فصل: تفسير الآيات رقم (49- 62)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 62‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏49‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏ تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ‏(‏52‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ‏(‏53‏)‏ إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏54‏)‏ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏55‏)‏ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏56‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏58‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏59‏)‏ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏60‏)‏ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ‏(‏61‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

هذا الشوط من السورة يتضمن في أوله حكماً عاماً من أحكام القرآن التشريعية في تنظيم شؤون الأسرة‏.‏ ذلك حكم المطلقات قبل الدخول‏.‏ يجيء بعده أحكام خاصة لتنظيم حياة النبي صلى الله عليه وسلم حياته الزوجية الخاصة مع نسائه وعلاقات نسائه كذلك ببقية الرجال، وعلاقة المسلمين ببيت الرسول‏.‏ وكرامة الرسول وبيته على الله وعلى ملائكته والملأ الأعلى‏.‏‏.‏ وينتهي بحكم عام يشترك فيه نساء النبي وبناته ونساء المؤمنين، يأمرهن فيه بإرخاء جلابيبهن عند الخروج لقضاء الحاجة حتى يتميزن بهذا الزي السابغ ويعرفن، فلا يتعرض لهن ذوو السيرة السيئة من المنافقين والمرجفين والفساق الذين كانوا يتعرضون للنساء في المدينة‏!‏ ويختم بتهديد هؤلاء المنافقين والمرجفين بالإجلاء عن المدينة ما لم ينتهوا عن إيذاء المؤمنات وإشاعة الفساد‏.‏‏.‏

وهذه التشريعات والتوجيهات طرف من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة على أساس التصور الإسلامي‏.‏ فأما ما يختص بحياة الرسول الشخصية، فقد شاء الله أن يجعل حياة هذا البيت صفحة معروضة للأجيال، فضمنها هذا القرآن الباقي، المتلو في كل زمان ومكان؛ وهي في الوقت ذاته آية تكريم الله سبحانه لهذا البيت، الذي يتولى بذاته العلية أمره، ويعرضه للبشرية كافة في قرآنه الخالد على الزمان‏.‏‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها، فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد سبق في سورة البقرة بيان حكم المطلقات قبل الدخول في قوله تعالى‏:‏

‏{‏لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، ومتعوهن على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره، متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين‏.‏ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح‏.‏ وأن تعفوا أقرب للتقوى، ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير‏}‏ فالمطلقة قبل الدخول إن كان قد فرض لها مهر، فلها نصف ذلك المهر المسمى‏.‏ وإن لم يذكر لها مهر فلها متاع يتبع قدرة المطلق سعة وضيقاً‏.‏‏.‏ وقد زاد هنا في آية الأحزاب بيان حكم العدة لهذه المطلقة وهو ما لم يذكر في آيتي البقرة‏.‏ فقرر أن لا عدة عليها‏.‏ إذ أنه لم يكن دخول بها‏.‏ والعدة إنما هي استبراء للرحم من الحمل، وتأكد من أنها خالية من آثار الزواج السابق، كي لا تختلط الأنساب، ولا ينسب إلى رجل ما ليس منه، ويسلب رجل ما هو منه في رحم المطلقة‏.‏ فأما في حالة عدم الدخول فالرحم بريئة، ولا عدة إذن ولا انتظار‏:‏ ‏{‏فما لكم عليهن من عدة تعتدونها‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏فمتعوهن‏}‏ إن كان هناك مهر مسمى فبنصف هذا المهر، وإن لم يكن فمتاع مطلق يتبع حالة الزوج المالية‏.‏

‏{‏وسرحوهن سراحاً جميلاً‏}‏‏.‏‏.‏ لا عضل فيه ولا أذى‏.‏ ولا تعنت ولا رغبة في تعويقهن عن استئناف حياة أخرى جديدة‏.‏

وهذا حكم عام جاء في سياق السورة في صدد تنظيم الحياة العامة للجماعة المسلمة‏.‏

بعد ذلك يبين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يحل له من النساء، وما في ذلك من خصوصية لشخصه ولأهل بيته، بعدما نزلت آية سورة النساء التي تجعل الحد الأقصى للأزواج أربعاً‏:‏ ‏{‏فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع‏}‏ وكان في عصمة النبي في هذا الوقت تسع نساء، تزوج بكل منهن لمعنى خاص‏.‏ عائشة وحفصة ابنتا صاحبيه أبي بكر وعمر‏.‏ وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة، وسودة بنت زمعة، وزينب بنت خزيمة من المهاجرات اللواتي فقدن أزواجهن وأراد النبي صلى الله عليه وسلم تكريمهن، ولم يكن ذوات جمال ولا شباب، إنما كان معنى التكريم لهن خالصاً في هذا الزواج‏.‏ وزينب بنت جحش وقد علمنا قصة زواجها، وقد كان هناك تعويض لها كذلك عن طلاقها من زيد الذي زوجها رسول الله منه فلم تفلح الزيجة لأمر قضاه الله تعالى، وعرفناه في قصتها‏.‏ ثم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق، وصفية بنت حيي بن أخطب‏.‏ وكانتا من السبي فأعتقهما رسول الله وتزوج بهما الواحدة تلو الأخرى، توثيقاً لعلاقته بالقبائل، وتكريماً لهما، وقد أسلمتا بعدما نزل بأهلهما من الشدة‏.‏

وكن قد أصبحن «أمهات المؤمنين» ونلن شرف القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم واخترن الله ورسوله والدار الآخرة بعد نزول آيتي التخيير‏.‏ فكان صعباً على نفوسهن أن يفارقهن رسول الله بعد تحديد عدد النساء‏.‏ وقد نظر الله إليهن، فاستثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك القيد، وأحل له استبقاء نسائه جميعاً في عصمته، وجعلهن كلهن حلاً له، ثم نزل القرآن بعد ذلك بألا يزيد عليهن أحداً، ولا يستبدل بواحدة منهن أخرى‏.‏ فإنما هذه الميزة لهؤلاء اللواتي ارتبطن به وحدهن، كي لا يحرمن شرف النسبة إليه، بعدما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة‏.‏‏.‏ وحول هذه المبادئ تدور هذه الآيات‏:‏

‏{‏يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن، وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك، وبنات عمك وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها، خالصة لك من دون المؤمنين، قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم، لكي لا يكون عليك حرج، وكان الله غفوراً رحيماً‏.‏ ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء، ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك‏.‏

ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن، والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليماً حليماً‏.‏ لا يحل لك النساء من بعد، ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيباً‏}‏‏.‏‏.‏

ففي الآية يحل الله للنبي صلى الله عليه وسلم أنواع النساء المذكورات فيها ولو كن فوق الأربع مما هو محرم على غيره‏.‏ وهذه الأنواع هي‏:‏ الأزواج اللواتي أمهرهن‏.‏ وما ملكت يمينه إطلاقاً من الفيء، وبنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته ممن هاجرن معه دون غيرهن ممن لم يهاجرن إكراماً للمهاجرات وأيما امرأة وهبت نفسها للنبي بلا مهر ولا ولي‏.‏ إن أراد النبي نكاحها ‏(‏وقد تضاربت الروايات حول ما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج واحدة من هذا الصنف من النساء أم لم يتزوج، والأرجح أنه زوّج اللواتي عرضن أنفسهن عليه من رجال آخرين‏)‏ وقد جعل الله هذه خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم بما أنه ولي المؤمنين والمؤمنات جميعاً‏.‏ فأما الآخرون فهم خاضعون لما بينه الله وفرضه عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم‏.‏ ذلك كي لا يكون على النبي حرج في استبقاء أزواجه وفي الاستجابة للظروف الخاصة المحيطة بشخصه‏.‏

ثم ترك الخيار له صلى الله عليه وسلم في أن يضم إلى عصمته من شاء ممن يعرضن أنفسهن عليه، أو يؤجل ذلك‏.‏ ومن أرجأهن فله أن يعود إليهن حين يشاء‏.‏‏.‏ وله أن يباشر من نسائه من يريد ويرجئ من يريد‏.‏ ثم يعود‏.‏‏.‏ ‏{‏ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن‏}‏‏.‏‏.‏ فهي مراعاة الظروف الخاصة المحيطة بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم والرغبات الموجهة إليه، والحرص على شرف الاتصال به، مما يعلمه الله ويدبره بعلمه وحلمه‏.‏ ‏{‏والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليماً حليماً‏}‏‏.‏

ثم أنزل الله تحريم من عدا نسائه اللواتي في عصمته فعلاً، لا من ناحية العدد، ولكن هن بذواتهن لا يستبدل بهن غيرهن؛ ولم يعرف أن رسول الله قد زاد عليهن قبل التحريم‏:‏

‏{‏لا يحل لك النساء من بعد، ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن‏}‏ لا يستثني من ذلك ‏{‏إلا ما ملكت يمينك‏}‏‏.‏‏.‏ فله منهن ما يشاء‏.‏‏.‏ ‏{‏وكان الله على كل شيء رقيباً‏}‏‏.‏‏.‏ والأمر موكول إلى هذه الرقابة واستقرارها في القلوب‏.‏

وقد روت عائشة رضي الله عنها أن هذا التحريم قد ألغي قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتركت له حرية الزواج‏.‏ ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج كذلك غيرهن بعد هذه الإباحة‏.‏

فكن هن أمهات المؤمنين‏.‏‏.‏

بعد ذلك ينظم القرآن علاقة المسلمين ببيوت النبي صلى الله عليه وسلم وبنسائه أمهات المؤمنين في حياته وبعد وفاته كذلك‏.‏ ويواجه حالة كانت واقعة، إذ كان بعض المنافقين والذين في قلوبهم مرض يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم في بيوته وفي نسائه، فيحذرهم تحذيراً شديداً، ويريهم شناعة جرمهم عند الله وبشاعته‏.‏ ويهددهم بعلم الله لما يخفون في صدورهم من كيد وشر‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا، فإذا طعمتم فانتشروا‏.‏ ولا مستأنسين لحديث‏.‏ إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق‏.‏ وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب‏.‏ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن‏.‏ وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً‏.‏ إن ذلكم كان عند الله عظيماً‏.‏ إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً‏}‏‏.‏‏.‏

روى البخاري بإسناده عن أنس بن مالك قال‏:‏ «بنى النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم‏.‏ فأرسلت على الطعام داعياً‏.‏ فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون‏.‏ ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون‏.‏ فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله ما أجد أحداً أدعوه‏.‏ قال‏:‏» ارفعوا طعامكم «‏.‏ وبقي ثلاث رهط يتحدثون في البيت‏.‏ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال‏:‏» السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته «‏.‏ قالت‏:‏ وعليك السلام ورحمة الله‏.‏ كيف وجدت أهلك يا رسول الله‏؟‏ بارك الله لك‏.‏ فتقرى حجر نسائه، كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن كما قالت عائشة‏.‏ ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء‏.‏ فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة‏.‏ فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا‏.‏ فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجه‏.‏ أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب»‏.‏

والآية تتضمن آداباً لم تكن تعرفها الجاهلية في دخول البيوت، حتى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان الناس يدخلون البيوت بلا إذن من أصحابها كما جاء في شرح آيات سورة النور الخاصة بالاستئذان وربما كان هذا الحال أظهر في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أصبحت هذه البيوت مهبط العلم والحكمة‏.‏

وكان بعضهم يدخل وحين يرى طعاماً يوقد عليه يجلس في انتظار نضج هذا الطعام ليأكل بدون دعوة إلى الطعام‏!‏ وكان بعضهم يجلس بعد الطعام سواء كان قد دعي إليه أو هجم هو عليه دون دعوة ويأخذ في الحديث والسمر غير شاعر بما يسببه هذا من إزعاج للنبي صلى الله عليه وسلم وأهله‏.‏ وفي رواية أن أولئك الثلاثة الرهط الذين كانوا يسمرون كانوا يفعلون هذا وعروس النبي زينب بنت جحش جالسة وجهها إلى الحائط‏!‏ والنبي صلى الله عليه وسلم يستحيي أن ينبههم إلى ثقلة مقامهم عنده حياء منه، ورغبة في ألا يواجه زواره بما يخجلهم‏!‏ حتى تولى الله سبحانه عنه الجهر بالحق ‏{‏والله لا يستحيي من الحق‏}‏‏.‏

ومما يذكر أن عمر رضي الله عنه بحساسيته المرهفة كان يقترح على النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب؛ وكان يتمناه على ربه‏.‏ حتى نزل القرآن الكريم مصدقاً لاقتراحه مجيباً لحساسيته‏!‏

من رواية للبخاري بإسناده عن أنس بن مالك‏.‏ قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ يا رسول الله‏.‏ يدخل عليك البر والفاجر‏.‏ فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب‏.‏ فأنزل الله آية الحجاب‏.‏‏.‏

وجاءت هذه الآية تعلم الناس ألا يدخلوا بيوت النبي بغير إذن‏.‏ فإذا دعوا إلى الطعام دخلوا‏.‏ فأما إذا لم يدعوا فلا يدخلون يرتقبون نضجه‏!‏ ثم إذا طعموا خرجوا، ولم يبقوا بعد الطعام للسمر والأخذ بأطراف الحديث‏.‏‏.‏ وما أحوج المسلمين اليوم إلى هذا الأدب الذي يجافيه الكثيرون‏.‏ فإن المدعوين إلى الطعام يتخلفون بعده، بل إنهم ليتخلفون على المائدة، ويطول بهم الحديث؛ وأهل البيت الذين يحتفظون ببقية من أمر الإسلام بالاحتجاب متأذون محتبسون، والأضياف ماضون في حديثهم وفي سمرهم لا يشعرون‏!‏ وفي الأدب الإسلامي غناء وكفاء لكل حالة، لو كنا نأخذ بهذا الأدب الإلهي القويم‏.‏

ثم تقرر الآية الحجاب بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم والرجال‏:‏

‏{‏وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب‏}‏‏.‏‏.‏

وتقرر أن هذا الحجاب أطهر لقلوب الجميع‏:‏

‏{‏ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن‏}‏‏.‏‏.‏

فلا يقل أحد غير ما قال الله‏.‏ لا يقل أحد إن الاختلاط، وإزالة الحجب، والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب، وأعف للضمائر، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة، وعلى إشعار الجنسين بالأدب وترقيق المشاعر والسلوك‏.‏‏.‏ إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف المهازيل الجهال المحجوبين‏.‏ لا يقل أحد شيئاً من هذا والله يقول‏:‏ ‏{‏وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن‏}‏‏.‏‏.‏ يقول هذا عن نساء النبي الطاهرات‏.‏ أمهات المؤمنين‏.‏ وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لا تتطاول إليهن وإليهم الأعناق‏!‏ وحين يقول الله قولاً‏.‏

ويقول خلق من خلقه قولاً‏.‏ فالقول لله سبحانه وكل قول آخر هراء، لا يردده إلا من يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي الذي خلق هؤلاء العبيد‏!‏

والواقع العملي الملموس يهتف بصدق الله، وكذب المدعين غير ما يقوله الله‏.‏ والتجارب المعروضة اليوم في العالم مصدقة لما نقول‏.‏ وهي في البلاد التي بلغ الاختلاط الحر فيها أقصاه أظهر في هذا وأقطع من كل دليل‏.‏ ‏(‏وأمريكا أول هذه البلاد التي آتى الاختلاط فيها أبشع الثمار‏)‏‏.‏

وقد ذكرت الآية أن مجيئهم للطعام منتظرين نضجه من غير دعوة؛ وبقاءهم بعد الطعام مستأنسين للحديث‏.‏‏.‏ كان يؤذي النبي فيستحيي منهم‏.‏ وفي ختامها تقرر أنه ما يكون للمسلمين أن يؤذوا رسول الله‏.‏ وكذلك ما يكون لهم أن يتزوجوا أزواجه من بعده؛ وهن بمنزلة أمهاتهم‏.‏ ومكانهن الخاص من رسول الله يحرم أن ينكحهن أحد من بعده، احتفاظاً بحرمة هذا البيت وجلاله وتفرده‏:‏

‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً‏}‏‏.‏‏.‏

وقد ورد أن بعض المنافقين قال‏:‏ إنه ينتظر أن يتزوج من عائشة‏!‏

‏{‏إن ذلكم كان عند الله عظيماً‏}‏‏.‏‏.‏

وما أهول ما يكون عند الله عظيماً‏!‏

ولا يقف السياق عند هذا الإنذار الهائل، بل يستطرد إلى تهديد آخر هائل‏:‏

‏{‏إن تبدوا شيئاً أو تخفوه، فإن الله كان بكل شيء عليماً‏}‏‏.‏‏.‏

وإذن فالله هو الذي يتولى الأمر‏.‏ وهو عالم بما يبدو وما يخفى، مطلع على كل تفكير وكل تدبير‏.‏ والأمر عنده عظيم‏.‏ ومن شاء فليتعرض‏.‏ فإنما يتعرض لبأس الله الساحق الهائل العظيم‏.‏

وبعد الإنذار والتهديد يعود السياق إلى استثناء بعض المحارم الذين لا حرج على نساء النبي صلى الله عليه وسلم في أن يظهرن عليهم‏:‏

‏{‏لا جناح عليهن في آبائهن، ولا أبنائهن، ولا إخوانهن، ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن، ولا نسائهن، ولا ما ملكت أيْمَانهن‏.‏ واتقين الله‏.‏ إن الله كان على كل شيء شهيداً‏}‏‏.‏‏.‏

وهؤلاء المحارم هم الذين أبيح لنساء المسلمين عامة أن يظهرن عليهم‏.‏‏.‏ ولم أستطع أن أتحقق أي الآيات كان أسبق في النزول؛ الآية الخاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم هنا، أم الآية العامة لنساء المسلمين جميعاً في سورة النور‏.‏ والأرجح أن الأمر كان خاصاً بنساء النبي صلى الله عليه وسلم ثم عمم‏.‏ فذلك هو الأقرب إلى طبيعة التكليف‏.‏

ولا يفوتنا أن نلحظ هذا التوجيه إلى تقوى الله، والإشارة إلى اطلاعه على كل شيء‏:‏ ‏{‏واتقين الله، إن الله كان على كل شيء شهيداً‏}‏‏.‏ فالإيحاء بالتقوى ومراقبة الله يطرد في مثل هذه المواضع، لأن التقوى هي الضمان الأول والأخير، وهي الرقيب اليقظ الساهر على القلوب‏.‏

ويستمر السياق في تحذير الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه أو في أهله؛ وفي تفظيع الفعلة التي يقدمون عليها‏.‏‏.‏ وذلك على طريقين‏:‏ الطريق الأول تمجيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان مكانته عند ربه وفي الملأ الأعلى‏.‏ والطريق الثانية تقرر أن إيذاءه إيذاء لله سبحانه وجزاؤه عند الله الطرد من رحمته في الدنيا والآخرة، والعذاب الذي يناسب الفعلة الشنيعة‏:‏

‏{‏إن الله وملائكته يصلون على النبي‏.‏ يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً‏.‏ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً‏}‏‏.‏‏.‏

وصلاة الله على النبي ذكره بالثناء في الملأ الأعلى؛ وصلاة ملائكته دعاؤهم له عند الله سبحانه وتعالى‏.‏‏.‏ ويا لها من مرتبة سنية حيث تردد جنبات الوجود ثناء الله على نبيه؛ ويشرق به الكون كله وتتجاوب به أرجاؤه‏.‏ ويثبت في كيان الوجود ذلك الثناء الأزلي القديم الأبدي الباقي‏.‏ وما من نعمة ولا تكريم بعد هذه النعمة وهذا التكريم‏.‏ وأين تذهب صلاة البشر وتسليمهم بعد صلاة الله العلي وتسليمه، وصلاة الملائكة في الملأ الأعلى وتسليمهم؛ إنما يشاء الله تشريف المؤمنين بأن يقرن صلاتهم إلى صلاته وتسليمهم إلى تسليمه؛ وأن يصلهم عن هذا الطريق بالأفق العلوي الكريم الأزلي القديم‏.‏

وفي ظل هذا التمجيد الإلهي يبدو إيذاء الناس للنبي صلى الله عليه وسلم بشعاً شنيعاً ملعوناً قبيحاً‏:‏ ‏{‏إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة، وأعد لهم عذاباً مهيناً‏}‏‏.‏‏.‏ ويزيده بشاعة وشناعة أنه إيذاء لله من عبيده ومخاليقه‏.‏ وهم لا يبلغون أن يؤذوا الله‏.‏ إنما هذا التعبير يصور الحساسية بإيذاء رسوله، وكأنما هو إيذاء لذاته جل وعلا‏.‏ فما أفظع‏!‏ وما أبشع‏!‏ وما أشنع‏!‏

ويستطرد كذلك إلى إيذاء المؤمنين والمؤمنات عامة‏.‏ إيذاؤهم كذباً وبهتاناً، بنسبة ما ليس فيهم إليهم من النقائص والعيوب‏:‏

‏{‏والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا التشديد يشي بأنه كان في المدينة يؤمذاك فريق يتولى هذا الكيد للمؤمنين والمؤمنات، بنشر قالة السوء عنهم، وتدبير المؤامرات لهم، وإشاعة التهم ضدهم‏.‏ وهو عام في كل زمان وفي كل مكان‏.‏ والمؤمنون والمؤمنات عرضة لمثل هذا الكيد في كل بيئة من الأشرار المنحرفين، والمنافقين، والذين في قلوبهم مرض‏.‏ والله يتولى عنهم الرد على ذلك الكيد، ويصم أعداءهم بالإثم والبهتان‏.‏ وهو أصدق القائلين‏.‏

ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين عامة إذا خرجن لحاجتهن أن يغطين أجسامهن ورؤوسهن وجيوبهن وهي فتحة الصدر من الثوب بجلباب كاسٍ فيميزهن هذا الزي، ويجعلهن في مأمن من معابثة الفساق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 73‏]‏

‏{‏يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ‏(‏64‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏65‏)‏ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ‏(‏66‏)‏ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ‏(‏67‏)‏ رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ‏(‏68‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ‏(‏69‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏70‏)‏ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏71‏)‏ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ‏(‏72‏)‏ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

في هذا الدرس الأخير من السورة حديث عن سؤال الناس عن الساعة، واستعجالهم بها، وشكهم فيها‏.‏ وجواب عن هذا السؤال يدع أمرها إلى الله، مع تحذيرهم من قربها، واحتمال أن تأخذهم على غرة أخذاً سريعا‏.‏ ثم يعرض السياق مشهداً من مشاهد الساعة لا يسر المستعجلين بها، يوم تقلب وجوههم في النار‏.‏ ويوم يندمون على عدم طاعة الله ورسوله‏.‏ ويوم يطلبون لسادتهم وكبرائهم ضعفين من العذاب‏.‏ وهو مشهد مفجع لا يستعجل به مستعجل‏.‏‏.‏ ثم يعود بهم من هذا المشهد في الآخرة إلى هذه الأرض مرة أخرى‏!‏ يعود ليحذر الذين آمنوا أن يكونوا كقوم موسى الذين آذوه واتهموه فبرأه الله مما قالوا ويبدو أن هذا كان رداً على أمر واقع‏.‏ ربما كان هو حديث بعضهم عن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بزينب، ومخالفته لمألوف العرب ويدعو المؤمنين أن يقولوا قولاً سديداً بعيداً عن اللمز والعيب‏.‏ ليصلح الله لهم أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم‏.‏ ويحببهم في طاعة الله ورسوله ويعدهم عليها الفوز العظيم‏.‏

ويختم السورة بالإيقاع الهائل العميق‏.‏ عن الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال، وحملها الإنسان، وهي ضخمة هائلة ساحقة‏.‏ ذلك ليتم تدبير الله في ترتيب الجزاء على العمل، ومحاسبة الإنسان على ما رضي لنفسه واختار‏:‏ ‏{‏ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيما‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏يسألك الناس عن الساعة‏.‏ قل‏:‏ إنما علمها عند الله‏.‏ وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا‏}‏‏.‏‏.‏

وقد كانوا ما يفتأون يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة التي حدثهم عنها طويلاً؛ وخوفهم بها طويلاً؛ ووصف القرآن مشاهدها حتى لكأن قارئه يراها‏.‏ يسألونه عن موعدها؛ ويستعجلون هذا الموعد؛ ويحمل هذا الاستعجال معنى الشك فيها، أو التكذيب بها، أو السخرية منها، بحسب النفوس السائلة، وقربها من الإيمان أو بعدها‏.‏

والساعة غيب قد اختص به الله سبحانه، ولم يشأ أن يطلع عليه أحداً من خلقه جميعاً، بما فيهم الرسل والملائكة المقربون‏.‏ وفي حديث حقيقة الإيمان والإسلام‏:‏ عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ «حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثوب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه؛ وقال‏:‏ يا محمد أخبرني عن الإسلام‏.‏ فقال‏:‏» الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً‏.‏ «قال‏:‏ صدقت‏!‏ فعجبنا له يسأله ويصدقه‏.‏ قال‏:‏ فأخبرني عن الإيمان‏.‏ قال‏:‏» أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره «‏.‏ قال‏:‏ صدقت‏!‏ قال‏:‏ فأخبرني عن الإحسان‏.‏ قال‏:‏» أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك «‏.‏ قال‏:‏ فأخبرني عن الساعة‏.‏ قال‏:‏» ما المسؤول عنها بأعلم من السائل «‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم»‏.‏

فالمسؤول رسول الله صلى الله عليه وسلم والسائل جبريل عليه السلام كلاهما لا يعلم علم الساعة؛ ‏{‏قل‏:‏ إنما علمها عند الله‏}‏‏.‏‏.‏ على وجه الاختصاص والتفرد من دون عباد الله‏.‏

قدر الله هذا لحكمة يعلمها؛ نلمح طرفاً منها، في ترك الناس على حذر من أمرها، وفي توقع دائم لها، وفي استعداد مستمر لفجأتها‏.‏ ذلك لمن أراد الله له الخير، وأودع قلبه التقوى‏.‏ فأما الذين يغفلون عن الساعة، ولا يعيشون في كل لحظة على أهبة للقائها، فأولئك الذين يختانون أنفسهم، ولا يقونها من النار‏.‏ وقد بين الله لهم وحذرهم وأنذرهم؛ وجعل الساعة غيباً مجهولاً متوقعاً في أية لحظة من لحظات الليل والنهار‏:‏ ‏{‏وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً، خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً، يوم تقلب وجوههم في النار، يقولون‏:‏ يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا‏.‏ وقالوا‏:‏ ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا، فأضلونا السبيلا‏.‏ ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً‏}‏‏.‏‏.‏

إنهم يسألون عن الساعة‏.‏ فهذا مشهد من مشاهد الساعة‏:‏

‏{‏إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً‏}‏‏.‏‏.‏

إن الله طرد الكافرين من رحمته، وهيأ لهم ناراً مسعرة متوقدة، فهي معدة جاهزة حاضرة‏.‏

‏{‏خالدين فيها أبداً‏}‏‏.‏‏.‏

باقين فيها عهداً طويلاً، لا يعلم مداه إلا الله؛ ولا نهاية له إلا في علم الله، حيث يشاء الله‏.‏ وهم مجردون من كل عون، محرومون من كل نصير، فلا أمل في الخلاص من هذا السعير، بمعونة من ولي ولا نصير‏:‏

‏{‏لا يجدون ولياً ولا نصيراً‏}‏‏.‏‏.‏

أما مشهدهم في هذا العذاب فهو مشهد بائس أليم‏:‏

‏{‏يوم تقلب وجوههم في النار‏}‏‏.‏‏.‏

والنار تغشاهم من كل جهة، فالتعبير على هذا النحو يراد به تصوير الحركة وتجسيمها، والحرص على أن تصل النار إلى كل صفحة من صفحات وجوههم زيادة في النكال‏!‏

‏{‏يقولون‏:‏ يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا‏}‏‏.‏‏.‏

وهي أمنية ضائعة، لا موضع لها ولا استجابة، فقد فات الأوان‏.‏ إنما هي الحسرة على ما كان‏!‏

ثم تنطلق من نفوسهم النقمة على سادتهم وكبرائهم، الذين أضلوهم، وبالإنابة إلى الله وحده، حيث لا تنفع الإنابة‏:‏

‏{‏وقالوا‏:‏ ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا‏.‏

ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً‏}‏‏.‏‏.‏

هذه هي الساعة‏.‏ ففيم السؤال عنها‏؟‏ إن العمل لها هو المخلص الوحيد من هذا المصير المشؤوم فيها‏!‏

ويبدو أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش رضي الله عنها مخالفاً في ذلك عرف الجاهلية الذي تعمد الإسلام أن يبطله بهذه السابقة العملية‏.‏ يبدو أن هذا الزواج لم يمر بسهولة ويسر؛ وأنه قد انطلقت ألسنة كثيرة من المنافقين ومرضى القلوب، وغير المتثبتين الذين لم يتضح في نفوسهم التصور الإسلامي الناصع البسيط، انطلقت تغمز وتلمز، وتؤول وتعترض، وتهمس وتوسوس‏.‏ وتقول قولاً عظيما‏!‏

والمنافقون والمرجفون لم يكونوا يسكتون‏.‏ فقد كانوا ينتهزون كل فرصة لبث سمومهم‏.‏ كالذي رأينا في غزوة الأحزاب‏.‏ وفي حديث الإفك‏.‏ وفي قسمة الفيء‏.‏ وفي كل مناسبة تعرض لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بغير حق‏.‏

وفي هذا الوقت بعد إجلاء بني قريظة وسائر اليهود من قبل لم يكن في المدينة من هو ظاهر بالكفر‏.‏ فقد أصبح أهلها كلهم مسلمين، إما صادقين في إسلامهم وإما منافقين‏.‏ وكان المنافقون هم الذين يروجون الشائعات، وينشرون الأكاذيب، وكان بعض المؤمنين يقع في حبائلهم، ويسايرهم في بعض ما يروجون‏.‏ فجاء القرآن يحذرهم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل نبيهم موسى عليه السلام ويوجههم إلى تسديد القول، وعدم إلقائه على عواهنه، بغير ضبط ولا دقة؛ ويحببهم في طاعة الله ورسوله وما وراءها من فوز عظيم‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا‏.‏ وكان عند الله وجيهاً‏.‏ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم‏.‏ ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً‏}‏‏.‏‏.‏

ولم يحدد القرآن نوع الإيذاء لموسى؛ ولكن وردت روايات تعينه‏.‏ ونحن لا نرى بنا من حاجة للخوض في هذا الذي أجمله القرآن‏.‏ فإنما أراد الله تحذير الذين آمنوا من كل ما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وقد ضرب بني إسرائيل مثلاً للالتواء والانحراف في مواضع من القرآن كثيرة‏.‏ فيكفي أن يشير إلى إيذائهم لنبيهم، وتحذير المسلمين من متابعتهم فيه، لينفر حس كل مؤمن من أن يكون كهؤلاء المنحرفين الملتوين الذين يضربهم القرآن مثلاً صارخاً للانحراف والالتواء‏.‏

وقد برأ الله موسى مما رماه به قومه، ‏{‏وكان عند الله وجيهاً‏}‏ ذا وجاهة وذا مكانة‏.‏ والله مبرئ رسله من كل ما يرمون به كذباً وبهتاناً‏.‏

ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل أولاهم بتبرئة الله له والدفاع عنه‏.‏

ويوجه القرآن المؤمنين إلى تسديد القول وإحكامه والتدقيق فيه؛ ومعرفة هدفه واتجاهه، قبل أن يتابعوا المنافقين والمرجفين فيه؛ وقبل أن يستمعوا في نبيهم ومرشدهم ووليهم إلى قول طائش ضال أو مغرض خبيث‏.‏ ويوجههم إلى القول الصالح الذي يقود إلى العمل الصالح‏.‏ فالله يرعى المسددين ويقود خطاهم ويصلح لهم أعمالهم جزاء التصويب والتسديد‏.‏ والله يغفر لذوي الكلمة الطيبة والعمل الصالح؛ ويكفر عن السيئة التي لا ينجو منها الآدميون الخطاءون‏.‏ ولا ينقذهم منها إلا المغفرة والتكفير‏.‏

‏{‏ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً‏}‏‏.‏‏.‏

والطاعة بذاتها فوز عظيم‏.‏ فهي استقامة على نهج الله‏.‏ والاستقامة على نهج الله مريحة مطمئنة‏.‏ والاهتداء إلى الطريق المستقيم الواضح سعادة بذاته، ولو لم يكن وراءه جزاء سواه‏.‏ وليس الذي يسير في الطريق الممهود المنير وكل ما حوله من خلق الله يتجاوب معه ويتعاون كالذي يسير في الطريق المقلقل المظلم وكل ما حوله من خلق الله يعاديه ويصادمه ويؤذيه‏!‏ فطاعة الله ورسوله تحمل جزاءها في ذاتها؛ وهي الفوز العظيم، قبل يوم الحساب وقبل الفوز بالنعيم‏.‏ أما نعيم الآخرة فهو فضل زائد على جزاء الطاعة‏.‏ فضل من كرم الله وفيضه بلا مقابل‏.‏ والله يرزق من يشاء بغير حساب‏.‏

ولعله فضل نظر الله فيه إلى ضعف هذا الإنسان، وإلى ضخامة التبعة التي يحملها على عاتقه‏.‏ وإلى حمله للأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال‏.‏ والتي أخذها على عاتقه، وتعهد بحملها وحده، وهو على ما هو عليه من الضعف وضغط الشهوات والميول والنزعات، وقصور العلم، وقصر العمر، وحواجز الزمان والمكان، دون المعرفة الكاملة ورؤية ما وراء الحواجز والآماد‏:‏

‏{‏إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها؛ وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً‏}‏‏.‏‏.‏

إن السماوات والأرض والجبال التي اختارها القرآن ليحدث عنها هذه الخلائق الضخمة الهائلة، التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئاً صغيراً ضئيلاً‏.‏ هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها؛ وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة‏.‏ وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءاً من ثانية؛ وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة‏.‏

هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبداً‏.‏ وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها الله لها؛ وتجذب توابعها بلا إرادة منها؛ فتؤدي دورها الكوني أداء كاملاً‏.‏‏.‏

وهذه الأرض تدور دورتها، وتخرج زرعها، وتقوت أبناءها، وتواري موتاها، وتتفجر ينابيعها‏.‏ وفق سنة الله بلا إرادة منها‏.‏

وهذا القمر‏.‏ وهذه النجوم والكواكب‏.‏ وهذه الرياح والسحب‏.‏ وهذا الهواء وهذا الماء‏.‏

سورة سبأ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏1‏)‏ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏3‏)‏ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏5‏)‏ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏6‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏7‏)‏ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ‏(‏8‏)‏ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

موضوعات هذه السورة المكية هي موضوعات العقيدة الرئيسية‏:‏ توحيد الله، والإيمان بالوحي، والاعتقاد بالبعث‏.‏ وإلى جوارها تصحيح بعض القيم الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسية‏.‏ وبيان أن الإيمان والعمل الصالح لا الأموال ولا الأولاد هما قوام الحكم والجزاء عند الله‏.‏ وأنه ما من قوة تعصم من بطش الله؛ وما من شفاعة عنده إلا بإذنه‏.‏

والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء؛ وعلى إحاطة علم الله وشموله ولطفه‏.‏ وتتكرر الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين المترابطتين بطرق منوعة، وأساليب شتى؛ وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية‏.‏

فعن قضية البعث يقول‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا‏:‏ لا تأتينا الساعة‏.‏ قل بلى وربي لتأتينكم‏}‏‏.‏‏.‏

وعن قضية الجزاء يقول‏:‏ ‏{‏ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أولئك لهم مغفرة ورزق كريم‏.‏ والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم‏}‏‏.‏‏.‏

وفي موضع آخر قريب في سياق السورة‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد‏؟‏ أفترى على الله كذباً أم به جنة‏؟‏ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد‏}‏‏.‏

ويورد عدة مشاهد للقيامة، وما فيها من تأنيب للمكذبين بها، ومن صور العذاب الذي كانوا يكذبون به، أو يشكون في وقوعه كهذا المشهد‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول‏.‏ يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا‏:‏ لولا أنتم لكنا مؤمنين‏.‏ قال الذين استكبروا للذين استضعفوا‏:‏ أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم‏؟‏ بل كنتم مجرمين‏.‏ وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا‏:‏ بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً‏.‏ وأسروا الندامة لما رأوا العذاب، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا‏.‏ هل يجزون إلا ما كانوا يعملون‏؟‏‏}‏ وتتكرر هذه المشاهد وتتوزع في السورة وتختم بها كذلك‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب‏.‏ وقالوا‏:‏ آمنا به‏.‏ وأنى لهم التناوش من مكان بعيد‏؟‏ وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل‏.‏ إنهم كانوا في شك مريب‏}‏ وعن قضية العلم الإلهي الشامل يرد في مطلع السورة‏:‏ ‏{‏يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها‏}‏‏.‏‏.‏

ويرد تعقيباً على التكذيب بمجيء الساعة‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين‏}‏‏.‏‏.‏

ويرد قرب ختام السورة‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب‏}‏ وفي موضوع التوحيد تبدأ السورة بالحمد لله ‏{‏الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير‏}‏‏.‏

ويتحداهم مرات في شأن الشركاء الذين يدعونهم من دون الله‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ ادعوا الذين زعمتم من دون الله، لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وما لهم فيهما من شرك، وما له منهم من ظهير‏}‏ وتشير الآيات إلى عبادتهم للملائكة وللجن وذلك في مشهد من مشاهد القيامة‏:‏ ‏{‏ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة‏:‏ أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون‏؟‏ قالوا‏:‏ سبحانك‏!‏ أنت ولينا من دونهم‏.‏ بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون‏}‏ وينفي ما كانوا يظنونه من شفاعة الملائكة لهم عند ربهم‏:‏ ‏{‏ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ الحق وهو العلي الكبير‏}‏ وبمناسبة عبادتهم للشياطين ترد قصة سليمان وتسخير الجن له، وعجزهم عن معرفة موته‏:‏ ‏{‏فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته‏.‏ فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين‏}‏ وفي موضوع الوحي والرسالة يرد قوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا‏:‏ لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا‏:‏ ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم‏.‏ وقالوا‏:‏ ما هذا إلا إفك مفترى، وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم‏:‏ إن هذا إلا سحر مبين‏}‏ ويرد عليهم بتقرير الوحي والرسالة‏:‏ ‏{‏ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً‏.‏ ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ وفي موضوع تقرير القيم يرد قوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها‏:‏ إنا بما أرسلتم به كافرون‏.‏ وقالوا‏:‏ نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين‏.‏ قل‏:‏ إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏.‏ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً، فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون‏.‏ والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون‏}‏ ويضرب على هذا أمثلة من الواقع التاريخي في هذه الأرض‏:‏ قصة آل داود الشاكرين على نعمة الله‏.‏ وقصة سبأ المتبطرين الذين لا يشكرون‏.‏ وما وقع لهؤلاء وهؤلاء‏.‏ وفيه مصداق مشهود للوعد والوعيد‏.‏

هذه القضايا التي تعالجها السور المكية في صور شتى، تعرض في كل سورة في مجال كوني، مصحوبة بمؤثرات منوعة، جديدة على القلب في كل مرة‏.‏ ومجال عرضها في سورة سبأ هذه هو ذلك المجال، ممثلاً في رقعة السماوات والأرض الفسيحة، وفي عالم الغيب المجهول المرهوب‏.‏ وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة‏.‏ وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة‏.‏ وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة، وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة غريبة‏.‏

وفي كل منها مؤثر موح للقلب البشري، موقظ له من الغفلة والضيق والهمود‏.‏

فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح على هذا الكون الهائل؛ وعلى صحائفه وما فيها من آيات الله، وعلى مجالي علمه اللطيف الشامل الدقيق الهائل‏:‏ ‏{‏يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وقال الذين كفروا‏:‏ لا تأتينا الساعة‏.‏ قل‏:‏ بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين‏}‏‏.‏‏.‏

والذين يكذبون بالآخرة يتهددهم بأحداث كونية ضخمة‏:‏ ‏{‏أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض‏؟‏ إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء‏.‏ إن في ذلك لآية لكل عبد منيب‏}‏‏.‏‏.‏

والذين يعبدون من دون الله ملائكة أو جناً يقفهم وجهاً لوجه أمام الغيب المرهوب في الملأ الأعلى‏:‏ ‏{‏ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له‏.‏ حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ الحق‏.‏ وهو العلي الكبير‏}‏ أو يواجههم بالملائكة في ساحة الحشر حيث لا مجال للمواربة والمجادلة‏:‏ ‏{‏ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة‏:‏ أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون‏.‏‏.‏ الخ‏}‏ والمكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يتهمونه بالافتراء أو أن به جنة يقفهم أمام فطرتهم، وأمام منطق قلوبهم بعيداً عن الغواشي والمؤثرات المصطنعة‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ إنما أعظكم بواحدة‏.‏ أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا‏.‏ ما بصاحبكم من جنة‏.‏ إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد‏}‏ وهكذا تطوف السورة بالقلب البشري في تلك المجالات المتنوعة، وتواجهه بتلك المؤثرات الموحية الموقظة‏.‏ حتى تنتهي بمشهد عنيف أخاذ من مشاهد القيامة كما أسفلنا‏.‏‏.‏

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في تلك المجالات وتحت تلك المؤثرات في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة؛ يمكن تقسيمها إلى خمسة أشواط؛ لتيسير عرضها وشرحها‏.‏ وإلا فإنه ليس بينها فواصل تحددها تحديداً دقيقاً‏.‏‏.‏ وهذا هو طابع السورة الذي يميزها‏.‏‏.‏

تبدأ السورة بالحمد لله، المالك لما في السموات والأرض المحمود في الآخرة، وهو الحكيم الخبير‏.‏ وتقرر علمه الشامل الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها‏.‏ وتحكي إنكار الذين كفروا لمجيء الساعة ورد الله عليهم بتوكيد مجيئها، وعلم الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر‏.‏ ليتم جزاء المؤمنين وجزاء الذين يسعون في آيات الله معاجزين، عن علم دقيق‏.‏ وتثبت رأي أولي العلم الحقيقي الذين يشهدون أن ما أنزل الله لنبيه هو الحق‏.‏ وتحكي عجب الذين كفروا من قضية البعث، وترد عليهم بأنهم في العذاب والضلال البعيد؛ وتهددهم بخسف الأرض من تحتهم أو إسقاط السماء كسفاً عليهم‏.‏

وبذلك ينتهي الشوط الأول‏.‏

فأما الشوط الثاني فيتناول طرفاً من قصة آل داود الشاكرين لله على نعمته، بتسخير قوى كثيرة لداود وسليمان بإذن الله‏.‏ غير متبطرين ولا مستكبرين، ومن هذه القوى المسخرة الجن الذين كان يعبدهم بعض المشركين، ويستفتونهم في أمر الغيب‏.‏ وهم لا يعلمون الغيب‏.‏ وقد ظلوا يعملون لسليمان عملاً شاقاً مهيناً بعد موته وهم لا يعلمون‏.‏‏.‏ وفي مقابل قصة الشكر تجيء قصة البطر‏.‏ قصة سبأ‏.‏ وما كانوا فيه من نعيم لم يشكروه‏:‏ ‏{‏فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق‏}‏ وذلك أنهم اتبعوا الشيطان، وما كان له عليهم من سلطان، لولا أنهم أعطوه قيادهم مختارين‏!‏

ويبدأ الشوط الثالث بتحدي المشركين أن يدعوا الذين يزعمونهم آلهة من دون الله‏.‏ وهم ‏{‏لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير‏}‏ وهم لا يملكون لهم شفاعة عند الله ولو كانوا من الملائكة فالملائكة يتلقون أمر الله بالخشوع الراجف؛ ولا يتحدثون حتى يزول عنهم الفزع والارتجاف العميق‏.‏‏.‏ ويسألهم عمن يرزقهم من السماوات والأرض‏.‏ والله مالك السماوات والأرض، وهو الذي يرزقهم بلا شريك‏.‏‏.‏ ثم يفوض أمره وأمرهم إلى الله، وهو الذي يفصل فيما هم مختلفون‏.‏ ويختم هذا الشوط بالتحدي كما بدأه، أن يروه الذين يلحقونهم بالله شركاء‏.‏ ‏{‏كلا بل هو الله العزيز الحكيم‏}‏ والشوط الرابع والشوط الخامس يعالجان معاً قضية الوحي والرسالة، وموقفهم منها، وموقف المترفين من كل دعوة، واعتزازهم بأموالهم وأولادهم؛ ويقرران القيم الحقيقية التي يكون عليها الحساب والجزاء، وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد‏.‏ ويعرضان مصائر المؤمنين والمكذبين في عدة مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة، يتبرأ فيها التابعون من المتبوعين‏.‏ كما يتبرأ فيها الملائكة من عبادة الضالين المشركين‏.‏‏.‏ ويدعوهم بين هذه المشاهد إلى أن يرجعوا إلى فطرتهم يستلهمونها مجردة عن الهوى وعن الضجيج في أمر هذا الرسول الذي يندفعون في تكذيبه بلا دليل‏.‏ وهو لا يطلب إليهم أجراً على الهدى، وليس بكاذب ولا مجنون‏.‏‏.‏ ويختم كل من الشوطين بمشهد من مشاهد القيامة‏.‏ وتنتهي السورة بإيقاعات قصيرة قوية‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب‏.‏ قل‏:‏ جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد‏.‏ قل‏:‏ إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي إنه سميع قريب‏}‏ وتختم بمشهد من مشاهد القيامة قصير الخطى قوي عنيف‏.‏

والآن نأخذ بعد هذا العرض الإجمالي في التفصيل‏.‏‏.‏

‏{‏الحمد لله، الذي له ما في السماوات، وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة، وهو الحكيم الخبير‏.‏ يعلم ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، وهو الرحيم الغفور‏}‏‏.‏‏.‏

ابتداء السورة التي تستعرض إشراك المشركين بالله، وتكذيبهم لرسوله، وشكهم في الآخرة، واستبعادهم للبعث والنشور‏.‏

ابتداء بالحمد لله‏.‏ والله محمود لذاته ولو لم يقم بحمده أحد من هؤلاء البشر وهو محمود في هذا الوجود الذي يسبح بحمده، ومحمود من شتى الخلائق ولو شذ البشر عن سائر خلائق الله‏.‏

ومع الحمد صفة الملك لما في السماوات وما في الأرض؛ فليس لأحد معه شيء، وما لأحد في السماوات والأرض من شرك، فله سبحانه كل شيء فيهما‏.‏‏.‏ وهذه هي القضية الأولى في العقيدة‏.‏ قضية التوحيد‏.‏ والمالك لكل شيء هو الله الذي لا مالك لشيء سواه في هذا الكون العريض‏.‏

‏{‏وله الحمد في الآخرة‏}‏‏.‏‏.‏ الحمد الذاتي‏.‏ والحمد المرتفع من عباده‏.‏ حتى ممن كانوا يجحدونه في الدنيا، أو يشركون معه غيره عن ضلالة، تتكشف في الآخرة، فيتمحض له الحمد والثناء‏.‏

‏{‏وهو الحكيم الخبير‏}‏‏.‏‏.‏ الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحكمة؛ ويصرف الدينا والآخرة بحكمة؛ ويدبر أمر الوجود كله بحكمة‏.‏‏.‏ الخبير الذي يعلم بكل شيء، وبكل أمر، وبكل تدبير علماً كاملاً شاملاً عميقاً يحيط بالأمور‏.‏

ثم يكشف صفحة من صحائف علم الله، مجالها الأرض والسماء‏:‏

‏{‏يعلم ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها‏}‏‏.‏‏.‏

ويقف الإنسان أمام هذه الصفحة المعروضة في كلمات قليلة، فإذا هو أمام حشد هائل عجيب من الأشياء، والحركات، والأحجام، والأشكال، والصور، والمعاني، والهيئات، لا يصمد لها الخيال‏!‏

ولو أن أهل الأرض جميعاً وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع في لحظة واحدة، مما تشير إليه الآية لأعجزهم تتبعه وإحصاؤه عن يقين‏!‏

فكم من شيء في هذه اللحظة الواحدة يلج في الأرض‏؟‏ وكم من شيء في هذه اللحظة يخرج منها‏؟‏ وكم من شيء في هذه اللحظة ينزل من السماء‏؟‏ وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها‏؟‏

كم من شيء يلج في الأرض‏؟‏ كم من حبة تختبئ أو تخبأ في جنبات هذه الأرض‏؟‏ كم من دودة ومن حشرة ومن هامة ومن زاحفة تلج في الأرض في أقطارها المترامية‏؟‏ كم من قطرة ماء ومن ذرة غاز، ومن إشعاع كهرباء تندس في الأرض في أرجائها الفسيحة‏؟‏ وكم وكم مما يلج في الأرض وعين الله عليه ساهرة لا تنام‏؟‏

وكم يخرج منها‏؟‏ كم من نبتة تنبثق‏؟‏ وكم من نبع يفور‏؟‏ وكم من بركان يتفجر‏؟‏ وكم من غاز يتصاعد‏؟‏ وكم من مستور ينكشف‏؟‏ وكم من حشرة تخرج من بيتها المستور‏؟‏ وكم وكم مما يرى ومما لا يرى، ومما يعلمه البشر ومما يجهلونه وهو كثير‏؟‏

وكم مما ينزل من السماء‏؟‏ كم من نقطة مطر‏؟‏ وكم من شهاب ثاقب‏؟‏ وكم من شعاع محرق‏.‏ وكم من شعاع منير‏؟‏ وكم من قضاء نافذ ومن قدر مقدور‏؟‏ وكم من رحمة تشمل الوجود وتخص بعض العبيد‏.‏

وكم من رزق يبسطه الله لمن يشاء من عباده ويقدر‏.‏‏.‏ وكم وكم مما لا يحصيه إلا الله‏.‏

وكم مما يعرج فيها‏؟‏ كم من نفس صاعد من نبات أو حيوان أو إنسان أو خلق آخر مما لا يعرفه الإنسان‏؟‏ وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مستسرة لم يسمعها إلا الله في علاه‏.‏

وكم من روح من أرواح الخلائق التي نعلمها أو نجهلها متوفاة‏.‏ وكم من ملك يعرج بأمر من روح الله‏.‏ وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله‏.‏

ثم كم من قطرة بخار صاعدة من بحر، ومن ذرة غاز صاعدة من جسم‏؟‏ وكم وكم مما لا يعلمه سواه‏؟‏‏!‏

كم في لحظة واحدة‏؟‏ وأين يذهب علم البشر وإحصاؤهم لما في اللحظة الواحدة ولو قضوا الأعمار الطوال في العد والإحصاء‏؟‏ وعلم الله الشامل الهائل اللطيف العميق يحيط بهذا كله في كل مكان وفي كل زمان‏.‏‏.‏ وكل قلب وما فيه من نوايا وخواطر وما له من حركات وسكنات تحت عين الله، وهو مع هذا يستر ويغفر‏.‏‏.‏ ‏{‏وهو الرحيم الغفور‏}‏‏.‏‏.‏

وإن آية واحدة من القرآن كهذه الآية لمما يوحي بأن هذا القرآن ليس من قول البشر‏.‏ فمثل هذا الخاطر الكوني لا يخطر بطبيعته على قلب بشر؛ ومثل هذا التصور الكوني لا دافع إليه من طبيعة تصور البشر، ومثل هذه الإحاطة باللمسة تتجلى فيها صنعة الله بارئ هذا الوجود‏!‏ التي لا تشبهها صنعة العبيد‏!‏

وبعد تقرير تلك الحقيقة في تلك الصورة الرائعة الواسعة المدى الفسيحة المجال يحكي إنكار الذين كفروا بمجيء الساعة؛ وهم القاصرون الذين لا يعلمون ماذا يأتيهم بعد الغد؛ والله هو العليم بالغيب؛ الذي لا يند عن علمه شيء في السماء ولا في الأرض؛ والساعة لا بد منها ليلاقي المحسن والمسيء جزاء ما قدما في هذه الأرض‏:‏

‏{‏وقال الذين كفروا‏:‏ لا تأتينا الساعة‏:‏ قل‏:‏ بلى وربي لتأتينكم، عالم الغيب، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين‏.‏ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم‏.‏ والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم‏}‏‏.‏‏.‏

وإنكار الذين كفروا للآخرة ناشئ من عدم إدراكهم لحكمة الله وتقديره‏.‏ فحكمة الله لا تترك الناس سدى، يحسن منهم من يحسن ويسيء منهم من يسيء؛ ثم لا يلقى المحسن جزاء إحسانه، ولا يلقى المسيء جزاء إساءته‏.‏ وقد أخبر الله على لسان رسله‏:‏ أنه يستبقي الجزاء كله أو بعضه للآخرة‏.‏ فكل ما يدرك حكمة الله في خلقه يدرك أن الآخرة ضرورية لتحقيق وعد الله وخبره‏.‏‏.‏ ولكن الذين كفروا محجوبون عن تلك الحكمة‏.‏

من ثم يقولون قولتهم هذه‏:‏ ‏{‏لا تأتينا الساعة‏}‏‏.‏‏.‏ فيرد عليهم مؤكداً جازماً‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ بلى وربي لتأتينكم‏}‏‏.‏‏.‏ وصدق الله تعالى وصدق رسول الله عليه صلوات الله وهم لا يعلمون الغيب ومع ذلك يتأولون على الله، ويجزمون بما لا علم لهم به‏.‏ والله الذي يؤكد مجيء الساعة هو‏:‏ ‏{‏عالم الغيب‏}‏‏.‏‏.‏ فقوله الحق عن علم بما هنالك وعن يقين‏.‏

ثم يعرض هذا العلم في صورة كونية كالتي سبقت في مطلع السورة، تشهد هي الأخرى بأن هذا القرآن لا يكون من صنع بشر، لأن خيال البشر لا تخطر له عادة مثل هذه الصور‏:‏

‏{‏لا يعزب عنه مقال ذرة في السماوات ولا في الأرض؛ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين‏}‏‏.‏‏.‏

ومرة أخرى نقول‏:‏ إن طبيعة هذا التصور ليست بشرية‏.‏ وإنه ليست لها سابقة في كلام البشر شعره ونثره على السواء‏.‏ فعندما يتحدث البشر عن شمول العلم ودقته وإحاطته لا يخطر على بالهم أن يصوروه في هذه الصورة الكونية العجيبة‏:‏ ‏{‏لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏ ولست أعرف في كلام البشر اتجاهاً إلى مثل هذا التصور للعلم الدقيق الشامل‏.‏ فهو الله، سبحانه، الذي يصف نفسه، ويصف علمه، بما يعلم من الأوصاف التي لا تخطر للبشر‏!‏ وبذلك يرفع تصور المسلمين لإلههم الذي يعبدونه فيعرفونه بصفته في حدود طاقتهم البشرية المحدودة على كل حال‏.‏

وأقرب تفسير لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا في كتاب مبين‏}‏ أنه علم الله الذي يقيد كل شيء، ولا يند عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر‏.‏

ونقف أمام لفتة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثقال ذرة‏.‏‏.‏ ولا أصغر من ذلك‏}‏‏.‏ والذرة كان معروفاً إلى عهد قريب أنها أصغر الأجسام‏.‏ فالآن يعرف البشر بعد تحطيم الذرة أن هناك ما هو أصغر من الذرة، وهو جزيئاتها التي لم تكن في حسبان أحد يومذاك‏!‏ وتبارك الله الذي يعلم عباده ما يشاء من أسرار صفته ومن أسرار خلقه عندما يشاء‏.‏

مجيء الساعة حتماً وجزماً، وعلمه الذي لا تند عنه صغيرة ولا كبيرة‏:‏

‏{‏ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏.‏ أولئك لهم مغفرة ورزق كريم‏.‏ والذين سعوا في آياتنا معاجزين، أولئك لهم عذاب من رجز أليم‏}‏‏.‏‏.‏

فهناك حكمة وقصد وتدبير‏.‏ وهناك تقدير في الخلق لتحقيق الجزاء الحق للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وللذين سعوا في آيات الله معاجزين‏.‏‏.‏

فأما الذين آمنوا وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح فلهم ‏{‏مغفرة‏}‏ لما يقع منهم من خطايا ولهم ‏{‏رزق كريم‏}‏ والرزق يجيء ذكره كثيراً في هذه السورة، فناسب أن يعبر عن نعيم الآخرة بهذا الوصف، وهو رزق من رزق الله على كل حال‏.‏

وأما الذين سعوا باذلين جهدهم للصد عن آيات الله، فلهم عذاب من أليم العذاب وسيئه‏.‏ والرجز هو العذاب السيّئ‏.‏ جزاء اجتهادهم ومعاجزتهم وكدهم في سبيل السوء‏!‏

وبهذا وذلك تتحقق حكمة الله وتدبيره، وحكمة الساعة التي يجزمون بأنها لا تأتيهم؛ وهي لا بد أن تجيء‏.‏‏.‏

وبمناسبة جزمهم بأن الساعة لا تأتيهم وهي غيب من غيب الله وتأكيد الله لمجيئها وهو عالم الغيب وتبليغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمره ربه بتبليغه من أمرها يقرر أن ‏{‏الذين أوتوا العلم‏}‏ يدركون ويشهدون بأن ما جاءه من ربه هو الحق وأنه يهدي إلى طريق العزيز الحميد‏:‏

‏{‏ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد‏}‏‏.‏‏.‏

وقد ورد أن المقصود بالذين أوتوا العلم هم أهل الكتاب، الذين يعلمون من كتابهم أن هذا القرآن هو الحق، وأنه يقود إلى صراط العزيز الحميد‏.‏

ومجال الآية أكبر وأشمل‏.‏ فالذين أوتوا العلم في أي زمان وفي أي مكان، من أي جيل ومن أي قبيل، يرون هذا متى صح علمهم واستقام؛ واستحق أن يوصف بأنه ‏{‏العلم‏}‏ ‏!‏ والقرآن كتاب مفتوح للأجيال‏.‏ وفيه من الحق ما يكشف عن نفسه لكل ذي علم صحيح‏.‏ وهو يكشف عن الحق المستكن في كيان هذا الوجود كله‏.‏ وهو أصدق ترجمة وصفية لهذا الوجود وما فيه من حق أصيل‏.‏

‏{‏ويهدي إلى صراط العزيز الحميد‏}‏‏.‏‏.‏

وصراط العزيز الحميد هو المنهج الذي أراده للوجود؛ واختاره للبشر لينسق خطاهم مع خطى هذا الكون الذي يعيشون فيه‏.‏ وهو الناموس الذي يهيمن على أقدار هذا الكون كله، بما فيه من الحياة البشرية التي لا تنفصل في أصلها ونشأتها، ولا في نظامها وحركتها عن هذا الكون وما فيه ومن فيه‏.‏

يهدي إلى صراط العزيز الحميد بما ينشئه في إدراك المؤمن من تصور للوجود وروابطه وعلاقاته وقيمه؛ ومكان هذا الإنسان منه، ودوره فيه؛ وتعاون أجزاء هذا الكون من حوله وهو معها في تحقيق مشيئة الله وحكمته في خلقه؛ وتناسق حركات الجميع وتوافقها في الاتجاه إلى بارئ الوجود‏.‏

ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بتصحيح منهج التفكير، وإقامته على أسس سليمة، متفقة مع الإيقاعات الكونية على الفطرة البشرية؛ بحيث يؤدي هذا المنهج بالفكر البشري إلى إدراك طبيعة هذا الكون وخواصه وقوانينه، والاستعانة بها، والتجاوب معها بلا عداء ولا اصطدام ولا تعويق‏.‏

ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بمنهجه التربوي الذي يعد الفرد للتجاوب والتناسق مع الجماعة البشرية‏.‏ ويعد الجماعة البشرية للتجاوب والتناسق أفراداً وجماعات مع مجموعة الخلائق التي تعمر هذا الكون‏!‏ ويعد هذه الخلائق كلها للتجاوب والتناسق مع طبيعة الكون الذي تعيش فيه‏.‏

‏.‏ كل ذلك في بساطة ويسر ولين‏.‏

ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بما فيه من نظم وتشريعات مستقيمة مع فطرة الإنسان وظروف حياته ومعاشه الأصيلة، متناسقة مع القوانين الكلية التي تحكم بقية الأحياء، وسائر الخلائق؛ فلا يشذ عنها الإنسان بنظمه وتشريعاته‏.‏ وهو أمة من هذه الأمم في نطاق هذا الكون الكبير‏.‏

إن هذا الكتاب هو الدليل إلى هذا الصراط‏.‏ الدليل الذي وضعه خالق الإنسان وخالق الصراط، العارف بطبيعة هذا وذاك‏.‏ وإنك لتكون حسن الطالع وأنت تقوم برحلة في طريق لو حصلت على دليل من وضع المهندس الذي أنشأ هذا الطريق‏.‏ فكيف بمنشئ الطريق ومنشئ السالك في الطريق‏؟‏‏!‏

وبعد هذه اللمسة الموقظة الموجهة يستأنف حكاية حديثهم عن البعث، ودهشتهم البالغة لهذا الأمر، الذي يرونه عجيباً غريباً، لا يتحدث به إلا من أصابه طائف من الجن، فهو يتفوه بكل غريب عجيب، أو يفتري الكذب ويقول بما لا يمكن أن يكون‏.‏

‏{‏وقال الذين كفروا‏:‏ هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد‏!‏ أفترى على الله كذباً أم به جنة‏؟‏ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد‏}‏‏.‏‏.‏

إلى هذا الحد من الاستغراب والدهش كانوا يقابلون قضية البعث‏.‏ فيعجبون الناس من أمر القائل بها في أسلوب حاد من التهكم والتشهير‏:‏ ‏{‏هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد‏؟‏‏}‏ هل ندلكم على رجل عجيب غريب، ينطق بقول مستنكر بعيد، حتى ليقول‏:‏ إنكم بعد الموت والبلى والتمزق الشديد تخلقون من جديد، وتعودون للوجود‏؟‏‏!‏

ويمضون في العجب والتعجيب، والاستنكار والتشهير‏:‏ ‏{‏أفترى على الله كذباً أم به جنة‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ فما يقول مثل هذا الكلام بزعمهم إلا كاذب يفتري على الله ما لم يقله، أو مسته الجن فهو يهذي أو ينطق بالعجيب الغريب‏!‏

ولم هذا كله‏؟‏ لأنه يقول لهم‏:‏ إنكم ستخلقون خلقاً جديداً‏!‏ وفيم العجب وهم قد خلقوا ابتداء‏؟‏ إنهم لا ينظرون هذه العجيبة الواقعة‏.‏ عجيبة خلقهم الأول‏.‏ ولو قد نظروها وتدبروها ما عجبوا أدنى عجب للخلق الجديد‏.‏ ولكنهم ضالون لا يهتدون‏.‏ ومن ثم يعقب على تشهيرهم وتعجيبهم تعقيباً شديداً مرهوباً‏:‏

‏{‏بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد‏}‏‏.‏‏.‏

وقد يكون المقصود بالعذاب الذي هم فيه عذاب الآخرة، فهو لتحققه كأنهم واقعون فيه، وقوعهم في الضلال البعيد الذي لا يرجى معه اهتداء‏.‏‏.‏ وقد يكون هذا تعبيراً عن معنى آخر‏.‏ معنى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة يعيشون في عذاب كما يعيشون في ضلال‏.‏ وهي حقيقة عميقة‏.‏ فالذي يعيش بلا عقيدة في الآخرة يعيش في عذاب نفسي‏.‏ لا أمل له ولا رجاء في نصفة ولا عدل ولا جزاء ولا عوض عما يلقاه في الحياة‏.‏ وفي الحياة مواقف وابتلاءات لا يقوى الإنسان على مواجهتها إلا وفي نفسه رجاء الآخرة، وثوابها للمحسن وعقابها للمسيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 21‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ‏(‏10‏)‏ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏11‏)‏ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏12‏)‏ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ‏(‏13‏)‏ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏14‏)‏ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ‏(‏15‏)‏ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ‏(‏16‏)‏ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ‏(‏17‏)‏ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ ‏(‏18‏)‏ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏19‏)‏ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏20‏)‏ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

يحوي هذا الشوط صوراً من الشكر والبطر؛ وصوراً من تسخير الله لمن يشاء من عباده قوى وخلقاً لا تسخر عادة للبشر‏.‏ ولكن قدرة الله ومشيئته لا يقيدهما مألوف البشر‏.‏ وتتكشف من خلال هذه الصور وتلك حقائق عن الشياطين الذين كان يعبدهم بعض المشركين، أو يطلبون عندهم علم الغيب وهم عن الغيب محجوبون‏.‏ وعن أسباب الغواية التي يتسلط بها الشيطان على الإنسان، وما له عليه من سلطان إلا ما يعطيه من نفسه باختياره‏.‏ وعن تدبير الله في كشف ما هو مكنون من عمل الناس وبروزه في صورة واقعة لينالوا عليه الجزاء في الآخرة‏.‏ وبذكر الآخرة ينتهي هذا الشوط كما انتهى الشوط الأول في السورة‏.‏‏.‏

‏{‏ولقد آتينا داود منا فضلاً‏.‏ يا جبال أوبي معه والطير‏.‏ وألنا له الحديد أن اعمل سابغات، وقدّر في السرد، واعملوا صالحاً‏.‏ إني بما تعملون بصير‏}‏‏.‏‏.‏

وداود عبد منيب، كالذي ختم بذكره الشوط الأول‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية لكل عبد منيب‏}‏ والسياق يعقب بقصته بعد تلك الإشارة؛ ويقدم لها بذكر ما آتاه الله له من الفضل‏.‏ ثم يبين هذا الفضل‏:‏

‏{‏يا جبال أوبي معه والطير‏}‏‏.‏‏.‏

وتذكر الروايات أن داود عليه السلام أوتي صوتاً جميلاً خارقاً في الجمال؛ كان يرتل به مزاميره، وهي تسابيح دينية، ورد منها في كتاب «العهد القديم» ما الله أعلم بصحته‏.‏ وفي الصحيح «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقرأ من الليل فوقف فاستمع لقراءته‏.‏ ثم قال صلى الله عليه وسلم لقد أوتي هذا مزماراً من زمامير آل داود»‏.‏

والآية تصور من فضل الله على داود عليه السلام أنه قد بلغ من الشفافية والتجرد في تسابيحه أن انزاحت الحجب بينه وبين الكائنات؛ فاتصلت حقيقتها بحقيقته، في تسبيح بارئها وبارئه؛ ورجّعت معه الجبال والطير، إذ لم يعد بين وجوده ووجودها فاصل ولا حاجز، حين اتصلت كلها بالله صلة واحدة مباشرة؛ تنزاح معها الفوارق بين نوع من خلق الله ونوع، وبين كائن من خلق الله وكائن؛ وترتد كلها إلى حقيقتها اللدنية الواحدة، التي كانت تغشى عليها الفواصل والفوارق؛ فإذا هي تتجاوب في تسبيحها للخالق، وتتلاقى في نغمة واحدة، وهي درجة من الإشراق والصفاء والتجرد لا يبلغها أحد إلا بفضل من الله، يزيح عنه حجاب كيانه المادي، ويرده إلى كينونته اللدنية التي يلتقي فيها بهذا الوجود، وكل ما فيه وكل من فيه بلا حواجز ولا سدود‏.‏

وحين انطلق صوت داود عليه السلام يرتل مزاميره ويمجد خالقه، رجّعت معه الجبال والطير، وتجاوب الكون بتلك الترانيم السارية في كيانه الواحد، المتجهة إلى بارئه الواحد‏.‏

‏.‏ وإنها للحظات عجيبة لا يتذوقها إلا من عنده بها خبر، ومن جرب نوعها ولو في لحظة من حياته‏!‏

‏{‏وألنا له الحديد‏}‏‏.‏

وهو طرف آخر من فضل الله عليه‏.‏ وفي ظل هذا السياق يبدو أن الأمر كان خارقة ليست من مألوف البشر‏.‏ فلم يكن الأمر أمر تسخين الحديد حتى يلين ويصبح قابلاً للطرق، إنما كان والله أعلم معجزة يلين بها الحديد من غير وسيلة اللين المعهودة‏.‏ وإن كان مجرد الهداية لإلانة الحديد بالتسخين يعد فضلاً من الله يذكر‏.‏ ولكننا إنما نتأثر جو السياق وظلاله وهو جو معجزات، وهي ظلال خوارق خارجة على المألوف‏.‏

‏{‏أن اعمل سابغات وقدّر في السرد‏}‏‏.‏

والسابغات الدروع‏.‏ روي أنها كانت تعمل قبل داود عليه السلام صفائح‏.‏ الدرع صفيحة واحدة، فكانت تصلب الجسم وتثقله‏.‏ فألهم الله داود أن يصنعها رقائق متداخلة متموجة لينة يسهل تشكيلها وتحريكها بحركة الجسم؛ وأمر بتضييق تداخل هذه الرقائق لتكون محكمة لا تنفذ منها الرماح‏.‏ وهو التقدير في السرد‏.‏ وكان الأمر كله إلهاماً وتعليماً من الله‏.‏

وخوطب داود وأهله‏:‏

‏{‏واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير‏}‏‏.‏‏.‏

لا في الدروع وحدها بل في كل ما تعملون؛ مراقبين الله الذي يبصر ما تعملون ويجازي عليه، فلا يفلت منه شيء، والله به بصير‏.‏‏.‏

ذلك ما آتاه الله داود عليه السلام فأما سليمان فقد آتاه الله أفضالاً أخرى‏:‏

‏{‏ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر، وأسلنا له عين القطر، ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه‏.‏ ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير‏.‏ يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب‏.‏ وقدور راسيات‏.‏ اعملوا آل داود شكراً‏.‏ وقليل من عبادي الشكور‏}‏‏.‏

وتسخير الريح لسليمان تتكاثر حوله الروايات، وتبدو ظلال الإسرائيليات واضحة في تلك الروايات وإن تكن كتب اليهود الأصلية لم تذكر شيئاً عنها والتحرج من الخوض في تلك الروايات أولى‏.‏ والاكتفاء بالنص القرآني أسلم‏.‏ مع الوقوف به عند ظاهر اللفظ لا نتعداه‏.‏ ومنه يستفاد أن الله سخر الريح لسليمان، وجعل غدوها أي توجهها غادية إلى بقعة معينة ‏(‏ذكر في سورة الأنبياء أنها الأرض المقدسة‏)‏ يستغرق شهراً‏.‏ ورواحها أي انعكاس اتجاهها في الرواح يستغرق شهراً كذلك‏.‏ وفق مصلحة تحصل من غدوها ورواحها، يدركها سليمان عليه السلام ويحققها بأمر الله‏.‏‏.‏ ولا نملك أن نزيد هذا إيضاحاً حتى لا ندخل في أساطير لا ضابط لها ولا تحقيق‏.‏

‏{‏وأسلنا له عين القطر‏}‏‏.‏‏.‏

والقطر النحاس‏.‏ وسياق الآيات يشير إلى أن هذا كان معجزة خارقة كإلانة الحديد لداود‏.‏ وقد يكون ذلك بأن فجر الله له عيناً بركانية من النحاس المذاب من الأرض‏.‏

أو بأن ألهمه الله إذابة النحاس حتى يسيل ويصبح قابلاً للصب والطرق‏.‏ وهو فضل من الله كبير‏.‏

‏{‏ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه‏}‏‏.‏‏.‏

وكذلك سخر له طائفة من الجن يعملون بأمره بإذن ربه‏.‏ والجن كل مستور لا يراه البشر‏.‏ وهناك خلق سماهم الله الجن ولا نعرف نحن من أمرهم شيئاً إلا ما ذكره الله عنهم‏.‏ وهو يذكر هنا أن الله سخر طائفة منهم لنبيه سليمان عليه السلام فمن عصى منهم ناله عذاب الله‏:‏

‏{‏ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير‏}‏‏.‏‏.‏

ولعل هذا التعقيب قبل الانتهاء من قصة التسخير يذكر على هذا النحو لبيان خضوع الجن لله‏.‏ وكان بعض المشركين يعبدهم من دون الله‏.‏ وهم مثلهم معرضون للعقاب عندما يزيغون عن أمر الله‏.‏

وهم مسخرون لسليمان عليه السلام‏:‏

‏{‏يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات‏}‏‏.‏‏.‏

والمحاريب من أماكن العبادة، والتماثيل الصور من نحاس وخشب وغيره‏.‏ والجوابي جمع جابية وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء‏.‏ وقد كانت الجن تصنع لسليمان جفاناً كبيرة للطعام تشبه الجوابي، وتصنع له قدوراً ضخمة للطبخ راسية لضخامتها‏.‏‏.‏ وهذه كلها نماذج مما سخر الله الجن لسليمان لتقوم له به حيث شاء بإذن الله‏.‏ وكلها أمور خارقة لا سبيل إلى تصورها أو تعليلها إلا بأنها خارقة من صنع الله‏.‏ وهذا هو تفسيرها الواضح الوحيد‏.‏

ويختم هذا بتوجيه الخطاب إلى آل داود‏:‏

‏{‏اعملوا آل داود شكراً‏}‏‏.‏‏.‏

سخرنا لكم هذا وذلك في شخص داود وشخص سليمان عليهما السلام فاعملوا يا آل داود شكراً لله‏.‏ لا للتباهي والتعالي بما سخره الله‏.‏ والعمل الصالح شكر لله كبير‏.‏

‏{‏وقليل من عبادي الشكور‏}‏‏.‏‏.‏

تعقيب تقريري وتوجيهي من تعقيبات القرآن على القصص‏.‏ يكشف من جانب عن عظمة فضل الله ونعمته حتى ليقل القادرون على شكرها‏.‏ ويكشف من جانب آخر عن تقصير البشر في شكر نعمة الله وفضله‏.‏ وهم مهما بالغوا في الشكر قاصرون عن الوفاء‏.‏ فكيف إذا قصروا وغفلوا عن الشكر من الأساس‏؟‏‏!‏

وماذا يملك المخلوق الإنساني المحدود الطاقة من الشكر على آلاء الله وهي غير محدودة‏؟‏‏.‏‏.‏ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏.‏‏.‏ وهذه النعم تغمر الإنسان من فوقه ومن تحت قدميه، وعن أيمانه وعن شمائله، وتكمن فيه هو ذاته وتفيض منه‏.‏ وهو ذاته إحدى هذه الآلاء الضخام‏!‏

كنا نجلس جماعة نتحدث وتتجاوب أفكارنا وتتجاذب، وتنطلق ألسنتنا بكل ما يخطر لنا على بال‏.‏ ذلك حينما جاء قطنا الصغير «سوسو» يدور هنا وهناك من حولنا، يبحث عن شيء؛ وكأنما يريد أن يطلب إلينا شيئاً، ولكنه لا يملك أن يقول؛ ولا نملك نحن أن ندرك‏.‏ حتى ألهمنا الله أنه يطلب الماء‏.‏

وكان هذا‏.‏ وكان في شدة العطش‏.‏ وهو لا يملك أن يقول ولا أن يشير‏.‏‏.‏ وأدركنا في هذه اللحظة شيئاً من نعمة الله علينا بالنطق واللسان، والإدراك والتدبير‏.‏ وفاضت نفوسنا بالشكر لحظة‏.‏‏.‏ وأين الشكر من ذلك الفيض الجزيل‏.‏

وكنا فترة طويلة محرومين من رؤية الشمس‏.‏ وكان شعاع منها لا يتجاوز حجمه حجم القرش ينفذ إلينا أحياناً‏.‏ وإن أحدنا ليقف أمام هذا الشعاع يمرره على وجهه ويديه وصدره وظهره وبطنه وقدميه ما استطاع‏.‏ ثم يخلي مكانه لأخيه ينال من هذه النعمة ما نال‏!‏ ولست أنسى أول يوم بعد ذلك وجدنا فيه الشمس‏.‏ لست أنسى الفرحة الغامرة والنشوة الظاهرة على وجه أحدنا، وفي جوارحه كلها، وهو يقول في نغمة عميقة مديدة‏.‏‏.‏ الله‏!‏ هذه هي الشمس‏.‏ شمس ربنا وما تزال تطلع‏.‏‏.‏ الحمد لله‏!‏

فكم نبعثر في كل يوم من هذه الأشعة المحيية، ونحن نستحم في الضوء والدفء‏.‏ ونسبح ونغرق في نعمة الله‏؟‏ وكم نشكر هذا الفيض الغامر المتاح المباح من غير ثمن ولا كد ولا معاناة‏؟‏‏!‏

وحين نمضي نستعرض آلاء الله على هذا النحو فإننا ننفق العمر كله، ونبذل الجهد كله، ولا نبلغ من هذا شيئاً‏.‏ فنكتفي إذن بهذه الإشارة الموحية، على طريقة القرآن في الإشارة والإيماء، ليتدبرها كل قلب، ويمضي على إثرها، قدر ما يوفقه الله لنعمة الشكر، وهي إحدى آلاء الله، يوفق إليها من يستحقها بالتوجه والتجرد والإخلاص‏.‏‏.‏

ثم نمضي مع نصوص القصة القرآنية في المشهد الأخير منها‏.‏ مشهد وفاة سليمان والجن ماضية تعمل بأمره فيما كلفها عمله؛ وهي لا تعلم نبأ موته، حتى يدلهم على ذلك أكل الأرضة لعصاه، التي كان مرتكزاً عليها، وسقوطه‏:‏

‏{‏فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين‏}‏‏.‏‏.‏

وقد روي أنه كان متكئاً على عصاه حين وافاه أجله؛ والجن تروح وتجيء مسخرة فيما كلفها إياه من عمل شاق شديد؛ فلم تدرك أنه مات، حتى جاءت دابة الأرض‏.‏ قيل إنها الأرضة‏.‏ التي تتغذى بالأخشاب، وهي تلتهم أسقف المنازل وأبوابها وقوائمها بشراهة فظيعة، في الأماكن التي تعيش فيها‏.‏ وفي صعيد مصر قرى تقيم منازلها دون أن تضع فيها قطعة خشب واحدة خوفاً من هذه الحشرة التي لا تبقي على المادة الخشبية ولا تذر‏.‏ فلما نخرت عصا سليمان لم تحمله فخرّ على الأرض‏.‏ وحينئذ فقط علمت الجن موته‏.‏ وعندئذ ‏{‏تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين‏}‏‏.‏‏.‏

فهؤلاء هم الجن الذين يعبدهم بعض الناس‏.‏ هؤلاء هم سخرة لعبد من عباد الله‏.‏ وهؤلاء هم محجوبون عن الغيب القريب؛ وبعض الناس يطلب عندهم أسرار الغيب البعيد‏!‏

وفي قصة آل داود تعرض صفحة الإيمان بالله والشكر على أفضاله وحسن التصرف في نعمائه‏.‏

والصفحة المقابلة هي صفحة سبأ‏.‏ وقد مضى في سورة النمل ما كان بين سليمان وبين ملكتهم من قصص‏.‏ وهنا يجيء نبؤهم بعد قصة سليمان‏.‏ مما يوحي بأن الأحداث التي تتضمنها وقعت بعد ما كان بينها وبين سليمان من خبر‏.‏

يرجح هذا الفرض أن القصة هنا تتحدث عن بطر سبأ بالنعمة وزوالها عنهم وتفرقهم بعد ذلك وتمزقهم كل ممزق‏.‏ وهم كانوا على عهد الملكة التي جاء نبؤها في سورة النمل مع سليمان في ملك عظيم، وفي خير عميم‏.‏ ذلك إذ يقص الهدهد على سليمان‏:‏ ‏{‏إني وجدت امرأة تملكهم، وأوتيت من كل شيء، ولها عرش عظيم‏.‏ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله‏}‏ وقد أعقب ذلك إسلام الملكة مع سليمان لله رب العالمين‏.‏ فالقصة هنا تقع أحداثها بعد إسلام الملكة لله؛ وتحكي ما حل بهم بعد إعراضهم عن شكره على ما كانوا فيه من نعيم‏.‏

وتبدأ القصة بوصف ما كانوا فيه من رزق ورغد ونعيم، وما طاب إليهم من شكر المنعم بقدر ما يطيقون‏:‏

‏{‏لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال‏.‏ كلوا من رزق ربكم واشكروا له‏.‏ بلدة طيبة ورب غفور‏}‏‏.‏‏.‏

وسبأ اسم لقوم كانوا يسكنون جنوبي اليمن؛ وكانوا في أرض مخصبة ما تزال منها بقية إلى اليوم‏.‏ وقد ارتقوا في سلم الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة التي تأتيهم من البحر في الجنوب والشرق، فأقاموا خزاناً طبيعياً يتألف جانباه من جبلين، وجعلوا على فم الوادي بينهما سداً به عيون تفتح وتغلق، وخزنوا الماء بكميات عظيمة وراء السد، وتحكموا فيها وفق حاجتهم‏.‏ فكان لهم من هذا مورد مائي عظيم‏.‏ وقد عرف باسم «سد مأرب»‏.‏

وهذه الجنان عن اليمين والشمال رمز لذلك الخصب والوفرة والرخاء والمتاع الجميل، ومن ثم كانت آية تذكر بالمنعم الوهاب‏.‏ وقد أمروا أن يستمتعوا برزق الله شاكرين‏:‏

‏{‏كلوا من رزق ربكم واشكروا له‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

وذكروا بالنعمة‏.‏ نعمة البلد الطيب وفوقها نعمة الغفران على القصور من الشكر والتجاوز عن السيئات‏.‏

‏{‏بلدة طيبة ورب غفور‏}‏‏.‏‏.‏

سماحة في الأرض بالنعمة والرخاء‏.‏ وسماحة في السماء بالعفو والغفران‏.‏ فماذا يقعدهم عن الحمد والشكران‏؟‏‏.‏ ولكنهم لم يشكروا ولم يذكروا‏:‏

‏{‏فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم، وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل‏:‏ خمط وأثل وشيء من سدر قليل‏}‏‏.‏‏.‏

أعرضوا عن شكر الله، وعن العمل الصالح، والتصرف الحميد فيما أنعم الله عليهم، فسلبهم سبب هذا الرخاء الجميل الذي يعيشون فيه؛ وأرسل السيل الجارف الذي يحمل العرم في طريقه وهي الحجارة لشدة تدفقه، فحطم السد وانساحت المياه فطغت وأغرقت؛ ثم لم يعد الماء يخزن بعد ذلك فجفت واحترقت‏.‏

وتبدلت تلك الجنان الفيح صحراء تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة‏:‏

‏{‏وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل‏:‏ خمط وأثل وشيء من سدر قليل‏}‏‏.‏‏.‏

والخمط شجر الأراك أو كل شجر ذي شوك‏.‏ والأثل شجر يشبه الطرفاء‏.‏ والسدر النبق‏.‏ وهو أجود ما صار لهم ولم يعد لهم منه إلا قليل‏!‏

‏{‏ذلك جزيناهم بما كفروا‏}‏‏.‏‏.‏

والأرجح أنه كفران النعمة‏.‏‏.‏

‏{‏وهل نجازي إلا الكفور‏}‏‏.‏‏.‏

وكانوا إلى هذا الوقت ما يزالون في قراهم وبيوتهم‏.‏ ضيق الله عليهم في الرزق، وبدلهم من الرفاهية والنعماء خشونة وشدة؛ ولكنه لم يمزقهم ولم يفرقهم‏.‏ وكان العمران ما يزال متصلاً بينهم وبين القرى المباركة‏:‏ مكة في الجزيرة، وبيت المقدس في الشام‏.‏ فقد كانت اليمن ما تزال عامرة في شمال بلاد سبأ ومتصلة بالقرى المباركة‏.‏ والطريق بينهما عامر مطروق مسلوك مأمون‏:‏

‏{‏وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة، وقدّرنا فيها السير‏.‏ سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين‏}‏‏.‏‏.‏

وقيل كان المسافر يخرج من قرية فيدخل الأخرى قبل دخول الظلام‏.‏ فكان السفر فيها محدود المسافات، مأموناً على المسافرين‏.‏ كما كانت الراحة موفورة لتقارب المنازل وتقارب المحطات في الطريق‏.‏

وغلبت الشقوة على سبأ، فلم ينفعهم النذير الأول؛ ولم يوجههم إلى التضرع إلى الله، لعله يرد عليهم ما ذهب من الرخاء‏.‏ بل دعوا دعوة الحمق والجهل‏:‏

‏{‏فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا‏}‏‏.‏‏.‏

تطلبوا الأسفار البعيدة المدى؛ التي لا تقع إلا مرات متباعدة على مدار العام‏.‏ لا تلك السفرات القصيرة المتداخلة المنازل، التي لا تشبع لذة الرحلات‏!‏ وكان هذا من بطر القلب وظلم النفس‏:‏

‏{‏وظلموا أنفسهم‏}‏‏.‏‏.‏

واستجيبت دعوتهم، ولكن كما ينبغي أن تستجاب دعوة البطر‏:‏

‏{‏فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق‏}‏‏.‏‏.‏

شردوا ومزقوا؛ وتفرقوا في أنحاء الجزيرة مبددي الشمل؛ وعادوا أحاديث يرويها الرواة، وقصة على الألسنة والأفواه‏.‏ بعد أن كانوا أمة ذات وجود في الحياة‏.‏

‏{‏إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏}‏‏.‏‏.‏

يذكر الصبر إلى جوار الشكر‏.‏‏.‏ الصبر في البأساء‏.‏ والشكر في النعماء‏.‏ وفي قصة سبأ آيات لهؤلاء وهؤلاء‏.‏

هذا فهم في الآية‏.‏ وهناك فهم آخر‏.‏ فقد يكون المقصود بقوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة‏}‏‏.‏‏.‏ أي قرى غالبة ذات سلطان‏.‏ بينما تحول سبأ إلى قوم فقراء، حياتهم صحراوية جافة‏.‏ وكثرت أسفارهم وانتقالاتهم وراء المراعي ومواضع الماء‏.‏ فلم يصبروا على الابتلاء‏.‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏ربنا باعد بين أسفارنا‏}‏‏.‏‏.‏ أي قلل من أسفارنا فقد تعبنا‏.‏ ولم يصحبوا هذا الدعاء باستجابة وإنابة لله تستحق استجابته لدعائهم‏.‏ وكانوا قد بطروا النعمة، ولم يصبروا للمحنة‏.‏ ففعل الله بهم ما فعل، ومزقهم كل ممزق؛ فأصبحوا أثراً بعد عين، وحديثاً يروى وقصة تحكى‏.‏‏.‏ ويكون التعقيب‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏}‏‏.‏‏.‏ مناسباً لقلة شكرهم على النعمة، وقلة صبرهم على المحنة‏.‏‏.‏ وهو وجه رأيته في الآية والله أعلم بمراده‏.‏