فصل: تفسير الآيات رقم (37- 54)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 54‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏37‏)‏ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏40‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ‏(‏41‏)‏ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ‏(‏42‏)‏ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏43‏)‏ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏44‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏45‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏46‏)‏ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ‏(‏47‏)‏ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏48‏)‏ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ‏(‏49‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏50‏)‏ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ‏(‏51‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏53‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

هذا شوط جديد مع القلب البشري في مجال الدعوة‏.‏ يبدأ بجولة مع آيات الله الكونية‏:‏ الليل والنهار والشمس والقمر، وفي المشركين من كان يسجد للشمس وللقمر مع الله‏.‏ وهما من خلق الله‏.‏ ويعقب على عرض هذه الآيات بأنهم إن استكبروا عن عبادة الله فهناك من هم أقرب منهم إلى الله يعبدونه‏.‏ ثم هناك الأرض كلها في مقام العبادة وهي تتلقى من ربها الحياة، كما تلقوها فلم يتحركوا بها إلى الله‏.‏ إنما هم يلحدون في آيات الله الكونية، ويجادلون في آياته القرآنية؛ وهو قرآن عربي غير مشوب بأعجمية‏.‏ وينتقل بهم إلى مشهد من مشاهد القيامة‏.‏ ثم يعرض عليهم أنفسهم عارية بكل ما فيها من ضعف وتقلب ونسيان، وبكل ما فيها من حرص على الخير وجزع من الضر‏.‏ ثم هم لا يقون أنفسهم من شر ما يصيبها عند الله‏.‏ وتنتهي السورة بوعد الله سبحانه أن يكشف للناس عن آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، ويذهب ما في قلوبهم من ريب وشك‏.‏‏.‏

‏{‏ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر‏.‏ لا تسجدوا للشمس ولا للقمر‏.‏ واسجدوا لله الذي خلقهن‏.‏ إن كنتم إياه تعبدون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه الآيات معروضة للأنظار، يراها العالم والجاهل‏.‏ ولها في القلب البشري روعة مباشرة‏.‏ ولو لم يعلم الإنسان شيئاً عن حقيقتها العلمية‏.‏ فبينها وبين الكائن البشري صلة أعمق من المعرفة العلمية‏.‏ بينها وبينه هذا الاتصال في النشأة، وفي الفطرة، وفي التكوين‏.‏ فهو منها وهي منه‏.‏ تكوينه تكوينها، ومادته مادتها، وفطرته فطرتها، وناموسه ناموسها، وإلهه إلهها‏.‏‏.‏ فهو من ثم يستقبلها بحسه العميق في هزة وإدراك مباشر لمنطقها العريق‏!‏

لهذا يكتفي القرآن غالباً بتوجيه القلب إليها، وإيقاظه من غفلته عنها، هذه الغفلة التي ترد عليه من طول الألفة تارة، ومن تراكم الحواجز والموانع عليه تارة، فيجلوها القرآن عنه، لينتفض جديداً حياً يقظاً يعاطف هذا الكون الصديق، ويتجاوب معه بالمعرفة القديمة العميقة الجذور‏.‏

وصورة من صور الانحراف تلك التي تشير إليها الآية هنا‏.‏ فقد كان قوم يبالغون في الشعور بالشمس والقمر شعوراً منحرفاً ضالاً فيعبدونهما باسم التقرب إلى الله بعبادة أبهى خلائقه‏!‏ فجاء القرآن ليردهم عن هذا الانحراف؛ ويزيل الغبش عن عقيدتهم المدخولة‏.‏ ويقول لهم‏:‏ إن كنتم تعبدون الله حقاً فلا تسجدوا للشمس والقمر‏.‏‏.‏ ‏{‏واسجدوا لله الذي خلقهن‏}‏ فالخالق هو وحده الذي يتوجه إليه المخلوقون أجمعين‏.‏ والشمس والقمر مثلكم يتوجهون إلى خالقهما فتوجهوا معهم إلى الخالق الواحد الذي يستحق أن تعبدوه‏.‏ ويعيد الضمير عليهما مؤنثاً مجموعاً‏:‏ ‏{‏خلقهن‏}‏ باعتبار جنسهما وأخواتهما من الكواكب والنجوم؛ ويتحدث عنهن بضمير المؤنث العاقل ليخلع عليهن الحياة والعقل، ويصورهن شخوصاً ذات أعيان‏!‏

فإن استكبروا بعد عرض هذه الآيات، وبعد هذا البيان، فلن يقدم هذا أو يؤخر؛ ولن يزيد هذا أو ينقص‏.‏

فغيرهم يعبد غير مستكبر‏:‏

‏{‏فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار، وهم لا يسأمون‏}‏‏.‏‏.‏

وأقرب ما يرد على القلب عند ذكر ‏{‏الذين عند ربك‏}‏ الملائكة‏.‏ ولكن قد يكون هناك غير الملائكة من عباد الله المقربين؛ وهل نعلم نحن شيئاً إلا اليسير الضئيل‏؟‏‏!‏

هؤلاء‏.‏ الذين عند ربك‏.‏ وهم أرفع وأعلى‏.‏ وهم أكرم وأمثل‏.‏ لا يستكبرون كما يستكبر أولئك المنحرفون الضالون في الأرض‏.‏ ولا يغترون بقرب مكانهم من الله‏.‏ ولا يفترون عن تسبيحه ليلاً ونهاراً ‏{‏وهم لا يسأمون‏}‏‏.‏‏.‏ فماذا يساوي أن يتخلف من أهل الأرض من يتخلف في حقيقة العبودية لله من الجميع‏؟‏

وهنالك الأرض أمهم التي تقوتهم الأرض التي منها خرجوا وإليها يعودون‏.‏ الأرض التي هم على سطحها نمال تدب ولا طعام لها ولا شراب إلا ما تستمده منها‏.‏‏.‏ هذه الأرض تقف خاشعة لله، وهي تتلقى من يديه الحياة‏:‏

‏{‏ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت‏.‏ إن الذي أحياها لمحيي الموتى، إنه على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏

ونقف لحظة أمام دقة التعبير القرآني في كل موضع‏.‏ فخشوع الأرض هنا هو سكونها قبل نزول الماء عليها‏.‏ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت‏.‏ وكأنما هي حركة شكر وصلاة على أسباب الحياة‏.‏ ذلك أن السياق الذي وردت فيه هذه الآية سياق خشوع وعبادة وتسبيح، فجيء بالأرض في هذا المشهد، شخصاً من شخوص المشهد، تشارك فيه بالشعور المناسب وبالحركة المناسبة‏.‏‏.‏

ونستعير هنا صفحة من كتاب «التصوير الفني في القرآن» عن التناسق الفني في مثل هذا التعبير‏:‏

«عبر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر‏.‏ وقبل تفتحها بالنبات، مرة بأنها ‏{‏هامدة‏}‏، ومرة بأنها ‏{‏خاشعة‏}‏‏.‏ وقد يفهم البعض أن هذا مجرد تنويع في التعبير‏.‏ فلننظر كيف وردت هاتان الصورتان‏:‏

لقد وردتا في سياقين مختلفين على هذا النحو‏:‏

وردت ‏{‏هامدة‏}‏ في هذا السياق‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث، فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة‏.‏ لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى؛ ثم نخرجكم طفلاً، ثم لتبلغوا أشدكم؛ ومنكم من يتوفى، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر، لكي لا يعلم من بعد علم شياً‏.‏ وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج‏}‏ ووردت ‏{‏خاشعة‏}‏ في هذا السياق‏:‏ ‏{‏ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر‏.‏ لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن، إن كنتم إياه تعبدون‏.‏ فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار، وهم لا يسأمون‏.‏

ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت‏}‏‏.‏

«وعند التأمل السريع في هذين السياقين، يتبين وجه التناسق في ‏{‏هامدة‏}‏ و‏{‏خاشعة‏}‏‏.‏ إن الجو في السياق الأول جو بعث وإحياء وإخراج؛ فمما يتسق معه تصوير الأرض ‏{‏هامدة‏}‏ ثم تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج‏.‏ وإن الجو في السياق الثاني هو جو عبادة وخشوع وسجود، يتسق معه تصوير الأرض ‏{‏خاشعة‏}‏ فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت‏.‏

ثم لا يزيد على الاهتزاز والإرباء هنا، الإنبات والإخراج، كما زاد هناك، لأنه لا محل لها في جو العبادة والسجود‏.‏ ولم تجئ ‏{‏اهتزت وربت‏}‏ هنا للغرض الذي جاءتا من أجله هناك‏.‏ إنهما تخيلان حركة للأرض بعد خشوعها‏.‏ وهذه الحركة هي المقصودة هنا، لأن كل ما في المشهد يتحرك حركة العبادة، فلم يكن من المناسب أن تبقى الأرض وحدها خاشعة ساكنة، فاهتزت لتشارك العابدين المتحركين في المشهد حركتهم، ولكي لا يبقى جزء من أجزاء المشهد ساكناً، وكل الأجزاء تتحرك من حوله‏.‏ وهذا لون من الدقة في تناسق الحركة المتخيلة يسمو على كل تقدير» الخ‏.‏ الخ‏.‏

ونعود إلى النص القرآني فنجد أن التعقيب في نهاية الآية يشير إلى إحياء الموتى، ويتخذ من إحياء الأرض نموذجاً ودليلاً‏:‏

‏{‏إن الذي أحياها لمحيي الموتى، إنه على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏

ويتكرر في القرآن عرض مثل هذا المشهد واتخاذه نموذجاً للإحياء في الآخرة، ودليلاً كذلك على القدرة‏.‏ ومشهد الحياة في الأرض قريب من كل قلب، لأنه يلمس القلوب قبل أن يلمس العقول، والحياة حين تنبض من بين الموات، توحي بالقدرة المنشئة إيحاء خفياً ينبض في أعماق الشعور‏.‏ والقرآن يخاطب الفطرة بلغتها من أقرب طريق‏.‏

وأمام مشهد هذه الآيات الكونية ذات الأثر الشعوري العميق يجيء التنديد والتهديد لمن يلحدون في هذه الآيات الظاهرة الباهرة؛ فيكفرون بها، أو يغالطون فيها‏:‏

‏{‏إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا‏.‏ أفمن يلقى في النار خير‏؟‏ أم من يأتي آمناً يوم القيامة‏.‏ اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير‏}‏‏.‏

ويبدأ التهديد ملفوفاً ولكنه مخيف‏:‏ ‏{‏لا يخفون علينا‏}‏‏.‏‏.‏ فهم مكشوفون لعلم الله‏.‏ وهم مأخذون بما يلحدون، مهما غالطوا والتووا، وحسبوا أنهم مفلتون من يد الله كما قد يفلتون بالمغالطة من حساب الناس‏.‏

ثم يصرح بالتهديد‏:‏ ‏{‏أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ وهو تعريض بهم، وبما ينتظرهم من الإلقاء في النار والخوف والفزع، بالمقابلة إلى مجيء المؤمنين آمنين‏.‏

وتنتهي الآية بتهديد آخر ملفوف‏:‏ ‏{‏اعملوا ما شئتم‏.‏ إنه بما تعملون بصير‏}‏‏.‏‏.‏ ويا خوف من يترك ليعمل فليحد في آيات الله‏.‏ والله بما يعمل بصير‏.‏

ويستطرد إلى الذين يكفرون بآيات الله القرآنية، والقرآن كتاب عزيز قوي منيع الجانب، لا يدخل عليه الباطل من قريب ولا من بعيد‏:‏

‏{‏إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم، وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏.‏

تنزيل من حكيم حميد‏.‏ ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم‏.‏ ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا‏:‏ لولا فصلت آياته‏!‏ أأعجمي وعربي‏؟‏ قل‏:‏ هو للذين آمنوا هدى وشفاء‏.‏ والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر، وهو عليهم عمىً، أولئك ينادون من مكان بعيد‏}‏‏.‏

والنص يتحدث عن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم؛ ولا يذكر ماذا هم ولا ماذا سيقع لهم‏.‏ فلا يذكر الخبر‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم‏.‏‏.‏‏}‏ كأنما ليقال‏:‏ إن فعلتهم لا يوجد وصف ينطبق عليها ويكافئها لشدة بشاعتها‏!‏

لذلك يترك النص خبر ‏{‏إن‏}‏ لا يأتي به ويمضي في وصف الذكر الذي كفروا به لتفظيع الفعلة وتبشيعها‏:‏

‏{‏وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏.‏ تنزيل من حيكم حميد‏}‏‏.‏‏.‏

وأنى للباطل أن يدخل على هذا الكتاب‏.‏ وهو صادر من الله الحق‏.‏ يصدع بالحق‏.‏ ويتصل بالحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض‏؟‏

وأنى يأتيه الباطل وهو عزيز‏.‏ محفوظ بأمر الله الذي تكفل بحفظه فقال‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ والمتدبر لهذا القرآن يجد فيه ذلك الحق الذي نزل به، والذي نزل ليقره‏.‏ يجده في روحه ويجده في نصه‏.‏ يجده في بساطة ويسر‏.‏ حقاً مطمئناً فطرياً، يخاطب أعماق الفطرة، ويطبعها ويؤثر فيها التأثير العجيب‏.‏

وهو ‏{‏تنزيل من حكيم حميد‏}‏‏.‏‏.‏ والحكمة ظاهرة في بنائه، وفي توجيهه، وفي طريقة نزوله، وفي علاجه للقلب البشري من أقصر طريق‏.‏ والله الذي نزله خليق بالحمد‏.‏ وفي القرآن ما يستجيش القلب لحمده الكثير‏.‏

ثم يربط السياق بين القرآن وسائر الوحي قبله؛ وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الرسل قبله‏.‏ ويجمع أسرة النبوة كلها في ندوة واحدة تتلقى من ربها حديثاً واحداً، ترتبط به أرواحها وقلوبها، وتتصل به طريقها ودعوتها؛ ويحس المسلم الأخير أنه فرع من شجر وارفة عميقة الجذور، وعضو من أسرة عريقة قديمة التاريخ‏:‏

‏{‏ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك‏.‏ إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

إنه وحي واحد، ورسالة واحدة، وعقيدة واحدة‏.‏ وإنه كذلك استقبال واحد من البشرية، وتكذيب واحد، واعتراضات واحدة‏.‏‏.‏ ثم هي بعد ذلك وشيجة واحدة، وشجرة واحدة، وأسرة واحدة، وآلام واحدة، وتجارب واحدة، وهدف في نهاية الأمر واحد، وطريق واصل ممدود‏.‏

أي شعور بالأنس، والقوة، والصبر، والتصميم‏.‏ توحيه هذه الحقيقة لأصحاب الدعوة، السالكين في طريق سار فيها من قبل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم جميعاً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين‏؟‏

وأي شعور بالكرامه والاعتزاز والاستعلاء على مصاعب الطريق وعثرتها وأشواكها وعقباتها، وصاحب الدعوة يمضي وهو يشعر أن أسلافه في هذا الطريق هم تلك العصبة المختارة من بني البشر أجمعين‏؟‏

إنها حقيقة‏:‏ ‏{‏ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك‏}‏‏.‏

‏.‏ ولكن أي آثار هائلة عميقة ينشئها استقرار هذه الحقيقة في نفوس المؤمنين‏؟‏

وهذا ما يصنعه هذا القرآن، وهو يقرر مثل هذه الحقيقة الضخمة ويزرعها في القلوب‏.‏

ومما قيل للرسل وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل‏:‏

‏{‏إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك كي تستقيم نفس المؤمن وتتوازن‏.‏ فيطمع في رحمة الله ومغفرته فلا ييأس منها أبداً‏.‏ ويحذر عقاب الله ويخشاه فلا يغفل عنه أبداً‏.‏

إنه التوازن طابع الإسلام الأصيل‏.‏

ثم يذكرهم بنعمة الله عليهم أن جعل هذا القرآن عربياً بلسانهم؛ كما يشير إلى طريقتهم في العنت والإلحاد والجدل والتحريف‏:‏

‏{‏ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا‏:‏ لولا فصلت آياته‏!‏ أأعجمي وعربي‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

فهم لا يصغون إليه عربياً، وهم يخافون منه لأنه عربي يخاطب فطرة العرب بلسانهم‏.‏ فيقولون‏:‏ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون‏.‏ ولو جعله الله قرآناً أعجمياً لاعترضوا عليه أيضاً، وقالوا لولا جاء عربياً فصيحاً مفصلاً دقيقاً‏!‏ ولو جعل بعضه أعجمياً وبعضه عربياً لاعترضوا كذلك وقالوا أأعجمي وعربي‏؟‏‏!‏ فهو المراء والجدل والإلحاد‏.‏

والحقيقة التي تخلص من وراء هذا الجدل حول الشكل، هي أن هذا الكتاب هدى للمؤمنين وشفاء، فقلوب المؤمنين هي التي تدرك طبيعته وحقيقته، فتهتدي به وتشتفي‏.‏ فأما الذين لا يؤمنون فقلوبهم مطموسة لا تخالطها بشاشة هذا الكتاب، فهو وقر في آذانهم، وعمىً في قلوبهم‏.‏ وهم لا يتبينون شيئاً‏.‏ لأنهم بعيدون جداً عن طبيعة هذا الكتاب وهواتفه‏:‏

‏{‏قل‏:‏ هو للذين آمنوا هدى وشفاء، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر، وهو عليهم عمىً، أولئك ينادون من مكان بعيد‏}‏‏.‏‏.‏

ويجد الإنسان مصداق هذا القول في كل زمان وفي كل بيئة‏.‏ فناس يفعل هذا القرآن في نفوسهم فينشئها إنشاء، ويحييها إحياء؛ ويصنع بها ومنها العظائم في ذاتها وفيما حولها‏.‏ وناس يثقل هذا القرآن على آذانهم وعلى قلوبهم، ولا يزيدهم إلا صمماً وعمى‏.‏ وما تغير القرآن‏.‏ ولكن تغيرت القلوب‏.‏ وصدق الله العظيم‏.‏

ويشير إلى موسى وكتابه واختلاف قومه في هذا الكتاب‏.‏ يشير إليه نموذجاً للرسل الذين ورد ذكرهم من قبل إجمالاً‏.‏ وقد أجل الله حكمه في اختلافهم، وسبقت كلمته أن يكون الفصل في هذا كله في يوم الفصل العظيم‏:‏

‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم، وإنهم لفي شك منه مريب‏}‏‏.‏‏.‏

وكذلك سبقت كلمة ربك أن يدع الفصل في قضية الرسالة الأخيرة إلى ذلك اليوم الموعود‏.‏ وأن يدع الناس يعملون، ثم يجازون على ما يعملون‏:‏

‏{‏من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد‏}‏‏.‏

لقد جاءت هذه الرسالة تعلن رشد البشرية، وتضع على كاهلها عبء الاختيار؛ وتعلن مبدأ التبعة الفردية‏.‏ ولمن شاء أن يختار ‏{‏وما ربك بظلام للعبيد‏}‏‏.‏‏.‏

وبمناسبة الإشارة إلى الأجل المسمى، وتقرير عدل الله فيه، يقرر أن أمر الساعة وعلمها إلى الله وحده، ويصور علم الله في بعض مجالاته صورة موحية تمس أعماق القلوب‏.‏ وذلك في الطريق إلى عرض مشهد من مشاهد القيامة يسأل فيه المشركون ويجيبون‏:‏

‏{‏إليه يرد علم الساعة، وما تخرج من ثمرات من أكمامها، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه‏.‏ ويوم يناديهم‏:‏ أين شركائي‏؟‏ قالوا‏:‏ آذناك ما منا من شهيد‏.‏ وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل، وظنوا ما لهم من محيص‏}‏‏.‏‏.‏

والساعة غيب غائر في ضمير المجهول‏.‏ والثمرات في أكمامها سر غير منظور، والحمل في الأرحام غيب كذلك مستور‏.‏ وكلها في علم الله، وعلم الله بها محيط‏.‏ ويذهب القلب يتتبع الثمرات في أكمامها، والأجنة في أرحامها‏.‏ يذهب في جنبات الأرض كلها يرقب الأكمام التي لا تحصى؛ ويتصور الأجنة التي لا يحصرها خيال‏!‏ وترتسم في الضمير صورة لعلم الله بقدر ما يطيق الضمير البشري أن يتصور من الحقيقة التي ليس لها حدود‏.‏

ويتصور القطيع الضال من البشر، واقفاً أمام هذا العلم الذي لا يند عنه خاف ولا مستور‏:‏

‏{‏ويوم يناديهم‏:‏ أين شركائي‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

هنا في هذا اليوم الذي لا يجدي فيه جدال، ولا تحريف للكلم ولا محال‏.‏ فماذا هم قائلون‏؟‏

‏{‏قالوا‏:‏ أذناك ما منا من شهيد‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

أعلمناك، أن ليس منا اليوم من يشهد أنك لك شريك‏!‏

‏{‏وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل، وظنوا ما لهم من محيص‏}‏‏.‏‏.‏

فما عادوا يعرفون شيئاً عن دعواهم السابقة‏.‏ ووقع في نفوسهم أن ليس لهم مخرج مما هم فيه وتلك أمارة الكرب المذهل، الذي ينسي الإنسان ماضيه كله؛ فلا يذكر إلا ما هو فيه‏.‏

ذلك هو اليوم الذي لا يحتاطون له، ولا يحترسون منه، مع شدة حرص الإنسان على الخير، وجزعه من الضر‏.‏‏.‏ وهنا يصور لهم نفوسهم عارية من كل رداء، مكشوفة من كل ستار، عاطلة من كل تمويه‏:‏

‏{‏لا يسأم الإنسان من دعاء الخير، وإن مسه الشر فيؤوس قنوط‏.‏ ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته، ليقولن‏:‏ هذا لي، وما أظن الساعة قائمة، ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى‏.‏ فلننبئن الذين كفروا بما عملوا، ولنذيقنهم من عذاب غليظ‏.‏ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه، وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض‏}‏‏.‏‏.‏

إنه رسم دقيق صادق للنفس البشرية، التي لا تهتدي بهدى الله، فتستقيم على طريق‏.‏‏.‏ رسم يصور تقلبها، وضعفها، ومراءها، وحبها للخير، وجحودها للنعمة، واغترارها بالسراء، وجزعها من الضراء‏.‏

‏.‏ رسم دقيق عجيب‏.‏‏.‏

هذا الإنسان لا يسأم من دعاء الخير‏.‏ فهو ملح فيه، مكرر له، يطلب الخير لنفسه ولا يمل طلبه‏.‏ وإن مسه الشر‏.‏ مجرد مس‏.‏ فقد الأمل والرجاء؛ وظن أن لا مخرج له ولا فرج، وتقطعت به الأسباب؛ وضاق صدره وكبر همه؛ ويئس من رحمة الله وقنط من رعايته‏.‏ ذلك أن ثقته بربه قليلة، ورباطه به ضعيف‏!‏

وهذا الإنسان إذا أذاقه الله منه رحمة بعد ذلك الضر، استخفته النعمة فنسي الشكر، واستطاره الرخاء فغفل عن مصدره‏.‏ وقال‏:‏ هذا لي‏.‏ نلته باستحقاقي وهو دائم علي‏!‏ ونسي الآخرة واستبعد أن تكون؛ ‏{‏وما أظن الساعة قائمة‏}‏‏.‏‏.‏ وانتفخ في عين نفسه فراح يتألى على الله، ويحسب لنفسه مقاماً عنده ليس له، وهو ينكر الآخرة فيكفر بالله‏.‏ ومع هذا يظن أنه لو رجع إليه كانت له وجاهته عنده‏!‏ ‏{‏ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى‏}‏ ‏!‏ وهو غرور‏.‏‏.‏ عندئذ يجيء التهديد في موضعه لهذا الغرور‏:‏

‏{‏فلننبئن الذين كفروا بما عملوا، ولنذيقنهم من عذاب غليظ‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا الإنسان إذا أنعم الله عليه‏:‏ استعظم وطغى‏.‏ وأعرض ونأى بجانبه‏.‏ فأما إذا مسه الشر فيتخاذل ويتهاوى، ويصغر ويتضاءل، ويتضرع ولا يمل الضراعة‏.‏ فهو ذو دعاء عريض‏!‏

أية دقة، وأي تسجيل للصغيرة في نفس الإنسان والكبيرة‏!‏ إنه خالقه الذي يصفه‏.‏ خالقه الذي يعرف دروب نفسه‏.‏ ويعرف أنها تظل تدور في هذه الدروب المنحنية، إلا أن تهتدي إلى الطريق المستقيم‏.‏‏.‏ فتستقيم‏.‏‏.‏

وأمام هذه النفس العارية من كل رداء، المكشوفة من كل ستار، يسألهم‏:‏ فماذا أنتم إذن صانعون إن كان هذا الذي تكذبون به، من عند الله، وكان هذا الوعيد حقاً؛ وكنتم تعرضون أنفسكم لعاقبة التكذيب والشقاق‏:‏

‏{‏قل‏:‏ أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به‏؟‏ من أضل ممن هو في شقاق بعيد‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إنه احتمال يستحق الاحتياط‏.‏ فماذا أخذوا لأنفسهم من وسائل الاحتياط‏؟‏‏!‏

ويدعهم بعدئذ يفكرون ويحسبون‏.‏ ويتجه إلى الكون العريض‏.‏ يكشف عن بعض ما قدر فيه وفي ذوات أنفسهم من مقادير‏:‏

‏{‏سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق‏.‏ أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد‏؟‏ ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم‏.‏ ألا إنه بكل شيء محيط‏}‏‏.‏‏.‏

إنه الإيقاع الأخير‏.‏ وإنه لإيقاع كبير‏.‏‏.‏

إنه وعد الله لعباده بني الإنسان أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون، ومن خفايا أنفسهم على السواء‏.‏ وعدهم أن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق‏.‏ هذا الدين‏.‏ وهذا الكتاب‏.‏ وهذا المنهج‏.‏ وهذا القول الذي يقوله لهم‏.‏ ومن أصدق من الله حديثاًَ‏؟‏

ولقد صدقهم الله وعده؛ فكشف لهم عن آياته في الآفاق في خلال القرون الأربعة عشر التي تلت هذا الوعد؛ وكشف لهم عن آياته في أنفسهم‏.‏

سورة الشورى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 24‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ عسق ‏(‏2‏)‏ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏4‏)‏ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏6‏)‏ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ‏(‏7‏)‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏8‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏10‏)‏ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏11‏)‏ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏12‏)‏ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏14‏)‏ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏15‏)‏ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‏(‏16‏)‏ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ‏(‏17‏)‏ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏18‏)‏ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏19‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ‏(‏20‏)‏ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏22‏)‏ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏23‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

هذه السورة تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية؛ ولكنها تركز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة، حتى ليصح أن يقال‏:‏ إنها هي المحور الرئيسي الذي ترتبط به السورة كلها؛ وتأتي سائر الموضوعات فيها تبعاً لتلك الحقيقة الرئيسية فيها‏.‏

هذا مع أن السورة تتوسع في الحديث عن حقيقة الوحدانية، وتعرضها من جوانب متعددة؛ كما أنها تتحدث عن حقيقة القيامة والإيمان بها؛ ويأتي ذكر الآخرة ومشاهدها في مواضع متعددة منها‏.‏ وكذلك تتناول عرض صفات المؤمنين وأخلاقهم التي يمتازون بها‏.‏ كما تلم بقضية الرزق‏:‏ بسطه وقبضه؛ وصفة الإنسان في السراء والضراء‏.‏

ولكن حقيقة الوحي والرسالة، وما يتصل بها، تظل مع ذلك هي الحقيقة البارزة في محيط السورة، والتي تطبعها وتظللها‏.‏ وكأن سائر الموضوعات الأخرى مسوقة لتقوية تلك الحقيقة الأولى وتوكيدها‏.‏

ويسير سياق السورة في عرض تلك الحقيقة، وما يصاحبها من موضوعات أخرى بطريقة تدعو إلى مزيد من التدبر والملاحظة‏.‏ فهي تعرض من جوانب متعددة‏.‏ يفترق بعضها عن بعض ببضع آيات تتحدث عن وحدانية الخالق‏.‏ أو وحدانية الرازق‏.‏ أو وحدانية المتصرف في القلوب‏.‏ أو وحدانية المتصرف في المصير‏.‏‏.‏ ذلك بينما يتجه الحديث عن حقيقة الوحي والرسالة إلى تقرير وحدانية الموحي سبحانه ووحدة الوحي‏.‏ ووحدة العقيدة‏.‏ ووحدة المنهج والطريق‏.‏ وأخيراً وحدة القيادة البشرية في ظل العقيدة‏.‏

ومن ثم يرتسم في النفس خط الوحدانية بارزاً واضحاً، بشتى معانيه وشتى ظلاله وشتى إيحاءاته، من وراء موضوعات السورة جميعاً‏.‏‏.‏ ونضرب بعض الأمثلة من السورة إجمالاً، قبل أن نأخذ في التفصيل‏:‏

تبدأ بالأحرف المقطعة‏:‏ «حام‏.‏ ميم‏.‏ سين‏.‏ قاف»‏.‏‏.‏ يليها‏:‏ ‏{‏كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏ مقرراً وحدة مصدر الوحي في الأولين والآخرين‏:‏ ‏{‏إليك وإلى الذين من قبلك‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يستطرد السياق في صفة الله العزيز الحكيم‏:‏ ‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم‏}‏‏.‏‏.‏ مقرراً وحدانية المالك لما في السماوات والأرض واستعلاءه وعظمته على وجه الانفراد‏.‏

ثم يستطرد استطراداً آخر في وصف حال الكون تجاه قضية الإيمان بالمالك الواحد، وتجاه الشرك الذي يشذ به بعض الناس‏:‏ ‏{‏تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن، والملائكة يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون لمن في الأرض، ألا إن الله هو الغفور الرحيم، والذين اتخذوا من دونه أولياء، الله حفيظ عليهم، وما أنت عليهم بوكيل‏}‏‏.‏‏.‏ فإذا الكون كله مشغول بقضية الإيمان والشرك حتى إن السماوات ليكدن يتفطرن من شذوذ بعض أهل الأرض، بينما الملائكة يستغفرون لمن في الأرض جميعا من هذه الفعلة الشنعاء التي جاء بها بعض المنحرفين‏!‏

وبعد هذه الجولة يعود السياق إلى الحقيقة الأولى‏:‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك، قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه، فريق في الجنة وفريق في السعير‏}‏‏.‏

ثم يستطرد مع ‏{‏فريق في الجنة وفريق في السعير‏}‏‏.‏‏.‏ فقوله ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة‏.‏ ولكن مشيئته اقتضت بما له من علم وحكمة أن ‏{‏يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير‏}‏‏.‏‏.‏ ويقرر أن الله وحده هو الولي ‏{‏وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏

ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى، حقيقة الوحي والرسالة، فيقرر أن الحكم فيما يختلف فيه البشر من شيء هو الله الذي أنزل هذا القرآن ليرجع إليه الناس في كل اختلاف‏:‏ ‏{‏وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله‏.‏ ذلكم الله ربي عليه توكلت، وإليه أنيب‏}‏‏.‏‏.‏

ويستطرد مع الربوبية إلى وحدانية الخالق، وتفرد ذاته‏.‏ ووحدانية المتصرف في مقادير السماوات والأرض، وفي بسط الرزق وقبضه‏.‏ وفي علمه بكل شيء‏:‏ ‏{‏فاطر السماوات والأرض، جعل لكم من أنفسكم أزواجا، ومن الأنعام أزواجاً، يذرؤكم فيه، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير‏.‏ له مقاليد السماوات والأرض، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه بكل شيء عليم‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يعود إلى الحقيقة الأولى‏:‏ ‏{‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى‏:‏ أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه‏.‏ كبر على المشركين ما تدعوهم إليه‏.‏ الله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب‏.‏ ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب‏.‏ فلذلك فادع واستقم كما أمرت، ولا تتبع أهواءهم وقل‏:‏ آمنت بما أنزل الله من كتاب‏.‏‏.‏ الخ‏}‏‏.‏‏.‏

وعلى مثل هذا النسق تمضي السورة في عرض هذه الحقيقة؛ محوطة بمثل هذا الجو، وهذه الاستطرادات المتعلقة بقضايا العقيدة الأخرى، المثبتة في الوقت ذاته للحقيقة الأولى التي تبدو كأنها موضوع السورة الرئيسي‏.‏

وهذا النسق واضح وضوحاً كاملاً في هذا الدرس الأول من السورة‏.‏ فالقارئ يلتقي بعد كل بعض آيات بحقيقة الوحي والرسالة في جانب من جوانبها‏.‏

فأما الدرس الثاني ويؤلف بقية السورة، فيبدأ باستعراض بعض آيات الله في بسط الرزق وقبضه؛ وفي تنزيل الغيث برحمته؛ وفي خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة؛ وفي الفلك الجواري في البحر كالأعلام‏.‏ ويستطرد من هذه الآيات إلى صفة المؤمنين التي تفردهم وتميز جماعتهم‏.‏ فإلى مشهد من مشاهد القيامة يعرض صورة الظالمين لما رأوا العذاب‏:‏ ‏{‏يقولون هل إلى مرد من سبيل، وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي‏}‏ واستعلاء المؤمنين يومئذ ووقوفهم موقف المقرر لحال الظالمين‏:‏

‏{‏وقال الذين آمنوا‏:‏ إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة‏.‏ ألا إن الظالمين في عذاب مقيم‏}‏

وفي ظل هذا المشهد يدعو الناس إلى إنقاذ أنفسهم من مثل هذا الموقف قبل فوات الأوان‏:‏ ‏{‏استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، ما لكم من ملجأ يومئذ، وما لكم من نكير‏}‏ ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى في السورة‏.‏ حقيقة الوحي والرسالة‏.‏ في جانب من جوانبها‏:‏ ‏{‏فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ‏.‏‏.‏‏}‏ ويمضي سياق السورة حتى ختامها يدور حول هذا المحور مباشرة أو غير مباشرة، مع طابع الاستطراد بين كل إشارة وإشارة إلى تلك الحقيقة، حتى يكون ختام السورة هذا البيان في شأن الوحي والرسالة‏:‏ ‏{‏وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء، إنه عليّ حكيم‏.‏ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان؛ ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم‏.‏ صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور‏}‏ وبعد فمن وراء التركيز على حقيقة الوحي والرسالة في سياق السورة كله يبرز هدف خاص لعرضها على هذا النحو وفي هذا التتابع‏.‏

هذا الهدف هو تعيين القيادة الجديدة للمبشرين ممثلة في الرسالة الأخيرة، ورسولها، والأمة المسلمة التي تتبع نهجه الإلهي الثابت القويم‏.‏

وتبدأ أول إشارة مع مطلع السورة ‏{‏كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏ لتقرر أن الله هو الموحي بجميع الرسالات لجميع الرسل، وأن الرسالة الأخيرة هي امتداد لأمر مقرر مطرد من قديم‏.‏

وتأتي الإشارة الثانية بعد قليل‏:‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها‏}‏‏.‏‏.‏ لتقرر مركز القيادة الجديدة التي سترد الإشارة إليها فيما بعد‏.‏

وفي الإشارة الثالثة يقرر وحدة الرسالة بعد ما قرر في الإشارة الأولى وحدة المصدر‏:‏ ‏{‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه‏}‏‏.‏‏.‏

وتستطرد هذه الإشارة إلى تقرير أن التفرق قد وقع، مخالفاً لهذه التوصية، ولم يقع عن جهل من أتباع أولئك الرسل الكرام ولكن عن علم‏.‏ وقع بغيا وظلما وحسدا‏:‏ ‏{‏وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم‏}‏‏.‏‏.‏

ثم تستطرد كذلك إلى بيان حال الذين جاءوا من بعد أولئك الذين اختلفوا‏:‏ ‏{‏وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب‏}‏‏.‏‏.‏

وعند هذا الحد يتبين أن البشرية قد آلت إلى فوضى وارتياب، ولم تعد لها قيادة راشدة تقوم على نهج ثابت قويم‏.‏‏.‏ فرسالة السماء التي تقود البشرية قد آلت إلى اختلاف بين أتباعها‏.‏

والذين جاءوا من بعدهم تلقوها في ريبة وفي شك لا تستقيم معهما قيادة راشدة‏.‏

ومن ثم يعلن انتداب الرسالة الأخيرة وحاملها صلى الله عليه وسلم لهذه القيادة‏:‏ ‏{‏فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم‏.‏ وقل‏:‏ آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم‏.‏ الله ربنا وربكم‏.‏‏.‏ الخ‏}‏‏.‏‏.‏ ومن ثم تجيء صفة الجماعة المؤمنة المميزة لها طبيعية في سياق هذه السورة في الدرس الثاني بوصفها الجماعة التي ستقوم على قيادة هذه البشرية على ذلك النهج الثابت القويم‏.‏

وعلى ضوء هذه الحقيقة يصبح سياق السورة وموضوعها الرئيسي والموضوعات الأخرى فيه واضحة القصد والاتجاه‏.‏ وتتبع هذا السياق بالتفصيل يزيد هذا الأمر وضوحا‏.‏‏.‏

‏{‏حم‏.‏ عسق‏.‏ كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم‏.‏ له ما في السماوات وما في الأرض، وهو العلي العظيم‏.‏ تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن، والملائكة يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون لمن في الأرض‏.‏ ألا إن الله هو الغفور الرحيم‏.‏ والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم، وما أنت عليهم بوكيل‏}‏‏.‏‏.‏

سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور بما فيه الكفاية‏.‏ وهي تذكر هنا في مطلع السورة، ويليها قوله تعالى‏:‏

‏{‏كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏

أي مثل ذلك، وعلى هذا النسق، وبهذه الطريقة يكون الوحي إليك وإلى الذين من قبلك‏.‏ فهو كلمات وألفاظ وعبارات مصوغة من الأحرف التي يعرفها الناس ويفهمونها ويدركون معانيها؛ ولكنهم لا يملكون أن يصوغوا مثلها مما بين أيديهم من أحرف يعرفونها‏.‏

ومن الناحية الأخرى تتقرر وحدة الوحي‏.‏ وحدة مصدره فالموحي هو الله العزيز الحكيم‏.‏ والموحى إليهم هم الرسل على مدار الزمان‏.‏ والوحي واحد في جوهره على اختلاف الرسل واختلاف الزمان‏:‏ ‏{‏إليك وإلى الذين من قبلك‏}‏‏.‏‏.‏

إنها قصة بعيدة البداية، ضاربة في أطواء الزمان‏.‏ وسلسلة كثيرة الحلقات، متشابكة الحلقات‏.‏ ومنهج ثابت الأصول على تعدد الفروع‏.‏

وهذه الحقيقة على هذا النحو حين تستقر في ضمائر المؤمنين تشعرهم بأصالة ما هم عليه وثباته، ووحدة مصدره وطريقه‏.‏ وتشدهم إلى مصدر هذا الوحي‏:‏ ‏{‏الله العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏ كما تشعرهم بالقرابة بينهم وبين المؤمنين أتباع الوحي في كل زمان ومكان، فهذه أسرتهم تضرب في بطون التاريخ، وتمتد جذورها في شعاب الزمن؛ وتتصل كلها بالله في النهاية‏.‏ فيلتقون فيه جميعا‏.‏ وهو ‏{‏العزيز‏}‏ القوي القادر ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي يوحي لمن يشاء بما يشاء وفق حكمة وتدبير‏.‏ فأنى يصرفون عن هذا المنهج الإلهي الواحد الثابت إلى السبل المتفرقة التي لا تؤدي إلى الله؛ ولا يعرف لها مصدر، ولا تستقيم على اتجاه قاصد قويم‏؟‏

ويستطرد في صفة الله الذي يوحي وحده إلى الرسل جميعا؛ فيقرر أنه المالك الوحيد لما في السماوات وما في الأرض، وأنه وحده العلي العظيم‏:‏

‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض، وهو العلي العظيم‏}‏‏.‏

وكثيراً ما يُخدع البشر فيحسبون أنهم يملكون شيئاً، لمجرد أنهم يجدون أشياء في أيديهم، مسخرة لهم، ينتفعون بها، ويستخدمونها فيما يشاءون‏.‏ ولكن هذا ليس ملكاً حقيقياً‏.‏ إنما الملك الحقيقي لله؛ الذي يوجد ويعدم، ويحيي ويميت؛ ويملك أن يعطي البشر ما يشاء، ويحرمهم ما يشاء؛ وأن يذهب بما في أيديهم من شيء، وأن يضع في أيديهم بدلاً مما أذهب‏.‏‏.‏ الملك الحقيقي لله الذي يحكم طبائع الأشياء، ويصرفها وفق الناموس المختار، فتلبي وتطيع وتتصرف وفق ذلك الناموس‏.‏ وكل ما في السماوات وما في الأرض من شيء «لله» بهذا الاعتبار الذي لا يشاركه فيه أحد سواه‏.‏‏.‏ ‏{‏وهو العلي العظيم‏}‏‏.‏‏.‏ فليس هو الملك فحسب، ولكنه ملك العلو والعظمة على وجه التفرد كذلك‏.‏ العلو الذي كل شيء بالقياس إليه سفول؛ والعظمة التي كل شيء بالقياس إليها ضآلة‏!‏

ومتى استقرت هذه الحقيقة استقراراً صادقاً في الضمائر، عرف الناس إلى أين يتجهون فيما يطلبون لأنفسهم من خير ومن رزق ومن كسب‏.‏ فكل ما في السماوات وما في الأرض لله‏.‏ والمالك هو الذي بيده العطاء‏.‏ ثم إنه هو ‏{‏العلي العظيم‏}‏ الذي لا يصغر ولا يسفل من يمد يده إليه بالسؤال؛ كما لو مدها للمخاليق، وهم ليسوا بأعلياء ولا عظماء‏.‏

ثم يعرض مظهراً لخلوص الملكية لله في الكون، وللعلو والعظمة كذلك‏.‏ يتمثل في حركة السماوات تكاد تتفطر من روعة العظمة التي تستشعرها لربها، ومن زيغ بعض من في الأرض عنها‏.‏ كما يتمثل في حركة الملائكة يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون لأهل الأرض من انحرافهم وتطاولهم‏:‏

‏{‏تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن، والملائكة يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون لمن في الأرض‏.‏ ألا إن الله هو الغفور الرحيم‏}‏‏.‏‏.‏

والسماوات هي هذه الخلائق الضخمة الهائلة التي نراها تعلونا حيثما كنا على ظهر هذه الأرض، والتي لا نعلم إلا أشياء قليلة عن جانب منها صغير‏.‏ وقد عرفنا حتى اليوم أن بعض ما في السماوات نحو من مئة ألف مليون مجموعة من الشموس‏.‏ في كل منها نحو مئة ألف مليون شمس كشمسنا هذه، التي مبلغ حجمها أكثر من مليون ضعف من حجم أرضنا الصغيرة‏!‏ وهذه المجموعات من الشموس التي أمكن لنا نحن البشر أن نرصدها بمراصدنا الصغيرة، متناثرة في فضاء السماء مبعثرة، وبينها مسافات شاسعة تحسب بمئات الألوف والملايين من السنوات الضوئية‏.‏ أي المحسوبة بسرعة الضوء، التي تبلغ 168‏.‏ 000 ميل في الثانية‏!‏

هذه السماوات التي عرفنا منها هذا الجانب الصغير المحدود يكدن يتفطرن من فوقهن‏.‏‏.‏ من خشية الله وعظمته وعلوه، وإشفاقاً من انحراف بعض أهل الأرض ونسيانهم لهذه العظمة التي يحسها ضمير الكون، فيرتعش، وينتفض، ويكاد ينشق من أعلى مكان فيه‏!‏

‏{‏والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض‏}‏‏.‏

والملائكة أهل طاعة مطلقة، فقد كانوا أولى الخلق بالطمأنينة‏.‏ ولكنهم دائبون في تسبيح ربهم، لما يحسون من علوه وعظمته، ولما يخشون من التقصير في حمده وطاعته‏.‏ ذلك بينما أهل الأرض المقصرون الضعاف ينكرون وينحرفون؛ فيشفق الملائكة من غضب الله؛ ويروحون يستغفرون لأهل الأرض مما يقع في الأرض من معصية وتقصير‏.‏ ويجوز أن يكون المقصود هو استغفار الملائكة للذين آمنوا، كالذي جاء في سورة غافر‏:‏ ‏{‏الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم، ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا‏}‏ وفي هذه الحالة يبدو‏:‏ كم يشفق الملائكة من أية معصية تقع في الأرض، حتى من الذين آمنوا، وكم يرتاعون لها، فيستغفرون ربهم وهم يسبحون بحمده استشعاراً لعلوه وعظمته؛ واستهوالاً لأية معصية تقع في ملكه؛ واستدرارا لمغفرته ورحمته؛ وطمعاً فيهما‏:‏

‏{‏ألا إن الله هو الغفور الرحيم‏}‏‏.‏‏.‏

فيجمع إلى العزة والحكمة، العلو والعظمة، ثم المغفرة والرحمة‏.‏‏.‏ ويعرف العباد ربهم بشتى صفاته‏.‏

وفي نهاية الفقرة بعد تقرير تلك الصفات وأثرها في الكون كله يعرض للذين يتخذون من دون الله أولياء‏.‏ وقد بدا أن ليس في الكون غيره من ولي‏.‏ ليعفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمرهم فما هو عليهم بوكيل، والله هو الحفيظ عليهم، وهو بهم كفيل‏:‏

‏{‏والذين اتخذوا من دونه أولياء، الله حفيظ عليهم، وما أنت عليهم بوكيل‏}‏‏.‏‏.‏

وتبدو للضمير صورة هؤلاء المناكيد التعساء؛ وهم يتخذون من دون الله أولياء؛ وأيديهم مما أمسكت خاوية، وليس هنالك إلا الهباء‏!‏ تبدو للضمير في ضآلتهم وضآلة أوليائهم من دون الله‏.‏ والله حفيظ عليهم‏.‏ وهم في قبضته ضعاف صغار‏.‏ فأما النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه، فهم معفون من التفكير في شأنهم، والاحتفال بأمرهم، فقد كفاهم الله هذا الاهتمام‏.‏

ولا بد أن تستقر هذه الحقيقة في ضمائر المؤمنين لتهدأ وتطمئن من هذا الجانب في جميع الأحوال‏.‏ سواء كان أولئك الذين يتخذون من دون الله أولياء أصحاب سلطان ظاهر في الأرض، أم كانوا من غير ذوي السلطان‏.‏ تطمئن في الحالة الأولى لهوان شأن أصحاب السلطان الظاهر مهما تجبروا ما داموا لا يستمدون سلطانهم هذا من الله؛ والله حفيظ عليهم؛ وهو من ورائهم محيط؛ والكون كله مؤمن بربه من حولهم، وهم وحدهم المنحرفون كالنغمة النشاز في اللحن المتناسق‏!‏ وتطمئن في الحالة الثانية من ناحية أن ليس على المؤمنين من وزر في تولي هؤلاء غير الله؛ فهم ليسوا بوكلاء على من ينحرفون من الخلق؛ وليس عليهم إلا النصح والبلاغ‏.‏ والله هو الحفيظ على قلوب العباد‏.‏

ومن ثم يسير المؤمنون في طريقهم‏.‏ مطمئنين إلى أنه الطريق الموصول بوحي الله‏.‏

وأن ليس عليهم من ضير في انحراف المنحرفين عن الطريق‏.‏ كائنا ما يكون هذا الانحراف‏.‏‏.‏

ثم يعود إلى الحقيقة الأولى‏:‏

‏{‏وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه، فريق في الجنة وفريق في السعير‏.‏ ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة، ولكن يدخل من يشاء في رحمته، والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير‏.‏ أم اتخذوا من دونه أولياء‏؟‏ فالله هو الولي‏.‏ وهو يحيي الموتى‏.‏ وهو على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

يعطف هذا الطرف من حقيقة الوحي على ذاك الطرف الذي بدأ به السورة‏.‏ والمناسبة هنا بين تلك الأحرف المقطعة، وعربية القرآن، مناسبة ظاهرة‏.‏ فهذه أحرفهم العربية، وهذا قرآنهم العربي‏.‏ نزل الله به وحيه في هذه الصورة العربية، ليؤدي به الغاية المرسومة‏:‏

‏{‏لتنذر أم القرى ومن حولها‏}‏‏.‏‏.‏

وأم القرى مكة المكرمة‏.‏ المكرمة ببيت الله العتيق فيها‏.‏ وقد اختار الله أن تكون هي وما حولها من القرى موضع هذه الرسالة الأخيرة؛ وأنزل القرآن بلغتها العربية لأمر يعلمه ويريده‏.‏ و‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالته‏}‏ وحين ننظر اليوم من وراء الحوادث واستقرائها، ومن وراء الظروف ومقتضياتها، وبعد ما سارت هذه الدعوة في الخط الذي سارت فيه، وأنتجت فيه نتاجها‏.‏‏.‏ حين ننظر اليوم هذه النظرة ندرك طرفاً من حكمة الله في اختيار هذه البقعة من الأرض، في ذلك الوقت من الزمان، لتكون مقر الرسالة الأخيرة، التي جاءت للبشرية جميعاً‏.‏ والتي تتضح عالميتها منذ أيامها الأولى‏.‏

كانت الأرض المعمورة عند مولد هذه الرسالة الأخيرة تكاد تتقسمها امبراطوريات أربع‏:‏ الامبراطورية الرومانية في أوربا وطرف من آسيا وإفريقية‏.‏ والامبراطورية الفارسية وتمد سلطانها على قسم كبير من آسيا وإفريقية‏.‏ والامبراطورية الهندية‏.‏ ثم الامبراطورية الصينية‏.‏ وتكادان تكونان مغلقتين على أنفسهما ومعزولتين بعقائدهما واتصالاتهما السياسية وغيرها وهذه العزلة كانت تجعل الامبراطوريتين الأوليين هما ذواتا الأثر الحقيقي في الحياة البشرية وتطوراتها‏.‏

وكانت الديانتان السماويتان قبل الإسلام اليهودية والنصرانية قد انتهتا إلى أن تقعا في صورة من الصور تحت نفوذ هاتين الامبراطوريتين، حيث تسيطر عليهما الدولة في الحقيقة، ولا تسيطران على الدولة‏!‏ فضلا على ما أصابهما من انحراف وفساد‏.‏

ولقد وقعت اليهودية فريسة لاضطهاد الرومان تارة، ولاضطهاد الفرس تارة، ولم تعد تسيطر في هذه الأرض على شيء يذكر على كل حال؛ وانتهت بسبب عوامل شتى إلى أن تكون ديانة مغلقة على بني إسرائيل، لا مطمع لها ولا رغبة في أن تضم تحت جناحها شعوبا أخرى‏.‏

وأما المسيحية فقد ولدت في ظل الدولة الرومانية‏.‏ التي كانت تسيطر حين الميلاد على فلسطين وسورية ومصر وبقية المناطق التي انتشرت فيها المسيحية سرا؛ وهي تتخفى من مطاردة الامبراطورية الرومانية التي اضطهدت العقيدة الجديدة اضطهاداً فظيعاً، تخللته مذابح شملت عشرات الألوف في قسوة ظاهرة‏.‏

فلما انقضى عهد الاضطهاد الروماني، ودخل الامبراطور الروماني في المسيحية، دخلت معه أساطير الرومان الوثنية، ومباحث الفلسفة الإغريقية الوثنية كذلك؛ وطبعت المسيحية بطابع غريب عليها؛ فلم تعد هي المسيحية السماوية الأولى‏.‏ كما أن الدولة ظلت في طبيعتها لا تتأثر كثيراً بالديانة؛ وظلت هي المهيمنة، ولم تهيمن العقيدة عليها أصلا‏.‏ وذلك كله فضلاً على ما انتهت إليه المذاهب المسيحية المتعددة من تطاحن شامل فيما بينها مزق الكنيسة، وكاد يمزق الدولة كلها تمزيقاً‏.‏ وأوقع في الاضطهاد البشع المخالفين للمذهب الرسمي للدولة‏.‏ وهؤلاء وهؤلاء كانوا في الانحراف عن حقيقة المسيحية سواء‏!‏

وفي هذا الوقت جاء الإسلام‏.‏ جاء لينقذ البشرية كلها مما انتهت إليه من انحلال وفساد واضطهاد وجاهلية عمياء في كل مكان معمور‏.‏ وجاء ليهيمن على حياة البشرية ويقودها في الطريق إلى الله على هدى وعلى نور‏.‏ ولم يكن هنالك بد من أن يسيطر الإسلام لتحقيق هذه النقلة الضخمة في حياة البشر‏.‏ فلم يكن هنالك بد من أن يبدأ رحلته من أرض حرة لا سلطان فيها لامبراطورية من تلك الامبراطوريات؛ وأن ينشأ قبل ذلك نشأة حرة لا تسيطر عليه فيها قوة خارجة على طبيعته؛ بل يكون فيها هو المسيطر على نفسه وعلى من حوله‏.‏ وكانت الجزيرة العربية، وأم القرى وما حولها بالذات، هي أصلح مكان على وجه الأرض لنشأة الإسلام يومئذ، وأصلح نقطة يبدأ منها رحلته العالمية التي جاء من أجلها منذ اللحظة الأولى‏.‏

لم تكن هناك حكومة منظمة ذات قوانين وتشريعات وجيوش وشرطة وسلطان شامل في الجزيرة‏.‏ تقف للعقيدة الجديدة‏.‏ بسلطانها المنظم، وتخضع لها الجماهير خضوعا دقيقاً، كما هو الحال في الامبراطوريات الأربع‏.‏

ولم تكن هنالك ديانة ثابتة كذلك ذات معالم واضحة؛ فقد كانت الوثنية الجاهلية ممزقة، ومعتقداتها وعباداتها شتى‏.‏ وكان للعرب آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب والأصنام‏.‏ ومع أنه كان للكعبة وقريش سلطان ديني عام في الجزيرة، فإنه لم يكن ذلك السلطان المحكم الذي يقف وقفة حقيقية في وجه الدين الجديد‏.‏ ولولا المصالح الاقتصادية والأوضاع الخاصة لرؤساء قريش ما وقفوا هذه الوقفة في وجه الإسلام‏.‏ فقد كانوا يدركون ما في عقائدهم من خلخلة واضطراب‏.‏

وكانت خلخلة النظام السياسي للجزيرة إلى جانب خلخلة النظام الديني، أفضل ظرف يقوم فيه دين جديد، متحرراً من كل سلطان عليه في نشأته، خارج عن طبيعته‏.‏

وفي وسط هذه الخلخلة كان للأوضاع الاجتماعية في الجزيرة قيمتها كذلك في حماية نشأة الدعوة الجديدة‏.‏ كان النظام القبلي هو السائد‏.‏ وكان للعشيرة وزنها في هذا النظام‏.‏ فلما قام محمد صلى الله عليه وسلم بدعوته وجد من سيوف بني هاشم حماية له؛ ووجد من التوازن القبلي فرصة، لأن العشائر كانت تشفق من إثارة حرب على بني هاشم بسبب حمايتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم وهم على غير دينه‏.‏

بل إنها كانت تشفق من الاعتداء على كل من له عصبية من القلائل الذين أسلموا في أول الدعوة، وتدع تأديبه أو تعذيبه لأهله أنفسهم‏.‏ والموالي الذين عذبوا لإسلامهم عذبهم سادتهم‏.‏ ومن ثم كان أبو بكر رضي الله عنه يشتري هؤلاء الموالي ويعتقهم، فيمتنع تعذيبهم بهذا الإجراء، وتمتنع فتنتهم عن دينهم‏.‏‏.‏ ولا يخفى ما في هذا الوضع من ميزة بالقياس إلى نشأة الدين الجديد‏.‏

ثم كانت هنالك صفات الشعب العربي نفسه من الشجاعة والأريحية والنخوة‏.‏ وهي استعدادات ضرورية لحمل العقيدة الجديدة والنهوض بتكاليفها‏.‏

وقد كانت الجزيرة في ذلك الزمان تزخر بحضانة عميقة لبذور نهضة؛ وكانت تجيش بكفايات واستعدادات وشخصيات تتهيأ لهذه النهضة المذخورة لها في ضمير الغيب؛ وكانت قد حفلت بتجارب إنسانية معينة من رحلاتها إلى أطراف امبراطوريتي كسرى وقيصر‏.‏ وأشهرها رحلة الشتاء إلى الجنوب ورحلة الصيف إلى الشمال‏.‏ المذكورتان في القرآن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لإيلاف قريش‏.‏ إيلافهم رحلة الشتاء والصيف‏.‏ فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف‏}‏ وتضافرت أسباب كثيرة لحشد رصيد ضخم من التجارب مع التفتح والتأهب لاستقبال المهمة الضخمة التي اختيرت لها الجزيرة‏.‏ فلما جاءها الإسلام استغل هذا الرصيد كله، ووجه هذه الطاقة المختزنة، التي كانت تتهيأ كنوزها للتفتح؛ ففتحها الله بمفتاح الإسلام‏.‏ وجعلها رصيداً له وذخراً‏.‏ ولعل هذا بعض ما يفسر لنا وجود هذا الحشد من الرجال العظام في الصحابة في الجيل الأول في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من أمثال‏:‏ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‏.‏ وحمزة والعباس وأبي عبيدة‏.‏ وسعد ابن أبي وقاص وخالد بن الوليد وسعد بن معاذ، وأبي أيوب الأنصاري وغيرهم وغيرهم من تلك العصبة التي تلقت الإسلام؛ فتفتحت له، وحملته، وكبرت به من غير شك وصلحت؛ ولكنها كانت تحمل البذرة الصالحة للنمو والتمام‏.‏

وليس هنا مكان التفصيل في وصف استعداد الجزيرة لحمل الرسالة الجديدة، وصيانة نشأتها، وتمكينها من الهيمنة على ذاتها وعلى من حولها، مما يشير إلى بعض أسباب اختيارها لتكون مهد العقيدة الجديدة، التي جاءت للبشرية جميعها‏.‏ وإلى اختيار هذا البيت بالذات ليكون منه حامل هذه الرسالة صلى الله عليه وسلم فذلك أمر يطول‏.‏ ومكانه رسالة خاصة مستقلة‏.‏ وحسبنا هذه الإشارة إلى حكمة الله المكنونة، التي يظهر التدبر والتفكر بعض أطرافها كلما اتسعت تجارب البشر وإدراكهم لسنن الحياة‏.‏

وهكذا جاء هذا القرآن عربياً لينذر أم القرى ومن حولها‏.‏ فلما خرجت الجزيرة من الجاهلية إلى الإسلام، وخلصت كلها للإسلام، حملت الراية وشرقت بها وغربت؛ وقدمت الرسالة الجديدة والنظام الإنساني الذي قام على أساسها، للبشرية جميعها كما هي طبيعة هذه الرسالة وكان الذين حملوها هم أصلح خلق الله لحملها ونقلها؛ وقد خرجوا بها من أصلح مكان في الأرض لميلادها ونشأتها‏.‏

وليس من المصادفات أن يعيش الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تخلص الجزيرة العربية للإسلام؛ ويتمحض هذا المهد للعقيدة التي اختير لها على علم‏.‏ كما اختير لها اللسان الذي يصلح لحملها إلى أقطار الأرض جميعا‏.‏ فقد كانت اللغة العربية بلغت نضجها وأصبحت صالحة لحمل هذه الدعوة والسير بها في أقطار الأرض‏.‏ ولو كانت لغة ميتة أو ناقصة التكوين الطبيعي ما صلحت لحمل هذه الدعوة أولاً، وما صلحت بالذات لنقلها إلى خارج الجزيرة العربية ثانياً‏.‏‏.‏ وقد كانت اللغة، كأصحابها، كبيئتها، أصلح ما تكون لهذا الحدث الكوني العظيم‏.‏

وهكذا تبدو سلسلة طويلة من الموافقات المختارة لهذه الرسالة، حيثما وجه الباحث نظره إلى تدبر حكمة الله واختياره ومصداق قوله‏:‏ ‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالته‏}‏ ‏{‏لتنذر أم القرى ومن حولها، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه، فريق في الجنة وفريق في السعير‏}‏‏.‏‏.‏

وقد كان الإنذار الأكبر والأشد والأكثر تكراراً في القرآن هو الإنذار بيوم الجمع‏.‏ يوم الحشر‏.‏ يوم يجمع الله ما تفرق من الخلائق على مدار الأزمنة واختلاف الأمكنة، ليفرقهم من جديد‏:‏ ‏{‏فريق في الجنة وفريق في السعير‏}‏‏.‏ بحسب عملهم في دار العمل، في هذه الأرض، في فترة الحياة الدينا‏.‏

‏{‏ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة‏.‏ ولكن يدخل من يشاء في رحمته، والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير‏}‏‏.‏‏.‏

فلو شاء الله لخلق البشر خلقة أخرى توحد سلوكهم، فتوحد مصيرهم، إما إلى جنة وإما إلى نار‏.‏ ولكنه سبحانه خلق هذا الإنسان لوظيفة‏.‏ خلقه للخلافة في هذه الأرض‏.‏ وجعل من مقتضيات هذه الخلافة، على النحو الذي أرادها، أن تكون للإنسان استعدادات خاصة بجنسه، تفرقه عن الملائكة وعن الشياطين، وعن غيرهما من خلق الله ذوي الطبيعة المفردة الموحدة الاتجاه‏.‏ استعدادات يجنح بها ومعها فريق إلى الهدى والنور والعمل الصالح؛ ويجنح بها ومعها فريق إلى الضلال والظلام والعمل السيِّئ كل منهما يسلك وفق أحد الاحتمالات الممكنة في طبيعة تكوين هذا المخلوق البشري؛ وينتهي إلى النهاية المقررة لهذا السلوك‏:‏ ‏{‏فريق في الجنة وفريق في السعير‏}‏‏.‏‏.‏ وهكذا‏:‏ ‏{‏يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير‏}‏‏.‏‏.‏ وفق ما يعلمه الله من حال هذا الفريق وذاك، واستحقاقه للرحمة بالهداية أو استحقاقه للعذاب بالضلال‏.‏

ولقد سبق أن بعضهم يتخذ من دون الله أولياء‏.‏ فهو يقرر هنا أن الظالمين‏:‏ ‏{‏ما لهم من ولي ولا نصير‏}‏‏.‏‏.‏ فأولياؤهم الذين يتخذونهم لا حقيقة لهم إذن ولا وجود‏.‏

ثم يعود فيسأل في استنكار‏:‏

‏{‏أم اتخذوا من دونه أولياء‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ليقرر بعد هذا الاستنكار أن الله وحده هو الولي، وأنه هو القادر تتجلى قدرته في إحياء الموتى‏.‏ العمل الذي تظهر فيه القدرة المفردة بأجلى مظاهرها‏:‏

‏{‏فالله هو الولي، وهو يحيي الموتى‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يعمم مجال القدرة ويبرز حقيقتها الشاملة لكل شيء والتي لا تنحصر في حدود‏:‏

‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يعود إلى الحقيقة الأولى، لبيان الجهة التي يرجع إليها عند كل اختلاف‏.‏ وهي هذا الوحي الذي جاء من عند الله يتضمن حكم الله كي لا يكون للهوى المتقلب أثر في الحياة بعد ذلك المنهج الإلهي القويم‏:‏

‏{‏وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله‏.‏ ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب‏.‏ فاطر السماوات والأرض، جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجا، يذرؤكم فيه، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير‏.‏ له مقاليد السماوات والأرض، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه بكل شيء عليم‏}‏‏.‏‏.‏

وطريقة إيراد هذه الحقائق وتسلسلها وتجمعها في هذه الفقرة طريقة عجيبة، تستحق التدبر‏.‏ فالترابط الخفي والظاهر بين أجزائها ترابط لطيف دقيق‏.‏

إنه يرد كل اختلاف يقع بين الناس إلى الله‏:‏ ‏{‏وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله‏}‏‏.‏‏.‏ والله أنزل حكمه القاطع في هذا القرآن؛ وقال قوله الفصل في أمر الدنيا والآخرة؛ وأقام للناس المنهج الذي اختاره لهم في حياتهم الفردية والجماعية، وفي نظام حياتهم ومعاشهم وحكمهم وسياستهم، وأخلاقهم وسلوكهم‏.‏ وبيّن لهم هذا كله بياناً شافيا‏.‏ وجعل هذا القرآن دستوراً شاملاً لحياة البشر، أوسع من دساتير الحكم وأشمل‏.‏ فإذا اختلفوا في أمر أو اتجاه فحكم الله فيه حاضر في هذا الوحي الذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم لتقوم الحياة على أساسه‏.‏

وعقب تقرير هذه الحقيقة يحكي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما أمره كله لله، منيباً إلى ربه بكليته‏:‏

‏{‏ذلكم الله ربي عليه توكلت، وإليه أنيب‏}‏‏.‏‏.‏

فتجيء هذه الإنابة، وذاك التوكل، وذلك الإقرار بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعها النفسي المناسب للتعقيب على تلك الحقيقة‏.‏‏.‏ فها هو ذا رسول الله ونبيه يشهد أن الله هو ربه، وأنه يتوكل عليه وحده، وأنه ينيب إليه دون سواه‏.‏ فكيف يتحاكم الناس إذن إلى غيره عند اختلافهم في شيء من الأمر، والنبي المهدي لا يتحاكم إلا إليه، وهو أولى من يتحاكم الناس إلى قوله الفصل، لا يتلفتون عنه لحظة هنا أو هناك‏؟‏ وكيف يتجهون في أمر من أمورهم وجهة أخرى، والنبي المهدي يتوكل على الله وحده، وينيب إليه وحده، بما أنه هو ربه ومتولي أمره وكافله وموجهه إلى حيث يختار‏؟‏

واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن ينير له الطريق ويحدد معالمه، فلا يتلفت هنا أو هناك‏.‏

ويسكب فيه الطمأنينة إلى طريقه، والثقة بمواقع خطواته، فلا يتشكك ولا يتردد ولا يحتار‏.‏ ويشعره أن الله راعيه وحاميه ومسدد خطاه في هذا الاتجاه‏.‏ والنبي المهدي سالك هذا الطريق إلى الله‏.‏

واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن يرفع من شعوره بمنهجه وطريقه، فلا يجد أن هناك منهجاً آخر أو طريقاً يصح أن يتلفت إليه؛ ولا يجد أن هنالك حكما غير قول الله وحكمه يرجع عند الاختلاف إليه‏.‏ والنبي المهدي ينيب إلى ربه الذي شرع هذا المنهج وحكم هذا الحكم‏.‏

ثم يعقب مرة أخرى بما يزيد هذه الحقيقة استقراراً وتمكيناً‏:‏

‏{‏فاطر السماوات والأرض، جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا‏.‏ يذرؤكم فيه‏.‏ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏}‏‏.‏‏.‏

فالله منزل ذلك القرآن ليكون حكمه الفصل فيما يختلفون فيه من شيء‏.‏‏.‏ هو ‏{‏فاطر السماوات والأرض‏}‏‏.‏‏.‏ وهو مدبر السماوات والأرض‏.‏ والناموس الذي يحكم السماء والأرض هو حكمه الفصل في كل ما يختص بهما من أمر‏.‏ وشؤون الحياة والعباد إن هي إلا طرف من أمر السماوات والأرض؛ فحكمه فيها هو الحكم الذي ينسق بين حياة العباد وحياة هذا الكون العريض، ليعيشوا في سلام مع الكون الذي يحيط بهم، والذي يحكم الله في أمره بلا شريك‏.‏

والله الذي يجب أن يرجعوا إلى حكمه فيما يختلفون فيه من شئ هو خالقهم الذي سوى نفوسهم، وركبها‏:‏ ‏{‏جعل لكم من أنفسكم أزواجاً‏}‏‏.‏‏.‏ فنظم لكم حياتكم من أساسها، وهو أعلم بما يصلح لها وما تصلح به وتستقيم‏.‏ وهو الذي أجرى حياتكم وفق قاعدة الخلق التي اختارها للأحياء جميعا‏:‏ ‏{‏ومن الأنعام أزواجاً‏}‏‏.‏‏.‏ فهنالك وحدة في التكوين تشهد بوحداينة الأسلوب والمشيئة وتقديرها المقصود‏.‏‏.‏ إنه هو الذي جعلكم أنتم والأنعام تتكاثرون وفق هذا المنهج وهذا الأسلوب‏.‏ ثم تفرد هو دون خلقه جميعا، فليس هنالك من شيء يماثله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شئ‏}‏‏.‏‏.‏ والفطرة تؤمن بهذا بداهة‏.‏ فخالق الأشياء لا تماثله هذه الأشياء التي هي من خلقه‏.‏‏.‏ ومن ثم فإنها ترجع كلها إلى حكمه عندما تختلف فيما بينها على أمر، ولا ترجع معه إلى أحد غيره؛ لأنه ليس هناك أحد مثله، حتى يكون هناك أكثر من مرجع واحد عند الاختلاف‏.‏

ومع أنه- سبحانه- ‏{‏ليس كمثله شئ‏}‏‏.‏‏.‏ فإن الصلة بينه وبين ما خلق ليست منقطعة لهذا الاختلاف الكامل‏.‏ فهو يسمع ويبصر‏:‏ ‏{‏وهو السميع البصير‏}‏‏.‏‏.‏ ثم يحكم حكم السميع البصير‏.‏

ثم إنه إذ يجعل حكمه فيما يختلفون فيه من شيء هو الحكم الواحد الفصل‏.‏ يقيم هذا على حقيقة أن مقاليد السماوات والأرض كلها إليه بعد ما فطرها أول مرة، وشرع لها ناموسها الذي يدبرها‏:‏ ‏{‏له مقاليد السماوات والأرض‏}‏‏.‏

‏.‏ وهم بعض ما في السماوات والأرض، فمقاليدهم إليه‏.‏

ثم إنه هو الذي يتولى أمر رزقهم قبضاً وبسطاً فيما يتولى من مقاليد السماوات والأرض‏:‏ ‏{‏يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏}‏‏.‏‏.‏ فهو رازقهم وكافلهم ومطعمهم وساقيهم‏.‏ فلمن غيره يتجهون إذن ليحكم بينهم فيما يختلفون فيه‏؟‏ وإنما يتجه الناس إلى الرازق الكافل المتصرف في الأرزاق‏.‏ الذي يدبر هذا كله بعلم وتقدير‏:‏ ‏{‏إنه بكل شئ عليم‏}‏‏.‏‏.‏ والذي يعلم كل شئ هو الذي يحكم وحكمه العدل، وحكمه الفصل‏.‏‏.‏

وهكذا تتساوق المعاني وتتناسق بهذه الدقة الخفية اللطيفة العجيبة؛ لتوقع على القلب البشري دَقة بعد دَقة، حتى يتكامل فيها لحن متناسق عميق‏.‏

ثم يعود إلى الحقيقة الأولى‏:‏

‏{‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى‏:‏ أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه‏.‏ كبر على المشركين ما تدعوهم إليه‏.‏ الله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب‏.‏ وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب‏.‏ فلذلك فادع واستقم كما أمرت، ولا تتبع أهواءهم، وقل‏:‏ آمنت بما أنزل الله من كتاب؛ وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير‏.‏ والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد‏}‏‏.‏‏.‏

لقد جاء في مطلع السورة‏:‏ ‏{‏كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏ فكانت هذه إشارة إجمالية إلى وحدة المصدر، ووحدة المنهج، ووحدة الاتجاه‏.‏ فالآن يفصل هذه الإشارة؛ ويقرر أن ما شرعه الله للمسلمين هو في عمومه ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى‏.‏ وهو أن يقيموا دين الله الواحد، ولا يتفرقوا فيه‏.‏ ويرتب عليها نتائجها من وجوب الثبات على المنهج الإلهي القديم، دون التفات إلى أهواء المختلفين‏.‏ ومن هيمنة هذا الدين الواضح المستقيم، ودحض حجة الذين يحاجون في الله، وإنذارهم بالغضب والعذاب الشديد‏.‏

ويبدو من التماسك والتناسق في هذه الفقرة كالذي بدا في سابقتها بشكل ملحوظ‏:‏

‏{‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى‏:‏ أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه‏}‏‏.‏‏.‏

وبذلك يقرر الحقيقة التي فصلناها في مطلع السورة‏.‏ حقيقة الأصل الواحد، والنشأة الضاربة في أصول الزمان‏.‏ ويضيف إليها لمحة لطيفة الوقع في حس المؤمن‏.‏ وهو ينظر إلى سلفه في الطريق الممتدة من بعيد‏.‏ فإذا هم على التتابع هؤلاء الكرام‏.‏‏.‏ نوح‏.‏ إبراهيم‏.‏ موسى‏.‏ عيسى، محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ويستشعر أنه امتداد لهؤلاء الكرام وأنه على دربهم يسير‏.‏

إنه سيستروح السير في الطريق، مهما يجد فيه من شوك ونصب، وحرمان من أعراض كثيرة‏.‏ وهو برفقة هذا الموكب الكريم على الله‏.‏ الكريم على الكون كله منذ فجر التاريخ‏.‏

ثم إنه السلام العميق بين المؤمنين بدين الله الواحد، السائرين على شرعه الثابت؛ وانتفاء الخلاف والشقاق؛ والشعور بالقربى الوثيقة، التي تدعو إلى التعاون والتفاهم، ووصل الحاضر بالماضي، والماضي بالحاضر، والسير جملة في الطريق‏.‏

وإذا كان الذي شرعه الله من الدين للمسلمين المؤمنين بمحمد هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى‏.‏ ففيم يتقاتل أتباع موسى وأتباع عيسى‏؟‏ وفيم يتقاتل أصحاب المذاهب المختلفة من أتباع عيسى؛ وفيما يتقاتل أتباع موسى وعيسى مع أتباع محمد‏؟‏ وفيم يتقاتل من يزعمون أنهم على ملة إبراهيم من المشركين مع المسلمين‏؟‏ ولم لا يتضام الجميع ليقفوا تحت الراية الواحدة التي يحملها رسولهم الأخير‏؟‏ والوصية الواحدة الصادرة للجميع‏:‏ ‏{‏أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه‏}‏‏؟‏ فيقيموا الدين، ويقوموا بتكاليفه، ولا ينحرفوا عنه ولا يلتووا به؛ ويقفوا تحت رايته صفا، وهي راية واحدة، رفعها على التوالي نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم حتى انتهت إلى محمد صلى الله عليه وسلم في العهد الأخير‏.‏

ولكن المشركين في أم القرى ومن حولها وهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم كانوا يقفون من الدعوة القديمة الجديدة موقفاً آخر‏:‏

‏{‏كبر على المشركين ما تدعوهم إليه‏}‏‏.‏‏.‏

كبر عليهم أن يتنزل الوحي على محمد من بينهم؛ وكانوا يريدون أن يتنزل ‏{‏على رجل من القريتين عظيم‏}‏ أي صاحب سلطان من كبرائهم‏.‏ ولم تكن صفات محمد الذاتية وهو بإقرارهم الصادق الأمين، ولا كان نسبه وهو من أوسط بيت في قريش‏.‏ ما كان هذا كله يعدل في نظرهم أن يكون سيد قبيلة ذا سلطان‏!‏

وكبر عليهم أن ينتهي سلطانهم الديني بانتهاء عهد الوثنية والأصنام والأساطير التي يقوم عليها هذا السلطان؛ وتعتمد عليها مصالحهم الاقتصادية والشخصية‏.‏ فتشبثوا بالشرك وكبر عليهم التوحيد الخالص الواضح الذي دعاهم إليه الرسول الكريم‏.‏

وكبر عليهم أن يقال‏:‏ إن آباءهم الذين ماتوا على الشرك ماتوا على ضلالة وعلى جاهلية؛ فتشبثوا بالحماقة، وأخذتهم العزة بالإثم، واختاروا أن يلقوا بأنفسهم إلى الجحيم، على أن يوصم آباؤهم بأنهم ماتوا ضالين‏.‏

والقرآن يعقب على موقفهم هذا بأن الله هو الذي يصطفي ويختار من يشاء؛ وأنه كذلك يهدي إليه من يرغب في كنفه، ويتوب إلى ظله من الشاردين‏:‏

‏{‏الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب‏}‏‏.‏‏.‏

وقد اجتبى محمداً صلى الله عليه وسلم للرسالة‏.‏ وهو يفتح الطريق لمن ينيب إليه ويثوب‏.‏

ثم يعود إلى موقف أتباع الرسل، الذين جاءوا قومهم بدين واحد، فتفرق أتباعهم شيعا وأحزابا‏:‏

‏{‏وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب‏}‏‏.‏

فهم لم يتفرقوا عن جهل؛ ولم يتفرقوا لأنهم يعرفون الأصل الواحد الذي يربطهم، ويربط رسلهم ومعتقداتهم‏.‏ إنما تفرقوا بعد ما جاءهم العلم‏.‏ تفرقوا بغيا بينهم وحسدا وظلما للحقيقة ولأنفسهم سواء‏.‏ تفرقوا تحت تأثير الأهواء الجائرة، والشهوات الباغية‏.‏ تفرقوا غير مستندين إلى سبب من العقيدة الصحيحة والمنهج القويم‏.‏ ولو أخلصوا لعقيدتهم، واتبعوا منهجهم ما تفرقوا‏.‏

ولقد كانوا يستحقون أن يأخذهم الله أخذا عاجلا، جزاء بغيهم وظلمهم في هذا التفرق والتفريق‏.‏ ولكن كلمة سبقت من الله لحكمة أرادها، بإمهالهم إلى أجل مسمى ‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم‏}‏‏.‏‏.‏ فحق الحق وبطل الباطل؛ واتنهى الأمر في هذه الحياة الدنيا‏.‏ ولكنهم مؤجلون إلى يوم الوقت المعلوم‏.‏

فأما الأجيال التي ورثت الكتاب من بعد أولئك الذين تفرقوا وفرقوا من أتباع كل نبي، فقد تلقوا عقيدتهم وكتابهم بغير يقين جازم؛ إذ كانت الخلافات السابقة مثارا لعدم الجزم بشيء، وللشك والغموض والحيرة بين شتى المذاهب والاختلافات‏:‏

‏{‏وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب‏}‏‏.‏‏.‏

وما هكذا تكون العقيدة‏.‏ فالعقيدة هي الصخرة الصلبة التي يقف عليها المؤمن، فتميد الأرض من حوله وهو ثابت راسخ القدمين فوق الصخرة الصلبة التي لا تميد‏.‏ والعقيدة هي النجم الهادي الثابت على الأفق يتجه إليه المؤمن وسط الأنواء والزوابع، فلا يضل ولا يحيد‏.‏ فأما حين تصبح العقيدة ذاتها موضع شك ومثار ريبة، فلا ثبات لشئ ولا لأمر في نفس صاحبها، ولا قرار له على وجهة، ولا اطمئنان إلى طريق‏.‏

ولقد جاءت العقيدة ليعرف أصحابها طريقهم ووجهتهم إلى الله؛ ويقودوا من وراءهم من البشر في غير ما تلجلج ولا تردد ولا ضلال‏.‏ فإذا هم استرابوا وشكوا فهم غير صالحين لقيادة أحد، وهم أنفسهم حائرون‏.‏

وكذلك كان حال أتباع الرسل يوم جاء هذا الدين الجديد‏.‏

يقول الأستاذ الهندي أبو الحسن الندوي في كتابه‏:‏ «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»‏:‏

«أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثين والمتلاعبين، ولعبة المحرفين والمنافقين، حتى فقدت روحها وشكلها، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها، وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام، وعسف الحكام، وشغلت بنفسها، لا تحمل للعالم رسالة ولا للأمم دعوة، وأفلست في معنوياتها، ونضب معين حياتها، لا تملك مشرعاً صافياً من الدين السماوي، ولا نظاماً ثابتا من الحكم البشري»‏.‏

ويقول الكاتب الأوربي «ج‏.‏ ه‏.‏ دنيسون» في كتابه «العواطف كأساس للحضارة»‏:‏

«ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هارٍ من الفوضى، لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت؛ ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها‏.‏

وكان يبدو إذ ذاك أن المدينة الكبرى، التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة، مشرفة على التفكك والانحلال؛ وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية، إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولا نظام‏.‏ أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار‏:‏ بدلاً من الاتحاد والنظام‏.‏ وكانت المدينة كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله‏.‏ واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب‏.‏‏.‏ وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه «‏.‏‏.‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏‏.‏

ولأن أتباع الرسل تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم ولأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم كانوا في شك منه مريب‏.‏‏.‏ لهذا وذلك، ولخلو مركز القيادة البشرية من قائد ثبت مستيقن يعرف طريقه إلى الله‏.‏‏.‏ أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم ووجه إليه الأمر أن يدعو وأن يستقيم على دعوته، وألا يلتفت إلى الأهواء المصطرعة حوله وحول دعوته الواضحة المستقيمة؛ وأن يعلن تجديد الإيمان بالدعوة الواحدة التي شرعها الله للنبيين أجمعين‏:‏

‏{‏فلذلك فادع واستقم كما أمرت، ولا تتبع أهواءهم، وقل‏:‏ آمنت بما أنزل الله من كتاب‏.‏ وأمرت لأعدل بينكم‏.‏ الله ربنا وربكم‏.‏ لنا أعمالنا ولكم أعمالكم‏.‏ لا حجة بيننا وبينكم‏.‏ الله يجمع بيننا، وإليه المصير‏}‏‏.‏‏.‏

إنها القيادة الجديدة للبشرية جمعاء‏.‏ القيادة الحازمة المستقيمة على نهج واضح ويقين ثابت‏.‏ تدعو إلى الله على بصيرة‏.‏ وتستقيم على أمر الله دون انحراف‏.‏ وتنأى عن الأهواء المضطربة المتناوحة من هنا وهناك‏.‏ القيادة التي تعلن وحدة الرسالة ووحدة الكتاب ووحدة النهج والطريق‏.‏ والتي ترد الإيمان إلى أصله الثابت الواحد، وترد البشرية كلها إلى ذلك الأصل الواحد‏:‏ ‏{‏وقل‏:‏ آمنت بما أنزل الله من كتاب‏}‏‏.‏‏.‏ ثم هو الاستعلاء والهيمنة بالحق والعدل‏.‏ ‏{‏وأمرت لأعدل بينكم‏}‏‏.‏‏.‏ فهي قيادة ذات سلطان، تعلن العدل في الأرض بين الجميع‏.‏ ‏(‏هذا والدعوة بعد في مكة محصورة بين شعابها مضطهدة هي وأصحابها‏.‏ ولكن طبيعتها المهيمنة الشاملة تبدو واضحة‏)‏‏.‏ وتعلن الربوبية الواحدة‏:‏ ‏{‏الله ربنا وربكم‏}‏‏.‏‏.‏ وتعلن فردية التبعة‏:‏ ‏{‏لنا أعمالنا ولكم أعمالكم‏}‏‏.‏‏.‏ وتعلن إنهاء الجدل بالقول الفصل‏:‏ ‏{‏لا حجة بيننا وبينكم‏}‏‏.‏‏.‏ وتكل الأمر كله إلى الله صاحب الأمر الأخير‏:‏ ‏{‏الله يجمع بيننا وإليه المصير‏}‏‏.‏‏.‏

وتكشف هذه الآية الواحدة عن طبيعة هذه الرسالة الأخيرة، في مقاطعها القصيرة الفاصلة على هذا النحو الجامع الحازم الدقيق‏.‏ فهي رسالة جاءت لتمضي في طريقها لا تتأثر بأهواء البشر‏.‏ وجاءت لتهيمن فتحقق العدالة في الأرض‏.‏ وجاءت لتوحد الطريق إلى الله كما هو في حقيقته موحد على مدى الرسالات‏.‏

وبعد وضوح القضية على هذا النحو، واستجابة العصبة المؤمنة لله هذه الاستجابة، يبدو جدل المجادلين في الله مستنكراً لا يستحق الالتفات، وتبدو حجتهم باطلة فاشلة ليس لها وزن ولا حساب‏.‏ فتنتهي هذه الفقرة بالفصل في أمرهم، وتركهم لوعيد الله الشديد‏:‏

‏{‏والذين يحاجون في الله‏.‏ من بعد ما استجيب له‏.‏ حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد‏}‏‏.‏‏.‏

ومن تكون حجته باطلة مغلوبة عند ربه فلا حجة له ولا سلطان‏.‏ ووراء الهزيمة والبطلان في الأرض، الغضب والعذاب الشديد في الآخرة‏.‏ وهو الجزاء المناسب على اللجاج بالباطل بعد استجابة القلوب الخالصة؛ والجدل المغرض بعد وضوح الحق الصريح‏.‏

ثم يبدأ جولة جديدة مع الحقيقة الأولى‏:‏

‏{‏الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان‏.‏ وما يدريك لعل الساعة قريب‏.‏ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها، والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق، ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد‏.‏ الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز‏.‏ من كان يريد حرث الآخرة نزد له من حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها، وما له في الآخرة من نصيب‏}‏‏.‏‏.‏

فالله أنزل الكتاب بالحق وأنزل العدل؛ وجعله حكما فيما يختلف فيه أصحاب العقائد السالفة، وفيما تختلف فيه آراء الناس وأهواؤهم؛ وأقام شرائعه على العدل في الحكم‏.‏ العدل الدقيق كأنه الميزان توزن به القيم، وتوزن به الحقوق، وتوزن به الأعمال والتصرفات‏.‏

وينتقل من هذه الحقيقة‏.‏ حقيقة الكتاب المنزل بالحق والعدل‏.‏ إلى ذكر الساعة‏.‏ والمناسبة بين هذا وهذه حاضرة، فالساعة هي موعد الحكم العدل والقول الفصل‏.‏ والساعة غيب‏.‏ فمن ذا يدري إن كانت على وشك‏:‏

‏{‏وما يدريك لعل الساعة قريب‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

والناس عنها غافلون، وهي منهم قريب، وعندها يكون الحساب القائم على الحق والعدل، الذي لا يهمل فيه شئ ولا يضيع‏.‏‏.‏

ويصور موقف المؤمنين من الساعة وموقف غير المؤمنين‏:‏

‏{‏يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها، والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق‏}‏‏.‏‏.‏

والذين لا يؤمنون بها لا تحس قلوبهم هولها، ولا تقدر ما ينتظرهم فيها؛ فلا عجب يستعجلون بها مستهترين‏.‏ لأنهم محجوبون لا يدركون‏.‏ وأما الذين آمنوا فهم مستيقنون منها، ومن ثم هم يشفقون ويخافون، وينتظرونها بوجل وخشية، وهم يعرفون ما هي حين تكون‏.‏

وإنها لحق‏.‏ وإنهم ليعلمون أنها الحق‏.‏ وبينهم وبين الحق صلة فهم يعرفون‏.‏

‏{‏ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد‏}‏‏.‏‏.‏

فقد أوغلوا في الضلال وأبعدوا، فعسير أن يعودوا بعد الضلال البعيد‏.‏‏.‏

وينتقل من الحديث عن الآخرة والإشفاق منها أو الاستهتار بها، إلى الحديث عن الرزق الذي يتفضل الله به على عباده‏:‏

‏{‏الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز‏}‏‏.‏‏.‏

وتبدو المناسبة بعيدة في ظاهر الأمر بين هذه الحقيقة وتلك‏.‏

ولكن الصلة تبدو وثيقة عند قراءة الآية التالية‏:‏

‏{‏من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب‏}‏‏.‏‏.‏

فالله لطيف بعباده يرزق من يشاء‏.‏ يرزق الصالح والطالح، والمؤمن والكافر‏.‏ فهؤلاء البشر أعجز من أن يرزقوا أنفسهم شيئاً؛ وقد وهبهم الله الحياة، وكفل لهم أسبابها الأولية؛ ولو منع رزقه عن الكافر والفاسق والطالح ما استطاعوا أن يرزقوا أنفسهم ولماتوا جوعاً وعرياً وعطشاً، وعجزاً عن أسباب الحياة الأولى، ولما تحققت حكمة الله من إحيائهم وإعطائهم الفرصة ليعملوا في الحياة الدنيا ما يحسب لهم في الآخرة أو عليهم‏.‏ ومن ثم أخرج الرزق من دائرة الصلاح والطلاح، والإيمان والكفر، وعلقه بأسبابه الموصولة بأوضاع الحياة العامة واستعدادات الأفراد الخاصة‏.‏ وجعله فتنة وابتلاء‏.‏ يجزي عليهما الناس يوم الجزاء‏.‏

ثم جعل الآخرة حرثا والدنيا حرثا يختار المرء منهما ما يشاء‏.‏ فمن كان يريد حرث الآخرة عمل فيه، وزاد له الله في حرثه، وأعانه عليه بنيته، وبارك له فيه بعمله‏.‏ وكان له مع حرث الآخرة رزقه المكتوب له في هذه الأرض لا يحرم منه شيئا‏.‏ بل إن هذا الرزق الذي يعطاه في الأرض قد يكون هو بذاته حرث الآخرة بالقياس إليه، حين يرجو وجه الله في تثميره وتصريفه والاستمتاع به والإنفاق منه‏.‏‏.‏ ومن كان يريد حرث الدنيا أعطاه الله من عرض الدنيا رزقه المكتوب له لا يحرم منه شيئا‏.‏ ولكن لم يكن له في الآخرة نصيب‏.‏ فهو لم يعمل في حرث الآخرة شيئاً ينتظر عليه ذلك النصيب‏!‏

ونظرة إلى طلاب حرث الدنيا وطلاب حرث الآخرة، تكشف عن الحماقة في إرادة حرث الدنيا‏!‏ فرزق الدنيا يتلطف الله فيمنحه هؤلاء وهؤلاء‏.‏ فلكل منهما نصيبه من حرث الدنيا وفق المقدور له في علم الله‏.‏ ثم يبقى حرث الآخرة خالصا لمن أراده وعمل فيه‏.‏

ومن طلاب حرث الدنيا نجد الأغنياء والفقراء؛ بحسب أسباب الرزق المتعلقة بالأوضاع العامة والاستعدادات الخاصة‏.‏ وكذلك نجد الحال عند طلاب حرث الآخرة سواء بسواء‏.‏ ففي هذه الأرض لا اختلاف بين الفريقين في قضية الرزق‏.‏ إنما يظهر الاختلاف والامتياز هناك‏!‏ فمن هو الأحمق الذي يترك حرث الآخرة‏.‏ وتركه لا يغير من أمره شيئا في هذه الحياة‏؟‏‏!‏

والأمر في النهاية مرتبط بالحق والميزان الذي نزل به الكتاب من عند الله‏.‏ فالحق والعدل ظاهران في تقدير الرزق لجميع الأحياء‏.‏ وفي زيادة حرث الآخرة لمن يشاء‏.‏ وفي حرمان الذين يريدون حرث الدنيا من حرث الآخرة يوم الجزاء‏.‏‏.‏

ومن ثم يبدأ جولة أخرى حول الحقيقة الأولى‏:‏

‏{‏أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله‏؟‏ ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم، وإن الظالمين لهم عذاب أليم‏.‏

ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم، والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات، لهم ما يشاءون عند ربهم، ذلك هو الفضل الكبير‏.‏ ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قل‏:‏ لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى؛ ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً، إن الله غفور شكور‏}‏‏.‏‏.‏

في فقرة سابقة قرر أن ما شرعه الله للأمة المسلمة هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى، وهو ما أوحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم وفي هذه الفقرة يتساءل في استنكار عما هم فيه وما هم عليه، من ذا شرعه لهم ما دام الله لم يشرعه‏؟‏ وهو مخالف لما شرعه منذ أن كان هناك رسالات وتشريعات‏؟‏

‏{‏أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وليس لأحد من خلق الله أن يشرع غير ما شرعه الله وأذن به كائنا من كان؛ فالله وحده هو الذي يشرع لعباده‏.‏ بما أنه سبحانه هو مبدع هذا الكون كله، ومدبره بالنواميس الكلية الكبرى التي اختارها له‏.‏ والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير، فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع تلك النواميس؛ ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها المحيط بتلك النواميس‏.‏ وكل من عدا الله قاصر عن تلك الإحاطة بلا جدال‏.‏ فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور‏.‏

ومع وضوح هذه الحقيقة إلى حد البداهة؛ فإن الكثيرين يجادلون فيها، أو لا يقتنعون بها، وهم يجرؤون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله، زاعمين أنهم يختارون الخير لشعوبهم، ويوائمون بين ظروفهم والتشريع الذي ينشئونه من عند أنفسهم‏.‏ كأنما هم أعلم من الله وأحكم من الله‏!‏ أو كأنما لهم شركاء من دون الله يشرعون لهم ما لم يأذن به الله‏!‏ وليس أخيب من ذلك ولا أجرأ على الله‏!‏

لقد شرع الله للبشرية ما يعلم سبحانه، أنه يتناسق مع طبيعتها وفطرتها وطبيعة الكون الذي تعيش فيه وفطرته‏.‏ ومن ثم يحقق لهذه البشرية أقصى درجات التعاون فيما بينها، والتعاون كذلك مع القوى الكونية الكبرى‏.‏ شرع في هذا كله أصولاً، وترك للبشر فقط استنباط التشريعات الجزئية المتجددة مع حاجات الحياة المتجددة، في حدود المنهج الكلي والتشريعات العامة‏.‏ فإذا ما اختلف البشر في شئ من هذا ردوه إلى الله؛ ورجعوا به إلى تلك الأصول الكلية التي شرعها للناس، لتبقى ميزاناً يزن به البشر كل تشريع جزئي وكل تطبيق‏.‏

بذلك يتوحد مصدر التشريع، ويكون الحكم لله وحده‏.‏ وهو خير الحاكمين‏.‏ وما عدا هذا النهج فهو خروج على شريعة الله، وعلى دين الله، وعلى ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم‏}‏‏.‏‏.‏

فقد قال الله كلمة الفصل بإمهالهم إلى يوم القول الفصل‏.‏ ولولاها لقضى الله بينهم، فأخذ المخالفين لما شرعه الله، المتبعين لشرع من عداه‏.‏ لأخذهم بالجزاء العاجل‏.‏ ولكنه أمهلهم ليوم الجزاء‏.‏

‏{‏وإن الظالمين لهم عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

فهذا هو الذي ينتظرهم جزاء الظلم‏.‏ وهل أظلم من المخالفة عن شرع الله إلى شرع من عداه‏؟‏

ومن ثم يعرض هؤلاء الظالمين في مشهد من مشاهد القيامة‏.‏ يعرضهم خائفين من العذاب وكانوا من قبل لا يشفقون، بل يستعجلون ويستهترون‏:‏

‏{‏ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم‏}‏‏.‏‏.‏

والتعبير العجيب يجعل إشفاقهم ‏{‏مما كسبوا‏}‏ فكأنما هو غول مفزع؛ وهو هو الذي كسبوه وعملوه بأيديهم وكانوا به فرحين‏!‏ ولكنهم اليوم يشفقون منه ويفزعون ‏{‏وهو واقع بهم‏}‏‏.‏‏.‏ وكأنه هو بذاته انقلب عذابا لا مخلص منه، وهو واقع بهم‏!‏

وفي الصفحة الأخرى نجد المؤمنين الذين كانوا يشفقون من هذا اليوم ويخافون‏.‏ نجدهم في أمن وعافية ورخاء‏:‏

‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات، لهم ما يشاءون عند ربهم‏.‏ ذلك هو الفضل الكبير‏.‏ ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏‏.‏‏.‏

والتعبير كله رُخاء يرسم ظلال الرخاء‏:‏ ‏{‏في روضات الجنات‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏لهم ما يشاءون عند ربهم‏}‏ بلا حدود ولا قيود‏.‏ ‏{‏ذلك هو الفضل الكبير‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏ذلك الذي يبشر الله عباده‏}‏ فهو بشرى حاضرة، مصداقاً للبشرى السالفة‏.‏ وظل البشرى هنا هو أنسب الظلال‏.‏

وعلى مشهد هذا النعيم الرخاء الجميل الظليل يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم‏:‏ إنه لا يطلب منهم أجراً على الهدى الذي ينتهي بهم إلى هذا النعيم، وينأى بهم عن ذلك العذاب الأليم‏.‏ إنما هي مودته لهم لقرابتهم منه، وحسبه ذلك أجراً‏:‏

‏{‏قل‏:‏ لا أسألكم عليه أجرا‏.‏ إلا المودة في القربى‏.‏ ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا‏.‏ إن الله غفور شكور‏}‏‏.‏‏.‏

والمعنى الذي أشرت إليه، وهو أنه لا يطلب منهم أجرا، إنما تدفعه المودة للقربى وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة بكل بطن من بطون قريش ليحاول هدايتهم بما معه من الهدى، ويحقق الخير لهم إرضاء لتلك المودة التي يحملها لهم، وهذا أجره وكفى‏!‏

هذا المعنى هو الذي انقدح في نفسي وأنا أقرأ هذا التعبير القرآني في مواضعه التي جاء فيها‏.‏ وهناك تفسير مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أثبته هنا لوروده في صحيح البخاري‏:‏

قال البخاري حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، قال‏:‏ سمعت طاووسا يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا المودة في القربى‏}‏ فقال سعيد بن جبير‏:‏ قربى آل محمد‏.‏