فصل: سورة الممتحنة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


سورة الممتحنة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏1‏)‏ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ‏(‏2‏)‏ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏3‏)‏ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏4‏)‏ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏5‏)‏ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏6‏)‏ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏9‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

هذه السورة حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الاجتماعي والدولة في المجتمع المدني‏.‏ حلقة من تلك السلسلة الطويلة، أو من ذلك المنهج الإلهي المختار للجماعة المسلمة المختارة، التي ناط بها الله تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الإنسانية، في صورة واقعية عملية، كما يستقر في الأرض نظاماً ذا معالم وحدود وشخصية مميزة؛ تبلغ إليه البشرية أحياناً، وتقصر عنه أحياناً، ولكنها تبقى معلقة دائماً بمحاولة بلوغه؛ وتبقى أمامها صورة واقعية منه، تحققت يوماً في هذه الأرض‏.‏

وقد اقتضى هذا كما قلنا في أول هذا الجزء إعداداً طويلاً في خطوات ومراحل‏.‏ وكانت الأحداث التي تقع في محيط هذه الجماعة، أو تتعلق بها، مادة من مواد هذا الإعداد‏.‏ مادة مقدرة في علم الله، تقوم عليها مادة أخرى هي التفسير والتوضيح والتعقيب والتوجيه‏.‏

وفي مضطرب الأحداث، وفي تيار الحياة المتدفق، تمت عملية بناء النفوس المختارة لتحقيق ذلك المنهج الإلهي في الأرض‏.‏ فلم تكن هناك عزلة إلا العزلة بالتصور الإيماني الجديد، وعدم خلطه بأية رقع غريبة عنه في أثناء التكوين النفسي لهذه الجماعة‏.‏ وكانت التربية المستمرة متجهة دائماً إلى إنشاء هذا التصور الإيماني الخاص المميز، المنعزل بحقيقته وطبيعته عن التصورات السائدة في العالم كله يومذاك، وفي الجزيرة العربية بصفة خاصة‏.‏ أما الناس الذين يُنشأ هذا التصور المتميز في نفوسهم فلم يكونوا بمعزل عن واقع الحياة ومضطرب الأحداث، بل كانوا يصهرون في بوتقة الحوادث يوماً بعد يوم، ومرة بعد مرة، ويعاد صهرهم في الأمر الواحد والخلق الواحد مرات كثيرة، وتحت مؤثرات متنوعة؛ لأن الله الذي خلق هذه النفوس يعلم أنها ليست كلها مما يتأثر ويستجيب ويتكيف ويستقر على ما تكيف به منذ اللمسة الأولى‏.‏ وكان يعلم أن رواسب الماضي، وجواذب الميول الطبيعية، والضعف البشري، وملامسات الواقع، وتحكم الإلف والعادة، كلها قد تكون معوقات قوية تغلب عوامل التربية والتوجيه مرة بعد مرة‏.‏ وتحتاج في مقاومتها إلى التذكير المتكرر، والصهر المتوالي‏.‏‏.‏ فكانت الأحداث تتوالى كما هي منسوقة في قدر الله، وتتوالى الموعظة بها‏.‏ والتحذير على ضوئها، والتوجيه بهديها، مرة بعد مرة‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في يقظة دائمة وإلهام بصير، بالتقاط الأحداث والوقائع والمناسبات في كل فرصة، واستخدامها بحكمة بالغة في بناء هذه النفوس‏.‏ والوحي والإلهام يؤيدانه ويسددانه صلى الله عليه وسلم حتى تصنع تلك الجماعة المختارة على عين الله‏.‏ بتوفيق الله‏.‏ على يدي رسول الله‏.‏

هذه السورة حلقة في سلسلة ذلك الإعداد الطويل، تستهدف مع غيرها مما جاء في مثل موضوعها إقامة عالم رباني خالص في ضمير المسلم‏.‏

عالم محوره الإيمان بالله وحده، يشد المسلمين إلى هذا المحور وحده، بعروة واحدة لا انفصام لها؛ ويبرئ نفوسهم من كل عصبية أخرى‏.‏ عصبية للقوم أو للجنس أو للأرض أو للعشيرة أو للقرابة‏.‏ ليجعل في مكانها جميعاً عقدة واحدة‏.‏ هي عقدة الإيمان بالله‏.‏ والوقوف تحت راية الله‏.‏ في حزب الله‏.‏

إن العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني‏.‏ رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله‏.‏ وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله في رحاب العقيدة وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب‏.‏ وسائر ما يميز إنساناً عن إنسان، عدا عقيدة الإيمان‏.‏ وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله، المتضمن كيانه نفحة من روح الله‏.‏

ودون إقامة هذا العالم تقف عقبات كثيرة كانت في البيئة العربية وما تزال في العالم كله إلى اليوم عقبات من التعصب للبيت، والتعصب للعشيرة، والتعصب للقوم، والتعصب للجنس، والتعصب للأرض‏.‏ كما تقف عقبات من رغائب النفوس وأهواء القلوب، من الحرص والشح وحب الخير للذات، ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية‏.‏‏.‏ وألوان غيرها كثيرمن ذوات الصدور‏!‏

وكان على الإسلام أن يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عملية واقعة‏.‏ وكانت هذه الصورة حلقة في سلسلة هذا العلاج الطويل‏.‏

وكان بعض المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في سبيل عقيدتهم، ما تزال نفوسهم مشدودة إلى بعض من خلفوا هنالك من ذرية وأزواج وذوي قربى‏.‏ وعلى الرغم من كل ما ذاقوا من العنت والأذى في قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة؛ وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات‏!‏

وكان الله يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه‏.‏ وهو سبحانه يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعاً وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالاً بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت فكان يأخذهم يوماً بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن‏!‏

وتذكر الروايات حادثاً معيناً نزل فيه صدر هذه السورة‏.‏ وقد تكون هذه الروايات صحيحة في سبب النزول المباشر‏.‏ ولكن مدى النصوص القرآنية دائماً أبعد من الحوادث المباشرة‏.‏

وقد قيل في هذا الحادث‏:‏ إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلاً من المهاجرين‏.‏ وكان من أهل بدر أيضاً‏.‏ وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفاً لعثمان‏.‏

فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم، وقال‏:‏ «اللهم عَمِّ عليهم خبرنا»‏.‏ وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بوجهته، كان منهم حاطب‏.‏ فعمد حاطب فكتب كتاباً وبعثه مع امرأة مشركة قيل من مزينة جاءت المدينة تسترفد إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يداً‏.‏ فأطلع الله تعالى رسوله على ذلك استجابة لدعائه‏.‏ وإمضاء لقدره في فتح مكة‏.‏ فبعث في أثر المرأة، فأخذ الكتاب منها‏.‏

وقد روى البخاري في المغازي، ورواه مسلم في صحيحه من حديث حصين بن عبد الرحمن، عن سعد ابن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير بن العوام وكلنا فارس وقال‏:‏ انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلعتة إلى المشركين»‏.‏ فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا‏:‏ الكتاب‏؟‏ فقالت ما معي كتاب‏.‏ فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً‏.‏ فقلنا‏:‏ ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنك‏.‏ فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها، وهي متحجزة بكساء، فأخرجته‏.‏ فانطلقنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر‏:‏ يا رسول الله‏.‏ قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضربن عنقه‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما حملك على ما صنعت‏؟‏» قال حاطب‏:‏ والله ما بي إلا أن أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أردت أن تكون لي عند القوم يد‏.‏ يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله‏.‏ فقال‏:‏ «صدق لا تقولوا إلا خيراً» فقال عمر‏:‏ إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه‏.‏ فقال‏:‏ «أليس من أهل بدر‏؟‏ فقال‏:‏ لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو قد غفرت لكم» فدمعت عينا عمر، وقال‏:‏ الله ورسوله أعلم «‏.‏ وزاد البخاري في كتاب المغازي‏:‏ فأنزل الله السورة‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أوليآء تلقون إليهم بالمودة‏}‏ وفي رواية أخرى أن الذين أرسلوا كانوا هم علي والزبير والمقداد‏.‏

والوقوف قليلاً أمام هذا الحادث وما دار بشأنه لا يخرج بنا عن «ظلال القرآن» والتربية به وبالأحداث والتوجيهات والتعقيبات عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد المربي العظيم‏.‏‏.‏

واول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب، وهو المسلم المهاجر، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على سر الحملة‏.‏‏.‏ وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها؛ وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها‏.‏

ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يعجل حتى يسأل‏:‏ «ما حملك على ما صنعت» في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق، ومن ثم يكف الصحابة عنه‏:‏ «صدق لا تقولوا إلا خيراً»‏.‏ ليعينه وينهضه من عثرته، فلا يطارده بها ولا يدع أحداً يطارده‏.‏ بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر‏:‏ «إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين‏.‏ فدعني فلأضرب عنقه»‏.‏‏.‏ فعمر رضي الله عنه إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم‏.‏ أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها، ومن كل جوانبها، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية‏.‏ في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف‏.‏‏.‏

ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب، وهو في لحظة ضعفه، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح‏.‏‏.‏ ذلك حين يقول‏:‏ «أردت أن تكون لي عند القوم يد‏.‏‏.‏ يدفع الله بها عن أهلي ومالي»‏.‏‏.‏ فالله هو الذي يدفع، وهذه اليد لا تدفع بنفسها، إنما يدفع الله بها‏.‏ ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول‏:‏ «وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع‏.‏‏.‏ الله‏.‏‏.‏ به عن أهله وماله» فهو الله حاضر في تصوره، وهو الذي يدفع لا العشيرة‏.‏ إنما العشيرة أداة يدفع الله بها‏.‏‏.‏

ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل، فكان هذا من أسباب قوله صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «صدق‏.‏ لا تقولوا إلا خيراً»‏.‏

وأخيراً يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث؛ وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسر الحملة‏.‏

وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة‏.‏ ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين‏.‏ كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها‏!‏ ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع، ولا تنفج بالقول‏:‏ ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه، ولو أودعناه نحن ما بحنا به‏!‏ فلم يرد من هذا شيء‏.‏ مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم، وتواضعهم في الظن بأنفسهم، واعتبارهم بما حدث لأخيهم‏.‏‏.‏

والحادث متواتر الرواية‏.‏ أما نزول هذه الآيات فيه فهو أحد روايات البخاري‏.‏ ولا نستبعد صحة هذه الرواية؛ ولكن مضمون النص القرآني كما قلنا أبعد مدى، وأدل على أنه كان يعالج حالة نفسية أوسع من حادث حاطب الذي تواترت به الروايات، بمناسبة وقوع هذا الحادث، على طريقة القرآن‏.‏

كان يعالج مشكلة الأواصر القريبة، والعصبيات الصغيرة، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني‏.‏

وكان ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة، وقيماً جديدة، وموازين جديدة، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان، ووظيفة المؤمنين في الأرض، وغاية الوجود الإنساني‏.‏

وكان كأنما يجمع هذه النبتات الصغيرة الجديدة في كنف الله؛ ليعلمهم الله ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد، وليشعرهم أنهم رجاله وحزبه، وأنه يريد بهم أمراً، ويحقق بهم قدَراً‏.‏ ومن ثم فهم يوسمون بسمته ويحملون شارته، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعاً‏.‏ في الدنيا والآخرة‏.‏ وإذن فليكونوا خالصين له، منقطعين لولايته، متجردين من كل وشيجة غير وشيجته‏.‏ في عالم الشعور وعالم السلوك‏.‏

والسورة كلها في هذا الاتجاه‏.‏ حتى الآيات التشريعية التنظيمية الواردة في آخرها عن معاملة المهاجرات المؤمنات، ومبايعة من يدخلن في الإسلام، والفصل بين المؤمنات وأزواجهن من الكفار‏.‏ وبين المؤمنين وزوجاتهم من الكوافر‏.‏‏.‏ فكلها تنظيمات منبثقة من ذلك التوجيه العام‏.‏

ثم ختام السورة كما بدأت بالنهي عن موالاة أعداء الله، ممن غضب عليهم الله، سواء من المشركين أو من اليهود‏.‏ ليتم التميز والانفراد والمفاصلة من جميع الوشائج والروابط غير رابطة العقيدة وغير وشيجة الإيمان‏.‏‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإياكم، أن تؤمنوا بالله ربكم‏.‏ إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم؛ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل‏.‏ إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء، ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء، وودوا لو تكفرون‏}‏‏.‏‏.‏

تبدأ السورة بذلك النداء الودود الموحي‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏‏.‏‏.‏ نداء من ربهم الذي آمنوا به، يدعوهم باسم الإيمان الذي ينسبهم إليه‏.‏

يدعوهم ليبصرهم بحقائق موقفهم، ويحذرهم حبائل أعدائهم، ويذكرهم بالمهمة الملقاة على عاتقهم‏.‏

وفي مودة يجعل عدوهم عدوه، وعدوه عدوهم‏:‏

‏{‏لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة‏}‏‏.‏‏.‏

فيشعر المؤمنين بأنهم منه وإليه‏.‏ يعاديهم من يعاديه‏.‏ فهم رجاله المنتسبون إليه الذين يحملون شارته في هذه الأرض، وهم أوداؤه وأحباؤه‏.‏ فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه‏.‏

ويذكرهم بجريرة هؤلاء الأعداء عليهم وعلى دينهم وعلى رسولهم، وعدوانهم على هذا كله في تجن وظلم‏:‏

‏{‏وقد كفروا بما جاءكم من الحق‏.‏ يخرجون الرسول وإياكم‏.‏ أن تؤمنوا بالله ربكم‏}‏‏.‏‏.‏

فماذا أبقوا بعد هذه الجرائر الظالمة للموالاة والمودة‏؟‏ كفروا بالحق‏.‏ وأخرجوا الرسول والمؤمنين، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله ربهم‏؟‏ إنه يهيج في قلوب المؤمنين هذه الذكريات المرتبطة بعقيدتهم‏.‏ وهي التي حاربهم المشركون من أجلها، لا من أجل أي سبب آخر‏.‏ ويبرز القضية التي عليها الخلاف والخصومة والحرب‏.‏ فهي قضية العقيدة دون سواها‏.‏ قضية الحق الذي كفروا به والرسول الذي أخرجوه، والإيمان الذي من أجله أخرجوهم‏.‏

وإذا تمحضت القضية هكذا وبرزت، ذكّرهم بأنه لا محل إذن للمودة بينهم وبين المشركين إن كانوا قد خرجوا من ديارهم ابتغاء رضوان الله وجهاداً في سبيله‏:‏

‏{‏إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وإبتغاء مرضاتي‏}‏‏.‏‏.‏

فما يجتمع في قلب واحد أن يهاجر جهاداً في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، مع مودة لمن أخرجه من أجل إيمانه بالله، وهو عدو الله وعدو رسول الله‏!‏

ثم يحذرهم تحذيراً خفياً مما تكن قلوبهم، وما يسرون به إلى أعدائهم وأعداء الله من المودة، وهو مطلع على خفية القلوب وعلانيتها‏:‏

‏{‏تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم‏}‏‏.‏

ثم يهددهم تهديداً مخيفاً، يثير في القلب المؤمن الوجل والمخافة‏:‏

‏{‏ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل‏}‏‏.‏‏.‏

وهل يخيف المؤمن شيء ما يخيفه أن يضل سواء السبيل بعد الهداية والوصول‏؟‏‏!‏

وهذا التهديد وذلك التحذير يتوسطان تبصير المؤمنين بحقيقة أعدائهم وما يضمرون لهم من الشر والكيد‏.‏ ثم تجيء البقية‏:‏

‏{‏إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطون إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء‏}‏‏.‏‏.‏

فلا تعرض لهم فرصة يتمكنون فيها من المسلمين حتى يتصرفوا معهم تصرف العدو الأصيل‏.‏ ويوقعوا بهم ما يملكون من أذى ومن تنكيل بالأيدي وبالألسنة وبكل وسيلة وكل سبيل‏.‏

والأدهى من هذا كله والأشد والأنكى‏:‏

‏{‏وودوا لو تكفرون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه عند المؤمن أشد من كل أذى ومن كل سوء يصيبه باليد أو اللسان‏.‏ فالذي يود له أن يخسر هذا الكنز العزيز‏.‏ كنز الإيمان‏.‏ ويرتد إلى الكفر، هو أعدى من كل عدو يؤذيه باليد وباللسان‏!‏

والذي يذوق حلاوة الإيمان بعد الكفر، ويهتدي بنوره بعد الضلال، ويعيش عيشة المؤمن بتصوراته ومداركه ومشاعره واستقامة طريقه وطمأنينة قلبه يكره العودة إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار‏.‏

أو أشد‏.‏ فعدو الله هو الذي يود أن يرجعه إلى جحيم الكفر وقد خرج منه إلى جنة الإيمان، وإلى فراغ الكفر الخاوي بعد عالم الإيمان المعمور‏.‏

لهذا يتدرج القرآن في تهييج قلوب المؤمنين ضد أعدائه وأعدائهم حتى يصل إلى قمته بقوله لهم عنهم‏:‏ ‏{‏وودوا لو تكفرون‏}‏‏.‏‏.‏

هذه هي الجولة الأولى بلمساتها المتعددة‏.‏ ثم تليها جولة ثانية بلمسة واحدة تعالج مشاعر القرابة ووشائجها المتأصلة؛ والتي تشتجر في القلوب فتجرها جراً إلى المودة؛ وتنسيها تكاليف التميز بالعقيدة‏:‏

‏{‏لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم‏.‏ يوم القيامة يفصل بينكم‏.‏ والله بما تعملون بصير‏}‏‏.‏

إن المؤمن يعمل ويرجو الآخرة‏.‏ ويزرع هنا وينتظر الحصاد هناك‏.‏ فلمسة قلبه بما يكون في الآخرة من تقطيع وشائج القربى كلها إذا تقطعت وشيجة العقيدة، من شأنها أن تهون عنده شأن هذه الوشائج في فترة الحياة الدنيا القصيرة؛ وتوجهه إلى طلب الوشيجة الدائمة التي لا تنقطع في دنيا ولا في آخرة‏:‏

ومن ثم يقول لهم‏:‏ ‏{‏لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم‏}‏‏.‏‏.‏ التي تهفون إليها وتتعلق قلوبكم بها؛ وتضطركم إلى موادة أعداء الله وأعدائكم وقاية لها كما حدث لحاطب في حرصه على أولاده وأمواله وكما تجيش خواطر آخرين غيره حول أرحامهم وأولادهم الذين خلفوهم في دار الهجرة‏.‏ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم‏.‏ ذلك أنه ‏{‏يوم القيامة يفصل بينكم‏}‏‏.‏‏.‏ لأن العروة التي تربطكم مقطوعة‏.‏ وهي العروة التي لا رباط بغيرها عند الله‏.‏

‏{‏والله بما تعملون بصير‏}‏‏.‏‏.‏ مطلع على العمل الظاهر والنية وراءه في الضمير‏.‏

ثم تأتي الجولة الثالثة فتصل المسلمين بأول هذه الأمة الواحدة‏:‏ أمة التوحيد‏.‏ وهذه القافلة الواحدة‏:‏ قافلة الإيمان‏.‏ فإذا هي ممتدة في الزمان، متميزة بالإيمان، متبرئة من كل وشيجة تنافي وشيجة العقيدة‏.‏‏.‏ إنها الأمة الممتدة منذ إبراهيم‏.‏ أبيهم الأول وصاحب الحنيفية الأولى‏.‏ وفيه أسوة لا في العقيدة وحدها، بل كذلك في السيرة، وفي التجارب التي عاناها مع عاطفة القرابة ووشائجها؛ ثم خلص منها هو ومن آمن معه، وتجرد لعقيدته وحدها‏:‏

‏{‏قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه؛ إذ قالوا لقومهم‏:‏ إنا برآء منكم، ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده‏.‏ إلا قول إبراهيم لأبيه، لأستغفرن لك، وما أملك لك من الله من شيء‏.‏ ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير‏.‏ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا، إنك أنت العزيز الحكيم‏.‏‏.‏ لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر‏.‏

ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد‏}‏‏.‏‏.‏

وينظر المسلم فإذا له نسب عريق، وماض طويل، وأسوة ممتدة على آماد الزمان، وإذا هو راجع إلى إبراهيم، لا في عقيدته فحسب، بل في تجاربه التي عاناها كذلك‏.‏ فيشعر أن له رصيداً من التجارب أكبر من رصيده الشخصي وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه‏.‏ إن هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان من المؤمنين بدين الله، الواقفين تحت راية الله، قد مرت بمثل ما يمر به، وقد انتهت في تجربتها إلى قرار اتخذته‏.‏ فليس الأمر جديداً ولا مبتدعاً ولا تكليفاً يشق على المؤمنين‏.‏‏.‏ ثم إن له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة ويرجع إليها، إذا انبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته‏.‏ فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور كثيرة الفروع وارفة الظلال‏.‏‏.‏ الشجرة التي غرسها أول المسلمين‏.‏‏.‏ إبراهيم‏.‏‏.‏

مر إبراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون‏.‏ وفيهم أسوة حسنة‏:‏ ‏{‏إذ قالوا لقومهم‏:‏ إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده‏}‏‏.‏‏.‏

فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم‏.‏ وهو الكفر بهم والإيمان بالله‏.‏ وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده‏.‏ وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئاً من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان‏.‏ وفي هذا الفصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمر بها المؤمن في أي جيل‏.‏ وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين‏.‏

ولقد كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه وهو مشرك ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين‏.‏ فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه‏:‏ ‏{‏لأستغفرن لك‏}‏‏.‏‏.‏

فلقد قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك‏.‏ قاله وهو يرجو إيمانه ويتوقعه‏:‏ ‏{‏فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه‏}‏‏.‏‏.‏ كما جاء في سورة أخرى‏.‏

ويثبت هنا أن إبراهيم فوض الأمر كله لله، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة والرجوع إليه على كل حال‏:‏

‏{‏وما أملك لك من الله من شيء‏.‏ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا التسليم المطلق لله، هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين‏.‏ كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم‏.‏

ويستطرد لهذا في إثبات بقية دعاء إبراهيم ونجواه لمولاه‏:‏

‏{‏ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا‏}‏‏.‏‏.‏

فلا تسلطهم علينا‏.‏ فيكون في ذلك فتنة لهم، إذ يقولون‏:‏ لو كان الإيمان يحمي أهله ما سلطنا عليهم وقهرناهم‏!‏ وهي الشبهة التي كثيراً ما تحيك في الصدور، حين يتمكن الباطل من الحق، ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان لحكمة يعلمها الله في فترة من الفترات‏.‏

والمؤمن يصبر للابتلاء، ولكن هذا لا يمنعه أن يدعو الله ألا يصيبه البلاء الذي يجعله فتنة وشبهة تحيك في الصدور‏.‏

وبقية الدعاء‏:‏

‏{‏واغفر لنا‏}‏‏.‏‏.‏

يقولها إبراهيم خليل الرحمن‏.‏ إدراكاً منه لمستوى العبادة التي يستحقها منه ربه، وعجزه ببشريته عن بلوغ المستوى الذي يكافئ به نعم الله وآلاءه، ويمجد جلاله وكبرياءه فيطلب المغفرة من ربه، ليكون في شعوره وفي طلبه أسوة لمن معه ولمن يأتي بعده‏.‏

ويختم دعاءه وإنابته واستغفاره يصف ربه بصفته المناسبة لهذا الدعاء‏:‏

‏{‏ربنا إنك أنت العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏

العزيز‏:‏ القادر على الفعل، الحكيم‏:‏ فيما يمضي من تدبير‏.‏

وفي نهاية هذا العرض لموقف إبراهيم والذين معه، وفي استسلام إبراهيم وإنابته يعود فيقرر الأسوة ويكررها؛ مع لمسة جديدة لقلوب المؤمنين‏:‏

‏{‏لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر‏.‏ ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد‏}‏‏.‏‏.‏

فالأسوة في إبراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر‏.‏ هؤلاء هم الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها هذا الرهط الكريم، ويجدون فيها أسوة تتبع، وسابقة تهدي‏.‏ فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتخذ منها أسوة‏.‏‏.‏ وهو تلميح موح للحاضرين من المؤمنين‏.‏

فأما من يريد أن يتولى عن هذا المنهج‏.‏ من يريد أن يحيد عن طريق القافلة‏.‏ من يريد أن ينسلخ من هذا النسب العريق‏.‏ فما بالله من حاجة إليه سبحانه ‏{‏فإن الله هو الغني الحميد‏}‏‏.‏‏.‏

وتنتهي الجولة وقد عاد المؤمنون أدراجهم إلى أوائل تاريخهم المديد، ورجعوا بذكرياتهم إلى نشأتهم في الأرض؛ وعرفوا تجاربهم المذخورة لهم في الأجيال المتطاولة، ورأوا القرار الذي انتهى إليه من مروا بهذه التجربة؛ ووجدوها طريقاً معبدة من قبل ليسوا هم أول السالكين فيها‏.‏

والقرآن الكريم يؤكد هذا التصور ويكرره ليتصل ركب المؤمنين، فلا يشعر بالغربة أو الوحشة سالك ولو كان وحده في جيل‏!‏ ولا يجد مشقة في تكليف نهض به السالكون معه في الطريق‏!‏

بعدئذ يعود فينسم على هذه القلوب التي يعلم الله ما بها من حنين ورغبة في زوال حالة العداء والجفوة التي تكلفهم هذه المشقة‏.‏ ينسم عليها بنسمة الأمل الندية في أن ينضم هؤلاء الأعداء إلى راية الإسلام، وإلى صفوف المسلمين؛ فيكون هذا هو الطريق لزوال الجفوة وقيام الود على أساسه الركين‏.‏‏.‏ ثم يخفف عنهم مرة أخرى وهو يضع القاعدة الإسلامية الكبرى في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم، فيجعل المقاطعة والخصومة خاصة بحالة العداء والعدوان‏.‏

فأما حين ينتفي العداء والعدوان فهو البر لمن يستحق البر، وهو القسط في المعاملة والعدل‏:‏

‏{‏عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة، والله قدير والله غفور رحيم‏.‏ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم‏.‏ إن الله يحب المقسطين‏.‏ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم‏.‏ ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون‏}‏‏.‏‏.‏

إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين‏.‏ وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله‏.‏ فأما إذا سالموهم فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك‏!‏ وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة، انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع‏.‏ ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم‏.‏

وفي الآية الأولى من هذا المقطع إشارة إلى هذا الرجاء الذي لا يغلب عليه اليأس؛ في معرض التخفيف على نفوس بعض المهاجرين، وتغذية قلوبهم المتعبة بمشقة المقاطعة والحرب للأهل والعشيرة‏:‏

‏{‏عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا الرجاء من الله، معناه القطع بتحققه‏.‏ والمؤمنون الذين سمعوه لا بد قد أيقنوا به، ولقد وقع بعد هذا بوقت قصير أن فتحت مكة، وأن أسلمت قريش، وأن وقف الجميع تحت لواء واحد، وأن طويت الثارات والمواجد، وأن عاد الجميع إخوة مؤتلفي القلوب‏.‏

‏{‏والله قدير‏}‏‏.‏‏.‏ يفعل ما يريد بلا معقب‏.‏

‏{‏والله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏ يغفر ما سلف من الشرك والذنوب‏.‏‏.‏

وإلى أن يتحقق وعد الله الذي دل عليه لفظ الرجاء رخص الله لهم في موادة من لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم‏.‏ ورفع عنهم الحرج في أن يبروهم، وأن يتحروا العدل في معاملاتهم معهم فلا يبخسونهم من حقوقهم شيئاً‏.‏ ولكنه نهى أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين وأخرجوهم من ديارهم وساعدوا على إخراجهم‏.‏ وحكم على الذين يتولونهم بأنهم هم الظالمون‏.‏‏.‏ ومن معاني الظلم الشرك بالرجوع إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏‏.‏‏.‏ وهو تهديد رهيب يجزع منه المؤمن، ويتقي أن يدخل في مدلوله المخيف‏!‏

وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود، الصادر عن إله واحد، المتجه إلى إله واحد، المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي، من وراء كل اختلاف وتنويع‏.‏

وهي أساس شريعته الدولية، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً هي الحالة الثابتة، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة، وهي تهديد بالاعتداء؛ أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد‏.‏ وهو كذلك اعتداء‏.‏ وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين‏.‏

ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية هذه العقيدة دون غيرها؛ ويجعل القيمة التي يضن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها‏.‏ فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلا حرية الدعوة وحرية الاعتقاد، وتحقيق منهج الله في الأرض، وإعلاء كلمة الله‏.‏

وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون‏.‏ فمن وقف معهم تحتها فهو منهم‏.‏ ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم‏.‏ ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم، ولم يصد الناس عنها، ولم يحل بينهم وبين سماعها، ولم يفتن المؤمنين بها، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه‏.‏

إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته، ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله‏.‏ فلا خصومة على مصلحة، ولا جهاد في عصبية أي عصبية من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب‏.‏ إنما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، ولتكون عقيدته هي المنهج المطبق في الحياة‏.‏

ولقد نزلت بعد ذلك سورة التوبة وفيها ‏{‏براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين‏.‏‏.‏ الخ‏}‏ فانتهت بهذا حالة المعاهدة والموادعة بين المسلمين والمشركين كافة‏.‏ بعد مهلة أربعة أشهر لأصحاب المعاهدات غير المسماة الأجل، ومهلة إلى انتهاء الأجل لأصحاب المعاهدات المسماة‏.‏ ولكن هذا إنما كان بعدما أثبتت التجارب أن القوم لا يرعون عهودهم مع المسلمين إلا ريثما تسنح لهم الفرصة لنقضها وهم الرابحون‏!‏ فانطبقت القاعدة الأخرى‏:‏ ‏{‏وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء إن الله لا يحب الخائنين‏}‏ وكان هذا ضرورة لتأمين القاعدة الإسلامية وهي حينئذ شبه الجزيرة كلها من المتربصين بالمسلمين من أعدائهم المعايشين لهم من المشركين وأهل الكتاب الذين تكررت غدراتهم ونقضهم للعهود‏.‏ وهي حالة اعتداء في صميمها، تنطبق عليها حالة الاعتداء‏.‏ وبخاصة أن الامبراطوريتين المحيطتين بأرض الإسلام قد بدأتا تجمعان له وتشعران بخطره، وتؤلبان عليه الإمارات العربية المتاخمة الخاضعة للدولتين الرومانية والفارسية‏.‏ فلم يبق بد من تطهير المعسكر الإسلامي من بقية أعدائه قبل الالتحام في المعارك الخارجية المتوقعة يومذاك‏.‏

ونكتفي بهذا القدر من الاستطراد لنعود إلى سياق السورة في حكم المؤمنات المهاجرات‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا جآءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن، وآتوهم مآ أنفقوا، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن؛ ولا تمسكوا بعصم الكوافر، واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا‏.‏

ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم‏.‏ وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل مآ أنفقوا، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

وقد ورد في سبب نزول هذه الأحكام أنه كان بعد صلح الحديبية الذي جاء فيه‏:‏ «على ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا»‏.‏‏.‏ فلما كان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه بأسفل الحديبية جاءته نساء مؤمنات يطلبن الهجرة والانضمام إلى دار الإسلام في المدينة؛ وجاءت قريش تطلب ردهن تنفيذاً للمعاهدة‏.‏ ويظهر أن النص لم يكن قاطعاً في موضوع النساء، فنزلت هاتان الآيتان تمنعان رد المهاجرات المؤمنات إلى الكفار، يُفتنّ في دينهن وهن ضعاف‏.‏

ونزلت أحكام هذه الحالة الدولية معها، تنظم التعامل فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته دون تأثر بسلوك الفريق الآخر، وما فيها من شطط وجور‏.‏ على طريقة الإسلام في كل معاملاته الداخلية والدولية‏.‏

وأول إجراء هو امتحان هؤلاء المهاجرات لتحري سبب الهجرة، فلا يكون تخلصاً من زواج مكروه، ولا طلباً لمنفعة، ولا جرياً وراء حب فردي في دار الإسلام‏!‏

قال ابن عباس‏:‏ كان يمتحنهن‏:‏ بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ورسوله‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ يقال لها‏:‏ ما جاء بك إلا حب الله ورسوله، وما جاء بك عشق رجل منا، ولا فراراً من زوجك‏.‏

وهذا هو الامتحان‏.‏‏.‏ وهو يعتمد على ظاهر حالهن واقرارهن مع الحلف بالله‏.‏ فأما خفايا الصدور فأمرها إلى الله، لا سبيل للبشر إليها‏:‏ ‏{‏الله أعلم بإيمانهن‏.‏‏.‏‏}‏ فإذا ما أقررن هكذا ‏{‏فلا ترجعوهن إلى الكفار‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن‏}‏‏.‏‏.‏

فقد انبتت الوشيجة الأولى‏:‏ وشيجة العقيدة‏.‏‏.‏ فلم تعد هناك وشيجة أخرى يمكن أن تصل هذه القطيعة‏.‏ والزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار، لا يمكن أن تقوم إذا انقطعت هذه الوشيجة الأولى‏.‏ والإيمان هو قوام حياة القلب الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى، فإذا خوى منه قلب لم يستطع قلب مؤمن أن يتجاوب معه، ولا أن يأنس به، ولا أن يواده ولا أن يسكن إليه ويطمئن في جواره‏.‏ والزواج مودة ورحمة وأنس وسكن‏.‏

وكان الأمر في أول الهجرة متروكاً بغير نص، فلم يكن يفرق بين الزوجة المؤمنة والزوج الكافر؛ ولا بين الزوج المؤمن والزوجة الكافرة، لأن المجتمع الإسلامي لم يكن قد استقرت قواعده بعد‏.‏

فأما بعد صلح الحديبية أو فتح الحديبية كما يعتبره كثير من الرواة فقد آن أن تقع المفاصلة الكاملة؛ وأن يستقر في ضمير المؤمنين والمؤمنات، كما يستقر في واقعهم، أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان، وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة، وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون بالله‏.‏

ومع إجراء التفريق إجراء التعويض على مقتضى العدل والمساواة فيرد على الزوج الكافر قيمة ما أنفق من المهر على زوجته المؤمنة التي فارقته تعويضاَ للضرر‏.‏ كما يرد على الزوج المؤمن قيمة ما أنفق من المهر على زوجته الكافرة التي يطلقها من عصمته‏.‏

وبعد ذلك يحل للمؤمنين نكاح المؤمنات المهاجرات متى آتوهن مهورهن‏.‏‏.‏ مع خلاف فقهي‏:‏ هل لهن عدة، أم لا عدة إلا للحوامل حتى يضعهن حملهن‏؟‏ وإذا كانت لهن عدة فهل هي عدة المطلقات‏.‏‏.‏ ثلاثة قروء‏.‏‏.‏ أم هي عدة استبراء للرحم بحيضة واحدة‏؟‏

‏{‏وآتوهم مآ أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن‏.‏ ولا تمسكوا بعصم الكوافر، واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا‏}‏‏.‏

ثم يربط هذه الأحكام كلها بالضمانة الكبرى في ضمير المؤمن‏.‏ ضمانة الرقابة الإلهية وخشية الله وتقواه‏:‏

‏{‏ذلكم حكم الله يحكم بينكم، والله عليم حكيم‏}‏‏.‏‏.‏

وهي الضمانة الوحيدة التي يؤمن عليها من النقض والالتواء والاحتيال‏.‏ فحكم الله، هو حكم العليم الحكيم‏.‏ وهو حكم المطلع على ذوات الصدور‏.‏ وهو حكم القوي القدير‏.‏ ويكفي أن يستشعر ضمير المسلم هذه الصلة، ويدرك مصدر الحكم ليستقيم عليه ويرعاه‏.‏ وهو يوقن أن مرده إلى الله‏.‏

فإذا فات المؤمنين شيء مما أنفقوا، بامتناع الكوافر أو أهليهن من رد حق الزوج المؤمن كما حدث في بعض الحالات عوضهم الإمام مما يكون للكافرين الذين هاجرت زوجاتهم من حقوق على زوجاتهم في دار الإسلام، أو مما يقع من مال الكفار غنيمة في أيدي المسلمين‏:‏

‏{‏وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا‏}‏ ويربط هذا الحكم وتطبيقاته كذلك بالضمان الذي يتعلق به كل حكم وكل تطبيق‏:‏

‏{‏واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

وهي لمسة للمؤمنين بالله عميقة الأثر في القلوب‏.‏

وهكذا تكون تلك الأحكام بالمفاصلة بين الأزواج تطبيقاً واقعياً للتصور الإسلامي عن قيم الحياة وارتباطاتها؛ وعن وحدة الصف الإسلامي وتميزه من سائر الصفوف؛ وعن إقامة الحياة كلها على أساس العقيدة، وربطها كلها بمحور الإيمان؛ وإنشاء عالم إنساني تذوب فيه فوارق الجنس واللون واللغة والنسب والأرض‏.‏ وتبقى شارة واحدة تميز الناس‏.‏

سورة الصف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏2‏)‏ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ‏(‏4‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏6‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏9‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏10‏)‏ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

هذه السورة تستهدف أمرين أساسيين واضحين في سياقها كل الوضوح، إلى جانب الإشارات والتلميحات الفرعية التي يمكن إرجاعها إلى ذينك الأمرين الأساسيين‏:‏

تستهدف أولاً أن تقرر في ضمير المسلم أن دينه هو المنهج الإلهي للبشرية في صورته الأخيرة، سبقته صور منه تناسب أطواراً معينة في تاريخ البشرية، وسبقته تجارب في حياة الرسل وحياة الجماعات، تمهد كلها لهذه الصورة الأخيرة من الدين الواحد، الذي أراد الله أن يكون خاتمة الرسالات‏.‏ وأن يظهره على الدين كله في الأرض‏.‏‏.‏

ومن ثم يذكر رسالة موسى ليقرر أن قومه الذين أرسل إليهم آذوه وانحرفوا عن رسالته فضلوا، ولم يعودوا امناء على دين الله في الأرض‏:‏ ‏{‏وإذ قال موسى لقومه‏:‏ يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم‏.‏ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏‏.‏‏.‏ وإذن فقد انتهت قوامة قوم موسى على دين الله؛ فلم يعودوا أمناء عليه، مذ زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، ومذ ضلوا فأضلهم الله والله لا يهدي القوم الفاسقين‏.‏

ويذكر رسالة عيسى ليقرر أنه جاء امتداداً لرسالة موسى، ومصداقاً لما بين يديه من التوراة، وممهداً للرسالة الأخيرة ومبشراً برسولها؛ ووصلة بين الدين الكتابي الأول والدين الكتابي الأخير‏:‏ ‏{‏وإذ قال عيسى ابن مريم‏:‏ يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم، مصدقاً لما بين يدي من التوراة، ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد‏}‏‏.‏‏.‏ وإذن فقد جاء ليسلم أمانة الدين الإلهي التي حملها بعد موسى إلى الرسول الذي بشر به‏.‏

وكان مقرراً في علم الله وتقديره أن تنتهي هذه الخطوات إلى قرار ثابت دائم‏.‏ وأن يستقر دين الله في الأرض في صورته الأخيرة علي يدي رسوله الأخير‏:‏ ‏{‏هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون‏}‏‏.‏

هذا الهدف الأول الواضح في السورة يقوم عليه الهدف الثاني‏.‏ فإن شعور المسلم بهذه الحقيقة، وإدراكه لقصة العقيدة، ولنصيبه هو من أمانتها في الأرض‏.‏‏.‏ يستتبع شعوره بتكاليف هذه الأمانة شعوراً يدفعه إلى صدق النية في الجهاد لإظهار دينه على الدين كله كما أراد الله وعدم التردد بين القول والفعل؛ ويقبح أن يعلن المؤمن الرغبة في الجهاد ثم ينكص عنه، كما يبدو أنه حدث من فريق من المسلمين كما تذكر الروايات‏.‏‏.‏ ومن ثم يجيء في مطلع السورة بعد إعلان تسبيح الكون وما فيه لله‏.‏‏.‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون‏؟‏ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون‏.‏ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص‏}‏‏.‏

ثم يدعوهم في وسط السورة إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم‏؟‏ تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم‏.‏

ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون‏.‏ يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم‏.‏ وأخرى تحبونها‏:‏ نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين‏}‏‏.‏

ثم يختم السورة بنداء أخير للذين آمنوا، ليكونوا أنصار الله كما كان الحواريون أصحاب عيسى أنصاره إلى الله، على الرغم من تكذيب بني إسرائيل به وعدائهم لله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين‏:‏ من أنصاري إلى الله‏؟‏ قال الحواريون‏:‏ نحن أنصار الله‏.‏ فآمنت طآئفة من بني إسرائيل وكفرت طآئفة، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين‏}‏‏.‏‏.‏

هذان الخطان واضحان في السورة كل الوضوح، يستغرقان كل نصوصه تقريباً‏.‏ فلا يبقى إلا التنديد بالمكذبين بالرسالة الأخيرة وهذه قصتها وهذه غايتها وهذا التنديد متصل دائماً بالخطين الأساسيين فيها‏.‏ وذلك قول الله تعالى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر تبشير عيسى عليه السلام به‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم بالبينات قالوا‏:‏ هذا سحر مبين‏.‏ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام‏؟‏ والله لا يهدي القوم الظالمين‏.‏ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره، ولو كره الكافرون‏}‏‏.‏‏.‏

وفيه يتضح في ضمير المسلم أن دينه هو دين الله في صورته الأخيرة في الأرض؛ وأن أمانة العقيدة في البشرية كلها موكولة إليه؛ يعلم أنه مكلف أن يجاهد في سبيل الله، كما يحب الله؛ ويتضح طريقه، فلا يبقى في تصوره غبش، ولا يبقى في حياته مجال للتمتمة والغمغمة في هذه القضية، أو للتردد والتلفت عن الهدف المرسوم والنصيب المقسوم في علم الله وتقديره منذ بعيد‏.‏

وفي أثناء توجيهه إلى هذا الهدف الواضح يوجه كذلك إلى خلق المسلم وطبيعة ضميره‏.‏ وهو أن لا يقول ما لا يفعل، وألا يختلف له قول وفعل، ولا ظاهر وباطن، ولا سريرة وعلانية‏.‏ وأن يكون هو نفسه في كل حال‏.‏ متجرداً لله‏.‏ خالصاً لدعوته‏.‏ صريحاً في قوله وفعله‏.‏ ثابت الخطو في طريقه‏.‏ متضامناً مع إخوانه‏.‏ كالبنيان المرصوص‏.‏‏.‏

‏{‏سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏

تجيء هذه التسبيحة من الوجود كله لله العزيز الحكيم، في مطلع السورة التي تعلن للمسلمين أن دينهم هو الحلقة الأخيرة في دين الله؛ وأنهم هم الأمناء على هذا الدين الذي يوحد الله، وينكر على الكافرين المشركين كفرهم وشركهم، والذي يدعوهم للجهاد لنصرته، وقد قدر الله أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون‏.‏

فيوحي هذا المطلع أن الأمانة التي يقوم عليها المسلمون هي أمانة الوجود كله؛ وأن العقيدة التي يطلب إليهم الجهاد فيها هي عقيدة كل ما في السماوات وما في الأرض؛ وأن ظهور هذا الدين على الدين كله، هو ظاهرة كونية تتسق مع اتجاه الكون كله إلى الله العزيز الحكيم‏.‏

ثم يعاتب الله الذين آمنوا عتاباً شديداً على أمر حدث من طائفة منهم‏.‏ امر يكرهه الله أشد الكره، ويمقته أكبر المقت، ويستفظعه من الذين آمنوا على وجه الخصوص‏:‏

‏{‏أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون‏؟‏ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون‏.‏ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً، كأنهم بنيان مرصوص‏}‏‏.‏‏.‏

قال علي بن طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون‏:‏ لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به‏.‏ فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فقال الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون‏؟‏ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏ وقد اختار ابن جرير في تفسيره هذا القول‏.‏

وقال ابن كثير في تفسيره‏:‏ «وحملوا الآية يعني الجمهور على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى ‏{‏ألم تر إلى الذين قيل لهم‏:‏ كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية‏.‏ وقالوا‏:‏ ربنا لم كتبت علينا القتال‏؟‏ لولا أخرتنا إلى أجل قريب‏!‏ قل‏:‏ متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً‏.‏ أينما تكونوا يدرككم الموت‏.‏ ولو كنتم في بروج مشيدة‏}‏ وقال قتادة والضحاك نزلت توبيخاً لقوم كانوا يقولون‏:‏ قتلنا‏.‏ ضربنا‏.‏ طعنا‏.‏ وفعلنا‏.‏‏.‏ ولم يكونوا فعلوا ذلك‏!‏

والراجح من سياق الآيات وذكر القتال أن مناسبة النزول هي التي عليها الجمهور وهي اختيار ابن جرير‏.‏ ولكن النصوص القرآنية دائماً أبعد مدى من الحوادث المفردة التي تنزل الآيات لمواجهتها، وأشمل لحالات كثيرة غير الحالة التي نزلت بسببها‏.‏ ومن ثم فإننا نسير مع هذه النصوص إلى مدلولاتها العامة، مع اعتبار الحادث الذي تذكره روايات النزول‏.‏

إنها تبدأ بعتاب على حادث وقع أو حوادث‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون‏؟‏‏}‏‏.‏

وتثني باستنكار لهذا الفعل وهذا الخلق في صيغة تضخم هذا الاستنكار‏:‏

‏{‏كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

والمقت الذي يكبر ‏{‏عند الله‏}‏‏.‏

‏.‏ هو أكبر المقت وأشد البغض وأنكر النكر‏.‏‏.‏ وهذا غاية التفضيع لأمر، وبخاصة في ضمير المؤمن، الذي يُنادَى بإيمانه، والذي يناديه ربه الذي آمن به‏.‏

والآية الثالثة تشير إلى الموضوع المباشر الذي قالوا فيه ما لم يفعلوا‏.‏‏.‏ وهو الجهاد‏.‏‏.‏ وتقرر ما يحبه الله فيه ويرضاه‏:‏

‏{‏إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص‏}‏‏.‏‏.‏

فليس هو مجرد القتال‏.‏ ولكنه هو القتال في سبيله‏.‏ والقتال في تضامن مع الجماعة المسلمة داخل الصف‏.‏ والقتال في ثبات وصمود ‏{‏صفاً كأنهم بنيان مرصوص‏}‏‏.‏‏.‏

إن القرآن كما قلنا في مناسبات متعددة في هذا الجزء كان يبني أمة‏.‏ كان يبنيها لتقوم على أمانة دينه في الأرض، ومنهجه في الحياة، ونظامه في الناس‏.‏ ولم يكن بد أن يبني نفوسها أفراداً ويبنيها جماعة، ويبنيها عملاً واقعاً‏.‏‏.‏ كلها في آن واحد‏.‏‏.‏ فالمسلم لا يبنى فرداً إلا في جماعة‏.‏ ولا يتصور الإسلام قائماً إلا في محيط جماعة منظمة ذات ارتباط، وذات نظام، وذات هدف جماعي منوط في الوقت ذاته بكل فرد فيها‏.‏ هو إقامة هذا المنهج الإلهي في الضمير وفي العمل مع إقامته في الأرض‏.‏ وهو لا يقوم في الأرض إلا في مجتمع يعيش ويتحرك ويعمل وينتج في حدود ذلك المنهج الإلهي‏.‏

والإسلام على شدة ما عني بالضمير الفردي وبالتبعة الفردية ليس دين أفراد منعزلين، كل واحد منهم يعبد الله في صومعة‏.‏‏.‏ إن هذا لا يحقق الإسلام في ضمير الفرد ذاته، ولا يحققه بطبيعة الحال في حياته‏.‏ ولم يجيء الإسلام لينعزل هذه العزلة‏.‏ إنما جاء ليحكم حياة البشرية ويصرفها‏.‏ ويهيمن على كل نشاط فردي وجماعي في كل اتجاه‏.‏ والبشرية لا تعيش أفراداً إنما تعيش جماعات وأمماً‏.‏ والإسلام جاء ليحكمها وهي كذلك‏.‏ وهو مبني على أساس أن البشر يعيشون هكذا‏.‏ ومن ثم فإن آدابه وقواعده ونظمه كلها مصوغة على هذا الأساس‏.‏ وحين يوجه اهتمامه إلى ضمير الفرد فهو يصوغ هذا الضمير على أساس أنه يعيش في جماعة‏.‏ وهو والجماعة التي يعيشون فيها يتجهون إلى الله، ويقوم فيها على أمانة دينه في الأرض، ومنهجه في الحياة، ونظامه في الناس‏.‏

ومنذ اليوم الأول للدعوة قام مجتمع إسلامي أو جماعة مسلمة ذات قيادة مطاعة هي قيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذات التزامات جماعية بين أفرادها، وذات كيان يميزها عن سائر الجماعات حولها، وذات آداب تتعلق بضمير الإنسان مراعى فيها في الوقت ذاته حياة هذه الجماعة‏.‏‏.‏ وذلك كله قبل أن تقوم الدولة المسلمة في المدينة‏.‏ بل إن قيام تلك الجماعة كان هو وسيلة إقامة الدولة في المدينة‏.‏‏.‏

وننظر في هذه الآيات الثلاث فنرى امتزاج الخلق الفردي بالحاجة الجماعية، في ظل العقيدة الدينية، وطبيعتها التي تقتضي تحقيقها في الحياة البشرية في صورة نظام يقوم عليه من يحرسه ويتولاه‏.‏

إن الآيتين الأوليين تتضمنان العقاب من الله سبحانه والاستنكار لأن يقول الذين آمنوا ما لا يفعلون‏.‏‏.‏

وهما بهذا ترسمان الجانب الأصيل في شخصية المسلم‏.‏‏.‏ الصدق‏.‏‏.‏ والاستقامة‏.‏‏.‏ وأن يكون باطنه كظاهره، وأن يطابق فعله قوله‏.‏‏.‏ إطلاقاً‏.‏‏.‏ وفي حدود أبعد مدى من موضوع القتال الذي يجيء في الآية الثالثة‏.‏

وهذه السمة في شخصية المسلم يدق القرآن عليها كثيراً، وتتابعها السنة في تكرار يزيدها توكيداً‏:‏ يقول الله تعالى مندداً باليهود‏:‏ ‏{‏أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب‏.‏ أفلا تعقلون‏}‏ ويقول تعالى مندداً بالمنافقين‏:‏ ‏{‏ويقولون‏:‏ طاعة‏.‏ فإذا برزوا من عندك بيَّت طآئفة منهم غير الذي تقول‏}‏ ويقول فيهم كذلك‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام‏.‏ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد‏}‏ ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «آية المنافق ثلاث‏:‏ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» والأحاديث في هذا المعنى كثيرة‏.‏ ولعل الحديث الذي سنذكره هنا من أدق وألطف التوجيهات النبوية الكريمة في هذا الاتجاه‏.‏‏.‏ روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال‏:‏ «أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وأنا صبي، فذهبت لأخرج لألعب‏.‏ فقالت أمي‏:‏ يا عبد الله تعالى أعطك‏.‏ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم-‏:‏» وما أردت أن تعطيه «‏!‏ فقالت‏:‏ تمراً‏.‏ فقال‏:‏ أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة»‏.‏ ولعله استقاء من هذا النبع النبوي الطاهر الرائق امتنع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه من الرواية من رجل سافر إليه مسافات شاسعة ليأخذ عنه حديثاً‏.‏ حينما وجده يضم حجره ويدعو بغلته يوهمها بطعام وحجره فارغ‏!‏ فتحرج أن يروي عنه، وقد كذب على بغلته‏!‏

فهذا بناء أخلاقي دقيق نظيف لضمير المسلم وشخصيته التي تليق بمن يقوم أميناً على منهج الله في الأرض‏.‏ وهو الأمر الذي تقرره هذه السورة‏.‏ وهذه حلقة من حلقات التربية في الجماعة المسلمة التي يعدها الله لتقوم على هذا الأمر‏.‏

فإذا جئنا للموضوع المباشر الذي كانت هذه الآيات تواجهه عند نزولها‏.‏‏.‏ وهو موضوع الجهاد‏.‏‏.‏ فإننا نقف أمام موضوعات شتى للحديث والملاحظة والعبرة‏.‏

نقف أولاً أمام النفس البشرية التي تلم بها لحظات الضعف الطارئة، فلا يعصمها منها إلا عون الله، وإلا التذكير الدائم، والتوجيه الدائم، والتربية الدائمة‏.‏‏.‏ فهؤلاء جماعة من المسلمين قيل في بعض الروايات‏:‏ إنهم من المهاجرين الذين كانوا يتمنون أن يأذن الله لهم في القتال وهم في مكة من شدة الحماس والاندفاع‏.‏

وكانوا يؤمرون بكف أيديهم وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ‏{‏فلما كتب عليهم القتال‏}‏ في المدينة في الوقت المناسب الذي قدره الله ‏{‏إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا‏:‏ ربنا لم كتبت علينا القتال‏؟‏ لولا أخرتنا إلى أجل قريب‏}‏ أو هم جماعة من المسلمين في المدينة كانوا يسألون عن أحب الأعمال إلى الله ليفعلوه فلما أمروا بالجهاد كرهوه‏!‏

وهذه الوقفة كفيلة بأن تفتح أعيننا على ضرورة الموالاة للنفس البشرية بالتقوية والتثبيت والتوجيه؛ وهي تواجه التكاليف الشاقة، لتستقيم في طريقها، وتتغلب على لحظات ضعفها، وتتطلع دائماً إلى الأفق البعيد‏.‏ كما تلهمنا أن نتواضع في طلب التكاليف وتمنيها ونحن في حالة العافية‏!‏ فلعلنا لا نقوى على ما نقترح على الله حين يكلفنا إياه‏!‏ وهؤلاء جماعة من المسلمين الأوائل يضعفون ويقولون ما لا يفعلون؛ حتى يعاتبهم الله هذا العتاب الشديد، وينكر عليهم هذا الإنكار المخيف‏!‏

ونقف ثانية أمام حب الله للذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص‏.‏‏.‏ نقف أمام هذا الإغراء القوي العميق على القتال في سبيل الله‏.‏‏.‏ وأول ما يسجل هنا أنه كان لمواجهة حالة تقاعس وتخلف وكراهية للقتال‏.‏ ولكن هذا السبب الغريب في الحادث المحدود لا ينفي أن الحض عام، وأن وراءه حكمة دائمة‏.‏

إن الإسلام لا يتشهى القتال، ولا يريده حباً فيه‏.‏ ولكنه يفرضه لأن الواقع يحتمه، ولأن الهدف الذي وراءه كبير‏.‏ فالإسلام يواجه البشرية بالمنهج الإلهي في صورته الأخيرة المستقرة‏.‏ وهذا المنهج ولو أنه يلبي الفطرة المستقيمة إلا أنه يكلف النفوس جهداً لتسمو إلى مستواه، ولتستقر على هذا المستوى الرفيع‏.‏ وهناك قوى كثيرة في هذه الأرض لا تحب لهذا المنهج أن يستقر، لأنه يسلبها كثيراً من الامتيازات، التي تستند إلى قيم باطلة زائفة، يحاربها هذا المنهج ويقضي عليها حين يستقر في حياة البشر‏.‏ وهذه القوى تستغل ضعف النفوس عن البقاء في المستوى الإيماني وتكاليفه، كما تستغل جهل العقول، وموروثات الأجيال، لتعارض هذا المنهج وتقف في طريقه‏.‏ والشر عارم‏.‏ والباطل متبجح‏.‏ والشيطان لئيم‏!‏ ومن ثم يتعين على حملة الإيمان وحراس المنهج أن يكونوا أقوياء ليغلبوا عملاء الشر وأعوان الشيطان‏.‏ أقوياء في أخلاقهم، وأقوياء في قتال خصومهم على السواء‏.‏ ويتعين عليهم أن يقاتلوا عندما يصبح القتال هو الأداة الوحيدة لضمان حرية الدعوة للمنهج الجديد، وحرية الاعتقاد به، وحرية العمل وفق نظامه المرسوم‏.‏

وهم يقاتلون في سبيل الله‏.‏‏.‏ لا في سبيل ذواتهم أو عصبيتهم من أي لون‏.‏‏.‏ عصبية الجنس وعصبية الأرض وعصبية العشيرة وعصبية البيت‏.‏‏.‏ في سبيل الله وحده، لتكون كلمة الله هي العليا‏.‏ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»‏.‏

وكلمة الله هي التعبير عن إرادته‏.‏ وإرادته الظاهرة لنا نحن البشر هي التي تتفق مع الناموس الذي يسير عليه الكون كله‏.‏ الكون الذي يسبح بحمد ربه‏.‏ ومنهج الله في صورته الأخيرة التي جاء بها الإسلام هو الذي يتناسق مع ذلك الناموس؛ ويجعل الكون كله والناس من ضمنه يحكمون بشريعة الله‏.‏ لا بشريعة يضعها سواه‏.‏

ولم يكن بد أن يقاومه أفراد، وأن تقاومه طبقات، وأن تقاومه دول‏.‏ ولم يكن بد كذلك أن يمضي الإسلام في وجه هذه المقاومة؛ ولم يكن بد أن يكتب الجهاد على المسلمين لنصره هذا المنهج، وتحقيق كلمة الله في الأرض‏.‏ ولهذا أحب الله سبحانه الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص‏.‏

ونقف ثالثاً أمام الحالة التي يحب الله للمجاهدين أن يقاتلوا وهم عليها‏:‏ ‏{‏صفاً كأنهم بنيان مرصوص‏}‏‏.‏‏.‏ فهو تكليف فردي في ذاته، ولكنه فردي في صورة جماعية‏.‏ في جماعة ذات نظام‏.‏ ذلك أن الذين يواجهون الإسلام يواجهونه بقوى جماعية، ويؤلبون عليه تجمعات ضخمة؛ فلا بد لجنود الإسلام أن يواجهوا أعداءه صفاً‏.‏ صفاً سوياً منتظماً، وصفاً متيناً راسخاً ذلك إلى أن طبيعة هذا الدين حين يغلب ويهيمن أن يهيمن على جماعة، وأن ينشئ مجتمعاً متماسكاً‏.‏‏.‏ متناسقاً‏.‏ فصورة الفرد المنعزل الذي يعبد وحده، ويجاهد وحده، ويعيش وحده، صورة بعيدة عن طبيعة هذا الدين، وعن مقتضياته في حالة الجهاد، وفي حالة الهيمنة بعد ذلك على الحياة‏.‏

وهذه الصورة التي يحبها الله للمؤمنين ترسم لهم طبيعة دينهم، وتوضح لهم معالم الطريق، وتكشف لهم عن طبيعة التضامن الوثيق الذي يرسمه التعبير القرآني المبدع‏:‏ ‏{‏صفاً كأنهم بنيان مرصوص‏}‏‏.‏‏.‏ بنيان تتعاون لبناته وتتضام وتتماسك، وتؤدي كل لبنة دورها، وتسد ثغرتها، لأن البنيان كله ينهار إذا تخلت منه لبنة عن مكانها‏.‏ تقدمت أو تأخرت سواء‏.‏ وإذا تخلت منه لبنة عن أن تمسك بأختها تحتها أو فوقها أو على جانبيها سواء‏.‏‏.‏ إنه التعبير المصور للحقيقة لا لمجرد التشبيه العام‏.‏ التعبير المصور لطبيعة الجماعة، ولطبيعة ارتباطات الأفراد في الجماعة‏.‏ ارتباط الشعور، وارتباط الحركة، داخل النظام المرسوم، المتجه إلى هدف مرسوم‏.‏

بعدئذ يذكر قصة هذا المنهج الإلهي ومراحلها في الرسالات قبل الإسلام‏.‏

‏{‏وإذ قال موسى لقومه‏:‏ يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم‏؟‏ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏‏.‏

‏{‏وإذ قال عيسى ابن مريم‏:‏ يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد‏}‏‏.‏‏.‏

وإيذاء بني إسرائيل لموسى وهو منقذهم من فرعون وملئه، ورسولهم وقائدهم ومعلمهم إيذاء متطاول متعدد الألوان، وجهاده في تقويم اعوجاجهم جهاد مضن عسير شاق‏.‏

ويذكر القرآن في قصص بني إسرائيل صوراً شتى من ذلك الإيذاء ومن هذا العناء‏.‏

كانوا يتسخطون على موسى وهو يحاول مع فرعون إنقاذهم، ويتعرض لبطشه وجبروته وهم آمنون بذلتهم له‏!‏ فكانوا يقولون له لائمين متبرمين‏:‏ ‏{‏أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا‏}‏ كأنهم لا يرون في رسالته خيراً، أو كأنما يحملونه تبعة هذا الأذى الأخير‏!‏

وما كاد ينقذهم من ذل فرعون باسم الله الواحد الذي أنقذهم من فرعون وأغرقه وهم ينظرون‏.‏‏.‏ حتى مالوا إلى عبادة فرعون وقومه ‏{‏فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا‏:‏ يا موسى اجعل لنآ إلهاً كما لهم آلهة‏}‏ وما كاد يذهب لميقات ربه على الجبل ليتلقى الألواح، حتى أضلهم السامري‏:‏ ‏{‏فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا‏:‏ هذآ إلهكم وإله موسى فنسي‏!‏‏}‏ ثم جعلوا يتسخطون على طعامهم في الصحراء‏:‏ المن والسلوى‏.‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثآئها وفومها وعدسها وبصلها‏}‏ وفي حادث البقرة التي كلفوا ذبحها ظلوا يماحكون ويتعللون ويسئيون الأدب مع نبيهم وربهم وهم يقولون‏:‏ ‏{‏ادع لنا ربك يبين لنا ما هي‏}‏ ‏{‏ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها‏}‏ ‏{‏ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا‏}‏ ‏{‏فذبحونا وما كادوا يفعلون‏}‏ ثم طلبوا يوم عطلة مقدساً فلما كتب عليهم السبت اعتدوا فيه‏.‏

وأمام الأرض المقدسة التي بشرهم الله بدخولها وقفوا متخاذلين يصعرون خدهم في الوقت ذاته لموسى‏:‏ ‏{‏قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون‏}‏ فلما كرر عليهم التحضيض والتشجيع تبجحوا وكفروا‏:‏ ‏{‏قالوا ياموسى إنا لن ندخلهآ أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون‏}‏ ذلك إلى إعنات موسى بالأسئلة والاقتراحات والعصيان والتمرد، والاتهام الشخصي بالباطل كما جاء في بعض الأحاديث‏.‏

وتذكر الآية هنا قول موسى لهم في عتاب ومودة‏:‏

‏{‏يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم‏}‏‏.‏‏.‏

وهم كانوا يعلمون عن يقين‏.‏‏.‏ إنما هي لهجة العتاب والتذكير‏.‏‏.‏

وكانت النهاية أنهم زاغوا بعدما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة، فزادهم الله زيغاً، وأزاغ قلوبهم فلم تعد صالحة للهدى‏.‏ وضلوا فكتب الله عليهم الضلال أبداً‏:‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏‏.‏‏.‏

وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله، فلم يعودوا يصلحون لهذا الأمر، وهم على هذا الزيغ والضلال‏.‏

ثم جاء عيسى بن مريم‏.‏ جاء يقول لبني إسرائيل‏:‏

‏{‏يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم‏}‏‏.‏‏.‏

فلم يقل لهم‏:‏ إنه الله، ولا إنه ابن الله، ولا إنه أقنوم من أقانيم الله‏.‏

‏{‏مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد‏}‏‏.‏‏.‏

في هذه الصيغة التي تصور حلقات الرسالة المترابطة، يسلم بعضها إلى بعض، وهي متماسكة في حقيقتها، واحدة في اتجاهها، ممتدة من السماء إلى الأرض، حلقة بعد حلقة في السلسة الطويلة المتصلة‏.‏‏.‏ وهي الصورة اللائقة بعمل الله ومنهجه‏.‏ فهو منهج واحد في أصله، متعدد في صوره، وفق استعداد البشرية وحاجاتها وطاقاتها، ووفق تجاربها ورصيدها من المعرفة حتى تبلغ مرحلة الرشد العقلي والشعوري، فتجيء الحلقة الأخيرة في الصورة الأخيرة كاملة شاملة، تخاطب العقل الراشد، في ضوء تلك التجارب، وتطلق هذا العقل يعمل في حدوده، داخل نطاق المنهج المرسوم للإنسان في جملته، المتفق مع طاقاته واستعداداته‏.‏

وبشارة المسيح بأحمد ثابتة بهذا النص، سواء تضمنت الأناجيل المتداولة هذه البشارة أم لم تتضمنها‏.‏ فثابت أن الطريقة التي كتبت بها هذه الأناجيل والظروف التي أحاطت بها لا تجعلها هي المرجع في هذا الشأن‏.‏

وقد قرئ القرآن على اليهود والنصارى في الجزيرة العربية وفيه‏:‏ ‏{‏النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل‏}‏ وأقر بعض المخلصين من علمائهم الذين أسلموا كعبد الله بن سلام بهذه الحقيقة، التي كانوا يتواصون بتكتمها‏!‏

كما أنه ثابت من الروايات التاريخية أن اليهود كانوا ينتظرون مبعث نبي قد أظلهم زمانه، وكذلك بعض الموحدين المنعزلين من أحبار النصارى في الجزيرة العربية‏.‏ ولكن اليهود كانوا يريدونه منهم‏.‏ فلما شاء الله أن يكون من الفرع الآخر من ذرية إبراهيم، كرهوا هذا وحاربوه‏!‏

وعلى أية حال فالنص القرآني بذاته هو الفيصل في مثل هذه الأخبار‏.‏ وهو القول الأخير‏.‏‏.‏

ويبدو أن الآيات التالية في السورة جاءت على الأكثر بصدد استقبال بني إسرائيل اليهود والنصارى للنبي الذي بشرت به كتبهم‏.‏ والتنديد بهذا الاستقبال، وكيدهم للدين الجديد الذي قدر الله أن يظهره على الدين كله، وأن يكون هو الدين الأخير‏!‏

‏{‏فلما جاءهم بالبينات قالوا‏:‏ هذا سحر مبين‏.‏ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام‏؟‏ والله لا يهدي القوم الظالمين‏.‏ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون‏.‏ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد وقف بنو إسرائيل في وجه الدين الجديد وقفة العداء والكيد والتضليل، وحاربوه شتى الوسائل والطرق حرباً شعواء لم تضع أوزارها حتى اليوم‏.‏ حاربوه بالاتهام‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم بالبينات قالوا‏:‏ هذا سحر مبين‏}‏‏.‏‏.‏ كما قال الذين لا يعرفون الكتب ولا يعرفون البشارة بالدين الجديد‏.‏ وحاربوه بالدس والوقيعة داخل المعسكر الإسلامي، للإيقاع بين المهاجرين والأنصار في المدينة، وبين الأوس والخزرج من الأنصار‏.‏ وحاربوه بالتآمر مع المنافقين تارة ومع المشركين تارة‏.‏

وحاربوه بالانضمام إلى معسكرات المهاجمين كما وقع في غزوة الأحزاب‏.‏ وحاربوه بالإشاعات الباطلة كما جرى في حديث الإفك على يد عبد الله بن أبي سلول، ثم ما جرى في فتنة عثمان على يد عدو الله عبد الله بن سبأ‏.‏ وحاربوه بالأكاذيب والإسرائيليات التي دسوها في الحديث وفي السيرة وفي التفسير حين عجزوا عن الوضع والكذب في القرآن الكريم‏.‏

ولم تضع الحرب أوزارها لحظة واحدة حتى اللحظة الحاضرة‏.‏ فقد دأبت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على الكيد للإسلام، وظلتا تغيران عليه أو تؤلبان عليه في غير وناة ولا هدنة في جيل من الأجيال‏.‏ حاربوه في الحروب الصليبية في المشرق، وحاربوه في الأندلس في المغرب، وحاربوه في الوسط في دولة الخلافة الأخيرة حرباً شعواء حتى مزقوها وقسموا تركة ما كانوا يسمونه «الرجل الأبيض»‏.‏‏.‏ واحتاجوا أن يخلقوا أبطالاً مزيفين في أرض الإسلام يعملون لهم في تنفيذ أحقادهم ومكايدهم ضد الإسلام‏.‏ فلما أرادوا تحطيم «الخلافة» والإجهاز على آخر مظهر من مظاهر الحكم الإسلامي صنعوا في تركيا «بطلاً»‏!‏‏.‏‏.‏ ونفخوا فيه‏.‏ وتراجعت جيوش الحلفاء التي كانت تحتل الأستانة أمامه لتحقق منه بطلاً في أعين مواطنيه‏.‏ بطلاً يستطيع إلغاء الخلافة، وإلغاء اللغة العربية، وفصل تركيا عن المسلمين، وإعلانها دولة مدنية لا علاقة لها بالدين‏!‏ وهم يكررون صنع هذه البطولات المزيفة كلما أرادوا أن يضربوا الإسلام والحركات الإسلامية في بلد من بلاد المسلمين، ليقيموا مكانه عصبية غير عصبية الدين‏!‏ وراية غير راية الدين‏.‏

‏{‏يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم‏.‏ والله متم نوره ولو كره الكافرون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا النص القرآني يعبر عن حقيقة، ويرسم في الوقت ذاته صورة تدعو إلى الرثاء والاستهزاء‏!‏ فهي حقيقة أنهم كانوا يقولون بأفواههم‏:‏ ‏{‏هذا سحر مبين‏}‏‏.‏‏.‏ ويدسون ويكيدون محاولين القضاء على الدين الجديد‏.‏ وهي صورة بائسة لهم وهم يحاولون إطفاء نور الله بنفخة من أفواههم وهم هم الضعاف المهازيل‏!‏

‏{‏والله متمم نوره ولو كره الكافرون‏}‏‏.‏‏.‏ وصدق وعد الله‏.‏ أتم نوره في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فأقام الجماعة الإسلامية صورة حية واقعة من المنهج الإلهي المختار‏.‏ صورة ذات معالم واضحة وحدود مرسومة، تترسمها الأجيال لا نظرية في بطون الكتب، ولكن حقيقة في عالم الواقع‏.‏ وأتم نوره فأكمل للمسلمين دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام ديناً يحبونه، ويجاهدون في سبيله، ويرضى أحدهم أن يلقى في النار ولا يعود إلى الكفر‏.‏ فتمت حقيقة الدين في القلوب وفي الأرض سواء‏.‏ وما تزال هذه الحقيقة تنبعث بين الحين والحين‏.‏ وتنبض وتنتفض قائمة على الرغم من كل ما جرد على الإسلام والمسلمين من حرب وكيد وتنكيل وتشريد وبطش شديد‏.‏

لأن نور الله لا يمكن أن تطفئه الأفواه، ولا أن تطمسه كذلك النار والحديد، في أيدي العبيد‏!‏ وإن خيل للطغاة الجبارين، وللأبطال المصنوعين على أعين الصليبيين واليهود أنهم بالغو هذا الهدف البعيد‏!‏

لقد جرى قدر الله أن يظهر هذا الدين، فكان من الحتم أن يكون‏:‏

‏{‏هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون‏}‏‏.‏‏.‏

وشهادة الله لهذا الدين بأنه ‏{‏الهدى ودين الحق‏}‏ هي الشهادة‏.‏ وهي كلمة الفصل التي ليس بعدها زيادة‏.‏ ولقد تمت إرادة الله فظهر هذا الدين على الدين كله‏.‏ ظهر في ذاته كدين، فما يثبت له دين آخر في حقيقته وفي طبيعته، فأما الديانات الوثنية فليست في شيء في هذا المجال، وأما الديانات الكتابية فهذا الدين خاتمتها، وهو الصورة الأخيرة الكاملة الشاملة منها، فهو هي، في الصورة العليا الصالحة إلى نهاية الزمان‏.‏

ولقد حرفت تلك الديانات وشوهت ومزقت وزيد عليها ما ليس منها، ونقصت من أطرافها، وانتهت لحال لا تصلح معه لشيء من قيادة الحياة‏.‏ وحتى لو بقيت من غير تحريف ولا تشويه فهي نسخة سابقة لم تشمل كل مطالب الحياة المتجددة أبداً، لأنها جاءت في تقدير الله لأمد محدود‏.‏

فهذا تحقيق وعد الله من ناحية طبيعة الدين وحقيقته‏.‏ فأما من ناحية واقع الحياة، فقد صدق وعد الله مرة، فظهر هذا الدين قوة وحقيقة ونظام حكم على الدين كله فدانت له معظم الرقعة المعمورة في الأرض في مدى قرن من الزمان‏.‏ ثم زحف زحفاً سلمياً بعد ذلك إلى قلب آسيا وأفريقية، حتى دخل فيه بالدعوة المجردة خمسة أضعاف من دخلوا في إبان الحركات الجهادية الأولى‏.‏‏.‏ وما يزال يمتد بنفسه دون دولة واحدة- منذ أن قضت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على الخلافة الأخيرة في تركيا على يدي «البطل» الذي صنعوه‏!‏ وعلى الرغم من كل ما يرصد له في أنحاء الأرض من حرب وكيد، ومن تحطيم للحركات الإسلامية الناهضة في كل بلد من بلاد الإسلام على أيدي «أبطال» آخرين من صنع الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على السواء‏.‏

وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها، ظاهراً بإذن الله على الدين كله تحقيقاً لوعد الله، الذي لا تقف له جهود العبيد المهازيل، مهما بلغوا من القوة والكيد والتضليل‏!‏

ولقد كانت تلك الآيات حافزاً للمؤمنين المخاطبين بها على حمل الأمانة التي اختارهم الله لها بعد أن لم يرعها اليهود والنصارى‏.‏ وكانت تطميناً لقلوبهم وهم ينفذون قدر الله في إظهار دينه الذي أراده ليظهر، وإن هم إلا أداة‏.‏ وما تزال حافزاً ومطمئناً لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم، وستظل تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة‏.‏

بإذن الله‏.‏

وفي ظلال قصة العقيدة، وفي مواجهة وعد الله بالتمكين لهذا الدين الأخير، يهتف القرآن الكريم بالذين آمنوا‏.‏‏.‏ من كان يواجه ذلك الخطاب ومن يأتي بعدهم من المؤمنين إلى يوم الدين‏.‏‏.‏ يهتف بهم إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة‏.‏ تجارة الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم‏.‏ تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم‏.‏ ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون‏.‏ يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم‏.‏ وأخرى تحبونها‏:‏ نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

وصيغة التعبير بما فيها من فصل ووصل، واستفهام وجواب، وتقديم وتأخير، صيغة ظاهر فيها القصد إلى إقرار هذا الهتاف في القلوب بكل وسائل التأثير التعبيرية‏.‏

يبدأ بالنداء باسم الإيمان‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏‏.‏‏.‏ يليه الاستفهام الموحي‏.‏ فالله سبحانه هو الذي يسألهم ويشوقهم إلى الجواب‏:‏ ‏{‏هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

ومن ذا الذي لا يشتاق لأن يدله الله على هذه التجارة‏؟‏ وهنا تنتهي هذه الآية، وتنفصل الجملتان للتشويق بانتظار الجواب المرموق‏.‏ ثم يجيء الجواب وقد ترقبته القلوب والأسماع‏:‏ ‏{‏تؤمنون بالله ورسوله‏}‏‏.‏‏.‏ وهم مؤمنون بالله ورسوله‏.‏ فتشرق قلوبهم عند سماع شطر الجواب هذا المتحقق فيهم‏!‏ ‏{‏وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم‏}‏‏.‏‏.‏ وهو الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السورة، يجيء في هذا الأسلوب، ويكرر هذا التكرار، ويساق في هذا السياق‏.‏ فقد علم الله أن النفس البشرية في حاجة إلى هذا التكرار، وهذا التنويع، وهذه الموحيات، لتنهض بهذا التكليف الشاق، الضروري الذي لا مفر منه لإقامة هذا المنهج وحراسته في الأرض‏.‏‏.‏ ثم يعقب على عرض هذه التجارة التي دلهم عليها بالتحسين والتزيين‏:‏ ‏{‏ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏‏.‏‏.‏ فعلم الحقيقة يقود من يعلم إلى ذلك الخير الأكيد‏.‏‏.‏ ثم يفصل بهذا الخير في آية تالية مستقلة، لأن التفصيل بعد الإجمال يشوق القلب إليه، ويقره في الحس ويمكن له‏:‏ ‏{‏يغفر لكم ذنوبكم‏}‏‏.‏‏.‏ وهذه وحدها تكفي‏.‏ فمن ذا الذي يضمن أن يغفر له ذنبه ثم يتطلع بعدها إلى شيء‏؟‏ أو يدخر في سبيلها شيئاً‏؟‏ ولكن فضل الله ليست له حدود‏:‏ ‏{‏ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن‏}‏‏.‏‏.‏ وإنها لأربح تجارة أن يجاهد المؤمن في حياته القصيرة حتى حين يفقد هذه الحياة كلها ثم يعوض عنها تلك الجنات وهذه المساكن في نعيم مقيم‏.‏‏.‏ وحقاً‏.‏‏.‏ ‏{‏ذلك الفوز العظيم‏}‏‏.‏‏.‏

وكأنما ينتهي هنا حساب التجارة الرابحة‏.‏ وإنه لربح ضخم هائل أن يعطي المؤمن الدنيا ويأخذ الآخرة‏.‏

فالذي يتجر بالدرهم فيكسب عشرة يغبطه كل من في السوق‏.‏ فكيف بمن يتجر في أيام قليلة معدودة في هذه الأرض، ومتاع محدود في هذه الدنيا، فيكسب به خلوداً لا يعلم له نهاية إلا ما شاء الله، ومتاعاً غير مقطوع ولا ممنوع‏؟‏

لقد تمت المبايعة على هذه الصفقة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه ليلة العقبة‏.‏ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اشترط لربك ولنفسك ما شئت»‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم»‏.‏‏.‏ قال‏:‏ فما لنا إذا فعلنا ذلك‏؟‏ قال‏:‏ «الجنة» قالوا‏:‏ ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل «

ولكن فضل الله عظيم‏.‏ وهو يعلم من تلك النفوس أنها تتعلق بشيء قريب في هذه الأرض، يناسب تركيبها البشري المحدود‏.‏ وهو يستجيب لها فيبشرها بما قدره في علمه المكنون من إظهار هذا الدين في الأرض، وتحقيق منهجه وهيمنته على الحياة في ذلك الجيل‏:‏ ‏{‏وأخرى تحبونها‏:‏ نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

وهنا تبلغ الصفقة ذروة الربح الذي لا يعطيه إلا الله‏.‏ الله الذي لا تنفد خزائنه، والذي لا ممسك لرحمته‏.‏ فهي المغفرة والجنات والمساكن الطيبة والنعيم المقيم في الآخرة‏.‏ وفوقها‏.‏‏.‏ فوق البيعة الرابحة والصفقة الكاسبة النصر والفتح القريب‏.‏‏.‏ فمن الذي يدله الله على هذه التجارة ثم يتقاعس عنها أو يحيد‏؟‏‏!‏

وهنا يعن للنفس خاطر أمام هذا الترغيب والتحبيب‏.‏‏.‏ إن المؤمن الذي يدرك حقيقة التصور الإيماني للكون والحياة؛ ويعيش بقلبه في هذا التصور؛ ويطلع على آفاقه وآماده؛ ثم ينظر للحياة بغير إيمان، في حدودها الضيقة الصغيرة، وفي مستوياتها الهابطة الواطية، وفي اهتماماتها الهزيلة الزهيدة‏.‏‏.‏ هذا القلب لا يطيق أن يعيش لحظة واحدة بغير ذلك الإيمان، ولا يتردد لحظة واحدة في الجهاد لتحقيق ذلك التصور الضخم الوسيع الرفيع في عالم الواقع، ليعيش فيه، وليرى الناس من حوله يعيشون فيه كذلك‏.‏‏.‏ ولعله لا يطلب على جهاده هذا أجراً خارجاً عن ذاته‏.‏ فهو ذاته أجر‏.‏‏.‏ هذا الجهاد‏.‏‏.‏ وما يسكبه في القلب من رضى وارتياح‏.‏ ثم إنه لا يطيق أن يعيش في عالم بلا إيمان‏.‏ ولا يطيق أن يقعد بلا جهاد لتحقيق عالم يسوده الإيمان‏.‏ فهو مدفوع دفعاً إلى الجهاد‏.‏ كائناً مصيره فيه ما يكون‏.‏‏.‏

ولكن الله سبحانه يعلم أن النفس تضعف، وأن الاندفاع يهبط، وأن الجهد يكل وأن حب السلامة قد يهبط بتلك المشاعر كلها ويقودها إلى الرضى بالواقع الهابط‏.‏‏.‏

ومن ثم يجاهد القرآن هذه النفس ذلك الجهاد؛ ويعالجها ذلك العلاج، ويهتف لها بالموحيات والمؤثرات ذلك الهتاف المتكرر المتنوع، في شتى المناسبات‏.‏