فصل: سورة الدخان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


سورة الدخان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 59‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ‏(‏3‏)‏ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ‏(‏4‏)‏ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ‏(‏5‏)‏ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏6‏)‏ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏7‏)‏ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏8‏)‏ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ‏(‏9‏)‏ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ‏(‏10‏)‏ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ‏(‏16‏)‏ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ‏(‏17‏)‏ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏18‏)‏ وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏19‏)‏ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ‏(‏20‏)‏ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ‏(‏21‏)‏ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ‏(‏22‏)‏ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ‏(‏23‏)‏ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ‏(‏24‏)‏ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏25‏)‏ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‏(‏26‏)‏ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ‏(‏27‏)‏ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏28‏)‏ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ‏(‏29‏)‏ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏30‏)‏ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏32‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ ‏(‏34‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ‏(‏35‏)‏ فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏36‏)‏ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏37‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏38‏)‏ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏40‏)‏ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏41‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏42‏)‏ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ‏(‏43‏)‏ طَعَامُ الْأَثِيمِ ‏(‏44‏)‏ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ‏(‏45‏)‏ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ‏(‏46‏)‏ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ‏(‏48‏)‏ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ‏(‏49‏)‏ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ‏(‏51‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏52‏)‏ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏53‏)‏ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏54‏)‏ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ ‏(‏55‏)‏ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏56‏)‏ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏57‏)‏ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

يشبه إيقاع هذه السورة المكية، بفواصلها القصيرة، وقافيتها المتقاربة، وصورها العنيفة، وظلالها الموحية‏.‏‏.‏ يشبه أن يكون إيقاعها مطارق على أوتار القلب البشري المشدودة‏.‏

ويكاد سياق السورة أن يكون كله وحدة متماسكة، ذات محور واحد، تشد إليه خيوطها جميعاً‏.‏ سواء في ذلك القصة، ومشهد القيامة، ومصارع الغابرين، والمشهد الكوني، والحديث المباشر عن قضية التوحيد والبعث والرسالة‏.‏ فكلها وسائل ومؤثرات لإيقاظ القلب البشري واستجاشته لاستقبال حقيقة الإيمان حية نابضة، كما يبثها هذا القرآن في القلوب‏.‏

وتبدأ السورة بالحديث عن القرآن وتنزيله في ليلة مباركة فيها يفرق كل أمر حكيم، رحمة من الله بالعباد وإنذاراً لهم وتحذيراً‏.‏ ثم تعريف للناس بربهم‏:‏ رب السماوات والأرض وما بينهما، وإثبات لوحدانيته وهو المحيي المميت رب الأولين والآخرين‏.‏

ثم يضرب عن هذا الحديث ليتناول شأن القوم‏:‏ ‏{‏بل هم في شك يلعبون‏}‏ ‏!‏ ويعاجلهم بالتهديد المرعب جزاء الشك واللعب‏:‏ ‏{‏فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏ ودعاءهم بكشف العذاب عنهم وهو يوم يأتي لا يكشف‏.‏ وتذكيرهم بأن هذا العذاب لم يأت بعد، وهو الآن عنهم مكشوف، فلينتهزوا الفرصة، قبل أن يعودوا إلى ربهم، فيكون ذلك العذاب المخوف‏:‏ ‏{‏يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون‏}‏‏.‏‏.‏

ومن هذا الإيقاع العنيف بمشهد العذاب ومشهد البطشة الكبرى والانتقام؛ ينتقل بهم إلى مصرع فرعون وملئه يوم جاءهم رسول كريم، وناداهم‏:‏ ‏{‏أن أدوا إليَّ عباد الله إني لكم رسول أمين‏.‏ وألا تعلوا على الله‏}‏‏.‏‏.‏ فأبوا أن يسمعوا حتى يئس منهم الرسول‏.‏ ثم كان مصرعهم في هوان بعد الاستعلاء والاستكبار‏:‏ ‏{‏كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين‏.‏ كذلك وأورثناها قوماً آخرين‏.‏ فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين‏}‏‏.‏‏.‏

وفي غمرة هذا المشهد الموحي يعود إلى الحديث عن تكذيبهم بالآخرة، وقولهم‏:‏ ‏{‏إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين، فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين‏}‏ ليذكرهم بمصرع قوم تبع، وما هم بخير منهم ليذهبوا ناجين من مثل مصيرهم الأليم‏.‏

ويربط بين البعث، وحكمة الله في خلق السماوات والأرض، ‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين‏.‏ ما خلقناهما إلا بالحق‏.‏ ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يحدثهم عن يوم الفصل‏:‏ ‏{‏ميقاتهم أجمعين‏}‏‏.‏ وهنا يعرض مشهداً عنيفاً للعذاب بشجرة الزقوم، وعتل الأثيم، وأخذه إلى سواء الجحيم، يصب من فوق رأسه الحميم‏.‏ مع التبكيت والترذيل‏:‏ ‏{‏ذق إنك أنت العزيز الكريم‏.‏ إن هذا ما كنتم به تمترون‏}‏‏.‏‏.‏

وإلى جواره مشهد النعيم عميقاً في المتعة عمق مشهد العذاب في الشدة‏.‏ تمشياً مع ظلال السورة العميقة وإيقاعها الشديد‏.‏‏.‏

وتختم السورة بالإشارة إلى القرآن كما بدأت‏:‏ ‏{‏فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون‏}‏‏.‏

‏.‏ وبالتهديد الملفوف العنيف‏:‏ ‏{‏فارتقب إنهم مرتقبون‏}‏‏.‏

إنها سورة تهجم على القلب البشري من مطلعها إلى ختامها، في إيقاع سريع متواصل‏.‏ تهجم عليه بإيقاعها كما تهجم عليه بصورها وظلالها المتنوعة المتحدة في سمة العنف والتتابع‏.‏ وتطوف به في عوالم شتى بين السماء والأرض، والدنيا والآخرة، والجحيم والجنة، والماضي والحاضر، والغيب والشهادة، والموت والحياة، وسنن الخلق ونواميس الوجود‏.‏‏.‏ فهي على قصرها نسبياً رحلة ضخمة في عالم الغيب وعالم الشهود‏.‏‏.‏

‏{‏حم‏.‏ والكتاب المبين‏.‏ إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين‏.‏ فيها يفرق كل أمر حكيم‏.‏ أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين‏.‏ رحمة من ربك إنه هو السميع العليم‏.‏ رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين‏.‏ لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين‏}‏‏.‏‏.‏

تبدأ السورة بالحرفين حا‏.‏ ميم‏.‏ على سبيل القسم بهما وبالكتاب المبين المؤلف من جنسهما‏.‏ وقد تكرر الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور؛ فأما عن القسم بهذه الأحرف كالقسم بالكتاب، فإن كل حرف معجزة حقيقية أو آية من آيات الله في تركيب الإنسان، وإقداره على النطق، وترتيب مخارج حروفه، والرمز بين اسم الحرف وصوته، ومقدرة الإنسان على تحصيل المعرفة من ورائه‏.‏‏.‏ وكلها حقائق عظيمة تكبر في القلب كلما تدبرها مجرداً من وقع الألفة والعادة الذي يذهب بكل جديد‏!‏

فأما المقسم عليه فهو تنزيل هذا الكتاب في ليلة مباركة‏:‏

‏{‏إنا أنزلناه في ليلة مباركة‏.‏ إنا كنا منذرين‏.‏ فيها يفرق كل أمر حكيم‏.‏ أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين‏.‏ رحمة من ربك إنه هو السميع العليم‏}‏‏.‏‏.‏

والليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن هي والله أعلم الليلة التي بدأ فيها نزوله؛ وهي إحدى ليالي رمضان، الذي قيل فيه‏:‏ ‏{‏شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن‏}‏ والقرآن لم ينزل كله في تلك الليلة؛ كما أنه لم ينزل كله في رمضان؛ ولكنه بدأ يتصل بهذه الأرض؛ وكانت هذه الليلة موعد هذا الاتصال المبارك‏.‏ وهذا يكفي في تفسير إنزاله في الليلة المباركة‏.‏

وإنها لمباركة حقاً تلك الليلة التي يفتح فيها ذلك الفتح على البشرية، والتي يبدأ فيها استقرار هذا المنهج الإلهي في حياة البشر؛ والتي يتصل فيها الناس بالنواميس الكونية الكبرى مترجمة في هذا القرآن ترجمة يسيرة، تستجيب لها الفطرة وتلبيها في هوادة؛ وتقيم على أساسها عالماً إنسانياً مستقراً على قواعد الفطرة واستجاباتها، متناسقاً مع الكون الذي يعيش فيه، طاهراً نظيفاً كريماً بلا تعمل ولا تكلف؛ يعيش فيه الإنسان على الأرض موصولاً بالسماء في كل حين‏.‏

ولقد عاش الذين أنزل القرآن لهم أول مرة فترة عجيبة في كنف السماء، موصولين مباشرة بالله؛ يطلعهم أولاً بأول على ما في نفوسهم؛ ويشعرهم أولاً بأول بأن عينه عليهم، ويحسبون هم حساب هذه الرقابة، وحساب هذه الرعاية، في كل حركة وكل هاجسة تخطر في ضمائرهم؛ ويلجأون إليه أول ما يلجأون، واثقين أنه قريب مجيب‏.‏

ومضى ذلك الجيل وبقي بعده القرآن كتاباً مفتوحاً موصولا بالقلب البشري، يصنع به حين يتفتح له ما لا يصنعه السحر؛ ويحول مشاعره بصورة تحسب أحياناً في الأساطير‏!‏

وبقي هذا القرآن منهجاً واضحاً كاملاً صالحاً لإنشاء حياة إنسانية نموذجية في كل بيئة وفي كل زمان‏.‏ حياة إنسانية تعيش في بيئتها وزمانها في نطاق ذلك المنهج الإلهي المتميز الطابع، بكل خصائصه دون تحريف‏.‏ وهذه سمة المنهج الإلهي وحده‏.‏ وهي سمة كل ما يخرج من يد القدرة الإلهية‏.‏

إن البشر يصنعون ما يغني مثلهم، وما يصلح لفترة من الزمان، ولظرف خاص من الحياة‏.‏ فأما صنعة الله فتحمل طابع الدوام والكمال، والصلاحية المستمرة وتلبية الحاجات في كل ظرف وفي كل حين؛ جامعة بين ثبات الحقيقة وتشكل الصورة في اتساق عجيب‏.‏

أنزل الله هذا القرآن في هذه الليلة المباركة‏.‏‏.‏ أولا للإنذار والتحذير‏:‏ ‏{‏إنا كنا منذرين‏}‏‏.‏ فالله يعلم غفلة هذا الإنسان ونسيانه وحاجته إلى الإنذار والتنبيه‏.‏

وهذه الليلة المباركة بنزول هذا القرآن كانت فيصلاً وفارقاً بهذا التنزيل‏:‏

‏{‏فيها يفرق كل أمر حكيم‏}‏‏.‏‏.‏

وقد فرق فيها بهذا القرآن في كل أمر، وفصل فيها كل شأن، وتميز الحق الخالد والباطل الزاهق، ووضعت الحدود، وأقيمت المعالم لرحلة البشرية كلها بعد تلك الليلة إلى يوم الدين؛ فلم يبق هناك أصل من الأصول التي تقوم عليها الحياة غير واضح ولا مرسوم في دنيا الناس، كما هو واضح ومرسوم في الناموس الكلي القديم‏.‏ وكان ذلك كله بإرادة الله وأمره، ومشيئته في إرسال الرسل للفصل والتبيين‏:‏

‏{‏أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين‏}‏‏.‏

وكان ذلك كله رحمة من الله بالبشر إلى يوم الدين‏:‏

‏{‏رحمة من ربك إنه هو السميع العليم‏}‏‏.‏‏.‏

وما تتجلى رحمة الله بالبشر كما تتجلى في تنزيل هذا القرآن، بهذا اليسر، الذي يجعله سريع اللصوق بالقلب، ويجعل الاستجابة له تتم كما تتم دورة الدم في العروق‏.‏ وتحول الكائن البشري إلى إنسان كريم، والمجتمع البشري إلى حلم جميل، لولا أنه واقع تراه العيون‏!‏

إن هذه العقيدة التي جاء بها القرآن في تكاملها وتناسقها جميلة في ذاتها جمالاً يحبّ ويعشق؛ وتتعلق به القلوب‏!‏ فليس الأمر فيها أمر الكمال والدقة وأمر الخير والصلاح‏.‏ فإن هذه السمات فيها تظل ترتفع وترتفع حتى يبلغ الكمال فيها مرتبة الجمال الحبيب الطليق‏.‏ الجمال الذي يتناول الجزئيات كلها بأدق تفصيلاتها، ثم يجمعها، وينسقها، ويربطها كلها بالأصل الكبير‏.‏

‏{‏رحمة من ربك‏}‏ نزل بها هذا القرآن في الليلة المباركة‏.‏‏.‏ ‏{‏إنه هو السميع العليم‏}‏‏.‏ يسمع ويعلم، وينزل ما ينزل للناس على علم وعلى معرفة بما يقولون وما يعملون، وما يصلح لهم ويصلحون به من السنن والشرائع والتوجيه السليم‏.‏

وهو المشرف على هذا الكون الحافظ لمن فيه وما فيه‏:‏

‏{‏رب السماوات والأرض وما بينهما‏.‏ إن كنتم موقنين‏}‏‏.‏‏.‏

فما ينزله للناس يربيهم به، هو طرف من ربوبيته للكون كله، وطرف من نواميسه التي تصرف الكون‏.‏‏.‏ والتلويح لهم باليقين في هذا إشارة إلى عقيدتهم المضطربة المزعزعة المهوشة، إذ كانوا يعترفون بخلق الله للسماوات والأرض، ثم يتخذون من دونه أرباباً، مما يشي بغموض هذه الحقيقة في نفوسهم وسطحيتها وبعدها عن الثبات واليقين‏.‏

وهو الإله الواحد الذي يملك الموت والحياة؛ وهو رب الأولين والآخرين‏:‏

‏{‏لا إله إلا هو يحيي ويميت، ربكم ورب آبائكم الأولين‏}‏‏.‏‏.‏

والإحياء والإماتة أمران مشهودان للجميع، وأمرهما خارج عن طاقة كل مخلوق‏.‏ يبدو هذا بأيسر نظر وأقرب تأمل‏.‏ ومشهد الموت كمشهد الحياة في كل صورة وفي كل شكل يلمس القلب البشري ويهزه؛ ويستجيشه ويعده للتأثر والانفعال ويهيئه للتقبل والاستجابة‏.‏ ومن ثم يكثر ذكره في القرآن وتوجيه المشاعر إليه ولمس القلوب به بين الحين والحين‏.‏

وعندما يبلغ الموقف هذا الحد من الاستثارة والاستجاشة يضرب السياق عنه، ويلتفت بالحديث إلى حكاية حالهم تجاهه، وهو حال مناقض لما ينبغي أن يكونوا عليه تجاه حقيقة الموقف الجاد الذي لا مجال للعب فيه‏:‏ ‏{‏بل هم في شك يلعبون‏.‏ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين، يغشى الناس، هذا عذاب أليم‏.‏ ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون‏.‏ أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين‏.‏ ثم تولوا عنه وقالوا‏:‏ معلم مجنون‏.‏ إنا كاشفو العذاب قليلاً إنكم عائدون‏.‏ يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون‏}‏‏.‏‏.‏

يقول‏:‏ إنهم يلعبون إزاء ذلك الجد، ويشكون في تلك الآيات الثابتة‏.‏ فدعهم إلى يوم هائل عصيب‏:‏ ‏{‏فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين‏.‏ يغشى الناس‏.‏ هذا عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

وقد اختلف السلف في تفسير آية الدخان‏.‏ فقال بعضهم‏.‏ إنه دخان يوم القيامة، وإن التهديد بارتقابه كالتهديد المتكرر في القرآن‏.‏ وإنه آت يترقبونه ويترقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ بل هو قد وقع فعلاً، كما توعدهم به‏.‏ ثم كشف عن المشركين بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم فنذكر هنا ملخص القولين وأسانيدها‏.‏ ثم نعقب بما فتح الله به، ونحسبه صواباً إن شاء الله‏.‏

قال سليمان بن مهران الأعمش، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، عن مسروق‏.‏ قال‏:‏ دخلنا المسجد يعني مسجد الكوفة عند أبواب كندة‏.‏ فإذا رجل يقص على أصحابه‏:‏ ‏{‏يوم تأتي السماء بدخان مبين‏}‏‏.‏‏.‏ تدرون ماذا الدخان‏؟‏ ذلك دخان يأتي يوم القيامة، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام‏.‏ قال‏:‏ فأتينا ابن مسعود رضي الله عنه فذكرنا ذلك له، وكان مضطجعاً ففزع فقعد، وقال‏:‏ إن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏{‏قل‏:‏ ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين‏}‏ إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم‏:‏ الله أعلم‏.‏ أحدثكم عن ذلك‏.‏ إن قريشاً لما أبطأت عن الإسلام، واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف‏.‏ فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة؛ وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان وفي رواية فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏ فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له‏:‏ يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت‏.‏ فاستسقى صلى الله عليه وسلم لهم فسقوا‏.‏ فنزلت‏.‏ ‏{‏إنا كاشفو العذاب قليلاً إنكم عائدون‏}‏‏.‏‏.‏ قال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة‏؟‏‏.‏‏.‏ فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون‏}‏‏.‏‏.‏ قال‏:‏ يعني يوم بدر‏.‏ قال ابن مسعود رضي الله عنه فقد مضى خمسة‏:‏ الدخان، والروم، والقمر، والبطشة، واللزام «‏.‏‏.‏ وهذا الحديث مخرج في الصحيحين‏.‏ رواه الإمام أحمد في مسنده‏.‏ وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيرهما‏.‏ وعند ابن جرير، وابن أبي حاتم من طرق متعددة عن الأعمش به‏.‏ وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى، جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي‏.‏ وهو اختيار ابن جرير‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لم يمض الدخان بعد، بل هو من أمارات الساعة، كما ورد في حديث أبي سريحة حذيفة ابن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال‏:‏» أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة ونحن نتذاكر الساعة، فقال صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات‏:‏ طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرف، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا «‏.‏ تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني محمد بن عوف، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي، حدثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال‏:‏» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن ربكم أنذركم ثلاثاً الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال «

ورواه الطبراني عن هاشم بن زيد، عن محمد بن إسماعيل بن عياش بهذا النص ‏(‏وقال ابن كثير في التفسير‏:‏ وهذا إسناد جيد‏)‏‏.‏

وقال ابن جرير كذلك‏:‏ حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج، عن عبدالله بن أبي مليكة‏.‏ قال‏:‏ غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم، فقال‏:‏ ما نمت الليلة حتى أصبحت‏.‏ قلت‏:‏ لم‏؟‏ قال‏:‏ قالوا طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت‏.‏‏.‏ وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه، عن ابن عمر، عن سفيان، عن عبدالله بن أبي يزيد، عن عبدالله ابن أبي مليكة، عن ابن عباس‏:‏ رضي الله عنهما فذكره‏.‏

قال ابن كثير في التفسير‏:‏ ‏(‏وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن‏.‏ وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها، مما فيه مقتنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة، مع أنه ظاهر القرآن‏.‏ قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين‏}‏‏.‏‏.‏ أي بيّن واضح يراه كل أحد‏.‏ وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد‏.‏ وهكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يغشى الناس‏}‏‏.‏‏.‏ أي يتغشاهم ويعميهم‏.‏ ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه‏:‏ ‏{‏يغشى الناس‏}‏‏.‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏ أي يقال لهم ذلك، تقريعاً وتوبيخاً‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يدعون إلى نار جهنم دعا‏.‏ هذه النار التي كنتم بها تكذبون‏}‏‏.‏ أو يقول بعضهم لبعض ذلك‏.‏ وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏ أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله جلت عظمته‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا‏:‏ يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين‏}‏ وكذا قوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا‏:‏ ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل‏.‏ أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال‏؟‏‏}‏ وهكذا قال جل وعلا ها هنا‏:‏ ‏{‏أنى لهم الذكرى، وقد جاءهم رسول مبين، ثم تولوا عنه وقالوا‏:‏ معلم مجنون‏}‏‏.‏‏.‏ يقول‏:‏ كيف لهم التذكر وقد أرسلنا إليهم رسولاً بين الرسالة والنذارة، ومع هذا تولوا عنه، وما وافقوه بل كذبوه، وقالوا‏:‏ معلم مجنون‏.‏ وهذا كقوله جلت عظمته‏:‏ ‏{‏يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى‏}‏ الآية‏.‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ فزعوا، فلا فوت، وأخذوا من مكان قريب‏.‏ وقالوا‏:‏ آمنا به‏.‏ وأنى لهم التناوش من مكان بعيد‏؟‏‏}‏

إلى آخر السورة‏.‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كاشفو العذاب قليلاً إنكم عائدون‏}‏‏.‏‏.‏ يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه يقول تعالى‏:‏ ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون‏}‏ وكقوله جلت عظمته‏:‏ ‏{‏ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون‏}‏ والثاني‏:‏ أن يكون المراد‏:‏ إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه، ووصوله إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال‏.‏ ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين‏}‏ ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم، بل كان قد انعقد سببه عليهم‏.‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إنكم عائدون إلى عذاب الله‏.‏‏.‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون‏}‏‏.‏‏.‏ فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر‏.‏ وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه، وجماعة عنه على تفسير الدخان بما تقدم وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي عنه وأبي بن كعب رضي الله عنه وهو محتمل‏:‏ والظاهر أن ذلك يوم القيامة‏.‏ وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضاً‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ حدثني يعقوب‏.‏ حدثنا ابن علية‏.‏ حدثنا خالد الحذاء‏.‏ عن عكرمة قال‏:‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما قال ابن مسعود رضي الله عنه البطشة الكبرى يوم بدر‏.‏ وأنا أقول‏:‏ هي يوم القيامة‏.‏ وهذا إسناد صحيح عنه‏.‏ وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه، والله أعلم‏)‏‏.‏‏.‏ انتهى كلام ابن كثير‏.‏‏.‏

ونحن نختار قول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الدخان بأنه عند يوم القيامة، وقول ابن كثير في تفسيره‏.‏ فهو تهديد له نظائره الكثيرة في القرآن الكريم، في مثل هذه المناسبة‏.‏ ومعناه‏:‏ إنهم يشكون ويلعبون‏.‏ فدعهم وارتقب ذلك اليوم المرهوب‏.‏ يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس‏.‏ ووصف هذا بأنه عذاب أليم‏.‏ وصور استغاثتهم‏:‏ ‏{‏ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏ ورده عليهم باستحالة الاستجابة، فقد مضى وقتها‏:‏ ‏{‏أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين‏.‏ ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون‏}‏‏.‏‏.‏ يعلمه ذلك الغلام الأعجمي‏!‏ وهو كما زعموا مجنون‏.‏‏.‏

وفي ظل هذا المشهد الذي يرجون فيه كشف العذاب فلا يجابون يقول لهم‏:‏ إن أمامكم فرصة بعد لم تضع، فهذا العذاب مؤخر عنكم قليلاً وأنتم الآن في الدنيا‏.‏ وهو مكشوف عنكم الآن فآمنوا كما تعدون أن تؤمنوا في الآخرة فلا تجابون‏.‏ وأنتم الآن في عافية لن تدوم‏.‏

فإنكم عائدون إلينا ‏{‏يوم نبطش البطشة الكبرى‏}‏‏.‏‏.‏ يوم يكون ذلك الدخان الذي شهدتم مشهده في تصوير القرآن له‏.‏ ‏{‏إنا منتقمون‏}‏ من هذا اللعب الذي تلعبون، وذلك البهت الذي تبهتون به الرسول صلى الله عليه وسلم إذ تقولون عنه‏:‏ ‏{‏معلم مجنون‏}‏‏.‏‏.‏ وهو الصادق الأمين‏.‏‏.‏

بهذا يستقيم تفسير هذه الآيات، كما يبدو لنا، والله أعلم بما يريد‏.‏

بعد ذلك يأخذ بهم في جولة أخرى مع قصة موسى عليه السلام‏.‏ فيعرضها في اختصار ينتهي ببطشة كبرى في هذه الأرض‏.‏ بعد إذ أراهم بطشته الكبرى يوم تأتي السماء بدخان مبين‏:‏

‏{‏ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون، وجاءهم رسول كريم‏:‏ أن أدوا إليَّ عباد الله، إني لكم رسول أمين‏.‏ وألا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين‏.‏ وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون، وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون‏.‏

‏{‏فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون‏.‏‏.‏ فأسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون‏.‏ واترك البحر رهواً، إنهم جند مغرقون‏}‏‏.‏

‏{‏كم تركوا من جنات وعيون‏.‏ وزروع ومقام كريم‏.‏ ونعمة كانوا فيها فاكهين‏.‏ كذلك وأورثناها قوماً آخرين‏.‏ فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين‏}‏‏.‏

‏{‏ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين‏.‏ من فرعون إنه كان عالياً من المسرفين‏.‏ ولقد اخترناهم على علم على العالمين‏.‏ وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين‏}‏‏.‏‏.‏

هذه الجولة تبدأ بلمسة قوية لإيقاظ قلوبهم إلى أن إرسال الرسول لقومه قد يكون فتنة وابتلاء‏.‏ والإملاء للمكذبين فترة من الزمان، وهم يستكبرون على الله، ويؤذون رسول الله والمؤمنين معه قد يكون كذلك فتنة وابتلاء‏.‏ وأن إغضاب الرسول واستنفاد حلمه على أذاهم ورجائه في هدايتهم قد يكون وراءه الأخذ الأليم والبطش الشديد‏:‏

‏{‏ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون‏}‏‏.‏‏.‏

وابتليناهم بالنعمة والسلطان، والتمكين في الأرض، والإملاء في الرخاء، وأسباب الثراء والاستعلاء‏.‏

‏{‏وجاءهم رسول كريم‏}‏‏.‏‏.‏

وكان هذا طرفاً من الابتلاء، ينكشف به نوع استجابتهم للرسول الكريم، الذي لا يطلب منهم شيئاً لنفسه؛ إنما يدعوهم إلى الله، ويطلب إليهم أن يؤدوا كل شئ لله، وألا يستبقوا شيئاً لا يؤدونه من ذوات أنفسهم يضنون به على الله‏:‏

‏{‏أن أدوا إليّ عباد الله إني لكم رسول أمين‏.‏ وألا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين‏.‏ وإني عذب بربي وربكم أن ترجمون‏.‏ وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون‏}‏‏.‏‏.‏

إنها كلمات قصيرة تلك التي جاءهم بها رسولهم الكريم موسى عليه السلام‏:‏

إنه يطلب إليهم الاستجابة الكلية‏.‏ والأداء الكامل‏.‏ والاستسلام المطلق‏.‏ الاستسلام المطلق لله‏.‏ الذي هم عباده‏.‏ وما ينبغي للعباد أن يعلوا على الله‏.‏ فهي دعوة الله يحملها إليهم الرسول، ومعه البرهان على أنه رسول الله إليهم‏.‏ البرهان القوي والسلطان المبين، الذي تذعن له القلوب‏.‏ وهو يتحصن بربه ويعوذ به أن يسطوا عليه وأن يرجموه‏.‏

فإن استعصوا على الإيمان فهو يفاصلهم ويعتزلهم ويطلب إليهم أن يفاصلوه ويعتزلوه‏.‏ وذلك منتهى النصفة والعدل والمسالمة‏.‏

ولكن الطغيان قلما يقبل النصفة، فهو يخشى الحق أن يظل طليقاً، يحاول أن يصل إلى الناس في سلام وهدوء‏.‏ ومن ثم يحارب الحق بالبطش‏.‏ ولا يسالمه أبداً‏.‏ فمعنى المسالمة أن يزحف الحق ويستولي في كل يوم على النفوس والقلوب‏.‏ ومن ثم يبطش الباطل ويرجم ولا يعتزل الحق ولا يدعه يسلم أو يستريح‏!‏

ويختصر السياق هنا حلقات كثيرة من القصة، ليصل إلى قرب النهاية‏.‏ حين وصلت التجربة إلى نهايتها؛ وأحس موسى أن القوم لن يؤمنوا له ولن يستجيبوا لدعوته؛ ولن يسالموه أو يعتزلوه‏.‏ وبدا له إجرامهم أصيلاً عميقاً لا أمل في تخليهم عنه‏.‏ عند ذلك لجأ إلى ربه وملاذه الأخير‏:‏

‏{‏فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون‏}‏‏.‏‏.‏

وماذا يملك الرسول إلا أن يعود إلى ربه بالحصيلة التي جنتها يداه‏؟‏ وإلا أن ينفض أمره بين يديه، ويدع له التصرف بما يريد‏؟‏

وتلقى موسى الإجابة إقراراً من ربه لما دمغ به القوم‏.‏‏.‏ حقاً إنهم مجرمون‏.‏‏.‏

‏{‏فأسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون‏.‏ واترك البحر رهواً إنهم جند مغرقون‏}‏‏.‏‏.‏

والسرى لا يكون إلا ليلاً، فالنص عليه يعيد تصوير المشهد، مشهد السرى بعباد الله وهم بنو إسرائيل‏.‏ ثم للإيحاء بجو الخفية، لأن سراهم كان خفية عن عيون فرعون ومن وراء علمه‏.‏ والرهو‏:‏ الساكن‏.‏ وقد أمر الله موسى عليه السلام أن يمر هو وقومه وأن يدع البحر وراءه ساكناً على هيئته التي مر هو وقومه فيها، لإغراء فرعون وجنده باتباعهم، ليتم قدر الله بهم كما أراده‏:‏ ‏{‏إنهم جند مغرقون‏}‏‏.‏‏.‏ فهكذا ينفذ قدر الله من خلال الأسباب الظاهرة‏.‏ والأسباب ذاتها طرف من هذا القدر المحتوم‏.‏

ويختصر السياق حكاية مشهد الغرق أو عرضه، اكتفاء بالكلمة النافذة التي لا بد أن تكون‏:‏ ‏{‏إنهم جند مغرقون‏}‏‏.‏‏.‏ ويمضي من هذا المشهد المضمر إلى التعقيب عليه؛ تعقيباً يشي بهوان فرعون الطاغية المتعالي وملئه الممالئ له على الظلم والطغيان‏.‏ هوانه وهوانهم على الله، وعلى هذا الوجود الذي كان يشمخ فيه بأنفه، فيطأطئ له الملأ المفتونون به؛ وهو أضأل وأزهد من أن يحس به الوجود، وهو يسلب النعمة فلا يمنعها من الزوال، ولا يرثي له أحد على سوء المآل‏:‏

‏{‏كم تركوا من جنات وعيون‏.‏ وزروع ومقام كريم‏.‏ ونعمة كانوا فيها فاكهين‏.‏ كذلك وأورثناها قوماً آخرين‏.‏ فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين‏}‏‏.‏‏.‏

ويبدأ المشهد بصور النعيم الذي كانوا فيه يرفلون‏.‏‏.‏ جنات‏.‏ وعيون‏.‏ وزروع‏.‏ ومكان مرموق، ينالون فيه الاحترام والتكريم‏.‏ ونعمة يتلذونها ويطعمونها ويعيشون فيها مسرورين محبورين‏.‏

ثم ينزع هذا كله منهم أو ينزعون منه‏.‏ ويرثه قوم آخرون وفي موضع آخر قال‏:‏ ‏{‏كذلك وأورثناها بني إسرائيل‏}‏ وبنو إسرائيل لم يرثوا ملك فرعون بالذات‏.‏

ولكنهم ورثوا ملكاً مثله في الأرض الأخرى‏.‏ فالمقصود إذن هو نوع الملك والنعمة‏.‏ الذي زال عن فرعون وملئه، وورثه بنو إسرائيل‏!‏

ثم ماذا‏؟‏ ثم ذهب هؤلاء الطغاة الذين كانوا ملء الأعين والنفوس في هذه الأرض‏:‏ ذهبوا فلم يأس على ذهابهم أحد، ولم تشعر بهم سماء ولا أرض؛ ولم ينظروا أو يؤجلوا عند ما حل الميعاد‏:‏

‏{‏فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين‏}‏‏.‏‏.‏

وهو تعبير يلقي ظلال الهوان، كما يلقي ظلال الجفاء‏.‏‏.‏ فهؤلاء الطغاة المتعالون لم يشعر بهم أحد في أرض ولا سماء‏.‏ ولم يأسف عليهم أحد في أرض ولا سماء‏.‏ وذهبوا ذهاب النمال، وهم كانوا جبارين في الأرض يطأون الناس بالنعال‏!‏ وذهبوا غير مأسوف عليهم فهذا الكون يمقتهم لانفصالهم عنه، وهو مؤمن بربه، وهم به كافرون‏!‏ وهم أرواح خبيثة شريرة منبوذة من هذا الوجود وهي تعيش فيه‏!‏

ولو أحس الجبارون في الأرض ما في هذه الكلمات من إيحاء لأدركوا هوانهم على الله وعلى هذا الوجود كله‏.‏ ولأدركوا أنهم يعيشون في الكون منبوذين منه، مقطوعين عنه، لا تربطهم به آصرة، وقد قطعت آصرة الإيمان‏.‏

وفي الصفحة المقابلة مشهد النجاة والتكريم والاختيار‏:‏

‏{‏ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عالياً من المسرفين‏.‏ ولقد اخترناهم على علم على العالمين‏.‏ وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين‏}‏‏.‏‏.‏

ويذكر هنا نجاة بني إسرائيل من العذاب ‏{‏المهين‏}‏ في مقابل الهوان الذي انتهى إليه المتجبرون المتعالون المسرفون في التجبر والتعالي‏:‏ ‏{‏من فرعون إنه كان عالياً من المسرفين‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يذكر اختيار الله لبني إسرائيل على علم بحقيقتهم كلها، خيرها وشرها‏.‏ اختيارهم على العالمين في زمانهم بطبيعة الحال، لما يعلمه الله من أنهم أفضل أهل زمانهم وأحقهم بالاختيار والاستخلاف؛ على كل ما قصه عنهم بعد ذلك من تلكؤ ومن انحراف والتواء‏.‏ مما يشير إلى أن اختيار الله ونصره قد يكون لأفضل أهل زمانهم؛ ولو لم يكونوا قد بلغوا مستوى الإيمان العالي؛ إذا كانت فيهم قيادة تتجه بهم إلى الله على هدى وعلى بصيرة واستقامة‏.‏

‏{‏وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين‏}‏‏.‏‏.‏

فتعرضوا للاختبار بهذه الآيات، التي آتاهم الله إياها للابتلاء‏.‏ حتى إذا تم امتحانهم، وانقضت فترة استخلافهم، أخذهم الله بانحرافهم والتوائهم، وبنتيجة اختبارهم وابتلائهم، فضربهم بمن يشردهم في الأرض، وكتب عليهم الذلة والمسكنة، وتوعدهم أن يعودوا إلى النكال والتشريد كلما بغوا في الأرض إلى يوم الدين‏.‏‏.‏

وبعد هذه الجولة في مصرع فرعون وملئه، ونجاة موسى وقومه، وابتلائهم بالآيات بعد فتنة فرعون وأخذه‏.‏‏.‏ بعد هذه الجولة يعود إلى موقف المشركين من قضية البعث والنشور، وشكهم فيها، وإنكارهم لها‏.‏ يعود ليربط بين قضية البعث وتصميم الوجود كله وبنائه على الحق والجد، الذي يقتضي هذا البعث والنشور‏:‏

‏{‏إن هؤلاء ليقولون‏:‏ إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين‏.‏

فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين‏.‏ أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين‏.‏ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين‏.‏ ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون‏.‏ إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين‏.‏ يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون‏.‏ إلا من رحم الله، إنه هو العزيز الرحيم‏}‏‏.‏‏.‏

إن هؤلاء المشركين من العرب ليقولون‏:‏ ما هي إلا الموتة التي نموتها، ثم لا حياة ولا نشور‏.‏ ويسمونها ‏{‏الأولى‏}‏ بمعنى السابقة المتقدمة على الموعد الذي يوعدونه للبعث والنشور‏.‏ ويستدلون على أنه ليس هناك إلا هذه الموتة وينتهي الأمر‏.‏ يستدلون بأن آباءهم الذين ماتوا هذه الموتة ومضوا لم يعد منهم أحد، ولم ينشر منهم أحد؛ ويطلبون الإتيان بهم إن كان النشور حقاً وصدقاً‏.‏

وهم في هذا الطلب يغفلون عن حكمة البعث والنشور؛ ولا يدركون أنها حلقة من حلقات النشأة البشرية، ذات حكمة خاصة وهدف معين، للجزاء على ما كان في الحلقة الأولى‏.‏ والوصول بالطائعين إلى النهاية الكريمة التي تؤهلهم لها خطواتهم المستقيمة في رحلة الحياة الدنيا؛ والوصول بالعصاة إلى النهاية الحقيرة التي تؤهلهم لها خطواتهم المنتكسة المرتكسة في الحمأة المستقذرة‏.‏‏.‏ وتلك الحكمة تقتضي مجيء البعث والنشور بعد انقضاء مرحلة الأرض كلها؛ وتمنع أن يكون البعث لعبة تتم حسب رغبة أو نزوة بشرية لفرد أو لجماعة محدودة من البشر كي يصدقوا بالبعث والنشور‏!‏ وهم لا يكمل إيمانهم إلا أن يشهدوا بالغيب على هذه القضية، التي يخبرهم بها الرسل؛ ويقتضيها التدبر في طبيعة هذه الحياة، وفي حكمة الله في خلقها على هذا الأساس‏.‏ وهذا التدبر وحده يكفي للإيمان بالآخرة، والتصديق بالنشور‏.‏

وقبل أن يوجههم هنا إلى هذا التدبر في تصميم الكون ذاته، يلمس قلوبهم لمسة عنيفة بمصرع قوم تبع‏.‏ والتبابعة من ملوك حمير في الجزيرة العربية‏.‏ ولا بد أن القصة التي يشير إليها كانت معروفة للسامعين، ومن ثم يشير إليها إشارة سريعة للمس قلوبهم بعنف، وتحذيرها مصيراً كهذا المصير‏:‏

‏{‏أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين‏}‏‏.‏‏.‏

وفي ظل هذه الذكرى، وارتجاف القلوب من تصورها، يقودهم إلى النظر في تصميم السماوات والأرض؛ وتنسيق هذا الكون؛ وما يبدو وراء هذا التنسيق من قصد وصدق وتدبير‏:‏

‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين‏.‏ ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون‏.‏ إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين‏.‏ يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون‏.‏ إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم‏}‏‏.‏‏.‏

واللفتة لطيفة، والمناسبة بين خلق السماوات والأرض وما بينهما وبين قضية البعث والنشور مناسبة دقيقة‏.‏

ولكن الفطرة البشرية تدركها في يسر حين توجه إليها مثل هذا التوجيه‏.‏

والواقع أن تدبر ما في خلق السماوات والأرض من دقة وحكمة وقصد ظاهر وتنسيق ملحوظ، وخلق كل شيء بمقدار لا يزيد ولا ينقص عن تحقيق الغاية من خلقه، وتحقيق تناسقه مع كل شئ وحوله، وظهور القصد في خلق كل شئ بالقدر والشكل الذي خلق به، وانتفاء المصادفة والبعث في أي جانب صغر أو كبر في تصميم هذه الخلائق الهائلة وما فيها من خلائق دقيقة لطيفة‏.‏

الواقع أن تدبر هذا كله يوقع في النفس أن لهذا الخلق غاية فلا عبث فيه؛ وأنه قائم على الحق فلا باطل فيه‏.‏ وأن له نهاية لم تأت بعد، ولا تجيء بالموت، بعد هذه الرحلة القصيرة على هذا الكوكب‏.‏ وأن أمر الآخرة، وأمر الجزاء فيها حتم لا بد منه من الناحية المنطقية البحتة لهذا التصميم المقصود في بناء هذه الحياة وهذا الوجود‏.‏ حتى تتحقق به النهاية الطبيعية للصلاح والفساد في هذه الحياة الدنيا‏.‏ هذا الصلاح وهذا الفساد اللذان ركب الإنسان على أساس الاستعداد لهما؛ وظهور جهده هو وإرادته في اختيار أحدهما، وتلقي جزاء هذا الاختيار في نهاية المطاف‏.‏

وإن خلق الإنسان بهذا الاستعداد المزدوج، ونفي العبث عن فعل الله سبحانه، ليقتضيان أن يكون لهذا الإنسان مصير معين، ينتهي إليه بعد انتهاء رحلته الأرضية‏.‏ وهذا هو صميم قضية الآخرة‏.‏ ومن ثم يجيء بعد توجيه النظر إلى الحكمة والقصد في خلق السماوات والأرض‏.‏ يجيء قوله تعالى‏:‏

‏{‏إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين‏.‏ يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون إلا من رحم الله، إنه هو العزيز الرحيم‏}‏‏.‏‏.‏

يجيء هذا القول طبيعياً ومرتبطاً بما قبله كل الارتباط‏.‏ فالحكمة تقتضي أن يكون هناك يوم يفصل فيه بين الخلائق، ويحكم فيه بين الهدى والضلال، ويكرم فيه الخير ويهان فيه الشر، ويتجرد الناس من كل سند لهم في الأرض، ومن كل قربى وآصرة، ويعودون إلى خالقهم فرادى كما خلقهم، يتلقون جزاء ما عملت أيديهم، لا ينصرهم أحد، ولا يرحمهم أحد، إلا من ينال رحمة ربه العزيز القادر الرحيم العطوف‏.‏ الذي خرجوا من يده سبحانه ليعملوا؛ وعادوا إلى يده سبحانه ليتسلموا منه الجزاء‏.‏ وما بين خروجهم ورجوعهم إنما هو فرصة للعمل ومجال للابتداء‏.‏

هكذا تقتضي الحكمة الظاهرة في تصميم هذا الكون، وفي خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق، وفي التقدير الواضح والقصد الناطق في كل شيء في هذا الوجود‏.‏‏.‏

وبعد تقرير هذا المبدأ يعرض عليهم مشهداً من مشاهد يوم الفصل؛ وما ينتهي إليه العصاة والطائعون من عذاب ومن نعيم‏.‏ مشهداً عنيفاً يتناسق مع ظلال السورة وجوها العنيف‏:‏

‏{‏إن شجرة الزقوم طعام الأثيم، كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم‏.‏

سورة الجاثية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 23‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏5‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏7‏)‏ يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏9‏)‏ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏10‏)‏ هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏15‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏18‏)‏ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏19‏)‏ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

هذه السورة المكية تصور جانباً من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية، وطريقتهم في مواجهة حججها وآياتها، وتعنتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها، واتباعهم للهوى اتباعاً كاملاً في غير ما تحرج من حق واضح أو برهان ذي سلطان‏.‏ كذلك تصور كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة الشاردة مع الهوى، المغلقة دون الهدى؛ وهو يواجهها بآيات الله القاطعة العميقة التأثير والدلالة، ويذكرهم عذابه، ويصور لهم ثوابه، ويقرر لهم سننه، ويعرفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود‏.‏

ومن خلال آيات السورة وتصويرها للقوم الذين واجهوا الدعوة في مكة، نرى فريقاً من الناس مصرا على الضلالة، مكابراً في الحق، شديد العناد، سيئ الأدب في حق الله وحق كلامه، ترسمه هذه الآيات، وتواجهه بما يستحقه من الترذيل والتحذير والتهديد بعذاب الله المهين الأليم العظيم‏:‏

‏{‏ويل لكل أفاك أثيم‏.‏ يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها، فبشره بعذاب أليم‏.‏ وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً، أولئك لهم عذاب مهين‏.‏ من ورائهم جهنم، ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما تخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم‏}‏‏.‏‏.‏

ونرى جماعة من الناس، ربما كانوا من أهل الكتاب سيئي التصور والتقدير؛ لا يقيمون وزناً لحقيقة الإيمان الخالصة، لا يحسون بالفارق الأصيل بينهم وهم يعملون السيئات وبين المؤمنين الذي يعملون الصالحات‏.‏ والقرآن يشعرهم بأن هناك فارقاً أصيلاً في ميزان الله بين الفريقين، ويقرر سوء حكمهم وسوء تصورهم للأمور؛ وقيام الأمر في ميزان الله على العدل الأصيل في صلب الوجود كله منذ بدء الخلق والتكوين‏:‏

‏{‏أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، سواء محياهم ومماتهم‏؟‏ ساء ما يحكمون‏!‏ وخلق الله السماوات والأرض بالحق، ولتجزى كل نفس بما كسبت، وهم لا يظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

ونرى فريقاً من الناس لا يعرف حكماً يرجع إليه إلا هواه، فهو إلهه الذي يتعبده، ويطيع كل ما يراه‏.‏ نرى هذا الفريق من الناس مصوراً تصويراً فذاً في هذه الآية؛ وهو يعجب من أمره ويشهر بغفلته وعماه‏:‏

‏{‏أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة‏؟‏ فمن يهديه من بعد الله‏؟‏ أفلا تذكرون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ونرى هذا الفريق من الناس ينكر أمر الآخرة، ويشك كل الشك في قضية البعث والحساب، ويتعنت في الإنكار وفي طلب البرهان بما لا سبيل إليه في هذه الأرض‏.‏ والقرآن يوجه هذا الفريق إلى الدلائل القائمة الحاضرة على صدق هذه القضية، وهم عنها معرضون‏:‏

‏{‏وقالوا‏:‏ ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر‏.‏ وما لهم بذلك من علم، إن هم إلا يظنون‏.‏ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا‏:‏ ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين‏.‏ قل‏:‏ الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه‏.‏ ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏

ويجوز أن يكون هؤلاء جميعاً فريقاً واحداً من الناس يصدر منه هذا وذاك، ويصفه القرآن في السورة هنا وهناك‏.‏ كما يجوز أن يكونوا فرقاً متعددة ممن واجهوا الدعوة في مكة‏.‏ بما في ذلك بعض أهل الكتاب، وقليل منهم كان في مكة‏.‏ ويجوز أن تكون هذه إشارة عن هذا الفريق ليعتبر بها أهل مكة دون أن يقتضي هذا وجوده في مكة بالذات في ذلك الحين‏.‏

وعلى أية حال فقد واجه القرآن هؤلاء الناس بصفاتهم تلك وتصرفاتهم، وتحدث عنهم في هذه السورة ذلك الحديث‏.‏‏.‏ كذلك واجههم بآيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، وحذرهم حساب يوم القيامة، وبصرهم بما جرى لمن قبلهم ممن انحرفوا عن دين الله القويم‏.‏

واجههم بآيات الله في هذا الأسلوب البسيط المؤثر العميق‏:‏

‏{‏إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين‏.‏ وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون‏.‏ واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون‏.‏ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق، فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وواجههم بها مرة أخرى في صورة نعم من أنعم الله عليهم يغفلون عن تذكرها وتدبرها‏:‏

‏{‏الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون‏.‏ وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه‏.‏ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏}‏‏.‏‏.‏

كذلك واجههم بحالهم يوم القيامة الذي ينكرونه أو يمارون فيه‏:‏

‏{‏ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون‏.‏ وترى كل أمة جاثية‏.‏ كل أمة تدعى إلى كتابها‏.‏ اليوم تجزون ما كنتم تعملون‏.‏ هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون‏.‏ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته‏.‏ ذلك هو الفوز المبين‏.‏ وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين‏؟‏ وإذا قيل‏:‏ إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها‏.‏ قلتم‏:‏ ما ندري ما الساعة، إن نظن إلا ظناً، وما نحن بمستيقنين‏.‏ وبدا لهم سيئات ما عملوا، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون‏.‏ وقيل‏:‏ اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا، ومأواكم النار، وما لكم من ناصرين‏:‏ ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون‏}‏ كذلك لم يدع أي لبس أو شك في عدالة الجزاء وفردية التبعة؛ فبين أن هذا الأصل عميق في تكوين الوجود كله، وعليه يقوم هذا الوجود‏.‏ ذلك حين يقول‏:‏

‏{‏من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها، ثم إلى ربكم ترجعون‏}‏‏.‏

وحين يرد على من يحسبون وهم يجترحون السيئات أنهم عند الله كالمؤمنين الذين يعملون الصالحات، فيقول‏:‏ ‏{‏وخلق الله السماوات والأرض بالحق، ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

والسورة كلها وحدة في علاج موضوعها؛ ولكننا قسمناها إلى درسين اثنين لتيسير عرضها وتفصيلها‏.‏

وهي تبدأ بالأحرف المقطعة‏:‏ «حا‏.‏ ميم»‏.‏ والإشارة إلى القرآن الكريم‏:‏ ‏{‏تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏ وتختم بحمد الله وربوبيته المطلقة، وتمجيده وتعظيمه، إزاء أولئك الذين يغفلون عن آياته ويستهزئون بها ويستكبرون عنها‏:‏ ‏{‏فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين‏.‏ وله الكبرياء في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏

ويسير سياق السورة في عرض موضوعها في يسر وهوادة وإيضاح هادئ، وبيان دقيق عميق‏.‏ على غير ما يسير سياق سورة الدخان قبلها في إيقاع عنيف كأنه مطارق تقرع القلوب‏.‏

والله خالق القلوب، ومنزل هذا القرآن، يأخذ القلوب تارة بالقرع والطرق‏.‏ وتارة باللمس الناعم الرفيق، وتارة بالبيان الهادئ الرقيق‏.‏ حسب تنوعها هي واختلافها‏.‏ وحسب تنوع حالاتها ومواقفها في ذاتها‏.‏ وهو اللطيف الخبير‏.‏ وهو العزيز الحكيم‏.‏‏.‏

والآن نأخذ في التفصيل‏:‏

‏{‏حم‏.‏ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم‏.‏ إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين‏.‏ وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون‏.‏ واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، آيات لقوم يعقلون‏}‏‏.‏‏.‏

يذكر الحرفين‏:‏ «حا‏.‏ ميم» ويذكر بعدهما تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم‏.‏ وفيهما دلالة على مصدر الكتاب، كما أسلفنا الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور‏.‏ من ناحية أن هذا الكتاب المعجز مصوغ من مثل هذه الأحرف، وهم لا يقدرون على شيء منه، فهذه دلالة قائمة على أن تنزيل هذا الكتاب من الله ‏{‏العزيز‏}‏ القادر الذي لا يعجزه شيء‏.‏ ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي يخلق كل شيء بقدر، ويمضي كل أمر بحكمة‏.‏ وهو تعقيب يناسب جو السورة وما تتعرض له من ألوان النفوس‏.‏

وقبل أن يعرض للقوم وموقفهم من هذا الكتاب؛ يشير إلى آيات الله المبثوثة في الكون من حولهم‏.‏ وقد كانت وحدها كفيلة بتوجيههم إلى الإيمان‏.‏ ويوجه قلوبهم إليها لعلها توقظها وتفتح مغاليقها، وتستجيش فيها الحساسية بالله منزل هذا الكتاب، وخالق هذا الكون العظيم‏:‏

‏{‏إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

والآيات المبثوثة في السماوات والأرض لا تقتصر على شيء دون شيء، ولا حال دون حال‏.‏ فحيثما مد الإنسان ببصره وجد آيات الله تطالعه في هذا الكون العجيب‏.‏‏.‏

وأي شيء ليس آية‏؟‏

هذه السماوات بأجرامها الضخمة، وأفلاكها الهائلة، وهي على ضخامتها مبعثرة كالنثار الصغير في الفضاء‏.‏‏.‏ الفضاء الهائل الرهيب‏.‏‏.‏ الجميل‏.‏‏.‏ ‏!‏

ودورة هذه الأجرام في أفلاكها في دقة واطراد وتناسق‏.‏

‏.‏ تناسق جميل لا تشبع العين من النظر إليه، ولا يشبع القلب من تمليه‏!‏

وهذه الأرض الواسعة العريضة بالقياس إلى البشر، وهي ذرة، أو هباءة بالقياس إلى النجوم الكبيرة‏.‏ ثم بالقياس إلى هذا الفضاء الذي تتوه فيه‏.‏‏.‏ تتوه لولا القدرة التي تمسك بها وتنتظمها في العقد الكوني الذي لا يتوه شيء فيه‏!‏

وما أودعه الله طبيعة هذه الأرض في موقعها الكوني الخاص من صلاحية لنشوء الحياة فوقها، ومن خصائص دقيقة مقصودة متراكبة متجمعة متناسقة‏.‏ لو اختلت خصيصة واحدة منها أو تخلفت ما أمكن أن تقوم فيها الحياة أو تدوم‏!‏

وكل شيء في هذه الأرض وكل حي‏.‏‏.‏ آية‏.‏‏.‏ وكل جزء من كل شيء ومن كل حي في هذه الأرض‏.‏‏.‏ آية‏.‏‏.‏ والصغير الدقيق كالضخم الكبير‏.‏‏.‏ آية‏.‏‏.‏ هذه الورقة الصغيرة في هذه الشجرة الضخمة أو النبتة الهزيلة‏.‏‏.‏ آية‏.‏‏.‏ آية في شكلها وحجمها، آية في لونها وملمسها‏.‏ آية في وظيفتها وتركيبها‏.‏ وهذه الشعرة في جسم الحيوان أو الإنسان‏.‏‏.‏ آية‏.‏‏.‏ آية في خصائصها ولونها وحجمها‏.‏ وهذه الريشة في جناح الطائر‏.‏‏.‏ آية‏.‏‏.‏ آية في مادتها وتنسيقها ووظيفتها‏.‏ وحيثنما مد الإنسان ببصره في الأرض أو في السماء تزاحمت الآيات وتراكبت، وأعلنت عن نفسها لقلبه وسمعه وبصره‏.‏

ولكن، من الذي يرى هذه الآيات ويستشعرها‏؟‏ لمن تعلن هذه الآيات عن نفسها‏؟‏ لمن‏؟‏

‏{‏للمؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

فالإيمان هو الذي يفتح القلوب لتلقي الأصداء والأضواء والأنداد؛ والإحساس بما فيها من آيات الله المبثوثة في الأرض والسماء‏.‏ والإيمان هو الذي تخالط القلوب بشاشته فتحيا وترق وتلطف؛ وتلتقط ما يذخر به الكون من إيحاءات خفية وظاهرة، تشير كلها إلى اليد الصانعة، وطابعها المميز في كل ما تصوغه وتبدعه من أشياء ومن أحياء‏.‏ وكل ما خرج من هذه اليد فهو خارق معجز لا يقدر على إبداعه أحد من خلق الله‏.‏

ثم ينتقل بهم السياق من آفاق الكون إلى ذوات أنفسهم؛ وهي أقرب إليهم، وهم بها أكثر حساسية‏:‏

‏{‏وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون‏}‏‏.‏‏.‏

وخلق هذا الإنسان بهذا التكوين العجيب، وبهذه الخصائص الفريدة، وبهذه الوظائف اللطيفة الدقيقة المتنوعة الكثيرة‏.‏ خارقة‏.‏ خارقة نسيناها لطول تكرارها، ولقربها منا‏!‏ ولكن التركيب العضوي لجارحة واحدة من جوارح هذا الإنسان مسألة تدير الرأس عجباً ودهشة واستهوالاً لهذا التركيب العجيب‏!‏

إن الحياة في أبسط صورها معجزة‏.‏ في الإميبا ذات الخلية الواحدة‏.‏ وفيما هو أصغر من الإميبا‏!‏ فكيف بها في هذا الإنسان الشديد التركيب والتعقيد‏؟‏ وهو في تركيبه النفسي أشد تركباً وتعقداً من تركيبه العضوي‏!‏

وحوله تلك الخلائق التي تدب على الأرض أنواعاً وأجناساً، وأشكالاً وأحجاماً، لا يحصيها إلا الله‏.‏ وأصغرها كأكبرها معجز في خلقه‏.‏ معجز في تصريفه‏.‏ معجز في تناسب حيواته على هذه الأرض، بحيث لا يزيد جنس عن حدود معينة، تحفظ وجوده وامتداده، وتمنع طغيانه على الأجناس طغيان إبادة وإفناء‏.‏

واليد الممسكة بزمام الأنواع والأجناس تزيد فيها وتنقص بحكمة وتقدير؛ وتركب في كل منها من الخصائص والقوى والوظائف ما يحفظ التوازن بينها جميعاً‏.‏‏.‏

النسور جارحة ضارية وعمرها مديد‏.‏ ولكنها في مقابل هذا نزرة قليلة البيض والفراخ بالقياس إلى العصافير والزرازير‏.‏‏.‏ ولنا أن نتصور كيف كان الأمر يكون لو كان للنسور نسل العصافير‏؟‏ وكيف كانت تقضي على جميع الطيور‏!‏

والأسود كذلك في عالم الحيوان كاسرة ضارية‏.‏ فكيف لو كانت تنسل كالظباء والشاء‏؟‏ إنها ما كانت تبقي على لحم في الغابة ولا غذاء‏.‏‏.‏ ولكن اليد التي تمسك بالزمام تجعل نسلها محدوداً بالقدر المطلوب‏!‏ وتكثر من ذوات اللحوم من الظباء والشاء وما إليها لسبب معلوم‏.‏

والذبابة الواحدة تبيض في الدورة الواحدة مئات الألوف‏.‏‏.‏ وفي مقابل هذا لا تعيش إلا حوالي أسبوعين اثنين‏.‏ فكيف لو أفلت الزمام فعاشت الذبابة الواحدة أشهراً أو سنين‏؟‏ لكان الذباب يغطي الأجسام ويأكل العيون‏؟‏ ولكن اليد المدبرة هناك تضبط الأمور وفق تقدير محسوب فيه حساب كل الحاجات والأحوال والظروف‏.‏

وهكذا وهكذا‏.‏ في الخلق ذاته‏.‏ وفي خصائصه‏.‏ وفي تدبيره وتقديره‏.‏ في عالم الناس، وعالم الدواب‏.‏‏.‏ في هذا كله آيات‏.‏ آيات ناطقة‏.‏ ولكن لمن‏؟‏ من الذي يراها ويتدبرها ويدركها‏؟‏

‏{‏لقوم يوقنون‏}‏‏.‏‏.‏

واليقين هو الحالة المهيئة للقلوب كي تحس، وكي تتأثر، وكي تنيب‏.‏‏.‏ اليقين الذي يدع القلوب تقر وتثبت وتطمئن؛ وتتلقى حقائق الكون في هدوء ويسر وثقة، وفي راحة من القلق والحيرة والزعزعة‏.‏ فتصوغ من أقل ما تحصل، أكبر النتائج وأعظم الآثار في هذا الوجود‏.‏

ثم ينتقل بهم من ذوات أنفسهم وحركة الأحياء حولهم، إلى الظواهر الكونية، وما ينشأ عنها من أسباب الحياة لهم وللأحياء جميعاً‏:‏

‏{‏واختلاف الليل والنهار، وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، آيات لقوم يعقلون‏}‏‏.‏‏.‏

واختلاف الليل والنهار ظاهرتان قد يُخلق جدتهما في نفوس البشر التكرار‏!‏ ولكن آية عجيبة تطالع الحس البشري وهو يواجه الليل أول مرة أو يواجه النهار‏؟‏ إن القلب الشاعر المتفتح يرى هذه العجيبة دائماً، وينتفض لها دائماً؛ ويرى يد الله التي تدير الكون كله كلما رأى الليل والنهار‏.‏

وتنمو معارف البشر، ويتسع علمهم عن بعض الظواهر الكونية، ويعرفون أن الليل والنهار ظاهرتان تنشآن عن دورة الأرض حول محورها أمام الشمس مرة في كل أربع وعشرين ساعة‏.‏ ولكن العجيبة لا تنقص شيئاً بهذه المعرفة‏.‏ فإن دورة الأرض هذه عجيبة أخرى‏.‏ دورة هذا الجرم حول نفسه بهذه السرعة المنتظمة، وهو عائم في الهواء، سابح في الفضاء، غير مستند إلى شيء إلا إلى القدرة التي تمسك به وتديره كما شاءت بهذا النظام الذي لا يتخلف، وبهذا القدر الذي يسمح للأحياء والأشياء أن تظل على سطح هذا الكوكب السابح السارح الدائر في الفضاء‏!‏

ويتوسع البشر في علمهم فيدركون أهمية هاتين الظاهرتين على سطح الأرض بالقياس إلى الحياة والأحياء؛ ويعرفون أن تقسيم الأوقات بين الليل والنهار بهذه النسبة على سطح هذا الكوكب عامل رئيسي لوجود الحياة وبقاء الأحياء؛ وأنه لو لم توجد هاتان الظاهرتان بهذا القدر وعلى هذا النظام لتغير كل شيء على هذه الأرض، وبخاصة تلك الحياة الإنسانية التي تخص المخاطبين‏.‏

من الأحياء‏!‏ ومن ثم تزداد هاتان الظاهرتان أهمية في الحس البشري ولا تنقصان‏!‏

‏{‏وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها‏}‏‏.‏‏.‏

والرزق قد يكون المقصود به هو الماء النازل من السماء‏.‏ كما فهم منه القدماء‏.‏ ولكن رزق السماء أوسع‏.‏ فهذه الأشعة التي تنزل من السماء ليست أقل أثراً في إحياء الأرض من الماء‏.‏ بل إنها لهي التي ينشأ عنها الماء بإذن الله‏.‏ فحرارة الشمس هي التي تبخر الماء من البحار فتتكاثف وتنزل أمطاراً، وتجري عيوناً وأنهاراً؛ وتحيا بها الأرض بعد موتها‏.‏ تحيا بالماء وتحيا بالحرارة والضياء سواء‏!‏

‏{‏وتصريف الرياح‏}‏‏.‏‏.‏

وهي تمضي شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، منحرفة ومستقيمة، دافئة وباردة، وفق النظام الدقيق المنسوق المقصود في تصميم هذا الكون العجيب؛ وحساب كل شيء فيه حساباً دقيقاً لا يترك شيئاً للمصادفة العمياء‏.‏‏.‏ ولتصريف الرياح علاقة معروفة بدورة الأرض، وبظاهرتي الليل والنهار، وبالرزق الذي ينزل من السماء‏.‏ وكلها تتعاون في تحقيق مشيئة الله في خلق هذا الكون، وتصريفه كما أراد‏.‏ وفيها ‏{‏آيات‏}‏ معروضة في الكون‏.‏ ولكن لمن‏؟‏

‏{‏لقوم يعقلون‏}‏‏.‏‏.‏

فللعقل هنا عمل، وله في هذا الميدان مجال‏.‏

هذه بعض آيات الله الكونية، يشير إليها هذه الإشارات الموحية للمؤمنين‏.‏ الذين يوقنون والذين يعقلون‏.‏ يشير إليها بآيات الله القرآنية، فتلمس القلوب، وتوقظ العقول، وتخاطب الفطر بلغتها المباشرة، بما بينها وبين هذا الكون من صلة عميقة باطنة، لا يحتاج إيقاظها إلا إلى كلمات موحية كآيات هذا القرآن‏.‏ فمن لم يؤمن بهذه الآيات فلا رجاء في أن يؤمن بسواها؛ ومن لم توقظه هذه الإشارات الموحية فلن توقظه الصرخات من غير هذا الصوت المستجاب‏:‏

‏{‏تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن أي كلام لن يبلغ كلام الله في القرآن‏.‏ وإن أي إبداع لن يبلغ إبداع الله في الكون‏.‏ وإن أية حقيقة لن تبلغ حقيقة الله في الثبوت والوضوح واليقين‏.‏ ‏{‏فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهنا لا يليق بمن لا يؤمن إلا التهديد والتنكيل‏:‏

‏{‏ويل لكل أفاك أثيم‏.‏ يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها‏.‏ فبشره بعذاب أليم‏.‏ وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً، أولئك لهم عذاب مهين‏.‏ من ورائهم جهنم، ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء، ولهم عذاب عظيم‏}‏‏.‏

وتصور هذه الآيات كما أسلفنا في تقديم السورة جانباً من استقبال المشركين لهذه الدعوة في مكة، وإصرارهم على باطلهم، واستكبارهم عن سماع كلمة الحق البين، ومكابرتهم في هذا الحق كأنه لم يطرق أذهانهم، وسوء أدبهم مع الله وكلامه‏.‏‏.‏ ومقابلة القرآن لهذا كله بالترذيل والتقبيح والتهديد والوعيد، والتلويح بالعذاب الأليم المهين العظيم‏.‏

‏{‏ويل لكل أفاك أثيم‏}‏‏.‏‏.‏

والويل الهلاك‏.‏ والأفاك الكذاب المارد على الكذب‏.‏ والأثيم الكثير المقارفة للإثم‏.‏ والتهديد شامل لكل من هذه صفته‏.‏ وهو تهديد صادر من الله القوي القاهر الجبار، القادر على الهلاك والدمار‏.‏ الصادق الوعد والوعيد والإنذار‏.‏ فهو تهديد رعيب مفزع مرهوب‏.‏

هذا الأفاك الأثيم‏.‏ آية إفكه وعلامة إثمه، أنه يصر على الباطل ويستكبر على الحق ويتعالى عن الخضوع لآيات الله، ولا يتأدب بالأدب اللائق مع الله‏:‏

‏{‏يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه الصورة البغيضة ولو أنها صورة فريق من المشركين في مكة، إلا أنها تتكرر في كل جاهلية، وتتكرر اليوم وغداً‏.‏ فكم في الأرض، وبين من يقال إنهم مسلمون، من يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها؛ لأنها لا توافق هواه، ولا تسير مع مألوفه، ولا تعاونه على باطله، ولا تقره على شره، ولا تتمشى له مع اتجاه‏!‏

‏{‏فبشره بعذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

والبشارة للخير‏.‏ فهي هنا للسخرية‏.‏ فإذا كان لا يسمع النذير، فليأته الويل المنظور، في صوت البشير‏!‏ زيادة في السخرية والتحقير‏!‏

‏{‏وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً‏}‏‏.‏‏.‏

بعد أن يعلمها ويعرف مصدرها‏.‏ وهذه أشد وأنكى‏.‏ وهي صورة كذلك مكرورة في الجاهليات الأولى والأخيرة‏.‏ وكم من الناس‏.‏ وبين من يقال إنهم مسلمون‏.‏ من يستهزئ بآيات الله التي يعلمها، ويتخذها مادة للسخرية منها وممن يؤمنون بها؛ ومن يريدون أن يرجعوا أمر الناس والحياة إليها‏.‏

‏{‏أولئك لهم عذاب مهين‏}‏‏.‏‏.‏

فالمهانة هي الجزاء المناسب لمن يستهزئ بآيات الله وهو يعلمها‏.‏

وهو عذاب حاضر قريب؛ وإن كان موعده آتياً بعد حين‏.‏ ولكنه في حقيقته قائم موجود‏:‏

‏{‏من ورائهم جهنم‏}‏‏.‏‏.‏

ولفظ ‏{‏من ورائهم‏}‏ مقصودة ظلاله فوق معناه‏.‏ وظلاله‏.‏‏.‏ أنهم لا يرونه لأنه من ورائهم ولا يتقونه لأنهم في غفلة عنه؛ ولا يفوتهم فهم سيقعون فيه‏!‏

‏{‏ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء‏}‏‏.‏‏.‏

فليس شيء مما عملوا أو ملكوا بنافعهم شيئاً، فعملهم ولو صلح هباء لا يقدرون على شيء منه، وهو قائم على غير أساس من إيمان‏.‏ وملكهم زائلٍ لا يصاحبهم منه شيء فيه غناء‏.‏ وأولياؤهم من دون الله آلهة أو أعواناً وجنداً أو خلاناً لا يملكون لهم نصراً ولا شفاعة‏.‏

‏{‏ولهم عذاب عظيم‏}‏‏.‏‏.‏

فوق أنه مهين‏.‏ فجرمهم في الاستهزاء بآيات الله قبيح يقتضي المهانة، جسيم يقتضي جسامة التعذيب‏.‏‏.‏

وينتهي هذا المقطع، الذي ورد فيه ذكر الاستهزاء بآيات الله، والصد عنها والاستكبار، بكلمة عن حقيقة هذه الآيات؛ وجزاء من يكفر بهذه الحقيقة في إجمال‏:‏

‏{‏هذا‏.‏ هدى‏.‏ والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم‏}‏‏.‏‏.‏

إن حقيقة هذا القرآن أنه هدى‏.‏ هدى خالص مصفى‏.‏ هدى ممحض لا يشوبه ضلال‏.‏ فالذي يكفر بعد ذلك بالآيات، وهذه حقيقتها، يستحق ألم العذاب‏.‏ الذي يمثله توكيد معنى الشدة والإيلام‏.‏ فالرجز هو العذاب الشديد‏.‏ والعذاب الذي يهددون به هو عذاب من رجز أليم‏.‏‏.‏ تكرار بعد تكرار‏.‏ وتوكيد بعد توكيد‏.‏ يليق بمن يكفر بالهدى الخالص الممحض الصريح‏.‏

وبعد التهديد المخيف، والوعيد الرعيب، يعود فيلمس قلوبهم لمساً رفيقاً، بالتذكير بأنعم الله التي سخرها لهم في هذا الكون العريض‏:‏

‏{‏الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره، ولتبتغوا من فضله، ولعلكم تشكرون‏.‏ وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏}‏‏.‏‏.‏

إن هذا المخلوق الصغير‏.‏‏.‏ الإنسان‏.‏‏.‏ يحظى من رعاية الله سبحانه بالقسط الوافر، الذي يتيح له أن يسخر الخلائق الكونية الهائلة، وينتفع بها على شتى الوجوه‏.‏ وذلك بالاهتداء إلى طرف من سر الناموس الإلهي الذي يحكمها، والذي تسير وفقه ولا تعصاه‏!‏ ولولا هذا الاهتداء إلى طرف السر ما استطاع الإنسان بقوته الهزيلة المحدودة أن ينتفع بشيء من قوى الكون الهائلة؛ بل ما استطاع أن يعيش معها؛ وهو هذا القزم الصغير، وهي هذه المردة الجبابرة من القوى والطاقات والأحجام والأجرام‏.‏

والبحر أحد هذه الجبابرة الضخام التي سخرها الله للإنسان، فهداه إلى شيء من سر تكوينها وخصائصها؛ عرف منه هذه الفلك التي تمخر هذا الخلق الهائل، وهي تطفو على ثبج أمواجه الجبارة ولا تخشاها‏!‏ ‏{‏لتجري الفلك فيه بأمره‏}‏‏.‏‏.‏ فهو سبحانه الذي خلق البحر بهذه الخصائص، وخلق مادة الفلك بهذه الخصائص، وجعل خصائص الضغط الجوي، وسرعة الرياح وجاذبية الأرض‏.‏‏.‏ وسائر الخصائص الكونية الأخرى مساعدة على أن تجري الفلك في البحر‏.‏ وهدى الإنسان إلى هذا كله فأمكنه أن ينتفع به، وأن ينتفع كذلك بالبحر في نواح أخرى‏:‏ ‏{‏ولتبتغوا من فضله‏}‏ كالصيد للطعام وللزينة، وكذلك التجارة والمعرفة والتجربة والرياضة والنزهة؛ وسائر ما يبتغيه الحي من فضل الله في البحار‏.‏

سخر الله للإنسان البحر والفلك، ليبتغي من فضل الله؛ وليتجه إليه بالشكر على التفضل والإنعام، وعلى التسخير والاهتداء‏:‏ ‏{‏ولعلكم تشكرون‏}‏‏.‏‏.‏ وهو يوجه قلبه بهذا القرآن إلى الوفاء بهذا الحق، وإلى الارتباط بذلك الأفق، وإلى إدراك ما بينه وبين الكون من وحدة في المصدر ووحدة في الاتجاه‏.‏

‏.‏ إلى الله‏.‏‏.‏

ومن تخصيص البحر بالذكر إلى التعميم والشمول‏.‏ فلقد سخر الله لهذا الإنسان ما في السماوات وما في الأرض، من قوى وطاقات ونعم وخيرات مما يصلح له ويدخل في دائرة خلافته‏:‏

‏{‏وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه‏}‏‏.‏‏.‏

فكل شيء في هذا الوجود منه وإليه؛ وهو منشئه ومدبره؛ وهو مسخره أو مسلطه‏.‏ وهذا المخلوق الصغير‏.‏‏.‏ الإنسان‏.‏‏.‏ مزود من الله بالاستعداد لمعرفة طرف من النواميس الكونية‏.‏ يسخر به قوى في هذا الكون وطاقات تفوق قوته وطاقته بما لا يقاس‏!‏ وكل ذلك من فضل الله عليه‏.‏ وفي كل ذلك آيات لمن يفكر ويتدبر؛ ويتبع بقلبه وعقله لمسات اليد الصانعة المدبرة المصرفة لهذه القوى والطاقات‏:‏

‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏}‏‏.‏‏.‏

والفكر لا يكون صحيحاً وعميقاً وشاملاً، إلا حين يتجاوز القوى والطاقات التي يكشف سرها، إلى مصدر هذه القوى والطاقات؛ وإلى النواميس التي تحكمها؛ وإلى الصلة بين هذه النواميس وفطرة الإنسان‏.‏ هذه الصلة التي تيسر للإنسان الاتصال بها وإدراكها‏.‏ ولولاها ما اتصل ولا أدرك‏.‏ ولا عرف ولا تمكن، ولا سخر ولا انتفع بشيء من هذه القوى والطاقات‏.‏‏.‏

وحين يبلغ سياق السورة إلى هذا المقطع القوي الذي يصل قلب المؤمن بقلب هذا الوجود‏.‏ ويشعره بمصدر القوة الحقيقي وهو الاهتداء إلى أسرار هذا الوجود‏.‏‏.‏ عند هذا يدعو المؤمنين إلى الترفع والاستعلاء وسعة الأفق ورحابة الصدر في مواجهة الضعاف العاجزين الذين لا تتصل قلوبهم بذلك المصدر الثري الغني‏.‏ كما يدعوهم إلى شيء من العطف على هؤلاء المساكين المحجوبين عن الحقائق المنيرة القوية العظيمة؛ من الذين لا يتطلعون إلى أيام الله، التي يظهر فيها عظمته وأسراره ونواميسه‏:‏

‏{‏قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله، ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون‏.‏ من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها، ثم إلى ربكم ترجعون‏}‏‏.‏‏.‏

فهو توجيه كريم للذين آمنوا ليتسامحوا مع الذين لا يرجون أيام الله‏.‏ تسامح المغفرة والعفو‏.‏ وتسامح القوة والاستعلاء‏.‏ وتسامح الكبر والارتفاع‏.‏ والواقع أن الذين لا يرجون أيام الله مساكين يستحقون العطف أحياناً بحرمانهم من ذلك النبع الفياض، الذي يزخر بالنداوة والرحمة والقوة والثراء‏.‏ نبع الإيمان بالله، والطمأنينة إليه، والاحتماء بركنه، واللجوء إليه في ساعات الكربة والضيق‏.‏ وحرمانهم كذلك من المعرفة الحقيقية المتصلة بصميم النواميس الكونية وما وراءها من القوى والثروات‏.‏ والمؤمنون الذين يملكون كنز الإيمان وذخره، ويتمتعون برحمته وفيضه أولى بالمغفرة لما يبدو من أولئك المحرومين من نزوات وحماقات‏.‏

هذا من جانب‏.‏ ومن الجانب الآخر، ليترك هؤلاء المؤمنون الأمر كله لله يتولى جزاء المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته‏.‏ ويحسب لهم العفو والمغفرة عن المساءة في سجل الحسنات‏.‏ ذلك فيما لا يظهر الفساد في الأرض، ويعتدي على حدود الله وحرماته بطبيعة الحال‏:‏

‏{‏ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون‏}‏‏.‏

ويعقب على هذا بفردية التبعة، وعدالة الجزاء، وتوكيد الرجوع إلى الله وحده في نهاية المطاف‏:‏

‏{‏من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها، ثم إلى ربكم ترجعون‏}‏‏.‏‏.‏

بذلك يتسع صدر المؤمن، ويرتفع شعوره؛ ويحتمل المساءات الفردية والنزوات الحمقاء من المحجوبين المطموسين، في غير ضعف، وفي غير ضيق‏.‏ فهو أكبر وأفسح وأقوى‏.‏ وهو حامل مشعل الهدى للمحرومين من النور، وحامل بلسم الشفاء للمحرومين من النبع، وهو مجزيٌّ بعمله، لا يصيبه من وزر المسيء شيء‏.‏ والأمر لله في النهاية، وإليه المرجع والمآب‏.‏

بعد ذلك يتحدث عن القيادة المؤمنة للبشرية، وتركز هذه القيادة أخيراً في الرسالة الإسلامية؛ فيشير إلى اختلاف بني إسرائيل في كتابهم، بعدما آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة‏.‏ وانتهاء راية القيادة والحكم إلى صاحب الدعوة الأخيرة‏.‏ هذا وهو بعد في مكة‏.‏ والدعوة بعد مطاردة محاصرة‏.‏ ولكن طبيعتها هي هي منذ نشأتها، ومهمتها هي مهمتها‏:‏

‏{‏ولقد آتينا بني اسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على العالمين‏.‏ وآتيناهم بينات من الأمر، فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم‏.‏ إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏.‏ ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون‏.‏ إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً‏.‏ وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله ولي المتقين‏.‏ هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون‏}‏‏.‏‏.‏

كانت القيادة قبل الإسلام لبني إسرائيل‏.‏ كانوا هم أصحاب عقيدة السماء التي اختارها الله لتلك الفترة من التاريخ‏.‏ ولا بد للبشر من قيادة مستمدة من السماء‏.‏ فالأرض قيادتها هوى أو جهل أو قصور‏.‏ والله خالق البشر هو وحده الذي يشرع لهم شريعته مبرأة من الهوى فكلهم عباده، مبرأة من الجهل والقصور فهو الذي خلقهم وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير‏.‏

‏{‏ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة‏}‏‏.‏‏.‏

فكان فيهم التوراة شريعة الله‏.‏ وكان فيهم الحكم لإقامة الشريعة‏.‏ وكان فيهم النبوة بعد رسالة موسى وكتابه للقيام على الشريعة والكتاب‏.‏ وكثر فيهم الأنبياء وتتابعوا فترة طويلة نسبياً في التاريخ‏.‏

‏{‏ورزقناهم من الطيبات‏}‏‏.‏‏.‏

فكانت مملكتهم ونبواتهم في الأرض المقدسة، الطيبة، الكثيرة الخيرات بين النيل والفرات‏.‏

‏{‏وفضلناهم على العالمين‏}‏‏.‏‏.‏

وكان تفضيلهم على أهل زمانهم بطبيعة الحال؛ وكان مظهر هذا التفضيل الأول اختيارهم للقيادة بشريعة الله؛ وإيتاءهم الكتاب والحكم والنبوة‏:‏

‏{‏وآتيناهم بينات من الأمر‏}‏‏.‏‏.‏

فكان ما أوتوه من الشريعة بينا حاسماً فاصلاً، لا غموض فيه ولا لبس ولا عوج ولا انحراف؛ فلم يكن هناك ما يدعو إلى الاختلاف في هذا الشرع البين كما وقع منهم؛ وما كان هذا عن غموض في الأمر، ولا كان عن جهل منهم بالصحيح من الحكم‏:‏

‏{‏فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم‏}‏‏.‏

إنما كان ذلك عن تحاسد بينهم، ونزاع وظلم، مع معرفة الحق والصواب‏:‏

‏{‏بغياً بينهم‏}‏‏.‏‏.‏

وبذلك انتهت قيادتهم في الأرض، وبطل استخلافهم، وأمرهم بعد ذلك إلى الله يوم القيامة‏:‏

‏{‏إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏‏.‏‏.‏

ثم كتب الله الخلافة في الأرض لرسالة جديدة ورسول جديد، يرد إلى شريعة الله استقامتها، وإلى قيادة السماء نصاعتها؛ ويحكم شريعة الله لا أهواء البشر في هذه القيادة‏:‏

‏{‏ثم جعلناك على شريعة من الأمر؛ فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا يتمحض الأمر‏.‏ فإما شريعة الله‏.‏ وإما أهواء الذين لا يعلمون‏.‏ وليس هنالك من فرض ثالث، ولا طريق وسط بين الشريعة المستقيمة والأهواء المتقلبة؛ وما يترك أحد شريعة الله إلا ليحكم الأهواء فكل ما عداها هوى يهفو إليه الذين لا يعلمون‏!‏

والله سبحانه يحذر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتبع أهواء الذين لا يعلمون، فهم لا يغنون عنه من الله شيئاً‏.‏ وهم يتولون بعضهم بعضاً‏.‏ وهم لا يملكون أن يضروه شيئاً حين يتولى بعضهم بعضاً، لأن الله هو مولاه‏:‏

‏{‏إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض‏.‏ والله ولي المتقين‏}‏‏.‏‏.‏

وإن هذه الآية مع التي قبلها لتعين سبيل صاحب الدعوة وتحدده، وتغني في هذا عن كل قول وعن كل تعليق أو تفصيل‏:‏

‏{‏ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون‏.‏ إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله ولي المتقين‏}‏‏.‏‏.‏

إنها شريعة واحدة هي التي تستحق هذا الوصف، وما عداها أهواء منبعها الجهل‏.‏ وعلى صاحب الدعوة أن يتبع الشريعة وحدها، ويدع الأهواء كلها‏.‏ وعليه ألا ينحرف عن شيء من الشريعة إلى شيء من الأهواء‏.‏ فأصحاب هذه الأهواء أعجز من أن يغنوا عنه من الله صاحب الشريعة‏.‏ وهم إلب عليه فبعضهم ولي لبعض‏.‏ وهم يتساندون فيما بينهم ضد صاحب الشريعة فلا يجوز أن يأمل في بعضهم نصرة له أو جنوحاً عن الهوى الذي يربط بينهم برباطه‏.‏ ولكنهم أضعف من أن يؤذوه‏.‏ والله ولي المتقين‏.‏ وأين ولاية من ولاية‏؟‏ وأين ضعاف جهال مهازيل يتولى بعضهم بعضاً؛ من صاحب شريعة يتولاه الله‏.‏ ولي المتقين‏؟‏

وتعقيباً على هذا البيان الحاسم الجازم، يتحدث عن اليقين، وعما في هذا القول وأمثاله في القرآن من تبصرة وهدى ورحمة لأهل اليقين‏:‏

‏{‏هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون‏}‏‏.‏‏.‏

ووصف القرآن بأنه بصائر للناس يعمق معنى الهداية فيه والإنارة‏.‏ فهو بذاته بصائر كاشفة كما أن البصائر تكشف لأصحابها عن الأمور‏.‏ وهو بذاته هدى‏.‏ وهو بذاته رحمة‏.‏‏.‏ ولكن هذا كله يتوقف على اليقين‏.‏ يتوقف على الثقة التي لا يخامرها شك، ولا يخالطها قلق، ولا تتسرب إليها ريبة‏.‏

وحين يستيقن القلب ويستوثق يعرف طريقه، فلا يتلجلج ولا يتعلثم ولا يحيد‏.‏ وعندئذ يبدو له الطريق واضحاً، والأفق منيراً، والغاية محددة، والنهج مستقيماً، وعندئذ يصبح هذا القرآن له نوراً وهدى ورحمة بهذا اليقين‏.‏

ويعقب على الحديث عن ولاية الظالمين بعضهم لبعض وولاية الله للمتقين؛ وعن طبيعة هذا القرآن بالقياس إلى المتقين، وأنه بصائر وهدى ورحمة لأهل اليقين‏.‏ يعقب على هذا الحديث بالتفرقة الحاسمة بين حال الذين يجترحون السيئات وحال الذين يعملون الصالحات وهم مؤمنون‏.‏ ويستنكر أن يسوى بينهم في الحكم، وهم مختلفون في ميزان الله‏.‏ والله قد أقام السماوات والأرض على أساس الحق والعدل؛ والحق أصيل في تصميم هذا الكون‏.‏

‏{‏أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات‏.‏ سواء محياهم ومماتهم‏.‏ ساء ما يحكمون‏.‏ وخلق الله السماوات والأرض بالحق، ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

ويجوز أن يكون الحديث هنا عن أهل الكتاب، الذين انحرفوا عن كتابهم، واجترحوا السيئات، وظلوا يحسبون أنفسهم في صفوف المؤمنين، ويجعلون أنفسهم أكفاء للمسلمين الذين يعملون الصالحات، أنداداً لهم في تقدير الله سواء في الحياة أو بعد الممات‏.‏ أي عند الحساب والجزاء‏.‏‏.‏ كما يجوز أن يكون حديثاً عاماً بقصد بيان قيم العباد في ميزان الله‏.‏ ورجحان كفة المؤمنين أصحاب العمل الصالح؛ واستنكار التسوية بين مجترحي السيئات وفاعلي الحسنات، سواء في الحياة أو في الممات‏.‏ ومخالفة هذا للقاعدة الثابتة الأصيلة في بناء الوجود كله‏.‏ قاعدة الحق‏.‏ الذي يتمثل في بناء الكون، كما يتمثل في شريعة الله‏.‏ والذي يقوم به الكون كما تقوم به حياة الناس‏.‏ والذي يتحقق في التفرقة بين المسيئين والمصلحين في جميع الأحوال؛ وفي مجازاة كل نفس بما كسبت من هدى أو ضلال؛ وفي تحقيق العدل للناس أجمعين‏:‏ ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

ومعنى أصالة الحق في بناء الكون، وارتباطه بشريعة الله للبشر، وحكمه عليهم يوم الحساب والجزاء، معنى يتكرر في القرآن الكريم، لأنه أصل من أصول هذه العقيدة، تجتمع عليه مسائلها المتفرقة، وترجع إليه في الأنفس والآفاق، وفي ناموس الكون وشريعة البشر‏.‏ وهو أساس «فكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان»‏.‏

وإلى جوار هذا الأصل الثابت يشير إلى الهوى المتقلب‏.‏ الهوى الذي يجعل منه بعضهم إلهاً يتعبده‏.‏ فيضل ضلالاً لا اهتداء بعده، والعياذ بالله‏:‏

‏{‏أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة‏؟‏ فمن يهديه من بعد الله‏؟‏ أفلا تذكرون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجاً عجيباً للنفس البشرية حين تترك الأصل الثابت، وتتبع الهوى المتقلب؛ وحين تتعبد هواها، وتخضع له، وتجعله مصدر تصوراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها‏.‏ وتقيمه إلهاً قاهراً لها، مستولياً عليها، تتلقى إشاراته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 37‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏24‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏27‏)‏ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏30‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ‏(‏32‏)‏ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏33‏)‏ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏34‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏35‏)‏ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

هذا المقطع الأخير من السورة يعرض مقولة المشركين عن الآخرة وعن البعث والحساب‏.‏ ويرد عليها من واقع نشأتهم الذي لا مجال لإنكاره، وهو واقع قريب منهم‏.‏ ثم يعرض مشهداً من مشاهد القيامة، يرونه واقعاً بهم وإن كان لم يحن بعد موعده لأن التصوير القرآني يعرضه حياً شاخصاً كأنهم يرونه رأي العين من خلال الكلمات‏.‏

ثم تختم السورة بالحمد لله، الواحد الربوبية في السماوات وفي الأرض ولجميع العالمين في السماوات والأرض، وتمجيد عظمته وكبريائه المتفردة في السماوات والأرض، لا ترتفع أمامها هامة، ولا يتطاول إليها متطاول‏.‏‏.‏ وهو العزيز الحكيم‏.‏‏.‏

‏{‏وقالوا‏:‏ ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، وما لهم بذلك من علم، إن هم إلا يظنون، وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا‏:‏ ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين‏.‏ قل‏:‏ الله يحييكم ثم يميتكم، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه‏.‏ ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

هكذا كانوا ينظرون تلك النظرة القصيرة‏.‏ الحياة في نظرهم هي هذا الشوط الذي يرونه في الدنيا رأي العين‏.‏ جيل يموت وجيل يحيا؛ وفي ظاهر الأمر لا تمتد إليهم يد بالموت، إنما هي الأيام تمضي، والدهر ينطوي، فإذا هم أموات؛ فالدهر إذن هو الذي ينهي آجالهم، ويلحق بأجسامهم الموت فيموتون‏!‏

وهي نظرة سطحية لا تتجاوز المظاهر، ولا تبحث عما وراءها من أسرار‏.‏ وإلا فمن أين جاءت إليهم الحياة؛ وإذا جاءت فمن ذا يذهب بها عنهم‏؟‏ والموت لا ينال الأجسام وفق نظام محدد وعدد من الأيام معين، حتى يظنوا أن مرور الأيام هو الذي يسلبهم الحياة‏.‏ فالأطفال يموتون كالشيوخ والأصحاء يموتون كالمرضى‏.‏ والأقوياء يموتون كالضعاف‏.‏ ولا يصلح الدهر إذن تفسيراً للموت عند من ينظر إلى الأمر نظرة فاحصة، ويحاول أن يعرف، وأن يدرك حقيقة الأسباب‏.‏

لهذا يقول الله عنهم بحق‏:‏

‏{‏وما لهم بذلك من علم‏.‏ إن هم إلا يظنون‏}‏‏:‏

يظنون ظناً غامضاً واهياً، لا يقوم على تدبر، ولا يستند إلى علم، ولا يدل على إدراك لحقائق الأمور‏.‏ ولا ينظرون إلى ما وراء ظاهرتي الحياة والموت من سر يشهده بإرادة أخرى غير إرادة الإنسان، وبسبب آخر غير مرور الأيام‏.‏

‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات، ما كان حجتهم إلا أن قالوا‏:‏ ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه كتلك تدل على نظرة سطحية لا تدرك نواميس الخلق، وحكمة الله فيها، وسر الحياة والموت الكامن وراءهما، المتعلق بتلك الحكمة الإلهية العميقة‏.‏ فالناس يحيون في هذه الأرض ليعطوا فرصة للعمل وليبتليهم الله فيما مكنهم فيه‏.‏ ثم يموتون حتى يحين موعد الحساب الذي أجله الله، فيحاسبوا على ما عملوا، وتتبين نتيجة الابتلاء في فترة الحياة‏.‏

ومن ثم فهم لا يعودون إذا ماتوا‏.‏ فليست هنالك حكمة تقتضي عودتهم قبل اليوم المعلوم‏.‏ وهم لا يعودون لأن فريقاً من البشر يقترحون هذا‏.‏ فاقتراحات البشر لا تتغير من أجلها النواميس الكبرى التي قام على أساسها الوجود‏!‏ ومن ثم فلا مجال لهذا الاقتراح الساذج الذي كانوا يواجهون به الآيات البينات‏:‏

‏{‏ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين‏}‏ ‏!‏

ولماذا يأتي بآبائهم قبل الموعد الذي قدره وفق حكمته العليا‏؟‏ ألكي يقتنعوا بقدرة الله على إحياء الموتى‏؟‏ يا عجباً‏!‏ أليس الله ينشئ الحياة أمام أعينهم إنشاء في كل لحظة، وفق سنة إنشاء الحياة‏؟‏

‏{‏قل الله يحييكم، ثم يميتكم، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه‏}‏‏.‏‏.‏

هذه هي المعجزة التي يريدون أن يشهدوها في آبائهم‏.‏ ها هي ذي تقع أمام أعينهم‏.‏ بعينها وبذاتها‏.‏ والله هو الذي يحيي‏.‏ ثم هو الذي يميت‏.‏ فلا عجب إذن في أن يحيي الناس ويجمعهم إلى يوم القيامة، ولا سبب يدعو إلى الريب في هذا الأمر، الذي يشهدون نظائره فيما بين أيديهم‏:‏

‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

ويعقب على هذه الحقيقة الماثلة بالأصل الكلي الذي ترجع إليه‏:‏

‏{‏ولله ملك السماوات والأرض‏}‏‏.‏‏.‏

فهو المهيمن على كل ما في الملك‏.‏ وهو صانع كل شيء فيه‏.‏ وهو القادر على الإنشاء والإعادة لكل ما فيه وكل من فيه‏.‏

ثم يعرض عليهم مشهداً من هذا اليوم الذي يشكون فيه‏:‏

‏{‏ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون‏.‏ وترى كل أمة جاثية‏.‏ كل أمة تدعى إلى كتابها‏.‏ اليوم تجزون ما كنتم تعملون‏.‏ هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق‏.‏ إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون‏}‏‏.‏‏.‏

إنه يعجل لهم في الآية الأولى عاقبة المبطلين‏.‏ فهم الخاسرون في هذا اليوم الذي يشكون فيه‏.‏ ثم ننظر من خلال الكلمات فإذا ساحة العرض الهائلة، وقد تجمعت فيها الأجيال الحاشدة التي عمرت هذا الكوكب في عمره الطويل القصير‏!‏ وقد جثوا على الركب متميزين أمة أمة‏.‏ في ارتقاب الحساب المرهوب‏.‏‏.‏ وهو مشهد مرهوب بزحامه الهائل يوم تتجمع الأجيال كلها في صعيد واحد‏.‏ ومرهوب بهيئته والكل جاثون على الركب‏.‏ ومرهوب بما وراءه من حساب‏.‏ ومرهوب قبل كل شيء بالوقفة أمام الجبار القاهر، والمنعم المتفضل، الذي لم تشكر أنعمه ولم تعرف أفضاله من أكثر هؤلاء الواقفين‏!‏

ثم يقال للجموع الجاثية المتطلعة إلى كل لحظة بريق جاف ونفس مخنوق‏.‏ يقال لها‏:‏

‏{‏اليوم تجزون ما كنتم تعملون‏.‏ هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق‏.‏ إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون‏}‏‏.‏‏.‏ فيعلمون أن لا شيء سينسى أو يضيع‏!‏ وكيف وكل شيء مكتوب‏.‏ وعلم الله لا يند عنه شيء ولا يغيب‏؟‏‏!‏

ثم تنقسم الحشود الحاشدة والأمم المختلفة، على مدى الأجيال واختلاف الأجناس فريقين اثنين‏.‏ فريقين اثنين يجمعان كل هذه الحشود‏:‏ الذين آمنوا‏.‏