فصل: تفسير الآيات رقم (258- 260)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏258- 260‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏258‏)‏ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏259‏)‏ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏260‏)‏‏}‏

هذه الآيات الثلاث تتناول موضوعاً واحداً في جملته‏:‏ سر الحياة والموت، وحقيقة الحياة والموت‏.‏ وهي بهذا تؤلف جانبا من جوانب التصور الإسلامي؛ يضاف إلى القواعد التي قررتها الآيات السابقة منذ مطلع هذا الجزء؛ وتتصل اتصالاً مباشراً بآية الكرسي وما قررته من صفات الله تعالى‏.‏‏.‏ وهي جميعاً تمثل جانباً من جوانب الجهد الطويل المتجلي في القرآن الكريم لإنشاء التصور الصحيح لحقائق هذا الوجود في ضمير المسلم وفي إدراكه‏.‏ الأمر الذي لا بد منه للإقبال على الحياة بعد ذلك إقبالاً بصيراً، منبثقاً من الرؤية الصحيحة الواضحة، وقائماً على اليقين الثابت المطمئن‏.‏ فنظام الحياة ومنهج السلوك وقواعد الأخلاق والآداب‏.‏‏.‏ ليست بمعزل عن التصور الاعتقادي؛ بل هي قائمة عليه، مستمدة منه‏.‏ وما يمكن أن تثبت وتستقيم ويكون لها ميزان مستقر إلا أن ترتبط بالعقيدة، وبالتصور الشامل لحقيقة هذا الوجود وارتباطاته بخالقه الذي وهبه الوجود‏.‏‏.‏ ومن ثم هذا التركيز القوي على إيضاح قواعد التصور الاعتقادي الذي استغرق القرآن المكي كله؛ وما يزال يطالع الناس في القرآن المدني بمناسبة كل تشريع وكل توجيه في شؤون الحياة جميعاً‏.‏

والآية الأولى تحكي حواراً بين إبراهيم- عليه السلام- وملك في أيامه يجادله في الله‏.‏ لا يذكر السياق اسمه، لأن ذكر اسمه لا يزيد من العبرة التي تمثلها الآية شيئاً‏.‏ وهذا الحوار يعرض على النبي- صلى الله عليه وسلم- وعلى الجماعة المسلمة في أسلوب التعجيب من هذا المجادل، الذي حاج إبراهيم في ربه؛ وكأنما مشهد الحوار يعاد عرضه من ثنايا التعبير القرآني العجيب‏:‏

‏{‏ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك‏؟‏ إذ قال إبراهيم‏:‏ ربي الذي يحيي ويميت‏.‏ قال‏:‏ أنا أحيي وأميت‏!‏ قال إبراهيم‏:‏ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب‏.‏ فبهت الذي كفر‏.‏ والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

إن هذا الملك الذي حاج إبراهيم في ربه لم يكن منكراً لوجود الله أصلاً إنما كان منكراً لوحدانيته في الألوهية والربوبية ولتصريفه للكون وتدبيره لما يجري فيه وحده، كما كان بعض المنحرفين في الجاهلية يعترفون بوجود الله ولكنهم يجعلون له انداداً ينسبون إليها فاعلية وعملاً في حياتهم‏!‏ وكذلك كان منكراً أن الحاكمية لله وحده، فلا حكم إلا حكمه في شؤون الأرض وشريعة المجتمع‏.‏

إن هذا الملك المنكر المتعنت إنما ينكر ويتعنت للسبب الذي كان ينبغي من أجله أن يؤمن ويشكر‏.‏ هذا السبب هو ‏{‏أن آتاه الله الملك‏}‏‏.‏‏.‏ وجعل في يده السلطان‏!‏ لقد كان ينبغي أن يشكر ويعترف، لولا أن الملك يُطغي ويبطر من لا يقدرون نعمة الله، ولا يدركون مصدر الإنعام‏.‏ ومن ثم يضعون الكفر في موضع الشكر؛ ويضلون بالسبب الذي كان ينبغي أن يكونوا به مهتدين‏!‏ فهم حاكمون لأن الله حكمهم، وهو لم يخولهم استعباد الناس بقسرهم على شرائع من عندهم‏.‏

فهم كالناس عبيد لله، يتلقون مثلهم الشريعة من الله، ولا يستقلون دونه بحكم ولا تشريع فهم خلفاء لا أصلاء‏!‏

ومن ثم يعجب الله من أمره وهو يعرضه على نبيه‏:‏

‏{‏ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ألم تر‏؟‏ إنه تعبير التشنيع والتفظيع؛ وإن الإنكار والاستنكار لينطلقان من بنائه اللفظي وبنائه المعنوي سواء‏.‏ فالفعلة منكرة حقاً‏:‏ أن يأتي الحجاج والجدال بسبب النعمة والعطاء‏!‏ وأن يدعي عبد لنفسه ما هو من اختصاص الرب، وأن يستقل حاكم بحكم الناس بهواه دون أن يستمد قانونه من الله‏.‏

‏{‏قال إبراهيم‏:‏ ربي الذي يحي ويميت‏}‏‏.‏‏.‏

والإحياء والإماتة هما الظاهرتان المكرورتان في كل لحظة، المعروضتان لحس الإنسان وعقله‏.‏ وهما- في الوقت نفسه- السر الذي يحير، والذي يلجيء الإدراك البشري الجاء إلى مصدر آخر غير بشري‏.‏ وإلى أمر آخر غير أمر المخاليق‏.‏ ولا بد من الالتجاء إلى الألوهية القادرة على الإنشاء والإفناء لحل هذا اللغز الذي يعجز عنه كل الأحياء‏.‏

إننا لا نعرف شيئاً عن حقيقة الحياة وحقيقة الموت حتى اللحظة الحاضرة‏.‏ ولكننا ندرك مظاهرهما في الأحياء والأموات‏.‏ ونحن ملزمون أن نكل مصدر الحياة والموت إلى قوة ليست من جنس القوى التي نعرفها على الإطلاق‏.‏‏.‏ قوة الله‏.‏‏.‏

ومن ثم عرّف إبراهيم- عليه السلام- ربه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد، ولا يمكن أن يزعمها أحد، وقال وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية ويراه مصدر الحكم والتشريع غيره‏.‏‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏ربي الذي يحيى ويميت‏}‏ فهو من ثم الذي يحكم ويشرع‏.‏

وما كان إبراهيم- عليه السلام- وهو رسول موهوب تلك الموهبة اللدنية التي أشرنا إليها في مطلع هذا الجزء- ليعني من الأحياء والإماتة إلا إنشاء هاتين الحقيقتين إنشاء‏.‏ فذلك عمل الرب المتفرد الذي لا يشاركه فيه أحد من خلقه‏.‏ ولكن الذي حاج إبراهيم في ربه رأى في كونه حاكماً لقومه وقادراً على إنفاذ أمره فيهم بالحياة والموت مظهراً من مظاهر الربوبية‏.‏ فقال لإبراهيم‏:‏ أنا سيد هؤلاء القوم وأنا المتصرف في شأنهم، فأنا إذن الرب الذي يجب عليك أن تخضع له، وتسلم بحاكميته‏:‏

‏{‏قال‏:‏ أنا أحيي وأميت‏}‏ ‏!‏

عند ذلك لم يرد إبراهيم- عليه السلام- أن يسترسل في جدل حول معنى الإحياء والإماتة مع رجل يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة‏.‏ حقيقة منح الحياة وسلبها‏.‏ هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئاً‏.‏‏.‏ وعندئذ عدل عن هذه السنة الكونية الخفية، إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية؛ وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله‏:‏ ‏{‏ربي الذي يحيي ويميت‏}‏‏.‏

‏.‏ إلى طريقة التحدي، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويتعنت ويجادل في الله؛ ليريه أن الرب ليس حاكم قوم في ركن من الأرض، إنما هو مصرف هذا الكون كله‏.‏ ومن ربوبيته هذه للكون يتعين أن يكون هو رب الناس المشرع لهم‏:‏

‏{‏قال إبراهيم‏:‏ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب‏}‏‏.‏‏.‏

وهي حقيقة كونية مكرورة كذلك؛ تطالع الأنظار والمدارك كل يوم؛ ولا تتخلف مرة ولا تتأخر‏.‏ وهي شاهد يخاطب الفطرة- حتى ولو لم يعرف الإنسان شيئاً عن تركيب هذا الكون، ولم يتعلم شيئاً من حقائق الفلك ونظرياته- والرسالات تخاطب فطرة الكائن البشري في أية مرحلة من مراحل نموه العقلي والثقافي والاجتماعي، لتأخذ بيده من الموضع الذي هو فيه‏.‏ ومن ثم كان هذا التحدي الذي يخاطب الفطرة كما يتحدث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدل‏:‏

‏{‏فبهت الذي كفر‏}‏‏.‏‏.‏

فالتحدي قائم، والأمر ظاهر، ولا سبيل إلى سوء الفهم، أو الجدال والمراء‏.‏‏.‏ وكان التسليم أولى والإيمان أجدر‏.‏ ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق يمسك بالذي كفر، فيبهت ويبلس ويتحير‏.‏ ولا يهديه الله إلى الحق لأنه لم يتلمس الهداية، ولم يرغب في الحق؛ ولم يلتزم القصد والعدل‏:‏

‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

ويمضي هذا الجدل الذي عرضه الله على نبيه- صلى الله عليه وسلم- وعلى الجماعة المسلمة‏.‏ مثلاً للضلال والعناد؛ وتجربة يتزود بها أصحاب الدعوة الجدد في مواجهة المنكرين؛ وفي ترويض النفوس على تعنت المنكرين‏!‏

كذلك يمضي بتقرير تلك الحقائق التي تؤلف قاعدة التصور الإيماني الناصع‏:‏ ‏{‏ربي الذي يحيي ويميت‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏ حقيقة في الأنفس وحقيقة في الآفاق‏.‏ حقيقتان كونيتان هائلتان؛ وهما- مع ذلك- مكرورتان معروضتان للبصائر والأبصار آناء الليل وأطراف النهار‏.‏ لا تحتاجان إلى علم غزير، ولا إلى تفكير طويل‏.‏ فالله أرحم بعباده أن يكلهم في مسألة الإيمان به والاهتداء إليه، إلى العلم الذي قد يتأخر وقد يتعثر، وإلى التفكير الذي قد لا يتهيأ للبدائيين‏.‏ إنما يكلهم في هذا الأمر الحيوي الذي لا تستغني عنه فطرتهم، ولا تستقيم بدونه حياتهم، ولا ينتظم مع فقدانه مجتمعهم‏.‏‏.‏ ولا يعرف الناس بدونه من أين يتلقون شريعتهم وقيمهم وآدابهم‏.‏‏.‏ يكلهم في هذا الأمر إلى مجرد التقاء الفطرة بالحقائق الكونية المعروضة على الجميع، والتي تفرض نفسها فرضاً على الفطرة، فلا يحيد الإنسان عن إيحائها الملجيء إلا بعسر ومشقة ومحاولة ومحال وتعنت وعناد‏!‏

والشأن في مسألة الاعتقاد هو الشأن في كل أمر حيوي تتوقف عليه حياة الكائن البشري‏.‏ فالكائن الحي يبحث عن الطعام والشراب والهواء- كما يبحث عن التناسل والتكاثر- بحثاً فطرياً ولا يترك الأمر في هذه الحيويات حتى يكمل التفكير وينضج، أو حتى ينمو العلم ويغزر‏.‏

‏.‏ وإلا تعرضت حياة الكائن الحي إلى الدمار والبوار‏.‏‏.‏ والإيمان حيوي للإنسان حيوية الطعام والشراب والهواء سواء بسواء‏.‏ ومن ثم يكله الله فيه إلى تلاقي الفطرة بآياته المبثوثة في صفحات الكون كله في الأنفس والآفاق‏.‏

وفي سياق الحديث عن سر الموت والحياة تجيء القصة الأخرى‏:‏

‏{‏أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، قال‏:‏ أنى يحيي هذه الله بعد موتها‏؟‏ فأماته الله مائة عام، ثم بعثه‏.‏ قال‏:‏ كم لبثت‏؟‏ قال‏:‏ لبثت يوماً أو بعض يوم‏!‏ قال‏:‏ بل لبثت مائة عام‏.‏ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه؛ وانظر إلى حمارك- ولنجعلك آية للناس- وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً‏.‏ فلما تبين له قال‏:‏ أعلم أن الله على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏

من هو ‏{‏الذي مر على قرية‏}‏‏؟‏ ما هذه القرية التي مر عليها وهي خاوية على عروشها‏؟‏ إن القرآن لم يفصح عنهما شيئاً، ولو شاء الله لأفصح، ولو كانت حكمة النص لا تتحقق إلا بهذا الإفصاح ما أهمله في القرآن‏.‏ فلنقف نحن- على طريقتنا في هذه الظلال- عند تلك الظلال‏.‏ إن المشهد ليرتسم للحس قوياً واضحاً موحياً‏.‏ مشهد الموت والبلى والخواء‏.‏‏.‏ يرتسم بالوصف‏:‏ ‏{‏وهي خاوية على عروشها‏}‏‏.‏‏.‏ محطمة على قواعدها‏.‏ ويرتسم من خلال مشاعر الرجل الذي مر على القرية‏.‏ هذه المشاعر التي ينضح بها تعبيره‏:‏ ‏{‏أنى يحيي هذه الله بعد موتها‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن القائل ليعرف أن الله هناك‏.‏ ولكن مشهد البلى والخواء ووقعه العنيف في حسه جعله يحار‏:‏ كيف يحيي هذه الله بعد موتها‏؟‏ وهذا أقصى ما يبلغه مشهد من العنف والعمق في الإيحاء‏.‏‏.‏ وهكذا يلقي التعبير القرآني ظلاله وإيحاءاته، فيرسم المشهد كأنما هو اللحظة شاخص تجاه الأبصار والمشاعر‏.‏

‏{‏أنى يحيي هذه الله بعد موتها‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

كيف تدب الحياة في هذا الموات‏؟‏

‏{‏فأماته الله مائة عام‏.‏ ثم بعثه‏}‏‏.‏‏.‏

لم يقل له كيف‏.‏ إنما أراه في عالم الواقع كيف‏!‏ فالمشاعر والتأثرات تكون أحياناً من العنف والعمق بحيث لا تعالج بالبرهان العقلي، ولا حتى بالمنطق الوجداني؛ ولا تعالج كذلك بالواقع العام الذي يراه العيان‏.‏‏.‏ إنما يكون العلاج بالتجربة الشخصية الذاتية المباشرة، التي يمتلئ بها الحس، ويطمئن بها القلب، دون كلام‏!‏

‏{‏قال‏:‏ كم لبثت قال لبثت‏؟‏ يوماً أو بعض يوم‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

وما يدريه كم لبث والإحساس بالزمن لا يكون إلا مع الحياة والوعي‏؟‏ على أن الحس الإنساني ليس هو المقياس الدقيق للحقيقة؛ فهو يخدع ويضل؛ فيرى الزمن الطويل المديد قصيراً لملابسة طارئة؛ كما يرى اللحظة الصغيرة دهراً طويلاً لملابسة طارئة كذلك‏!‏

‏{‏قال‏:‏ بل لبثت مائة عام‏}‏‏.‏‏.‏

وتبعاً لطبيعة التجربة، وكونها تجربة حسية واقعية، نتصور أنه لا بد كانت هنالك آثار محسوسة تصور فعل مائة عام‏.‏

‏.‏ هذه الآثار المحسوسة لم تكن في طعام الرجل ولا شرابه، فلم يكونا آسنين متعفنين‏:‏

‏{‏فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه‏}‏‏.‏‏.‏

وإذن فلا بد أن هذه الآثار المحسوسة كانت متمثلة في شخصه أو في حماره‏:‏

‏{‏وانظر إلى حمارك- ولنجعلك آية للناس- وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً‏}‏‏.‏‏.‏

أية عظام‏؟‏ عظامه هو‏؟‏ لو كان الأمر كذلك- كما يقول بعض المفسرين إن عظامه هي التي تعرت من اللحم- للفت هذا نظره عندما استيقظ، ووخز حسه كذلك، ولما كانت إجابته‏:‏ ‏{‏لبثت يوماً أو بعض يوم‏}‏‏.‏

لذلك نرجح أن الحمار هو الذي تعرت عظامه وتفسخت‏.‏ ثم كانت الآية هي ضم هذه العظام بعضها إلى بعض وكسوتها باللحم وردها إلى الحياة‏.‏ على مرأى من صاحبه الذي لم يمسه البلى، ولم يصب طعامه ولا شرابه التعفن‏.‏ ليكون هذا التباين في المصائر والجميع في مكان واحد، معرضون لمؤثرات جوية وبيئية واحدة، آية أخرى على القدرة التي لا يعجزها شيء، والتي تتصرف مطلقة من كل قيد؛ وليدرك الرجل كيف يحيي هذه الله بعد موتها‏!‏

أما كيف وقعت الخارقة‏؟‏ فكما تقع كل خارقة‏!‏ كما وقعت خارقة الحياة الأولى‏.‏ الخارقة التي ننسى كثيراً أنها وقعت، وأننا لا ندري كيف وقعت‏!‏ ولا ندري كذلك كيف جاءت إلا أنها جاءت من عند الله بالطريق التي أرادها الله‏.‏‏.‏ وهذا «دارون» أكبر علماء الحياة يظل ينزل في نظريته بالحياة درجة درجة، ويتعمق أغوارها قاعاً قاعاً، حتى يردها إلى الخلية الأولى‏.‏‏.‏ ثم يقف بها هناك‏.‏ إنه يجهل مصدر الحياة في هذه الخلية الأولى‏.‏ ولكنه لا يريد أن يسلم بما ينبغي أن يسلم به الإدراك البشري، والذي يلح على المنطق الفطري إلحاحاً شديداً‏.‏ وهو أنه لا بد من واهب وهب الحياة لهذه الخلية الأولى‏.‏ لا يريد أن يسلم لأسباب ليست علمية وإنما هي تاريخية في صراعه مع الكنيسة‏!‏ فإذا به يقول‏:‏ «أن تفسير شؤون الحياة بوجود خالق يكون بمثابة ادخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت‏!‏»‏.‏‏.‏

أي وضع ميكانيكي‏!‏ إن الميكانيكية هي أبعد شيء عن هذا الأمر الذي يفرض على الإدراك فرضاً أن يبحث عن مصدر لهذا السر القائم تجاه الأبصار والبصائر‏!‏

وإنه- هو نفسه- ليجفل من ضغط المنطق الفطري، الذي يلجئ الإدراك البشري إلجاء إلى الاعتراف بما وراء الخلية الأولى، فيرجع كل شيء إلى «السبب الأول»‏!‏ ولا يقول‏:‏ ما هو هذا السبب الأول‏؟‏ ما هو هذا السبب الذي يملك إيجاد الحياة أول مرة، ثم يملك- حسب نظريته هو وهي محل نظر طويل- توجيه الخلية الأولى في طريقها الذي افترض هو أنها سارت فيه صعداً، دون أي طريق آخر غير الذي كان‏!‏ إنه الهروب والمراء والمحال‏!‏‏!‏‏!‏

ونعود إلى خارقة القرية لنسأل‏:‏ وما الذي يفسر أن ينال البلى شيئاً ويترك شيئاً في مكان واحد وفي ظروف واحدة‏؟‏ إن خارقة خلق الحياة أول مرة أو خارقة رجعها كذلك لا تفسر هذا الاختلاف في مصائر أشياء ذات ظروف واحدة‏.‏

إن الذي يفسر هذه الظاهرة هو طلاقة المشيئة‏.‏‏.‏ طلاقتها من التقيد بما نحسبه نحن قانوناً كلياً لازماً ملزماً لا سبيل إلى مخالفته أو الاستثناء منه‏!‏ وحسباننا هذا خطأ بالقياس إلى المشيئة المطلقة‏:‏ خطأ منشؤه أننا نفرض تقديراتنا نحن ومقرراتنا العقلية أو «العلمية‏!‏» على الله سبحانه‏!‏ وهو خطأ يتمثل في أخطاء كثيرة‏:‏

فأولاً‏:‏ ما لنا نحن نحاكم القدرة المطلقة إلى قانون نحن قائلوه‏؟‏ قانون مستمد من تجاربنا المحدودة الوسائل، ومن تفسيرنا لهذه التجارب ونحن محدودو الإدراك‏؟‏

وثانياً‏:‏ فهبه قانوناً من قوانين الكون أدركناه‏.‏ فمن ذا الذي قال لنا‏:‏ إنه قانون نهائي كلي مطلق، وأن ليس وراءه قانون سواه‏؟‏

وثالثاً‏:‏ هبه كان قانوناً نهائياً مطلقاً‏.‏ فالمشيئة الطليقة تنشئ القانون ولكنها ليست مقيدة به‏.‏‏.‏ إنما هو الاختيار في كل حال‏.‏

وكذلك تمضي هذه التجربة، فتضاف إلى رصيد أصحاب الدعوة الجدد، وإلى رصيد التصور الإيماني الصحيح‏.‏ وتقرر- إلى جانب حقيقة الموت والحياة وردهما إلى الله- حقيقة أخرى هي التي أشرنا إليها قريباً‏.‏ حقيقة طلاقة المشيئة، التي يعنى القرآن عناية فائقة بتقريرها في ضمائر المؤمنين به، لتتعلق بالله مباشرة، من وراء الأسباب الظاهرة، والمقدمات المنظورة‏.‏ فالله فعال لما يريد‏.‏ وهكذا قال الرجل الذي مرت به التجربة‏:‏

‏{‏فلما تبين له، قال أعلم أن الله على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏

ثم تجيء التجربة الثالثة‏.‏ تجربة إبراهيم أقرب الأنبياء إلى أصحاب هذا القرآن‏:‏

‏{‏وإذ قال إبراهيم‏:‏ رب أرني كيف تحيي الموتى‏.‏ قال‏:‏ أو لم تؤمن‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏!‏ ولكن ليطمئن قلبي‏.‏ قال‏:‏ فخذ أربعة من الطير، فصرهن إليك، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً، ثم ادعهن يأتينك سعياً، واعلم أن الله عزيز حكيم‏}‏‏.‏‏.‏

إنه التشوف إلى ملابسة سر الصنعة الإلهية‏.‏ وحين يجيء هذا التشوف من إبراهيم الأواه الحليم، المؤمن الراضي الخاشع العابد القريب الخليل‏.‏‏.‏ حين يجيء هذا التشوف من إبراهيم فإنه يكشف عما يختلج أحياناً من الشوق والتطلع لرؤية أسرار الصنعة الإلهية في قلوب أقرب المقربين‏!‏

إنه تشوف لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره؛ وليس طلباً للبرهان أو تقوية للإيمان‏.‏‏.‏ إنما هو أمر آخر‏.‏‏.‏ له مذاق آخر إنه أمر الشوق الروحي، إلى ملابسة السر الإلهي، في أثناء وقوعه العملي‏.‏ ومذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب ولو كان هو إيمان إبراهيم الخليل، الذي يقول لربه، ويقول له ربه‏.‏

وليس وراء هذا إيمان، ولا برهان للإيمان‏.‏ ولكنه أراد أن يرى يد القدرة وهي تعمل؛ ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيستروح بها، ويتنفس في جوها، ويعيش معها‏.‏‏.‏ وهي أمر آخر غير الإيمان الذي ليس بعده إيمان‏.‏

وقد كشفت التجربة والحوار الذي حكي فيها عن تعدد المذاقات الإيمانية في القلب الذي يتشوف إلى هذه المذاقات ويتطلع‏:‏

‏{‏وإذ قال إبراهيم‏:‏ رب أرني كيف تحيي الموتى‏.‏ قال‏:‏ أو لم تؤمن‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏!‏ ولكن ليطمئن قلبي‏}‏‏.‏‏.‏

لقد كان ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد الله تعمل؛ واطمئنان التذوق للسر المحجب وهو يجلى ويتكشف‏.‏ ولقد كان الله يعلم إيمان عبده وخليله‏.‏ ولكنه سؤال الكشف والبيان، والتعريف بهذا الشوق وإعلانه، والتلطف من السيد الكريم الودود الرحيم، مع عبده الأواه الحليم المنيب‏!‏

ولقد استجاب الله لهذ الشوق والتطلع في قلب إبراهيم، ومنحه التجربة الذاتية المباشرة‏:‏

‏{‏قال‏:‏ فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك؛ ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً؛ ثم ادعهن يأتينك سعياً‏.‏ واعلم أن الله عزيز حكيم‏}‏‏.‏‏.‏

لقد أمره أن يختار أربعة من الطير، فيقربهن منه ويميلهن إليه، حتى يتأكد من شياتهن ومميزاتهن التي لا يخطئ معها معرفتهن‏.‏ وأن يذبحهن ويمزق أجسادهن، ويفرق أجزاءهن على الجبال المحيطة‏.‏ ثم يدعوهن‏.‏ فتتجمع أجزاؤهن مرة أخرى، وترتد إليهن الحياة، ويعدن إليه ساعيات‏.‏‏.‏ وقد كان طبعاً‏.‏‏.‏

ورأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه‏.‏ وهو السر الذي يقع في كل لحظة‏.‏ ولا يرى الناس إلا آثاره بعد تمامه‏.‏ إنه سر هبة الحياة‏.‏ الحياة التي جاءت أول مرة بعد أن لم تكن؛ والتي تنشأ مرات لا حصر لها في كل حي جديد‏.‏

رأى إبراهيم هذا السر يقع بين يديه‏.‏‏.‏ طيور فارقتها الحياة، وتفرقت مزقها في أماكن متباعدة‏.‏ تدب فيها الحياة مرة أخرى، وتعود إليه سعياً‏!‏

كيف‏؟‏ هذا هو السر الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه‏.‏ إنه قد يراه كما رآه إبراهيم‏.‏ وقد يصدق به كما يصدق به كل مؤمن‏.‏ ولكنه لا يدرك طبيعته ولا يعرف طريقته‏.‏ إنه من أمر الله‏.‏ والناس لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء‏.‏ وهو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه، لأنه أكبر منهم، وطبيعته غير طبيعتهم‏.‏ ولا حاجة لهم به في خلافتهم‏.‏

إنه الشأن الخاص للخالق‏.‏ الذي لا تتطاول إليه أعناق المخلوقين‏.‏ فإذا تطاولت لم تجد إلا الستر المسدل على السر المحجوب‏.‏ وضاعت الجهود سدى، جهود من لا يترك الغيب المحجوب لعلام الغيوب‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏261- 274‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏261‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏262‏)‏ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ‏(‏263‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏264‏)‏ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏265‏)‏ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏266‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏267‏)‏ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏268‏)‏ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏269‏)‏ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏270‏)‏ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏271‏)‏ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏272‏)‏ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏273‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏274‏)‏‏}‏

كانت الدروس الثلاثة الماضية في هذا الجزء تدور- في جملتها- حول إنشاء بعض قواعد التصور الإيماني؛ وإيضاح هذا التصور؛ وتعميق جذوره في نواح شتى‏.‏ وكان هذا محطاً في خط السورة الطويلة؛ التي تعالج- كما أسلفنا- إعداد الجماعة المسلمة للنهوض بتكاليف دورها في قيادة البشرية‏.‏

ومنذ الآن إلى قرب نهاية السورة يتعرض السياق لإقامة قواعد النظام الاقتصادي الاجتماعي الذي يريد الإسلام أن يقوم عليها المجتمع المسلم؛ وأن تنظم بها حياة الجماعة المسلمة‏.‏ إنه نظام التكافل والتعاون الممثل في الزكاة المفروضة والصدقات المتروكة للتطوع‏.‏ وليس النظام الربوي الذي كان سائداً في الجاهلية‏.‏ ومن ثم يتحدث عن آداب الصدقة‏.‏ ويلعن الربا، ويقرر أحكام الدين والتجارة في الدروس الآتية في السورة‏.‏ وهي تكون في مجموعها جانباً أساسياً من نظام الاقتصاد الإسلامي والحياة الاجتماعية التي تقوم عليها‏.‏ وبين الدروس الثلاثة الآتية صلة وثيقة فهي ذات موضوع واحد متشعب الأطراف‏.‏‏.‏ موضوع النظام الاقتصادي الإسلامي‏.‏

وفي هذا الدرس نجد الحديث عن تكليف البذل والإنفاق، ودستور الصدقة والتكافل‏.‏ والإنفاق في سبيل الله هو صنو الجهاد الذي فرضه الله على الأمة المسلمة، وهو يكلفها النهوض بأمانة الدعوة إليه، وحماية المؤمنين به، ودفع الشر والفساد والطغيان، وتجريده من القوة التي يسطو بها على المؤمنين، ويفسد بها في الأرض، ويصد بها عن سبيل الله، ويحرم البشرية ذلك الخير العظيم الذي يحمله إليها نظام الإسلام، والذي يعد حرمانها منه جريمة فوق كل جريمة، واعتداء أشد من الاعتداء على الأرواح والأموال‏.‏

ولقد تكررت الدعوة إلى الإنفاق في السورة‏.‏ فالآن يرسم السياق دستور الصدقة في تفصيل وإسهاب‏.‏ يرسم هذا الدستور مظللاً بظلال حبيبة أليفة؛ ويبين آدابها النفسية والاجتماعية‏.‏ الآداب التي تحول الصدقة عملاً تهذيبياً لنفس معطيها؛ وعملاً نافعاً مربحاً لآخذيها؛ وتحوّل المجتمع عن طريقها إلى أسرة يسودها التعاون والتكافل، والتواد والتراحم؛ وترفع البشرية إلى مستوى كريم‏:‏ المعطي فيه والآخذ على السواء‏.‏

ومع أن التوجيهات التي وردت في هذا الدرس تعد دستوراً دائماً غير مقيد بزمن ولا بملابسات معينة، إلا أنه لا يفوتنا أن نلمح من ورائه أنه جاء تلبية لحالات واقعة كانت النصوص تواجهها في الجماعة المسلمة يومذاك- كما أنها يمكن أن تواجهها في أي مجتمع مسلم فيما بعد- وأنه كانت هناك نفوس شحيحة ضنينة بالمال تحتاج إلى هذه الإيقاعات القوية، والإيحاءات المؤثرة؛ كما تحتاج إلى ضرب الأمثال، وتصوير الحقائق في مشاهد ناطقة كيما تبلغ إلى الأعماق‏!‏

كان هناك من يضن بالمال‏.‏ فلا يعطيه إلا بالربا‏.‏ وكان هناك من ينفقه كارهاً أو مرائياً‏.‏ وكان هناك من يتبع النفقة بالمن والأذى وكان هناك من يقدم الرديء من ماله ويحتجز الجيد‏.‏

‏.‏ وكل هؤلاء إلى جانب المنفقين في سبيل الله مخلصين له، الذين يجودون بخير أموالهم، وينفقون سراً في موضع السر وعلانية في موضع العلانية في تجرد وإخلاص ونقاء‏.‏‏.‏

كان هؤلاء وكان أولئك في الجماعة المسلمة حينذاك‏.‏ وإدراك هذه الحقيقة يفيدنا فوائد كثيرة‏.‏‏.‏

يفيدنا أولاً في إدراك طبيعة هذا القرآن ووظيفته‏.‏ فهو كائن حي متحرك‏.‏ ونحن نراه في ظل هذه الوقائع يعمل ويتحرك في وسط الجماعة المسلمة؛ ويواجه حالات واقعة فيدفع هذه ويقر هذه؛ ويدفع الجماعة المسلمة ويوجهها‏.‏ فهو في عمل دائب، وفي حركة دائبة‏.‏‏.‏ إنه في ميدان المعركة وفي ميدان الحياة‏.‏‏.‏ وهو العنصر الدافع المحرك الموجه في الميدان‏!‏

ونحن أحوج ما نكون إلى الإحساس بالقرآن على هذا النحو؛ وإلى رؤيته كائناً حياً متحركاً دافعاً‏.‏ فقد بعد العهد بيننا وبين الحركة الإسلامية والحياة الإسلامية والواقع الإسلامي؛ وانفصل القرآن في حسنا عن واقعه التاريخي الحي؛ ولم يعد يمثل في حسنا تلك الحياة التي وقعت يوماً ما على الأرض، في تاريخ الجماعة المسلمة؛ ولم نعد نذكر أنه كان في أثناء تلك المعركة المستمرة هو «الأمر اليومي» للمسلم المجند؛ وهو التوجيه الذي يتلقاه للعمل والتنفيذ‏.‏‏.‏ مات القرآن في حسنا‏.‏‏.‏ أو نام‏.‏‏.‏ ولم تعد له تلك الصورة الحقيقية التي كانت له عند نزوله في حس المسلمين‏.‏ ودرجنا على أن نتلقاه إما ترتيلاً منغماً نطرب له، أو نتأثر التأثر الوجداني الغامض السارب‏!‏ وإما أن نقرأه أوراداً أقصى ما تصنع في حس المؤمنين الصادقين منا أن تنشئ في القلب حالة من الوجد أو الراحة أو الطمأنينة المبهمة المجملة‏.‏‏.‏ والقرآن ينشئ هذا كله‏.‏ ولكن المطلوب- إلى جانب هذا كله- أن ينشئ في المسلم وعياً وحياة‏.‏ نعم المطلوب أن ينشئ حالة وعي يتحرك معها القرآن حركة الحياة التي جاء لينشئها‏.‏ المطلوب أن يراه المسلم في ميدان المعركة التي خاضها، والتي لا يزال مستعداً لأن يخوضها في حياة الأمة المسلمة‏.‏ المطلوب أن يتوجه إليه المسلم ليسمع منه ماذا ينبغي أن يعمل- كما كان المسلم الأول يفعل- وليدرك حقيقة التوجيهات القرآنية فيما يحيط به اليوم من أحداث ومشكلات وملابسات شتى في الحياة؛ وليرى تاريخ الجماعة المسلمة ممثلاً في هذا القرآن، متحركاً في كلماته وتوجيهاته؛ فيحس حينئذ أن هذا التاريخ ليس غريباً عنه‏.‏ فهو تاريخه‏.‏ وواقعه اليوم هو امتداد لهذا التاريخ‏.‏ وما يصادفه اليوم من أحداث هو ثمرة لما صادف أسلافه، مما كان القرآن يوجههم إلى التصرف فيه تصرفاً معيناً‏.‏ ومن ثم يحس أن هذا القرآن قرآنه هو كذلك‏.‏ قرآنه الذي يستثيره فيما يعرض له من أحداث وملابسات؛ وأنه هو دستور تصوره وتفكيره وحياته وتحركاته الآن وبعد الآن بلا انقطاع‏.‏

ويفيدنا ثانياً في رؤية حقيقة الطبيعة البشرية الثابتة المطردة تجاه دعوة الإيمان وتكاليفها‏.‏ رؤيتها رؤية واقعية من خلال الواقع الذي تشير إليه الآيات القرآنية في حياة الجماعة المسلمة الأولى‏.‏‏.‏ فهذه الجماعة التي كان يتنزل عليها القرآن، ويتعهدها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان فيها بعض مواضع الضعف والنقص التي تقتضي الرعاية والتوجيه والإيحاء المستمر ولم يمنعها هذا أن تكون خير الأجيال جميعاً‏.‏‏.‏ وإدراك هذه الحقيقية ينفعنا‏.‏ ينفعنا لأنه يرينا حقيقة الجماعات البشرية بلا غلو ولا مبالغة ولا هالات ولا تصورات مجنحة‏!‏ وينفعنا لأنه يدفع عن نفوسنا اليأس من أنفسنا حين نرى أننا لم نبلغ تلك الآفاق التي يرسمها الإسلام ويدعو الناس إلى بلوغها‏.‏ فيكفي أن نكون في الطريق، وأن تكون محاولتنا مستمرة ومخلصة للوصول‏.‏‏.‏ وينفعنا في إدراك حقيقة أخرى‏:‏ وهي أن الدعوة إلى الكمال يجب أن تلاحق الناس، ولا تفتر ولا تني ولا تيئس إذا ظهرت بعض النقائص والعيوب‏.‏ فالنفوس هكذا‏.‏ وهي ترتفع رويداً رويداً بمتابعة الهتاف لها بالواجب، ودعوتها إلى الكمال المنشود، وتذكيرها الدائم بالخير، وتجميل الخير لها وتقبيح الشر، وتنفيرها من النقص والضعف، والأخذ بيدها كلما كبتْ في الطريق وكلما طال بها الطريق‏!‏

ويفيدنا ثالثاً في الاستقرار إلى هذه الحقيقة البسيطة التي كثيراً ما نغفل عنها وننساها‏:‏ وهي أن الناس هم الناس؛ والدعوة هي الدعوة؛ والمعركة هي المعركة‏.‏‏.‏ إنها أولاً وقبل كل شيء معركة مع الضعف والنقص والشح والحرص في داخل النفس ثم هي معركة مع الشر والباطل والضلال والطغيان في واقع الحياة‏.‏ والمعركة بطرفيها لا بد من خوضها‏.‏ ولا بد للقائمين على الجماعة المسلمة في الأرض من مواجهتها بطرفيها كما واجهها القرآن أول مرة وواجهها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا بد من الأخطاء والعثرات‏.‏ ولا بد من ظهور الضعف والنقص في مراحل الطريق؛ ولا بد من المضي أيضاً في علاج الضعف والنقص كلما أظهرتهما الأحداث والتجارب‏.‏ ولا بد من توجيه القلوب إلى الله بالأساليب التي اتبعها القرآن في التوجيه‏.‏‏.‏ وهنا نرجع إلى أول الحديث‏.‏ نرجع إلى استشارة القرآن في حركات حياتنا وملابساتها‏.‏ وإلى رؤيته يعمل ويتحرك في مشاعرنا وفي حياتنا كما كان يعمل ويتحرك في حياة الجماعة الأولى‏.‏‏.‏

والآن نواجه النصوص القرآنية في هذا الدرس تفصيلاً‏:‏

‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة‏.‏ والله يضاعف لمن يشاء‏.‏ والله واسع عليم‏}‏‏.‏‏.‏

إن الدستور لا يبدأ بالفرض والتكليف؛ إنما يبدأ بالحض والتأليف‏.‏‏.‏ إنه يستجيش المشاعر والانفعالات الحية في الكيان الإنساني كله‏.‏‏.‏ إنه يعرض صورة من صور الحياة النابضة النامية المعطية الواهبة‏:‏ صورة الزرع‏.‏ هبة الأرض أو هبة الله‏.‏ الزرع الذي يعطي أضعاف ما يأخذه، ويهب غلاته مضاعفة بالقياس إلى بذوره‏.‏

يعرض هذه الصورة الموحية مثلا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله‏:‏

‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة‏}‏‏.‏‏.‏

إن المعنى الذهني للتعبير ينتهي إلى عملية حسابية تضاعف الحبة الواحدة إلى سبعمائة حبة‏!‏ أما المشهد الحي الذي يعرضه التعبير فهو أوسع من هذا وأجمل؛ وأكثر استجاشة للمشاعر، وتأثيراً في الضمائر‏.‏‏.‏ إنه مشهد الحياة النامية‏.‏ مشهد الطبيعة الحية‏.‏ مشهد الزرعة الواهبة‏.‏ ثم مشهد العجيبة في عالم النبات‏:‏ العود الذي يحمل سبع سنابل‏.‏ والسنبلة التي تحوي مائة حبة‏!‏

وفي موكب الحياة النامية الواهبة يتجه بالضمير البشري إلى البذل والعطاء‏.‏ إنه لا يعطي بل يأخذ؛ وإنه لا ينقص بل يزاد‏.‏‏.‏ وتمضي موجة العطاء والنماء في طريقها‏.‏ تضاعف المشاعر التي استجاشها مشهد الزرع والحصيلة‏.‏‏.‏ إن الله يضاعف لمن يشاء‏.‏ يضاعف بلا عدة ولا حساب‏.‏ يضاعف من رزقه الذي لا يعلم أحد حدوده ‏;‏ ومن رحمته التي لا يعرف أحد مداها‏:‏

‏{‏والله واسع عليم‏}‏‏:‏

واسع‏.‏‏.‏ لا يضيق عطاؤه ولا يكف ولا ينضب‏.‏ عليم‏.‏‏.‏ يعلم بالنوايا ويثبت عليها، ولا تخفى عليه خافية‏.‏ ولكن أي إنفاق هذا الذي ينمو ويربو‏؟‏ وأي عطاء هذا الذي يضاعفه الله في الدنيا والآخرة لمن يشاء‏؟‏

إنه الإنفاق الذي يرفع المشاعر الإنسانية ولا يشوبها‏.‏ الإنفاق الذي لا يؤذي كرامة ولا يخدش شعوراً‏.‏ الإنفاق الذي ينبعث عن أريحية ونقاء، ويتجه إلى الله وحده ابتغاء رضاه‏:‏

‏{‏الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى، لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏‏.‏‏.‏

والمن عنصر كريه لئيم، وشعور خسيس واطٍ‏.‏ فالنفس البشرية لا تمن بما أعطت إلا رغبة في الاستعلاء الكاذب، أو رغبة في إذلال الآخذ، أو رغبة في لفت أنظار الناس‏.‏ فالتوجه إذن للناس لا لله بالعطاء‏.‏‏.‏ وكلها مشاعر لا تجيش في قلب طيب، ولا تخطر كذلك في قلب مؤمن‏.‏‏.‏ فالمن- من ثم- يحيل الصدقة أذى للواهب وللآخذ سواء‏.‏ أذى للواهب بما يثير في نفسه من كبر وخيلاء؛ ورغبة في رؤية أخيه ذليلاً له كسيراً لديه؛ وبما يملأ قلبه بالنفاق والرياء والبعد من الله‏.‏‏.‏ وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام، ومن رد فعل بالحقد والانتقام‏.‏‏.‏ وما أراد الإسلام بالإنفاق مجرد سد الخلة، وملء البطن، وتلافي الحاجة‏.‏‏.‏ كلا‏!‏ إنما أراده تهذيباً وتزكية وتطهيراً لنفس المعطي؛ واستجاشة لمشاعره الإنسانية وارتباطه بأخيه الفقير في الله وفي الإنسانية؛ وتذكيراً له بنعمة الله عليه وعهده معه في هذه النعمة أن يأكل منها في غير سرف ولا مخيلة، وأن ينفق منها ‏{‏في سبيل الله‏}‏ في غير منع ولا من‏.‏

كما أراده ترضية وتندية لنفس الآخذ، وتوثيقاً لصلته بأخيه في الله وفي الإنسانية؛ وسداً لخلة الجماعة كلها لتقوم على أساس من التكافل والتعاون يذكرها بوحدة قوامها ووحدة حياتها ووحدة اتجاهها ووحدة تكاليفها‏.‏ والمن يذهب بهذا كله، ويحيل الإنفاق سماً وناراً‏.‏ فهو أذى وإن لم يصاحبه أذى آخر باليد أو باللسان‏.‏ هو أذى في ذاته يمحق الإنفاق، ويمزق المجتمع، ويثير السخائم والأحقاد‏.‏

وبعض الباحثين النفسيين في هذه الأيام يقررون أن رد الفعل الطبيعي في النفس البشرية للإحسان هو العداء في يوم من الأيام‏!‏

وهم يعللون هذا بأن الآخذ يحس بالنقص والضعف أمام المعطي؛ ويظل هذا الشعور يحز في نفسه؛ فيحاول الاستعلاء عليه بالتجهم لصاحب الفضل عليه وإضمار العداوة له؛ لأنه يشعر دائماً بضعفه ونقصه تجاهه؛ ولأن المعطي يريد منه دائماً أن يشعر بأنه صاحب الفضل عليه‏!‏ وهو الشعور الذي يزيد من ألم صاحبه حتى يتحول إلى عداء‏!‏

وقد يكون هذ كله صحيحاً في المجتمعات الجاهلية- وهي المجتمعات التي لا تسودها روح الإسلام ولا يحكمها الإسلام- أما هذا الدين فقد عالج المشكلة على نحو آخر‏.‏ عالجها بأن يقرر في النفوس أن المال مال الله؛ وأن الرزق الذي في أيدي الواجدين هو رزق الله‏.‏‏.‏ وهي الحقيقة التي لا يجادل فيها إلا جاهل بأسباب الرزق البعيدة والقريبة، وكلها منحة من الله لا يقدر الإنسان منها على شيء‏.‏ وحبة القمح الواحدة قد اشتركت في إيجادها قوى وطاقات كونية من الشمس إلى الأرض إلى الماء إلى الهواء‏.‏ وكلها ليست في مقدور الإنسان‏.‏‏.‏ وقس على حبة القمح نقطة الماء وخيط الكساء وسائر الأشياء‏.‏‏.‏ فإذا أعطى الواجد من ماله شيئا فإنما من مال الله أعطى؛ وإذا أسلف حسنة فإنما هي قرض لله يضاعفه له أضعافاً كثيرة‏.‏ وليس المحروم الآخذ إلا أداة وسبباً لينال المعطي الواهب أضعاف ما أعطى من مال الله‏!‏ ثم شرع هذه الآداب التي نحن الآن بصددها، توكيداً لهذا المعنى في النفوس، حتى لا يستعلي معط ولا يتخاذل آخذ‏.‏ فكلاهما آكل من رزق الله‏.‏ وللمعطين أجرهم من الله إذا هم أعطوا من مال الله في سبيل الله؛ متأدبين بالأدب الذي رسمه لهم، متقيدين بالعهد الذي عاهدهم عليه‏:‏

‏{‏ولا خوف عليهم‏}‏‏.‏‏.‏

من فقر ولا من حقد ولا من غبن‏.‏‏.‏

‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏‏.‏‏.‏

على ما أنفقوا في الدنيا، ولا على مصيرهم في الآخرة‏.‏

وتوكيداً للمعنى الذي سلف من حكمة الإنفاق والبذل‏.‏ توكيداً لأن الغرض هو تهذيب النفوس، وترضية القلوب، وربط الواهب والآخذ برباط الحب في الله‏.‏‏.‏ يقول في الآية التالية‏:‏

‏{‏قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى‏.‏ والله غني حليم‏}‏‏.‏‏.‏

فيقرر أن الصدقة التي يتبعها الأذى لا ضرورة لها‏!‏ وأولى منها كلمة طيبة وشعور سمح‏.‏

كلمة طيبة تضمد جراح القلوب، وتفعمها بالرضى والبشاشة‏.‏ ومغفرة تغسل أحقاد النفوس وتحل محلها الإخاء والصداقة‏.‏ فالقول المعروف والمغفرة في هذه الحالة يؤديان الوظيفة الأولى للصدقة‏:‏ من تهذيب النفوس وتأليف القلوب‏.‏

ولأن الصدقة ليست تفضلاً من المانح على الآخذ، إنما هي قرض لله‏.‏‏.‏ عقب على هذا بقوله‏:‏

‏{‏والله غني حليم‏}‏‏.‏‏.‏

غني عن الصدقة المؤذية‏.‏ حليم يعطي عباده الرزق فلا يشكرون، فلا يعجلهم بالعقاب ولا يبادرهم بالإيذاء؛ وهو معطيهم كل شيء، ومعطيهم وجودهم ذاته قبل أن يعطيهم أي شيء- فليتعلم عباده من حلمه- سبحانه- فلا يعجلوا بالأذى والغضب على من يعطونهم جزءاً مما أعطاه الله لهم‏.‏ حين لا يروقهم منهم أمر، أولا ينالهم منهم شكر‏!‏

وما يزال هذا القرآن يذكر الناس بصفة الله سبحانه ليتأدبوا منها بما يطيقون؛ وما يزال أدب المسلم تطلعاً لصفة ربه، وارتقاء في مصاعدها، حتى ينال منها ما هو مقسوم له، مما تطيقه طبيعته‏.‏

وعندما يصل التأثر الوجداني غايته‏.‏‏.‏ بعد استعراض مشهد الحياة النامية الواهبة مثلاً للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، دون أن يتبعوا ما أنفقوا منا ولا أذى، وبعد التلويح بأن الله غني عن ذلك النوع المؤذي من الصدقة، وأنه وهو الواهب الرازق لا يعجل بالغضب والأذى‏.‏‏.‏ عندما يصل التأثر الوجداني غايته بهذا وذاك، يتوجه بالخطاب إلى الذين آمنوا ألا يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى، ويرسم لهم مشهداً عجيباً- أو مشهدين عجيبين يتسقان مع المشهد الأول‏.‏ مشهد الزرع والنماء‏.‏ ويصوران طبيعة الإنفاق الخالص لله، والإنفاق المشوب بالمن والأذى‏.‏ على طريقة التصوير الفني في القرآن، التي تعرض المعنى صورة، والأثر حركة، والحالة مشهداً شاخصاً للخيال‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كالذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فمثله كمثل صفوان عليه تراب، فأصابه وابل، فتركه صلداً؛ لا يقدرون على شيء مما كسبوا، والله لا يهدي القوم الكافرين‏.‏ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة‏.‏ أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين؛ فإن لم يصبها وابل فطل، والله بما تعملون بصير‏}‏‏.‏‏.‏

هذا هو المشهد الأول‏.‏‏.‏

مشهد كامل مؤلف من منظرين متقابلين شكلاً ووضعاً وثمرة‏.‏ وفي كل منظر جزئيات، يتسق بعضها مع بعض من ناحية فن الرسم وفن العرض؛ ويتسق كذلك مع ما يمثله من المشاعر والمعاني التي رسم المنظر كله لتمثيلها وتشخيصها وإحيائها‏.‏

نحن في المنظر الأول أمام قلب صلد‏:‏

‏{‏كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏‏.‏‏.‏

فهو لا يستشعر نداوة الإيمان وبشاشته‏.‏ ولكنه يغطي هذه الصلادة بغشاء من الرياء‏.‏

هذا القلب الصلد المغشى بالرياء يمثله ‏{‏صفوان عليه تراب‏}‏ حجر لا خصب فيه ولا ليونة، يغطيه تراب خفيف يحجب صلادته عن العين، كما أن الرياء يحجب صلادة القلب الخالي من الإيمان‏.‏

‏{‏فأصابه وابل فتركه صلداً‏}‏‏.‏‏.‏

وذهب المطر الغزير بالتراب القليل‏!‏ فانكشف الحجر بجدبه وقساوته، ولم ينبت زرعه، ولم يثمر ثمرة‏.‏‏.‏ كذلك القلب الذي أنفق ماله رئاء الناس، فلم يثمر خيراً ولم يعقب مثوبة‏!‏

أما المنظر الثاني المقابل له في المشهد‏.‏‏.‏ فقلب عامر بالإيمان، ندي ببشاشته‏.‏ ينفق ماله ‏{‏ابتغاء مرضاة الله‏}‏‏.‏‏.‏ وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير، نابعة من الإيمان، عميقة الجذور في الضمير‏.‏‏.‏ وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء يمثله صفوان صلد عليه غشاء من التراب، فالقلب المؤمن تمثله جنة‏.‏ جنة خصبة عميقة التربة في مقابل حفنة التراب على الصفوان‏.‏ جنة تقوم على ربوة في مقابل الحجر الذي تقوم عليه حفنة التراب‏!‏ ليكون المنظر متناسق الأشكال‏!‏ فإذا جاء الوابل لم يذهب بالتربة الخصبة هنا كما ذهب بغشاء التراب هناك‏.‏ بل أحياها وأخصبها ونماها‏.‏‏.‏

‏{‏فأصابها وابل فآتت أكلها ضعفين‏}‏‏.‏‏.‏

أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن فيزكو ويزداد صلة بالله، ويزكو ماله كذلك ويضاعف له الله ما يشاء‏.‏ وكما تزكو حياة الجماعة المسلمة بالإنفاق وتصلح وتنمو‏:‏

‏{‏فإن لم يصبها وابل‏}‏‏.‏‏.‏ غزير‏.‏‏.‏ ‏{‏فطل‏}‏ من الرذاذ يكفي في التربة الخصبة ويكفي منه القليل‏!‏

إنه المشهد الكامل، المتقابل المناظر، المنسق الجزئيات، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء، الممثل بمناظره الشاخصة لكل خالجة في القلب وكل خاطرة، المصور للمشاعر والوجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات، الموحي للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب‏.‏‏.‏

ولما كان المشهد مجالاً للبصر والبصيرة من جانب، ومرد الأمر فيه كذلك إلى رؤية الله ومعرفته بما وراء الظواهر، جاء التعقيب لمسة للقلوب‏:‏

‏{‏والله بما تعملون بصير‏}‏‏.‏‏.‏

فأما المشهد الثاني فتمثيل لنهاية المن والأذى، كيف يمحق آثار الصدقة محقاً في وقت لا يملك صاحبها قوة ولا عوناً ولا يستطيع لذلك المحق رداً تمثيل لهذه النهاية البائسة في صورة موحية عنيفة الإيحاء‏.‏ كل ما فيها عاصف بعد أمن ورخاء‏:‏

‏{‏أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات، وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت‏؟‏ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون‏}‏‏.‏‏.‏

هذه الصدقة في أصلها وفي آثارها تمثل في عالم المحسوسات‏:‏

‏{‏جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات‏}‏‏.‏‏.‏

إنها ظليلة وارفة مخصبة مثمرة‏.‏‏.‏ وكذلك الصدقة في طبيعتها وفي آثارها‏.‏‏.‏ كذلك هي في حياة المعطي وفي حياة الآخذ وفي حياة الجماعة الإنسانية‏.‏ كذلك هي ذات روح وظل، وذات خير وبركة، وذات غذاء وري، وذات زكاة ونماء‏!‏

فمن ذا الذي يود أن تكون له هذه الجنة- أو هذه الحسنة- ثم يرسل عليها المن والأذى يمحقها محقاً، كما يمحق الجنة الإعصار فيه نار‏؟‏

ومتى‏؟‏ في أشد ساعاته عجزاً عن إنقاذها، وحاجة إلى ظلها ونعمائها‏!‏

‏{‏وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء‏.‏

فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت‏}‏‏.‏‏.‏

من ذا الذي يود هذا‏؟‏ ومن ذا الذي يفكر في ذلك المصير ثم لا يتقيه‏؟‏

‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا يقوم المشهد الحي الشاخص، بما فيه أول الأمر من رضى ورفه ومتعة؛ وما فيه من نضارة وروح وجمال‏.‏ ثم بما يعصف به عصفاً من إعصار فيه نار‏.‏‏.‏ يقوم هذا المشهد العجيب بالإيحاء الشعوري الرعيب الذي لا يدع مجالاً للتردد في الاختيار، قبل أن تذهب فرصة الاختيار، وقبل أن يصيب الجنة الوارفة الظليلة المثمرة إعصار فيه نار‏!‏

وبعد فإن التناسق الدقيق الجميل الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة، وفي طريقة عرضه وتنسيقه‏.‏‏.‏‏.‏ هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى‏.‏ بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد متجمعة من بدئها في هذا الدرس إلى منتهاها‏.‏‏.‏ إنها جميعاً تعرض في محيط متجانس‏.‏ محيط زراعي‏!‏ حبة أنبتت سبع سنابل‏.‏ صفوان عليه تراب فأصابه وابل‏.‏ جنة بربوة فآتت أكلها ضعفين جنة من نخيل وأعناب‏.‏‏.‏ حتى الوابل والطل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة لم يخل منها محيط العرض الفني المثير‏.‏

وهي الحقيقة الكبيرة وراء العرض الفني المثير‏.‏‏.‏ حقيقة الصلة بين النفس البشرية والتربة الأرضية‏.‏ حقيقة الأصل الواحد، وحقيقة الطبيعة الواحدة، وحقيقة الحياة النابتة في النفس وفي التربة على السواء‏.‏ وحقيقة المحق الذي يصيب هذه الحياة في النفس وفي التربة على السواء‏.‏

إنه القرآن‏.‏‏.‏ كلمة الحق الجميلة‏.‏‏.‏ من لدن حكيم خبير‏.‏‏.‏

ويمضي السياق خطوة أخرى في دستور الصدقة‏.‏ ليبين نوعها وطريقتها، بعد ما بين آدابها وثمارها‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏.‏ ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه، واعلموا أن الله غني حميد‏}‏‏.‏‏.‏

إن الأسس التي تكشفت النصوص السابقة عن أن الصدقة تقوم عليها وتنبعث منها لتقتضي أن يكون الجود بأفضل الموجود؛ فلا تكون بالدون والرديء الذي يعافه صاحبه؛ ولو قدم إليه مثله في صفقة ما قبله إلا أن ينقص من قيمته‏.‏ فالله أغنى عن تقبل الرديء الخبيث‏!‏

وهو نداء عام للذين آمنوا- في كل وقت وفي كل جيل- يشمل جميع الأموال التي تصل إلى أيديهم‏.‏ تشمل ما كسبته أيديهم من حلال طيب، وما أخرجه الله لهم من الأرض من زرع وغير زرع مما يخرج من الأرض ويشمل المعادن والبترول‏.‏ ومن ثم يستوعب النص جميع أنواع المال، ما كان معهوداً على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- وما يستجد‏.‏ فالنص شامل جامع لا يفلت منه مال مستحدث في أي زمان‏.‏

وكله مما يوجب النص فيه الزكاة‏.‏ أما المقادير فقد بينتها السنة في أنواع الأموال التي كانت معروفة حينذاك‏.‏ وعليها يقاس وبها يلحق ما يجد من أنواع الأموال‏.‏

وقد وردت الروايات بسبب لنزول هذه الآية ابتداء، لا بأس من ذكره، لاستحضار حقيقة الحياة التي كان القرآن يواجهها؛ وحقيقة الجهد الذي بذله لتهذيب النفوس ورفعها إلى مستواه‏.‏‏.‏

روى ابن جرير- بإسناده- عن البراء بن عازب- رضي الله عنه- قال‏:‏ «نزلت في الأنصار‏.‏ كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيأكل فقراء المهاجرين منه‏.‏ فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع قناء البسر، يظن أن ذلك جائز‏.‏ فأنزل الله فيمن فعل ذلك‏:‏ ‏{‏ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏}‏‏.‏‏.‏

وكذلك رواه الحاكم عن البراء وقال‏:‏ صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه‏.‏

ورواه ابن أبي حاتم- بإسناده عن طريق آخر- عن البراء رضي الله عنه- قال‏:‏ نزلت فينا‏.‏ كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته، فيأتي رجل بالقنو، فيعلقه في المسجد‏.‏ وكان أهل الصفة ليس لهم طعام‏.‏ فكان أحدهم إذا جاع جاء فضرب بعصاه، فسقط منه البسر والتمر فيأكل، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص، فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه، فنزلت‏:‏ ‏{‏ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه‏}‏‏.‏ قال‏:‏ لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء‏.‏ فكنا بعد ذلك يجيء الرجلى منا بصالح ما عنده‏.‏

والروايتان قريبتان‏.‏ وكلتاهما تشير إلى حالة واقعة في المدينة؛ وترينا صفحة تقابل الصفحة الأخرى التي خطها الأنصار في تاريخ البذل السمح والعطاء الفياض‏.‏ وترينا أن الجماعة الواحدة تكون فيها النماذج العجيبة السامقة، والنماذج الأخرى التي تحتاج إلى تربية وتهذيب وتوجيه لتتجه إلى الكمال‏!‏ كما احتاج بعض الأنصار إلى النهي عن القصد إلى الرديء من أموالهم، الذي لا يقبلونه عادة في هدية إلا حياء من رده ولا في صفقة إلا بإغماض فيه أي‏:‏ نقص في القيمة بينما كانوا يقدمونه هم لله‏!‏

ومن ثم جاء هذا التعقيب‏:‏

‏{‏واعلموا أن الله غني حميد‏}‏‏.‏‏.‏

غني عن عطاء الناس إطلاقاً‏.‏ فإذا بذلوه فإنما يبذلونه لأنفسهم فليبذلوه طيباً، وليبذلوه طيبة به نفوسهم كذلك‏.‏

حميد‏.‏‏.‏ يتقبل الطيبات ويحمدها ويجزي عليها بالحسنى‏.‏‏.‏

ولكل صفة من الصفتين في هذا الموضع إيحاء يهز القلوب‏.‏ كما هز قلوب ذلك الفريق من الأنصار فعلاً‏.‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏ وإلا فالله غني عن الخبيث الذي تقصدون إليه فتخرجون منه صدقاتكم‏!‏ بينما هو- سبحانه- يحمد لكم الطيب حين تجرحونه ويجزيكم عليه جزاء الراضي الشاكر‏.‏

وهو الله الرازق الوهاب‏.‏‏.‏ يجزيكم عليه جزاء الحمد وهو الذي أعطاكم إياه من قبل‏!‏ أي إيحاء‏!‏ وأي إغراء‏!‏ وأي تربية للقلوب بهذا الأسلوب العجيب‏!‏

ولما كان الكف عن الإنفاق، أو التقدم بالرديء الخبيث، إنما ينشأ عن دوافع السوء، وعن تزعزع اليقين فيما عند الله، وعن الخوف من الإملاق الذي لا يساور نفساً تتصل بالله، وتعتمد عليه، وتدرك أن مرد ما عندها إليه‏.‏‏.‏ كشف الله للذين آمنوا عن هذه الدوافع لتبدو لهم عارية، وليعرفوا من أين تنبت النفوس؛ وما الذي يثيرها في القلوب‏.‏‏.‏ إنه الشيطان‏.‏‏.‏

‏{‏الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً، والله واسع عليم‏.‏ يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، وما يذكر إلا أولو الألباب‏}‏‏.‏‏.‏

الشيطان يخوفكم الفقر، فيثير في نفوسكم الحرص والشح والتكالب‏.‏ والشيطان يأمركم بالفحشاء- والفحشاء كل معصية تفحش أي تتجاوز الحد، وإن كانت قد غلبت على نوع معين من المعاصي ولكنها شاملة‏.‏ وخوف الفقر كان يدعو القوم في جاهليتهم لوأد البنات وهو فاحشة؛ والحرص على جمع الثروة كان يؤدي ببعضهم إلى أكل الربا وهو فاحشة‏.‏‏.‏ على أن خوف الفقر بسبب الإنفاق في سبيل الله في ذاته فاحشة‏.‏‏.‏

وحين يعدكم الشيطان الفقر ويأمركم بالفحشاء يعدكم الله المغفرة والعطاء‏:‏

‏{‏والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً‏}‏‏.‏‏.‏

ويقدم المغفرة، ويؤخر الفضل‏.‏‏.‏ فالفضل زيادة فوق المغفرة‏.‏ وهو يشمل كذلك عطاء الرزق في هذه الأرض، جزاء البذل في سبيل الله والإنفاق‏.‏

‏{‏والله واسع عليم‏}‏‏.‏‏.‏

يعطي عن سعة، ويعلم ما يوسوس في الصدور، وما يهجس في الضمير، والله لا يعطي المال وحده، ولا يعطي المغفرة وحدها‏.‏ إنما يعطي «الحكمة» وهي توخي القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، ووضع الأمور في نصابها في تبصر وروية وإدراك‏:‏

‏{‏يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً‏}‏‏.‏‏.‏

أوتي القصد والاعتدال فلا يفحش ولا يتعدى الحدود؛ وأوتي إدراك العلل والغايات فلا يضل في تقدير الأمور؛ وأوتي البصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال‏.‏‏.‏ وذلك خير كثير متنوع الألون‏.‏‏.‏

‏{‏وما يذكر إلا أولو الألباب‏}‏‏.‏‏.‏

فصاحب اللب- وهو العقل- هو الذي يتذكر فلا ينسى، ويتنبه فلا يغفل، ويعتبر فلا يلج في الضلال‏.‏‏.‏ وهذه وظيفة العقل‏.‏‏.‏ وظيفته أن يذكر موحيات الهدى ودلائله؛ وأن ينتفع بها فلا يعيش لاهياً غافلاً‏.‏

هذه الحكمة يؤتيها الله من يشاء من عباده، فهي معقودة بمشيئة الله سبحانه‏.‏ هذه هي القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي‏:‏ رد كل شيء إلى المشيئة المطلقة المختارة‏.‏‏.‏ وفي الوقت ذاته يقرر القرآن حقيقة أخرى‏:‏ أن من أراد الهداية وسعى لها سعيها وجاهد فيها فإن الله لا يحرمه منها، بل يعينه عليها‏:‏

‏{‏والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين‏}‏ ليطمئن كل من يتجه إلى هدى الله أن مشيئة الله ستقسم له الهدى وتؤتيه الحكمة، وتمنحه ذلك الخير الكثير‏.‏

وهناك حقيقة أخرى نلم بها قبل مغادرة هذه الوقفة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم‏.‏ يؤتي الحكمة من يشاء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن أمام الإنسان طريقين اثنين لا ثالث لهما‏:‏ طريق الله‏.‏ وطريق الشيطان‏.‏ أن يستمع إلى وعد الله أو أن يستمع إلى وعد الشيطان‏.‏ ومن لا يسير في طريق الله ويسمع وعده فهو سائر في طريق الشيطان ومتبع وعده‏.‏‏.‏ ليس هنالك إلا منهج واحد هو الحق‏.‏‏.‏ المنهج الذي شرعه الله‏.‏‏.‏ وما عداه فهو للشيطان ومن الشيطان‏.‏

هذه الحقيقة يقررها القرآن الكريم ويكررها ويؤكدها بكل مؤكد‏.‏ كي لا تبقى حجة لمن يريد أن ينحرف عن منهج الله ثم يدعي الهدى والصواب في أي باب‏.‏ ليست هنالك شبهة ولا غشاوة‏.‏‏.‏ الله‏.‏ أو الشيطان‏.‏ منهج الله أو منهج الشيطان‏.‏ طريق الله أو طريق الشيطان‏.‏‏.‏ ولمن شاء أن يختار‏.‏‏.‏ ‏{‏ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة‏}‏ لا شبهة ولا غبش ولا غشاوة‏.‏‏.‏ وإنما هو الهدى أو الضلال‏.‏ وهو الحق واحد لا يتعدد‏.‏‏.‏ فماذا بعد الحق إلا الضلال‏؟‏‏!‏

بعد ذلك نعود مع السياق إلى الصدقة‏.‏‏.‏ إن الله يعلم كل ما ينفقه المنفق‏.‏‏.‏ صدقة كان أم نذراً‏.‏ وسراً كان أم جهراً‏.‏ ومن مقتضى علمه أنه يجزي على الفعل وما وراءه من النية‏:‏

‏{‏وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه‏.‏ وما للظالمين من أنصار‏.‏ إن تبدوا الصدقات فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم؛ ويكفر عنكم من سيئاتكم، والله بما تعملون خبير‏}‏‏.‏‏.‏

والنفقة تشمل سائر ما يخرجه صاحب المال من ماله‏:‏ زكاة أو صدقة أو تطوعاً بالمال في جهاد‏.‏‏.‏ والنذر نوع من أنواع النفقة يوجبه المنفق على نفسه مقدّراً بقدر معلوم‏.‏ والنذر لا يكون لغير الله ولوجهه وفي سبيله‏.‏ فالنذر لفلان من عباده نوع من الشرك، كالذبائح التي كان يقدمها المشركون لآلهتهم وأوثانهم في شتى عصور الجاهلية‏.‏

‏{‏وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه‏}‏‏.‏‏.‏

وشعور المؤمن بأن عين الله- سبحانه- على نيته وضميره، وعلى حركته وعمله‏.‏‏.‏ يثير في حسه مشاعر حية متنوعة؛ شعور التقوى والتحرج أن يهجس في خاطره هاجس رياء أو تظاهر، وهاجس شح أو بخل، وهاجس خوف من الفقر أو الغبن‏.‏ وشعور الاطمئنان على الجزاء والثقة بالوفاء‏.‏ وشعور الرضى والراحة بما وفى لله وقام بشكر نعمته عليه بهذا الإنفاق مما أعطاه‏.‏‏.‏

فأما الذي لا يقوم بحق النعمة؛ والذي لا يؤدي الحق لله ولعباده؛ والذي يمنع الخير بعد ما أعطاه الله إياه‏.‏

‏.‏ فهو ظالم‏.‏ ظالم للعهد، وظالم للناس، وظالم لنفسه‏:‏

‏{‏وما للظالمين من أنصار‏}‏‏.‏‏.‏

فالوفاء عدل وقسط‏.‏ والمنع ظلم وجور‏.‏ والناس في هذا الباب صنفان‏:‏ مقسط قائم بعهد الله معه إن أعطاه النعمة وفى وشكر‏.‏ وظالم ناكث لعهد الله، لم يعط الحق ولم يشكر‏.‏‏.‏ ‏{‏وما للظالمين من أنصار‏}‏‏.‏‏.‏

وإخفاء الصدقة حين تكون تطوعاً أولى وأحب إلى الله؛ وأجدر أن تبرأ من شوائب التظاهر والرياء‏.‏ فأما حين تكون أداء للفريضة فإن إظهارها فيه معنى الطاعة، وفشو هذا المعنى وظهوره خير‏.‏‏.‏ ومن ثم تقول الآية‏:‏

‏{‏إن تبدوا الصدقات فنعما هي‏.‏ وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم‏}‏‏.‏‏.‏ فتشمل هاتين الحالتين، وتعطي كل حالة ما يناسبها من التصرف؛ وتحمد هذه في موضعها وتلك في موضعها؛ وتعد المؤمنين على هذه وتلك تكفير السيئات‏:‏

‏{‏ويكفر عنكم من سيئاتكم‏}‏‏.‏‏.‏

وتستجيش في قلوبهم التقوى والتحرج من جانب، والطمأنينة والراحة من جانب آخر، وتصلها بالله في النية والعمل في جميع الأحوال‏:‏

‏{‏والله بما تعملون خبير‏}‏‏.‏‏.‏

ولا بد أن نلحظ طول التوجيه إلى الإنفاق؛ وتنوع أساليب الترغيب والترهيب بصدده؛ لندرك أمرين‏:‏

الأول‏:‏ بصر الإسلام بطبيعة النفس البشرية وما يخالجها من الشح بالمال، وحاجتها إلى التحريك المستمر والاستجاشة الدائبة لتستعلي على هذا الحرص وتنطلق من هذا الشح، وترتفع إلى المستوى الكريم الذي يريده الله للناس‏.‏ والثاني‏:‏ ما كان يواجهه القرآن من هذه الطبيعة في البيئة العربية التي اشتهرت شهرة عامة بالسخاء والكرم‏.‏‏.‏ ولكنه كان سخاء وكرماً يقصد به الذكر والصيت وثناء الناس وتناقل أخباره في المضارب والخيام‏!‏ ولم يكن أمراً ميسوراً أن يعلمهم الإسلام أن يتصدقوا دون انتظار لهذا كله، متجردين من هذا كله، متجهين لله وحده دون الناس‏.‏ وكان الأمر في حاجة إلى التربية الطويلة، والجهد الكثير، والهتاف المستمر بالتسامي والتجرد والخلاص‏!‏‏.‏‏.‏ وقد كان‏.‏‏.‏

ومن ثم لفتة من خطاب الذين آمنوا إلى خطاب الرسول- صلى الله عليه وسلم- لفتة لتقرير جملة حقائق كبيرة، ذات أثر عميق في إقامة التصور الإسلامي على قواعده، وفي استقامة السلوك الإسلامي على طريقه‏:‏

‏{‏ليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء‏.‏ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم‏.‏ وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله‏.‏ وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

روى ابن أبي حاتم- بإسناده- عن ابن عباس- رضي الله عنهما- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ليس عليك هداهم‏.‏‏.‏ إلى آخرها‏}‏‏.‏‏.‏ فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين‏.‏‏.‏

إن أمر القلوب وهداها وضلالها ليس من شأن أحد من خلق الله- ولو كان هو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إنه من أمر الله وحده‏.‏

فهذه القلوب من صنعه؛ ولا يحكمها غيره، ولا يصرفها سواه، ولا سلطان لأحد عليها إلا الله‏.‏ وما على الرسول إلا البلاغ‏.‏ فأما الهدى فهو بيد الله يعطيه من يشاء، ممن يعلم- سبحانه- أنه يستحق الهدى، ويسعى إليه‏.‏ وإخراج هذا الأمر من اختصاص البشر يقرر الحقيقة التي لا بد أن تستقر في حس المسلم ليتوجه في طلب الهدى إلى الله وحده، وليتلقى دلائل الهدى من الله وحده‏.‏‏.‏ ثم هي تفسح في احتمال صاحب الدعوة لعناد الضالين، فلا يضيق صدره بهم وهو يدعوهم؛ ويعطف عليهم، ويرتقب إذن الله لقلوبهم في الهدي، وتوفيقهم إليه بمعرفته حين يريد‏.‏

‏{‏ليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء‏}‏‏.‏‏.‏

فلتفسح لهم صدرك، ولتفض عليهم سماحتك، ولتبذل لهم الخير والعون ما احتاجوا إليه منك‏.‏ وأمرهم إلى الله‏.‏ وجزاء المنفق عند الله‏.‏

ومن هنا نطلع على بعض الآفاق السامية السمحة الوضيئة التي يرفع الإسلام قلوب المسلمين إليها، ويروضهم عليها‏.‏‏.‏ إن الإسلام لا يقرر مبدأ الحرية الدينية وحده؛ ولا ينهى عن الإكراه على الدين فحسب‏.‏ إنما يقرر ما هو أبعد من ذلك كله‏.‏ يقرر السماحة الإنسانية المستمدة من توجيه الله- سبحانه- يقرر حق المحتاجين جميعاً في أن ينالوا العون والمساعدة- ما داموا في غير حالة حرب مع الجماعة المسلمة- دون نظر إلى عقيدتهم‏.‏ ويقرر أن ثواب المعطين محفوظ عند الله على كل حال، ما دام الإنفاق ابتغاء وجه الله‏.‏ وهي وثبة بالبشرية لا ينهض بها إلا الإسلام؛ ولا يعرفها على حقيقتها إلا أهل الإسلام‏:‏

‏{‏وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله‏.‏ وما تنفقوا من خير يوف إليكم، وأنتم لا تظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

ولا يفوتنا أن ندرك مغزى هذه اللفتة الواردة في الآية عن شأن المؤمنين حين ينفقون‏:‏

‏{‏وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله‏}‏‏.‏‏.‏

إن هذا هو شأن المؤمن لا سواه‏.‏ إنه لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله‏.‏ لا ينفق عن هوى ولا عن غرض‏.‏ لا ينفق وهو يتلفت للناس يرى ماذا يقولون‏!‏ لا ينفق ليركب الناس بإنفاقه ويتعالى عليهم ويشمخ‏!‏ لا ينفق ليرضى عنه ذو سلطان أو ليكافئه بنيشان‏!‏ لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله‏.‏ خالصاً متجرداً لله‏.‏‏.‏ ومن ثم يطمئن لقبول الله لصدقته؛ ويطمئن لبركة الله في ماله؛ ويطمئن لثواب الله وعطائه؛ ويطمئن إلى الخير والإحسان من الله جزاء الخير والإحسان لعباد الله‏.‏ ويرتفع ويتطهر ويزكو بما أعطى وهو بعد في هذه الأرض‏.‏ وعطاء الآخرة بعد ذلك كله فضل‏!‏

ثم يخص بالذكر مصرفاً من مصارف الصدقة؛ ويعرض صورة شفة عفة كريمة نبيلة، لطائفة من المؤمنين‏.‏

صورة تستجيش المشاعر، وتحرك القلوب لإدراك نفوس أبية بالمدد فلا تهون، وبالإسعاف فلا تضام، وهي تأنف السؤال وتأبى الكلام‏:‏

‏{‏للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، لا يستطيعون ضرباً في الأرض، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً‏.‏ وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم‏}‏‏.‏‏.‏

لقد كان هذا الوصف الموحي ينطبق على جماعة من المهاجرين، تركوا وراءهم أموالهم وأهليهم؛ وأقاموا في المدينة ووقفوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله، وحراسة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كأهل الصفة الذين كانوا بالمسجد حرساً لبيوت الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا يخلص إليها من دونهم عدو‏.‏ وأحصروا في الجهاد لا يستطيعون ضرباً في الأرض للتجارة والكسب‏.‏ وهم مع هذا لا يسألون الناس شيئاً‏.‏ متجملون يحسبهم من يجهل حالهم أغنياء لتعففهم عن إظهار الحاجة؛ ولا يفطن إلى حقيقة حالهم إلا ذوو الفراسة‏.‏‏.‏

ولكن النص عام، ينطبق على سواهم في جميع الأزمان‏.‏ ينطبق على الكرام المعوزين، الذين تكتنفهم ظروف تمنعهم من الكسب قهراً، وتمسك بهم كرامتهم أن يسألوا العون‏.‏ إنهم يتجملون كي لا تظهر حاجتهم؛ يحسبهم الجاهل بما وراء الظواهر أغنياء في تعففهم، ولكن ذا الحس المرهف والبصيرة المفتوحة يدرك ما وراء التجمل‏.‏ فالمشاعر النفسية تبدو على سيماهم وهم يدارونها في حياء‏.‏‏.‏

إنها صورة عميقة الإيحاء تلك التي يرسمها النص القصير لذلك النموذج الكريم‏.‏ وهي صورة كاملة ترتسم على استحياء‏!‏ وكل جملة تكاد تكون لمسة ريشة، ترسم الملامح والسمات، وتشخص المشاعر والانفعالات‏.‏ وما يكاد الإنسان يتم قراءتها حتى تبدو له تلك الوجوه وتلك الشخصيات كأنما يراها‏.‏ وتلك طريقة القرآن في رسم النماذج الإنسانية، حتى لتكاد تخطر نابضة حية‏!‏

هؤلاء الفقراء الكرام الذين يكتمون الحاجة كأنما يغطون العورة‏.‏‏.‏ لن يكون إعطاؤهم إلا سراً وفي تلطف لا يخدش آباءهم ولا يجرح كرامتهم‏.‏‏.‏ ومن ثم كان التعقيب موحياً بإخفاء الصدقة وإسرارها، مطمئناً لأصحابها على علم الله بها وجزائه عليها‏:‏

‏{‏وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم‏}‏‏.‏‏.‏

الله وحده الذي يعلم السر، ولا يضيع عنده الخير‏.‏‏.‏

وأخيراً يختم دستور الصدقة في هذا الدرس بنص عام يشمل كل طرائق الإنفاق‏.‏ وكل أوقات الإنفاق؛ وبحكم عام يشمل كل منفق لوجه الله‏:‏

‏{‏الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار، سراً وعلانية، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏‏.‏‏.‏

ويبدو التناسق في هذا الختام في عموم النصوص وشمولها، سواء في صدر الآية أم في ختامها‏.‏ وكأنما هي الإيقاع الأخير الشامل القصير‏.‏‏.‏

‏{‏الذين ينفقون أموالهم‏}‏‏.‏‏.‏

هكذا بوجه عام يشمل جميع أنواع الأموال‏.‏‏.‏

‏{‏بالليل والنهار‏.‏ سراً وعلانية‏}‏‏.‏‏.‏

لتشمل جميع الأوقات وجميع الحالات‏.‏‏.‏

‏{‏فلهم أجرهم عند ربهم‏}‏‏.‏‏.‏

هكذا إطلاقاً‏.‏

من مضاعفة المال‏.‏ وبركة العمر‏.‏ وجزاء الآخرة‏.‏ ورضوان الله‏.‏

‏{‏ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏‏.‏‏.‏

لا خوف من أي مخوف، ولا حزن من أي محزن‏.‏‏.‏ في الدنيا وفي الآخرة سواء‏.‏‏.‏

إنه التناسق في ختام الدستور القويم يوحي بذلك الشمول والتعميم‏.‏‏.‏

وبعد فإن الإسلام لا يقيم حياة أهله على العطاء‏.‏ فإن نظامه كله يقوم أولاً على تيسير العمل والرزق لكل قادر؛ وعلى حسن توزيع الثروة بين أهله بإقامة هذا التوزيع على الحق والعدل بين الجهد والجزاء‏.‏‏.‏ ولكن هنالك حالات تتخلف لأسباب استثنائية وهذه هي التي يعالجها بالصدقة‏.‏‏.‏ مرة في صورة فريضة تجبيها الدولة المسلمة المنفذة لشريعة الله كلها وهي وحدها صاحبة الحق في جبايتها‏:‏ وهي مورد هام من موارد المالية العامة للدولة المسلمة‏.‏ ومرة في صورة تطوع غير محدود يؤديه القادرون للمحتاجين رأساً‏.‏ مع مراعاة الآداب التي سبق بيانها‏.‏ وبضمانة تعفف الآخذين‏.‏‏.‏ هذا التعفف الذي تصف هذه الآية صورة منه واضحة‏.‏ وقد رباه الإسلام في نفوس أهله فإذا أحدهم يتحرج أن يسأل وله أقل ما يكفيه في حياته‏.‏‏.‏

روى البخاري- بإسناده- عن عطاء بن يسار وعبد الرحمن بن أبي عمرة‏.‏ قالا‏:‏ سمعنا أبا هريرة يقول‏:‏ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف»‏.‏ اقرأوا إن شئتم يعني قوله‏:‏ ‏{‏لا يسألون الناس إلحافاً‏}‏‏.‏‏.‏

وروى الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن رجل من مزينة‏:‏ أنه قالت له أمه‏:‏ ألا تنطلق فتسأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما يسأله الناس‏؟‏ فانطلقت أسأله، فوجدته قائماً يخطب وهو يقول‏:‏ «ومن استعف أعفه الله، ومن استغنى أغناه الله، ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافاً» فقلت بيني وبين نفسي‏:‏ لناقة لي لهي خير من خمس أواق، ولغلامي ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق، فرجعت ولم أسأله‏.‏

وقال الحافظ الطبراني- بإسناده- عن محمد بن سيرين‏.‏ قال بلغ الحارث- رجلاً كان بالشام من قريش- أن أبا ذر كان به عوز، فبعث إليه ثلاث مائة دينار‏.‏ فقال‏:‏ ما وجد عبد الله رجلاً أهون عليه مني‏!‏ سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ «من سأل وله أربعون فقد ألحف» ولآل أبي ذر أربعون درهماً‏.‏‏.‏ شاة وماهنان‏.‏‏.‏ قال أبو بكر بن عياش‏:‏ يعني خادمين‏.‏‏.‏

إن الإسلام نظام متكامل، تعمل نصوصه وتوجيهاته وشرائعه كلها متحدة، ولا يؤخذ أجزاء وتفاريق‏.‏ وهو يضع نظمه لتعمل كلها في وقت واحد، فتتكامل وتتناسق‏.‏ وهكذا أنشأ مجتمعه الفريد الذي لم تعرف له البشرية نظيراً في مجتمعات الأرض جميعاً‏.‏‏.‏