فصل: تفسير الآيات رقم (275- 281)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏275- 281‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏275‏)‏ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ‏(‏276‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏277‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏278‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ‏(‏279‏)‏ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏280‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏281‏)‏‏}‏

الوجه الآخر المقابل للصدقة التي عرض دستورها في الدرس الماضي‏.‏‏.‏ الوجه الكالح الطالح هو الربا‏!‏

الصدقة عطاء وسماحة، وطهارة وزكاة، وتعاون وتكافل‏.‏‏.‏ والربا شح، وقذارة ودنس، وأثرة وفردية‏.‏‏.‏

والصدقة نزول عن المال بلا عوض ولا رد‏.‏ والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه‏.‏ من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لعمله هو وكده‏.‏ ومن لحمه إن كان لم يربح أو خسر، أو كان قد أخذ المال للنفقة منه على نفسه وأهله ولم يستربحه شيئاً‏.‏‏.‏

ومن ثم فهو- الربا- الوجه الآخر المقابل للصدقة‏.‏‏.‏ الوجه الكالح الطالح‏!‏

لهذا عرضه السياق مباشرة بعد عرض الوجه الطيب السمح الطاهر الجميل الودود‏!‏ عرضه عرضاً منفراً، يكشف عما في عملية الربا من قبح وشناعة‏.‏ ومن جفاف في القلب وشر في المجتمع، وفساد في الأرض وهلاك للعباد‏.‏

ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا‏.‏ ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا- في هذه الآيات وفي غيرها في مواضع أخرى- ولله الحكمة البالغة‏.‏ فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره‏.‏ ولكن الجوانب الشائهة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر، ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث‏.‏ فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات على ذلك النظام المقيت، تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع الفاجع في حياة البشرية، أشد مما كانت متكشفة في الجاهلية الأولى‏.‏ ويدرك- من يريد أن يتدبر حكمة الله وعظمة هذا الدين وكمال هذا المنهج ودقة هذا النظام- يدرك اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة‏.‏ وأمامه اليوم من واقع العالم ما يصدّق كل كلمة تصديقاً حياً مباشراً واقعاً‏.‏ والبشرية الضالة التي تأكل الربا وتوكله تنصب عليها البلايا الماحقة الساحقة من جراء هذا النظام الربوي‏.‏ في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها‏.‏ وتتلقى- حقاً- حرباً من الله تصب عليها النقمة والعذاب‏.‏‏.‏ أفراداً وجماعات، وأمماً وشعوباً، وهي لا تعتبر ولا تفيق‏!‏

وحينما كان السياق يعرض في الدرس السابق دستور الصدقة كان يعرض قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد الله للمجتمع المسلم أن يقوم عليه، ويحب للبشرية أن تستمتع بما فيه من رحمة‏.‏‏.‏ في مقابل ذلك النظام الآخر الذي يقوم على الأساس الربوي الشرير القاسي اللئيم‏.‏

أنهما نظامان متقابلان‏:‏ النظام الإسلامي‏.‏

والنظام الربوي‏!‏ وهما لا يلتقيان في تصور، ولا يتفقان في أساس؛ ولا يتوافقان في نتيجة‏.‏‏.‏ إن كلاً منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف والغايات يناقض الآخر تمام المناقضة‏.‏ وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف‏.‏‏.‏ ومن ثم كانت هذه الحملة المفزعة، وكان هذا التهديد الرعيب‏!‏

إن الإسلام يقيم نظامه الاقتصادي- ونظام الحياة كلها- على تصور معين يمثل الحق الواقع في هذا الوجود‏.‏ يقيمه على أساس أن الله- سبحانه- هو خالق هذا الكون‏.‏ فهو خالق هذه الأرض، وهو خالق هذا الإنسان‏.‏‏.‏ هو الذي وهب كل موجود وجوده‏.‏‏.‏

وإن الله- سبحانه- وهو مالك كل موجود بما أنه هو موجده قد استخلف الجنس الإنساني في هذه الأرض؛ ومكنه مما ادخر له فيها من أرزاق وأقوات ومن قوى وطاقات، على عهد منه وشرط‏.‏ ولم يترك له هذا الملك العريض فوضى، يصنع فيه ما يشاء كيف شاء‏.‏ وإنما استخلفه فيه في إطار من الحدود الواضحة‏.‏ استخلفه فيه على شرط أن يقوم في الخلافة وفق منهج الله، وحسب شريعته‏.‏ فما وقع منه من عقود وأعمال ومعاملات وأخلاق وعبادات وفق التعاقد فهو صحيح نافذ‏.‏ وما وقع منه مخالفاً لشروط التعاقد فهو باطل موقوف‏.‏ فإذا انفذه قوة وقسراً فهو إذن ظلم واعتداء لا يقره الله ولا يقره المؤمنون بالله‏.‏ فالحاكمية في الأرض- كما هي في الكون كله- لله وحده‏.‏ والناس- حاكمهم ومحكومهم- إنما يستمدون سلطاتهم من تنفيذهم لشريعة الله ومنهجه، وليس لهم- في جملتهم- أن يخرجوا عنها، لأنهم إنما هم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد وليسوا ملاكاً خالقين لما في أيديهم من أرزاق‏.‏

من بين بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله، فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل- لا على قاعدة الشيوع المطلق كما تقول الماركسية‏.‏ ولكن على أساس الملكية الفردية المقيدة- فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه‏.‏ مع تكليف الجميع بالعمل كل حسب طاقته واستعداده وفيما يسره الله له- فلا يكون أحدهم كلاًّ على أخيه أو على الجماعة وهو قادر كما بينا ذلك من قبل‏.‏ وجعل الزكاة فريضة في المال محددة‏.‏ والصدقة تطوعاً غير محدد‏.‏

وقد شرط عليهم كذلك أن يلتزموا جانب القصد والاعتدال، ويتجنبوا السرف والشطط فيما ينفقون من رزق الله الذي أعطاهم؛ وفيما يستمتعون به من الطيبات التي أحلها لهم‏.‏ ومن ثم تظل حاجتهم الاستهلاكية للمال والطيبات محدودة بحدود الاعتدال‏.‏ وتظل فضلة من الرزق معرضة لفريضة الزكاة وتطوع الصدقة‏.‏ وبخاصة أن المؤمن مطالب بتثمير ماله وتكثيره‏.‏

وشرط عليهم أن يلتزموا في تنمية أموالهم وسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين، ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد، ودوران المال في الأيدي على أوسع نطاق‏:‏

‏{‏كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم‏}‏ وكتب عليهم الطهارة في النية والعمل، والنظافة في الوسيلة والغاية، وفرض عليهم قيوداً في تنمية المال لا تجعلهم يسلكون إليها سبلاً تؤذي ضمير الفرد وخلقه، أو تؤذي حياة الجماعة وكيانها‏.‏

وأقام هذا كله على أساس التصور الممثل لحقيقة الواقع في هذا الوجود؛ وعلى أساس عهد الاستخلاف الذي يحكم كل تصرفات الإنسان المستخلف في هذا الملك العريض‏.‏‏.‏

ومن ثم فالربا عملية تصطدم ابتداء مع قواعد التصور الإيماني إطلاقا؛ ونظام يقوم على تصور آخر‏.‏ تصور لا نظر فيه لله سبحانه وتعالى‏.‏ ومن ثم لا رعاية فيه للمباديء والغايات والأخلاق التي يريد الله للبشر أن تقوم حياتهم عليها‏.‏

إنه يقوم ابتداء على أساس أن لا علاقة بين إرادة الله وحياة البشر‏.‏ فالإنسان هو سيد هذه الأرض ابتداء؛ وهو غير مقيد بعهد من الله؛ وغير ملزم باتباع أوامر الله‏!‏

ثم إن الفرد حر في وسائل حصوله على المال، وفي طرق تنميته، كما هو حر في التمتع به‏.‏ غير ملتزم في شيء من هذا بعهد من الله أو شرط؛ وغير مقيد كذلك بمصلحة الآخرين‏.‏ ومن ثم فلا اعتبار لأن يتأذى الملايين إذا هو أضاف إلى خزانته ورصيده ما يستطيع إضافته‏.‏ وقد تتدخل القوانين الوضعية أحياناً في الحد من حريته هذه- جزئياً- في تحديد سعر الفائدة مثلاً؛ وفي منع أنواع من الاحتيال والنصب والغصب والنهب، والغش والضرر‏.‏ ولكن هذا التدخل يعود إلى ما يتواضع عليه الناس أنفسهم، وما تقودهم إليه أهواؤهم؛ لا إلى مبدأ ثابت مفروض من سلطة إلهية‏!‏

كذلك يقوم على أساس تصور خاطئ فاسد‏.‏ هو أن غاية الغايات للوجود الإنساني هي تحصيله للمال- بأية وسيلة- واستمتاعه به على النحو الذي يهوى‏!‏ ومن ثم يتكالب على جمع المال وعلى المتاع به؛ ويدوس في الطريق كل مبدأ وكل صالح للآخرين‏!‏

ثم ينشئ في النهاية نظاماً يسحق البشرية سحقاً، ويشقيها في حياتها أفراداً وجماعات ودولاً وشعوباً، لمصلحة حفنة من المرابين؛ ويحطها أخلاقيا ونفسياً وعصبياً؛ ويحدث الخلل في دورة المال ونمو الاقتصاد البشري نمواً سوياً وينتهي- كما انتهى في العصر الحديث- إلى تركيز السلطة الحقيقية والنفوذ العملي على البشرية كلها في أيدي زمرة من أحط خلق الله وأشدهم شراً؛ وشرذمة ممن لا يرعون في البشرية إلاًّ ولا ذمة، ولا يراقبون فيها عهداً ولا حرمة‏.‏‏.‏ وهؤلاء هم الذين يداينون الناس أفراداً، كما يداينون الحكومات والشعوب- في داخل بلادهم وفي خارجها- وترجع إليهم الحصيلة الحقيقية لجهد البشرية كلها، وكد الآدميين وعرقهم ودمائهم، في صورة فوائد ربوية لم يبذلوا هم فيها جهداً‏!‏

وهم لا يملكون المال وحده‏.‏

‏.‏ إنما يملكون النفوذ‏.‏‏.‏ ولما لم تكن لهم مبادئ ولا أخلاق ولا تصور ديني أو أخلاقي على الإطلاق؛ بل لما كانوا يسخرون من حكاية الأديان والأخلاق والمثل والمبادئ؛ فإنهم بطبيعة الحال يستخدمون هذا النفوذ الهائل الذي يملكونه في إنشاء الأوضاع والأفكار والمشروعات التي تمكنهم من زيادة الاستغلال، ولا تقف في طريق جشعهم وخسة أهدافهم‏.‏‏.‏ وأقرب الوسائل هي تحطيم أخلاق البشرية وإسقاطها في مستنقع آسن من اللذائذ والشهوات، التي يدفع فيها الكثيرون آخر فلس يملكونه، حيث تسقط الفلوس في المصائد والشباك المنصوبة‏!‏ وذلك مع التحكم في جريان الاقتصاد العالمي وفق مصالحهم المحدودة، مهما أدى هذا إلى الأزمات الدورية المعروفة في عالم الاقتصاد؛ وإلى انحراف الإنتاج الصناعي والاقتصادي كله عما فيه مصلحة المجموعة البشرية إلى مصلحة الممولين المرابين، الذين تتجمع في أيديهم خيوط الثروة العالمية‏!‏

والكارثة التي تمت في العصر الحديث- ولم تكن بهذه الصورة البشعة في الجاهلية- هي أن هؤلاء المرابين- الذين كانوا يتمثلون في الزمن الماضي في صورة أفراد أو بيوت مالية كما يتمثلون الآن في صورة مؤسسي المصارف العصرية- قد استطاعوا بما لديهم من سلطة هائلة مخيفة داخل أجهزة الحكم العالمية وخارجها، وبما يملكون من وسائل التوجيه والإعلام في الأرض كلها‏.‏‏.‏ سواء في ذلك الصحف والكتب والجامعات والأساتذة ومحطات الإرسال ودور السينما وغيرها‏.‏‏.‏ أن ينشئوا عقلية عامة بين جماهير البشر المساكين الذين يأكل أولئك المرابون عظامهم ولحومهم، ويشربون عرقهم ودماءهم في ظل النظام الربوي‏.‏‏.‏ هذه العقلية العامة خاضعة للإيحاء الخبيث المسموم بأن الربا هو النظام الطبيعي المعقول، والأساس الصحيح الذي لا أساس غيره للنمو الاقتصادي؛ وأنه من بركات هذا النظام وحسناته كان هذا التقدم الحضاري في الغرب‏.‏ وأن الذين يريدون إبطاله جماعة من الخياليين- غير العمليين- وأنهم إنما يعتمدون في نظرتهم هذه على مجرد نظريات أخلاقية ومثل خيالية لا رصيد لها من الواقع؛ وهي كفيلة بإفساد النظام الاقتصادي كله لو سمح لها أن تتدخل فيه‏!‏ حتى ليتعرض الذين ينتقدون النظام الربوي من هذا الجانب للسخرية من البشر الذين هم في حقيقة الأمر ضحايا بائسة لهذا النظام ذاته‏!‏ ضحايا شأنهم شأن الاقتصاد العالمي نفسه‏.‏ الذي تضطره عصابات المرابين العالمية لأن يجري جرياناً غير طبيعي ولا سوي‏.‏ ويتعرض للهزات الدورية المنظمة‏!‏ وينحرف عن أن يكون نافعاً للبشرية كلها، إلى أن يكون وقفاً على حفنة من الذئاب قليلة‏!‏

إن النظام الربوي نظام معيب من الوجهة الاقتصادية البحتة- وقد بلغ من سوئه أن تنبه لعيوبه بعض أساتذة الاقتصاد الغربيين أنفسهم؛ وهم قد نشأوا في ظله، وأشربت عقولهم وثقافتهم تلك السموم التي تبثها عصابات المال في كل فروع الثقافة والتصور والأخلاق‏.‏

وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة «دكتور شاخت» الألماني ومدير بنك الرايخ الألماني سابقاً‏.‏ وقد كان مما قاله في محاضرة له بدمشق عام 1953 أنه بعملية رياضية ‏(‏غير متناهية‏)‏ يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدا من المرابين‏.‏ ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية؛ بينما المدين معرض للربح والخسارة‏.‏ ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بد- بالحساب الرياضي- أن يصير إلى الذي يربح دائماً‏!‏ وأن هذه النظرية في طريقها للتحقق الكامل‏.‏ فإن معظم مال الأرض الآن يملكه- ملكاً حقيقياً- بضعة ألوف‏!‏ أما جميع الملاك وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك، والعمال، وغيرهم، فهم ليسوا سوى أجراء يعملون لحساب أصحاب المال، ويجني ثمرة كدهم أولئك الألوف‏!‏‏.‏

وليس هذا وحده هو كل ما للربا من جريرة‏.‏ فإن قيام النظام الاقتصادي على الأساس الربوي يجعل العلاقة بين أصحاب الأموال وبين العاملين في التجارة والصناعة علاقة مقامرة ومشاكسة مستمرة‏.‏ فإن المرابي يجتهد في الحصول على أكبر فائدة‏.‏ ومن ثم يمسك المال حتى يزيد اضطرار التجارة والصناعة إليه فيرتفع سعر الفائدة؛ ويظل يرفع السعر حتى يجد العاملون في التجارة والصناعة أنه لا فائدة لهم من استخدام هذا المال، لأنه لا يدر عليهم ما يوفون به الفائدة ويفضل لهم منه شيء‏.‏‏.‏ عندئذ ينكمش حجم المال المستخدم في هذه المجالات التي تشتغل فيها الملايين؛ وتضيق المصانع دائرة انتاجها، ويتعطل العمال، فتقل القدرة على الشراء‏.‏ وعندما يصل الأمر إلى هذا الحد، ويجد المرابون أن الطلب على المال قد نقص أو توقف، يعودون إلى خفض سعر الفائدة اضطراراً‏.‏ فيقبل عليه العاملون في الصناعة والتجارة من جديد، وتعود دورة الحياة إلى الرخاء‏.‏‏.‏ وهكذا دواليك تقع الأزمات الاقتصادية الدورية العالمية‏.‏ ويظل البشر هكذا يدورون فيها كالسائمة‏!‏

ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة للمرابين‏.‏ فإن أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون فائدة الأموال التي يقترضونها بالربا إلا من جيوب المستهلكين، فهم يزيدونها في أثمان السلع الاستهلاكية فيتوزع عبؤها على أهل الأرض لتدخل في جيوب المرابين في النهاية‏.‏ أما الديون التي تقترضها الحكومات من بيوت المال لتقوم بالإصلاحات والمشروعات العمرانية فإن رعاياها هم الذين يؤدون فائدتها للبيوت الربوية كذلك‏.‏ إذ أن هذه الحكومات تضطر إلى زيادة الضرائب المختلفة لتسدد منها هذه الديون وفوائدها‏.‏ وبذلك يشترك كل فرد في دفع هذه الجزية للمرابين في نهاية المطاف‏.‏‏.‏ وقلما ينتهي الأمر عند هذا الحد، ولا يكون الاستعمار هو نهاية الديون‏.‏‏.‏ ثم تكون الحروب بسبب الاستعمار‏!‏

ونحن هنا- في ظلال القرآن- لا نستقصي كل عيوب النظام الربوي فهذا مجاله بحث مستقل- فنكتفي بهذا القدر لنخلص منه إلى تنبيه من يريدون أن يكونوا مسلمين إلى جملة حقائق أساسية بصدد كراهية الإسلام للنظام الربوي المقيت‏:‏

الحقيقة الأولى‏:‏- التي يجب أن تكون مستيقنة في نفوسهم- أنه لا إسلام مع قيام نظام ربوي في مكان‏.‏

وكل ما يمكن أن يقوله أصحاب الفتاوى من رجال الدين أو غيرهم سوى هذا دجل وخداع‏.‏ فأساس التصور الإسلامي- كما بينا- يصطدم اصطداماً مباشراً بالنظام الربوي، ونتائجه العملية في حياة الناس وتصوراتهم وأخلاقهم‏.‏

والحقيقة الثانية‏:‏ أن النظام الربوي بلاء على الإنسانية- لا في إيمانها وأخلاقها وتصورها للحياة فحسب- بل كذلك في صميم حياتها الاقتصادية والعملية، وأنه أبشع نظام يمحق سعادة البشرية محقاً، ويعطل نموها الإنساني المتوازن، على الرغم من الطلاء الظاهري الخدّاع، الذي يبدو كأنه مساعدة من هذا النظام للنمو الاقتصادي العام‏!‏

والحقيقة الثالثة‏:‏ أن النظام الأخلاقي والنظام العملي في الإسلام مترابطان تماماً، وأن الإنسان في كل تصرفاته مرتبط بعهد الاستخلاف وشرطه، وأنه مختبر ومبتلى وممتحن في كل نشاط يقوم به في حياته، ومحاسب عليه في آخرته‏.‏ فليس هناك نظام أخلاقي وحده، ونظام عملي وحده، وإنما هما معا يؤلفان نشاط الإنسان، وكلاهما عبادة يؤجر عليها إن أحسن، وإثم يؤاخذ عليه إن أساء‏.‏ وأن الاقتصاد الإسلامي الناجح لا يقوم بغير أخلاق، وأن الأخلاق ليست نافلة يمكن الاستغناء عنها ثم تنجح حياة الناس العملية‏.‏

والحقيقة الرابعة‏:‏ أن التعامل الربوي لا يمكن إلا أن يفسد ضمير الفرد وخلقه، وشعوره تجاه أخيه في الجماعة؛ وإلا أن يفسد حياة الجماعة البشرية وتضامنها بما يبثه من روح الشره والطمع والأثرة والمخاتلة والمقامرة بصفة عامة‏.‏ أما في العصر الحديث فإنه يعد الدافع الأول لتوجيه رأس المال إلى أحط وجوه الاستثمار‏.‏ كي يستطيع رأس المال المستدان بالربا أن يربح ربحاً مضموناً، فيؤدي الفائدة الربوية ويفضل منه شيء للمستدين‏.‏ ومن ثم فهو الدافع المباشر لاستثمار المال في الأفلام القذرة والصحافة القذرة والمراقص والملاهي والرقيق الأبيض وسائر الحرف والاتجاهات التي تحطم أخلاق البشرية تحطيماً‏.‏‏.‏ والمال المستدان بالربا ليس همه أن ينشئ أنفع المشروعات للبشرية؛ بل همه أن ينشئ أكثرها ربحاً‏.‏ ولو كان الربح إتما يجيء من استثارة أحط الغرائز وأقذر الميول‏.‏‏.‏ وهذا هو المشاهد اليوم في أنحاء الأرض‏.‏ وسببه الأول هو التعامل الربوي‏!‏

والحقيقة الخامسة‏:‏ أن الإسلام نظام متكامل‏.‏ فهو حين يحرم التعامل الربوي يقيم نظمه كلها على أساس الاستغناء عن الحاجة إليه؛ وينظم جوانب الحياة الاجتماعية بحيث تنتفي منها الحاجة إلى هذا النوع من التعامل، بدون مساس بالنمو الاقتصادي والاجتماعي والإنساني المطرد‏.‏

والحقيقة السادسة‏:‏ أن الإسلام- حين يتاح له أن ينظم الحياة وفق تصوره ومنهجه الخاص- لن يحتاج عند إلغاء التعامل الربوي، إلى إلغاء المؤسسات والأجهزة اللازمة لنمو الحياة الاقتصادية العصرية نموها الطبيعي السليم‏.‏

ولكنه فقط سيطهرها من لوثة الربا ودنسه‏.‏ ثم يتركها تعمل وفق قواعد أخرى سليمة‏.‏ وفي أول هذه المؤسسات والأجهزة‏:‏ المصارف والشركات وما إليها من مؤسسات الاقتصاد الحديث‏.‏

والحقيقة السابعة‏:‏- وهي الأهم- ضرورة اعتقاد من يريد أن يكون مسلماً، بأن هناك استحالة اعتقادية في أن يحرم الله أمراً لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه‏!‏ كما أن هناك استحالة اعتقادية كذلك في أن يكون هناك أمر خبيث ويكون في الوقت ذاته حتميا لقيام الحياة وتقدمها‏.‏‏.‏ فالله سبحانه هو خالق هذه الحياة، وهو مستخلف الإنسان فيها؛ وهو الآمر بتنميتها وترقيتها؛ وهو المريد لهذا كله الموفق إليه‏.‏ فهناك استحالة إذن في تصور المسلم أن يكون فيما حرمه الله شيء لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه‏.‏ وأن يكون هناك شيء خبيث هو حتمي لقيام الحياة ورقيها‏.‏ وإنما هو سوء التصور‏.‏ وسوء الفهم والدعاية المسمومة الخبيثة الطاغية التي دأبت أجيالاً على بث فكرة‏:‏ أن الربا ضرورة للنمو الاقتصادي والعمراني، وأن النظام الربوي هو النظام الطبيعي‏.‏ وبث هذا التصور الخادع في مناهل الثقافة العامة، ومنابع المعرفة الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها‏.‏ ثم قيام الحياة الحديثة على هذا الأساس فعلاً بسعي بيوت المال والمرابين‏.‏ وصعوبة تصور قيامها على أساس آخر‏.‏ وهي صعوبة تنشأ أولاً من عدم الإيمان‏.‏ كما تنشأ ثانياً من ضعف التفكير وعجزه عن التحرر من ذلك الوهم الذي اجتهد المرابون في بثه وتمكينه لما لهم من قدرة على التوجيه‏.‏ وملكية للنفوذ داخل الحكومات العالمية، وملكية لأدوات الإعلام العامة والخاصة‏.‏

والحقيقة الثامنة‏:‏ أن استحالة قيام الاقتصاد العالمي اليوم وغداً على أساس غير الأساس الربوي‏.‏‏.‏ ليست سوى خرافة‏.‏ أو هي أكذوبة ضخمة تعيش لأن الأجهزة التي يستخدمها أصحاب المصلحة في بقائها أجهزة ضخمة فعلاً‏!‏ وأنه حين تصح النية، وتعزم البشرية- أو تعزم الأمة المسلمة- أن تسترد حريتها من قبضة العصابات الربوية العالمية، وتريد لنفسها الخير والسعادة والبركة مع نظافة الخلق وطهارة المجتمع، فإن المجال مفتوح لإقامة النظام الآخر الرشيد، الذي أراده الله للبشرية، والذي طبق فعلاً، ونمت الحياة في ظله فعلاً؛ وما تزال قابلة للنمو تحت إشرافه وفي ظلاله، لو عقل الناس ورشدوا‏!‏

وليس هناك مجال تفصيل القول في كيفيات التطبيق ووسائله‏.‏‏.‏ فحسبنا هذه الإشارات المجملة‏.‏ وقد تبين أن شناعة العملية الربوية ليست ضرورة من ضرورات الحياة الاقتصادية؛ وأن الإنسانية التي انحرفت عن النهج قديماً حتى ردها الإسلام إليه؛ هي الإنسانية التي تنحرف اليوم الانحراف ذاته، ولا تفيء إلى النهج القويم الرحيم السليم‏.‏

فلننظر كيف كانت ثورة الإسلام على تلك الشناعة التي ذاقت منها البشرية ما لم تذق قط من بلاء‏:‏

‏{‏الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس‏.‏

ذلك بأنهم قالوا‏:‏ إنما البيع مثل الربا‏.‏ وأحل الله البيع وحرم الربا‏.‏ فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله‏.‏ ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏.‏ يمحق الله الربا ويربي الصدقات‏.‏ والله لا يحب كل كفار أثيم‏}‏‏.‏‏.‏

إنها الحملة المفزعة، والتصوير المرعب‏:‏

‏{‏لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس‏}‏‏.‏‏.‏

وما كان أي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة‏.‏‏.‏ صورة الممسوس المصروع‏.‏‏.‏ وهي صورة معروفة معهودة للناس‏.‏ فالنص يستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس، لاستجاشة مشاعر المرابين، وهزها هزة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم في نظامهم الاقتصادي؛ ومن حرصهم على ما يحققه لهم من الفائدة‏.‏‏.‏ وهي وسيلة في التأثير التربوي ناجعة في مواضعها‏.‏ بينما هي في الوقت ذاته تعبر عن حقيقة واقعة‏.‏‏.‏ ولقد مضت معظم التفاسير على أن المقصود بالقيام في هذه الصورة المفزعة، هو القيام يوم البعث‏.‏ ولكن هذه الصورة- فيما نرى- واقعة بذاتها في حياة البشرية في هذه الأرض أيضاً‏.‏ ثم إنها تتفق مع ما سيأتي بعدها من الإنذار بحرب من الله ورسوله‏.‏ ونحن نرى أن هذه الحرب واقعة وقائمة الآن ومسلطة على البشرية الضالة التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي‏.‏ وقبل أن نفصل القول في مصداق هذه الحقيقة من واقع البشرية اليوم نبدأ بعرض الصورة الربوية التي كان يواجهها القرآن في الجزيرة العربية؛ وتصورات أهل الجاهلية عنها‏.‏‏.‏

إن الربا الذي كان معروفاً في الجاهلية والذي نزلت هذه الآيات وغيرها لإبطاله ابتداء كانت له صورتان رئيسيتان‏:‏ ربا النسيئة‏.‏ وربا الفضل‏.‏

فأما ربا النسيئة فقد قال عنه قتادة‏:‏ «إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل، ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه»‏.‏

وقال مجاهد «كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين، فيقول‏:‏ لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه»‏.‏

وقال أبو بكر الجصاص‏:‏ «إنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضاً مؤجلاً بزيادة مشروطة‏.‏ فكانت الزيادة بدلاً من الأجل فأبطله الله تعالى»‏.‏‏.‏

وقال الإمام الرازي في تفسيره‏:‏ «إن ربا النسيئة هو الذي كان مشهوراً في الجاهلية‏.‏ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل، على أن يأخذ منه كل شهر قدراً معيناً ورأس المال باق بحاله‏.‏ فإذا حل طالبه برأس ماله، فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل»‏.‏

وقد ورد في حديث أسامة بن زيد- رضي الله عنهما- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏

«لا ربا إلا في النسيئة»‏.‏

أما ربا الفضل فهو أن يبيع الرجل الشيء بالشيء من نوعه مع زيادة‏.‏ كبيع الذهب بالذهب‏.‏ والدراهم بالدراهم‏.‏ والقمح بالقمح‏.‏ والشعير بالشعير‏.‏‏.‏ وهكذا‏.‏‏.‏ وقد ألحق هذا النوع بالربا لما فيه من شبه به؛ ولما يصاحبه من مشاعر مشابهة للمشاعر المصاحبة لعملية الربا‏.‏‏.‏ وهذه النقطة شديدة الأهمية لنا في الكلام عن العمليات الحاضرة‏!‏

عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح‏.‏‏.‏ مثلاً بمثل‏.‏‏.‏ يداً بيد‏.‏‏.‏ فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء»‏.‏

وعن أبي سعيد الخدري أيضاً قال‏:‏ «جاء بلال إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- بتمر برني فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم-» من أين هذا‏؟‏ «قال‏:‏ كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع‏.‏ فقال‏:‏ أوَّه‏!‏ عين الربا، عين الربا‏.‏ لا تفعل‏.‏ ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به»‏.‏

فأما النوع الأول فالربا ظاهر فيه لا يحتاج إلى بيان، إذ تتوافر فيه العناصر الأساسية لكل عملية ربوية‏.‏ وهي‏:‏ الزيادة على أصل المال‏.‏ والأجل الذي من أجله تؤدى هذه الزيادة‏.‏ وكون هذه الفائدة شرطاً مضموناً في التعاقد‏.‏ أي ولادة المال للمال بسبب المدة ليس إلا‏.‏‏.‏

وأما النوع الثاني، فما لا شك فيه أن هناك فروقاً أساسية في الشيئين المتماثلين هي التي تقتضي الزيادة‏.‏ وذلك واضح في حادثة بلال حين أعطى صاعين من تمره الرديء وأخذ صاعاً من التمر الجيد‏.‏‏.‏ ولكن لأن تماثل النوعين في الجنس يخلق شبهة أن هناك عملية ربوية، إذ يلد التمر التمر‏!‏ فقد وصفه- صلى الله عليه وسلم- بالربا‏.‏ ونهى عنه‏.‏ وأمر ببيع الصنف المراد استبداله بالنقد‏.‏ ثم شراء الصنف المطلوب بالنقد أيضاً‏.‏ إبعاداً لشبح الربا من العملية تماماً‏!‏

وكذلك شرط القبض‏:‏ «يداً بيد»‏.‏‏.‏ كي لا يكون التأجيل في بيع المثل بالمثل، ولو من غير زيادة، فيه شبح من الربا، وعنصر من عناصره‏!‏

إلى هذا الحد بلغت حساسية الرسول- صلى الله عليه وسلم- بشبح الربا في أية عملية‏.‏ وبلغت كذلك حكمته في علاج عقلية الربا التي كانت سائدة في الجاهلية‏.‏

فأما اليوم فيريد بعض المهزومين أمام التصورات الرأسمالية الغربية والنظم الرأسمالية الغربية أن يقصروا التحريم على صورة واحدة من صور الربا- ربا النسيئة- بالاستناد إلى حديث أسامة، وإلى وصف السلف للعمليات الربوية في الجاهلية‏.‏ وأن يحلوا- دينياً- وباسم الإسلام‏!‏- الصور الأخرى المستحدثة التي لا تنطبق في حرفية منها على ربا الجاهلية‏!‏

ولكن هذه المحاولة لا تزيد على أن تكون ظاهرة من ظواهر الهزيمة الروحية والعقلية‏.‏

‏.‏ فالإسلام ليس نظام شكليات‏.‏ إنما هو نظام يقوم على تصور أصيل‏.‏ فهو حين حرم الربا لم يكن يحرم صورة منه دون صورة‏.‏ إنما كان يناهض تصوراً يخالف تصوره؛ ويحارب عقلية لا تتمشى مع عقليته‏.‏ وكان شديد الحساسية في هذا إلى حد تحريم ربا الفضل إبعاداً لشبح العقلية الربوية والمشاعر الربوية من بعيد جداً‏!‏

ومن ثم فإن كل عملية ربوية حرام‏.‏ سواء جاءت في الصور التي عرفتها الجاهلية أم استحدثت لها أشكال جديدة‏.‏ ما دامت تتضمن العناصر الأساسية للعملية الربوية، أو تتسم بسمة العقلية الربوية‏.‏‏.‏ وهي عقلية الأثرة والجشع والفردية والمقامرة‏.‏ وما دام يتلبس بها ذلك الشعور الخبيث‏.‏ شعور الحصول على الربح بأية وسيلة‏!‏

فينبغي أن نعرف هذه الحقيقة جيداً‏.‏ ونستيقن من الحرب المعلنة من الله ورسوله على المجتمع الربوي‏.‏

‏{‏الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس‏}‏‏.‏‏.‏

والذين يأكلون الربا ليسوا هم الذين يأخذون الفائدة الربوية وحدهم- وإن كانوا هم أول المهددين بهذا النص الرعيب- إنما هم أهل المجتمع الربوي كلهم‏.‏

عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- أنه قال‏:‏ «لعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وموكله، وشاهديه وكاتبه، وقال‏:‏ هم سواء»‏.‏

وكان هذا في العمليات الربوية الفردية‏.‏ فأما في المجتمع الذي يقوم كله على الأساس الربوي فأهله كلهم ملعونون‏.‏ معرضون لحرب الله‏.‏ مطرودون من رحمته بلا جدال‏.‏

إنهم لا يقومون في الحياة ولا يتحركون إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبط الذي لا ينال استقراراً ولا طمأنينة ولا راحة‏.‏‏.‏ وإذا كان هناك شك في الماضي أيام نشأة النظام الرأسمالي الحديث في القرون الأربعة الماضية، فإن تجربة هذه القرون لا تبقي مجالاً للشك أبداً‏.‏‏.‏

إن العالم الذي نعيش فيه اليوم- في أنحاء الأرض- هو عالم القلق والاضطراب والخوف؛ والأمراض العصبية والنفسية- باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه، وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية‏.‏‏.‏ وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية، والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار‏.‏ وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار‏.‏‏.‏ ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة، وحرب الأعصاب، والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك‏!‏

إنها الشقوة البائسة المنكودة، التي لا تزيلها الحضارة المادية، ولا الرخاء المادي، ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة‏.‏ وما قيمة هذا كله إذا لم ينشئ في النفوس السعادة والرضى والاستقرار والطمأنينة‏؟‏

إنها حقيقة تواجه من يريد أن يرى؛ ولا يضع على عينيه غشاوة من صنع نفسه كي لا يرى‏!‏ حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاء عاماً‏.‏

‏.‏ في أمريكا، وفي السويد، وفي غيرهما من الأقطار التي تفيض رخاء مادياً‏.‏‏.‏ أن الناس ليسوا سعداء‏.‏‏.‏ أنهم قلقون يطل القلق من عيونهم وهم أغنياء‏!‏ وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون في الإنتاج‏!‏ وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة‏.‏ وفي «التقاليع» الغريبة الشاذة تارة‏.‏ وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة‏.‏ ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب‏.‏ الهرب من أنفسهم‏.‏ ومن الخواء الذي يعشش فيها‏!‏ ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر من مرافق الحياة وجريانها‏.‏ فيهربون بالانتحار‏.‏ ويهربون بالجنون‏.‏ ويهربون بالشذوذ‏!‏ ثم يطاردهم شبح القلق والخواء والفراغ ولا يدعهم يستريحون أبداً‏!‏ لماذا‏؟‏

السبب الرئيسي طبعاً هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالة المنكودة- على كل ما لديها من الرخاء المادي- من زاد الروح‏.‏‏.‏ من الإيمان‏.‏‏.‏ من الاطمئنان إلى الله‏.‏‏.‏ وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمها الإيمان بالله، وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه‏.‏

ويتفرع من ذلك السبب الرئيسي الكبير‏.‏‏.‏ بلاء الربا‏.‏‏.‏ بلاء الاقتصاد الذي ينمو ولكنه لا ينمو سوياً معتدلاً بحيث تتوزع خيرات نموه وبركاتها على البشرية كلها‏.‏ إنما ينمو مائلاً جانحاً إلى حفنة الممولين المرابين، القابعين وراء المكاتب الضخمة في المصارف، يقرضون الصناعة والتجارة بالفائدة المحددة المضمونة؛ ويجبرون الصناعة والتجارة على أن تسير في طريق معين ليس هدفه الأول سد مصالح البشر وحاجاتهم التي يسعد بها الجميع؛ والتي تكفل عملاً منتظماً ورزقاً مضموناً للجميع؛ والتي تهيء طمأنينة نفسية وضمانات اجتماعية للجميع‏.‏‏.‏ ولكن هدفه هو إنتاج ما يحقق أعلى قدر من الربح- ولو حطم الملايين وحرم الملايين وأفسد حياة الملايين، وزرع الشك والقلق والخوف في حياة البشرية جميعاً‏!‏

وصدق الله العظيم‏:‏ ‏{‏الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس‏}‏‏.‏‏.‏ وها نحن أولاء نرى مصداق هذه الحقيقة في واقعنا العالمي اليوم‏!‏

ولقد اعترض المرابون في عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على تحريم الربا‏.‏ اعترضوا بأنه ليس هناك مبرر لتحريم العمليات الربوية وتحليل العمليات التجارية‏:‏

‏{‏ذلك بأنهم قالوا‏:‏ إنما البيع مثل الربا‏.‏ وأحل الله البيع وحرم الربا‏}‏‏.‏‏.‏

وكانت الشبهة التي ركنوا إليها، هي أن البيع يحقق فائدة وربحاً، كما أن الربا يحقق فائدة وربحاً‏.‏‏.‏ وهي شبهة واهية‏.‏ فالعمليات التجارية قابلة للربح وللخسارة‏.‏ والمهارة الشخصية والجهد الشخصي والظروف الطبيعية الجارية في الحياة هي التي تتحكم في الربح والخسارة‏.‏ أما العمليات الربوية فهي محددة الربح في كل حالة‏.‏ وهذا هو الفارق الرئيسي‏.‏ وهذا هو مناط التحريم والتحليل‏.‏‏.‏

إن كل عملية يضمن فيها الربح على أي وضع هي عملية ربوية محرمة بسبب ضمان الربح وتحديده‏.‏

‏.‏ ولا مجال للمماحلة في هذا ولا للمداورة‏!‏

‏{‏وأحل الله البيع وحرم الربا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

لانتفاء هذا العنصر من البيع؛ ولأسباب أخرى كثيرة تجعل عمليات التجارة في أصلها نافعة للحياة البشرية؛ وعمليات الربا في أصلها مفسدة للحياة البشرية‏.‏‏.‏

وقد عالج الإسلام الأوضاع التي كانت حاضرة في ذلك الزمان معالجة واقعية؛ دون أن يحدث هزة اقتصادية واجتماعية‏:‏

‏{‏فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله‏}‏‏.‏‏.‏

لقد جعل سريان نظامه منذ ابتداء تشريعه‏.‏ فمن سمع موعظة ربه فانتهى فلا يسترد منه ما سلف أن أخذه من الربا وأمره فيه إلى الله، يحكم فيه بما يراه‏.‏‏.‏ وهذا التعبير يوحي للقلب بأن النجاة من سالف هذا الإثم مرهونة بإرادة الله ورحمته؛ فيظل يتوجس من الأمر؛ حتى يقول لنفسه‏:‏ كفاني هذا الرصيد من العمل السيئ، ولعل الله أن يعفيني من جرائره إذا أنا انتهيت وتبت‏.‏ فلا أضف إليه جديداً بعد‏!‏‏.‏‏.‏ وهكذا يعالج القرآن مشاعر القلوب بهذا المنهج الفريد‏.‏

‏{‏ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا التهديد بحقيقة العذاب في الآخرة يقوي ملامح المنهج التربوي الذي أشرنا إليه، ويعمقه في القلوب‏.‏

ولكن لعل كثيرين يغريهم طول الأمد، وجهل الموعد، فيبعدون من حسابهم حساب الآخرة هذا‏!‏ فها هو ذا القرآن ينذرهم كذلك بالمحق في الدنيا والآخرة جميعاً؛ ويقرر أن الصدقات- لا الربا- هي التي تربو وتزكو؛ ثم يصم الذين لا يستجيبون بالكفر والإثم‏.‏ ويلوح لهم بكره الله للكفرة الآثمين‏:‏

‏{‏يمحق الله الربا، ويربي الصدقات، والله لا يحب كل كفار أثيم‏}‏‏.‏‏.‏

وصدق وعيد الله ووعده‏.‏ فها نحن أولاء نرى أنه ما من مجتمع يتعامل بالربا ثم تبقى فيه بركة أو رخاء أو سعادة أو أمن أو طمأنينة‏.‏‏.‏ إن الله يمحق الربا فلا يفيض على المجتمع الذي يوجد فيه هذا الدنس إلا القحط والشقاء‏.‏ وقد ترى العين- في ظاهر الأمر- رخاء وإنتاجاً وموارد موفورة، ولكن البركة ليست بضخامة الموارد بقدر ما هي في الاستمتاع الطيب الآمن بهذه الموارد‏.‏ وقد أشرنا من قبل إلى الشقوة النكدة التي ترين على قلوب الناس في الدول الغنية الغزيرة الموارد؛ وإلى القلق النفسي الذي لا يدفعه الثراء بل يزيده‏.‏ ومن هذه الدول يفيض القلق والذعر والاضطراب على العالم كله اليوم‏.‏ حيث تعيش البشرية في تهديد دائم بالحرب المبيدة؛ كما تصحو وتنام في هم الحرب الباردة‏!‏ وتثقل الحياة على أعصاب الناس يوماً بعد يوم- سواء شعروا بهذا أم لم يشعروا- ولا يبارك لهم في مال ولا في عمر ولا في صحة ولا في طمأنينة بال‏!‏

وما من مجتمع قام على التكافل والتعاون- الممثلين في الصدقات المفروض منها والمتروك للتطوع- وسادته روح المودة والحب والرضى والسماحة، والتطلع دائما إلى فضل الله وثوابه، والاطمئنان دائماً إلى عونه وإخلافه للصدقة بأضعافها‏.‏

‏.‏ ما من مجتمع قام على هذا الأساس إلا بارك الله لأهله- أفراداً وجماعات- في ما لهم ورزقهم، وفي صحتهم وقوتهم وفي طمأنينة قلوبهم وراحة بالهم‏.‏

والذين لا يرون هذه الحقيقة في واقع البشرية، هم الذين لا يريدون أن يروا، لأن لهم هوى في عدم الرؤية‏!‏ أو الذين رانت على أعينهم غشاوة الأضاليل المبثوثة عمداً وقصداً من أصحاب المصلحة في قيام النظام الربوي المقيت؛ فضغطوا عن رؤية الحقيقة‏!‏

‏{‏والله لا يحب كل كفار أثيم‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا التعقيب هنا قاطع في اعتبار من يصرون على التعامل الربوي- بعد تحريمه- من الكفار الآثمين، الذين لا يحبهم الله، وما من شك أن الذين يحلون ما حرم الله ينطبق عليهم وصف الكفر والإثم، ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ محمد رسول الله‏.‏‏.‏ فالإسلام ليس كلمة باللسان؛ إنما هو نظام حياة ومنهج عمل؛ وإنكار جزء منه كإنكار الكل‏.‏‏.‏ وليس في حرمة الربا شبهة؛ وليس في اعتباره حلالاً وإقامة الحياة على أساسه إلا الكفر والإثم‏.‏‏.‏ والعياذ بالله‏.‏‏.‏

وفي الصفحة المقابلة لصفحة الكفر والإثم، والتهديد الساحق لأصحاب منهج الربا ونظامه، يعرض صفحة الإيمان والعمل الصالح، وخصائص الجماعة المؤمنة في هذا الجانب، وقاعدة الحياة المرتكزة إلى النظام الآخر- نظام الزكاة- المقابل لنظام الربا‏:‏

‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏‏.‏‏.‏

والعنصر البارز في هذه الصفحة هو عنصر ‏(‏الزكاة‏)‏‏.‏ عنصر البذل بلا عوض ولا رد‏.‏ والسياق يعرض بهذا صفة المؤمنين وقاعدة المجتمع المؤمن‏.‏ ثم يعرض صورة الأمن والطمأنينة والرضى الإلهي المسبغ على هذا المجتمع المؤمن‏.‏

إن الزكاة هي قاعدة المجتمع المتكافل المتضامن؛ الذي لا يحتاج إلى ضمانات النظام الربوي في أي جانب من جوانب حياته‏.‏

وقد بهتت صورة ‏{‏الزكاة‏}‏ في حسنا وحس الأجيال التعيسة من الأمة الإسلامية التي لم تشهد نظام الإسلام مطبقاً في عالم الواقع؛ ولم تشهد هذا النظام يقوم على أساس التصور الإيماني والتربية الإيمانية والأخلاق الإيمانية، فيصوغ النفس البشرية صياغة خاصة، ثم يقيم لها النظام الذي تتنفس فيه تصوراتها الصحيحة وأخلاقها النظيفة وفضائلها العالية‏.‏ ويجعل ‏(‏الزكاة‏)‏ قاعدة هذا النظام، في مقابل نظام الجاهلية الذي يقوم على القاعدة الربوية‏.‏ ويجعل الحياة تنمو والاقتصاد يرتقي عن طريق الجهد الفردي، أو التعاون البريء من الربا‏!‏

بهتت هذه الصورة في حس هذه الأجيال التعيسة المنكودة الحظ التي لم تشهد تلك الصورة الرفيعة من صور الإنسانية‏.‏ إنما ولدت وعاشت في غمرة النظام المادي، القائم على الأساس الربوي‏.‏

وشهدت الكزازة والشح، والتكالب والتطاحن، والفردية الأثرة التي تحكم ضمائر الناس‏.‏ فتجعل المال لا ينتقل إلى من يحتاجون إليه إلا في الصورة الربوية الخسيسة‏!‏ وجعلت الناس يعيشون بلا ضمانات، ما لم يكن لهم رصيد من المال؛ أو يكونوا قد اشتركوا بجزء من مالهم في مؤسسات التأمين الربوية‏!‏ وجعلت التجارة والصناعة لا تجد المال الذي تقوم به، ما لم تحصل عليه بالطريقة الربوية فوقر في حس هذه الأجيال المنكودة الطالع أنه ليس هناك نظام إلا هذا النظام؛ وأن الحياة لا تقوم إلا على هذا الأساس‏!‏

بهتت صورة الزكاة حتى أصبحت هذه الأجيال تحسبها إحساناً فردياً هزيلاً، لا ينهض على أساسه نظام عصري‏!‏ ولكن كم تكون ضخامة حصيلة الزكاة، وهي تتناول اثنين ونصفاً في المائة من أصل رؤوس الأموال الأهلية مع ربحها‏؟‏ يؤديها الناس الذين يصنعهم الإسلام صناعة خاصة، ويربيهم تربية خاصة، بالتوجيهات والتشريعات، وبنظام الحياة الخاص الذي يرتفع تصوره على ضمائر الذين لم يعيشوا فيه‏!‏ وتحصلها الدولة المسلمة، حقاً مفروضاً، لا إحساناً فردياً‏.‏ وتكفل بها كل من تقصر به وسائله الخاصة من الجماعة المسلمة؛ حيث يشعر كل فرد أن حياته وحياة أولاده مكفولة في كل حالة؛ وحيث يقضي عن الغارم المدين دينه سواء كان ديناً تجارياً أو غير تجاري، من حصيلة الزكاة‏.‏

وليس المهم هو شكلية النظام‏.‏ إنما المهم هو روحه‏.‏ فالمجتمع الذي يربيه الإسلام بتوجيهاته وتشريعاته ونظامه، متناسق مع شكل النظام وإجراءاته، متكامل مع التشريعات والتوجيهات، ينبع التكافل من ضمائره ومن تنظيماته معاً متناسقة متكاملة‏.‏ وهذه حقيقة قد لا يتصورها الذين نشأوا وعاشوا في ظل الأنظمة المادية الأخرى‏.‏ ولكنها حقيقة نعرفها نحن- أهل الإسلام- ونتذوقها بذوقنا الإيماني‏.‏ فإذا كانوا هم محرومين من هذا الذوق لسوء طالعهم ونكد حظهم- وحظ البشرية التي صارت إليهم مقاليدها وقيادتها- فليكن هذا نصيبهم‏!‏ وليحرموا من هذا الخير الذي يبشر الله به‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلات وآتوا الزكاة‏}‏‏.‏‏.‏ ليحرموا من الطمأنينة والرضى، فوق حرمانهم من الأجر والثواب‏.‏ فإنما بجهالتهم وجاهليتهم وضلالهم وعنادهم يحرمون‏!‏

إن الله- سبحانه- يعد الذين يقيمون حياتهم على الإيمان والصلاح والعبادة والتعاون، أن يحتفظ لهم بأجرهم عنده‏.‏ ويعدهم بالأمن فلا يخافون‏.‏ وبالسعادة فلا يحزنون‏.‏‏.‏

‏{‏لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏‏.‏‏.‏

في الوقت الذي يوعد أكلة الربا والمجتمع الربوي بالمحق والسحق، وبالتخبط والضلال، وبالقلق والخوف‏.‏

وشهدت البشرية ذلك واقعاً في المجتمع المسلم؛ وتشهد اليوم هذا واقعاً كذلك في المجتمع الربوي‏!‏ ولو كنا نملك أن نمسك بكل قلب غافل فنهزه هزاً عنيفاً حتى يستيقظ لهذه الحقيقة الماثلة؛ ونمسك بكل عين مغمضة فنفتح جفنيها على هذا الواقع‏.‏‏.‏ لوكنا نملك لفعلنا‏.‏

‏.‏ ولكننا لا نملك إلا أن نشير إلى هذه الحقيقة؛ لعل الله أن يهدي البشرية المنكودة الطالع إليها‏.‏‏.‏ والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن‏.‏ والهدى هدى الله‏.‏‏.‏

وفي ظل هذا الرخاء الآمن الذي يعد الله به الجماعة المسلمة، التي تنبذ الربا من حياتها، فتنبذ الكفر والإثم، وتقيم هذه الحياة على الإيمان والعمل الصالح والعبادة والزكاة‏.‏‏.‏ في ظل هذا الرخاء الآمن يهتف بالذين آمنوا الهتاف الأخير ليحولوا حياتهم عن النظام الربوي الدنس المقيت؛ وإلا فهي الحرب المعلنة من الله ورسوله، بلا هوادة ولا إمهال ولا تأخير‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين‏.‏ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله‏.‏ وأن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

إن النص يعلق إيمان الذين آمنوا على ترك ما بقي من الربا‏.‏ فهم ليسوا بمؤمنين إلا أن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا‏.‏ ليسوا بمؤمنين ولو أعلنوا أنهم مؤمنون‏.‏ فإنه لا إيمان بغير طاعة وانقياد واتباع لما أمر الله به‏.‏ والنص القرآني لا يدعهم في شبهة من الأمر‏.‏ ولا يدع إنساناً يتستر وراء كلمة الإيمان، بينما هو لا يطيع ولا يرتضي ما شرع الله، ولا ينفذه في حياته، ولا يحكمه في معاملاته‏.‏ فالذين يفرقون في الدين بين الاعتقاد والمعاملات ليسوا بمؤمنين‏.‏ مهما ادعوا الإيمان وأعلنوا بلسانهم أو حتى بشعائر العبادة الأخرى أنهم مؤمنون‏!‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا‏.‏‏.‏ إن كنتم مؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

لقد ترك لهم ما سلف من الربا- لم يقرر استرداده منهم، ولا مصادرة أموالهم كلها أو جزء منها بسبب أن الربا كان داخلاً فيها‏.‏‏.‏ إذ لا تحريم بغير نص‏.‏‏.‏ ولا حكم بغير تشريع‏.‏‏.‏ والتشريع ينفذ وينشئ آثاره بعد صدوره‏.‏‏.‏ فأما الذي سلف فأمره إلى الله لا إلى أحكام القانون‏.‏ وبذلك تجنب الإسلام إحداث هزة اقتصادية واجتماعية ضخمة لو جعل لتشريعه أثراً رجعياً‏.‏ وهو المبدأ الذي أخذ به التشريع الحديث حديثاً‏!‏ ذلك أن التشريع الإسلامي موضوع ليواجه حياة البشر الواقعية، ويسيرها، ويطهرها ويطلقها تنمو وترتفع معاً‏.‏‏.‏ وفي الوقت ذاته علق اعتبارهم مؤمنين على قبولهم لهذا التشريع وإنفاذه في حياتهم منذ نزوله وعلمهم به‏.‏ واستجاش في قلوبهم- مع هذا- شعور التقوى لله‏.‏ وهو الشعور الذي ينوط به الإسلام تنفيذ شرائعه، ويجعله الضمان الكامن في ذات الأنفس، فوق الضمانات المكفولة بالتشريع ذاته‏.‏ فيكون له من ضمانات التنفيذ ما ليس للشرائع الوضعية التي لا تستند إلا للرقابة الخارجية‏!‏ وما أيسر الاحتيال على الرقابة الخارجية، حين لا يقوم من الضمير حارس له من تقوى الله سلطان‏.‏

فهذه صفحة الترغيب‏.‏‏.‏ وإلى جوارها صفحة الترهيب‏.‏‏.‏ الترهيب الذي يزلزل القلوب‏:‏

‏{‏فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله‏}‏‏.‏

يا للهول‏!‏ حرب من الله ورسوله‏.‏‏.‏ حرب تواجهها النفس البشرية‏.‏‏.‏ حرب رهيبة معروفة المصير، مقررة العاقبة‏.‏‏.‏ فأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القوة الجبارة الساحقة الماحقة‏؟‏‏!‏

ولقد أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عامله على مكة بعد نزول هذه الآيات التي نزلت متأخرة أن يحارب آل المغيرة هناك إذا لم يكفوا عن التعامل الربوي‏.‏ وقد أمر- صلى الله عليه وسلم- في خطبته يوم فتح مكة بوضع كل ربا في الجاهلية- وأوله ربا عمه العباس- عن كاهل المدينين الذي ظلوا يحملونه إلى ما بعد الإسلام بفترة طويلة، حتى نضج المجتمع المسلم، واستقرت قواعده، وحان أن ينتقل نظامه الاقتصادي كله من قاعدة الربا الوبيئة‏.‏ وقال- صلى الله عليه وسلم- في هذه الخطبة‏:‏

«وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين‏.‏ وأول ربا أضع ربا العباس‏.‏‏.‏» ولم يأمرهم برد الزيادات التي سبق لهم أخذها في حالة الجاهلية‏.‏

فالإمام مكلف- حين يقوم المجتمع الإسلامي- أن يحارب الذين يصرون على قاعدة النظام الربوي، ويعتون عن أمر الله، ولو أعلنوا أنهم مسلمون‏.‏ كما حارب أبو بكر- رضي الله عنه- مانعي الزكاة، مع شهادتهم أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامتهم للصلاة‏.‏ فليس مسلماً من يأبى طاعة شريعة الله، ولا ينفذها في واقع الحياة‏!‏

على أن الإيذان بالحرب من الله ورسوله أعم من القتال بالسيف والمدفع من الإمام‏.‏ فهذه الحرب معلنة- كما قال أصدق القائلين- على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي‏.‏ هذه الحرب معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة‏.‏ وهي حرب على الأعصاب والقلوب‏.‏ وحرب على البركة والرخاء‏.‏ وحرب على السعادة والطمأنينة‏.‏‏.‏ حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لنظامه ومنهجه على بعض‏.‏ حرب المطاردة والمشاكسة‏.‏ حرب الغبن والظلم‏.‏ حرب القلق والخوف‏.‏‏.‏ وأخيراً حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول‏.‏ الحرب الساحقة الماحقة التي تقوم وتنشأ من جراء النظام الربوي المقيت‏.‏ فالمرابون أصحاب رؤوس الأموال العالمية هم الذين يوقدون هذه الحروب مباشرة أو عن طريق غير مباشر‏.‏ وهم يلقون شباكهم فتقع فيها الشركات والصناعات‏.‏ ثم تقع فيها الشعوب والحكومات‏.‏ ثم يتزاحمون على الفرائس فتقوم الحرب‏!‏ أو يزحفون وراء أموالهم بقوة حكوماتهم وجيوشها فتقوم الحرب‏!‏ أو يثقل عبء الضرائب والتكاليف لسداد فوائد ديونهم، فيعم الفقر والسخط بين الكادحين والمنتجين، فيفتحون قلوبهم للدعوات الهدامة فتقوم الحرب‏!‏ وأيسر ما يقع- إن لم يقع هذا كله- هو خراب النفوس، وانهيار الأخلاق، وانطلاق سعار الشهوات، وتحطم الكيان البشري من أساسه، وتدميره بما لا تبلغه أفظع الحروب الذرية الرعيبة‏!‏

إنها الحرب المشبوبة دائماً‏.‏

وقد أعلنها الله على المتعاملين بالربا‏.‏‏.‏ وهي مسعرة الآن؛ تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة؛ وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت تلال الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع‏.‏‏.‏ وكانت هذه التلال حرية بأن تسعد البشر لو أنها نشأت من منبت زكي طاهر؛ ولكنها- وهي تخرج من منبع الربا الملوث- لا تمثل سوى ركام يخنق أنفاس البشرية، ويسحقها سحقاً؛ في حين تجلس فوقه شرذمة المرابين العالميين، لا تحس آلام البشرية المسحوقة تحت هذا الركام الملعون‏!‏

لقد دعا الإسلام الجماعة المسلمة الأولى، ولا يزال يدعو البشرية كلها إلى المَشْرع الطاهر النظيف، وإلى التوبة من الإثم والخطيئة والمنهج الوبيء‏:‏

‏{‏وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم‏.‏ لا تظلمون ولا تظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

فهي التوبة عن خطيئة‏.‏ إنها خطيئة الجاهلية‏.‏ الجاهلية التي لا تتعلق بزمان دون زمان، ولا نظام دون نظام‏.‏‏.‏ إنما هي الانحراف عن شريعة الله ومنهجه متى كان وحيث كان‏.‏‏.‏ خطيئة تنشئ آثارها في مشاعر الأفراد وفي أخلاقهم وفي تصورهم للحياة‏.‏ وتنشئ آثارها في حياة الجماعة وارتباطاتها العامة‏.‏ وتنشئ آثارها في الحياة البشرية كلها، وفي نموها الاقتصادي ذاته‏.‏ ولو حسب المخدوعون بدعاية المرابين، إنها وحدها الأساس الصالح للنمو الاقتصادي‏!‏

واسترداد رأس المال مجرداً، عدالة لا يظلم فيها دائن ولا مدين‏.‏‏.‏ فأما تنمية المال فلها وسائلها الأخرى البريئة النظيفة‏.‏ لها وسيلة الجهد الفردي‏.‏ ووسيلة المشاركة على طريقة المضاربة وهي إعطاء المال لمن يعمل فيه، ومقاسمته الربح والخسارة‏.‏ ووسيلة الشركات التي تطرح أسهمها مباشرة في السوق- بدون سندات تأسيس تستأثر بمعظم الربح- وتناول الأرباح الحلال من هذا الوجه‏.‏ ووسيلة إيداعها في المصارف بدون فائدة- على أن تساهم بها المصارف في الشركات والصناعات والأعمال التجارية مباشرة أو غير مباشرة- ولا تعطيها بالفائدة الثابتة- ثم مقاسمة المودعين الربح على نظام معين أو الخسارة إذا فرض ووقعت‏.‏‏.‏ وللمصارف أن تتناول قدراً معيناً من الأجر في نظير إدارتها لهذه الأموال‏.‏‏.‏ ووسائل أخرى كثيرة ليس هنا مجال تفصيلها‏.‏‏.‏ وهي ممكنة وميسرة حين تؤمن القلوب، وتصح النيات على ورود المورد النظيف الطاهر، وتجنب المورد العفن النتن الآسن‏!‏

ويكمل السياق الأحكام المتعلقة بالدين في حالة الإعسار‏.‏‏.‏ فليس السبيل هو ربا النسيئة‏:‏ بالتأجيل مقابل الزيادة‏.‏‏.‏ ولكنه هو الإنظار إلى ميسرة‏.‏ والتحبيب في التصدق به لمن يريد مزيداً من الخير أوفى وأعلى‏:‏

‏{‏وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة‏.‏ وأن تصدقوا خير لكم‏.‏‏.‏ إن كنتم تعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

إنها السماحة الندية التي يحملها الإسلام للبشرية‏.‏ إنه الظل الظليل الذي تأوي إليه البشرية المتعبة في هجير الأثرة والشح والطمع والتكالب والسعار‏.‏ إنها الرحمة للدائن والمدين وللمجتمع الذي يظل الجميع‏!‏

ونحن نعرف أن هذه الكلمات لا تؤدي مفهوماً «معقولاً» في عقول المناكيد الناشئين في هجير الجاهلية المادية الحاضرة‏!‏ وأن مذاقها الحلو لا طعم له في حسهم المتحجر البليد‏!‏- وبخاصة وحوش المرابين سواء كانوا أفراداً قابعين في زوايا الأرض يتلمظون للفرائس من المحاويج والمنكوبين الذين تحل بهم المصائب فيحتاجون للمال للطعام والكساء والدواء أو لدفن موتاهم في بعض الأحيان، فلا يجدون في هذا العالم المادي الكز الضنين الشحيح من يمد لهم يد المعونة البيضاء؛ فيلجأون مرغمين إلى أوكار الوحوش‏.‏

فرائس سهلة تسعى إلى الفخاخ بأقدامها‏.‏ تدفعها الحاجة وتزجيها الضرورة‏!‏ سواء كانوا أفرادا هكذا أو كانوا في صورة بيوت مالية ومصارف ربوية‏.‏ فكلهم سواء‏.‏ غير أن هؤلاء يجلسون في المكاتب الفخمة على المقاعد المريحة؛ ووراءهم ركام من النظريات الاقتصادية، والمؤلفات العلمية، والأساتذة والمعاهد والجامعات، والتشريعات والقوانين، والشرطة والمحاكم والجيوش‏.‏‏.‏ كلها قائمة لتبرير جريمتهم وحمايتها، وأخذ من يجرؤ على التلكؤ في رد الفائدة الربوية إلى خزائنهم باسم القانون‏.‏‏.‏ ‏!‏‏!‏

نحن نعرف أن هذه الكلمات لا تصل إلى تلك القلوب‏.‏‏.‏ ولكنا نعرف أنها الحق‏.‏ ونثق أن سعادة البشرية مرهونة بالاستماع إليها والأخذ بها‏:‏

‏{‏وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة‏.‏ وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏‏.‏

إن المعسر- في الإسلام- لا يطارد من صاحب الدين، أو من القانون والمحاكم‏.‏ إنما ينظر حتى يوسر‏.‏‏.‏ ثم إن المجتمع المسلم لا يترك هذا المعسر وعليه دين‏.‏ فالله يدعو صاحب الدين أن يتصدق بدينه- إن تطوع بهذا الخير‏.‏ وهو خير لنفسه كما هو خير للمدين‏.‏ وهو خير للجماعة كلها ولحياتها المتكافلة‏.‏ لو كان يعلم ما يعلمه الله من سريرة هذا الأمر‏!‏

ذلك أن إبطال الربا يفقد شطراً كبيراً من حكمته إذا كان الدائن سيروح يضايق المدين، ويضيق عليه الخناق‏.‏ وهو معسر لا يملك السداد‏.‏ فهنا كان الأمر- في صورة شرط وجواب- بالانتظار حتى يوسر ويقدر على الوفاء‏.‏ وكان بجانبه التحبيب في التصدق بالدين كله أو بعضه عند الإعسار‏.‏

على أن النصوص الأخرى تجعل لهذا المدين المعسر حظاً من مصارف الزكاة، ليؤدي دينه، وييسر حياته‏:‏ ‏{‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين‏.‏‏.‏‏.‏ والغارمين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وهم أصحاب الديون‏.‏ الذين لم ينفقوا ديونهم على شهواتهم وعلى لذائذهم‏.‏ إنما أنفقوها في الطيب النظيف ثم قعدت بهم الظروف‏!‏

ثم يجيء التعقيب العميق الإيحاء، الذي ترجف منه النفس المؤمنة، وتتمنى لو تنزل عن الدين كله، ثم تمضي ناجية من الله يوم الحساب‏:‏

‏{‏واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله‏.‏ ثم توفى كل نفس ما كسبت، وهم لا يظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

واليوم الذي يرجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت يوم عسير، له في القلب المؤمن وقع؛ ومشهده حاضر في ضمير المؤمن، وله في ضمير المؤمن هول‏.‏ والوقوف بين يدي الله في هذا اليوم خاطر يزلزل الكيان‏!‏

وهو تعقيب يتناسق مع جو المعاملات‏.‏ جو الأخذ والعطاء‏.‏ جو الكسب والجزاء‏.‏‏.‏ إنه التصفية الكبرى للماضي جميعه بكل ما فيه‏.‏ والقضاء الأخير في الماضي بين كل من فيه‏.‏ فما أجدر القلب المؤمن أن يخشاه وأن يتوقاه‏.‏

إن التقوى هي الحارس القابع في أعماق الضمير؛ يقيمه الإسلام هناك لا يملك القلب فراراً منه لأنه في الأعماق هناك‏!‏

إنه الإسلام‏.‏‏.‏ النظام القوي‏.‏‏.‏ الحلم الندي الممثل في واقع أرضي‏.‏‏.‏ رحمة الله بالبشر‏.‏ وتكريم الله للإنسان‏.‏ والخير الذي تشرد عنه البشرية؛ ويصدها عنه أعداء الله وأعداء الإنسان‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏282- 284‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏282‏)‏ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏283‏)‏ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏284‏)‏‏}‏

هذه الأحكام الخاصة بالدين والتجارة والرهن تكملة للأحكام السابقة في درسي الصدقة والربا‏.‏ فقد استبعد التعامل الربوي في الدرس السابق والديون الربوية والبيوع الربوية‏.‏‏.‏ أما هنا فالحديث عن القرض الحسن بلا ربا ولا فائدة، وعن المعاملات التجارية الحاضرة المبرأة من الربا‏.‏‏.‏

وإن الإنسان ليقف في عجب وفي إعجاب أمام التعبير التشريعي في القرآن- حيث تتجلى الدقة العجيبة في الصياغة القانونية حتى ما يبدل لفظ بلفظ، ولا تقدم فقرة عن موضعها أو تؤخر‏.‏ وحيث لا تطغى هذه الدقة المطلقة في الصياغة القانونية على جمال التعبير وطلاوته‏.‏ وحيث يربط التشريع بالوجدان الديني ربطاً لطيف المدخل عميق الإيحاء قوي التأثير، دون الإخلال بترابط النص من ناحية الدلالة القانونية‏.‏ وحيث يلحظ كل المؤثرات المحتملة في موقف طرفي التعاقد وموقف الشهود والكتاب، فينفي هذه المؤثرات كلها ويحتاط لكل احتمال من احتمالاتها‏.‏ وحيث لا ينتقل من نقطة إلى نقطة إلا وقد استوفى النقطة التشريعية بحيث لا يعود إليها إلا حيث يقع ارتباط بينها وبين نقطة جديدة يقتضي الإشارة إلى الرابطة بينهما‏.‏‏.‏‏.‏

إن الإعجاز في صياغة آيات التشريع هنا لهو الإعجاز في صياغة آيات الإيحاء والتوجيه‏.‏ بل هو أوضح وأقوى‏.‏ لأن الغرض هنا دقيق يحرفه لفظ واحد، ولا ينوب فيه لفظ عن لفظ‏.‏ ولولا الإعجاز ما حقق الدقة التشريعية المطلقة والجمال الفني المطلق على هذا النحو الفريد‏.‏

ذلك كله فوق سبق التشريع الإسلامي بهذه المبادئ للتشريع المدني والتجاري بحوالي عشرة قرون، كما يعترف الفقهاء المحدثون‏!‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه‏}‏‏.‏‏.‏

هذا هو المبدأ العام الذي يريد تقريره‏.‏ فالكتابة أمر مفروض بالنص، غير متروك للاختيار في حالة الدين إلى أجل‏.‏ لحكمة سيأتي بيانها في نهاية النص‏.‏

‏{‏وليكتب بينكم كاتب بالعدل‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا تعيين للشخص الذي يقوم بكتابة الدين فهو كاتب‏.‏ وليس أحد المتعاقدين‏.‏ وحكمة استدعاء ثالث- ليس أحد الطرفين في التعاقد- هي الاحتياط والحيدة المطلقة‏.‏ وهذا الكاتب مأمور أن يكتب بالعدل، فلا يميل مع أحد الطرفين، ولا ينقص أو يزيد في النصوص‏.‏‏.‏

‏{‏ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله‏}‏‏.‏‏.‏

فالتكليف هنا من الله- بالقياس إلى الكاتب- كي لا يتأخر ولا يأبى ولا يثقل العمل على نفسه‏.‏ فتلك فريضة من الله بنص التشريع، حسابه فيها على الله‏.‏ وهي وفاء لفضل الله عليه إذ علمه كيف يكتب‏.‏‏.‏ ‏{‏فليكتب‏}‏ كما علمه الله‏.‏

وهنا يكون الشارع قد انتهى من تقرير مبدأ الكتابة في الدين إلى أجل‏.‏ ومن تعيين من يتولى الكتابة‏.‏ ومن تكليفه بأن يكتب‏.‏ ومع التكليف ذلك التذكير اللطيف بنعمة الله عليه، وذلك الإيحاء بأن يلتزم العدل‏.‏

وهنا ينتقل إلى فقرة تالية يبين فيها كيف يكتب‏.‏‏.‏

‏{‏وليملل الذي عليه الحق‏.‏ وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً‏.‏ فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل‏}‏‏.‏‏.‏

إن المدين- الذي عليه الحق- هو الذي يملي على الكاتب اعترافه بالدين، ومقدار الدين، وشرطه وأجله‏.‏‏.‏ ذلك خيفة أن يقع الغبن على المدين لو أملى الدائن، فزاد في الدين، أو قرب الأجل، أو ذكر شروطاً معينة في مصلحته‏.‏ والمدين في موقف ضعيف قد لا يملك معه إعلان المعارضة رغبة في إتمام الصفقة لحاجته إليها، فيقع عليه الغبن‏.‏ فإذا كان المدين هو الذي يملي لم يمل إلا ما يريد الارتباط به عن طيب خاطر‏.‏ ثم ليكون إقراره بالدين أقوى وأثبت، وهو الذي يملي‏.‏‏.‏ وفي الوقت ذاته يناشد ضمير المدين- وهو يملي- أن يتقي الله ربه ولا يبخس شيئاً من الدين الذي يقر به ولا من سائر أركان الإقرار الأخرى‏.‏‏.‏ فإن كان المدين سفيهاً لا يحسن تدبير أموره‏.‏ أو ضعيفاً- أي صغيراً أو ضعيف العقل- أو لا يستطيع أن يمل هو إما لعي أو جهل أو آفة في لسانه أو لأي سبب من الأسباب المختلفة الحسية أو العقلية‏.‏‏.‏ فليملل ولي أمره القيم عليه‏.‏‏.‏ ‏{‏بالعدل‏}‏‏.‏‏.‏ والعدل يذكر هنا لزيادة الدقة‏.‏ فربما تهاون الولي- ولو قليلاً- لأن الدين لا يخصه شخصياً‏.‏ كي تتوافر الضمانات كلها لسلامة التعاقد‏.‏

وبهذا ينتهي الكلام عن الكتابة من جميع نواحيها، فينتقل الشارع إلى نقطة أخرى في العقد، نقطة الشهادة‏:‏

‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم‏.‏ فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان- ممن ترضون من الشهداء- أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى‏}‏‏.‏‏.‏

إنه لا بد من شاهدين على العقد- ‏{‏ممن ترضون من الشهداء‏}‏- والرضى يشمل معنيين‏:‏ الأول أن يكون الشاهدان عدلين مرضيين في الجماعة‏.‏ والثاني أن يرضى بشهادتهما طرفا التعاقد‏.‏‏.‏ ولكن ظروفاً معينة قد لا تجعل وجود شاهدين أمراً ميسوراً‏.‏ فهنا ييسر التشريع فيستدعي النساء للشهادة، وهو إنما دعا الرجال لأنهم هم الذين يزاولون الأعمال عادة في المجتمع المسلم السوي، الذي لا تحتاج المرأة فيه أن تعمل لتعيش، فتجور بذلك على أمومتها وأنوثتها وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية وهي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل، في مقابل لقيمات أو دريهمات تنالها من العمل، كما تضطر إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد المنحرف الذي نعيش فيه اليوم‏!‏ فأما حين لا يوجد رجلان فليكن رجل واحد وامرأتان‏.‏‏.‏ ولكن لماذا امرأتان‏؟‏ إن النص لا يدعنا نحدس‏!‏ ففي مجال التشريع يكون كل نص محدداً واضحاً معللاً‏:‏ ‏{‏أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى‏}‏‏.‏‏.‏ والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة‏.‏

فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء، فتذكرها الأخرى بالتعاون معاً على تذكر ملابسات الموضوع كله‏.‏ وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية‏.‏ فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعي مقابلا نفسياً في المرأة حتماً‏.‏ تستدعي أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية لا ترجع فيهما إلى التفكير البطيء‏.‏‏.‏ وذلك من فضل الله على المرأة وعلى الطفولة‏.‏‏.‏ وهذه الطبيعة لا تتجزأ، فالمرأة شخصية موحدة هذا طابعها- حين تكون امرأة سوية- بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال، ووقوف عند الوقائع بلا تأثر ولا إيحاء‏.‏ ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى- إذا انحرفت مع أي انفعال- فتتذكر وتفيء إلى الوقائع المجردة‏.‏

وكما وجه الخطاب في أول النص إلى الكتاب ألا يأبوا الكتابة، يوجهه هنا إلى الشهداء ألا يأبوا الشهادة‏:‏

‏{‏ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا‏}‏‏.‏‏.‏

فتلبية الدعوة للشهادة إذن فريضة وليست تطوعاً‏.‏ فهي وسيلة لإقامة العدل وإحقاق الحق‏.‏ والله هو الذي يفرضها كي يلبيها الشهداء عن طواعية تلبية وجدانية، بدون تضرر أو تلكؤ‏.‏ وبدون تفضل كذلك على المتعاقدين أو على أحدهما، إذا كانت الدعوة من كليهما أو من أحدهما‏.‏

وهنا ينتهي الكلام عن الشهادة، فينتقل الشارع إلى غرض آخر‏.‏ غرض عام للتشريع‏.‏ يؤكد ضرورة الكتابة- كبر الدين أم صغر- ويعالج ما قد يخطر للنفس من استثقال الكتابة وتكاليفها بحجة أن الدين صغير لا يستحق، أو أنه لا ضرورة للكتابة بين صاحبيه لملابسة من الملابسات كالتجمل والحياء أو الكسل وقلة المبالاة‏!‏ ثم يعلل تشديده في وجوب الكتابة تعليلاً وجدانياً وتعليلاً عملياً‏:‏

‏{‏ولا تسأموا أن تكتبوه- صغيراً أو كبيراً- إلى أجله‏.‏ ذلكم أقسط عند الله، وأقوم للشهادة، وأدنى ألا ترتابوا‏}‏‏.‏

لا تسأموا‏.‏‏.‏ فهو إدراك لانفعالات النفس الإنسانية حين تحس أن تكاليف العمل أضخم من قيمته‏.‏‏.‏ ‏{‏ذلكم أقسط عند الله‏}‏‏.‏‏.‏ أعدل وأفضل‏.‏ وهو إيحاء وجداني بأن الله يحب هذا ويؤثره‏.‏ ‏{‏وأقوم للشهادة‏}‏‏.‏ فالشهادة على شيء مكتوب أقوم من الشهادة الشفوية التي تعتمد على الذاكرة وحدها‏.‏ وشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أقوم كذلك للشهادة وأصح من شهادة الواحد، أو الواحد والواحدة‏.‏ ‏{‏وأدنى ألا ترتابوا‏}‏‏:‏ أقرب لعدم الريبة‏.‏ الريبة في صحة البيانات التي تضمنها العقد، أو الريبة في أنفسكم وفي سواكم إذا ترك الأمر بلا قيد‏.‏

وهكذا تتكشف حكمة هذه الإجراءات كلها؛ ويقتنع المتعاملون بضرورة هذا التشريع، ودقة أهدافه، وصحة إجراءاته‏.‏ إنها الصحة والدقة والثقة والطمأنينة‏.‏

ذلك شأن الدين المسمى إلى أجل‏.‏

أما التجارة الحاضرة فإن بيوعها مستثناة من قيد الكتابة‏.‏ وتكفي فيها شهادة الشهود تيسيراً للعمليات التجارية التي يعرقلها التعقيد، والتي تتم في سرعة، وتتكرر في أوقات قصيرة، ذلك أن الإسلام وهو يشرع للحياة كلها قد راعى كل ملابساتها؛ وكان شريعة عملية واقعية لا تعقيد فيها، ولا تعويق لجريان الحياة في مجراها‏:‏

‏{‏إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم، فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم‏}‏‏.‏

وظاهر النص أن الإعفاء من الكتابة رخصة لا جناح فيها‏.‏ أما الإشهاد فموجَب‏.‏ وقد وردت بعض الروايات بأن الإشهاد كذلك للندب لا للوجوب‏.‏ ولكن الأرجح هو ذاك‏.‏

والآن- وقد انتهى تشريع الدين المسمى، والتجارة الحاضرة، والتقى كلاهما عند شرطي الكتابة والشهادة- على الوجوب وعلى الرخصة- فإنه يقرر حقوق الكتاب والشهداء كما قرر واجباتهم من قبل‏.‏‏.‏ لقد أوجب عليهم ألا يأبوا الكتابة أو الشهادة‏.‏ فالآن يوجب لهم الحماية والرعاية ليتوازن الحق والواجب في أداء التكاليف العامة‏.‏

‏{‏ولا يضار كاتب ولا شهيد‏.‏ وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم‏.‏ واتقوا الله ويعلمكم الله‏.‏ والله بكل شيء عليم‏}‏‏.‏

لا يقع ضرر على كاتب أو شهيد، بسبب أدائه لواجبه الذي فرضه الله عليه‏.‏ وإذا وقع فإنه يكون خروجاً منكم عن شريعة الله ومخالفة عن طريقه‏.‏ وهو احتياط لا بد منه‏.‏ لأن الكتاب والشهداء معرضون لسخط أحد الفريقين المتعاقدين في أحيان كثيرة‏.‏ فلا بد من تمتعهم بالضمانات التي تطمئنهم على أنفسهم، وتشجعهم على أداء واجبهم بالذمة والأمانة والنشاط في أداء الواجبات، والحيدة في جميع الأحوال‏.‏ ثم- وعلى عادة القرآن في إيقاظ الضمير، واستجاشة الشعور كلما هم بالتكليف، ليستمد التكليف دفعته من داخل النفس، لا من مجرد ضغط النص- يدعو المؤمنين إلى تقوى الله في النهاية؛ ويذكرهم بأن الله هو المتفضل عليهم، وهو الذي يعلمهم ويرشدهم، وأن تقواه تفتح قلوبهم للمعرفة وتهيئ أرواحهم للتعليم، ليقوموا بحق هذا الإنعام بالطاعة والرضى والإذعان‏:‏

‏{‏واتقوا الله‏.‏ ويعلمكم الله‏.‏ والله بكل شئ عليم‏}‏‏.‏

ثم يعود المشرع إلى تكملة في أحكام الدين، آخرها في النص لأنها ذات ظروف خاصة، فلم يذكرها هناك في النص العام‏.‏‏.‏ ذلك حين يكون الدائن والمدين على سفر فلا يجدان كاتباً‏.‏ فتيسيراً للتعامل، مع ضمان الوفاء، رخص الشارع في التعاقد الشفوي بلا كتابة مع تسليم رهن مقبوض للدائن ضامن للدين‏:‏

‏{‏وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة‏}‏‏.‏

وهنا يستجيش الشارع ضمائر المؤمنين للأمانة والوفاء بدافع من تقوى الله‏.‏ فهذا هو الضمان الأخير لتنفيذ التشريع كله، ولرد الأموال والرهائن إلى أصحابها، والمحافظة الكاملة عليها‏:‏

‏{‏فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه‏}‏‏.‏

والمدين مؤتمن على الدين، والدائن مؤتمن على الرهن؛ وكلاهما مدعو لأداء ما اؤتمن عليه باسم تقوى الله ربه‏.‏

والرب هو الراعي والمربي والسيد والحاكم والقاضي‏.‏ وكل هذه المعاني ذات إيحاء في موقف التعامل والائتمان والأداء‏.‏‏.‏ وفي بعض الآراء أن هذه الآية نسخت آية الكتابة في حالة الإئتمان‏.‏ ونحن لا نرى هذا، فالكتابة واجبة في الدين إلا في حالة السفر‏.‏ والإئتمان خاص بهذه الحالة‏.‏ والدائن والمدين كلاهما- في هذه الحالة- مؤتمن‏.‏

وفي ظل هذه الاستجاشة إلى التقوى، يتم الحديث عن الشهادة- عند التقاضي في هذه المرة لا عند التعاقد- لأنها أمانة في عنق الشاهد وقلبه‏:‏

‏{‏ولا تكتموا الشهادة‏.‏ ومن يكتمها فإنه آثم قلبه‏}‏‏.‏

ويتكئ التعبير هنا على القلب‏.‏ فينسب إليه الإثم‏.‏ تنسيقاً بين الإضمار للإثم، والكتمان للشهادة‏.‏ فكلاهما عمل يتم في أعماق القلب‏.‏ ويعقب عليه بتهديد ملفوف‏.‏ فليس هناك خاف على الله‏.‏

‏{‏والله بما تعملون عليم‏}‏‏.‏

وهو يجزي عليه بمقتضى علمه الذي يكشف الإثم الكامن في القلوب‏!‏

ثم يستمر السياق في توكيد هذه الإشارة، واستجاشة القلب للخوف من مالك السماوات والأرض وما فيهما، العليم بمكنونات الضمائر خفيت أم ظهرت، المجازي عليها، المتصرف في مصائر العباد بما يشاء من الرحمة والعذاب، القدير على كل شيء تتعلق به مشيئته بلا تعقيب‏!‏

‏{‏لله ما في السماوات وما في الأرض‏.‏ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، والله على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا يعقب على التشريع المدني البحت بهذا التوجيه الوجداني البحت؛ ويربط بين التشريعات للحياة وخالق الحياة، بذلك الرباط الوثيق، المؤلف من الخوف والرجاء في مالك الأرض والسماء‏.‏ فيضيف إلى ضمانات التشريع القانونية ضمانات القلب الوجدانية‏.‏‏.‏ وهي الضمان الوثيق المميز لشرائع الإسلام في قلوب المسلمين في المجتمع المسلم‏.‏‏.‏ وهي والتشريع في الإسلام متكاملان‏.‏ فالإسلام يصنع القلوب التي يشرع لها؛ ويصنع المجتمع الذي يقنن له‏.‏ صنعة إلهية متكاملة متناسقة‏.‏ تربية وتشريع‏.‏ وتقوى وسلطان‏.‏‏.‏ ومنهج للإنسان من صنع خالق الإنسان‏.‏ فأنى تذهب شرائع الأرض‏.‏ وقوانين الأرض، ومناهج الأرض، أنى تذهب نظرة إنسان قاصر، محدود العمر، محدود المعرفة، محدود الرؤية، يتقلب هواه هنا وهناك، فلا يستقر على حال، ولا يكاد يجتمع اثنان منه على رأي، ولا على رؤية، ولا على إدراك‏؟‏ وأنى تذهب البشرية شاردة عن ربها‏.‏ ربها الذي خلق، والذي يعلم من خلق، والذي يعلم ما يصلح لخلقه، في كل حالة وفي كل آن‏؟‏

ألا إنها الشقوة للبشرية في هذا الشرود عن منهج الله وشرعه‏.‏ الشقوة التي بدأت في الغرب هرباً من الكنيسة الطاغية الباغية هناك؛ ومن إلهها الذي كانت تزعم أنها تنطق باسمه وتحرم على الناس أن يتفكروا وأن يتدبروا؛ وتفرض عليهم باسمه الإتاوات الباهظة والاستبداد المنفر‏.‏‏.‏ فلما هم الناس أن يتخلصوا من هذا الكابوس، تخلصوا من الكنيسة وسلطانها‏.‏ ولكنهم لم يقفوا عند حد الاعتدال، فتخلصوا كذلك من إله الكنيسة وسلطانه‏!‏ ثم تخلصوا من كل دين يقودهم في حياتهم الأرضية بمنهج الله‏.‏‏.‏ وكانت الشقوة وكان البلاء‏!‏‏!‏

فأما نحن- نحن الذين نزعم الإسلام- فما بالنا‏؟‏ ما بالنا نشرد عن الله ومنهجه وشريعته وقانونه‏؟‏ ما بالنا وديننا السمح القويم لم يفرض علينا إلا كل ما يرفع عنا الأغلال، ويحط عنا الأثقال ويفيض علينا الرحمة والهدى واليسر والاستقامة على الطريق المؤدي إليه وإلى الرقي والفلاح‏؟‏‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏285- 286‏]‏

‏{‏آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏285‏)‏ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏286‏)‏‏}‏

هذا ختام السورة الكبيرة‏.‏‏.‏ الكبيرة بحجمها التعبيري إذ هي أطول سور القرآن، والكبيرة بموضوعاتها التي تمثل قطاعاً ضخماً رحيباً من قواعد التصور الإيماني، وصفة الجماعة المسلمة، ومنهجها، وتكاليفها، وموقفها في الأرض، ودورها في الوجود؛ وموقف أعدائها المناهضين لها، وطبيعتهم، وطبيعة وسائلهم في حربها؛ ووسيلتها هي في دفع غائلتهم عنها من جهة، وتوقي مصيرهم المنكود من جهة أخرى‏.‏‏.‏ كما شرحت السورة طبيعة دور الإنسان في الأرض، وفطرته، ومزالق خطاه، ممثلة في تاريخ البشرية وقصصها الواقعي‏.‏‏.‏ إلى آخر ما سبق تفصيله في أثناء استعراض نصوصها الطويلة‏.‏

هذا ختام السورة الكبيرة‏.‏‏.‏ في آيتين اثنتين‏.‏‏.‏ ولكنهما تمثلان بذاتهما تلخيصاً وافياً لأعظم قطاعات السورة‏.‏ يصلح ختاماً لها‏.‏ ختاماً متناسقاً مع موضوعاتها وجوها وأهدافها‏.‏

لقد بدأت السورة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم‏.‏ ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون‏}‏ وورد في ثناياها إشارات إلى هذه الحقيقة، وبخاصة حقيقة الإيمان بالرسل جميعاً‏.‏‏.‏ وها هي ذي تختم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون‏.‏ كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله‏.‏ لا نفرق بين أحد من رسله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وهو ختام يتناسق مع البدء كأنهما دفتا كتاب‏!‏

وقد حوت السورة الكثير من تكاليف الأمة المسلمة، وتشريعاتها في شتى شؤون الحياة‏.‏‏.‏ كما ورد فيها الكثير عن نكول بني إسرائيل عن تكاليفهم وتشريعاتهم‏.‏‏.‏ وفي ختامها يجيء هذا النص المفصح عن الحد الفاصل بين النهوض بالتكاليف والنكول عنها، المبين أن الله- سبحانه- لا يريد إعنات هذه الأمة ولا إثقالها، وأنه كذلك لا يحابيها- كما زعمت يهود عن ربها- ولا يتركها سدى‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏}‏‏.‏‏.‏

وقد تضمنت السورة بعض قصص بني إسرائيل؛ وما أنعم الله عليهم به من فضل وما قابلوا به هذا الفضل من جحود؛ وما كلفهم من كفارات بلغ بعضها حد القتل‏:‏ ‏{‏فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم‏}‏ وفي ختامها يرد ذلك الدعاء الخاشع من المؤمنين‏:‏ ‏{‏ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏.‏ ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا‏.‏ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏.‏ وأعف عنا واغفر لنا وارحمنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

وقد فرض في السورة على المؤمنين القتال؛ وأمروا بالجهاد والإنفاق في سبيل الله لدفع الكفر والكافرين‏.‏‏.‏ وهي تختم بالتجاء المؤمنين إلى ربهم يستمدون منه العون على ما كلفهم، والنصر على عدوهم‏:‏ ‏{‏أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين‏}‏‏.‏

إنه الختام الذي يلخص ويشير ويتناسق مع خط السورة الأصيل‏.‏‏.‏

وفي هاتين الآيتين كل كلمة لها موضعها، ولها دورها، ولها دلالتها الضخمة‏.‏

وهي قائمة في العبارة لتمثيل ما وراءها- وهو كبير- من حقائق العقيدة‏.‏‏.‏ من طبيعة الإيمان في هذا الدين وخصائصه وجوانبه‏.‏ ومن حال المؤمنين به مع ربهم، وتصورهم لما يريده- سبحانه- بهم، وبالتكاليف التي يفرضها عليهم‏.‏ ومن التجائهم إلى كنفه واستسلامهم لمشيئته وارتكانهم إلى عونه‏.‏‏.‏ نعم‏.‏‏.‏ كل كلمة لها دورها الضخم‏.‏ بصورة عجيبة‏.‏ عجيبة حتى في نفس من عاش في ظلال القرآن، وعرف شيئاً من أسرار التعبير فيه؛ وطالع هذه الأسرار في كل آية من آياته‏!‏

فلننظر في هذه النصوص بشيء من التفصيل‏:‏

‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون‏.‏ كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله‏.‏ لا نفرق بين أحد من رسله‏.‏ وقالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا‏.‏ غفرانك ربنا وإليك المصير‏}‏‏.‏‏.‏

إنها صورة للمؤمنين، للجماعة المختارة التي تمثلت فيها حقيقة الإيمان فعلاً‏.‏ ولكل جماعة تتمثل فيها هذه الحقيقة الضخمة‏.‏‏.‏ ومن ثم كرمها الله- سبحانه- وهو يجمعها- في حقيقة الإيمان الرفيعة- مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو تكريم تدرك الجماعة المؤمنة حقيقته؛ لأنها تدرك حقيقة الرسول الكبيرة؛ وتعرف أي مرتقى رفعها الله إليه عنده، وهو يجمع بينها وبين الرسول- صلى الله عليه وسلم- في صفة واحدة، في آية واحدة، من كلامه الجليل‏:‏

‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

وإيمان الرسول بما أنزل إليه من ربه هو إيمان التلقي المباشر‏.‏ تلقي قلبه النقي للوحي العلي‏.‏ واتصاله المباشر بالحقيقة المباشرة‏.‏ الحقيقة التي تتمثل في كيانه بذاتها من غير كد ولا محاولة؛ وبلا أداة أو واسطة‏.‏ وهي درجة من الإيمان لا مجال لوصفها فلا يصفها إلا من ذاقها، ولا يدركها من الوصف- على حقيقتها- إلا من ذاقها كذلك‏!‏ فهذا الإيمان- إيمان الرسول- صلى الله عليه وسلم- هو الذي يكرم الله عباده المؤمنين فيجمعهم في الوصف مع الرسول الكريم‏.‏ على فارق ما بين مذاقه في كيان الرسول- صلى الله عليه وسلم- بطبيعة الحال وكيان أيٍّ سواه ممن لم يتلق الحقيقة المباشرة من مولاه‏.‏

فما هي طبيعة هذا الإيمان وحدوده‏؟‏

‏{‏كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله‏.‏ لا نفرق بين أحد من رسله‏.‏ وقالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا‏.‏ غفرانك ربنا وإليك المصير‏}‏‏.‏‏.‏

إنه الإيمان الشامل الذي جاء به هذا الدين‏.‏ الإيمان الذي يليق بهذه الأمة الوارثة لدين الله، القائمة على دعوته في الأرض إلى يوم القيامة، الضاربة الجذور في أعماق الزمان، السائرة في موكب الدعوة وموكب الرسول وموكب الإيمان الممتد في شعاب التاريخ البشري، الإيمان الذي يتمثل البشرية كلها منذ نشأتها إلى نهايتها صفين اثنين‏:‏ صف المؤمنين وصف الكافرين‏.‏

حزب الله وحزب الشيطان‏.‏ فليس هنالك صف ثالث على مدار الزمان‏.‏

‏{‏كل آمن بالله‏}‏‏.‏‏.‏

والإيمان بالله في الإسلام قاعدة التصور‏.‏ وقاعدة المنهج الذي يحكم الحياة‏.‏ وقاعدة الخلق وقاعدة الاقتصاد‏.‏ وقاعدة كل حركة يتحركها المؤمن هنا أو هناك‏.‏

الإيمان بالله معناه إفراده- سبحانه- بالألوهية والربوبية والعبادة‏.‏ ومن ثم إفراده بالسيادة على ضمير الإنسان وسلوكه في كل أمر من أمور الحياة‏.‏

ليس هناك شركاء- إذن- في الألوهية أو الربوبية‏.‏ فلا شريك له في الخلق‏.‏ ولا شريك له في تصريف الأمور‏.‏ ولا يتدخل في تصريفه للكون والحياة أحد‏.‏ ولا يرزق الناس معه أحد‏.‏ ولا يضر أو ينفع غيره أحد‏.‏ ولا يتم شيء في هذا الوجود صغيراً كان أو كبيراً إلا ما يأذن به ويرضاه‏.‏

وليس هناك شركاء في العبادة يتجه إليهم الناس‏.‏ لا عبادة الشعائر ولا عبادة الخضوع والدينونة‏.‏ فلا عبادة إلا لله‏.‏ ولا طاعة إلا لله ولمن يعمل بأمره وشرعه، فيتلقى سلطانه من هذا المصدر الذي لا سلطان إلا منه‏.‏ فالسيادة على ضمائر الناس وعلى سلوكهم لله وحده بحكم هذا الإيمان‏.‏ ومن ثم فالتشريع وقواعد الخلق، ونظم الاجتماع والاقتصاد لا تتلقى إلا من صاحب السيادة الواحد الأحد‏.‏‏.‏ من الله‏.‏‏.‏ فهذا هو معنى الإيمان بالله‏.‏‏.‏ ومن ثم ينطلق الإنسان حراً إزاء كل من عدا الله، طليقاً من كل قيد إلا من الحدود التي شرعها الله، عزيزاً على كل أحد إلا بسلطان من الله‏.‏

‏{‏وملائكته‏}‏‏.‏‏.‏

والإيمان بملائكة الله طرف من الإيمان بالغيب، الذي تحدثنا عن قيمته في حياة الإنسان في مطلع السورة- في الجزء الأول من الظلال- وهو يخرج الإنسان من نطاق الحواس المضروب على الحيوان؛ ويطلقه يتلقى المعرفة مما وراء هذا النطاق الحيواني؛ وبذلك يعلن «إنسانيته» بخصائصها المميزة‏.‏‏.‏ ذلك بينما هو يلبي فطرة الإنسان وشوقه إلى المجاهيل التي لا تحيط بها حواسه، ولكنه يحس وجودها بفطرته‏.‏ فإذا لم تلب هذه الأشواق الفطرية بحقائق الغيب- كما منحها الله له- اشتطت وراء الأساطير والخرافات لتشبع هذه الجوعة؛ أو أصيب الكيان الإنساني بالخلخلة والاضطراب‏.‏

والإيمان بالملائكة‏:‏ إيمان بحقيقة غيبية، لا سبيل للإدراك البشري أن يعرفها بذاته، بوسائله الحسية والعقلية المهيأة له‏.‏‏.‏ بينما كيانه مفطور على الشوق إلى معرفة شيء من تلك الحقائق الغيبية‏.‏ ومن ثم شاءت رحمة الله بالإنسان- وهو فاطره وهو العليم بتكوينه وأشواقه وما يصلح له ويصلحه- أن يمده بطرف من الحقائق الغيبية هذه، ويعينه على تمثلها- ولو كانت أدواته الذاتية قاصرة عن الوصول إليها- وبذلك يريحه من العناء ومن تبديد الطاقة في محاولة الوصول إلى تلك الحقائق التي لا يصلح كيانه وفطرته بدون معرفتها، ولا يطمئن باله ولا يقر قراره قبل الحصول عليها‏!‏ بدليل أن الذين أرادوا أن يتمردوا على فطرتهم، فينفوا حقائق الغيب من حياتهم، استبدت ببعضهم خرافات وأوهام مضحكة؛ أو اضطربت عقولهم وأعصابهم وامتلأت بالعقد والانحرافات‏!‏

وفضلاً على ذلك كله فإن الإيمان بحقيقة الملائكة- شأنه شأن الإيمان بالحقائق الغيبية المستيقنة التي جاءت من عند الله- يوسع آفاق الشعور الإنساني بالوجود، فلا تنكمش صورة الكون في تصور المؤمن حتى تقتصر على ما تدركه حواسه- وهو ضئيل- كما أنه يؤنس قلبه بهذه الأرواح المؤمنة من حوله؛ تشاركه إيمانه بربه، وتستغفر له، وتكون في عونه على الخير- بإذن الله- وهو شعور لطيف ندي مؤنس ولا شك‏.‏

‏.‏ ثم هنالك المعرفة‏:‏ المعرفة بهذه الحقيقة وهي في ذاتها فضل يمنحه الله للمؤمنين به وبملائكته‏.‏‏.‏

‏{‏وكتبه ورسله‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏لا نفرِّق بين أحد من رسله‏}‏‏.‏‏.‏

والإيمان بكتب الله ورسله بدون تفرقة بين أحد من رسله هو المقتضى الطبيعي الذي ينبثق من الإيمان بالله في الصورة التي يرسمها الإسلام‏.‏ فالإيمان بالله يقتضي الاعتقاد بصحة كل ما جاء من عند الله، وصدق كل الرسل الذين يبعثهم الله، ووحدة الأصل الذي تقوم عليه رسالتهم، وتتضمنه الكتب التي نزلت عليهم‏.‏‏.‏ ومن ثم لا تقوم التفرقة بين الرسل في ضمير المسلم‏.‏ فكلهم جاء من عند الله بالإسلام في صورة من صوره المناسبة لحال القوم الذين أرسل إليهم؛ حتى انتهى الأمر إلى خاتم النبيين- محمد- صلى الله عليه وسلم- فجاء بالصورة الأخيرة للدين الواحد، لدعوة البشرية كلها إلى يوم القيامة‏.‏

وهكذا تتلقى الأمة المسلمة تراث الرسالة كله؛ وتقوم على دين الله في الأرض، وهي الوارثة له كله؛ ويشعر المسلمون- من ثم- بضخامة دورهم في هذه الأرض إلى يوم القيامة‏.‏ فهم الحراس على أعز رصيد عرفته البشرية في تاريخها الطويل‏.‏ وهم المختارون لحمل راية الله- وراية الله وحدها- في الأرض، يواجهون بها رايات الجاهلية المختلفة الشارات، من قومية ووطنية وجنسية وعنصرية وصهيونية وصليبية واستعمارية وإلحادية‏.‏‏.‏ إلى آخر شارات الجاهلية التي يرفعها الجاهليون في الأرض، على اختلاف الأسماء والمصطلحات واختلاف الزمان والمكان‏.‏

إن رصيد الإيمان الذي تقوم الأمة المسلمة حارسة عليه في الأرض، ووارثة له منذ أقدم الرسالات، هو أكرم رصيد وأقومه في حياة البشرية‏.‏ إنه رصيد من الهدى والنور، ومن الثقة والطمأنينة، ومن الرضى والسعادة، ومن المعرفة واليقين‏.‏‏.‏ وما يخلو قلب بشري من هذا الرصيد حتى يجتاحه القلق والظلام، وتعمره الوساوس والشكوك، ويستبد به الأسى والشقاء‏.‏ ثم يروح بتخبط في ظلماء طاخية، لا يعرف أين يضع قدميه في التيه الكئيب‏!‏

وصرخات القلوب التي حرمت هذا الزاد، وحرمت هذا الأنس، وحرمت هذا النور، صرخات موجعة في جميع العصور‏.‏‏.‏ هذا إذا كان في هذه القلوب حساسية وحيوية ورغبة في المعرفة ولهفة على اليقين‏.‏

فأما القلوب البليدة الميتة الجاسية الغليظة، فقد لا تحس هذه اللهفة ولا يؤرقها الشوق إلى المعرفة‏.‏‏.‏ ومن ثم تمضي في الأرض كالبهيمة تأكل وتستمتع كما تأكل الأنعام وتستمتع‏.‏ وقد تنطح وترفس كالبهيمة، أو تفترس وتنهش كالوحش؛ وتزاول الطغيان والجبروت والبغي والبطش، وتنشر الفساد في الأرض‏.‏‏.‏ ثم تمضي ملعونة من الله ملعونة من الناس‏!‏

والمجتمعات المحرومة من تلك النعمة مجتمعات بائسة- ولو غرقت في الرغد المادي- خاوية- ولو تراكم فيها الإنتاج- قلقة- ولو توافرت لها الحريات والأمن والسلام الخارجي- وأمامنا في أمم الأرض شواهد على هذه الظاهرة لا ينكرها إلا مراوغ يتنكر للحس والعيان‏!‏

والمؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، يتوجهون إلى ربهم بالطاعة والتسليم، ويعرفون أنهم صائرون إليه، فيطلبون مغفرته من التقصير‏:‏

‏{‏وقالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا، وإليك المصير‏}‏‏.‏

ويتجلى في هذه الكلمات أثر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله‏.‏ يتجلى في السمع والطاعة، السمع لكل ما جاءهم من عند الله، والطاعة لكل ما أمر به الله‏.‏ فهو إفراد الله بالسيادة كما ذكرنا من قبل، والتلقي منه في كل أمر‏.‏ فلا إسلام بلا طاعة لأمر الله، وإنفاذ لنهجه في الحياة‏.‏ ولا إيمان حيث يعرض الناس عن أمر الله في الكبيرة والصغيرة من شؤون حياتهم؛ أو حيث لا ينفذون شريعته، أو حيث يتلقون تصوراتهم عن الخلق والسلوك والاجتماع والاقتصاد والسياسة من مصدر غير مصدره‏.‏ فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل‏.‏

ومع السمع والطاعة‏.‏‏.‏ الشعور بالتقصير والعجز عن توفية آلاء الله حق شكرها؛ وفرائض الله حق أدائها‏.‏ والالتجاء إلى رحمة الله لتتدارك تقصيرهم وعجزهم بسماحتها‏:‏

‏{‏غفرانك ربنا‏}‏‏.‏‏.‏

ولكن طلب الغفران إنما يجيء بعد تقديم الاستسلام وإعلان السمع والطاعة ابتداء بلا عناد أو نكران‏.‏‏.‏ وإنما يعقبه كذلك اليقين بأن المصير إلى الله‏.‏ المصير إليه في الدنيا والآخرة‏.‏ المصير إليه في كل أمر وكل عمل‏.‏ فلا ملجأ من الله إلا إليه؛ ولا عاصم من قدره، ولا مرد لقضائه ولا نجوة من عقابه إلا برحمته وغفرانه‏:‏

‏{‏وإليك المصير‏}‏‏.‏

وهذا القول يتضمن الإيمان باليوم الآخر- كما رأينا- والإيمان باليوم الآخر هو أحد مقتضيات الإيمان بالله وفق التصور الإسلامي الذي يقوم على أساس أن الله خلق الإنسان ليستخلفه في الأرض بعهد منه وشرط، يتناول كل صغيرة وكبيرة من نشاطه في هذه الأرض؛ وأنه خلقه واستخلفه ليبتليه في حياته الدنيا، ثم ينال جزاءه بعد نهاية الابتلاء‏.‏‏.‏ فاليوم الآخر والجزاء فيه حتمية من حتميات الإيمان وفق التصور الإسلامي‏.‏‏.‏ وهذا الإيمان على هذا النحو هو الذي يكيف ضمير المسلم وسلوكه، وتقديره للقيم والنتائج في هذه العاجلة‏.‏ فهو يمضي في طريق الطاعة، وتحقيق الخير، والقيام على الحق والاتجاه إلى البر سواء كانت ثمرة ذلك- في الأرض- راحة له أم تعباً‏.‏

كسباً له أم خسارة‏.‏ نصراً له أم هزيمة‏.‏ وجداناً له أو حرماناً‏.‏ حياة له أو استشهاداً‏.‏ لأن جزاءه هناك في الدار الآخرة بعد نجاحه في الابتلاء، واجتيازه للامتحان‏.‏‏.‏ لا يزحزحه عن الطاعة والحق والخير والبر أن تقف له الدنيا كلها بالمعارضة والأذى والشر والقتل‏.‏‏.‏ فهو إنما يتعامل مع الله؛ وينفذ عهده وشرطه؛ وينتظر الجزاء هناك‏!‏

إنها الوحدة الكبرى‏.‏ طابع العقيدة الإسلامية‏.‏ ترسمه هذه الآية القصيرة‏:‏ الإيمان بالله وملائكته‏.‏ والإيمان بجميع كتبه ورسله، بلا تفريق بين الرسل، والسمع والطاعة، والإنابة إلى الله‏.‏ واليقين بيوم الحساب‏.‏

إنه الإسلام‏.‏ العقيدة اللائقة بأن تكون ختام العقائد، وآخر الرسالات‏.‏ العقيدة التي تصور موكب الإيمان الواصب من مبتدى الخليقة إلى منتهاها‏.‏ وخط الهداية المتصل الموصول بأيدي رسل الله جميعاً‏.‏ المتدرج بالبشرية في مراقي الصعود‏.‏ الكاشف لها عن الناموس الواحد بقدر ما تطيق‏:‏ حتى يجيء الإسلام، فيعلن وحدة الناموس كاملة، ويدع للعقل البشري التفصيل والتطبيق‏.‏

ثم هي العقيدة التي تعترف بالإنسان إنساناً لا حيواناً ولا حجراً، ولا ملكاً ولا شيطاناً‏.‏ تعترف به كما هو‏.‏ بما فيه من ضعف وما فيه من قوة، وتأخذه وحدة شاملة مؤلفة من جسد ذي نوازع، وعقل ذي تقدير، وروح ذي أشواق‏.‏‏.‏ وتفرض عليه من التكاليف ما يطيق؛ وتراعي التنسيق بين التكليف والطاقة بلا مشقة ولا إعنات؛ وتلبي كل حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق يمثل الفطرة‏.‏‏.‏ ثم تحمل الإنسان- بعد ذلك- تبعة اختياره للطريق الذي يختار‏:‏

‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا وسعها‏.‏ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏}‏‏.‏

وهكذا يتصور المسلم رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض؛ وفي ابتلائه في أثناء الخلافة؛ وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف‏.‏ ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله؛ فلا يتبرم بتكاليفه، ولا يضيق بها صدراً، ولا يستثقلها كذلك، وهو يؤمن أن الله الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه‏.‏ ومن شأن هذا التصور- فضلاً عما يسكبه في القلب من راحة وطمأنينة وأنس- أن يستجيش عزيمة المؤمن للنهوض بتكاليفه، وهو يحس أنها داخلة في طوقه؛ ولو لم تكن داخلة في طوقه ما كتبها الله عليه؛ فإذا ضعف مرة أو تعب مرة أو ثقل العبء عليه، أدرك أنه الضعف لا فداحة العبء‏!‏ واستجاش عزيمته ونفض الضعف عن نفسه وهمّ همة جديدة للوفاء، ما دام داخلاً في مقدروه‏!‏ وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق‏!‏ فهي التربية كذلك لروح المؤمن وهمته وإرادته؛ فوق تزويد تصوره بحقيقة إرادة الله به في كل ما يكلفه‏.‏

ثم الشطر الثاني من هذا التصور‏:‏

‏{‏لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏}‏‏.‏

فردية التبعة، فلا تنال نفس إلا ما كسبت؛ ولا تحمل نفس إلا ما اكتسبت‏.‏‏.‏ فردية التبعة، ورجعة كل إنسان إلى ربه بصحيفته الخاصة، وما قيد فيها له أو عليه‏.‏ فلا يحيل على أحد، ولا ينتظر عون أحد‏.‏‏.‏ ورجعة الناس إلى ربهم فرادى من شأنها- حين يستيقنها القلب- أن تجعل كل فرد وحدة إيجابية لا تنزل عن حق الله فيها لأحد من عباده إلا بالحق‏.‏ وتقف كل إنسان مدافعاً عن حق الله فيه تجاه كل إغراء، وكل طغيان، وكل إضلال، وكل إفساد، فهو مسؤول عن نفسه هذه وعن حق الله فيها- وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه، وعبوديتها له وحده شعوراً وسلوكاً- فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال، أو تحت القهر والطغيان- إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان- فما أحد من تلك العبيد بدافع عنه يوم القيامة ولا شافع له؛ وما أحد من تلك العبيد بحامل عنه شيئاً من وزره ولا ناصر له من الله واليوم الآخر‏.‏‏.‏ ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه والدفاع عن حق الله فيها، ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفرداً وحيداً‏!‏ ولا خوف من هذه الفردية- في هذا المقام- فمن مقتضيات الإيمان أن ينهض كل فرد في الجماعة بحق الجماعة عليه، بوصفه طرفاً من حق الله في نفسه‏.‏ فهو مأمور أن يتكافل مع الجماعة في ماله وكسبه، وفي جهده ونصحه، وفي إحقاق الحق في المجتمع وإزهاق الباطل، وفي تثبيت الخير والبر وإزاحة الشر والنكر‏.‏‏.‏ وكل أولئك يحسب له أو عليه في صحيفته يوم يلقى الله فرداً فيتلقى هنالك جزاءه‏!‏

وكأنما سمع المؤمنون هذه الحقيقة وأدركوها‏.‏‏.‏ فها هو ذا ينطلق من قلوبهم دعاء خافق واجف، يذكره النص القرآني بطريقة القرآن التصويرية؛ فكأنما نحن أمام مشهد الدعاء، وصفوف المؤمنين قائمة تردده في خشوع؛ عقب إعلان حقيقة التكاليف وحقيقة الجزاء‏:‏

‏{‏ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏.‏ ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا‏.‏ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏.‏ واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين‏}‏‏.‏‏.‏

وهو دعاء يصور حال المؤمنين مع ربهم؛ وإدراكهم لضعفهم وعجزهم، وحاجتهم إلى رحمته وعفوه، وإلى مدده وعونه؛ وإلصاق ظهورهم إلى ركنه، والتجائهم إلى كنفه، وانتسابهم إليه وتجردهم من كل من عداه؛ واستعدادهم للجهاد في سبيله واستمدادهم النصر منه‏.‏‏.‏ كل أولئك في نغمة وادعة واجفة تصور بإيقاعاتها وجيب القلب ورفرفة الروح‏.‏

‏{‏ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏}‏‏.‏

فدائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرف المسلم حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة له فيه‏.‏ وفي مجالها يتوجه إلى ربه يطلب العفو والسماح‏.‏ وليس هو التبجح إذن بالخطيئة أو الإعراض ابتداء عن الأمر، أو التعالي عن الطاعة والتسليم؛ أو الزيغ عن عمد وقصد‏.‏‏.‏ ليس في شيء من هذا يكون حال المؤمن مع ربه؛ وليس في شيء من هذا يطمع في عفوه أو سماحته‏.‏‏.‏ إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينيب‏.‏‏.‏ وقد استجاب الله لدعاء عباده المؤمنين في هذا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»‏.‏

‏{‏ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا‏}‏‏.‏‏.‏

وهو دعاء ينبعث من وراثة الأمة المسلمة لتراث الرسالة كله، ومعرفتهم- كما علمهم ربهم في هذا القرآن- بما كان من سلوك الأمم التي جاءتها الرسالات قبلهم؛ وما حملهم الله من الآصار والأثقال عقوبة لهم على بعض ما كان منهم‏.‏ فقد حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بعملهم‏.‏ وفي آية الأنعام‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم‏}‏ وكتب عليهم قتل أنفسهم تكفيراً عن عبادتهم للعجل كما سبق في أول هذه السورة‏.‏ وحرم عليهم «السبت» أن يبتغوا فيه تجارة أو صيداً‏.‏‏.‏ وهكذا فالمؤمنون يدعون ربهم ألا يحمل عليهم أثقالاً كالتي حملها على الذين من قبلهم وقد بعث الله النبي الأمي يضع عن المؤمنين به من البشر كافة‏:‏ ‏{‏إصرهم والأغلال التي كانت عليهم‏}‏ فجاءت هذه العقيدة سمحة ميسرة، هينة لينة، تنبع من الفطرة وتتبع خط الفطرة، وقيل للرسول- صلى الله عليه وسلم- ‏{‏ونيسرك لليسرى‏}‏ على أن الإصر الأكبر الذي رفعه الله عن كاهل الأمة المسلمة، والذي حمله الله على عاتق الأمم التي استخلفها في الأرض قبلهم فنقضت عهد الاستخلاف وحادت عنه‏.‏‏.‏ هذا الإصر الأكبر هو إصر العبودية للبشر‏.‏ عبودية العبد للعبد‏.‏ ممثلة في تشريع العبد للعبد‏.‏ وفي خضوع العبد للعبد لذاته أو لطبقته أو لجنسه‏.‏‏.‏ فهذا هو الإصر الأكبر الذي أطلق الله عباده المؤمنين منه، فردهم إلى عبادته وحده وطاعته وحده، وتلقي الشريعة منه وحده، وحرر بهذه العبودية لله الواحد الأحد أرواحهم وعقولهم وحياتهم كلها من العبودية للعبيد‏!‏

إن العبودية لله وحده- متمثلة في تلقي الشرائع والقوانين والقيم والموازين منه وحده- هي نقطة الانطلاق والتحرر البشري‏.‏ الانطلاق والتحرر من سلطان الجبارين والطغاة، ومن سلطان السدنة والكهنة، ومن سلطان الأوهام والخرافات، ومن سلطان العرف والعادة، ومن سلطان الهوى والشهوة‏.‏ ومن كل سلطان زائف يمثل الإصر الذي يلوي أعناق البشر ويخفض جباههم لغير الواحد القهار‏.‏

ودعاء المؤمنين‏:‏ ‏{‏ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا‏}‏‏:‏ يمثل شعورهم بنعمة الانطلاق والتحرر من العبودية للعبيد؛ كما يمثل خوفهم من الارتداد إلى ذلك الدرك السحيق‏.‏

‏{‏ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏}‏‏.‏‏.‏

وهو دعاء يشي بحقيقة الاستسلام‏.‏ فالمؤمنون لا ينوون نكولاً عن تكليف الله أياً كان‏.‏ ولكنهم فقط يتوجهون إليه راجين متطلعين أن يرحم ضعفهم فلا يكلفهم ما لا يطيقون‏.‏ كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه‏.‏‏.‏ وإلا فهي الطاعة المطلقة والتسليم‏.‏‏.‏ إنه طمع الصغير في رحمة الكبير‏.‏ ورجاء العبد الضعيف في سماحة المالك المتصرف‏.‏ وطلب ما هو من شأن الله في معاملته لعباده من كرم وبر وود وتيسير‏.‏

ثم الاعتراف بالضعف بعد ذلك والتوجس من التقصير، الذي لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور‏:‏

‏{‏وأعف عنا، واغفر لنا وارحمنا‏}‏‏.‏

فهذا هو الضمان الحقيقي لاجتياز الامتحان، ونيل الرضوان‏.‏ فالعبد مقصر مهما يحاول من الوفاء‏.‏ ومن رحمة الله به أن يعامله بالعفو والمرحمة والغفران‏.‏‏.‏ عن عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله‏.‏‏.‏ قالوا ولا أنت يا رسول الله قال‏:‏ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته»‏.‏

وهذا هو قوام الأمر في حس المؤمن‏:‏ عمل بكل ما في الوسع‏.‏ وشعور مع ذلك بالتقصير والعجز‏.‏‏.‏ ورجاء- بعد ذلك- في الله لا ينقطع‏.‏ وتطلع إلى العفو والمغفرة والسماح‏.‏

وأخيراً يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله، وهم يهمون بالجهاد في سبيله، لإحقاق الحق الذي أراده، وتمكين دينه في الأرض ومنهجه، ‏{‏حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله‏}‏ يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله الركين؛ ويرفعون رايته على رؤوسهم فينتسبون إليه وحده‏.‏ إذا انتسبت الجاهلية إلى شتى الشعارات والعنوانات؛ ويطلبون نصره لأوليائه بما أنه هو مولاهم الوحيد؛ وهم باسمه يقاتلون الكفار الخارجين‏:‏

‏{‏أنت مولانا، فانصرنا على القوم الكافرين‏}‏‏.‏‏.‏

إنه الختام الذي يلخص السورة‏.‏ ويلخص العقيدة‏.‏ ويلخص تصور المؤمنين، وحالهم مع ربهم في كل حين‏.‏‏.‏