فصل: تفسير الآيات رقم (25- 53)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 53‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏25‏)‏ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‏(‏26‏)‏ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏27‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏28‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏30‏)‏ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏31‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ‏(‏32‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏33‏)‏ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏34‏)‏ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏35‏)‏ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ‏(‏37‏)‏ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏39‏)‏ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏40‏)‏ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏41‏)‏ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏43‏)‏ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏44‏)‏ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ‏(‏45‏)‏ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏46‏)‏ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ‏(‏47‏)‏ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ ‏(‏48‏)‏ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ‏(‏49‏)‏ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ‏(‏51‏)‏ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏52‏)‏ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ‏(‏53‏)‏‏}‏

هذا القسم الثاني من السورة يمضي في الحديث عن دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق وعن آثار القدرة فيما يحيط بالناس، وفيما يتعلق مباشرة بحياتهم ومعاشهم، وفي صفة المؤمنين التي تميز جماعتهم‏.‏‏.‏ وذلك بعد الحديث في القسم الأول عن الوحي والرسالة من جوانبها المتعددة‏.‏‏.‏ ثم يعود في نهاية السورة إلى الحديث عن طبيعة الوحي وطريقته‏.‏ وبين القسمين اتصال ظاهر، فهما طريقان إلى القلب البشري، يصلانه بالوحي والإيمان‏.‏

‏{‏وهو الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون‏.‏ ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله، والكافرون لهم عذاب شديد‏.‏ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض‏.‏ ولكن ينزل بقدر ما يشاء، إنه بعباده خبير بصير‏}‏‏.‏‏.‏

تجيء هذه اللمسة بعد ما سبق من مشهد الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم، ومشهد الذين آمنوا في روضات الجنات‏.‏ ونفي كل شبهة عن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغهم به عن الله‏.‏ وتقرير علم الله بذوات الصدور‏.‏

تجيء لترغيب من يريد التوبة والرجوع عما هو فيه من ضلالة، قبل أن يقضى في الأمر القضاء الأخير‏.‏ ويفتح لهم الباب على مصراعيه‏:‏ فالله يقبل عنهم التوبة، ويعفو عن السيئات؛ فلا داعي للقنوط واللجاج في المعصية، والخوف مما أسلفوا من ذنوب‏.‏ والله يعلم ما يفعلون‏.‏ فهو يعلم التوبة الصادقة ويقبلها‏.‏ كما يعلم ما أسلفوا من السيئات ويغفرها‏.‏

وفي ثنايا هذه اللمسة يعود إلى جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين‏.‏ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات يستجيبون لدعوة ربهم، وهو يزيدهم من فضله‏.‏ ‏{‏والكافرون لهم عذاب شديد‏}‏‏.‏‏.‏ وباب التوبة مفتوح للنجاة من العذاب الشديد، وتلقي فضل الله لمن يستجيب‏.‏

وفضل الله في الآخرة بلا حساب، وبلا حدود ولا قيود‏.‏ فأما رزقه لعباده في الأرض فهو مقيد محدود؛ لما يعلمه سبحانه من أن هؤلاء البشر لا يطيقون في الأرض- أن يتفتح عليهم فيض الله غير المحدود‏:‏

‏{‏ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض، ولكن ينزل بقدر ما يشاء‏.‏ إنه بعباده خبير بصير‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا يصور نزارة ما في هذه الحياة الدنيا من أرزاق مهما كثرت بالقياس إلى ما في الآخرة من فيض غزير‏.‏ فالله يعلم أن عباده، هؤلاء البشر، لا يطيقون الغنى إلا بقدر، وأنه لو بسط لهم في الرزق من نوع ما يبسط في الآخرة لبغوا وطغوا‏.‏ إنهم صغار لا يملكون التوازن‏.‏ ضعاف لا يحتملون إلا إلى حد‏.‏ والله بعباده خبير بصير‏.‏ ومن ثم جعل رزقهم في هذه الأرض مقدرا محدوداً، بقدر ما يطيقون‏.‏ واستبقى فيضه المبسوط لمن ينجحون في بلاء الأرض، ويجتازون امتحانها، ويصلون إلى الدار الباقية بسلام‏.‏

ليتلقوا فيض الله المذخور لهم بلا حدود ولا قيود‏.‏

‏{‏وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا، وينشر رحمته، وهو الولي الحميد‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه لمسة أخرى كذلك تذكرهم بجانب من فضل الله على عباده في الأرض‏.‏ وقد غاب عنهم الغيث، وانقطع عنهم المطر، ووقفوا عاجزين عن سبب الحياة الأول‏.‏‏.‏ الماء‏.‏‏.‏ وأدركهم اليأس والقنوط‏.‏ ثم ينزل الله الغيث، ويسعفهم بالمطر، وينشر رحمته، فتحيا الأرض، ويخضر اليابس، وينبت البذر، ويترعرع النبات، ويلطف الجو، وتنطلق الحياة، ويدب النشاط، وتنفرج الأسارير، وتتفتح القلوب، وينبض الأمل، ويفيض الرجاء‏.‏‏.‏ وما بين القنوط والرحمة إلا لحظات‏.‏ تتفتح فيها أبواب الرحمة‏.‏ فتتفتح أبواب السماء بالماء‏.‏‏.‏ ‏{‏وهو الولي الحميد‏}‏‏.‏‏.‏ وهو النصير والكافل المحمود الذات والصفات‏.‏‏.‏

واللفظ القرآني المختار للمطر في هذه المناسبة‏.‏‏.‏ ‏{‏الغيث‏}‏‏.‏‏.‏ يلقي ظل الغوث والنجدة، وتلبية المضطر في الضيق والكربة‏.‏ كما أن تعبيره عن آثار الغيث‏.‏‏.‏ ‏{‏وينشر رحمته‏}‏‏.‏‏.‏ يلقي ظلال النداوة والخضرة والرجاء والفرح، التي تنشأ فعلاً عن تفتح النبات في الأرض وارتقاب الثمار‏.‏ وما من مشهد يريح الحس والأعصاب، ويندّي القلب والمشاعر، كمشهد الغيث بعد الجفاف‏.‏ وما من مشهد ينفض هموم القلب وتعب النفس كمشهد الأرض تتفتح بالنبت بعد الغيث، وتنتشي بالخضرة بعد الموات‏.‏

‏{‏ومن آياته خلق السماوات والأرض، وما بث فيهما من دابة‏.‏ وهو على جمعهم إذا يشاء قدير‏.‏ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير‏.‏ وما أنتم بمعجزين في الأرض، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه الآية الكونية معروضة على الأنظار، قائمة تشهد بذاتها على ما جاء الوحي ليشهد به، فارتابوا فيه واختلفوا في تأويله‏.‏ وآية السماوات والأرض لا تحتمل جدلا ولا ريبة‏.‏ فهي قاطعة في دلالتها، تخاطب الفطرة بلغتها، وما يجادل فيها مجادل وهو جاد‏.‏ إنها تشهد بأن الذي أنشأها ودبرها ليس هو الإنسان، ولا غيره من خلق الله‏.‏ ولا مفر من الاعتراف بمنشئ مدبر‏.‏ فإن ضخامتها الهائلة، وتناسقها الدقيق، ونظامها الدائب، ووحدة نواميسها الثابتة‏.‏‏.‏ كل أولئك لا يمكن تفسيره عقلاً إلا على أساس أن هناك إلها أنشأها ويدبرها‏.‏ أما الفطرة فهي تتلقى منطق الكون تلقياً مباشراً، وتدركه وتطمئن إليه، قبل أن تسمع عنه كلمة واحدة من خارجها‏!‏

وتنطوي آية السماوات والأرض على آية أخرى في ثناياها‏:‏ ‏{‏وما بث فيهما من دابة‏}‏‏.‏‏.‏ والحياة في هذه الأرض وحدها ودع عنك ما في السماوات من حيوات أخرى لا ندركها آية أخرى‏.‏ وهي سر لم ينفذ إلى طبيعته أحد، فضلاً على التطلع إلى إنشائه‏.‏ سر غامض لا يدري أحد من أين جاء، ولا كيف جاء، ولا كيف يتلبس بالأحياء‏!‏ وكل المحاولات التي بذلت للبحث عن مصدره أو طبيعته أغلقت دونها الستر والأبواب؛ وانحصرت البحوث كلها في تطور الأحياء بعد وجود الحياة وتنوعها ووظائفها؛ وفي هذا الحيز الضيق المنظور اختلفت الآراء والنظريات‏.‏

فأما ما وراء الستر فبقي سراً خافياً لا تمتد إليه عين، ولا يصل إليه إدراك‏.‏‏.‏ إنه من أمر الله‏.‏ الذي لا يدركه سواه‏.‏

هذه الأحياء المبثوثة في كل مكان‏.‏ فوق سطح الأرض وفي ثناياها‏.‏ وفي أعماق البحر وفي أجواز الفضاء ودع عنك تصور الأحياء الأخرى في السماء هذه الأحياء المبثوثة التي لا يعلم الإنسان منها إلا النزر اليسير، ولا يدرك منها بوسائله المحدودة إلا القليل المشهور‏.‏ هذه الأحياء التي تدب في السماوات والأرض يجمعها الله حين يشاء، لا يضل منها فرد واحد ولا يغيب‏!‏

وبنو الإنسان يعجزهم أن يجمعوا سربا من الطير الأليف ينفلت من أقفاصهم، أو سرباً من النحل يطير من خلية لهم‏!‏

وأسراب من الطير لا يعلم عددها إلا الله‏.‏ وأسراب من النحل والنمل وأخواتها لا يحصيها إلا الله‏.‏ وأسراب من الحشرات والهوام والجراثيم لا يعلم مواطنها إلا الله‏.‏ وأسراب من الأسماك وحيوان البحر لا يطلع عليها إلا الله‏.‏ وقطعان من الأنعام والوحش سائمة وشاردة في كل مكان، وقطعان من البشر مبثوثة في الأرض في كل مكان‏.‏‏.‏ ومعها خلائق أربى عدداً وأخفى مكاناً في السماوات من خلق الله‏.‏‏.‏ كلها‏.‏‏.‏ كلها‏.‏‏.‏ يجمعها الله حين يشاء‏.‏‏.‏

وليس بين بثها في السماوات والأرض وجمعها إلا كلمة تصدر‏.‏ والتعبير يقابل بين مشهد البث ومشهد الجمع في لمحة على طريقة القرآن؛ فيشهد القلب هذين المشهدين الهائلين قبل أن ينتهي اللسان من آية واحدة قصيرة من القرآن‏!‏

وفي ظل هذين المشهدين يحدثهم عما يصيبهم في هذه الحياة بما كسبت أيديهم‏.‏ لا كله‏.‏ فإن الله لا يؤاخذهم بكل ما يكسبون‏.‏ ولكن يعفو منه عن كثير‏.‏ ويصور لهم عجزهم ويذكرهم به، وهم قطاع صغير في عالم الأحياء الكبير‏:‏

‏{‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير‏.‏ وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير‏}‏‏.‏

وفي الآية الأولى يتجلى عدل الله، وتتجلى رحمته بهذا الإنسان الضعيف‏.‏ فكل مصيبة تصيبه لها سبب مما كسبت يداه؛ ولكن الله لا يؤاخذه بكل ما يقترف؛ وهو يعلم ضعفه وما ركب في فطرته من دوافع تغلبه في أكثر الأحيان، فيعفو عن كثير، رحمة منه وسماحة‏.‏

وفي الآية الثانية يتجلى ضعف هذا الإنسان، فما هو بمعجز في الأرض، وما له من دون الله من ولي ولا نصير‏.‏ فأين يذهب إلا أن يلتجئ إلى الولي والنصير‏؟‏

‏{‏ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام‏.‏ إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره‏.‏ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏.‏ أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير‏.‏

ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص‏}‏‏.‏‏.‏

والسفن الجواري في البحر كالجبال آية أخرى من آيات الله‏.‏ آية حاضرة مشهودة‏.‏ آية تقوم على آيات كلها من صنع الله دون جدال‏.‏ هذا البحر من أنشأه‏؟‏ مَن مِن البشر أو غيرهم يدعي هذا الادعاء‏؟‏ ومن أودعه خصائصه من كثافة وعمق وسعة حتى يحمل السفن الضخام‏؟‏ وهذه السفن من أنشأ مادتها وأودعها خصائصها فجعلها تطفو على وجه الماء‏؟‏ وهذه الريح التي تدفع ذلك النوع من السفن التي كانت معلومة وقتها للمخاطبين ‏(‏وغير الريح من القوى التي سخرت للإنسان في هذا الزمان من بخار أو ذرة أو ما يشاء الله بعد الآن‏)‏ من جعلها قوة في هذا الكون تحرك الجواري في البحر كالأعلام‏؟‏‏.‏‏.‏

‏{‏إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره‏}‏‏.‏‏.‏

وإنها لتركد أحياناً فتهمد هذه الجواري وتركد كما لو كانت قد فارقتها الحياة‏!‏

‏{‏إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏}‏‏.‏‏.‏

في إجرائهن وفي ركودهن على السواء آيات لكل صبار شكور‏.‏ والصبر والشكر كثيراً ما يقترنان في القرآن‏.‏ الصبر على الابتلاء والشكر على النعماء؛ وهما قوام النفس المؤمنة في الضراء والسراء‏.‏

‏{‏أو يوبقهن بما كسبوا‏}‏‏.‏‏.‏

فيحطمهن أو يغرقهن بما كسب الناس من ذنب ومعصية ومخالفة عن الإيمان الذي تدين به الخلائق كلها، فيما عدا بعض بني الإنسان‏!‏

‏{‏ويعف عن كثير‏}‏‏.‏‏.‏

فلا يؤاخذ الناس بكل ما يصدر منهم من آثام، بل يسمح ويعفو ويتجاوز منها عن كثير‏.‏

‏{‏ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص‏}‏‏.‏‏.‏

لو شاء الله أن يقفهم أمام بأسه، ويوبق سفائنهم، وهم لا يملكون منها نجاة‏!‏

وهكذا يشعرهم بأن ما يملكون من أعراض هذه الحياة الدنيا، عرضة كله للذهاب، فلا ثبات ولا استقرار لشيء إلا الصلة الوثيقة بالله‏.‏

ثم يخطو بهم خطوة أخرى، وهو يلفتهم إلى أن كل ما أتوه في هذه الأرض متاع موقوت في هذه الحياة الدنيا‏.‏ وأن القيمة الباقية هي التي يدخرها الله في الآخرة للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون‏.‏ ويستطرد فيحدد صفة المؤمنين هؤلاء، بما يميزهم، ويفردهم أمة وحدهم ذات خصائص وسمات‏!‏

‏{‏فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون‏.‏ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما غضبوا هم يغفرون، والذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة، وأمرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون‏.‏ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون‏.‏ وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، إنه لا يحب الظالمين‏.‏ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل‏.‏ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، أولئك لهم عذاب أليم‏.‏ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور‏}‏‏.‏

لقد سبق في السورة أن صور القرآن حالة البشرية؛ وهو يشير إلى أن الذين أوتوا الكتاب تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم؛ وكان تفرقهم بغيا بينهم لا جهلاً بما نزل الله لهم من الكتاب، وبما سن لهم من نهج ثابت مطرد من عهد نوح إلى عهد إبراهيم إلى عهد موسى إلى عهد عيسى عليهم صلوات الله وهو يشير كذلك إلى أن الذين أورثوا الكتاب بعد أولئك المختلفين، ليسوا على ثقة منه، بل هم في شك منه مريب‏.‏

وإذا كان هذا حال أهل الأديان المنزلة، وأتباع الرسل صلوات الله عليهم فحال أولئك الذين لا يتبعون رسولا ولا يؤمنون بكتاب أضل وأعمى‏.‏

ومن ثم كانت البشرية في حاجة إلى قيادة راشدة، تنقذها من تلك الجاهلية العمياء التي كانت تخوض فيها‏.‏ وتأخذ بيدها إلى العروة الوثقى؛ وتقود خطاها في الطريق الواصل إلى الله ربها ورب هذا الوجود جميعا‏.‏

ونزل الله الكتاب على عبده محمد صلى الله عليه وسلم قرآناً عربياً، لينذر أم القرى ومن حولها؛ وشرع فيه ما وصى به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى، ليصل بين حلقات الدعوة منذ فجر التاريخ، ويوحد نهجها وطريقها وغايتها؛ ويقيم بها الجماعة المسلمة التي تهيمن وتقود؛ وتحقق في الأرض وجود هذه الدعوة كما أرادها الله، وفي الصورة التي يرتضيها‏.‏

وهنا في هذه الآيات يصور خصائص هذه الجماعة التي تطبعها وتميزها‏.‏ ومع أن هذه الآيات مكية، نزلت قبل قيام الدولة المسلمة في المدينة، فإننا نجد فيها أن من صفة هذه الجماعة المسلمة‏:‏ ‏{‏وأمرهم شورى بينهم‏}‏‏.‏‏.‏ مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاماً سياسياً للدولة، فهو طابع أساسي للجماعة كلها، يقوم عليه أمرها كجماعة، ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة، بوصفها إفرازاً طبيعيا للجماعة‏.‏ كذلك نجد من صفة هذه الجماعة‏:‏ ‏{‏والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون‏}‏‏.‏‏.‏ مع أن الأمر الذي كان صادراً للمسلمين في مكة هو أن يصبروا وألا يردوا العدوان بالعدوان، إلى أن صدر لهم أمر آخر بعد الهجرة وأذن لهم في القتال‏.‏ وقيل لهم‏:‏ ‏{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير‏}‏ وذكر هذه الصفة هنا في آيات مكية بصدد تصوير طابع الجماعة المسلمة يوحي بأن صفة الانتصار من البغي صفة أساسية ثابتة؛ وأن الأمر الأول بالكف والصبر كان أمراً استثنائياً لظروف معينة‏.‏ وأنه لما كان المقام هنا مقام عرض الصفات الأساسية للجماعة المسلمة ذكر منها هذه الصفة الأساسية الثابتة، ولو أن الآيات مكية، ولم يكن قد أذن لهم بعد في الانتصار من العدوان‏.‏

وذكر هذه الصفات المميزة لطابع الجماعة المسلمة، المختارة لقيادة البشرية وإخراجها من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام‏.‏

ذكرها في سورة مكية وقبل أن تكون القيادة العملية في يدها فعلا، جدير بالتأمل‏.‏ فهي الصفات التي يجب أن تقوم أولا، وأن تتحقق في الجماعة لكي تصبح بها صالحة للقيادة العملية‏.‏ ومن ثم ينبغي أن نتدبرها طويلا‏.‏‏.‏ ما هي‏؟‏ ما حقيقتها‏؟‏ وما قيمتها في حياة البشرية جميعاً‏؟‏

إنها الإيمان‏.‏ والتوكل‏.‏ واجتناب كبائر الإثم والفواحش‏.‏ والمغفرة عند الغضب‏.‏ والاستجابة لله‏.‏ وإقامة الصلاة‏.‏ والشورى الشاملة‏.‏ والإنفاق مما رزق الله‏.‏ والانتصار من البغي‏.‏ والعفو‏.‏ والإصلاح‏.‏ والصبر‏.‏

فما حقيقة هذه الصفات وما قيمتها‏؟‏ يحسن أن نبين هذا ونحن نستعرض الصفات في نسقها القرآني‏.‏

إنه يقف الناس أمام الميزان الإلهي الثابت لحقيقة القيم‏.‏ القيم الزائلة والقيم الباقية؛ كي لا يختلط الأمر في نفوسهم، فيختل كل شيء في تقديرهم‏.‏ ويجعل هذا الميزان مقدمة لبيان صفة الجماعة المسلمة‏:‏

‏{‏فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا، وما عند الله خير وأبقى‏}‏‏.‏‏.‏

إن في هذه الأرض متاعاً جذاباً براقاً، وهناك أرزاق وأولاد وشهوات ولذائذ وجاه وسلطان؛ وهناك نعم آتاها الله لعباده في الأرض تلطفا منه وهبة خالصة، لا يعلقها بمعصية ولا طاعة في هذه الحياة الدنيا‏.‏ وإن كان يبارك للطائع ولو في القليل ويمحق البركة من العاصي ولو كان في يده الكثير‏.‏

ولكن هذا كله ليس قيمة ثابتة باقية‏.‏ إنما هو متاع‏.‏ متاع محدود الأجل‏.‏ لا يرفع ولا يخفض، ولا يعد بذاته دليل كرامة عند الله أو مهانة؛ ولا يعتبر بذاته علامة رضى من الله أو غضب‏.‏ إنما هو متاع‏.‏ ‏{‏وما عند الله خير وأبقى‏}‏‏.‏‏.‏ خير في ذاته‏.‏ وأبقى في مدته‏.‏ فمتاع الحياة الدنيا زهيد حين يقاس إلى ما عند الله، ومحدود حين يقاس إلى الفيض المنساب‏.‏ ومتاع الحياة الدنيا معدود الأيام‏.‏ أقصى أمده للفرد عمر الفرد، وأقصى أمده للبشرية عمر هذه البشرية؛ وهو بالقياس إلى أيام الله ومضة عين أو تكاد‏.‏

وبعد تقرير هذه الحقيقة في بيان صفة المؤمنين الذين يذخر الله لهم ما هو خير وأبقى‏.‏‏.‏

ويبدأ بصفة الإيمان‏.‏ ‏{‏وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا‏}‏‏.‏‏.‏ وقيمة الإيمان أنه معرفة بالحقيقة الأولى التي لا تقوم في النفس البشرية معرفة صحيحة لشئ في هذا الوجود إلا عن طريقها‏.‏ فمن طريق الإيمان بالله ينشأ إدراك لحقيقة هذا الوجود، وأنه من صنع الله؛ وبعد إدراك هذه الحقيقة يستطيع الإنسان أن يتعامل مع الكون وهو يعرف طبيعته كما يعرف قوانينه التي تحكمه‏.‏ ومن ثم ينسق حركته هو مع حركة هذا الوجود الكبير، ولا ينحرف عن النواميس الكلية، فيسعد بهذا التناسق، ويمضي مع الوجود كله إلى بارئ الوجود في طاعة واستسلام وسلام‏.‏ وهذه الصفة لازمة لكل إنسان، ولكنها ألزم ما تكون للجماعة التي تقود البشرية إلى بارئ الوجود‏.‏

وقيمة الإيمان كذلك الطمأنينة النفسية، والثقة بالطريق، وعدم الحيرة أو التردد، أو الخوف أو اليأس‏.‏ وهذه الصفات لازمة لكل إنسان في رحلته على هذا الكوكب؛ ولكنها ألزم ما تكون للقائد الذي يرتاد الطريق، ويقود البشرية في هذا الطريق‏.‏

وقيمة الإيمان التجرد من الهوى والغرض والصالح الشخصي وتحقيق المغانم‏.‏ إذ يصبح القلب متعلقاً بهدف أبعد من ذاته؛ ويحس أن ليس له من الأمر شئ، إنما هي دعوة الله، وهو فيها أجير عند الله‏!‏ وهذا الشعور ألزم ما يكون لمن توكل إليه مهمة القيادة كي لا يقنط إذا أعرض عنه القطيع الشارد أو أوذي في الدعوة؛ ولا يغتر إذا ما استجابت له الجماهير، أو دانت له الرقاب‏.‏ فإنما هو أجير‏.‏

ولقد آمنت العصبة الأولى من المسلمين إيماناً كاملاً أثر في نفوسهم وأخلاقهم وسلوكهم تأثيراً عجيباً‏.‏ وكانت صورة الإيمان في نفس البشرية قد بهتت وغمضت حتى فقدت تأثيرها في أخلاق الناس وسلوكهم، فلما أن جاء الإسلام أنشأ صورة للإيمان حية مؤثرة فاعلة تصلح بها هذه العصبة للقيادة التي وضعت على عاتقها‏.‏

يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه‏:‏ «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»‏.‏ عن هذا الإيمان‏:‏

«انحلت العقدة الكبرى عقدة الشرك والكفر فانحلت العقد كلها؛ وجاهدهم الرسول جهاده الأول، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي؛ وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى، فكان النصر حليفه في كل معركة؛ وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى، ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏»

«حتىإذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيرهم، وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة، وفي اليوم رجال الغد، لا تجزعهم مصيبة، ولا تبطرهم نعمة، ولا يشغلهم فقر، ولا يطغيهم غنى، ولا تلهيهم تجارة، ولا تستخفهم قوة، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا، وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم، قوامين بالقسط شهداء لله على أنفسهم أو الوالدين والأقربين‏.‏‏.‏ وطأ لهم أكناف الأرض، وأصبحوا عصمة للبشرية، ووقاية للعالم‏.‏ وداعية إلى دين الله‏.‏‏.‏‏.‏»

ويقول عن تأثير الإيمان الصحيح في الأخلاق والميول‏:‏

«كان الناس عرباً وعجماً يعيشون حياة جاهلية، يسجدون فيها لكل ما خلق لأجلهم ويخضع لإرادتهم وتصرفهم، لا يثيب الطائع بجائزة، ولا يعذب العاصي بعقوبة، ولا يأمر ولا ينهى؛ فكانت الديانة سطحية طافية في حياتهم، ليس لها سلطان على أرواحهم ونفوسهم وقلوبهم، ولا تأثير لها في أخلاقهم واجتماعهم‏.‏ كانوا يؤمنون بالله كصانع أتم عمله واعتزل وتنازل عن مملكته لأناس خلع عليهم خلعة الربوبية؛ فأخذوا بأيديهم أزمة الأمر، وتولوا إدارة المملكة وتدبير شؤونها وتوزيع أرزاقها، إلى غير ذلك من مصالح الحكومة المنظمة‏.‏

فكان إيمانهم بالله لا يزيد على معرفة تاريخية، وكان إيمانهم بالله، وإحالتهم خلق السماوات والأرض إلى الله لا يختلف عن جواب تلميذ من تلاميذ فن التاريخ، يقال له‏:‏ من بني هذا القصر العتيق‏؟‏ فيسمي ملكا من الملوك الأقدمين من غير أن يخافه ويخضع له؛ فكان دينهم عارياً عن الخشوع لله ودعائه، وما كانوا يعرفون عن الله ما يحببه إليهم، فكانت معرفتهم مبهمة غامضة، قاصرة مجملة، لا تبعث في نفوسهم هيبة ولا محبة «‏.‏‏.‏

»‏.‏‏.‏‏.‏ انتقل العرب والذين أسلموا من هذه المعرفة العليلة الغامضة الميتة إلى معرفة عميقة واضحة روحية ذات سلطان على الروح والنفس والقلب والجوارح، ذات تأثير في الأخلاق والاجتماع، ذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها‏.‏ آمنوا بالله الذي له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى‏.‏ آمنوا برب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، العزيز، الحكيم، الغفور، الودود، الرؤوف، الرحيم، له الخلق والأمر، بيده ملكوت كل شيء، يجير ولا يجار عليه‏.‏‏.‏ إلى آخر ما جاء في القرآن من وصفه‏.‏ يثيب بالجنة ويعذب بالنار، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، يعلم الخبء في السماوات والأرض، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور‏.‏ إلى آخر ما جاء في القرآن من قدرته وتصرفه وعلمه‏.‏ فانقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح انقلاباً عجيبا‏.‏ فإذا آمن أحد بالله وشهد أن لا إله إلا الله انقلبت حياته ظهراً لبطن‏.‏ تغلغل الإيمان في أحشائه وتسرب إلى جميع عروقه ومشاعره، وجرى منه مجرى الروح والدم، واقتلع جراثيم الجاهلية وجذورها‏.‏ وغمر العقل والقلب بفيضانه، وجعل منه رجلاً غير الرجل، وظهر منه من روائع الإيمان واليقين والصبر والشجاعة، ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما حير العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق، ولا يزال موضع حيرة ودهشة منه إلى الأبد، وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق «‏.‏

» وكان هذا الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية من صرامة إرادة وقوة نفس، ومحاسبتها والإنصاف منها، وكان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية؛ حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان، وسقط الإنسان سقطة وكان ذلك حيث لا تراقبه عين، ولا تتناوله يد القانون، تحول هذا الإيمان نفساً لوامة عنيفة، ووخزاً لاذعاً للضمير، وخيالاً مروعاً، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة، ويتحملها مطمئناً مرتاحاً، تفاديا من سخط الله وعقوبة الآخرة «‏.‏‏.‏

»‏.‏‏.‏‏.‏ وكان هذا الإيمان حارساً لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته، يملك نفسه النّزع أمام المطامع والشهوات الجارفة؛ وفي الخلوة والوحدة حيث لا يراه أحد، وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحدا‏.‏

وقد وقع في تاريخ الفتح الإسلامي من قضايا العفاف عند المغنم، وأداء الأمانات إلى أهلها، والإخلاص لله، ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره، وما ذاك إلا نتيجة رسوخ الإيمان، ومراقبة الله واستحضار علمه في كل مكان وزمان «‏.‏

» وكانوا قبل هذا الإيمان في فوضى من الأفعال والأخلاق والسلوك والأخذ والترك والسياسة والاجتماع، لا يخضعون لسلطان، ولا يقرون بنظام، ولا ينخرطون في سلك، يسيرون على الأهواء، ويركبون العمياء، ويخبطون خبط عشواء‏.‏ فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها، واعترفوا لله بالملك والسلطان، والأمر والنهي، ولأنفسهم بالرعوية والعبودية والطاعة المطلقة، وأعطوا من أنفسهم المقادة، واستسلموا للحكم الإلهي استسلاماً كاملاً ووضعوا أوزارهم، وتنازلوا عن أهوائهم وأنانيتهم، وأصبحوا عبيداً لا يملكون مالاً ولا نفساً ولا تصرفاً في الحياة إلا ما يرضاه الله ويسمح به، لا يحاربون ولا يصالحون إلا بإذن الله، ولا يرضون ولا يسخطون، ولا يعطون ولا يمنعون، ولا يصلون ولا يقطعون إلا بإذنه ووفق أمره «‏.‏

وهذا هو الإيمان الذي تشير إليه الآية وهي تصف الجماعة التي اختيرت لقيادة البشرية بهذه العقيدة‏.‏ ومن مقتضيات هذا الإيمان التوكل على الله‏.‏ ولكن القرآن يفرد هذه الصفة بالذكر ويميزها‏:‏

‏{‏وعلى ربهم يتوكلون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا التقديم والتأخير في تركيب الجملة يفيد قصر التوكل على ربهم دون سواه‏.‏ والإيمان بالله الواحد يقتضي التوكل عليه دون سواه‏.‏ فهذا هو التوحيد في أول صورة من صوره‏.‏ إن المؤمن يؤمن بالله وصفاته، ويستيقن أنه لا أحد في هذا الوجود يفعل شيئا إلا بمشيئته، وأنه لا شيء يقع في هذا الوجود إلا بإذنه‏.‏ ومن ثم يقصر توكله عليه، ولا يتوجه في فعل ولا ترك لمن عداه‏.‏

وهذا الشعور ضروري لكل أحد، كي يقف رافع الرأس لا يحني رأسه إلا لله‏.‏ مطمئن القلب لا يرجو ولا يرهب أحدا إلا الله‏.‏ ثابت الجأش في الضراء؛ قرير النفس في السراء، لا تستطيره نعماء ولا بأساء‏.‏‏.‏ ولكن هذا الشعور أشد ضرورة للقائد، الذي يحتمل تبعة ارتياد الطريق‏.‏

‏{‏والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش‏}‏‏.‏‏.‏

وطهارة القلب، ونظافة السلوك من كبائر الإثم ومن الفواحش، أثر من آثار الإيمان الصحيح‏.‏ وضرورة من ضرورات القيادة الراشدة‏.‏ وما يبقى قلب على صفاء الإيمان ونقاوته وهو يقدم على كبائر الذنوب والمعاصي ولا يتجنبها‏.‏ وما يصلح قلب للقيادة وقد فارقه صفاء الإيمان وطمسته المعصية وذهبت بنوره‏.‏

ولقد ارتفع الإيمان بالحساسية المرهفة في قلوب العصبة المؤمنة، حتى بلغت تلك الدرجة التي أشارت إليها المقتطفات السابقة ‏(‏ص 77‏)‏ وأهلت الجماعة الأولى لقيادة البشرية قيادة غير مسبوقة ولا ملحوقة‏.‏

ولكنها كالسهم يشير إلى النجم ليهتدي به من يشاء في معترك الشهوات‏!‏

والله يعلم ضعف هذا المخلوق البشري، فيجعل الحد الذي يصلح به للقيادة، والذي ينال معه ما عند الله، هو اجتناب كبائر الإثم والفواحش‏.‏ لا صغائر الإثم والذنب‏.‏ وتسعه رحمته بما يقع منه من هذه الصغائر، لأنه أعلم بطاقته‏.‏ وهذا فضل من الله وسماحة ورحمة بهذا الإنسان؛ توجب الحياء من الله، فالسماحة تخجل والعفو يثير في القلب الكريم معنى الحياء‏.‏

‏{‏وإذا ما غضبوا هم يغفرون‏}‏‏.‏‏.‏

وتأتي هذه الصفة بعد الإشارة الخفية إلى سماحة الله مع الإنسان في ذنوبه وأخطائه، فتحبب في السماحة والمغفرة بين العباد‏.‏ وتجعل صفة المؤمنين أنهم إذا ما غضبوا هم يغفرون‏.‏

وتتجلى سماحة الإسلام مرة أخرى مع النفس البشرية؛ فهو لا يكلف الإنسان فوق طاقته‏.‏ والله يعلم أن الغضب انفعال بشري ينبع من فطرته‏.‏ وهو ليس شراً كله‏.‏ فالغضب لله ولدينه وللحق والعدل غضب مطلوب وفيه الخير‏.‏ ومن ثم لا يحرم الغضب في ذاته ولا يجعله خطيئة‏.‏ بل يعترف بوجوده في الفطرة والطبيعة، فيعفي الإنسان من الحيرة والتمزق بين فطرته وأمر دينه‏.‏ ولكنه في الوقت ذاته يقوده إلى أن يغلب غضبه، وأن يغفر ويعفو، ويحسب له هذا صفة مثلى من صفات الإيمان المحببة‏.‏ هذا مع أنه عرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يغضب لنفسه قط، إنما كان يغضب لله، فإذا غضب لله لم يقم لغضبه شئ‏.‏ ولكن هذه درجة تلك النفس المحمدية العظيمة؛ لا يكلف الله نفوس المؤمنين إياها‏.‏ وإن كان يحببهم فيها‏.‏ إنما يكتفي منهم بالمغفرة عند الغضب، والعفو عند القدرة، والاستعلاء على شعور الانتقام، ما دام الأمر في حدود الدائرة الشخصية المتعلقة بالأفراد‏.‏

‏{‏والذين استجابوا لربهم‏}‏‏.‏‏.‏

فأزالوا العوائق التي تقوم بينهم وبين ربهم‏.‏ أزالوا هذه العوائق الكامنة في النفس دون الوصول‏.‏ وما يقوم بين النفس وربها إلا عوائق من نفسها‏.‏‏.‏ عوائق من شهواتها ونزواتها‏.‏ عوائق من وجودها هي وتشبثها بذاتها‏.‏ فأما حين تخلص من هذا كله فإنها تجد الطريق إلى ربها مفتوحاً وموصولا‏.‏ وحينئذ تستجيب بلا عائق‏.‏ تستجيب بكلياتها‏.‏ ولا تقف أمام كل تكليف بعائق من هوى يمنعها‏.‏‏.‏ وهذه هي الاستجابة في عمومها‏.‏‏.‏ ثم أخذ يفصل بعض هذه الاستجابة‏:‏

‏{‏وأقاموا الصلاة‏}‏‏.‏‏.‏

وللصلاة في هذا الدين مكانة عظمة، فهي التالية للقاعدة الأولى فيه‏.‏ قاعدة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله‏.‏ وهي صورة الاستجابة الأولى لله‏.‏ وهي الصلة بين العبد وربه‏.‏ وهي مظهر المساواة بين العباد في الصف الواحد ركعاً سجداً، لا يرتفع رأس على رأس، ولا تتقدم رجل على رجل‏!‏

ولعله من هذا الجانب أتبع إقامة الصلاة بصفة الشورى قبل أن يذكر الزكاة‏:‏

‏{‏وأمرهم شورى بينهم‏}‏

والتعبير يجعل أمرهم كله شورى، ليصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة‏.‏

وهو كما قلنا نص مكي‏.‏ كان قبل قيام الدولة الإسلامية‏.‏ فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين‏.‏ إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها، ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم فيها بعد‏.‏

والواقع أن الدولة في الإسلام ليست سوى إفراز طبيعي للجماعة وخصائصها الذاتية‏.‏ والجماعة تتضمن الدولة وتنهض وإياها بتحقيق المنهج الإسلامي وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية‏.‏

ومن ثم كان طابع الشورى في الجماعة مبكراً، وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدولة وشؤون الحكم فيها‏.‏ إنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية، وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية‏.‏ وهي من ألزم صفات القيادة‏.‏

أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس مصبوباً في قالب حديدي؛ فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان، لتحقيق ذلك الطابع في حياة الجماعة الإسلامية‏.‏ والنظم الإسلامية كلها ليست أشكالاً جامدة، وليست نصوصاً حرفية، إنما هي قبل كل شيء روح ينشأ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب، وتكيف الشعور والسلوك بهذه الحقيقة‏.‏ والبحث في أشكال الأنظمة الإسلامية دون الاهتمام بحقيقة الإيمان الكامنة وراءها لا يؤدي إلى شيء‏.‏‏.‏ وليس هذا كلاماً عائماً غير مضبوط كما قد يبدو لأول وهلة لمن لا يعرف حقيقة الإيمان بالعقيدة الإسلامية‏.‏ فهذه العقيدة في أصولها الاعتقادية البحتة، وقبل أي التفات إلى الأنظمة فيها تحوي حقائق نفسية وعقلية هي في ذاتها شيء له وجود وفاعلية وأثر في الكيان البشري، يهيئ لإفراز أشكال معينة من النظم وأوضاع معينة في الحياة البشرية؛ ثم تجيء النصوص بعد ذلك مشيرة إلى هذه الأشكال والأوضاع، لمجرد تنظيمها لا لخلقها وإنشائها‏.‏ ولكي يقوم أي شكل من أشكال النظم الإسلامية، لا بد قبلها من وجود مسلمين، ومن وجود إيمان ذي فاعلية وأثر‏.‏ وإلا فكل الأشكال التنظيمية لا تفي بالحاجة، ولا تحقق نظاماً يصح وصفه بأنه إسلامي‏.‏‏.‏

ومتى وجد المسلمون حقاً، ووجد الإيمان في قلوبهم بحقيقته، نشأ النظام الإسلامي نشأة ذاتية، وقامت صورة منه تناسب هؤلاء المسلمين وبيئتهم وأحوالهم كلها؛ وتحقق المبادئ الإسلامية الكلية خير تحقيق‏.‏

‏{‏ومما رزقناهم ينفقون‏}‏‏.‏‏.‏

وهو نص مبكر كذلك على تحديد فرائض الزكاة التي حددت في السنة الثانية من الهجرة‏.‏ ولكن الإنفاق العام من رزق الله كان توجيها مبكراً في حياة الجماعة الإسلامية‏.‏ بل إنه ولد مع مولدها‏.‏

ولا بد للدعوة من الإنفاق‏.‏ لا بد منه تطهيراً للقلب من الشح، واستعلاء على حب الملك، وثقة بما عند الله‏.‏ وكل هذه ضرورية لاستكمال معنى الإيمان‏.‏ ثم إنها ضرورية كذلك لحياة الجماعة‏.‏ فالدعوة كفاح‏.‏ ولا بد من التكافل في هذا الكفاح وجرائره وآثاره‏.‏ وأحياناً يكون هذا التكافل كاملاً بحيث لا يبقى لأحد مال متميز‏.‏

كما حدث في أول العهد بهجرة المهاجرين من مكة، ونزولهم على إخوانهم في المدينة‏.‏ حتى إذا هدأت حدة الظروف وضعت الأسس الدائمة للإنفاق في الزكاة‏.‏

وعلى أية حال فالإنفاق في عمومه سمة من سمات الجماعة المؤمنة المختارة للقيادة بهذه الصفات‏.‏‏.‏

‏{‏والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون‏}‏‏.‏

وذكر هذه الصفة في القرآن المكي ذو دلالة خاصة كما سلف‏.‏ فهي تقرير لصفة أساسية في الجماعة المسلمة‏.‏ صفة الانتصار من البغي، وعدم الخضوع للظلم‏.‏ وهذا طبيعي بالنسبة لجماعة أخرجت للناس لتكون خير أمة‏.‏ لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتهيمن على حياة البشرية بالحق والعدل؛ وهي عزيزة بالله‏.‏ ‏{‏ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين‏}‏ فمن طبيعة هذه الجماعة ووظيفتها أن تنتصر من البغي وأن تدفع العدوان‏.‏ وإذا كانت هناك فترة اقتضت لأسباب محلية في مكة، ولمقتضيات تربوية في حياة المسلمين الأوائل من العرب خاصة، أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فذلك أمر عارض لا يتعلق بخصائص الجماعة الثابتة الأصيلة‏.‏

ولقد كانت هنالك أسباب خاصة لاختيار أسلوب المسالمة والصبر في العهد المكي‏:‏

منها أن إيذاء المسلمين الأوائل وفتنتهم عن دينهم لم تكن تصدر من هيئة مسيطرة على الجماعة‏.‏ فالوضع السياسي والاجتماعي في الجزيرة كان وضعاً قبلياً مخلخلاً‏.‏ ومن ثم كان الذين يتولون إيذاء الفرد المسلم هم خاصة أهله إن كان ذا نسب، ولم يكن أحد غير خاصة أهله يجرؤ على إيذائه ولم يقع إلا في الندرة أن وقع اعتداء جماعي على فرد مسلم أو على المسلمين كجماعة كما كان السادة يؤذون مواليهم إلى أن يشتريهم المسلمون ويعتقوهم فلا يجرؤ على إيذائهم غالباً‏.‏ ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يحب أن تقع معركة في كل بيت بين الفرد المسلم من هذا البيت والذين لم يسلموا بعد‏.‏ والمسالمة كانت أقرب إلى إلانة القلوب من المخاشنة‏.‏

ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة نخوة تثور لصاحب الحق الذي يقع عليه الأذى‏.‏ واحتمال المسلمين للأذى وصبرهم على عقيدتهم، كان أقرب إلى استثارة هذه النخوة في صف الإسلام والمسلمين‏.‏ وهذا ما حدث بالقياس إلى حادث الشعب وحصر بني هاشم فيه‏.‏ فقد ثارت النخوة ضد هذا الحصار، ومزقت العهد الذي حوته الصحيفة، ونقضت هذا العهد الجائر‏.‏

ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة حرب ومسارعة إلى السيف، وأعصاب متوفزة لا تخضع لنظام‏.‏ والتوازن في الشخصية الإسلامية كان يقتضي كبح جماح هذا التوفز الدائم، وإخضاعها لهدف، وتعويدها الصبر وضبط الأعصاب‏.‏ مع إشعار النفوس باستعلاء العقيدة على كل نزوة وعلى كل مغنم‏.‏ ومن ثم كانت الدعوة إلى الصبر على الأذى متفقة مع منهج التربية الذي يهدف إلى التوازن في الشخصية الإسلامية، وتعليمها الصبر والثبات والمضي في الطريق‏.‏

فهذه الاعتبارات وأمثالها قد اقتضت سياسة المسالمة والصبر في مكة‏.‏

مع تقرير الطابع الأساسي الدائم للجماعة المسلمة‏:‏ ‏{‏والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون‏}‏‏.‏‏.‏

ويؤكد هذه القاعدة بوصفها قاعدة عامة في الحياة‏:‏

‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏‏.‏‏.‏

فهذا هو الأصل في الجزاء‏.‏ مقابلة السيئة بالسيئة، كي لا يتبجح الشر ويطغى، حين لا يجد رادعاً يكفه عن الإفساد في الأرض فيمضي وهو آمن مطمئن‏!‏

ذلك مع استحباب العفو ابتغاء أجر الله وإصلاح النفس من الغيظ، وإصلاح الجماعة من الأحقاد‏.‏ وهو استثناء من تلك القاعدة‏.‏ والعفو لا يكون إلا مع المقدرة على جزاء السيئة بالسيئة‏.‏ فهنا يكون العفو وزنه ووقعه في إصلاح المعتدي والمسامح سواء‏.‏ فالمعتدي حين يشعر بأن العفو جاء سماحة ولم يجئ ضعفا يخجل ويستحيي، ويحس بأن خصمه الذي عفا هو الأعلى‏.‏ والقوي الذي يعفو تصفو نفسه وتعلو‏.‏ فالعفو عندئذ خير لهذا وهذا‏.‏ ولا كذلك عند الضعف والعجز‏.‏ وما يجوز أن يذكر العفو عند العجز‏.‏ فليس له ثمة وجود‏.‏ وهو شر يطمع المعتدي ويذلك المعتدى عليه، وينشر في الأرض الفساد‏!‏

‏{‏إنه لا يحب الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا توكيد للقاعدة الأولى‏:‏ ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏ من ناحية‏.‏ وإيحاء بالوقوف عند رد المساءة أو العفو عنها‏.‏ وعدم تجاوز الحد في الاعتداء، من ناحية أخرى‏.‏

وتوكيد آخر أكثر تفصيلا‏:‏

‏{‏ولمن انتصر بعد ظلمه، فأولئك ما عليهم من سبيل‏.‏ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق‏.‏ أولئك لهم عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

فالذي ينتصر بعد ظلمه، ويجزي السيئة بالسيئة، ولا يعتدي، ليس عليه من جناح‏.‏ وهو يزاول حقه المشروع‏.‏ فما لأحد عليه من سلطان‏.‏ ولا يجوز أن يقف في طريقه أحد‏.‏ إنما الذين يجب الوقوف في طريقهم هم الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق‏.‏ فإن الأرض لا تصلح وفيها ظالم لا يقف له الناس ليكفوه ويمنعوه من ظلمه؛ وفيها باغ يجور ولا يجد من يقاومه ويقتص منه‏.‏ والله يتوعد الظالم الباغي بالعذاب الأليم‏.‏ ولكن على الناس كذلك أن يقفوا له ويأخذوا عليه الطريق‏.‏

ثم يعود إلى التوازن والاعتدال وضبط النفس والصبر والسماحة في الحالات الفردية، وعند المقدرة على الدفع كما هو مفهوم؛ وحين يكون الصبر والسماحة استعلاء لا استخذاء؛ وتجملاً لا ذلاً‏:‏

‏{‏ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور‏}‏‏.‏‏.‏

ومجموعة النصوص في هذه القضية تصور الاعتدال والتوازن بين الاتجاهين؛ وتحرص على صيانة النفس من الحقد والغيظ، ومن الضعف والذل، ومن الجور والبغي‏.‏ وتعلقها بالله ورضاه في كل حال‏.‏ وتجعل الصبر زاد الرحلة الأصيل‏.‏

ومجموعة صفات المؤمنين ترسم طابعاً مميزاً للجماعة التي تقود البشرية وترجو ما عند الله وهو خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون‏.‏‏.‏

وبعد تقرير صفة المؤمنين الذين يدخر الله لهم عنده ما هو خير وأبقى، يعرض في الصفحة المقابلة صورة الظالمين الضالين، وما ينتظرهم من ذل وخسران‏:‏

‏{‏ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده؛ وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون‏:‏ هل إلى مرد من سبيل‏؟‏ وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل، ينظرون من طرف خفي، وقال الذين آمنوا‏:‏ إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة؛ ألا إن الظالمين في عذاب مقيم، وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله، ومن يضلل الله فما له من سبيل‏}‏‏.‏

إن قضاء الله لا يرد، ومشيئته لا معقب عليها ‏{‏ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده‏}‏‏.‏‏.‏ فإذا علم الله من حقيقة العبد أنه مستحق للضلال، فحقت عليه كلمة الله أن يكون من أهل الضلال، لم يكن له بعد ذلك من ولي يهديه من ضلاله، أو ينصره من جزاء الضلال الذي قدره الله‏.‏‏.‏ والذي يعرض منه مشهداً في بقية الآية‏:‏

‏{‏وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون‏:‏ هل إلى مرد من سبيل، وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل، ينظرون من طرف خفي‏}‏‏.‏‏.‏

والظالمون كانوا طغاة بغاة، فناسب أن يكون الذل هو مظهرهم البارز في يوم الجزاء‏.‏ إنهم يرون العذاب، فتتهاوى كبرياؤهم‏.‏ ويتساءلون في انكسار‏:‏ ‏{‏هل إلى مرد من سبيل‏؟‏‏}‏ في هذه الصيغة الموحية باليأس مع اللهفة، والانهيار مع التطلع إلى أي بارقة للخلاص‏!‏ وهم يعرضون على النار ‏{‏خاشعين‏}‏ لا من التقوى ولا من الحياء، لكن من الذل والهوان‏!‏ وهم يعرضون منكسي الأبصار، لا يرفعون أعينهم من الذل والعار‏:‏ ‏{‏ينظرون من طرف خفي‏}‏‏.‏‏.‏ وهي صورة شاخصة ذليلة‏.‏

وفي هذا الوقت يبدو أن الذين آمنوا هم سادة الموقف؛ فهم ينطقون ويقررون‏:‏ ‏{‏وقال الذين آمنوا‏:‏ إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة‏}‏‏.‏‏.‏ وهم هؤلاء الذين خسروا كل شيء، والذين يقفون خاشعين من الذل يقولون‏:‏ هل إلى مرد من سبيل‏؟‏

ويجيء التعليق العام على المشهد بياناً لمآل هؤلاء المعروضين على النار‏:‏

‏{‏ألا إن الظالمين في عذاب مقيم‏.‏ وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله‏.‏ ومن يضلل الله فما له من سبيل‏}‏‏.‏‏.‏

فقد عدم النصير، وقد أغلق السبيل‏.‏

وفي ظل هذا المشهد يوجه الخطاب إلى المعاندين المكابرين، ليستجيبوا لربهم قبل أن يفجأهم مثل هذا المصير فلا يجدوا لهم ملجأ يقيهم، ولا نصيراً ينكر مصيرهم الأليم، ويوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التخلي عنهم إذا هم أعرضوا فلم يستجيبوا لهذا النذير؛ فما عليه إلا البلاغ، وما هو مكلف بهم ولا كفيل‏:‏

‏{‏استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير‏.‏ فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ‏}‏‏.‏

ثم يكشف عن طبيعة هذا الإنسان الذي يعارض ويعاند، ويعرض نفسه للأذى والعذاب، وهو لا يحتمل في نفسه الأذى؛ وهو رقيق الاحتمال، يستطار بالنعمة، ويجزع من الشدة، ويتجاوز حده فيكفر من الضيق‏:‏

‏{‏وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور‏}‏‏.‏‏.‏

ويعقب على هذا بأن نصيب هذا الإنسان من السراء والضراء ومن العطاء والحرمان كله بيد الله‏.‏ فما لهذا الإنسان المحب للخير الجزوع من الشر، يبعد عن الله المالك لأمره في جيمع الأحوال‏:‏

‏{‏لله ملك السماوات والأرض، يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثاً، ويهب لمن يشاء الذكور‏.‏ أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً، ويجعل من يشاء عقيماً، إنه عليم قدير‏}‏‏.‏‏.‏

والذرية مظهر من مظاهر المنح والمنع والعطاء والحرمان؛ وهي قريبة من نفس الإنسان؛ والنفس شديدة الحساسية بها‏.‏ فلمسها من هذا الجانب أقوى وأعمق‏.‏ وقد سبق في السورة حديث عن الرزق بسطه وقبضه‏.‏ فهذه تكملة في الرزق بالذرية‏.‏ وهي رزق من عند الله كالمال‏.‏

والتقديم بأن لله ملك السماوات والأرض هو التقديم المناسب لكل جزئية بعد ذلك من توابع هذا الملك العام‏.‏ وكذلك ذكر‏:‏ ‏{‏يخلق ما يشاء‏}‏‏.‏‏.‏ فهي توكيد للإيحاء النفسي المطلوب في هذا الموضع‏.‏ ورد الإنسان، المحب للخير، إلى الله الذي يخلق ما يشاء مما يسرّ وما يسوء ومن عطاء أو حرمان‏.‏

ثم يفصل حالات العطاء والحرمان‏:‏ فهو يهب لمن يشا إناثا ‏(‏وهم كانوا يكرهون الإناث‏)‏ ويهب لمن يشاء الذكور‏.‏ ويهب لمن يشاء أزواجاً من هؤلاء وهؤلاء‏.‏ ويحرم من يشاء فيجعله عقيماً ‏(‏والعقم يكرهه كل الناس‏)‏‏.‏‏.‏ وكل هذه الأحوال خاضعة لمشية الله‏.‏ لا يتدخل فيها أحد سواه‏.‏ وهو يقدرها وفق علمه وينفذها بقدرته‏:‏ ‏{‏إنه عليم قدير‏}‏‏.‏‏.‏

وفي ختام السورة يعود السياق إلى الحقيقة التي تدور عليها السورة‏.‏ حقيقة الوحي والرسالة‏.‏ يعود إلى هذه الحقيقة ليكشف عن طبيعة هذا الاتصال بين الله والمختارين من عباده، وفي أية صورة يكون‏.‏ ويؤكد أنه قد وقع فعلاً إلى الرسول الأخير صلى الله عليه وسلم لغاية يريدها الله سبحانه‏.‏ ليهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏:‏

‏{‏وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم‏.‏ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم‏.‏ صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض‏.‏ ألا إلى الله تصير الأمور‏}‏‏.‏‏.‏

ويقطع هذا النص بأنه ليس من شأن إنسان أن يكلمه الله مواجهة‏.‏ وقد روي عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ «من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية» إنما يتم كلام الله للبشر بواحدة من ثلاث‏:‏ «وحيا» يلقى في النفس مباشرة فتعرف أنه من الله، ‏{‏أو من وراء حجاب‏}‏‏.‏

‏.‏ كما كلم الله موسى عليه السلام وحين طلب الرؤية لم يجب إليها، ولم يطق تجلي الله على الجبل ‏{‏وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال‏:‏ سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين‏}‏ ‏{‏أو يرسل رسولاً‏}‏ وهو الملك ‏{‏فيوحي بإذنه ما يشاء‏}‏ بالطرق التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

الأولى‏:‏ ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال‏:‏ صلى الله عليه وسلم «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب»‏.‏ والثانية أنه كان صلى الله عليه وسلم يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول‏.‏ والثالثة‏:‏ أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إن كان راكبها، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها‏.‏ والرابعة‏:‏ أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه‏.‏ وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم‏.‏

هذه صور الوحي وطرق الاتصال‏.‏‏.‏ ‏{‏إنه علي حكيم‏}‏‏.‏‏.‏ يوحي من علو، ويوحي بحكمة إلى من يختار‏.‏‏.‏ وبعد فإنه ما من مرة وقفت أمام آية تذكر الوحي أو حديث، لأتأمل هذا الاتصال إلا أحسست له رجفة في أوصالي‏.‏‏.‏ كيف‏؟‏ كيف يكون هذا الاتصال بين الذات الأزلية الأبدية التي ليس لها حيز في المكان ولا حيز في الزمان، المحيطة بكل شيء، والتي ليس كمثلها شيء‏.‏ كيف يكون هذا الاتصال بين هذه الذات العلية وذات إنسان متحيزة في المكان والزمان، محدودة بحدود المخلوقات، من أبناء الفناء‏؟‏‏!‏ ثم كيف يتمثل هذا الاتصال معاني وكلمات وعبارات‏؟‏

وكيف تطيق ذات محدودة فانية أن تتلقى كلام الله الأزلي الأبدي الذي لا حيز له ولا حدود‏؟‏ ولا شكل له معهود‏؟‏

وكيف‏؟‏ وكيف‏؟‏‏.‏‏.‏

ولكني أعود فأقول‏:‏ ومالك تسأل عن كيف‏؟‏ وأنت لا تملك أن تتصور إلا في حدود ذاتك المتحيزة القاصرة الفانية‏؟‏‏!‏ لقد وقعت هذه الحقيقة وتمثلت في صورة‏.‏ وصار لها وجود هو الذي تملك أن تدركه من وجود‏.‏

ولكن الوهلة والرجفة والروعة لا تزول‏!‏ إن النبوة هذه أمر عظيم حقا‏.‏ وإن لحظة التلقي هذه لعظيمة حقاً‏.‏ تلقي الذات الإنسانية لوحي من الذات العلوية‏.‏‏.‏ أخي الذي تقرأ هذه الكلمات، أأنت معي في هذا التصور‏؟‏‏!‏ أأنت معي تحاول أن تتصور‏؟‏‏!‏ هذا الوحي الصادر من هناك‏.‏

أأقول‏:‏ هناك‏؟‏‏!‏ كلا‏.‏ إنه ليس هناك «هناك»‏!‏ الصادر من غير مكان ولا زمان، ولا حيز ولا حد ولا جهة ولا ظرف‏.‏ الصادر من المطلق النهائي، الأزلي الأبدي، الصادر من الله ذي الجلال إلى إنسان‏.‏‏.‏ إنسان مهما يكن نبياً رسولاً، فإنه هو هذا الإنسان ذو الحدود والقيود‏.‏‏.‏ هذا الوحي‏.‏ هذا الاتصال العجيب‏.‏ المعجز‏.‏ الذي لا يملك إلا الله أن يجعله واقعة تتحقق، ولا يعرف إلا الله كيف يقع ويتحقق‏.‏‏.‏ أخي الذي تقرأ هذه الكلمات‏.‏ هل تحس ما أحس من وراء هذه العبارات المتقطعة التي أحاول أن أنقل بها ما يخالج كياني كله‏؟‏ إنني لا أعرف ماذا أقول عما يخالج كياني كله من الروعة والرجفة وأنا أحاول أن أتصور ذلك الحدث العظيم العجيب الخارق في طبيعته، والخارق في صورته، الذي حدث مرات ومرات‏.‏ وأحس بحدوثه ناس رأوا مظاهره رأي العين، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذه عائشة رضي الله عنها تشهد من هذه اللحظات العجيبة في تاريخ البشرية فتروي عن واحدة منها تقول‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏» يا عائشة‏.‏ هذا جبريل يقرئك السلام «قلت‏:‏ وعليه السلام ورحمة الله‏.‏ قالت‏:‏ وهو يرى ما لا نرى» وهذا زيد بن ثابت رضي الله عنه يشهد مثل هذه اللحظة وفخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذه، وقد جاءه الوحي فثقلت حتى كادت ترض فخذه‏.‏ وهؤلاء هم الصحابة رضوان الله عليهم في مرات كثيرة يشهدون هذا الحادث ويعرفونه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم فيدعونه للوحي حتى يسرى عنه، فيعود إليهم ويعودون إليه‏.‏‏.‏

ثم‏.‏‏.‏ أية طبيعة‏.‏ طبيعة هذه النفس التي تتلقى ذلك الاتصال العلوي الكريم‏؟‏ أي جوهر من جواهر الأرواح ذلك الذي يتصل بهذا الوحي، ويختلط بذلك العنصر، ويتسق مع طبيعته وفحواه‏؟‏

إنها هي الأخرى مسألة‏!‏ إنها حقيقة‏.‏ ولكنها تتراءى هنالك بعيداً على أفق عال ومرتقى صاعد، لا تكاد المدارك تتملاه‏.‏

روح هذا النبي صلى الله عليه وسلم روح هذا الإنسان‏.‏ كيف يا ترى كانت تحس بهذه الصلة وهذا التلقي‏؟‏ كيف كانت تتفتح‏؟‏ كيف كان ينساب فيها ذلك الفيض‏؟‏ كيف كانت تجد الوجود في هذه اللحظات العجيبة التي يتجلى فيها الله على الوجود؛ والتي تتجاوب جنباته كلها بكلمات الله‏؟‏

ثم‏.‏‏.‏ أية رعاية‏؟‏ وأية رحمة‏؟‏ وأية مكرمة‏؟‏‏.‏‏.‏ والله العلي الكبير يتلطف فيعنى بهذه الخليقة الضئيلة المسماة بالإنسان‏.‏ فيوحي إليها لإصلاح أمرها، وإنارة طريقها، ورد شاردها‏.‏‏.‏ وهي أهون عليه من البعوضة على الإنسان، حين تقاس إلى ملكه الواسع العريض‏؟‏

إنها حقيقة‏.‏ ولكنها أعلى وأرفع من أن يتصورها الإنسان إلا تطلعاً إلى الأفق السامق الوضيء‏:‏

‏{‏وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان‏.‏

سورة الزخرف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 25‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ‏(‏4‏)‏ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ‏(‏5‏)‏ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ‏(‏6‏)‏ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏7‏)‏ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏8‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ‏(‏9‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏10‏)‏ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ‏(‏11‏)‏ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ‏(‏12‏)‏ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ‏(‏13‏)‏ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ‏(‏14‏)‏ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ‏(‏16‏)‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏17‏)‏ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ‏(‏18‏)‏ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ‏(‏21‏)‏ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏22‏)‏ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ‏(‏23‏)‏ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏24‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

تعرض هذه السورة جانباً مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات؛ ومن جدال واعتراضات‏.‏ وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس؛ وكيف يقرر في ثنايا علاجها حقائقه وقيمه في مكان الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلية الزائفة، التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك، ولا يزال جانب منها قائماً في النفوس في كل زمان ومكان‏.‏

كانت الوثنية الجاهلية تقول‏:‏ إن في هذه الأنعام التي سخرها الله للعباد، نصيباً لله، ونصيباً لآلهتهم المدعاة‏:‏ ‏{‏وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً‏.‏ فقالوا‏:‏ هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا‏.‏ فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم‏}‏ وكانت لهم في الأنعام أساطير شتى وخرافات أخرى كلها ناشئ من انحرافات العقيدة‏.‏ فكانت هناك أنواع من الأنعام محرمة ظهورها على الركوب وأنواع محرمة لحومها على الأكل‏:‏ ‏{‏وقالوا‏:‏ هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه‏}‏ وفي هذه السورة تصحيح لهذه الانحرافات الاعتقادية؛ ورد النفوس إلى الفطرة وإلى الحقائق الأولى‏.‏ فالأنعام من خلق الله، وهي طرف من آية الحياة، مرتبط بخلق السماوات والأرض جميعاً‏.‏ وقد خلقها الله وسخرها للبشر ليذكروا نعمة ربهم عليهم ويشكروها؛ لا ليجعلوا له شركاء، ويشرعوا لأنفسهم في الأنعام ما لم يأمر به الله؛ بينما هم يعترفون بأن الله هو الخالق المبدع؛ ثم هم ينحرفون عن مقتضى هذه الحقيقة التي يقرون بها، ويعزلونها عن حياتهم الواقعة، ويتبعون خرافات وأساطير‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن‏:‏ خلقهن العزيز العليم، الذي جعل لكم الأرض مهدا، وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون، والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا، كذلك تخرجون، والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون، لتستووا على ظهوره، ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه، وتقولوا‏:‏ ‏{‏سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون‏}‏‏.‏‏.‏

وكانت الوثنية الجاهلية تقول‏:‏ إن الملائكة بنات الله؛ ومع أنهم هم يكرهون مولد البنات لهم، فإنهم كانوا يختارون لله البنات‏!‏ ويعبدونهم من دونه، ويقولون‏:‏ إننا نعبدهم بمشيئة الله ولو شاء ما عبدناهم‏!‏ وكانت مجرد أسطورة ناشئة من انحراف العقيدة‏.‏

وفي هذه السورة يواجههم بمنطقهم هم؛ ويحاجهم كذلك بمنطق الفطرة الواضح، حول هذه الأسطورة التي لا تستند إلى شيء على الإطلاق‏:‏ ‏{‏وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين‏.‏‏.‏ أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين، وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسوداً وهو كظيم‏.‏

أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين‏؟‏ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، أشهدوا خلقهم‏؟‏ ستكتب شهادتهم ويسألون‏.‏ وقالوا‏:‏ لو شاء الرحمن ما عبدناهم‏!‏ ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون‏.‏ أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون‏؟‏ بل قالوا‏:‏ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

ولما قيل لهم‏:‏ إنكم تعبدون أصناماً وأشجاراً وإنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم، وقيل لهم‏:‏ إن كل معبود من دون الله هو وعابدوه في النار‏.‏ حرفوا الكلام الواضح البين، واتخذوا منه مادة للجدل‏.‏ وقالوا‏:‏ فما بال عيسى وقد عبده قومه‏؟‏ أهو في النار‏؟‏‏!‏ ثم قالوا‏:‏ إن الأصنام تماثيل الملائكة والملائكة بنات الله‏.‏ فنحن في عبادتنا لهم خير من عبادة النصارى لعيسى وهو بشر له طبيعة الناس‏!‏

وفي هذه السورة يكشف عن التوائهم في هذا الجدل؛ ويبرئ عيسى عليه السلام مما ارتكبه أتباعه من بعده وهو منه برئ‏:‏ ‏{‏ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون‏.‏ وقالوا‏:‏ أآلهتنا خير أم هو‏؟‏ ما ضربوه لك إلا جدلاً‏.‏ بل هم قوم خصمون‏.‏ إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لنبي إسرائيل‏.‏‏.‏‏}‏ وقد كانوا يزعمون أنهم على ملة أبيهم إبراهيم، وأنهم بذلك أهدى من أهل الكتاب وأفضل عقيدة‏.‏ وهم في هذه الجاهلية الوثنية يخبطون‏.‏

فبين لهم في هذه السورة حقيقة ملة إبراهيم، وأنها ملة التوحيد الخالص، وأن كلمة التوحيد باقية في عقبه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاءهم بها، ولكنهم استقبلوها واستقبلوه بغير ما كان ينبغي من ذرية إبراهيم‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين‏.‏ وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون‏.‏ بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين‏.‏ ولما جاءهم الحق قالوا‏:‏ هذا سحر، وإنا به كافرون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

ولم يدركوا حكمة اختيار الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ووقفت في وجوههم القيم الأرضية الزائفة الزهيدة التي اعتادوا أن يقيسوا بها الرجال‏.‏

وفي هذه السورة يحكي تصوراتهم وأقوالهم في هذا الصدد؛ ويرد عليها ببيان القيم الحقيقية، وزهادة القيم التي يعتبرونها هم ويرفعونها‏:‏ ‏{‏وقالوا‏:‏ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏:‏ أهم يقسمون رحمة ربك‏؟‏ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، ورحمة ربك خير مما يجمعون‏.‏ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون، وزخرفاً‏.‏ وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا، والآخرة عند ربك للمتقين‏}‏ ثم جاء بحلقة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون، يبدو فيها اعتزاز فرعون بمثل تلك القيم الزائفة، وهوانها على الله، وهوان فرعون الذي اعتز بها، ونهايته التي تنتظر المعتزين بمثل ما اعتز به‏:‏

‏{‏ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه، فقال‏:‏ إني رسول رب العالمين‏.‏ فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون‏.‏ وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون‏.‏ وقالوا‏:‏ يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك، إننا لمهتدون‏.‏ فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون‏.‏ ونادى فرعون في قومه قال‏:‏ يا قوم أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي، أفلا تبصرون‏؟‏ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين؛ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين‏!‏ فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوماً فاسقين، فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، فجعلناهم سلفاً ومثلا للآخرين‏}‏ حول تلك الأساطير الوثنية والانحرافات الاعتقادية، وحول تلك القيم الصحيحة والزائفة، تدور السورة، وتعالجها على النحو الذي تقدم‏.‏ في أشواط ثلاثة تقدم أولها قبل هذا وأشرنا إلى بعض مادة الأشواط الأخرى في بعض المقتطفات من آيات السورة‏.‏ فلنأخذ في التفصيل‏:‏

‏{‏حم‏.‏ والكتاب المبين‏.‏ إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون‏.‏ وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم‏.‏ أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين‏؟‏ وكم أرسلنا من نبي في الأولين‏.‏ وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون‏.‏ فأهلكنا أشد منهم بطشاً، ومضى مثل الأولين‏}‏‏.‏‏.‏

تبدأ السورة بالحرفين‏:‏ «حا‏.‏ ميم» ثم يعطف عليهما قوله‏:‏ ‏{‏والكتاب المبين‏}‏‏.‏‏.‏ ويقسم الله سبحانه بحاميم كما يقسم بالكتاب المبين‏.‏ وحاميم من جنس الكتاب المبين، أو الكتاب المبين من جنس حا ميم‏.‏ فهذا الكتاب المبين في صورته اللفظية من جنس هذين الحرفين‏.‏ وهذان الحرفان كبقية الأحرف في لسان البشر آية من آيات الخالق، الذي صنع البشر هذا الصنع، وجعل لهم هذه الأصوات‏.‏ فهناك أكثر من معنى وأكثر من دلالة في ذكر هذه الأحرف عند الحديث عن القرآن‏.‏

يقسم الله سبحانه بحا ميم والكتاب المبين، على الغاية من جعل هذا القرآن في صورته هذه التي جاء بها للعرب‏:‏

‏{‏إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون‏}‏‏.‏‏.‏

فالغاية هي أن يعقلوه حين يجدونه بلغتهم وبلسانهم الذي يعرفون‏.‏ والقرآن وحي الله سبحانه وتعالى جعله في صورته هذه اللفظية عربياً، حين اختار العرب لحمل هذه الرسالة، للحكمة التي أشرنا إلى طرف منها في سورة الشورى؛ ولما يعلمه من صلاحية هذه الأمة وهذا اللسان لحمل هذه الرسالة ونقلها‏.‏ والله أعلم حيث يجعل رسالته‏.‏

ثم يبين منزلة هذا القرآن عنده وقيمته في تقديره الأزلي الباقي‏:‏

‏{‏وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم‏}‏‏.‏

ولا ندخل في البحث عن المدلول الحرفي لأم الكتاب ما هي‏:‏ أهي اللوح المحفوظ، أم هي علم الله الأزلي‏.‏ فهذا كهذا ليس له مدلول حرفي محدد في إدراكنا‏.‏ ولكننا ندرك منه مفهوماً يساعد على تصورنا لحقيقة كلية‏.‏ وحين نقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم‏}‏‏.‏‏.‏ فإننا نستشعر القيمة الأصيلة الثابتة لهذا القرآن في علم الله وتقديره‏.‏ وهذا حسبنا‏.‏ فهذا القرآن «عليّ»‏.‏‏.‏ «حكيم»‏.‏‏.‏ وهما صفتان تخلعان عليه ظل الحياة العاقلة‏.‏ وإنه لكذلك‏!‏ وكأنما فيه روح‏.‏ روح ذات سمات وخصائص، تتجاوب مع الأرواح التي تلامسها‏.‏ وهو في علوه وفي حكمته يشرف على البشرية ويهديها ويقودها وفق طبيعته وخصائصه‏.‏ وينشئ في مداركها وفي حياتها تلك القيم والتصورات والحقائق التي تنطبق عليها هاتان الصفتان‏:‏ علي‏.‏ حكيم‏.‏

وتقرير هذه الحقيقة كفيل بأن يشعر القوم الذين جعل القرآن بلسانهم بقيمة الهبة الضخمة التي وهبها الله إياهم، وقيمة النعمة التي أنعم الله عليهم؛ ويكشف لهم عن مدى الإسراف القبيح في إعراضهم عنها واستخفافهم بها؛ ومدى استحقاقهم هم للإهمال والإعراض؛ ومن ثم يعرّض بهم وبإسرافهم، ويهددهم بالترك والإهمال جزاء هذا الإسراف‏:‏

‏{‏أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد كان عجيباً وما يزال أن يعنى الله سبحانه في عظمته وفي علوه وفي غناه بهذا الفريق من البشر، فينزل لهم كتاباً بلسانهم، يحدثهم بما في نفوسهم، ويكشف لهم عن دخائل حياتهم، ويبين لهم طريق الهدى، ويقص عليهم قصص الأولين، ويذكرهم بسنة الله في الغابرين‏.‏‏.‏ ثم هم بعد ذلك يهملون ويعرضون‏!‏

وإنه لتهديد مخيف أن يلوح لهم بعد ذلك بالإهمال من حسابه ورعايته، جزاء إسرافهم القبيح‏!‏

وإلى جانب هذا التهديد يذكرهم بسنة الله في المكذبين، بعد إرسال النبيين‏:‏

‏{‏وكم أرسلنا من نبي في الأولين، وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون‏.‏ فأهلكنا أشد منهم بطشاً، ومضى مثل الأولين‏}‏‏.‏‏.‏

فماذا ينتظرون هم وقد أهلك الله من هم أشد منهم بطشاً، حينما وقفوا يستهزئون بالرسل كما يستهزئون‏؟‏

والعجيب كان في أمر القوم أنهم كانوا يعترفون بوجود الله، وخلقه للسماوات والأرض‏.‏ ثم لا يرتبون على هذا الاعتراف نتائجه الطبيعية من توحيد الله، وإخلاص التوجه إليه فكانوا يجعلون له شركاء، يخصونهم ببعض ما خلق من الأنعام؛ كما كانوا يزعمون أن الملائكة بناته، ويعبدونهم من دونه في صورة أصنام‏!‏

والقرآن يعرض اعترافهم، ويرتب عليه نتائجه، ويوجههم إلى منطق الفطرة الذي يجانبونه، وإلى السلوك الواجب تجاه نعمته عليهم فيما خلق لهم من الفلك والأنعام‏.‏ ثم يناقشهم بمنطقهم في دعواهم عن الملائكة‏:‏

‏{‏ولئن سألتهم‏:‏ من خلق السماوات والأرض‏؟‏ ليقولن‏:‏ خلقهن العزيز العليم‏.‏

الذي جعل لكم الأرض مهداً، وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون‏.‏ والذي نزل من السماء ماء بقدر، فأنشرنا به بلدة ميتاً، كذلك تخرجون‏.‏ والذي خلق الأزواج كلها، وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون‏.‏ لتستووا على ظهوره، ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه، وتقولوا‏:‏ سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين؛ وإنا إلى ربنا لمنقلبون‏}‏‏.‏‏.‏

لقد كانت للعرب عقيدة نظن أنها بقايا من الحنيفية الأولى ملة إبراهيم عليه السلام، ولكنها بهتت وانحرفت ودخلت فيها الأساطير وقد بقي منها ما لا تملك الفطرة إنكاره من وجود خالق لهذا الكون، وأنه هوالله، فما يمكن في منطق الفطرة وبداهتها أن يكون هذا الكون قد نشأ هكذا من غير خالق؛ وما يمكن أن يخلق هذا الكون إلا الله‏.‏ ولكنهم كانوا يقفون بهذه الحقيقة التي تنطق بها بداهة الفطرة عند شكلها الظاهر، ولا يعترفون بما وراءها من مقتضيات طبيعية لها‏:‏

‏{‏ولئن سألتهم‏:‏ من خلق السماوات والأرض‏؟‏ ليقولن‏:‏ خلقهن العزيز العليم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

وواضح أن هاتين الصفتين‏:‏ ‏{‏العزيز العليم‏}‏ ليستا من قولهم‏.‏ فهم كانوا يعترفون بأن الذي خلقهن هو «الله»‏.‏‏.‏ ولكنهم لم يكونوا يعرفون الله بصفاته التي جاء بها الإسلام‏.‏ هذه الصفات الإيجابية التي تجعل لذات الله في نفوسهم أثراً فعالاً في حياتهم وحياة هذا الكون‏.‏ كانوا يعرفون الله خالقا لهذا الكون، وخالقاً لهم كذلك‏.‏ ولكنهم كانوا يتخذون من دونه شركاء‏.‏ لأنهم لم يعرفوه بصفاته التي تنفي فكرة الشرك، وتجعلها تبدو متهافتة سخيفة‏.‏

والقرآن هنا يعلمهم أن الله، الذي يعترفون بأنه خالق السماوات والأرض، هو ‏{‏العزيز العليم‏}‏‏.‏‏.‏ فهو القوي القادر، وهو العليم العارف‏.‏ فيبدأ بهم من اعترافهم، ويخطو بهم الخطوات التالية لهذا الاعتراف‏.‏

ثم يمضي بهم خطوة أخرى في تعريف الله سبحانه بصفاته؛ وفي بيان فضله عليهم بعد الخلق والإنشاء‏:‏

‏{‏الذي جعل لكم الأرض مهدا، وجعل لكم فيها سبلاً، لعلكم تهتدون‏}‏‏.‏‏.‏

وحقيقة جعل هذه الأرض مهداً للإنسان يدركها كل عقل في كل جيل بصورة من الصور‏.‏ والذين تلقوا هذا القرآن أول مرة ربما أدركوها في رؤية هذه الأرض تحت أقدامهم ممهدة للسير، وأمامهم ممهدة للزرع، وفي عمومها ممهدة للحياة فيها والنماء‏.‏ ونحن اليوم ندرك هذه الحقيقة في مساحة أعرض وفي صورة أعمق، بقدر ما وصل إليه علمنا عن طبيعة هذه الأرض وتاريخها البعيد والقريب لو صحت نظرياتنا في هذا وتقديراتنا والذين يأتون بعدنا سيدركون من تلك الحقيقة ما لم ندرك نحن؛ وسيظل مدلول هذا النص يتسع ويعمق، ويتكشف عن آفاق وآماد كلما اتسعت المعرفة وتقدم العلم، وانكشفت المجاهيل لهذا الإنسان‏.‏

ونحن اليوم ندرك من حقيقة جعل الأرض مهداً لهذا الجنس يجد فيها سبله للحياة أن هذا الكوكب مر في أطوار بعد أطوار، حتى صار مهداً لبني الإنسان‏.‏

وفي خلال هذه الأطوار تغير سطحه من صخر يابس صلد إلى تربة صالحة للزرع؛ وتكوّن على سطحه الماء من اتحاد الأيدروجين والأكسوجين؛ واتأد في دورانه حول نفسه فصار يومه بحيث يسمح باعتدال حرارته وصلاحيتها للحياة؛ وصارت سرعته بحيث يسمح باستقرار الأشياء والأحياء على سطحه، وعدم تناثرها وتطايرها في الفضاء‏؟‏

ونعرف من هذه الحقيقة كذلك أن الله أودع هذا الكوكب من الخصائص خاصية الجاذبية، فاحتفظ عن طريقها بطبقة من الهواء تسمح بالحياة؛ ولو أفلت الهواء المحيط بهذا الكوكب من جاذبيته ما أمكن أن تقوم الحياة على سطحه، كما لم تقم على سطح الكواكب الأخرى التي تضاءلت جاذبيتها، فأفلت هواؤها كالقمر مثلاً‏!‏ وهذه الجاذبية ذاتها قد جعلها الخالق متعادلة مع عوامل الدفع الناشئ من حركة الأرض؛ فأمكن أن تحفظ الأشياء والأحياء من التطاير والتناثر؛ وفي الوقت ذاته تسمح بحركة الإنسان والأحياء على سطح الأرض؛ ولو زادت الجاذبية عن القدر المناسب للصقت الأشياء والأحياء بالأرض وتعذرت حركتها أو تعسرت من ناحية، ولزاد ضغط الهواء عليها من ناحية أخرى فألصقها بالأرض إلصاقاً، أو سحقها كما نسحق نحن الذباب والبعوض أحياناً بضربة تركز الضغط عليها دون أن تمسها أيدينا‏!‏ ولو خف هذا الضغط عما هو عليه لانفجر الصدر والشرايين انفجاراً‏!‏

ونعرف كذلك من حقيقة جعل الأرض مهداً وتذليل السبل فيها للحياة، أن الخالق العزيز العليم قدر فيها موافقات شتى تسمح مجتمعة بوجود هذا الإنسان وتيسير الحياة له؛ ولو اختلت إحدى هذه الموافقات لتعذرت هذه الحياة أو تعسرت‏.‏ فمنها هذه الموافقات التي ذكرنا، ومنها أنه جعل كتلة الماء الضخمة التي تكونت على سطح الأرض من المحيطات والبحار كافية لامتصاص الغازات السامة التي تنشأ من التفاعلات الكثيرة التي تتم على سطحها، والاحتفاظ بجوها دائماً في حالة تسمح للأحياء بالحياة‏.‏ ومنها أنه جعل من النبات أداة للموازنة بين الأكسيجين الذي يستنشقه الأحياء ليعيشوا به، والأكسجين الذي يزفره النبات في أثناء عمليات التمثيل التي يقوم بها؛ ولولا هذه الموازنة لاختنق الأحياء بعد فترة من الزمان‏.‏

وهكذا‏.‏ وهكذا‏.‏ من المدلولات الكثيرة لحقيقة‏:‏ ‏{‏جعل لكم الأرض مهداً وجعل لكم فيها سبلاً‏}‏ تكشف لنا في كل يوم؛ وتضاف إلى المدلولات التي كان يدركها المخاطبون بهذا القرآن أول مرة‏.‏ وكلها تشهد بالقدرة كما تشهد بالعلم لخالق السماوات والأرض العزيز العليم‏.‏ وكلها تشعر القلب البشري باليد القادرة المدبرة، في حيثما امتد بصره، وتلفت خاطره؛ وأنه غير مخلوق سدى، وغير متروك لقى؛ وأن هذه اليد تمسك به، وتنقل خطاه، وتتولى أمره في كل خطوة من خطواته في الحياة، وقبل الحياة، وبعد الحياة‏!‏

‏{‏لعلكم تهتدون‏}‏‏.‏‏.‏ فإن تدبر هذا الكون، وما فيه من نواميس متناسقة كفيل بهداية القلب إلى خالق هذا الكون، ومودعه ذلك التنظيم الدقيق العجيب‏.‏

ثم يخطو بهم خطوة أخرى في طريق نشأة الحياة والأحياء، بعد تمهيد الأرض للإنسان وتذليل السبل فيها للحياة‏:‏

‏{‏والذي نزل من السماء ماء بقدر، فأنشرنا به بلدة ميتاً، كذلك تخرجون‏}‏‏.‏‏.‏

والماء الذي ينزل من السماء يعرفه كل إنسان ويراه كل إنسان؛ ولكن أكثر الناس يمرون على هذا الحدث العجيب دون يقظة ودون اهتزاز، لطول الألفة والتكرار‏.‏ فأما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يتلقى قطراته في حب وفي ترحيب وفي حفاوة وفي استبشار؛ لأنها قادمة إليه من عند الله‏.‏ ذلك أن قلبه الحي كان يدرك صنع الله الحي في هذه القطرات، ويرى يد الصناع‏!‏ وهكذا ينبغي أن يتلقاها القلب الموصول بالله ونواميسه في هذا الوجود‏.‏ فهي وليدة هذه النواميس التي تعمل في هذا الكون وعين الله عليها ويد الله فيها في كل مرة وفي كل قطرة‏.‏ ولا يبرد من حرارة هذه الحقيقة، ولا ينقص من وقعها أن هذا الماء أصله البخار المتصاعد من الأرض المتكاثف في أجواز الفضاء‏.‏ فمن أنشأ هذه الأرض‏؟‏ ومن جعل فيها الماء‏؟‏ ومن سلط عليها الحرارة‏؟‏ ومن جعل من طبيعة الماء أن يتبخر بالحرارة‏؟‏ ومن أودع البخار خاصية الارتفاع؛ وخاصية التكثف في أجواز الفضاء‏؟‏ ومن أودع الكون خصائصه الأخرى التي تجعل ذلك البخار المتكثف مشحوناً بالكهرباء التي تتلاقى وتتفرغ فيسقط الماء‏؟‏ وما الكهرباء‏؟‏ وما هذا وما ذاك من الخصائص والأسرار التي تنتهي كلها إلى نزول الماء‏؟‏ إننا نلقي من العلم على حسنا أثقالاً تحجب عنا إيقاع هذا الكون العجيب، بدلاً من أن نتخذ من العلم معرفة ترهف المشاعر وترقق القلوب‏!‏

‏{‏والذي نزل من السماء ماء بقدر‏}‏‏.‏‏.‏

فهو مقدر موزون لا يزيد فيغرق؛ ولا يقل فتجف الأرض وتذبل الحياة؛ ونحن نرى هذه الموافقة العجيبة، ونعرف اليوم ضرورتها لإنشاء الحياة وإبقائها كما أرادها الله‏.‏

‏{‏فأنشرنا به بلدة ميتاً‏}‏‏.‏‏.‏

والإنشاء الإحياء‏.‏ والحياة تتبع الماء‏.‏ ومن الماء كل شيء حي‏.‏

‏{‏كذلك تخرجون‏}‏‏.‏‏.‏

فالذي أنشأ الحياة أول مرة كذلك يعيدها؛ والذي أخرج الأحياء أول مرة من الأرض الميتة، كذلك يخرج الأحياء منها يوم القيامة‏.‏ فالإعادة من البدء؛ وليس فيها عزيز على الله‏.‏

ثم هذه الأنعام التي يجعلون منها جزءاً لله وجزءاً لغير الله، وما لهذا خلقها الله؛ إنما خلقها لتكون من نعم الله على الناس، يركبونها كما يركبون الفلك، ويشكرون الله على تسخيرهما، ويقابلون نعمته بما تستحقها‏:‏

‏{‏والذي خلق الأزواج كلها، وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون، لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه، وتقولوا‏:‏ سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا منقلبون‏}‏‏.‏

والزوجية هي قاعدة الحياة كما تشير إليها هذه الآية‏.‏ فكل الأحياء أزواج، وحتى الخلية الواحدة الأولى تحمل خصائص التذكير والتأنيث معها‏.‏ بل ربما كانت الزوجية هي قاعدة الكون كله لا قاعدة الحياة وحدها إذا اعتبرنا أن قاعدة الكون هي الذرة المؤلفة من الكترون سالب وبروتون موجب، كما تشير البحوث الطبيعية حتى الآن‏.‏

وعلى أية حال فالزوجية في الحياة ظاهرة؛ والله هو الذي خلق الأزواج كلها من الإنسان وغير الإنسان‏:‏ ‏{‏وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون‏}‏‏.‏‏.‏

يذكر الناس بهذه الإشارة بنعمة الله عليهم في اصطفائهم بخلافة هذه الأرض، وبما سخر لهم فيها من قوى وطاقات‏.‏ ثم يوجههم إلى الأدب الواجب في شكر هذه النعمة وشكر هذا الاصطفاء؛ وتذكر المنعم كلما عرضت النعمة؛ لتبقى القلوب موصولة بالله عند كل حركة في الحياة‏:‏

‏{‏لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا‏:‏ سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين‏}‏‏.‏‏.‏ فما نحن بقادرين على مقابلة نعمته بنعمة مثلها، وما نملك إلا الشكر نقابل به هذا الإنعام‏.‏

ثم ليتذكروا أنهم عائدون بعد الخلافة في الأرض إلى ربهم ليجزيهم عما فعلوا في هذه الخلافة التي زودهم فيها بأنعمه‏.‏ وسخر لهم فيها ما سخر من القوى والطاقات‏:‏

‏{‏وإنا إلى ربنا لمنقلبون‏}‏‏.‏‏.‏

هذا هو الأدب الواجب في حق المنعم، يوجهنا الله إليه، لنذكره كما استمتعنا بنعمة من نعمه التي تغمرنا، والتي نتقلب بين أعطافها‏.‏ ثم ننساه‏.‏‏.‏ ‏!‏

والأدب الإسلامي في هذا وثيق الصلة بتربية القلب وإحياء الضمير‏.‏ فليس هو مجرد طقوس تزاول عند الاستواء على ظهور الفلك والأنعام، ولا مجرد عبارات يتلوها اللسان‏!‏ إنما هو استحياء للمشاعر لتحس بحقيقة الله، وحقيقة الصلة بينه وبين عباده؛ وتشعر بيده في كل ما يحيط بالناس، وكل ما يستمتعون به مما سخره الله لهم، وهو محض الفضل والإنعام، بلا مقابل منهم، فما هم بقادرين على شئ يقابلون به فضل الله‏.‏ ثم لتبقى قلوبهم على وجل من لقائه في النهاية لتقديم الحساب‏.‏‏.‏ وكل هذه المشاعر كفيلة باستبقاء القلب البشري في حالة يقظة شاعرة حساسة لا تغفل عن مراقبة الله‏.‏ ولا تجمد ولا تتبلد بالركود والغفلة والنسيان‏.‏

بعد ذلك يعالج أسطورة الملائكة واتخاذهم آلهة بزعم أنهم بنات الله، وهم عباد الله‏:‏

‏{‏وجعلوا له من عباده جزءاً‏.‏ إن الإنسان لكفور مبين‏.‏ أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين‏؟‏ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم‏.‏ أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين‏؟‏ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم‏؟‏ ستكتب شهادتهم ويسألون‏.‏ وقالوا‏:‏ لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم، إن هم إلا يخرصون‏.‏ أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون‏؟‏ بل قالوا‏:‏ إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مهتدون‏.‏

وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها‏:‏ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون‏.‏ قال‏:‏ أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم‏؟‏ قالوا‏:‏ إنا بما أرسلتم به كافرون‏.‏ فانتقمنا منهم، فانظر كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏‏.‏‏.‏

إن هذا القرآن يحاصر هذه الأسطورة ويواجهها في نفوسهم من كل جانب، ولا يبقي ثغرة مفتوحة حتى يأخذها عليهم، ويواجههم في هذا كله بمنطقهم ومسلماتهم وواقع حياتهم، كما يواجههم بمصير الذين وقفوا مثل وقفتهم، وقالوا مثل قولتهم من الغابرين‏.‏

ويبدأ بتصوير سخف هذه الأسطورة وتهافتها، ومقدار ما في القول بها من كفر صريح‏:‏

‏{‏وجعلوا له من عباده جزءاً، إن الإنسان لكفور مبين‏}‏‏.‏‏.‏

فالملائكة عباد الله، ونسبة بنوتهم له معناها عزلهم من صفة العبودية، وتخصيصهم بقرابة خاصة بالله؛ وهم عباد كسائر العباد، لا مقتضى لتخصيصهم بصفة غير صفة العبودية في علاقتهم بربهم وخالقهم‏.‏ وكل خلق الله عباد له خالصو العبودية‏.‏ وادعاء الإنسان هذا الادعاء يدمغه بالكفر الذي لا شبهة فيه‏:‏ ‏{‏إن الإنسان لكفور مبين‏}‏‏.‏

ثم يحاجهم بمنطقهم وعرفهم، ويسخر من سخف دعواهم أن الملائكة إناث ثم نسبتهم إلى الله‏:‏

‏{‏أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

فإذا كان الله سبحانه متخذاً أبناء، فماله يتخذ البنات ويصفيهم هم بالبنين؛ وهل يليق أن يزعموا هذا الزعم بينما هم يستنكفون من ولادة البنات لهم ويستاءون‏:‏

‏{‏وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم‏}‏‏.‏‏.‏

أفما كان من اللياقة والأدب ألا ينسبوا إلى الله من يستاءون هم إذا بشروا به، حتى ليسود وجه أحدهم من السوء الذي يبلغ حداً يجل عن الصريح به، فيكظمه ويكتمه وهو يكاد يتميز من السوء‏؟‏‏!‏ أفما كان من اللياقة والأدب ألا يخصوا الله بمن ينشأ في الحلية والدعة والنعومة، فلا يقدر على جدال ولا قتال؛ بينما هم في بيئتهم يحتفلون بالفرسان والمقاويل من الرجال‏؟‏‏!‏

إنه يأخذهم في هذا بمنطقهم، ويخجلهم من انتقاء ما يكرهون ونسبته إلى الله‏.‏ فهلا اختاروا ما يستحسنونه وما يسرون له فنسبوه إلى ربهم، إن كانوا لا بد فاعلين‏؟‏‏!‏

ثم يحاصرهم هم وأسطورتهم من ناحية أخرى‏.‏ فهم يدعون أن الملائكة إناث‏.‏ فعلام يقيمون هذا الادعاء‏؟‏

‏{‏وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا‏.‏ أشهدوا خلقهم‏؟‏ ستكتب شهادتهم ويسألون‏}‏‏.‏‏.‏

أشهدوا خلقهم‏؟‏ فعلموا أنهم إناث‏؟‏ فالرؤية حجة ودليل يليق بصاحب الدعوى أن يرتكن إليه‏.‏ وما يملكون أن يزعموا أنهم شهدوا خلقهم‏.‏ ولكنهم يشهدون بهذا ويدعونه، فليحتملوا تبعة هذه الشهادة بغير ما كانوا حاضريه‏:‏ ‏{‏ستكتب شهادتهم ويسألون‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يتابع الفرية وما يصوغونه حولها من جدل واعتذار‏:‏

‏{‏وقالوا‏:‏ لو شاء الرحمن ما عبدناهم‏.‏