فصل: سورة الحجرات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


سورة الحجرات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 18‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ‏(‏6‏)‏ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ‏(‏7‏)‏ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏8‏)‏ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏10‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏13‏)‏ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏15‏)‏ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏16‏)‏ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

هذه السورة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية، سورة جليلة ضخمة، تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة، ومن حقائق الوجود والإنسانية‏.‏ حقائق تفتح للقلب وللعقل آفاقاً عالية وآماداً بعيدة؛ وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة؛ وتشمل من مناهج التكوين والتنظيم، وقواعد التربية والتهذيب، ومبادئ التشريع والتوجيه، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات‏!‏

وهي تبرز أمام النظر أمرين عظيمين للتدبر والتفكير‏.‏

وأول ما يبرز للنظر عند مطالعة السورة، هو أنها تكاد تستقل بوضع معالم كاملة، لعالم رفيع كريم نظيف سليم؛ متضمنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم؛ والتي تكفل قيامه أولاً، وصيانته أخيراً‏.‏‏.‏ عالم يصدر عن الله، ويتجه إلى الله، ويليق أن ينتسب إلى الله‏.‏‏.‏ علم نقي القلب، نظيف المشاعر، عف اللسان، وقبل ذلك عف السريرة‏.‏‏.‏ عالم له أدب مع الله، وأدب مع رسوله، وأدب مع نفسه، وأدب مع غيره‏.‏ أدب في هواجس ضميره، وفي حركات جوارحه‏.‏ وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه، وله نظمه التي تكفل صيانته‏.‏ وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب، وتنبثق منه، وتتسق معه؛ فيتوافى باطن هذا العالم وظاهره‏.‏ وتتلاقى شرائعه ومشاعره‏.‏ وتتوازن دوافعه وزواجره؛ وتتناسق أحاسيسه وخطاه، وهو يتجه ويتحرك إلى الله‏.‏‏.‏ ومن ثم لا يوكل قيام هذا العالم الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته، لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور؛ ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم‏.‏ بل يلتقي هذا بذلك في انسجام وتناسق‏.‏ كذلك لا يوكل لشعور الفرد وجهده، كما لا يترك لنظم الدولة وإجراءاتها‏.‏ بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة، والدولة بالأفراد، وتتلاقى واجباتهما ونشاطهما في تعاون واتساق‏.‏

هو عالم له أدب مع الله، ومع رسول الله‏.‏ يتمثل هذا الأدب في إدراك حدود العبد أمام الرب، والرسول الذي يبلغ عن الرب‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، واتقوا الله، إن الله سميع عليم‏}‏‏.‏‏.‏ فلا يسبق العبد المؤمن إلهه في أمر أو نهي، ولا يقترح عليه في قضاء أو حكم؛ ولا يتجاوز ما يأمر به وما ينهى عنه؛ ولا يجعل لنفسه إرادة أو رأياً مع خالقه‏.‏‏.‏ تقوى منه وخشية، وحياء منه وأدباً‏.‏‏.‏ وله أدب خاص فيه خطاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتوقيره‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي‏.‏ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون‏.‏ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة وأجر عظيم‏.‏ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم، والله غفور رحيم‏}‏‏.‏

وهو عالم له منهجه في التثبت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق من مصدرها، قبل الحكم عليها‏.‏ يستند هذا المنهج إلى تقوى الله، وإلى الرجوع بالأمر إلى رسول الله، في غير ما تقدم بين يديه، ولا اقتراح لم يطلبه ولم يأمر به‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين؛ واعلموا أن فيكم رسول الله، لو يطيعكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّم‏.‏ ولكن الله حبَّبَ إليكم الإيمان، وزينه في قلوبكم، وكرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان، أولئك هم الراشدون، فضلاً من الله ونعمة، والله عليم حكيم‏}‏‏.‏‏.‏

وهو عالم له نظمه وإجراءاته العملية في مواجهة ما يقع فيه من خلاف وفتن وقلاقل واندفاعات، تخلخل كيانه لو تركت بغير علاج‏.‏ وهو يواجهها بإجراءات عملية منبثقة من قاعدة الأخوة بين المؤمنين، ومن حقيقة العدل والإصلاح، ومن تقوى الله والرجاء في رحمته ورضاه‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما؛ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله؛ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين‏.‏ إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون‏}‏‏.‏‏.‏

وهو عالم له آدابه النفسية في مشاعره تجاه بعضه البعض؛ وله آدابه السلوكية في معاملاته بعضه مع بعض‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم؛ ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن؛ ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا بالألقاب‏.‏ بئس الاسم‏:‏ الفسوق بعد الإيمان‏.‏ ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون‏}‏

وهو عالم نظيف المشاعر، مكفول الحرمات، مصون الغيبة والحضرة، لا يؤخذ فيه أحد بظنه، ولا تتبع فيه العورات، ولا يتعرض أمن الناس وكرامتهم وحريتهم فيه لأدنى مساس‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضاً‏.‏ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً‏؟‏ فكرهتموه‏!‏ واتقوا الله، إن الله تواب رحيم‏.‏‏}‏

وهو عالم له فكرته الكاملة عن وحدة الإنسانية المختلفة الأجناس المتعددة الشعوب، وله ميزانه الواحد الذي يقوّم به الجميع‏.‏ إنه ميزان الله المبرأ من شوائب الهوى والاضطراب‏:‏ ‏{‏يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير‏}‏‏.‏‏.‏

والسورة بعد عرض هذه الحقائق الضخمة التي تكاد تستقل برسم معالم ذلك العالم الرفيع الكريم النظيف السليم، تحدد معالم الإيمان، الذي باسمه دُعي المؤمنون إلى إقامة ذلك العالم‏.‏ وباسمه هُتف لهم ليلبوا دعوة الله الذي يدعوهم إلى تكاليفه بهذا الوصف الجميل، الحافز إلى التلبية والتسليم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏‏.‏‏.‏ ذلك النداء الحبيب الذي يخجل من يدعى به من الله أن لا يجيب؛ والذي ييسر كل تكليف ويهون كل مشقة، ويشوق كل قلب فيسمع ويستجيب‏:‏ ‏{‏قالت الأعراب‏:‏ آمنا‏.‏

قل‏:‏ لم تؤمنوا، ولكن قولوا‏:‏ أسلمنا‏.‏ ولما يدخل الإيمان في قلوبكم‏.‏ وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً، إن الله غفور رحيم‏.‏ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون‏.‏ قل‏:‏ أتُعلِّمون الله بدينكم، والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، والله بكل شيء عليم‏}‏‏.‏‏.‏

وتكشف السورة في ختامها عن ضخامة الهبة الإلهية للبشر‏.‏ هبة الإيمان التي يمن بها على من يشاء، وفق ما يعلمه فيه من استحقاق‏:‏ ‏{‏يمنون عليك أن أسلموا‏.‏ قل‏:‏ لا تمنوا عليّ إسلامكم‏.‏ بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين‏.‏ إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون‏}‏‏.‏‏.‏

فأما الأمر الثاني الذي يبرز للنظر من خلال السورة، ومن مراجعة المناسبات الواقعية التي صاحبت نزول آياتها، فهو هذا الجهد الضخم الثابت المطرد، الذي تمثله توجيهات القرآن الكريم والتربية النبوية الحكيمة، لإنشاء وتربية تلك الجماعة المسلمة، التي تمثل ذلك العالم الرفيع الكريم النظيف السليم، الذي وجدت حقيقته يوماً على هذه الأرض؛ فلم يعد منذ ذلك الحين فكرة مثالية، ولا حلماً طائراً، يعيش في الخيال‏!‏

هذه الجماعة المثالية التي تمثلت حقيقة واقعة في فترة من فترات التاريخ لم تنبت فجأة ولم توجد مصادفة؛ ولم تخلق بين يوم وليلة‏.‏ كذلك لم تظهر نتيجة نفحة تغير طبائع الأشياء كلها في لحظة أو ومضة‏.‏ بل نمت نمواً طبيعياً بطيئاً كما تنمو الشجرة الباسقة العميقة الجذور‏.‏ وأخذت الزمن اللازم لنموها، كما أخذت الجهد الموصول الثابت المطرد الضروري لهذا النمو‏.‏ واحتاجت إلى العناية الساهرة، والصبر الطويل، والجهد البصير في التهذيب والتشذيب، والتوجيه والدفع، والتقوية والتثبيت‏.‏ واحتاجت إلى معاناة التجارب الواقعية المريرة والابتلاءات الشاقة المضنية؛ مع التوجيه لعبرة هذه التجارب والابتلاءات‏.‏‏.‏ وفي هذا كله كانت تتمثل الرعاية الإلهية لهذه الجماعة المختارة- على علم- لحمل هذه الأمانة الكبرى؛ وتحقيق مشيئة الله بها في الأرض‏.‏ وذلك مع الفضائل الكامنة والاستعدادات المكنونة في ذلك الجيل؛ وفي الظروف والأحوال المهيأة له على السواء‏.‏‏.‏ وبهذا كله أشرقت تلك الومضة العجيبة في تاريخ البشرية؛ ووجدت هذه الحقيقة التي تتراءى من بعيد وكأنها حلم مرفرف في قلب، أو رؤيا مجنحة في خيال‏!‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، واتقوا الله إن الله سميع عليم‏.‏ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي‏.‏ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون‏.‏ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة وأجر عظيم‏.‏

إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم، والله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

تبدأ السورة بأول نداء حبيب، وأول استجاشة للقلوب‏.‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏‏.‏‏.‏ نداء من الله للذين آمنوا به بالغيب‏.‏ واستجاشة لقلوبهم بالصفة التي تربطهم به، وتشعرهم بأنهم له، وأنهم يحملون شارته، وأنهم في هذا الكوكب عبيده وجنوده، وأنهم هنا لأمر يقدره ويريده، وأنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم اختياراً لهم ومنة عليهم، فأولى لهم أن يقفوا حيث أراد لهم أن يكونوا، وأن يقفوا بين يدي الله موقف المنتظر لقضائه وتوجيهه في نفسه وفي غيره، يفعل ما يؤمر ويرضى بما يقسم، ويسلم ويستسلم‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، واتقوا الله إن الله سميع عليم‏}‏‏.‏‏.‏

يا أيها الذين آمنوا، لا تقترحوا على الله ورسوله اقتراحاً، لا في خاصة أنفسكم، ولا في أمور الحياة من حولكم‏.‏ ولا تقولوا في أمر قبل قول الله فيه على لسان رسوله، ولا تقضوا في أمر لا ترجعون فيه إلى قول الله وقول رسوله‏.‏

قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن ناساً كانوا يقولون‏:‏ لو أنزل في كذا وكذا‏.‏ لو صح كذا‏.‏ فكره الله تعالى ذلك‏.‏ وقال العوفي‏:‏ نهوا أن يتكلموا بين يديه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم‏.‏ وقال علي بن طلحة عن ابن عباس- رضي الله عنهما-‏:‏ لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة‏.‏

فهو أدب نفسي مع الله ورسوله‏.‏ وهو منهج في التلقي والتنفيذ‏.‏ وهو أصل من أصول التشريع والعمل في الوقت ذاته‏.‏‏.‏ وهو منبثق من تقوى الله، وراجع إليها‏.‏ هذه التقوى النابعة من الشعور بأن الله سميع عليم‏.‏‏.‏ وكل ذلك في آية واحدة قصيرة، تلمس وتصور كل هذه الحقائق الأصيلة الكبيرة‏.‏

وكذلك تأدب المؤمنون مع ربهم ومع رسولهم؛ فما عاد مقترح منهم يقترح على الله ورسوله؛ وما عاد واحد منهم يدلي برأي لم يطلب منه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يدلي به؛ وما عاد أحد منهم يقضي برأيه في أمر أو حكم، إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول الرسول‏.‏‏.‏

روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة- بإسناده- «عن معاذ- رضي الله عنه- حيث قال له النبي- صلى الله عليه وسلم- حين بعثه إلى اليمن‏:‏» بم تحكم‏؟‏ «قال‏:‏ بكتاب الله تعالى‏.‏ قال- صلى الله عليه وسلم-‏:‏» فإن لم تجد‏؟‏ «قال‏:‏ بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال- صلى الله عليه وسلم-‏:‏» فإن لم تجد‏؟‏ «قال- رضي الله عنه-‏:‏ أجتهد رأيي‏.‏ فضرب في صدره وقال‏:‏ الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما يرضي رسول الله»‏.‏

وحتى لكأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسألهم عن اليوم الذي هم فيه، والمكان الذي هم فيه، وهم يعلمونه حق العلم، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله‏!‏

جاء في حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي- رضي الله عنه- «أن النبي- صلى الله عليه وسلم- سأل في حجة الوداع‏:‏

» أي شهر هذا‏؟‏ «‏.‏‏.‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه‏.‏ فقال‏:‏» أليس ذا الحجة‏؟‏ «قلنا‏:‏ بلى‏!‏ قال‏:‏» أي بلد هذا‏؟‏ «قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه‏.‏ فقال‏:‏» أليس البلدة الحرام‏؟‏ «قلنا بلى‏!‏ قال‏:‏» فأي يوم هذا‏؟‏ «قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه‏.‏ فقال‏:‏» أليس يوم النحر‏؟‏ «قلنا بلى‏!‏‏.‏‏.‏ الخ»‏.‏

فهذه صورة من الأدب، ومن التحرج، ومن التقوى، التي انتهى إليها المسلمون بعد سماعهم ذلك النداء، وذلك التوجيه، وتلك الإشارة إلى التقوى، تقوى الله السميع العليم‏.‏

والأدب الثاني هو أدبهم مع نبيهم في الحديث والخطاب؛ وتوقيرهم له في قلوبهم، توقيراً ينعكس على نبراتهم وأصواتهم؛ ويميز شخص رسول الله بينهم، ويميز مجلسه فيهم؛ والله يدعوهم إليه بذلك النداء الحبيب؛ ويحذرهم من مخالفة ذلك التحذير الرهيب‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي‏.‏ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون‏}‏‏.‏‏.‏

يا أيها الذين آمنوا‏.‏‏.‏ ليوقروا النبي الذي دعاهم إلى الإيمان‏.‏‏.‏ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون‏.‏‏.‏ ليحذروا هذا المزلق الذي قد ينتهي بهم إلى حبوط أعمالهم، وهم غير شاعرين ولا عالمين، ليتقوه‏!‏

ولقد عمل في نفوسهم ذلك النداء الحبيب، وهذا التحذير المرهوب، عمله العميق الشديد‏:‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي، حدثنا نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة‏.‏ قال‏:‏ كاد الخيران أن يهلكا‏.‏‏.‏ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما‏.‏‏.‏ رفعا أصواتهما عند النبي- صلى الله عليه وسلم- حين قدم عليه ركب بني تميم ‏(‏في السنة التاسعة من الهجرة‏)‏ فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس- رضي الله عنه- أخي بني مجاشع ‏(‏أي ليؤمره عليهم‏)‏ وأشار الآخر برجل آخر‏.‏

قال نافع‏:‏ لا أحفظ اسمه ‏(‏في رواية أخرى أن اسمه القعقاع بن معبد‏)‏ فقال‏:‏ أبو بكر لعمر- رضي الله عنهما- ما أردت إلا خلافي‏.‏ قال‏:‏ ما أردت خلافك‏.‏ فارتفعت أصواتهما في ذلك‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون‏}‏‏.‏ قال ابن الزبير- رضي الله عنه-‏:‏ فما كان عمر- رضي الله عنه يسمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الآية حتى يستفهمه‏!‏‏.‏‏.‏ وروي عن أبي بكر- رضي الله عنه- أنه قال لما نزلت هذه الآية‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، والله لا أكلمك إلا كأخي السرار ‏(‏يعني كالهمس‏!‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هاشم، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال‏:‏ «لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي- إلى قوله‏:‏ وأنتم لا تشعرون‏}‏ وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت‏.‏ فقال‏:‏ أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنا من أهل النار‏.‏ حبط عملي‏.‏ وجلس في أهله حزيناً‏.‏ ففقده رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فانطلق بعض القوم إليه، فقالوا له‏:‏ تفقدك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مالك‏؟‏ قال أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي- صلى الله عليه وسلم- فأخبروه بما قال‏.‏ قال النبي- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ لا‏.‏ بل هو من أهل الجنة» قال أنس- رضي الله عنه-‏:‏ فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة‏.‏

فهكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك النداء الحبيب، وذلك التحذير الرعيب؛ وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون‏.‏ ولو كانوا يشعرون لتداركوا أمرهم‏!‏ ولكن هذا المنزلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم، فخافوه واتقوه‏!‏

ونوه الله بتقواهم، وغضهم أصواتهم عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في تعبير عجيب‏:‏

‏{‏إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى‏.‏ لهم مغفرة وأجر عظيم‏}‏‏.‏‏.‏

فالتقوى هبة عظيمة، يختار الله لها القلوب، بعد امتحان واختبار، وبعد تخليص وتمحيص، فلا يضعها في قلب إلا وقد تهيأ لها، وقد ثبت أنه يستحقها‏.‏ والذين يغضون أصواتهم عند رسول الله قد اختبر الله قلوبهم وهيأها لتلقي تلك الهبة‏.‏ هبة التقوى‏.‏ وقد كتب لهم معها وبها المغفرة والأجر العظيم‏.‏

إنه الترغيب العميق، بعد التحذير المخيف‏.‏

بها يربي الله قلوب عباده المختارين، ويعدها للأمر العظيم‏.‏ الذي نهض به الصدر الأول على هدى من هذه التربية ونور‏.‏

وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي- صلى الله عليه وسلم- قد ارتفعت أصواتهما، فجاء فقال‏:‏ أتدريان أين أنتما‏؟‏ ثم قال‏:‏ من أين أنتما‏؟‏ قالا‏:‏ من أهل الطائف‏.‏ فقال‏:‏ لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً‏!‏

وعرف علماء هذه الأمة وقالوا‏:‏ إنه يكره رفع الصوت عند قبره- صلى الله عليه وسلم- كما كان يكره في حياته- عليه الصلاة والسلام- احتراماً له في كل حال‏.‏

ثم أشار إلى حادث وقع من وفد بني تميم حين قدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في العام التاسع الذي سمي «عام الوفود»‏.‏‏.‏ لمجيء وفود العرب من كل مكان بعد فتح مكة، ودخولهم في الإسلام، وكانوا أعراباً جفاة، فنادوا من وراء حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم المطلة على المسجد النبوي الشريف‏:‏ يا محمد‏.‏ اخرج لنا‏.‏ فكره النبي- صلى الله عليه وسلم- هذه الجفوة وهذا الإزعاج‏.‏ فنزل قوله تعالى‏:‏

‏{‏إن الذين ينادونك من ورآء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم، والله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

فوصفهم الله بأن أكثرهم لا يعقلون‏.‏ وكرّه إليهم النداء على هذه الصفة المنافية للأدب والتوقير اللائق بشخص النبي- صلى الله عليه وسلم- وحرمة رسول الله القائد والمربي‏.‏ وبيّن لهم الأولى والأفضل وهو الصبر والانتظار حتى يخرج إليهم‏.‏ وحبب إليهم التوبة والإنابة، ورغبهم في المغفرة والرحمة‏.‏

وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع، وتجاوزوا به شخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى كل أستاذ وعالم‏.‏ لا يزعجونه حتى يخرج إليهم؛ ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم‏.‏‏.‏ يحكى عن أبي عبيد- العالم الزاهد الراوية الثقة- أنه قال‏:‏ «ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه»‏.‏‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين‏.‏ واعلموا أن فيكم رسول الله، لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم؛ ولكن الله حبَّب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وكَّره إليكم الكفر والفسوق والعصيان، أولئك هم الراشدون، فضلاً من الله ونعمة، والله عليم حكيم‏}‏‏.‏‏.‏

كان النداء الأول لتقرير جهة القيادة ومصدر التلقي‏.‏ وكان النداء الثاني لتقرير ما ينبغي من أدب للقيادة وتوقير‏.‏ وكان هذا وذلك هو الأساس لكافة التوجيهات والتشريعات في السورة‏.‏ فلا بد من وضوح المصدر الذي يتلقى عنه المؤمنون، ومن تقرير مكان القيادة وتوقيرها، لتصبح للتوجيهات بعد ذلك قيمتها ووزنها وطاعتها‏.‏

ومن ثم جاء هذا النداء الثالث يبين للمؤمنين كيف يتلقون الأنباء وكيف يتصرفون بها؛ ويقرر ضرورة التثبت من مصدرها‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين‏}‏‏.‏‏.‏

ويخصص الفاسق لأنه مظنة الكذب‏.‏ وحتى لا يشيع الشك بين الجماعة المسلمة في كل ما ينقله أفرادها من أنباء، فيقع ما يشبه الشلل في معلوماتها‏.‏ فالأصل في الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها، وأن تكون أنباؤهم مصدقة مأخوذاً بها‏.‏ فأما الفاسق فهو موضع الشك حتى يثبت خبره‏.‏ وبذلك يستقيم أمر الجماعة وسطاً بين الأخذ والرفض لما يصل إليها من أنباء‏.‏ ولا تعجل الجماعة في تصرف بناء على خبر فاسق‏.‏ فتصيب قوماً بظلم عن جهالة وتسرع‏.‏ فتندم على ارتكابها ما يغضب الله، ويجانب الحق والعدل في اندفاع‏.‏

وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على صدقات بني المصطلق‏.‏ وقال ابن كثير‏.‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ أرسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال‏:‏ إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك ‏(‏زاد قتادة وأنهم قد ارتدوا عن الإسلام‏)‏ فبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد- رضي الله عنه- إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً، فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالداً- رضي الله عنه- أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد- رضي الله عنه- فرأى الذي يعجبه؛ فرجع إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة‏.‏ قال قتادة‏:‏ فكان الرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ «التثبت من الله والعجلة من الشيطان»‏.‏ وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم ابن أبي ليلى، ويزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل بن حبان‏.‏ وغيرهم في هذه الآية أنها نزلت في الوليد بن عقبة‏.‏ والله أعلم‏.‏‏.‏ ‏(‏انتهى كلام ابن كثير في التفسير‏)‏‏.‏‏.‏

ومدلول الآية عام، وهو يتضمن مبدأ التمحيص والتثبت من خبر الفاسق؛ فأما الصالح فيؤخذ بخبره، لأن هذا هو الأصل في الجماعة المؤمنة، وخبر الفاسق استثناء‏.‏ والأخذ بخبر الصالح جزء من منهج التثبت لأنه أحد مصادره‏.‏ أما الشك المطلق في جميع المصادر وفي جميع الأخبار، فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين الجماعة المؤمنة، ومعطل لسير الحياة وتنظيمها في الجماعة‏.‏ والإسلام يدع الحياة تسير في مجراها الطبيعي، ويضع الضمانات والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها ابتداء‏.‏

وهذا نموذج من الإطلاق والاستثناء في مصادر الأخبار‏.‏

ويبدو أنه كان من بعض المسلمين اندفاع عند الخبر الأول الذي نقله الوليد بن عقبة، وإشارة على النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يعجل بعقابهم‏.‏ وذلك حمية من هذا الفريق لدين الله وغضباً لمنع الزكاة‏.‏ فجاءت الآية التالية تذكرهم بالحقيقة الضخمة والنعمة الكبيرة التي تعيش بينهم ليدركوا قيمتها وينتبهوا دائماً لوجودها‏:‏

‏{‏واعلموا أن فيكم رسول الله‏}‏‏.‏‏.‏

وهي حقيقة تتصور بسهولة لأنها وقعت ووجدت‏.‏ ولكنها عند التدبر تبدو هائلة لا تكاد تتصور‏!‏ وهل من اليسير أن يتصور الإنسان أن تتصل السماء بالأرض صلة دائمة حية مشهودة؛ فتقول السماء للأرض؛ وتخبر أهلها عن حالهم وجهرهم وسرهم، وتقوّم خطاهم أولا بأول، وتشير عليهم في خاصة أنفسهم وشؤونهم‏.‏ ويفعل أحدهم الفعلة ويقول أحدهم القولة، ويسر أحدهم الخالجة؛ فإذا السماء تطلع، وإذا الله- جل جلاله- ينبئ رسوله بما وقع، ويوجهه لما يفعل وما يقول في هذا الذي وقع‏.‏‏.‏ إنه لأمر‏.‏ وإنه لنبأ عظيم‏.‏ وإنها لحقيقة هائلة‏.‏ قد لا يحس بضخامتها من يجدها بين يديه‏.‏ ومن ثم كان هذا التنبيه لوجودها بهذا الأسلوب‏:‏ ‏{‏واعلموا أن فيكم رسول الله‏}‏‏.‏‏.‏ اعلموا هذا وقدروه حق قدره، فهو أمر عظيم‏.‏

ومن مقتضيات العلم بهذا الأمر العظيم أن لا يقدموا بين يدي الله ورسوله‏.‏ ولكنه يزيد هذا التوجيه إيضاحاً وقوة، وهو يخبرهم أن تدبير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لهم بوحي الله أو إلهامه فيه الخير لهم والرحمة واليسر‏.‏ وأنه لو أطاعهم فيما يعن لهم أنه خير لعنتوا وشق عليهم الأمر‏.‏ فالله أعرف منهم بما هو خير لهم، ورسوله رحمة لهم فيما يدبر لهم ويختار‏:‏

‏{‏لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم‏}‏‏.‏‏.‏

وفي هذا إيحاء لهم بأن يتركوا أمرهم لله ورسوله، وأن يدخلوا في السلم كافة، ويستسلموا لقدر الله وتدبيره، ويتلقوا عنه ولا يقترحوا عليه‏.‏

ثم يوجههم إلى نعمة الإيمان الذي هداهم إليه، وحرك قلوبهم لحبه، وكشف لهم عن جماله وفضله، وعلق أرواحهم به؛ وكره إليكم الكفر والفسوق والمعصية، وكان هذا كله من رحمته وفيضه‏:‏

‏{‏ولكن الله حبَّب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم؛ وكَّره إليكم الكفر والفسوق والعصيان‏.‏ أولئك هم الراشدون‏.‏ فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم‏}‏‏.‏‏.‏

واختيار الله لفريق من عباده، ليشرح صدورهم للإيمان، ويحرك قلوبهم إليه، ويزينه لهم فتهفو إليه أرواحهم، وتدرك ما فيه من جمال وخير‏.‏‏.‏ هذا الاختبار فضل من الله ونعمة، دونها كل فضل وكل نعمة‏.‏ حتى نعمة الوجود والحياة أصلاً، تبدوا في حقيقتها أقل من نعمة الإيمان وأدنى‏!‏ وسيأتي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان‏}‏ فنفصل القول إن شاء الله في هذه المنة‏.‏

والذي يستوقف النظر هنا هو تذكيرهم بأن الله هو الذي أراد بهم هذا الخير، وهو الذي خلص قلوبهم من ذلك الشر‏:‏ الكفر والفسوق والعصيان‏.‏ وهو الذي جعلهم بهذا راشدين فضلاً منه ونعمة‏.‏ وأن ذلك كله كان عن علم منه وحكمة‏.‏‏.‏ وفي تقرير هذه الحقيقة إيحاء لهم كذلك بالاستسلام لتوجيه الله وتدبيره، والاطمئنان إلى ما وراءه من خير عليهم وبركة، وترك الاقتراح والاستعجال والاندفاع فيما قد يظنونه خيراً لهم؛ قبل أن يختار لهم الله‏.‏ فالله يختار لهم الخير، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيهم، يأخذ بيدهم إلى هذا الخير‏.‏ وهذا هو التوجيه المقصود في التعقيب‏.‏

وإن الإنسان ليعجل، وهو لا يدري ما وراء خطوته‏.‏ وإن الإنسان ليقترح لنفسه ولغيره، وهو لا يعرف ما الخير وما الشر فيما يقترح‏.‏ ‏{‏ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً‏}‏ ولو استسلم لله، ودخل في السلم كافة، ورضي اختيار الله له، واطمأن إلى أن اختيار الله أفضل من اختياره، وأرحم له وأعود عليه بالخير‏.‏ لاستراح وسكن‏.‏ ولأمضى هذه الرحلة القصيرة على هذا الكوكب في طمأنينة ورضى‏.‏‏.‏ ولكن هذا كذلك منة من الله وفضل يعطيه من يشاء‏.‏

‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما‏.‏ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله‏.‏ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا‏.‏ إن الله يحب المقسطين‏.‏ إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع المؤمن من الخصام والتفكك، تحت النزوات والاندفاعات‏.‏ تأتي تعقيباً على تبين خبر الفاسق، وعدم العجلة والاندفاع وراء الحمية والحماسة، قبل التثبت والاستيقان‏.‏

وسواء كان نزول هذه الآية بسبب حادث معين كما ذكرت الروايات، أم كان تشريعاً لتلافي مثل هذه الحالة، فهو يمثل قاعدة عامة محكمة لصيانة الجماعة الإسلامية من التفكك والتفرق‏.‏ ثم لإقرار الحق والعدل والصلاح‏.‏ والارتكان في هذا كله إلى تقوى الله ورجاء رحمته بإقرار العدل والصلاح‏.‏

والقرآن قد واجه- أو هو يفترض- إمكان وقوع القتال بين طائفتين من المؤمنين‏.‏ ويستبقي لكلتا الطائفتين وصف الإيمان مع اقتتالهما، ومع احتمال أن إحداهما قد تكون باغية على الأخرى، بل مع احتمال أن تكون كلتاهما باغية في جانب من الجوانب‏.‏

وهو يكلف الذين آمنوا- من غير الطائفتين المتقاتلتين طبعاً- أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين‏.‏ فإن بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحق- ومثله أن تبغيا معاً برفض الصلح أو رفض قبول حكم الله في المسائل المتنازع عليها- فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذن، وأن يظلوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله‏.‏ وأمر الله هو وضع الخصومة بين المؤمنين، وقبول حكم الله فيما اختلفوا فيه، وأدى إلى الخصام والقتال‏.‏

فإذا تم قبول البغاة لحكم الله، قام المؤمنون بالإصلاح القائم على العدل الدقيق طاعة لله وطلباً لرضاه‏.‏‏.‏ ‏{‏إن الله يحب المقسطين‏}‏‏.‏‏.‏

ويعقب على هذه الدعوة وهذا الحكم باستجاشة قلوب الذين آمنوا واستحياء الرابطة الوثيقة بينهم، والتي جمعتهم بعد تفرق، وألفت بينهم بعد خصام؛ وتذكيرهم بتقوى الله، والتلويح لهم برحمته التي تنال بتقواه‏:‏

‏{‏إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون‏}‏‏.‏‏.‏

ومما يترتب على هذه الأخوة أن يكون الحب والسلام والتعاون والوحدة هي الأصل في الجماعة المسلمة، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الإستثناء الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه؛ وأن يستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين الآخرين للبغاة من إخوانهم ليردوهم إلى الصف، وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة‏.‏ وهو إجراء صارم وحازم كذلك‏.‏

ومن مقتضيات هذه القاعدة كذلك ألا يجهز على جريح في معارك التحكيم هذه، وألا يقتل أسير، وألا يتعقب مدبر ترك المعركة، وألقى السلاح، ولا تؤخذ أموال البغاة غنيمة‏.‏ لأن الغرض من قتالهم ليس هو القضاء عليهم، وإنما هو ردهم إلى الصف، وضمهم إلى لواء الأخوة الإسلامية‏.‏

والأصل في نظام الأمة المسلمة أن يكون للمسلمين في أنحاء الأرض إمامة واحدة، وأنه إذا بويع لإمام، وجب قتل الثاني، واعتباره ومن معه فئة باغية يقاتلها المؤمنون مع الإمام‏.‏ وعلى هذا الأصل قام الإمام علي- رضي الله عنه- بقتال البغاة في وقعة الجمل وفي وقعة صفين؛ وقام معه بقتالهم أجلاء الصحابة رضوان الله عليهم‏.‏ وقد تخلف بعضهم عن المعركة منهم سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وابن عمر- رضي الله عنهم- إما لأنهم لم يتبينوا وجه الحق في الموقف في حينه فاعتبروها فتنة‏.‏ وإما لأنهم كما يقول الإمام الجصاص‏:‏ «ربما رأوا الإمام مكتفياً بمن معه مستغنياً عنهم بأصحابه فاستجازوا القعود عنه لذلك»‏.‏‏.‏‏.‏ والاحتمال الأول أرجح، تدل عليه بعض أقوالهم المروية‏.‏ كما يدل عليه ما روي عن ابن عمر- رضي الله عنه- في ندمه فيما بعد على أنه لم يقاتل مع الإمام‏.‏

ومع قيام هذا الأصل فإن النص القرآني يمكن إعماله في جميع الحالات- بما في ذلك الحالات الاستثنائية التي يقوم فيها إمامان أو أكثر في أقطار متفرقة متباعدة بين بلاد المسلمين، وهي حالة ضرورة واستثناء من القاعدة- فواجب المسلمين أن يحاربوا البغاة مع الإمام الواحد، إذا خرج هؤلاء البغاة عليه‏.‏ أو إذا بغت طائفة على طائفة في إمامته دون خروج عليه‏.‏ وواجب المسلمين كذلك أن يقاتلوا البغاة إذا تمثلوا في إحدى الإمامات المتعددة في حالات التعدد الاستثنائية، بتجمعهم ضد الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله‏.‏ وهكذا يعمل النص القرآني في جميع الظروف والأحوال‏.‏

وواضح أن هذا النظام، نظام التحكيم وقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله، نظام له السبق من حيث الزمن في كل محاولات البشرية في هذا الطريق‏.‏ وله الكمال والبراءة من العيب والنقص الواضحين في كل محاولات البشرية البائسة القاصرة التي حاولتها في كل تجاربها الكسيحة‏!‏ وله بعد هذا وذاك صفة النظافة والأمانة والعدل المطلق، لأن الاحتكام فيه إلى أمر الله الذي لا يشوبه غرض ولا هوى، ولا يتعلق به نقص أو قصور‏.‏‏.‏ ولكن البشرية البائسة تطلع وتعرج، وتكبو وتتعثر‏.‏ وأمامها الطريق الواضح الممهد المستقيم‏!‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا، لا يسخر قوم من قوم، عسى أن يكونوا خيراً منهم؛ ولا نسآء من نسآء، عسى أن يكن خيراً منهن‏.‏ ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم‏:‏ الفسوق بعد الإيمان‏.‏ ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون‏}‏‏.‏‏.‏

إن المجتمع الفاضل الذي يقيمه الإسلام بهدى القرآن مجتمع له أدب رفيع، ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس‏.‏ وهي من كرامة المجموع‏.‏ ولمز أي فرد هو لمز لذات النفس، لأن الجماعة كلها وحدة، كرامتها واحدة‏.‏

والقرآن في هذه الآية يهتف للمؤمنين بذلك النداء الحبيب‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏‏.‏ وينهاهم أن يسخر قوم بقوم، أي رجال برجال، فلعلهم خير منهم عند الله، أو أن يسخر نساء من نساء فلعلهن خير منهن في ميزان الله‏.‏

وفي التعبير إيحاء خفي بأن القيم الظاهرة التي يراها الرجال في أنفسهم ويراها النساء في أنفسهن ليست هي القيم الحقيقية، التي يوزن بها الناس‏.‏ فهناك قيم أخرى، قد تكون خافية عليهم، يعلمها الله، ويزن بها العباد‏.‏ وقد يسخر الرجل الغني من الرجل الفقير‏.‏ والرجل القوي من الرجل الضعيف، والرجل السوي من الرجل المؤوف‏.‏ وقد يسخر الذكي الماهر من الساذج الخام‏.‏ وقد يسخر ذو الأولاد من العقيم‏.‏ وذو العصبية من اليتيم‏.‏‏.‏‏.‏ وقد تسخر الجميلة من القبيحة، والشابة من العجوز، والمعتدلة من المشوهة، والغنية من الفقيرة‏.‏‏.‏ ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست هي المقياس، فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين‏!‏

ولكن القرآن لا يكتفي بهذا الإحياء، بل يستجيش عاطفة الأخوة الإيمانية، ويذكر الذين آمنوا بأنهم نفس واحدة من يلمزها فقد لمزها ‏{‏ولا تلمزوا أنفسكم‏}‏‏.‏‏.‏ واللمز‏:‏ العيب‏.‏ ولكن للفظة جرساً وظلاً؛ فكأنما هي وخزة حسية لا عيبة معنوية‏!‏

ومن السخرية واللمز التنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها، ويحسون فيها سخرية وعيباً‏.‏ ومن حق المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه ويزري به‏.‏ ومن أدب المؤمن ألا يؤذي أخاه بمثل هذا‏.‏ وقد غير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أسماء وألقاباً كانت في الجاهلية لأصحابها، أحس فيها بحسه المرهف، وقلبه الكريم، بما يزري بأصحابها، أو يصفهم بوصف ذميم‏.‏

والآية بعد الإحياء بالقيم الحقيقية في ميزان الله، وبعد استجاشة شعور الأخوة، بل شعور الاندماج في نفس واحدة، تستثير معنى الإيمان، وتحذر المؤمنين من فقدان هذا الوصف الكريم، والفسوق عنه والانحراف بالسخرية واللمز والتنابز‏:‏ ‏{‏بئس الاسم‏:‏ الفسوق بعد الإيمان‏}‏‏.‏ فهو شيء يشبه الارتداد عن الإيمان‏!‏ وتهدد باعتبار هذا ظلماً، والظلم أحد التعبيرات عن الشرك‏:‏ ‏{‏ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون‏}‏‏.‏‏.‏ وبذلك تضع قواعد الأدب النفسي لذلك المجتمع الفاضل الكريم‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً‏؟‏ فكرهتموه واتقوا الله، إن الله تواب رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

فأما هذه الآية فتقيم سياجاً آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم، في أسلوب مؤثر عجيب‏.‏‏.‏

وتبدأ- على نسق السورة- بذلك النداء الحبيب‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏‏.‏‏.‏ ثم تأمرهم باجتناب كثير من الظن، فلا يتركوا نفوسهم نهباً لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك‏.‏ وتعلل هذا الأمر‏:‏ ‏{‏إن بعض الظن إثم‏}‏‏.‏ وما دام النهي منصباً على أكثر الظن، والقاعدة أن بعض الظن إثم، فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيِّئ أصلاً، لأنه لا يدري أي ظنونه تكون إثماً‏!‏

بهذا يطهر القرآن الضمير من داخله أن يتلوث بالظن السيِّئ، فيقع في الإثم؛ ويدعه نقياً بريئاً من الهواجس والشكوك، أبيض يكن لإخوانه المودة التي يخدشها ظن السوء؛ والبراءة التي لا تلوثها الريب والشكوك، والطمأنينة التي لا يعكرها القلق والتوقع‏.‏ وما أروح الحياة في مجتمع بريء من الظنون‏!‏

ولكن الأمر لا يقف في الإسلام عند هذا الأفق الكريم الوضيء في تربية الضمائر والقلوب‏.‏ بل إن هذا النص يقيم مبدأ في التعامل، وسياجاً حول حقوق الناس الذين يعيشون في مجتمعه النظيف، فلا يؤخذون بظنه، ولا يحاكمون بريبة؛ ولا يصبح الظن أساساً لمحاكمتهم‏.‏ بل لا يصلح أن يكون أساساً للتحقيق معهم، ولا للتحقيق حولهم‏.‏ والرسول صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ «إذا ظننت فلا تحقق»‏.‏ ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء، مصونة حقوقهم، وحرياتهم، واعتبارهم‏.‏ حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه‏.‏ ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم‏!‏

فأي مدى من صيانة كرامة الناس وحرياتهم وحقوقهم واعتبارهم ينتهي إليه هذا النص‏!‏ وأين أقصى ما تتعاجب به أحسن البلاد ديمقراطية وحرية وصيانة لحقوق الإنسان فيها من هذا المدى الذي هتف به القرآن الكريم للذين آمنوا، وقام عليه المجتمع الإسلامي فعلاً، وحققه في واقع الحياة، بعد أن حققه في واقع الضمير‏؟‏

ثم يستطرد في ضمانات المجتمع إلى مبدأ آخر يتصل باجتناب الظنون‏:‏

‏{‏ولا تجسسوا‏}‏‏.‏

والتجسس قد يكون هو الحركة التالية للظن؛ وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات، والاطلاع على السوءات‏.‏

والقرآن يقاوم هذا العمل الدنيء من الناحية الأخلاقية، لتطهير القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبع عورات الآخرين وكشف سوآتهم‏.‏ وتمشياً مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب‏.‏

ولكن الأمر أبعد من هذا أثراً‏.‏ فهو مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في نظامه الاجتماعي، وفي إجراءاته التشريعية والتنفيذية‏.‏

إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور، ولا أن تمس بحال من الأحوال‏.‏

ففي المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم، آمنين على بيوتهم، آمنين على أسرارهم، آمنين على عوراتهم‏.‏ ولا يوجد مبرر- مهما يكن- لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات‏.‏ حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها لا تصلح في النظام الإسلامي ذريعة للتجسس على الناس‏.‏ فالناس على ظواهرهم، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم‏.‏ وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم‏.‏ وليس لأحد أن يظن أو يتوقع، أو حتى يعرف أنهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما، فيتجسس عليهم ليضبطهم‏!‏ وكل ما له عليهم أن يأخذهم بالجريمة عند وقوعها وانكشافها، مع الضمانات الأخرى التي ينص عليها بالنسبة لكل جريمة‏.‏

قال أبو داود‏:‏ حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، قال‏:‏ حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب‏.‏ قال‏:‏ أتى ابن مسعود، فقيل له‏:‏ هذا فلان تقطر لحيته خمراً‏.‏ فقال عبد الله‏:‏ إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به‏.‏

وعن مجاهد‏:‏ لا تجسسوا، خذوا بما ظهر لكم، ودعوا ما ستر الله‏.‏

وروى الإمام أحمد- بإسناده- عن دجين كاتب عقبة‏.‏ قال‏:‏ قلت لعقبة‏:‏ إن لنا جيراناً يشربون الخمر، وأنا داع لهم الشرط، فيأخذونهم‏.‏ قال‏:‏ لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم‏.‏ قال‏:‏ ففعل فلم ينتهوا‏.‏ قال‏:‏ فجاءه دجين فقال‏:‏ إني قد نهيتهم فلم ينتهوا‏.‏ وإني داع لهم الشرط فتأخذهم‏.‏ فقال له عقبة‏:‏ ويحك‏!‏ لا تفعل، فإني سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ «من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها»

وقال سفيان الثوري، عن راشد بن سعد، عن معاوية بن أبي سفيان، قال‏:‏ سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» فقال أبو الدرداء- رضي الله عنه- كلمة سمعها معاوية- رضي الله عنه- من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نفعه الله تعالى بها‏.‏

فهكذا أخذ النص طريقه في النظام العملي للمجتمع الإسلامي‏!‏ ولم يعد مجرد تهذيب للضمير وتنظيف للقلب، بل صار سياجاً حول حرمات الناس وحقوقهم وحرياتهم، فلا تمس من قريب أو بعيد، تحت أي ذريعة أو ستار‏.‏

فأين هذا المدى البعيد‏؟‏ وأين هذا الأفق السامق‏؟‏ وأين ما يتعاجب به أشد الأمم ديمقراطية وحرية وحفظاً لحقوق الإنسان بعد ألف وأربع مائة عام‏؟‏

بعد ذلك يجيء النهي عن الغيبة في تعبير عجيب، يبدعه القرآن إبداعاً‏:‏

‏{‏ولا يغتب بعضكم بعضاً‏.‏ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً‏؟‏ فكرهتموه‏}‏‏.‏‏.‏

لا يغتب بعضكم بعضاً‏.‏ ثم يعرض مشهداً تتأذى له أشد النفوس كثافة وأقل الأرواح حساسية‏.‏ مشهد الأخ يأكل لحم أخيه‏.‏‏.‏ ميتاً‏.‏‏.‏ ‏!‏ ثم يبادر فيعلن عنهم أنهم كرهوا هذا الفعل المثير للاشمئزاز، وأنهم إذن كرهوا الاغتياب‏!‏

ثم يعقب على كل ما نهاهم عنه في الآية من ظن وتجسس وغيبة باستجاشة شعور التقوى، والتلويح لمن اقترف من هذا شيئاً أن يبادر بالتوبة تطلعاً للرحمة‏:‏

‏{‏واتقوا الله إن الله تواب رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

ويسري هذا النص في حياة الجماعة المسلمة فيتحول إلى سياج حول كرامة الناس، وإلى أدب عميق في النفوس والقلوب‏.‏ ويتشدد فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متمشياً مع الأسلوب القرآني العجيب في إثارة الاشمئزاز والفزع من شبح الغيبة البغيض‏.‏

وفي حديث رواه أبو داود‏:‏ حدثنا القعنبي، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قيل‏:‏ «يا رسول الله، ما الغيبة‏؟‏ قال- صلى الله عليه وسلم-‏:‏» ذكرك أخاك بما يكره «‏.‏ قيل‏:‏ أفرأيت إن كان في أخي ما أقول‏؟‏ قال- صلى الله عيه وسلم-‏:‏ إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته»‏.‏ ورواه الترمذي وصححه‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة، «عن عائشة- رضي الله عنها- قالت‏:‏ قلت للنبي- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ حسبك من صفية كذا وكذا ‏(‏قال عن مسدد تعني قصيرة‏)‏ فقال- صلى الله عليه وسلم-‏:‏» لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته «‏.‏ قالت‏:‏ وحكيت له إنساناً‏.‏ فقال- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا»‏.‏

وروى أبو داود بإسناده عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم‏.‏ قلت‏:‏ من هؤلاء يا جبرائيل‏؟‏ قال‏:‏ هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم»‏.‏

ولما اعترف ماعز بالزنا هو والغامدية، ورجمهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد إقرارهما متطوعين وإلحاحهما عليه في تطهيرهما، سمع النبي- صلى الله عليه وسلم- رجلين يقول أحدهما لصاحبه‏:‏ ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب‏!‏ ثم سار النبي- صلى الله عليه وسلم- حتى مر بجيفة حمار، فقال‏:‏

«أين فلان وفلان‏؟‏ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار» قالا‏:‏ غفر الله لك يا رسول الله‏!‏ وهل يؤكل هذا‏؟‏ قال- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد أكلاً منه‏.‏ والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها»‏.‏

وبمثل هذا العلاج الثابت المطرد تطهر المجتمع الإسلامي وارتفع، وانتهى إلى ما صار إليه‏:‏ حلماً يمشي على الأرض، ومثلاً يتحقق في واقع التاريخ‏.‏

وبعد هذه النداءات المتكررة للذين آمنوا؛ وأخذهم إلى ذلك الأفق السامي الوضيء من الآداب النفسية والاجتماعية؛ وإقامة تلك السياجات القوية من الضمانات حول كرامتهم وحريتهم وحرماتهم، وضمان هذا كله بتلك الحساسية التي يثيرها في أرواحهم، بالتطلع إلى الله وتقواه‏.‏‏.‏

بعد هذه المدارج إلى ذلك الأفق السامق، يهتف بالإنسانية جميعها على اختلاف أجناسها وألوانها، ليردها إلى أصل واحد، وإلى ميزان واحد، هو الذي تقوم به تلك الجماعة المختارة الصاعدة إلى ذلك الأفق السامق‏:‏

‏{‏يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبآئل لتعارفوا‏.‏ إن أكرمكم عند الله أتقاكم‏.‏ إن الله عليم خبير‏}‏‏.‏‏.‏

يا أيها الناس‏.‏ يا أيها المختلفون أجناساً وألواناً، المتفرقون شعوباً وقبائل‏.‏ إنكم من أصل واحد‏.‏ فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بدداً‏.‏

يا أيها الناس‏.‏ والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم‏.‏‏.‏ من ذكر وأنثى‏.‏‏.‏ وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوباً وقبائل‏.‏ إنها ليست التناحر والخصام‏.‏ إنما هي التعارف والوئام‏.‏ فأما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات‏.‏ وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله‏.‏ إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم، ويعرف به فضل الناس‏:‏ ‏{‏إن أكرمكم عند الله أتقاكم‏}‏‏.‏‏.‏ والكريم حقاً هو الكريم عند الله‏.‏ وهو يزنكم عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين‏:‏ ‏{‏إن الله عليم خبير‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا تسقط جميع الفوارق، وتسقط جميع القيم، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان‏.‏

وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض؛ وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس‏.‏ ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون‏:‏ ألوهية الله للجميع، وخلقهم من أصل واحد‏.‏ كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته‏:‏ لواء التقوى في ظل الله‏.‏

وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة، والعصبية للبيت‏.‏ وكلها من الجاهلية وإليها، تتزيا بشتى الأزياء، وتسمى بشتى الأسماء‏.‏ وكلها جاهلية عارية من الإسلام‏!‏

وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها، ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة‏:‏ راية الله‏.‏‏.‏ لا راية الوطنية‏.‏ ولا راية القومية‏.‏ ولا راية البيت‏.‏ ولا راية الجنس‏.‏ فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام‏.‏

قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب‏.‏ ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان»‏.‏

وقال- صلى الله عليه وسلم- عن العصبية الجاهلية‏:‏ «دعوها فإنها منتنة»‏.‏

وهذه هي القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي‏.‏ المجتمع الإنساني العالمي، الذي تحاول البشرية في خيالها المحلق أن تحقق لوناً من ألوانه فتخفق، لأنها لا تسلك إليه الطريق الواحد الواصل المستقيم‏.‏‏.‏ الطريق إلى الله‏.‏‏.‏ ولأنها لا تقف تحت الراية الواحدة المجمعة‏.‏‏.‏ راية الله‏.‏‏.‏

وفي ختام السورة تأتي المناسبة لبيان حقيقة الإيمان وقيمته، في الرد على الأعراب الذين قالوا‏:‏ «آمنا» وهم لا يدركون حقيقة الإيمان‏.‏ والذين منوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنهم أسلموا وهم لا يقدرون منة الله على عباده بالإيمان‏:‏

‏{‏قالت الأعراب‏:‏ آمنا‏.‏ قل‏:‏ لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا‏.‏ ولما يدخل الإيمان في قلوبكم‏.‏ وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً، إن الله غفور رحيم‏.‏ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون‏.‏ قل‏:‏ أتعلمون الله بدينكم‏؟‏ والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، والله بكل شيء عليم‏.‏ يمنون عليك أن أسلموا‏.‏ قل‏:‏ لا تمنوا عليَّ إسلامكم، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين‏.‏ إن الله يعلم غيب السماوات والأرض، والله بصير بما تعملون‏}‏‏.‏‏.‏

قيل‏:‏ إنها نزلت في أعراب بني أسد‏.‏ قالوا‏:‏ آمنا‏.‏ أول ما دخلوا في الإسلام‏.‏ ومنوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالوا‏:‏ يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك‏.‏ فأراد الله أن يعلمهم حقيقة ما هو قائم في نفوسهم وهم يقولون هذا القول‏.‏ وأنهم دخلوا في الإسلام استسلاماً، ولم تصل قلوبهم بعد إلى مرتبة الإيمان‏.‏ فدل بهذا على أن حقيقة الإيمان لم تستقر في قلوبهم‏.‏ ولم تشربها أرواحهم‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ لم تؤمنوا‏.‏ ولكن قولوا‏:‏ أسلمنا‏.‏ ولما يدخل الإيمان في قلوبكم‏}‏‏.‏‏.‏

ومع هذا فإن كرم الله اقتضى أن يجزيهم على كل عمل صالح يصدر منهم لا ينقصهم منه شيئاً‏.‏ فهذا الإسلام الظاهر الذي لم يخالط القلب فيستحيل إيماناً واثقاً مطمئناً‏.‏

هذا الإسلام يكفي لتحسب لهم أعمالهم الصالحة فلا تضيع كما تضيع أعمال الكفار‏.‏ ولا ينقص من أجرها شيء من عند الله ما بقوا على الطاعة والإستسلام‏:‏ ‏{‏وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً‏}‏‏.‏ ذلك أن الله أقرب إلى المغفرة والرحمة، فيقبل من العبد أول خطوة، ويرضى من الطاعة والتسليم، إلى أن يستشعر قلبه الإيمان والطمأنينة‏:‏ ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

ثم بين لهم حقيقة الإيمان‏:‏

‏{‏إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا‏.‏ وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون‏}‏‏.‏

فالإيمان تصديق القلب بالله وبرسوله‏.‏ التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب‏.‏ التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب، ولا تهجس فيه الهواجس، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور‏.‏ والذي ينبثق منه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله‏.‏ فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه، لا بد مندفع لتحقيق حقيقته في خارج القلب‏.‏ في واقع الحياة‏.‏ في دنيا الناس‏.‏ يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة‏.‏ ولا يطيق الصبر على المفارقة بين الصورة الإيمانية التي في حسه، والصورة الواقعية من حوله‏.‏ لأن هذه المفارقة تؤذيه وتصدمه في كل لحظة‏.‏ ومن هنا هذا الانطلاق إلى الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس‏.‏ فهو انطلاق ذاتي من نفس المؤمن‏.‏ يريد به أن يحقق الصورة الوضيئة التي في قلبه، ليراها ممثلة في واقع الحياة والناس‏.‏ والخصومة بين المؤمن وبين الحياة الجاهلية من حوله خصومة ذاتية ناشئة من عدم استطاعته حياة مزدوجة بين تصوره الإيماني، وواقعه العملي‏.‏ وعدم استطاعته كذلك التنازل عن تصوره الإيماني الكامل الجميل المستقيم في سبيل واقعه العملي الناقص الشائن المنحرف‏.‏ فلا بد من حرب بينه وبين الجاهلية من حوله، حتى تنثني هذه الجاهلية إلى التصور الإيماني والحياة الإيمانية‏.‏

‏{‏أولئك هم الصادقون‏}‏‏.‏‏.‏ الصادقون في عقيدتهم‏.‏ الصادقون حين يقولون‏:‏ إنهم مؤمنون‏.‏ فإذا لم تتحقق تلك المشاعر في القلب، ولم تتحقق آثارها في واقع الحياة، فالإيمان لا يتحقق‏.‏ والصدق في العقيدة وفي ادعائها لا يكون‏.‏

ونقف قليلاً أمام هذا الاحتراس المعترض في الآية‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله- ثم لم يرتابوا-‏}‏‏.‏‏.‏ إنه ليس مجرد عبارة‏.‏ إنما هو لمس لتجربة شعورية واقعية‏.‏ وعلاج لحالة تقوم في النفس‏.‏ حتى بعد إيمانها‏.‏‏.‏ ‏{‏ثم لم يرتابوا‏}‏ وشبيه بها الاحتراس في قوله تعالى‏.‏‏.‏ ‏{‏إن الذين قالوا ربنا الله‏.‏‏.‏ ثم استقاموا‏.‏‏.‏‏}‏ فعدم الارتياب‏.‏ والاستقامة على قولة‏:‏ ربنا الله‏.‏ تشير إلى ما قد يعتور النفس المؤمنة- تحت تأثير التجارب القاسية، والابتلاءات الشديدة- من ارتياب ومن اضطراب‏.‏

وإن النفس المؤمنة لتصطدم في الحياة بشدائد تزلزل، ونوازل تزعزع‏.‏ والتي تثبت فلا تضطرب، وتثق فلا ترتاب، وتظل مستقيمة موصولة هي التي تستحق هذه الدرجة عند الله‏.‏

والتعبير على هذا النحو ينبه القلوب المؤمنة إلى مزالق الطريق، وأخطار الرحلة، لتعزم أمرها، وتحتسب، وتستقيم، ولا ترتاب عندما يدلهم الأفق، ويظلم الجو، وتناوحها العواصف والرياح‏!‏

ثم يستطرد مع الأعراب يعلمهم أن الله أعلم بقلوبهم وما فيها؛ وأنه هو يخبرهم بما فيها ولا يتلقى منهم العلم عنها‏:‏

‏{‏قل‏:‏ أتُعلِّمون الله بدينكم‏؟‏ والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، والله بكل شيء عليم‏}‏‏.‏‏.‏

والإنسان يدعي العلم، وهو لا يعلم نفسه، ولا ما يستقر فيها من مشاعر، ولا يدرك حقيقة نفسه ولا حقيقة مشاعره؛ فالعقل نفسه لا يعرف كيف يعمل، لأنه لا يملك مراقبة نفسه في أثناء عمله‏.‏ وحين يراقب نفسه يكف عن عمله الطبيعي، فلا يبقى هنالك ما يراقبه‏!‏ وحين يعمل عمله الطبيعي لا يملك أن يشغل في الوقت ذاته بالمراقبة‏!‏ ومن ثم فهو عاجز عن معرفة خاصة ذاته وعن معرفة طريقة عمله‏!‏ وهو هو الأداة التي يتطاول بها الإنسان‏!‏

‏{‏والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض‏}‏‏.‏‏.‏ علماً حقيقياً‏.‏ لا بظواهرها وآثارها‏.‏ ولكن بحقائقها وماهياتها‏.‏ وعلماً شاملاً محيطاً غير محدود ولا موقوت‏.‏

‏{‏والله بكل شيء عليم‏}‏‏.‏‏.‏ بهذا الإجمال الشامل المحيط‏.‏

وبعد بيان حقيقة الإيمان التي لا يدركوها ولم يبلغوها، يتوجه إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالخطاب عن منِّهم عليه بالإسلام؛ وهذا المن ذاته دليل على أن حقيقة الإيمان لم تكن قد استقرت بعد في تلك القلوب، وأن حلاوة الإيمان لم تكن بعد قد تذوقتها تلك الأرواح‏:‏

‏{‏يمنون عليك أن أسلموا‏.‏ قل‏:‏ لا تمنوا عليّ إسلامكم‏.‏ بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان، إن كنتم صادقين‏}‏‏.‏‏.‏

لقد منوا بالإسلام، وزعموا الإيمان‏.‏ فجاءهم الرد أن لا يمنوا بالإسلام، وأن المنة لله عليهم لو صدقوا في دعوى الإيمان‏.‏

ونحن نقف أمام هذا الرد، الذي يتضمن حقيقة ضخمة، يغفل عنها الكثيرون، وقد يغفل عنها بعض المؤمنين‏.‏‏.‏

إن الإيمان هو كبرى المنن التي ينعم بها الله على عبد من عباده في الأرض‏.‏ إنه أكبر من منة الوجود الذي يمنحه الله ابتداء لهذا العبد؛ وسائر ما يتعلق بالوجود من آلاء الرزق والصحة والحياة والمتاع‏.‏

إنما المنة التي تجعل للوجود الإنساني حقيقة مميزة؛ وتجعل له في نظام الكون دوراً أصيلاً عظيماً‏.‏

وأول ما يصنعه الإيمان في الكائن البشري، حين تستقر حقيقته في قلبه، هو سعة تصوره لهذا الوجود، ولارتباطاته هو به، ولدوره هو فيه؛ وصحة تصوره للقيم والأشياء والأشخاص والأحداث من حوله؛ وطمأنينته في رحلته على هذا الكوكب الأرضي حتى يلقى الله، وأنسه بكل ما في الوجود حوله، وأنسه بالله خالقه وخالق هذا الوجود؛ وشعوره بقيمته وكرامته؛ وإحساسه بأنه يملك أن يقوم بدور مرموق يرضى الله عنه، ويحقق الخير لهذا الوجود كله بكل ما فيه وكل من فيه‏.‏

فمن سعة تصوره أن يخرج من نطاق ذاته المحدودة في الزمان والمكان، الصغيرة الكيان، الضئيلة القوة‏.‏ إلى محيط هذا الوجود كله، بما فيه من قوى مذخورة، وأسرار مكنونة؛ وانطلاق لا تقف دونه حدود ولا قيود في نهاية المطاف‏.‏

فهو، بالقياس إلى جنسه، فرد من إنسانية، ترجع إلى أصل واحد‏.‏ هذا الأصل اكتسب إنسانيته ابتداء من روح الله‏.‏ من النفخة العلوية التي تصل هذا الكائن الطيني بالنور الإلهي‏.‏ النور الطليق الذي لا تحصره سماء ولا أرض ولا بدء ولا انتهاء‏.‏ فلا حد له في المكان، ولا حد له في الزمان‏.‏ وهذا العنصر الطليق هو الذي جعل من المخلوق البشري هذا الإنسان‏.‏‏.‏ ويكفي أن يستقر هذا التصور في قلب إنسان ليرفعه في نظر نفسه، وليكرمه في حسه، وليشعره بالوضاءة والانطلاق؛ وقدماه تدبان على الأرض، وقلبه يرف بأجنحة النور إلى مصدر النور الأول الذي منحه هذا اللون من الحياة‏.‏

وهو، بالقياس إلى الفئة التي ينتسب إليها، فرد من الأمة المؤمنة‏.‏ الأمة الواحدة، الممتدة في شعاب الزمن، السائرة في موكب كريم، يقوده نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من النبيين، صلوات الله عليهم أجمعين‏.‏‏.‏ ويكفي أن يستقر هذا التصور في قلب إنسان، فيشعر أنه فرع من تلك الشجرة الطيبة الباسقة المتطاولة، العميقة الجذور، الممتدة الفروع، المتصلة بالسماء في عمرها المديد‏.‏‏.‏ يكفي أن يشعر الإنسان هذا الشعور ليجد للحياة طعماً آخر، وليحس بالحياة إحساساً جديداً، وليضيف إلى حياته هذه حياة كريمة، مستمدة من هذا النسب العريق‏.‏

ثم يتسع تصوره ويتسع حتى يتجاوز ذاته وأمته وجنسه الإنساني؛ ويرى هذا الوجود كله‏.‏ الوجود الصادر عن الله، الذي عنه صدر، ومن نفخة روحه صار إنساناً‏.‏ ويعرفه إيمانه أن هذا الوجود كله كائن حي، مؤلف من كائنات حية‏.‏ وإن لكل شيء فيه روحاً، وأن لهذا الكون كله روحاً‏.‏‏.‏ وأن أرواح الأشياء، وروح هذا الكون الكبير، تتوجه إلى بارئها الأعلى- كما تتوجه روحه هو- بالدعاء والتسبيح؛ وتستجيب له بالحمد والطاعة، وتنتهي إليه بالإذعان والاستسلام‏.‏ فإذا هو كيان هذا الكون، جزء من كل، لا ينفصل ولا ينعزل‏.‏ صادر عن بارئه، متجه إليه بروحه، راجع في النهاية إليه‏.‏ وإذا هو أكبر من ذاته المحدودة‏.‏ أكبر بقدر تصوره لضخامة هذا الوجود الهائل‏.‏ وإذا هو مأنوس بكل ما حوله من أرواح‏.‏ ومأنوس بعد ذلك كله بروح الله التي ترعاه‏.‏ وعندئذ يشعر أنه يملك أن يتصل بهذا الوجود كله، وأن يمتد طولاً وعرضاً فيه؛ وأنه يملك أن يصنع أشياء كثيرة، وأن يُنشئ أحداثاً ضخمة، وأن يؤثر بكل شيء ويتأثر‏.‏

ثم يملك أن يستمد مباشرة من تلك القوة الكبرى التي برأته وبرأت كل ما في الوجود من قوى وطاقات‏.‏ القوة الكبرى التي لا تنحسر ولا تضعف ولا تغيب‏.‏

ومن هذا التصور الواسع الرحيب يستمد موازين جديدة حقيقية للأشياء والأحداث والأشخاص والقيم والاهتمامات والغايات‏.‏ ويرى دوره الحقيقي في هذا الوجود، ومهمته الحقيقية في هذه الحياة‏.‏ بوصفه قدراً من أقدار الله في الكون، يوجهه ليحقق به ويحقق فيه ما يشاء‏.‏ ويمضي في رحلته على هذا الكوكب، ثابت الخطو، مكشوف البصيرة، مأنوس الضمير‏.‏

ومن هذه المعرفة لحقيقة الوجود حوله، ولحقيقة الدور المقسوم له، ولحقيقة الطاقة المهيأة له للقيام بهذا الدور‏.‏ من هذه المعرفة يستمد الطمأنينة والسكينة والارتياح لما يجري حوله، ولما يقع له‏.‏ فهو يعرف من أين جاء‏؟‏ ولماذا جاء‏؟‏ وإلى أين يذهب‏؟‏ وماذا هو واجد هناك‏؟‏ وقد علم أنه هنا لأمر، وأن كل ما يقع له مقدر لتمام هذا الأمر‏.‏ وعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأنه مجزي على الصغيرة والكبيرة، وأنه لم يخلق عبثاً، ولن يترك سدى، ولن يمضي مفرداً‏.‏‏.‏

ومن هذه المعرفة تختفي مشاعر القلق والشك والحيرة الناشئة عن عدم معرفة المنشأ والمصير؛ وعدم رؤية المطوي من الطريق، وعدم الثقة بالحكمة التي تكمن وراء مجيئه وذهابه، ووراء رحلته في ذلك الطريق‏.‏

يختفي شعور كشعور الخيام الذي يعبر عنه بما ترجمته‏:‏

لبست ثوب العمر لم أستشر *** وحرت فيه بين شتى الفكر

وسوف أنضو الثوب عني ولم *** أدر لماذا جئت أين المقر‏؟‏

فالمؤمن يعرف- بقلب مطمئن، وضمير مستريح، وروح مستبشرة- أنه يلبس ثوب العمر بقدر الله الذي يصرف الوجود كله تصريف الحكيم الخبير‏.‏ وأن اليد التي ألبسته إياه أحكم منه وأرحم به، فلا ضرورة لاستشارته لأنه لم يكن ليشير كما يشير صاحب هذه اليد العليم البصير‏.‏ وأنه يلبسه لأداء دور معين في هذا الكون، يتأثر بكل ما فيه‏.‏ ويؤثر في كل ما فيه‏.‏ وأن هذا الدور يتناسق مع جميع الأدوار التي يقوم بها كل كائن من الأشياء والأحياء منذ البدء حتى المصير‏.‏

وهو يعلم إذن لماذا جاء، كما أنه يعرف أين المقر، ولا يحار بين شتى الفكر، بل يقطع الرحلة ويؤدي الدور في طمأنينة وثقة وفي يقين‏.‏ وقد يرتقي في المعرفة الإيمانية، فيقطع الرحلة ويؤدي الدور في فرح وانطلاق واستبشار، شاعراً بجمال الهبة وجلال العطية‏.‏ هبة العمر- أو الثوب- الممنوح له من يد الكريم المنان، الجميل اللطيف، الودود الرحيم‏.‏ وهبة الدور الذي يؤديه- كائناً ما كان من المشقة- لينتهي به إلى ربه في اشتياق حبيب‏!‏

ويختفي شعور كالشعور الذي عشته في فترة من فترات الضياع والقلق، قبل أن أحيا في ظلال القرآن، وقبل أن يأخذ الله بيدي إلى ظله الكريم‏.‏

ذلك الشعور الذي خلعته روحي المتعبة على الكون كله فعبرت عنه أقول‏:‏

وقف الكون حائراً أين يمضي‏؟‏ *** ولماذا وكيف- لو شاء- يمضي‏؟‏

عبث ضائع وجهد غبين *** ومصير مقنَّع ليس يُرضي

فأنا أعرف اليوم- ولله الحمد والمنة- أنه ليس هنالك جهد غبين فكل جهد مجزي‏.‏ وليس هناك تعب ضائع فكل تعب مثمر‏.‏ وأن المصير مرض وأنه بين يدي عادل رحيم‏.‏ وأنا أشعر اليوم- ولله الحمد والمنة- أن الكون لا يقف تلك الوقفة البائسة أبداً، فروح الكون تؤمن بربها، وتتجه إليه، وتسبح بحمده‏.‏ والكون يمضي وفق ناموسه الذي اختاره الله له، في طاعة وفي رضى وفي تسليم‏!‏

وهذا كسب ضخم في عالم الشعور وعالم التفكير، كما أنه كسب ضخم في عالم الجسد والأعصاب، فوق ما هو كسب ضخم في جمال العمل والنشاط والتأثر والتأثير‏.‏

والإيمان- بعد قوة دافعة وطاقة مجمعة‏.‏ فما تكاد حقيقته تستقر في القلب حتى تتحرك لتعمل، ولتحقق ذاتها في الواقع، ولتوائم بين صورتها المضمرة وصورتها الظاهرة‏.‏ كما أنها تستولي على مصادر الحركة في الكائن البشري كلها، وتدفعها في الطريق‏.‏‏.‏

«ذلك سر قوة العقيدة في النفس، وسر قوة النفس بالعقيدة‏.‏ سر تلك الخوارق التي صنعتها العقيدة في الأرض‏.‏ وما تزال في كل يوم تصنعها‏.‏ الخوارق التي تغير وجه الحياة من يوم إلى يوم، وتدفع بالفرد وتدفع بالجماعة إلى التضحية في العمر الفاني المحدود في سبيل الحياة الكبرى التي لا تفنى؛ وتقف بالفرد القليل الضئيل أمام قوى السلطان وقوى المال وقوى الحديد والنار، فإذا هي كلها تنهزم أمام العقيدة الدافعة في روح فرد مؤمن‏.‏ وما هو الفرد الفاني المحدود الذي هزم تلك القوى جميعاً، ولكنها القوة الكبرى الهائلة التي استمدت منها تلك الروح، والينبوع المتفجر الذي لا ينضب ولا ينحسر ولا يضعف»‏.‏

«تلك الخوارق التي تأتي بها العقيدة الدينية في حياة الأفراد وفي حياة الجماعات لا تقوم على خرافة غامضة، ولا تعتمد على التهاويل والرؤى‏.‏ إنها تقوم على أسباب مدركة وعلى قواعد ثابتة‏.‏ إن العقيدة الدينية فكرة كلية تربط الإنسان بقوى الكون الظاهرة والخفية، وتثبت روحه بالثقة والطمأنينة، وتمنحه القدرة على مواجهة القوى الزائلة والأوضاع الباطلة، بقوة اليقين في النصر، وقوة الثقة في الله‏.‏ وهي تفسر للفرد علاقاته بما حوله من الناس والأحداث والأشياء، وتوضح له غايته واتجاهه وطريقه، وتجمع طاقاته وقواه كلها، وتدفعها في اتجاه‏.‏ ومن هنا كذلك قوتها‏.‏ قوة تجميع القوى والطاقات حول محور واحد، وتوجيهها في اتجاه واحد، تمضي إليه مستنيرة الهدف، في قوة، وفي ثقة، وفي يقين»

ويضاعف قوتها أنها تمضي مع الخط الثابت الذي يمضي فيه الكون كله ظاهره وخافيه‏.‏