بالجواب فأخذ المعاهد الكتاب وأتى به إلى السور وخاطبهم بلغتهم وقال: إني رسول إليكم من هؤلاء العرب فدلوا حبلا فربطه في وسطه وأخذه القوم إليهم وأتوا به إلى بطريقهم هربيس فناوله الكتاب فجمع.
هربيس أهل الحرب والبطارقة وقرأ عليهم كتاب أبي عبيدة رضي الله عنه وقال: أشيروا علي برأيكم فقال له بطريق: من بطارقته وهو صاحب مشورة الرأي.
عندي أن لا نقاتل العرب لانا ليس لنا طاقة بقتالهم ومتى صالحناهم كنا في أمن وخصب ودعة كما قد صار أهل أركه وتدمر وحوران وبصرى ودمشق وأن نحن قاتلناهم وأخذونا في الحرب قتلوا رجالنا واستعبدونا وسبوا حريمنا والصلح خير من الحرب فقال هربيس لا رحمك المسيح فما رأيت اجبن منك ولا أقل جلدا يا ويلك كيف تأمرنا أن نسلم مدينتنا إلى أوباش العرب ولا سيما وقد عرفت حربهم وقتالهم واختبرت نزالهم وإني في هذه النوبة لو حملت في ميسرتهم كنت هزمتهم فقال له البطريق: نعم كانت الميسرة والقلب يخافون منك ثم تخاصما وتشاتما وافترق أهل بعلبك فرقتين فرقة يطلبون الصلح وفرقة يطلبون القتال ورمى هربيس الكتاب إلى المعاهد بعد أن مزقه وأمر غلمانه أن يدلوه إلى ظاهر المدينة ففعلوا ذلك ووصل المعاهد إلى عسكر المسلمين وأتى أبا عبيدة رضي الله عنه وحدثه بما كان من القوم وقال: أيها الأمير أن أكثر القوم عولوا على القتال فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه للمسلمين شدوا عليهم واعلموا أن هذه المدينة في وسط اعمالكم وبلادكم فإن بقيت كانت وبالا على من صالحتم ولا تقدرون على سفر ولا على غيره قال: فلبس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح والعدد ورجعوا إلى الاسوار وعطف أهل بعلبك عليهم وتراموا بالسهام والأحجار وأن هربيس قد نصب كرسيه وسريره على برج من أبراج القلعة من ناحية النملة وقد عصب جراحته ولبس سلاحه ولامته ولبس على رأسه صليبا من الجواهر وحوله البطارقة والديرجانية بالدروع المذهبة والعدد الكاملة وفي اعناقهم صلبان الذهب والجوهر وبأيديهم القسى والسهام قال عامر بن وهب اليشكري شهدت حرب بعلبك وقد زحفت المسلمون إلى سورها قال ونشاب الروم كالجراد المنتشر وكان أناس من العرب بلا سلاح فأصابهم سهام القوم قال: ورأيت القوم يتساقطون علينا من السور تساقط الطير على الحب فذهبت إلى رجل سقط لاضرب عنقه فصاح الغوث الغوث وكنا قد عرفنا من الحرب أن من قال الغوث يعني الأمان فقلت له: يا ويلك لك الأمان فما الذي القاك إلينا من سوركم فجعل يكلمني بالرومية وأنا لا أدري ما يقول: قال عامر ابن وهب اليشكري فسحبته إلى خيمة أبي عبيدة وقلت له: أيها الأمير اطلب من يعرف لغة هذا العلج فاني رايتهم يرمي بعضهم بعضا فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه لمن حضر من المترجمة اخبرنا بخبر هذا العلج وما قضيته ولم يرمي بعضهم بعضا فقال له الترجمان: يا ويلك قد اعطيناك الأمان فاصدقنا في الكلام قل لنا: لم يرمي بعضكم بعضا قال أن بعضنا لا يرمي بعضا ولكنا من أهل والقرى فلما سمعنا بمسيركم ورجوعكم عن أهل قنسرين التجأنا إلى هذه المدينة من جميع الرساتيق لنتحصن فيها لما نعلم من كثرة ما بها من الجيش فضيق بعضنا.
على بعض وسددنا طرقات المدينة ومضى بعضنا إلى السور فإذا ليس لنا موضع ناوي إليه ولا مسكن نسكن فيه فجعلنا الأبراج والأسوار مسكنا لنا فلما زحفتم إلى القتال برز إليكم أهل الحرب والنزال من هذه المدينة فجعلوا يدوسوننا بأرجلهم وإذا اشتد الحرب عليهم والقتال يدفع الرجل منهم الرجل منا فيلقيه إليكم.
قال الواقدي: فلما سمع الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه ذلك فرح فرحا شديدا وقال ارجو من الله أن يجعلهم غنيمة لنا قال وأخذت الحرب مأخذها وطحنت رجالها وعلا الضجيج و حمى الروم أسوارهم فلم يقدر أحد من المسلمين أن يصل إليها من كثرة السهام والحجارة قال غياث بن عدي الطائي حاربنا أهل بعلبك في أول يوم فأصيب من المسلمين اثنا عشر رجلا وأصيب من الروم على السور خلق كثير من أهل الحرب وغيرهم وانصرف المسلمون إلى رحالهم وما لهم همة إلى الطعام ولا الشراب ولا يريد أحد منا إلا الإصطلاء بالنار من شدة البرد قال فبينما نحن ليلتنا نوقد النار ونتناوب في الحرس إلى الصباح فلما صلينا الفجر نادى مناد من قبل أبي عبيدة رضي الله عنه يقول: عزيمة مني على كل رجل من المسلمين لا يبرز إلى حرب هؤلاء القوم حتى ينفذ إلى رحله ويصلح له طعاما حارا يأكله ليكون بذلك شديدا على لقاء العدو قال فابتدرنا لاصلاح أمورنا فلما نظر أهل بعلبك إلى تأخرنا عن حربهم وقتالهم طمعوا فينا وظنوا أن ذلك فشل منا وعجز فصاح هربيس في الروم وقال اخرجوا لهم بارك المسيح فيكم قال غياث بن عدي فلم يشعر المسلمون إلا والأبواب قد فتحت والخيل والرجال قد طلعت إلينا كالجراد المنتشر قال وكان بعضنا قد مد يده إلى الطعام وبعضنا ينضج له القرص وإذا بمناد ينادي يا خيل الله اركبي وللجهاد تأهبي فدونكم والقوم قبل أن يدهموكم قال حمدان بن اسيد الحضرمي وكان لي قرص خبزته وقدمت شيئا من الزيت لاجعله ادامى للقرص وإذا بالمنادي ينادي النفير النفير قال فوالله ما راعني ذلك حتى أخذت قطعة وغمستها في الزيت وهويت بها إلى فمي سمعت النفير فقمت مسرعا وركبت جوادي عريانا من دهشتي لسرعة الإجابة وضربت يدي على عمود من أعمدة الخيام وحملت على القوم فوالله ما شعرت بما صنعت ولا عقلت: على نفسي حتى صرت في الروم فجعلت أحطمهم حطما واهبرهم بالسيف هبرا قال: فنظرت إلى خيل الروم متفرقة والأمير أبو عبيدة قد نصب رايته والناس يهرعون إليها وأن أبا عبيدة رضي الله عنه ينادي برفيع صوته اليوم يوم له ما بعده قال ونظر أبو عبيدة إلى شدة ضرب الروم وصبرهم على قتال المسلمين فحمل عليهم بالخيل العربية وأحاط بالروم من كل جانب ومكان وكان في جملة خيله عمرو بن معد يكرب الزبيدي وعبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه وربيعة بن عامر ومالك بن الاشتر وضرار بن الأزور رضي الله عنه وذو الكلاع الحميري فلله درهم فلقد قاتلوا قتالا شديدا.
وابلوا بلاء حسنا فلما نظرت الروم إلى فعلهم رجعوا إلى أعقابهم طالبين الاسوار وغلقوا الأبواب ورجع المسلمون إلى عسكرهم وأضرموا نيرانهم ودفنوا من استشهد منهم وأقبلت رؤساء المسلمين إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وقالوا: أيها الأمير ما الذي قد عزمت عليه وما عندك من الرأي يرحمك الله فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه اعلموا أن من الرأي أن نتأخر عن المدينة مقدار شوط فرسخ ليكون ذلك مجالا نحيلكم ومنعة لحريمكم والنصر من عند الله تعالى.
ثم دعا أبو عبيدة رضي الله عنه بسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعقد له راية وامره على خمسمائة فارس وثلثمائة راجل وأمرهم أن يهبطوا إلى الوادي وأن يقاتلوا القوم على الأبواب وأن يشغلوهم عن المسلمين ثم دعا ضرار بن الأزور وعقد له راية وأمره على خمسمائة فارس ومائة راجل سرحه إلى باب الشام وقال: يا بن الأزور اظهر شجاعتك على بني الأصفر فقاتل من هناك من الروم فقال حبا وكرامة قال ومضت كل فرقة إلى جهة من الجهات فلما أصبح الصباح فتحت الروم الأبواب وخرجوا في خلق كثير إلى أن تكاملوا حول بطريقهم هربيس فقال لهم البطريق: اعلموا يا معاشر النصرانية أن أهل هذا الدين من قبلكم قد فشلوا عن قتال هؤلاء العرب وعجزوا عن قتالهم ونزالهم فقالوا: أيها السيد طب نفسا وقر عينا فانا كنا نخاف من العرب قبل أن نختبرهم ونعلم قتالهم وقد علمنا إنهم إذا لاقوا حربنا لم يكونوا أصبر منا على الحرب لأن أحدهم يلقي الحرب وعليه ثوب خلق خام أو فروة خلقة ونحن علينا الدروع والزرد وقد وهبنا أنفسنا للمسيح.
قال الواقدي: فلما نظر أبو عبيدة إلى كثرتهم نادى برفيع صوته يا معاشر المسلمين لا تفشلوا فتذهب ريحكم واصبروا أن الله مع الصابرين قال وأن الروم داخلهم الخوف لما كانوا قد نالوه من غرة المسلمين بالأمس فحملوا حملة عظيمة قال سهل بن صباح العبسي شهدت قتال أهل بعلبك وقد خرج إلينا أهلها في اليوم الثاني وهم أطمع مما كانوا في اليوم الأول وقد حملوا علينا حملة عظيمة شديدة منكرة وكنت في ذاك اليوم اصابني جرح في عضدي الإيمن وما أطيق أن أحرك يدي ولا أحمل سيفا فترجلت عن جوادي وجريت بين أصحابي وقلت في نفسي: إذا قصدني أحد من هؤلاء الأعلاج لم يكن لي غنى ادفع عن نفسي فطلعت إلى ذروة الجبل فعلوته واشرفت على العسكرين وجعلت انظر إلى حربهم وقتالهم وقد طمعت الروم في العرب والمسلمون ينادون بالنصر وأبو عبيدة يدعو لهم بالنصر والتحمت القبائل وافتخرت العشائر قال سهل بن صباح وأنا على الجبل من وراء حجر انظر إلى ضرب السيوف على البيض والحجف والشرر يطير من شعاعها وقد التقى الفريقان واختلط الجمعان فقلت في نفسي: ويحي وما.
عسى أن ينفع المسلمين مقام سعيد بن زيد وضرار بن الأزور على الأبواب والأمير أبو عبيدة في مثل هذا الحرب وإنهم والله على وجل أن ينكشفوا من عظم شدتهم وحربهم وهول ما يلقونه قال فأسرعت إلى جراثيم الشجر فجعلت أكسرها وأعبي الحطب بعضه على بعض وعمدت إلى زناد كان معي فأوقدت النار واضرمتها فيه وعبيت عليه حطبا اخضر ويابسا حتى علا منه دخان عظيم وكانت علامتنا إذا أردنا أن يجتمع بعضنا إلى بعض بأرض الشام في الليل وقود النار واثارة الدخان قال فما هو إلا أن علا الدخان وتصاعد إلى الافق حتى نظراليه سعيد بن زيد وأصحابه وضرار بن الأزور وأصحابه فنادى بعضهم بعضا الحقوا الأمير أبا عبيدة رحمكم الله فإن هذا الدخان ما هو إلا من شيء عظيم والصواب أن نكون بخيلنا في موضع واحد فأسرعوا بخيلهم وساروا حتى أشرفوا على المسلمين وهم في شدة الحرب وأعظم الكرب وقد بلغت القلوب الحناجر وعملت السيوف البواتر وإذا بمناد هتف بهم يا حملة القرآن جاءكم النصر من الرحمن ونصرتم على عبدة الصلبان وإذا قد اشرف عليهم سعيد بن زيد وضرار بن الأزور في أوائل خيلهم وقد شرعا سنانهما وحملا في الروم وقد أيقن الروم إنهم الغالبون إذ ظهرت عليهم رايات المسلمين وكتائب المواحدين فالتفتوا ينظرون ما الخبر وإذا بالمسلمين من ورائهم وقد حالوا بينهم وبين مدينتهم فنادوا بالويل والخراب وظنوا إنه قد أتى للمسلمين نجدة ومدد وقد غرر بهم البطريق فلما نظر البطريق إلى تبلدهم زعق فيهم وقال: يا ويلكم لا ترجعوا إلى المدينة قد حيل بينكم وبينها وهذه مكيدة من مكايد العرب فلما سمعت الروم ذلك أحاطوا ببطريقهم كالحلقة المستديرة يحمي بعضهم بعضا فعدل بهم البطريق نحو الجبل ذات الشمال وكان سعيد بن زيد وضرار بن الأزور قد اقبلا بجيشهما عن يمين الحصن وشماله فحملوا عليهم واتبعوا آثارهم حتى طلعوا إلى الجبل والتجأت الروم إلى ضيعة في الجبل حصينة خالية من أهلها فاستند الروم إليها وتحصنوا فيها وتبعهم سعيد بن زيد في الخمسمائة فارس الذين كانوا معه وذلك أن الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه لما نظر إلى هزيمة الروم نادى في المسلمين معاشر الناس لا يتبعهم أحد ولا يفترق جمعكم لاني اخشى أن تكون هزيمة القوم مكيدة لكم حتى إذا تفرق جمعكم زحفوا عليكم قال وأن سعيد بن زيد لم يكن يسمع النداء ولو سمع النداء ما تبع القوم.
قال الواقدي: لما تحصنت الروم في الضيعة قال سعيد بن زيد هذه طائفة قد أراد الله هلاكها فدوروا بهم وحاصروا في كل مكان ولا تدعوا أحدا يطلع رأسه إلى أن تلحق بكم المسلمون ويأتي إليكم أمر من الأمير أبي عبيدة ثم اقبل إلى رجل من عظماء المسلمين وقال له: اخلفني في قومي حتى انظر رأى الأمير ابي عبيدة ومن معه ثم أخذ معه زهاء من عشرين فارسا من أصحابه وسار حتى لحق بجيش المسلمين فلما نظر إليه.
الأمير أبو عبيدة ومن معه قال: يا سعيد اين رجالك وما صنعت بهم قال ابشر أيها الأمير فإن المسلمين في خير وسلامة وقد حاصروا اعداء الله في ضيعة في هذا الجبل ثم اخبره بالقصة من اولها إلى آخرها فقال أبو عبيدة: الحمد لله الذي هزمهم عن اوطانهم وجعلهم اشتاتا ثم اقبل أبو عبيدة على سعيد بن زيد وعلى ضرار بن الأزور وقال لهما ما هذه المخالفة رحمكم الله الم آمركم بالإقامة على أبواب المدينة والمشاغلة للقوم فما الذي ردكم الي وقد ارعبتم قلبي وقلب من كان معي وظننت أن أهل المدينة كادوكم وهو الذي منعنا أن نتبع المنهزمين فقال سعيد بن زيد أيها الأمير والله ما عصيت لك امرا ولا خالفتك في قول وإني قد وقفت حيث أمرتني إذ رأينا دخانا قد علا قتامه ولاح لنا بيانه فقلنا والله ما هذه إلا داهية من دواهي الروم أو نفير قد استدعانا به المسلمون فأسرعنا نحوك فعندما نادى الأمير أبو عبيدة في المسلمين معاشر الناس ايكم اوقد نارا أو دخن دخانا في هذا الجبل فليجب الأمير أبا عبيدة قال سهل بن صباح فلما سمعت النداء اجبت المنادي وأتيت الأمير أبا عبيدة فقال: ما الذي جراك على ذلك فقصصت عليه قصتي فقال أبو عبيدة: لقد وفقك الله تعالى إلى الجنة فإياك بعدها أن تحدث حديثا من غير اذن أميرك.
قال الواقدي: فبينما الأمير كذلك يحدث سهل بن صباح وإذا برجل من المسلمين منحدر من الجبل وهو ينادي النفير النفير يا امة البشير النذير ادركوا اخوانكم المسلمين فقد أحاط بهم الروم وهم في اشد ما يكون من القتال وانه قد دنا البطريق من المسليمن ونادى بأصحابه ورجاله وقال: يا عباد المسيح إليكم هذه الشرذمة اليسيرة والعصابة الحقيرة التي قد أحاطت بكم فاقتلوهم وادخلوا المدينة فانكم أن قتلتم القوم كسرتم بذلك حدة العرب وانصرفوا عنكم قال مصعب بن عدي وكنت في بعلبك من أصحاب سعيد بن زيد وقد جعلنا محاصرين البطريق والروم في الضيعة ونحن دون الخمسمائة رجل فما شعرنا إلا والبطريق والروم قد تبادروا إلينا من كل مكان فنادى بعضنا عضا واجتمعنا قال والله لقد كبوا علينا الخيل واحاطوا بنا بعد ما كنا أحطنا بهم وكان شعارنا في ذلك اليوم الصبر الصبر قال فبينما نحن كذلك في اشد الحرب واعظم الكرب إذ سمعنا صوتا عاليا قد ملأ الجبل ومناديا ينادي ويقول: أما من رجل يهب نفسه في الله ويسنفر المسلمين فانهم بالقرب منا ولا يعلمون ما نزل بنا قال مصعب بن عدي فلما سمعت الصوت همزت جوادي بكعبي وكان جواد عتيقا يسبق الريح الهبوب او الماء إذ انسكب من ضيق الأنبوب وكأنه الطود العظيم والله لقد خرج من تحتي كأنه البرق ولم تلحق منه الروم إلا الغبار بعد ما قتلت منهم رجلين ولقد نظرت إلى فرسي وهو يشب الصخرة ويسلك الوعرة حتى اشرفت على عساكر المسلمين فناديت النفير النفير يا أمة البشير النذير.
فلما سمع أبو عبيدة ذلك صاح بالرماة فأجابه خمسمائة رام من أصحاب القسي العربية فضمهم إلى سعيد بن زيد وقال له: اسرع يرحمك الله والحق بأصحابك قبل أن يأتي العدو إليهم ثم نادى بضرار بن الأزور وأصحابه وقال له: أدرك أخاك سعيد بن زيد قال فسار المسلمون مثل الجراد المنتشر حتى علوا على قلة الجبل واشرفوا على الروم وهم محدقون بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو زيد بن ورقة بن عامر الزبيدي وكنت ممن شهد القتال على الضيعة مع أصحاب سعيد بن زيد وقد أحاطت بنا الروم وقد صبرنا لهم صبر الكرام وقد صرع منا سبعون رجلا مابين جريح وقتيل ونحن في اشد ما يكون من القتال والجراح وقد طمعت الروم فينا حتى سمعنا التهليل والتكبير ولحقنا النفير فلما اشرفت علينا راية المسلمين رجعت الروم على أعقابهم مدبرين إلى الضيعة راجعين ولحقنا من تأخر منهم وكثر فيهم القتل والجراح لكثرتهم وتحصن القوم في الضيعة فأحطنا بهم من كل جانب وما تركنا منهم أحدا يخرج رأسه من كثرة النبل وورد الخبر إلى الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه بمن استشهد من المسلمين ومن قتل من الكافرين وأن القوم قد لزمهم الحصار وأن لا زاد عندهم ولا ماء فقال أبو عبيدة: الحمد لله ثم قال للمسلمين معاشر الناس ارجعوا إلى أموالكم واضربوا خيامكم حول المدينة فإن الله عز وجل كاد عدوكم وهو منجز لنا ما وعدنا من نصره قال فعندنا رجع المسلمون إلى أموالهم ومواضعهم التي كانوا فيها أول مرة وضربوا خيامهم وانفذوا طوالعهم وارسلوا إلى المرعى خيولهم وابلهم وسرحوا إلى الحطب عبيدهم واضرموا النيران في عسكرهم وذهب منهم الخوف وأتاهم الأمان وأن أهل بعلبك افترقوا على السور وجعلوا يضربون على وجوههم ويصيحون بلغتهم فقال الأمير أبو عبيدة لبعض التراجمة ما يقول: هؤلاء فقال له الترجمان: أيها الأمير إنهم يقولون يا ويلهم ويا عظم ما أصابهم ويا خراب ديارهم ويا فناء رجالهم حتى ظفرت العرب ببلادهم.
قال الواقدي: فلما دنا المساء ارسل الأمير أبو عبيدة إلى سعيد بن زيد يقول له: يا بن زيد الحذر الحذر على من معك من المسلمين واجتهد رحمك الله أن لا يفوتك من الروم أحد ولا تفسح لهم قدما واحدا فيخرج منهم واحدا فيتبع اولهم آخرهم فتكون كمن حصل في يده شيء فاضاعه فلما وصل الرسول إلى سعيد بن زيد بهذه الرسالة أمر المسلمين أن يحيطوا بالضيعة من كل جانب وأن لا يخرجوا إلى الحطب إلا مائة بالسلاح ففعلوا ذلك واضرموا نيرانهم وباتوا طول ليلتهم يهللون ويكبرون وبالضيعة يطوفون فلما نظر البطريق هربيس إلى ذلك اقبل على أصحابه ورجاله وقال لهم: يا ويلكم لقد ايسنا من التدبير وأخطأنا الرأي وما لنا مدد ولا نجدة ولا نصير ولو اجتهدنا لما اجتهدت العرب على أن يحبسونا في هذه الضيعة والآن قد حبسنا أنفسنا في.
حبس ليس فيه طعام ولا شراب وأن دام علينا هذا يوما ثانيا أو ثالثا ضعف قوينا ومات ضعيفنا وبطلت حيلتنا وسلمنا أنفسنا كارهين فنقتل عن آخرنا فقالت البطارقة: فما الذي ترى أيها السيد فقال قد رأيت من الرأي أن اخدع العرب واحتال عليهم واسألهم الصلح لنا ولاهل مدينتنا كما قد طلبوا وأضمن أن افتح لهم المدينة ونكون في ذمامهم فإذا دخلنا المدينة حاربناهم على سورنا ولعلنا نرسل إلى صاحب عين الجوز والى صاحب جوسية فلعلهما يقدمان إلى نصرتنا فيكونان لقتال العرب من خارج المدينة ونحن من اعلى الاسوار ويكفينا المسيح هذه النوبة.
فقالت البطارقة: اعلم أيها السيد أن صاحب جوسية لا يجيبك إلى نجدة ابدا لانه مشتغل بنفسه وربما يكون محاصرا مثل حصارنا هذا فلقد بلغنا قبل نزول هؤلاء العرب علينا إنهم صالحوهم القدرة وألقوه أن يقاتلوا العرب واما أصحاب عين الجوز فانهم في تجارتهم متفرقون في اقصى الشام وما اظن إلا إنهم في صلح العرب فانظر لنفسك ورعيتك ما فيه الصلاح فلما سمع البطريق هربيس قولهم اجابهم إلى ذلك فلما اصبح الصباح طلع البطريق على جدار الضيعة ونادى برفيع صوته يا معاشر العرب أما فيكم رجل يعرف كلامي أنا هربيس البطريق فلما سمعه بعض التراجمة اقبل على سعيد بن زيد وقال له: يا مولاي أن هذا العلج هو هربيس صاحب القوم وهو يستدعي كلامك فقال له سعيد بن زيد: ادن منه وانظر ماذا يريد وما يقول: قال فدنا الترجمان منه فقال له: ما الذي تريد قال أريد أن يؤمنني أميركم هذا في ذمامه وذمام أصحابه ويدنو مني حتى أخاطبه بما يعود صلاحه على الفريقين فقال الترجمان ذلك لسعيد بن زيد فقال سعيد بن زيد لا كرامة له حتى أدنو منه وأمشي إليه حتى يخاطبني فإن كان له حاجة فليأت الي خاضعا ذليلا صاغرا حتى أسمع كلامه وأعلم مراده قال فأعلم الترجمان هربيس بكلام سعيد بن زيد فقال هربيس فكيف انزل إليه وأنا محارب له فأنا اخاف أن يقتلني فقال له الترجمان: أنا أخذ لك منه الذمام فإن العرب لا تخون إذا أمنت فقال البطريق: نعم قد تناهت إلينا أخبارهم ولكني أريد أن استوثق لنفسي ولأصحابي واهل بلدي لانهم قوم قد لحقهم الحقد علينا وقد اصبنا منهم دما كثيرا وإني أريد أن ارسل له شخصا يأخذ لي منه أمانا فقال الترجمان أنا أعرفه ذلك ثم اقبل الترجمان على سعيد بن زيد وقال له: إن البطريق هربيس يريد أن يوجه إليك رجلا من أصحابه يأخذ له منك أمانا فقال سعيد بن زيد دعه يوجه من يريد وأعلمه أن رسوله منا في أمان حتى يرجع إليه قال فأعلمه الترجمان بذلك فأقبل البطريق على رجل من عظماء أصحابه وقال له: ترى ما قد نزل بنا وكيف قد ملك العرب علينا الطريق وأن بلاد الشام قد أذن المسيح بخرابها وقد نصرت العرب علينا وأنا في شدة شديدة وأن لم نأخذ من القوم الأمان وإلا هلكنا وهلكت خيلنا وبعد ذلك يتحكمون في اولادنا.
وحريمنا ويقتسمون أموالنا وذرارينا وليس لنا نجدة لأن كل بلدة مشتغل بنفسه عن نصرتنا فأنزل إلى هؤلاء العرب وخذ لنا منهم أمانا واستوثق لنا منهم حتى أنزل أنا إليهم فلعلنا نجري بينهم صلحا ولعلي أمكر بهم حتى نرجع إلى المدينة ولعلي ارغب صاحبهم في شيء من المال فلعله يرغب وينصرف عنا إلى أن نرى ما يكون بينهم وبين الملك هرقل.
قال الواقدي: فنزل الرجل ووقف أمام الأمير سعيد بن زيد وهم الرجل أن يسجد له فمنعه من ذلك وتبادرت إليه المسلمون فأمسكوه ففزع الرجل وقال لم تمنعوني أن أعظم صاحبكم فقال الترجمان ذلك لسعيد بن زيد فقال انما أنا وهو عبدان لله تعالى ولا يجوز السجود والتعظيم إلا لله الملك المعبود القديم فقال الرجل بهذا نصرتم علينا وعلى غيرنا من الأمم فقال سعيد بن زيد فما الذي جاء بك قال جئت لآخذ منك أمانا لبطريقنا أن لا تنقض لنا عهدا فقال سعيد بن زيد ليس من اخلاق الأمراء ومن يقود الجيوش أن يغدر بعد الأمان ولسنا بحمدالله ممن ينقض عهدا وقد أعطيت صاحبك أمانا ولمن معه ممن القى السلاح وخرج يطلب الأمان مستسلما فقال الرجل نريد منك الأمان ومن أميرك وممن معك فقال سعيد لكم ذلك فعند ذلك رجع الرجل إلى البطريق وأعلمه بجواب سعيد وقال له: اخرج وإياكم والغدر فإنه يهلك صاحبه وأن هؤلاء العرب لا يخونون أمانهم وعهدهم.
قال الواقدي: ولقد بلغني أن البطريق هربيس خلع ما كان عليه من الثياب والديباج والقى السلاح ولبس ثياب الصوف وخرج حافيا حاسرا ذليلا ومعه رجال من قومه حتى وقف بين يدي سعيد بن زيد فخر سعيد لله ساجدا وقال: الحمد لله الذي أزال عنا الجبابرة وملكنا بطارقتهم وملوكهم ثم اقبل عليه وقال له: ادن مني فدنا إلى أن جلس إلى جانبه وقال له: أهذا لباسك دائما أم غيرته فقال: لا وحق المسيح والقربان ما لبست الصوف ابدا غير الحرير والديباج وما لبست هذا إلا في وقتي هذا فاني ما أريد حربكم ولا قتالكم ثم قال لسعيد هل لك أن تصالحني على أصحابي هؤلاء وعلى أهل المدينة ومن فيها فقال سعيد أما أصحابك هؤلاء فاني أوفيهم على شرط أن من دخل في ديننا فله ما لنا ومن اختار الإقامة على دينه والقى السلاح كان آمنا من القتل وعليه العهد إنه لا يحمل علينا سلاحا ولا يكون لنا حربا ابدا واما المدينة فالأمير أبو عبيدة عليها وقد فتحها أن شاء الله تعالى ثم قال: أن أحببت أن تسير معي إلى أبي عبيدة حتى يسمع كلامك وتصالح عن قومك فسر وانت في ذمامي فإن اتفق بينكما الأمر وإلا رددتك إلى موضعك هذا ومن أراد الرجوع معك من رجالك إلى أن يحكم الله وهو خير الحاكمين فقال البطريق أنا أفعل ذلك فعندها دعا سعيد بن زيد سعد بن ابي وقاص بن عوف العدوى.
وقال: يا ابن أبي وقاص كن بشيرا للأمير أبي عبيدة بما سمعت واسرع بالجواب قال فأسرع ابن أبي وقاص بن عوف وركب جواده وكان حصانا شديد العدو وجعل يسير سيرا حثيثا حتى اشرف على الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه ووقف بين يديه وسلم عليه وقال: أصلح الله تعالى شأن الأمير أبشرك بأن البطريق هربيس قد أخذ الأمان من سعيد بن زيد وهو يريد أن يقبل به عليك يسألك الصلح والأمان له ولاهل مدينته فلما سمع الأمير ذلك سجد لله شكرا ورفع رأسه وقال: أيها الناس تقدموا الآن إلى قتال أهل المدينة وأظهروا أسلحتكم عليها وكبروا تكبيرة واحدة لكي ترعبوا بها القوم قال ففعل المسلمون ذلك فارتجت المدينة وفزع أهل بعلبك وتداعوا للقتال وأحاط المسلمون بالمدينة من كل جانب وكان أول من سبق إلى المدينة واعطاهم خبر البطريق المرقال ابن عتبة وقال حصنوا أنفسكم وأولادكم وأموالكم بالصلح فإن ابيتم ذلك فقد وعدنا الله تبارك وتعالى على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يفتح لنا بلادكم وأمصاركم وغيرها وأن الله تعالى منجز أمره فلما سمع أهل بعلبك ذلك فزعوا فزعا شديدا واغبرت وجوههم ورعبت قلوبهم وكلت من الحرب أيديهم وقالوا: أهلكنا البطريق وأهلك نفسه ولو كنا صالحنا العرب من قبل أن يوجد بنا هذا الحصار لكان خير لنا قال وشدد المسلمون عليهم القتال.
قال الواقدي: فلما علم أبو عبيدة أن نيران الحرب قد اضرمت على المدينة أرسل إلى سعيد بن زيد يقول له: أسرع بالبطريق إلينا وله الأمان الذي أمنت أنت فنحن لا ننقض لك عهدا فلما ورد رسول أبي عبيدة على سعيد بن زيد استخلف على الضيعة رجلا من أصحابه وسار سعيد مع البطريق حتى وردا على الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه فلما وقف البطريق بين يديه ونظر إلى زيه وزي من معه وشهد قتالهم وعظم ما تلقى المدينة من حربهم وقتالهم حرك البطريق رأسه وعض على أنامله فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه لترجمانه ما لهذا يحرك رأسه ويعض أنامله كأنه يتأسف على شيء فاته قال فأعلمه الترجمان بذلك فأقبل على الترجمان وقال له: وحق المسيح وما مسح وحق البيعة والمذبح لقد ظننت إنكم أكثر عددا من الحصى وأكثر مددا ولقد كان يخيل لنا عند حربكم وشدة ما نلقى منكم إنكم على عدد الحصى والرمل من كثرتكم ولقد كنا نرى خيلا شهبا وعليها رجال وبأيديهم رايات صفر وعليهم ثياب خضر فلما صرت بينكم لم أر من ذلك شيئا وما أراكم إلا في قلة عدد وما ادري ما فعل جمعكم أبعثتموه إلى عين الجوز او إلى جوسيه أو مكان آخر فأخبر الأمير الترجمان بذلك فقال أبو عبيدة: للترجمان قل له: يا ويلك نحن معاشر المسلمين يكثرنا الله تعالى في أعين المشركين ويمدنا بالملائكة كما فعل بنا يوم بدر وبذلك فتح الله تعالى بلادكم وحصونكم علينا وأذل ملوككم فلما سمع البطريق كلام أبي عبيدة رضي الله عنه على لسان الترجمان.
قال: لقد وطئتم الشام الذي عجزت عنه ملوك الفرس والترك والجرامقة وما ظننا أن يكون ذلك ابدا وأما مدينتنا فهي حصينة لا تعبأ بالحصار لانها مدينة ليس بالشام مثلها بناها سليمان بن داود عليهما السلام لنفسه وعملها دار مقامه وخزانة لملكه ولولا ما سبق من تفريطنا وخروجنا عنها إليكم وانحرافنا عنها ما صالحناكم ابدا ولا هالنا حربكم ولو اقمتم علينا مائة سنة والان فقد كان ذلك فهل لكم أن تصالحونا حتى نصالحكم فتعدل فينا فهو اقرب رشدا لنا ولكم فوحق المسيح والإنجيل الصحيح لئن فتحنا لكم هذه المدينة لا يصعب عليكم في الشام حصن ولا مدينة قال فلما أخبر الترجمان الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه بما قاله قال أبو عبيدة للترجمان: قل له: الحمد لله تعالى الذي ملكنا أرضكم ودياركم فلا بد أن تؤدوا الجزية وقد ظننت لنفسك أمانا كاذبا حتى أراك الله الذل والصغار بعد العز والإقتدار ولا بد لنا أن نملك مدينتكم أن شاء الله تعالى ونقتل الرجال ونأسر الأبطال فمن أراد حربنا وقتالنا فلا يدخل في صلحنا أبدا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فقال البطريق لما سمع ذلك على لسان الترجمان لقد تيقنت أن المسيح قد غضب على أهل هذه المدينة إذ بعث بكم إليها وملككم عليها وقد اجتهدت في حربكم ومكرت بكم وما نفع مكرى واجتهادي لانكم قوم مسلطون وإنما طلبت منكم السلم وألقيت يدي في أيديكم بعد جهد مني لا شفقة مني على نفسي ولا بقاء مني على ملكي ولكن أردت صلاح البلاد لأن الله تعالى لا يحب الفساد والان فهل لكم أن تصالحوا على المدينة وما فيها وعلى أصحابي هؤلاء فقال له الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه: فما الذي تبذل لنا في صلحك قال له البطريق: أيها الأمير انظر ما الذي تريد فقال الأمير أبو عبيدة لو أن الله فتح على المسلمين من الصلح على هذه المدينة بملئها ذهبا وفضة ما كان أحب الي من سفك دم رجل واحد لكن الله تعالى اعطى الشهداء في الآخرة أكثر من ذلك فقال البطريق أنا أصالحكم على ألف أوقية من الفضة البيضاء وألف ثوب من الديباج.
قال الواقدي: فتبسم الأمير أبو عبيدة من كلامه واقبل على المسلمين وقال لهم: أما تسمعون ما يقول: هذا البطريق قالوا: نعم قال فما رأيكم فيما شرط على نفسه فقالوا: يزيد عليه وشرطه يرضينا فأقبل الأمير على البطريق وقال له: أنا أصالحكم على ألفي أوقية من الذهب الأحمر وألفي أوقية من الفضة البيضاء وألفي ثوب من الديباج وخمسة آلاف سيف من مدينتكم وسلاح أصحابك الذين هم في الضيعة محاصرون ولنا عليكم خراج أرضكم في العام الآتي واداء الجزية في كل عام وأنتم بعد ذلك لا تحملون علينا سلاحا ولا تكاتبون ملكا ولا تحدثون حدثا ولا كنيسة وترون النصح للمسلمين فلما سمع البطريق ذلك من شرط الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه قال لك ذلك كله علينا إلا إني أريد أن أشرط عليك وعلى أصحابك شرطا فقال له الأمير أبو عبيدة: وما.
شرطك فقال: لا يدخل إلينا من أصحابك أحد وتنزل صاحبك الذي تستخلفه علينا خارج المدينة بأصحابه ويكون له الخراج والجزية وتدعني أنا من داخل المدينة من قبل الإصلاح بين الناس والنظر في أحوالهم ونحن نخرج إلى من تخلفه علينا من أصحابك سوقا يكون فيه من جميع ما في مدينتنا ولا يدخلون إلينا مخافة أن يغلظوا بكلامهم على كبرائنا ويفسد الأمر بيننا وبينكم ويكون سببا للغدر ونقض العهد قال أبو عبيدة: فإذا صالحناكم نجاهد عدوكم لانكم تصيرون في ذمتنا ويكون الرجل الذي نخلفه عليكم مثل الواسطة والسفير بيننا وبينكم قال البطريق هربيس يكون خارج المدينة ويفعل ما يشاء أن يفعله من المحاماة فقال أبو عبيدة: لكم ذلك وما لنا في الدخول إلى مدينتكم من حاجة فقال البطريق تم الصلح على ذلك ثم سار البطريق إلى المدينة وأبو عبيدة معه فلما وصل إلى الباب حسر البطريق عن رأسه ورطن عليهم بلغه الروم فعرفوه عند ذلك فقالوا له: وأين أصحابك ورجالك فقص عليهم قصته وأخبرهم بخبره وخبر أصحابه وأعلمهم بالصلح فبكى القوم وقالوا: تلفت النفوس وذهبت الأموال فقال لهم البطريق: يا قوم وحق المسيح ما صالحتم ولي وجه غير الصلح فقالوا له: اذهب أنت وصالح عن نفسك وأما نحن فلن نصالح العرب أبدا ولن ندع أحدا منهم يملكنا ولا يدخل بلادنا ومدينتنا وهي أحصن مدينة في الشام وكان الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه قد أعلم المسلمين بمصالحة البطريق وأمرهم أن يكفوا عن القتال والحرب فلما سمع الترجمان كلام أهل بعلبك لبطريقهم أخبر الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه بذلك فأقبل البطريق فقال له أبو عبيدة: هات ما عندك وإلا نرد الحرب كما كان فقال البطريق دعني والقوم فوحق الإنجيل الصحيح وعيسى المسيح لو لم يقبلوا مني لادخلنك بالكثرة إليهم فتضع السيف فيهم وتقتل رجالهم وتسبي نساءهم وتنهب أموالهم لاني خبير بعورات بلدهم وبطرقاتها قال أبو عبيدة رضي الله عنه: ما شاء الله كان قال وكان الروم على سورهم يسمعون كلام البطريق لابي عبيدة رضي الله عنه فدخل الرعب في قلوبهم فعند ذلك اقبل البطريق على الروم وقال لهم: ما تقولون في صلح العرب فاني اسير في أيديهم ورجالهم وبنو عمكم في قبضتهم فإن لم تصالحوا العرب وإلا يقاتلونا جميعا ويرجعوا إليكم من بعدنا.
فقالوا: أيها السيد أنا لا نطيق هذا المال فقالوا: يا ويلكم علي وحدي ربع ما طلبوا فطابت قلوبهم بذلك وقالوا: أنا لا نفتح الباب إلا لك وحدك ولا يدخل معك أحد من العرب حتى نصلح مدينتنا ونرفع رحالنا ونخفي حريمنا فقال البطريق ويحكم فإني قد صالحت القوم على أن لا يدخل مدينتكم أحد منهم وأن الرجل الذي يخلفونه عليكم يكون هو وأصحابه خارج المدينة وتخرجون إليه سوقا يتسوقون منه قال ففرحت الروم بذلك وفتحوا له الباب فدخل إليهم وبعث الأمير أبو عبيدة إلى سعيد بن زيد أن يخلي.
عن الرجال الذين هم في الضيعة يحاصرون فخلى سعيد بن زيد سبيلهم وجاء بهم عند الأمير ابي عبيدة وأخذ سلاحهم وتركهم عنده رهائن على المال الذي عندهم لانه خاف أن تركهم أن يرجعوا إلى المدينة ويغدروا بالمسلمين فتركهم عنده في عساكره هذا والبطريق في المدينة يجبي المال بعد اثني عشر يوما وهم مع ذلك يحملون إلى عسكر المسلمين الزاد والميرة والعلوفة حتى كملت الأموال والثياب والسلاح وحملها البطريق إلى ابي عبيدة رضي الله عنه وقال له: تسلم الأموال على ما وافقتك عليه وخل عن الرجال وانظر إلى من تخلفه علينا من أصحابك فأحضره لنا حتى نشرط عيله بحضرتك أن لا يجوز علينا ولا يطالبنا بما لا نطيق ولا يدخل مدينتا قال فدعا أو عبيدة برجل من سادات قريش اسمه رافع ابن عبد الله السهمي وقال له: يا رافع بن عبد الله استعملتك على هذه المدينة وضم إليك خمسمائة فارس من بني عمك وعشيرتك وأربعمائة فارس من اخلاط المسلمين وإني آمرك بما أمرك الله به فاتق الله حق تقاته ولا تكن إلا من الولاة العادلين وإياك والظلم والجور فتحشر مع الظالمين واعلم أن الله تعالى سائلك عنهم ومطالبك بما تصنع بغير الحق واعلم إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أن الله تبارك وتعالى أوحي إلى موسى بن عمران عليه السلام أن يا موسى لا تظلم عبادي أخرب بيتك من نفسك» فأقم الأرصاد في أطراف البلاد فانك بين أعدائك وبعد هذا ما عرفتك إلا استيقاظا وأحذرك من السواحل وشن الغارة عليهم ولتكن غارتك في المائة والمائتين ولا تمكن أحدا من المدينة يختلط بأصحابك في غارة حتى يطمع عدوكم فيه وأحسن معاملة من ساعدك وأصلح بينهم وأمرهم بالعدل وكن بينهم كأحدهم وأمر أصحابك ومن معك أن يكفوا أيديهم عن الفساد والظلم للرعية والله تعالى خليفتي عليك والسلام عليك.