فصل: سورة الطلاق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


سورة الطلاق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ‏(‏1‏)‏ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ‏(‏2‏)‏ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ‏(‏3‏)‏ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ‏(‏4‏)‏ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ‏(‏5‏)‏ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ‏(‏6‏)‏ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ‏(‏7‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏8‏)‏ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ‏(‏9‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ‏(‏10‏)‏ رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ‏(‏11‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

هذه سورة الطلاق، يبين الله فيها أحكامه، ويفصل فيها الحالات التي لم تفصل في السورة الأخرى ‏(‏سورة البقرة‏)‏ التي تضمنت بعض أحكام الطلاق؛ ويقرر فيها أحكام الحالات المتخلفة عن الطلاق من شؤون الأسرة‏.‏ وقد تضمنت هذه السورة بيان الوقت الذي يمكن أن يقع فيه الطلاق الذي يقبله الله ويجري وفق سنته‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن‏}‏‏.‏

وحق المطلقة وواجبها في البقاء في بيتها وهو بيت مطلقها فترة العدة لا تخرج ولا تخرج إلا أن تأتي بفاحشة مبينة‏:‏ ‏{‏لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة‏}‏‏.‏‏.‏

وحقها بعد انقضاء العدة في الخروج لتفعل بنفسها ما تشاء، ما لم يكن الزوج قد راجعها وأمسكها في فترة العدة، لا ليضارها ويؤذيها بهذا الإمساك ويعطلها عن الزواج، ولكن لتعود الحياة الزوجية بينهما بالمعروف‏:‏ ‏{‏فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف‏}‏‏.‏‏.‏ وهذا مع الإشهاد على الإمساك أو الفراق‏:‏ ‏{‏وأشهدوا ذوي عدل منكم‏}‏‏.‏‏.‏

وفي سورة البقرة بين مدة العدة للمطلقة ذات الحيض وهي ثلاثة قروء بمعنى ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات على خلاف فقهي وهنا بين هذه المدة بالنسبة للآيسة التي انقطع حيضها وللصغيرة التي لم تحض‏:‏ ‏{‏واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن‏}‏‏.‏‏.‏

وبين عدة الحامل‏:‏ ‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏‏.‏‏.‏

ثم فصل حكم المسكن الذي تعتد فيه المعتدة ونفقة الحمل حتى تضع‏:‏ ‏{‏أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم، ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن، وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن‏}‏‏.‏‏.‏

ثم حكم الرضاعة لولد المطلقة حين تضعه، وأجر الأم على الرضاعة في حالة الاتفاق بينها وبين أبيه على مصلحة الطفل بينهما، وفي حالة إرضاعه من أخرى‏:‏ ‏{‏فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف‏.‏ وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى‏}‏‏.‏‏.‏

ثم زاد حكم النفقة والأجر في جميع الحالات تفصيلاً، فجعله تابعاً لحالة الزوج وقدرته‏:‏ ‏{‏لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممآ آتاه الله‏.‏ لا يكلف الله نفساً إلا مآ آتاها‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا تتبعت النصوص سائر الحالات، وما يتخلف عنها، بأحكام مفصلة دقيقة، ولم تدع شيئاً من أنقاض الأسرة المفككة بالطلاق إلا أراحته في مكانه، وبينت حكمه، في رفق وفي دقة وفي وضوح‏.‏‏.‏

ويقف الإنسان مدهوشاً أمام هذه السورة وهي تتناول أحكام هذه الحالة ومتخلفاتها‏.‏ وهي تحشد للأمر هذا الحشد العجيب من الترغيب والترهيب، والتعقيب على كل حكم، ووصل هذا الأمر بقدر الله في السماوات والأرضين، وسنن الله في هلاك العاتين عن أمره، وفي الفرج والسعة لمن يتقونه‏.‏

وتكرار الأمر بالمعروف والسماحة والتراضي، وإيثار الجميل‏.‏ والإطماع في الخير‏.‏ والتذكير بقدر الله في الخلق وفي الرزق، وفي اليسر والعسر‏.‏‏.‏

يقف الإنسان مدهوشاً أمام هذا الحشد من الحقائق الكونية الكبرى في معرض الحديث عن الطلاق أمام هذا الاحتفال والاهتمام حتى ليوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشخصه، وهو أمر عام للمؤمنين وحكم عام للمسلمين، زيادة في الاهتمام وإشعاراً بخطورة الأمر المتحدث فيه‏.‏ وأمام هذا التفصيل الدقيق للأحكام حالة حالة، والأمر المشدد في كل حكم بالدقة في مراعاته، وتقوى الله في تنفيذه، ومراقبة الله في تناوله‏.‏ والإطالة في التعقيب بالترغيب والترهيب، إطالة تشعر القلب كأن هذا الأمر هو الإسلام كله‏!‏ وهو الدين كله‏!‏ وهو القضية التي تفصل فيها السماء، وتقف لتراقب تنفيذ الأحكام‏!‏ وتعد المتقين فيها بأكبر وأسمى ما يتطلع إليه المؤمن؛ وتوعد الملتوين والمتلكئين والمضارّين بأعنف وأشد ما يلقاه عاصٍ؛ وتلوح للناس بالرجاء الندي والخير المخبوء وراء أخذ الأمر بالمعروف والسماحة والتجمل والتيسير‏.‏

ويقرأ القارئ في هذه السورة‏.‏‏.‏ ‏{‏واتقوا الله ربكم‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب‏.‏‏.‏ ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره‏.‏ قد جعل الله لكل شيء قدراً‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً‏}‏‏.‏ ‏{‏ذلك أمر الله أنزله إليكم‏}‏ ‏{‏ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏سيجعل الله بعد عسر يسراً‏}‏‏.‏‏.‏

كما يقرأ ذلك التهديد العنيف الطويل المفصل‏:‏ ‏{‏وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً، وعذبناها عذاباً نكراً‏.‏ فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً‏.‏ أعد الله لهم عذاباً شديداً‏}‏‏.‏‏.‏

يعقبه التحذير من مثل هذا المصير، والتذكير بنعمة الله بالرسول وما معه من النور، والتلويح بالأجر الكبير‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا، قد أنزل الله إليكم ذكراً‏:‏ رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور‏.‏ ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبداً قد أحسن الله له رزقاً‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يقرأ هذا الإيقاع الهائل الضخم في المجال الكوني الكبير‏:‏ ‏{‏الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، يتنزل الأمر بينهن، لتعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً‏}‏‏.‏‏.‏

يقرأ هذا كله تعقيباً على أحكام الطلاق‏.‏

ويجد سورة كاملة في القرآن، من هذا الطراز، كلها موقوفة على تنظيم هذه الحالة ومتخلفاتها كذلك‏!‏ وربطها هكذا بأضخم حقائق الإيمان في المجال الكوني والنفسي‏.‏ وهي حالة تهدم لا حالة بناء، وحالة انتهاء لا حالة إنشاء‏.‏‏.‏ لأسرة‏.‏‏.‏ لا لدولة‏.‏‏.‏ وهي توقع في الحس أنها أضخم من إنشاء دولة‏!‏

علام يدل هذا‏؟‏

إن له عدة دلالات تجتمع كلها عند سمو هذا الدين وجديته وانبثاقه من نبع غير بشري على وجه التأكيد‏.‏ حتى لو لم تكن هناك دلالة أخرى سوى دلالة هذه السورة‏!‏

إنه يدل ابتداء على خطورة شأن الأسرة في النظام الإسلامي‏:‏

فالإسلام نظام أسرة‏.‏ البيت في اعتباره مثابة وسكن، في ظله تلتقي النفوس على المودة والرحمة والتعاطف والستر والتجمل والحصانة والطهر؛ وفي كنفه تنبت الطفولة، وتدرج الحداثة؛ ومنه تمتد وشائج الرحمة وأواصر التكافل‏.‏

ومن ثم يصور العلاقة البيتية تصويراً رفافاً شفيفاً، يشع منه التعاطف، وترف فيه الظلال، ويشيع فيه الندى، ويفوح منه العبير‏:‏ ‏{‏ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة‏}‏ ‏{‏هن لباس لكم وأنتم لباس لهن‏}‏ فهي صلة النفس بالنفس، وهي صلة السكن والقرار، وهي صلة المودة والرحمة، وهي صلة الستر والتجمل‏.‏ وإن الإنسان ليحس في الألفاظ ذاتها حنواً ورفقاً، ويستروح من خلالها نداوة وظلاً‏.‏ وإنها لتعبير كامل عن حقيقة الصلة التي يفترضها الإسلام لذلك الرباط الإنساني الرفيق الوثيق‏.‏ ذلك في الوقت الذي يلحظ فيه أغراض ذلك الرباط كلها، بما فيها امتداد الحياة بالنسل، فيمنح هذه الأغراض كلها طابع النظافة والبراءة، ويعترف بطهارتها وجديتها، وينسق بين اتجاهاتها ومقتضياتها‏.‏ ذلك حين يقول‏:‏ ‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏ فيلحظ كذلك معنى الإخصاب والإكثار‏.‏

ويحيط الإسلام هذه الخلية، أو هذا المحضن، أو هذه المثابة بكل رعايته وبكل ضماناته‏.‏ وحسب طبيعة الإسلام الكلية، فإنه لا يكتفي بالإشعاعات الروحية، بل يتبعها التنظيمات القانونية والضمانات التشريعية‏.‏

والذي ينظر في تشريعات الأسرة في القرآن والسنة في كل موضع من أوضاعها ولكل حالة من حالاتها، وينظر في التوجيهات المصاحبة لهذه التشريعات، وفي الاحتشاد الظاهر حولها بالمؤثرات والمعقبات؛ وفي ربط هذا الشأن بالله مباشرة في كل موضع، كما هو الحال في هذه السورة وفي غيرها‏.‏‏.‏ يدرك إدراكاً كاملاً ضخامة شأن الأسرة في النظام الإسلامي، وقيمة هذا الأمر عند الله، وهو يجمع بين تقواه سبحانه وتقوى الرحم في أول سورة النساء حيث يقول‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونسآء واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً‏}‏ كما يجمع بين عبادة الله والإحسان للوالدين في سورة الإسراء وفي غيرها‏:‏ ‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً‏}‏

وبين الشكر لله والشكر للوالدين في سورة لقمان‏:‏ ‏{‏أن اشكر لي ولوالديك‏}‏ وإن هذه العناية القصوى بأمر الأسرة لتتناسق مع مجرى القدر الإلهي بإقامة الحياة البشرية ابتداء على أساس الأسرة، حين جرى قدر الله أن تكون أول خلية في الوجود البشري هي أسرة آدم وزوجه، وأن يتكاثر الناس بعد ذلك من هذه الخلية الأولى‏.‏ وكان الله سبحانه قادراً على أن يخلق الملايين من الأفراد الإنسانيين دفعة واحدة‏.‏ ولكن قدره جرى بهذا لحكمة كامنة في وظيفة الأسرة الضخمة في حياة هذا المخلوق، حيث تلبي حياة الأسرة فطرته واستعداداته، وحيث تنمي شخصيته وفضائله، وحيث يتلقى فيها أعمق المؤثرات في حياته‏.‏ ثم جرت هذه العناية في النظام الإسلامي منهج الله الأخير في الأرض مع القدر الإلهي في خلقه الإنسان ابتداء‏.‏ كما هو الشأن في تناسق كل ما يصدر عن الله بلا تفاوت ولا اختلاف‏.‏

والدلالة الثانية لسياق السورة، وللاحتفال بشأن العلاقات الزوجية والعائلية هذا الاحتفال في القرآن كله، هي اتجاه النظام الإسلامي لرفع هذه العلاقات الإنسانية إلى مستوى القداسة المتصلة بالله؛ واتخاذها وسيلة للتطهر الروحي والنظافة الشعورية لا كما كان ينظر إليها في العقائد الوثنية، وعند أتباع الديانات المحرفة، البعيدة بهذا التحريف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها‏.‏

«إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها، إنما ينظمها ويطهرها، ويرفعها عن المستوى الحيواني، ويرقيها حتى تصبح هي المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية‏.‏ ويقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية، التي تجعل من التقاء جسدين، التقاء نفسين وقلبين وروحين‏.‏ وبتعبير شامل التقاء إنسانين، تربط بينهما حياة مشتركة، وآمال مشتركة، وآلام مشتركة، ومستقبل مشترك، يلتقي في الذرية المرتقبة، ويتقابل في الجيل الجديد، الذي ينشأ في العش المشترك، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان»‏.‏

ويعد الإسلام الزواج وسيلة للتطهير والارتفاع فيدعو الأمة المسلمة لتزويج رجالها ونسائها إذا قام المال عقبة دون تحقيق هذه الوسيلة الضرورية لتطهير الحياة ورفعها‏:‏ ‏{‏وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقرآء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم‏.‏ وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله‏}‏ ويسمي الزواج إحصاناً أي وقاية وصيانة‏.‏ ويستقر في أخلاد المؤمنين أن البقاء بدون إحصان ولو فترة قصيرة لا ينال رضى الله‏.‏ فيقول الإمام علي كرم الله وجهه وقد سارع بالزواج عقب وفاة زوجه فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لقد خشيت أن ألقى الله وأنا عزب»‏.‏‏.‏ فيدخل الزواج في عرف المؤمن في الطاعات التي يتقرب بها إلى ربه‏.‏ وترتفع هذه الصلة إلى مكان القداسة في ضميره بما أنها إحدى الطاعات لربه‏.‏

والدلالة الثالثة لسياق سورة الطلاق ونظائرها هي واقعية هذا النظام الإسلامي ومعاملته للحياة وللنفس البشرية كما هي في فطرتها، مع محاولة رفعها إلى ذلك المستوى الكريم، عن طريق استعداداتها وملابسات حياتها‏.‏ ومن ثم لا يكتفي بالتشريع الدقيق في هذا الأمر الموكول إلى الضمير‏.‏ ولا يكتفي بالتوجيه‏.‏ ويستخدم هذا وذاك في مواجهة واقع النفس وواقع الحياة‏.‏

إن الأصل في الرابطة الزوجية هو الاستقرار والاستمرار‏.‏ والإسلام يحيط هذه الرابطة بكل الضمانات التي تكفل استقرارها واستمرارها‏.‏ وفي سبيل هذه الغاية يرفعها إلى مرتبة الطاعات، ويعين على قيامها بمال الدولة للفقراء والفقيرات، ويفرض الآداب التي تمنع التبرج والفتنة كي تستقر العواطف ولا تتلفت القلوب على هتاف الفتنة المتبرجة في الأسواق‏!‏ ويفرض حد الزنا وحد القذف؛ ويجعل للبيوت حرمتها بالاستئذان عليها والاستئذان بين أهلها في داخلها‏.‏

وينظم الارتباطات الزوجية بشريعة محددة، ويقيم نظام البيت على أساس قوامة أحد الشريكين وهو الأقدر على القوامة، منعاً للفوضى والاضطراب والنزاع‏.‏‏.‏ إلى آخر الضمانات والتنظيمات الواقعية من كل اهتزاز‏.‏ فوق التوجيهات العاطفية‏.‏ وفوق ربط هذه العلاقة كلها بتقوى الله ورقابته‏.‏

ولكن الحياة الواقعية للبشر تثبت أن هناك حالات تتهدم وتتحطم على الرغم من جميع الضمانات والتوجيهات‏.‏ وهي حالات لا بد أن تواجه مواجهة عملية، اعترافاً بمنطق الواقع الذي لا يجدي إنكاره حين تتعذر الحياة الزوجية، ويصبح الإمساك بالزوجية عبثاً لا يقوم على أساس‏!‏

«والإسلام لا يسرع إلى رباط الزوجية المقدسة فيفصمه لأول وهلة، ولأول بادرة من خلاف‏.‏ إنه يشد على هذا الرباط بقوة، فلا يدعه يفلت إلا بعد المحاولة واليأس»‏.‏

«إنه يهتف بالرجال‏:‏ ‏{‏وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً‏}‏ فيميل بهم إلى التريث والمصابرة حتى في حالة الكراهية، ويفتح لهم تلك النافذة المجهولة‏:‏ ‏{‏فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً‏}‏ فما يدريهم أن في هؤلاء النسوة المكروهات خيراً، وأن الله يدخر لهم هذا الخير‏.‏ فلا يجوز أن يفلتوه‏.‏ إن لم يكن ينبغي لهم أن يستمسكوا به ويعزوه‏!‏ وليس أبلغ من هذا في استحياء الانعطاف الوجداني واستثارته، وترويض الكره وإطفاء شرته»‏.‏

«فإذا تجاوز الأمر مسألة الحب والكره إلى النشوز والنفور، فليس الطلاق أول خاطر يهدي إلى الإسلام‏.‏ بل لا بد من محاولة يقوم بها الآخرون، وتوفيق يحاوله الخيرون‏:‏ ‏{‏وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلهآ إن يريدآ إصلاحاً يوفق الله بينهمآ‏.‏ إن الله كان عليماً خبيراً‏}‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهمآ أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير‏}‏» فإذا لم تجد هذه الوساطة، فالأمر إذن جد، وهناك ما لا تستقيم معه هذه الحياة، ولا يستقر لها قرار‏.‏

وإمساك الزوجية على هذا الوضع إنما هو محاولة فاشلة، يزيدها الضغط فشلاً، ومن الحكمة التسليم بالواقع، وإنهاء هذه الحياة على كره من الإسلام، فإن أبغض الحلال إلى الله الطلاق‏.‏

فإذا أراد أن يطلق فليس في كل لحظة يجوز الطلاق‏.‏ إنما السنة أن يكون في طهر لم يقع فيه وطء‏.‏‏.‏ وفي هذا ما يؤجل فصم العقدة فترة بعد موقف الغضب والانفعال‏.‏ وفي خلال هذه الفترة قد تتغير النفوس، وتقر القلوب، ويصلح الله بين المتخاصمين فلا يقع الطلاق‏!‏

ثم بعد ذلك فترة العدة‏.‏ ثلاثة قروء للتي تحيض وتلد‏.‏ وثلاثة أشهر للآيسة والصغيرة‏.‏ وفترة الحمل للحوامل‏.‏ وفي خلالها مجال للمعاودة إن نبضت في القلوب نابضة من مودة، ومن رغبة في استئناف ما انقطع من حبل الزوجية‏.‏

ولكن هذه المحاولات كلها لا تنفي أن هناك انفصالاً يقع، وحالات لا بد أن تواجهها الشريعة مواجهة عملية واقعية، فتشرع لها، وتنظم أوضاعها، وتعالج آثارها‏.‏ وفي هذا كانت تلك الأحكام الدقيقة المفصلة، التي تدل على واقعية هذا الدين في علاجه للحياة، مع دفعها دائماً إلى الأمام‏.‏ ورفعها دائماً إلى السماء‏.‏

والدلالة الرابعة للسورة وما فيها من الترغيب والترهيب والتعقيب والتفصيل الشديد والتوكيد، هو أنها كانت تواجه حالات واقعة في الجماعة المسلمة متخلفة من رواسب الجاهلية، وما كانت تلاقيه المرأة من العنت والخسف، مما اقتضى هذا التشديد، وهذا الحشد من المؤثرات النفسية، ومن التفصيلات الدقيقة، التي لا تدع مجالاً للتلاعب والالتواء مع ما كان مستقراً في النفوس من تصورات متخلفة عن علاقات الجنسين، ومن تفكك وفوضى في الحياة العائلية‏.‏

ولم يكن الحال هكذا في شبه الجزيرة وحدها، إنما كان شائعاً في العالم كله يومذاك‏.‏ فكان وضع المرأة هو وضع الرقيق أو ما هو أسوأ من الرقيق في جنبات الأرض جميعاً‏.‏ فوق ما كان ينظر إلى العلاقات الجنسية نظرة استقذار، وإلى المرأة كأنها شيطان يغري بهذه القذارة‏.‏

ومن هذه الوهدة العالمية ارتفع الإسلام بالمرأة وبالعلاقات الزوجية إلى ذلك المستوى الرفيع الطاهر الكريم الذي سبقت الإشارة إليه‏.‏ وأنشأ للمرأة ما أنشأ من القيمة والاعتبار والحقوق والضمانات‏.‏‏.‏‏.‏ وليدة لا توأد ولا تهان‏.‏ ومخطوبة لا تنكح إلا بإذنها ثيباً أو بكراً‏.‏ وزوجة لها حقوق الرعاية فوق ضمانات الشريعة‏.‏ ومطلقة لها هذه الحقوق المفصلة في هذه السورة وفي سورة البقرة وغيرها‏.‏‏.‏

شرع الإسلام هذا كله‏.‏ لا لأن النساء في شبه الجزيرة أو في أي مكان في العالم حينذاك شعرن بأن مكانهن غير مرض‏!‏ ولا لأن شعور الرجال كذلك قد تأذى بوضع النساء‏.‏ ولا لأنه كان هناك اتحاد نسائي عربي أو عالمي‏!‏ ولا لأن المرأة دخلت دار الندوة أو مجلس الشورى‏!‏ ولا لأن هاتفاً واحداً في الأرض هتف بتغيير الأحوال‏.‏

‏.‏ إنما كانت هي شريعة السماء للأرض‏.‏ وعدالة السماء للأرض‏.‏ وإرادة السماء بالأرض‏.‏‏.‏ أن ترتفع الحياة البشرية من تلك الوهدة، وأن تتطهر العلاقات الزوجية من تلك الوصمة، وان يكون للزوجين من نفس واحدة حقوق الإنسان وكرامة الإنسان‏.‏

‏.‏‏.‏ هذا دين رفيع‏.‏‏.‏ لا يعرض عنه إلا مطموس‏.‏ ولا يعيبه إلا منكوس، ولا يحاربه إلا موكوس‏.‏ فإنه لا يدع شريعة الله إلى شريعة الناس إلا من أخلد إلى الأرض واتبع هواه‏.‏

والآن نستعرض الأحكام في سياق السورة بعد هذا الاستطراد الذي لا يبعد كثيراً عن جو هذا الجزء وما فيه من تنظيم وبناء للجماعة المسلمة والأحكام في سياق السورة شيء آخر غير ذلك التلخيص‏.‏ شيء حي‏.‏ فيه روح‏.‏ وفيه حركة‏.‏ وفيه حياة‏.‏ وفيه إيحاء‏.‏‏.‏ وله إيقاع‏.‏ وهذا هو الفارق الأصيل بين مدارسة الأحكام في القرآن ومدارستها في كتب الفقه والأصول‏.‏

‏{‏يا أيها النبي إذا طلقتم النسآء فطلقوهن لعدتهن، وأحصوا العدة، واتقوا الله ربكم، لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة‏.‏ وتلك حدود الله، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه‏.‏ لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً‏}‏‏.‏‏.‏

هذه هي أول مرحلة وهذا هو أول حكم يوجه الخطاب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏يا أيها النبي‏}‏‏.‏‏.‏ ثم يظهر أن الحكم خاص بالمسلمين لا بشخصه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إذا طلقتم النساء‏.‏‏.‏ الخ‏}‏ فيوحي هذا النسق من التعبير بما وراءه، وهو إثارة الاهتمام، وتصوير الجدية‏.‏ فهو أمر ذو بال، ينادي الله نبيه بشخصه ليلقي إليه فيه بأمره، كما يبلغه لمن وراءه‏.‏ وهي إيحاءات نفسية واضحة الدلالة على ما يراد بها من احتفال واحتشاد‏.‏

‏{‏إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن‏}‏‏.‏‏.‏

وقد ورد في تحديد معنى هذا النص حديث صحيح رواه البخاري ولفظه‏:‏ «حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني سالم،» أن عبد الله بن عمر أخبره أنه طلق امرأة له وهي حائض، فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل «‏.‏

ورواه مسلم ولفظه‏:‏» فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء «‏.‏

ومن ثم يتعين أن هناك وقتاً معيناً لإيقاع الطلاق؛ وأنه ليس للزوج أن يطلق حينما شاء إلا أن تكون امرأته في حالة طهر من حيض، ولم يقع بينهما في هذا الطهر وطء‏.‏

وتفيد آثار أخرى أن هناك حالة ثانية يجوز فيها الطلاق، وهو أن تكون الزوجة حاملاً بينة الحمل‏.‏ والحكمة في ذلك التوقيت هي أولاً إرجاء إيقاع الطلاق فترة بعد اللحظة التي تتجه فيها النفس للطلاق؛ وقد تسكن الفورة إن كانت طارئة وتعود النفوس إلى الوئام‏.‏ كما أن فيه تأكداً من الحمل أو عدمه قبل الطلاق‏.‏ فقد يمسك عن الطلاق لو علم أن زوجه حامل‏.‏ فإذا مضى فيه وقد تبين حملها دل على أنه مريد له ولو كانت حاملاً‏.‏ فاشتراط الطهر بلا وطء هو للتحقيق من عدم الحمل، واشتراط تبين الحمل هو ليكون على بصيرة من الأمر‏.‏

وهذه أول محاولة لرأب الصدع في بناء الأسرة، ومحاولة دفع المعول عن ذلك البناء‏.‏

وليس معنى هذا أن الطلاق لا يقع إلا في هذه الفترة‏.‏ فهو يقع حيثما طلق‏.‏ ولكنه يكون مكروهاً من الله، مغضوباً عليه من رسول الله‏.‏ وهذا الحكم يكفي في ضمير المؤمن ليمسك به حتى يأتي الأجل‏.‏ فيقضي الله ما يريد في هذه المسألة‏.‏

‏{‏وأحصوا العدة‏}‏‏.‏‏.‏

كي لا يكون في عدم إحصائها إطالة للأمد على المطلقة، ومضارة لها بمنعها من الزواج بعد العدة‏.‏ أو نقص في مدتها لا يتحقق به الغرض الأول، وهو التأكد من براءة رحم المطلقة من الحمل المستكن حفظاً للأنساب‏.‏ ثم هو الضبط الدقيق الذي يوحي بأهمية الأمر، ومراقبة السماء له، ومطالبة أصحابه بالدقة فيه‏!‏

‏{‏واتقوا الله ربكم‏.‏ لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة‏}‏‏.‏

وهذا أول تنبيه بعد وهلة النداء الأول وأول تحذير من الله وتقديم تقواه‏.‏ قبل الأمر بعدم إخراجهن من بيوتهن وهي بيوت أزواجهن ولكنه يسميها بيوتهن لتوكيد حقهن في الإقامة بها فترة العدة لا يُخرَجن منها ولا يَخرجن، إلا في حالة وقوع فاحشة ظاهرة منهن‏.‏ وقد ورد أن هذه الفاحشة قد تكون الزنا فتخرج للحد‏:‏ وقد تكون إيذاء أهل الزوج‏.‏ وقد تكون هي النشوز على الزوج ولو أنه مطلق وعمل ما يؤذيه‏.‏ ذلك أن الحكمة من إبقاء المطلقة في بيت الزوج هي إتاحة الفرصة للرجعة، واستثارة عواطف المودة، وذكريات الحياة المشتركة‏.‏ حيث تكون الزوجة بعيدة بحكم الطلاق قريبة من العين؛ فيفعل هذا في المشاعر فعله بين الاثنين‏!‏ فأما حين ترتكس في حمأة الزنا وهي في بيته‏!‏ أو تؤذي أهله، أو تنشز عليه، فلا محل لاستحياء المشاعر الطيبة، واستجاشة المودة الدفينة‏.‏ ولا حاجة إلى استبقائها في فترة العدة‏.‏ فإن قربها منه حينذاك يقطع الوشائج ولا يستحييها‏!‏

‏{‏وتلك حدود الله‏.‏ ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه‏}‏‏.‏

وهذا هو التحذير الثاني‏.‏ فالحارس لهذا الحكم هو الله‏.‏ فأي مؤمن إذن يتعرض لحد يحرسه الله‏؟‏‏!‏ إنه الهلاك والبوار‏.‏‏.‏ ‏{‏ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه‏}‏‏.‏‏.‏ ظلم نفسه لتعريضها هكذا لبأس الله القائم على حدوده يحرسها ويرعاها‏.‏ وظلم نفسه بظلم زوجه‏.‏ وهي وهو من نفس واحدة، فما يظلمها يظلمه كذلك بهذا الاعتبار‏.‏‏.‏ ثم‏.‏‏.‏

‏{‏لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً‏}‏‏.‏‏.‏

وهي لمسة موحية مؤثرة‏.‏ فمن ذا الذي يعلم غيب الله وقدره المخبوء وراء أمره بالعدة، وأمره ببقاء المطلقات في بيوتهن‏.‏‏.‏ إنه يلوح هناك أمل، ويوصوص هناك رجاء‏.‏ وقد يكون الخير كله‏.‏ وقد تتغير الأحوال وتتبدل إلى هناءة ورضى‏.‏ فقدر الله دائم الحركة، دائم التغيير، ودائم الأحداث‏.‏ والتسليم لأمر الله أولى، والرعاية له أوفق، وتقواه ومراقبته فيها الخير يلوح هناك‏!‏

والنفس البشرية قد تستغرقها اللحظة الحاضرة، وما فيها من أوضاع وملابسات، وقد تغلق عليها منافذ المستقبل، فتعيش في سجن اللحظة الحاضرة، وتشعر أنها سرمد، وأنها باقية، وأن ما فيها من أوضاع وأحوال سيرافقها ويطاردها‏.‏‏.‏ وهذا سجن نفسي مغلق مفسد للأعصاب في كثير من الأحيان‏.‏

وليست هذه هي الحقيقة‏.‏ فقدر الله دائماً يعمل، ودائماً يغير، ودائماً يبدل، ودائماً ينشئ ما لا يجول في حسبان البشر من الأحوال والأوضاع‏.‏ فرج بعد ضيق‏.‏ وعسر بعد يسر‏.‏ وبسط بعد قبض‏.‏ والله كل يوم هو في شأن، يبديه للخلق بعد أن كان عنهم في حجاب‏.‏

ويريد الله أن تستقر هذه الحقيقة في نفوس البشر، ليظل تطلعهم إلى ما يحدثه الله من الأمر متجدداً ودائماً‏.‏ ولتظل أبواب الأمل في تغيير الأوضاع مفتوحة دائمة‏.‏ ولتظل نفوسهم متحركة بالأمل، ندية بالرجاء، لا تغلق المنافذ ولا تعيش في سجن الحاضر‏.‏ واللحظة التالية قد تحمل ما ليس في الحسبان‏.‏‏.‏ ‏{‏لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوي عدل منكم، وأقيموا الشهادة لله‏.‏ ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب‏.‏ ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره‏.‏ قد جعل الله لكل شيء قدراً‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه هي المرحلة الثانية وهذا هو حكمها، وبلوغ الأجل آخر فترة العدة‏.‏ وللزوج ما دامت المطلقة لم تخرج من العدة على آجالها المختلفة التي سبق بيانها أن يراجعها فتعود إلى عصمته بمجرد مراجعتها وهذا هو إمساكها أو أن يدع العدة تمضي فتبين منه ولا تحل إلا بعقد جديد كالزوجة الجديدة‏.‏ وسواء راجع أم فارق فهو مأمور بالمعروف فيهما، منهي عن المضارة بالرجعة، كأن يراجعها قبيل انتهاء العدة ثم يعود فيطلقها الثانية ثم الثالثة ليطيل مدة بقائها بلا زواج‏!‏ أو أن يراجعها ليبقيها كالمعلقة، ويكايدها لتفتدي منه نفسها وكان كلاهما يقع عند نزول هذه السورة، وهو ما يزال يقع كلما انحرفت النفوس عن تقوى الله‏.‏

وهي الضمان الأول لأحكامه في المعاشرة والفراق‏.‏ كذلك هو منهي عن المضارة في الفراق بالسب والشتم والغلظة في القول والغضب، فهذه الصلة تقوم بالمعروف وتنتهي بالمعروف استبقاء لمودات القلوب؛ فقد تعود إلى العشرة، فلا تنطوي على ذكرى رديئة، لكلمة نابية، أو غمزة شائكة، أو شائبة تعكر صفاءها عندما تعود‏.‏ ثم هو الأدب الإسلامي المحض الذي يأخذ الإسلام به الألسنة والقلوب‏.‏

وفي حالتي الفراق أو الرجعة تطلب الشهادة على هذه وذاك‏.‏ شهادة اثنين من العدول‏.‏ قطعاً للريبة‏.‏ فقد يعلم الناس بالطلاق ولا يعلمون بالرجعة، فتثور شكوك وتقال أقاويل‏.‏ والإسلام يريد النصاعة والطهارة في هذه العلاقات وفي ضمائر الناس وألسنتهم على السواء‏.‏ والرجعة تتم وكذلك الفرقة بدون الشهادة عند بعض الفقهاء ولا تتم عند بعضهم إلا بها‏.‏ ولكن الإجماع أن لا بد من الشهادة بعد أو مع الفرقة أو الرجعة على القولين‏.‏

وعقب بيان الحكم تجيء اللمسات والتوجيهات تترى‏:‏

‏{‏واقيموا الشهادة لله‏}‏‏.‏‏.‏

فالقضية قضية الله، والشهادة فيها لله، هو يأمر بها، وهو يراقب استقامتها، وهو يجزي عليها‏.‏ والتعامل فيها معه لا مع الزوج ولا الزوجة ولا الناس‏!‏

‏{‏ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏‏.‏

والمخاطبون بهذه الأحكام هم المؤمنون المعتقدون باليوم الآخر‏.‏ فهو يقول لهم‏:‏ إنه يعظهم بما هو من شأنهم‏.‏ فإذا صدقوا الإيمان به وباليوم الآخر فهم إذن سيتعظون ويعتبرون‏.‏ وهذا هو محك إيمانهم، وهذا هو مقياس دعواهم في الإيمان‏!‏

‏{‏ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب‏}‏‏.‏‏.‏

مخرجاً من الضيق في الدنيا والآخرة، ورزقاً من حيث لا يقدر ولا ينتظر‏.‏ وهو تقرير عام، وحقيقة دائمة‏.‏ ولكن إلصاقها هنا بأحكام الطلاق يوحي بدقة انطباقها وتحققها عندما يتقي المتقون الله في هذا الشأن بصفة خاصة‏.‏ وهو الشأن الذي لا ضابط فيه أحس ولا أدق من ضابط الشعور والضمير، فالتلاعب فيه مجاله واسع، لا يقف دونه إلا تقوى الله وحساسية الضمير‏.‏

‏{‏ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إن الله بالغ أمره‏}‏‏.‏‏.‏

فمجال الكيد في هذه العلاقة واسع، ومسالكه كثيرة، وقد تؤدي محاولة اتقاء الكيد إلى الكيد‏!‏ فهنا إيحاء بترك هذه المحاولة، والتوكل على الله، وهو كافٍ لمن يتوكل عليه‏.‏ فالله بالغ أمره‏.‏ فما قدر وقع، وما شاء كان؛ فالتوكل عليه توكل على قدرة القادر، وقوة القاهر‏.‏ الفعال لما يريد‏.‏ البالغ ما يشاء‏.‏

والنص عام‏.‏ والمقصود به هو إنشاء التصور الإيماني الصحيح في القلب، بالنسبة لإرادة الله وقدره‏.‏

‏.‏ ولكن وروده هنا بمناسبة أحكام الطلاق له إيحاؤه في هذا المجال وأثره‏.‏

‏{‏قد جعل الله لكل شيء قدراً‏}‏‏.‏‏.‏

فكل شيء مقدر بمقداره، وبزمانه، وبمكانه، وبملابساته، وبنتائجه وأسبابه‏.‏ وليس شيء مصادفة، وليس شيء جزافاً‏.‏ في هذا الكون كله، وفي نفس الإنسان وحياته‏.‏‏.‏ وهي حقيقة ضخمة يقوم عليها جانب كبير من التصور الإيماني‏.‏ ‏(‏وقد فصلنا الحديث عنها عند استعراض قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخلق كل شيء فقدره تقديراً‏}‏ في سورة الفرقان‏.‏ وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كل شيء خلقناه بقدر‏}‏ في سورة القمر‏)‏‏.‏ ولكن ذكر هذه الحقيقة الكلية هنا يربط بها ما قدره الله عن الطلاق وفترته، والعدة ووقتها، والشهادة وإقامتها‏.‏ ويطبع هذه الأحكام بطابع السنة الإلهية النافذة، والناموس الكلي العام‏.‏ ويوقع في الحس أن الأمر جد من جد النظام الكوني المقدر في كل خلق الله‏.‏

‏{‏واللائي يئسن من المحيض من نسآئكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن‏.‏ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏.‏ ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً‏.‏ ذلك أمر الله أنزله إليكم، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا تحديد لمدة العدة لغير ذوات الحيض والحمل‏.‏ يشمل اللواتي انقطع حيضهن، واللاتي لم يحضن بعد لصغر أو لعلة‏.‏ ذلك أن المدة التي بينت من قبل في سورة البقرة كانت تنطبق على ذوات الحيض وهي ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات‏.‏ حسب الخلاف الفقهي في المسألة فأما التي انقطع حيضها والتي لم تحض أصلاً فكان حكمها موضع لبس‏:‏ كيف تحسب عدتها‏؟‏ فجاءت هذه الآية تبين وتنفي اللبس والشك، وتحدد ثلاثة أشهر لهؤلاء وهؤلاء، لاشتراكهن في عدم الحيض الذي تحسب به عدة أولئك‏.‏ أما الحوامل فجعل عدتهن هي الوضع‏.‏ طال الزمن بعد الطلاق أم قصر‏.‏ ولو كان أربعين ليلة فترة الطهر من النفاس‏.‏ لأن براءة الرحم بعد الوضع مؤكدة، فلا حاجة إلى الانتظار‏.‏ والمطلقة تبين من مطلقها بمجرد الوضع، فلا حكمة في انتظارها بعد ذلك، وهي غير قابلة للرجعة إليه إلا بعقد جديد على كل حال‏.‏ وقد جعل الله لكل شيء قدراً‏.‏ فليس هناك حكم إلا ووراءه حكمة‏.‏

هذا هو الحكم ثم تجيء اللمسات والتعقيبات‏:‏

‏{‏ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً‏}‏‏.‏‏.‏

واليسر في الأمر غاية ما يرجوه إنسان‏.‏ وإنها لنعمة كبرى أن يجعل الله الأمور ميسرة لعبد من عباده‏.‏ فلا عنت ولا مشقة ولا عسر ولا ضيقة‏.‏ يأخذ الأمور بيسر في شعوره وتقديره‏.‏ وينالها بيسر في حركته وعمله‏.‏ ويرضاها بيسر في حصيلتها ونتيجتها‏.‏ ويعيش من هذا في يسر رخي ندي، حتى يلقى الله‏.‏‏.‏ ألا إنه لإغراء باليسر في قضية الطلاق مقابل اليسر في سائر الحياة‏!‏

‏{‏ذلك أمر الله أنزله إليكم‏}‏‏.‏

وهذه لمسة أخرى في جانب آخر‏.‏ لمسة الجد والانتباه إلى مصدر الأمر‏.‏‏.‏ فقد أنزله الله‏.‏ أنزله للمؤمنين به، فطاعته تحقيق لمعنى الإيمان، ولحقيقة الصلة بينهم وبين الله‏.‏

ثم عودة إلى التقوى التي يدق عليها دقاً متواصلاً في هذا المجال‏:‏

‏{‏ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً‏}‏‏.‏‏.‏

فالأولى تيسير للأمور‏.‏ والثانية تكفير للسيئات وإعظام للأجر بعد التكفير‏.‏‏.‏ فهو الفيض المغري والعرض المثير‏.‏ وهو حكم عام ووعد شامل‏.‏ ولكنه يخلع على موضوع الطلاق ظلاله، ويغمر القلب بالشعور بالله وفضله العميم‏.‏ فما له إذن يعسر ويعقد والله يغمره بالتيسير والمغفرة والأجر الكبير‏؟‏

‏{‏أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم، ولا تضآروهن لتضيقوا عليهن‏.‏ وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن‏.‏ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن، وأتمروا بينكم بمعروف، وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى‏.‏ لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممآ آتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا مآ آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا هو البيان الأخير لتفصيل مسألة الإقامة في البيوت، والإنفاق في فترة العدة على اختلاف مدتها‏.‏ فالمأمور به هو أن يسكنوهن مما يجدون هم من سكنى‏.‏ لا أقل مما هم عليه في سكناهم، وما يستطيعونه حسب مقدرتهم وغناهم‏.‏ غير عامدين إلى مضارتهم سواء بالتضييق عليهن في فسحة المسكن أو مستواه أو في المعاملة فيه‏.‏ وخص ذوات الأحمال بذكر النفقة مع وجوب النفقة لكل معتدة لتوهم أن طول الحمل يحدد زمن الإنفاق ببعضه دون بقيته، أو بزيادة عنه إذا قصرت مدته‏.‏ فأوجب النفقة حتى الوضع، وهو موعد انتهاء العدة لزيادة الإيضاح التشريعي‏.‏

ثم فصل مسألة الرضاعة فلم يجعلها واجباً على الأم بلا مقابل‏.‏ فما دامت ترضع الطفل المشترك بينهما، فمن حقها أن تنال أجراً على رضاعته تستعين به على حياتها وعلى إدرار اللبن للصغير، وهذا منتهى المراعاة للأم في هذه الشريعة‏.‏ وفي الوقت ذاته أمر الأب والأم أن يأتمرا بينهما بالمعروف في شأن هذا الوليد، ويتشاورا في أمره ورائدهما مصلحته، وهو أمانة بينهما، فلا يكون فشلهما هما في حياتهما نكبة على الصغير البريء فيهما‏!‏

وهذه هي المياسرة التي يدعوهما الله إليها‏.‏ فأما إذا تعاسرا ولم يتفقا بشأن الرضاعة وأجرها، فالطفل مكفول الحقوق‏:‏ ‏{‏فسترضع له أخرى‏}‏‏.‏‏.‏ دون اعتراض من الأم ودون تعطيل لحق الطفل في الرضاعة، بسبب تعاسرهما بعد فشلهما‏!‏

ثم يفصل الأمر في قدر النفقة‏.‏ فهو اليسر والتعاون والعدل‏.‏ لا يجور هو، ولا تتعنت هي‏.‏ فمن وسع الله عليه رزقه فلينفق عن سعة‏.‏ سواء في السكن أو في نفقة المعيشة أو في أجر الرضاعة‏.‏

ومن ضيق عليه في الرزق، فليس عليه من حرج، فالله لا يطالب أحداً أن ينفق إلا في حدود ما آتاه‏.‏ فهو المعطي، ولا يملك أحد أن يحصل على غير ما أعطاه الله‏.‏ فليس هناك مصدر آخر للعطاء غير هذا المصدر، وليست هناك خزانة غير هذه الخزانة‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها‏}‏‏.‏‏.‏

ثم لمسة الإرضاء، وإفساح الرجاء، للاثنين على السواء‏:‏

‏{‏سيجعل الله بعد عسر يسراً‏}‏‏.‏‏.‏

فالأمر منوط بالله في الفرج بعد الضيق، واليسر بعد العسر‏.‏ فأولى لهما إذن أن يعقدا به الأمر كله، وأن يتجها إليه بالأمر كله، وأن يراقباه ويتقياه والأمر كله إليه‏.‏ وهو المانح المانع‏.‏ القابض الباسط‏.‏ وبيده الضيق والفرج، والعسر واليسر، والشدة والرخاء‏.‏

وإلى هنا يكون قد تناول سائر أحكام الطلاق ومتخلفاته، وتتبع كل أثر من آثاره حتى انتهى إلى حل واضح؛ ولم يدع من البيت المتهدم أنقاضاً ولا غباراً يملأ النفوس ويغشى القلوب، ولم يترك بعده عقابيل غير مستريحة بعلاج، ولا قلاقل تثير الاضطراب‏.‏

وكذلك يكون قد عالج جميع الوساوس والهواجس التي تثور في القلوب، فتمنعها من السماحة والتيسير والتجمل للأمر‏.‏ فأبعد أشباح الفقر والضيق وضياع الأموال من نفس الزوج إذا هو أسكن وأنفق ووسع على مطلقته أو مرضعة ولده‏.‏ ومن نفس الزوجة التي تضيق بنفقة الإعسار، أو تطمع في زيادة ما تصيب من مال زوجها السابق‏.‏ فأكد اليسر بعد العسر لمن اتقى، والضيق بعد الفرج، والرزق من حيث لا يحتسب، وفوق رزق الدنيا رزق الآخرة والأجر الكبير هناك بعد التكفير‏.‏

كما عالج ما تخلفه حالة الخلاف والشقاق التي أدت إلى الطلاق‏.‏ من غيظ وحنق ومشادة وغبار في الشعور والضمير‏.‏‏.‏ فمسح على هذا كله بيد الرفق والتجمل، ونرسم عليه من رحمة الله والرجاء فيه؛ ومن ينابيع المودة والمعروف التي فجرها في القلوب بلمسات التقوى والأمل في الله وانتظار رضاه‏.‏

وهذا العلاج الشامل الكامل، وهذه اللمسات المؤثرة العميقة، وهذا التوكيد الوثيق المتكرر‏.‏‏.‏ هذه كلها هي الضمانات الوحيدة في هذه المسألة لتنفيذ الشريعة المقررة‏.‏ فليس هناك ضابط إلا حساسية الضمائر وتقوى القلوب‏.‏‏.‏ وإن كلا الزوجين ليملك مكايدة صاحبه حتى تنفقئ مرارته إذا كانت الحواجز هي فقط حواجز القانون‏!‏‏!‏ وبعض الأوامر من المرونة بحيث تسع كل هذا‏.‏ فالأمر بعدم المضارة‏:‏ ‏{‏ولا تضاروهن‏}‏ يشمل النهي عن ألوان من العنت لا يحصرها نص قانوني مهما اتسع‏.‏ والأمر فيه موكول إلى هذه المؤثرات الوجدانية، وإلى استجاشة حاسة التقوى وخوف الله المطلع على السرائر، المحيط بكل شيء علماً‏.‏ وإلى التعويض الذي يعده الله للمتقين في الدنيا والآخرة‏.‏ وبخاصة في مسألة الرزق التي تكرر ذكرها في صور شتى، لأنها عامل مهم في تيسير الموقف، وتندية الجفاف الذي تنشئه حالة الطلاق‏.‏

وإن الزوجين ليفارقان في ظل الأحكام والتوجيهات وفي قلوبهما بذور للود لم تمت، ونداوة قد تحيي هذه البذور فتنبت‏.‏‏.‏ ذلك إلى الأدب الجميل الرفيع الذي يريد الإسلام أن يصبغ به حياة الجماعة المسلمة، ويشيع فيها أرجه وشذاه‏.‏

فإذا انتهى السياق من هذا كله ساق العبرة الأخيرة في مصير الذين عتوا عن أمر ربهم ورسله، فلم يسمعوا ولم يستجيبوا‏.‏ وعلق هذه العبرة على الرؤوس، تذكرهم بالمصير البائس الذي ينتظر من لا يتقي ولا يطيع‏.‏ كما تذكرهم بنعمة الله على المؤمنين المخاطبين بالسورة والتشريع‏:‏

‏{‏وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله، فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً‏.‏ فذاقت وبال أمرها، وكان عاقبة أمرها خسراً‏.‏ أعد الله لهم عذاباً شديداً‏.‏ فاتقوا الله يأولي الألباب الذين آمنوا، قد أنزل الله إليكم ذكراً‏:‏ رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور‏.‏ ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبداً‏.‏ قد أحسن الله له رزقاً‏}‏‏.‏‏.‏

وهو إنذار طويل وتحذير مفصل المشاهد‏.‏ كما أنه تذكير عميق بنعمة الله بالإيمان والنور، ووعده بالأجر في الآخرة وهو أحسن الرزق وأكرمه‏.‏

فأخذ الله لمن يعتو عن أمره ولا يسلم لرسله هو سنة متكررة‏:‏ ‏{‏وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً‏}‏‏.‏ وتفصيل أخذها وذكر الحساب العسير والعذاب النكير، ثم تصوير العاقبة وسوء المصير‏:‏ ‏{‏فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً‏}‏‏.‏‏.‏ ثم تأخير صورة هذه العاقبة الخاسرة في الآية التالية‏:‏ ‏{‏أعد الله لهم عذاباً شديداً‏}‏‏.‏‏.‏ كل هذا لإطالة المشهد وتفصيل خطواته ومراحله‏.‏ وهي طريقة من طرق الأسلوب القرآني في تعميق الأثر في الحس وإطالة مكثه في الأعصاب‏.‏

ونقف لحظة أمام هذا التحذير فنرى أن الله أخذ القرى واحدة بعد واحدة كلما عتت عن أمر ربها ورسله‏.‏‏.‏ ونجد أن هذا التحذير يساق هنا بمناسبة الطلاق وأحكامه، فيرتبط الطلاق وحكمه بهذه السنة الكلية‏.‏ ويوحي هذا الارتباط أن أمر الطلاق ليس أمر أسر أو أزواج‏.‏ إنما هو أمر الأمة المسلمة كلها‏.‏ فهي المسؤولة عن هذا الأمر‏.‏ وهي المسؤولة فيه عن شريعة الله‏.‏ ومخالفتها عن أمر الله فيه أو مخالفتها عن أمر الله في غيره من أحكام هذا النظام، أو هذا المنهج الإلهي المتكامل للحياة هي عتو عن أمر الله، لا يؤاخذ به الأفراد الذين يرتكبونه، إنما تؤاخذ به القرية أو الأمة التي تقع فيها المخالفة، والتي تنحرف في تنظيم حياتها عن نهج الله وأمره‏.‏ فقد جاء هذا الدين ليطاع، ولينفذ كله، وليهيمن على الحياة كلها‏.‏ فمن عتا عن أمر الله فيه ولو كان هذا في أحوال الأفراد الشخصية فقد تعرض لما تعرضت له القرى من سنة الله التي لا تتخلف أبداً‏.‏

وتلك القرى ذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً‏.‏‏.‏ ذاقته في هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير‏.‏ ولقد ذاقت هذا الوبال قرى وأمم وشعوب عتت عن منهج الله في الأرض‏.‏ ونحن نشهد وأسلافنا شهدوا هذا الوبال‏.‏ ذاقته فساداً وانحلالاً، وفقراً وقحطاً، وظلماً وجوراً، وحياة مفزعة لا أمن فيها ولا سلام، ولا طمأنينة فيها ولا استقرار‏.‏ وفي كل يوم نرى مصداق هذا النذير‏!‏

وذلك فوق العذاب الشديد الذي ينتظر العتاة عن أمر الله ونهجه في الحياة حيث يقول الله‏:‏ ‏{‏أعد الله لهم عذاباً شديداً‏}‏‏.‏‏.‏ والله أصدق القائلين‏.‏

إن هذا الدين منهج نظام جماعي كما أسلفنا الحديث في سورة الصف جاء لينشئ جماعة مسلمة ذات نظام خاص‏.‏ وجاء ليصرف حياة هذه الجماعة كلها‏.‏ ومن ثم فالجماعة كلها مسؤولة عنه، مسؤولة عن أحكامه‏.‏ ولن تخالف عن هذه الأحكام حتى يحق عليها هذا النذير الذي حق على القرى التي عتت عن أمر ربها ورسله‏.‏

وفي مواجهة هذا الإنذار ومشاهده الطويلة يهتف بأولي الألباب الذين آمنوا‏.‏ الذين هدتهم ألبابهم إلى الإيمان‏.‏ يهتف بهم ليتقوا الله الذي أنزل لهم الذكر‏:‏ ‏{‏قد أنزل الله إليكم ذكراً‏}‏‏.‏‏.‏ ويجسم هذا الذكر ويمزجه بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم فيجعل شخصه الكريم هو الذكر، أو بدلاً منه في العبارة‏:‏ ‏{‏رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات‏}‏‏.‏‏.‏

وهنا لفتة مبدعة عميقة صادقة ذات دلائل منوعة‏.‏‏.‏

إن هذا الذكر الذي جاء من عند الله مر إليهم من خلال شخصية الرسول الصادق حتى لكأن الذكر نفذ إليهم مباشرة بذاته، لم تحجب شخصية الرسول شيئاً من حقيقته‏.‏

والوجه الثاني لإيحاء النص هو أن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم قد استحالت ذكراً، فهي صورة مجسمة لهذا الذكر صنعت به فصارت هو‏.‏ وهو ترجمة حية لحقيقة القرآن‏.‏ وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا وصفته عائشة رضي الله عنها وهي تقول‏:‏ «كان خلقه القرآن»‏.‏‏.‏ وهكذا كان القرآن في خاطره في مواجهة الحياة‏.‏ وكان هو القرآن يواجه الحياة‏!‏

وفوق نعمة الذكر والنور والهداية والصلاح، وعد بنعيم الجنات خالدين فيها أبداً‏.‏ وتذكير بأن هذا الرزق هو أحسن الرزق، فلا يقاس إليه رزق الأرض‏:‏ ‏{‏قد أحسن الله له رزقاً‏}‏‏.‏‏.‏ وهو الرازق في الدنيا والآخرة، ولكن رزقاً خير من رزق، واختياره للأحسن هو الاختيار الحق الكريم‏.‏

وهكذا يلمس نقطة الرزق مرة أخرى، ويهون بهذه الإشارة من رزق الأرض، إلى جانب رزق الجنة‏.‏

سورة التحريم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏3‏)‏ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ‏(‏4‏)‏ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏6‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏7‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏9‏)‏ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ‏(‏10‏)‏ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏11‏)‏ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

عندما جرى قدر الله أن يجعل الإسلام هو الرسالة الأخيرة؛ وأن يجعل منهجه هو المنهاج الباقي إلى آخر الخليقة؛ وأن تجري حياة المؤمنين به وفق الناموس الكوني العام؛ وأن يكون هذا الدين هو الذي يقود حياة البشرية ويهيمن على نشاطها في كل ميدان‏.‏‏.‏

عندما جرى قدر الله بهذا كله جعل الله هذا المنهج في هذه الصورة، شاملاً كاملاً متكاملاً، يلبي كل طاقات البشر واستعداداتهم، في الوقت الذي يرفع هذه الطاقات وهذه الاستعدادات إلى الأفق اللائق بخليفة الله في الأرض، وبالكائن الذي كرمه الله على كثير من عباده، ونفخ فيه من روحه‏.‏

وجعل طبيعة هذا الدين الانطلاق بالحياة إلى الأمام‏:‏ نمواً وتكاثراً، ورفعة وتطهراً، في آن واحد‏.‏ فلم يعطل طاقة باقية بانية، ولم يكبت استعداداً نافعاً‏.‏ بل نشط الطاقات وأيقظ الاستعدادات وفي الوقت ذاته حافظ على توازن حركة الاندفاع إلى الأمام مع حركة الاندفاع إلى الأفق الكريم، الذي يهيئ الأرواح في الدنيا لمستوى نعيم الآخرة، ويعد المخلوق الفاني في الأرض للحياة الباقية في دار الخلود‏.‏

وعندما جرى قدر الله أن يجعل طبيعة هذه العقيدة هكذا جرى كذلك باختيار رسولها صلى الله عليه وسلم إنساناً تتمثل فيه هذه العقيدة بكل خصائصها، وتتجسم فيه بكل حقيقتها، ويكون هو بذاته وبحياته الترجمة الصحيحة الكاملة لطبيعتها واتجاهها‏.‏ إنساناً قد اكتملت طاقاته الإنسانية كلها‏.‏ ضليع التكوين الجسدي، قوي البنية، سليم البناء؛ صحيح الحواس، يقظ الحس، يتذوق المحسوسات تذوقاً كاملاً سليماً‏.‏ وهو في ذات الوقت ضخم العاطفة، حي الطبع، سليم الحساسية، يتذوق الجمال، متفتح للتلقي والاستجابة‏.‏ وهو في الوقت ذاته كبير العقل، واسع الفكر، فسيح الأفق، قوي الإرادة، يملك نفسه ولا تملكه‏.‏‏.‏ ثم هو بعد ذلك كله‏.‏‏.‏ النبي‏.‏‏.‏ الذي تشرق روحه بالنور الكلي، والذي تطيق روحه الإسراء والمعراج، والذي ينادى من السماء، والذي يرى نور ربه، والذي تتصل حقيقته بحقيقة كل شيء في الوجود من وراء الأشكال والظواهر، فيسلم عليه الحصى والحجر، ويحن له الجذع، ويرتجف به أحد الجبل‏.‏‏.‏ ‏!‏‏.‏‏.‏ ثم تتوازن في شخصيته هذه الطاقات كلها‏.‏ فإذا هو التوازن المقابل لتوازن العقيدة التي اختير لها‏.‏‏.‏

ثم يجعل الله حياته الخاصة والعامة كتاباً مفتوحاً لأمته وللبشرية كلها، تقرأ فيه صور هذه العقيدة، وترى فيه تطبيقاتها الواقعية‏.‏ ومن ثم لا يجعل فيها سراً مخبوءاً، ولا ستراً مطوياً‏.‏ بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العادي‏.‏ حتى مواضع الضعف البشري الذي لا حيلة فيه لبشر‏.‏ بل إن الإنسان ليكاد يلمح القصد في كشف هذه المواضع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم للناس‏!‏

إنه ليس له في نفسه شيء خاص‏.‏

فهو لهذه الدعوة كله‏.‏ فعلام يختبئ جانب من حياته صلى الله عليه وسلم أو يخبأ‏؟‏ إن حياته هي المشهد المنظور القريب الممكن التطبيق من هذه العقيدة؛ وقد جاء صلى الله عليه وسلم ليعرضها للناس في شخصه، وفي حياته، كما يعرضها بلسانه وتوجيهه‏.‏ ولهذا خلق‏.‏ ولهذا جاء‏.‏

ولقد حفظ عنه أصحابه صلى الله عليه وسلم ونقلوا للناس بعدهم جزاهم الله خيراً أدق تفصيلات هذه الحياة‏.‏ فلم تبق صغيرة ولا كبيرة حتى في حياته اليومية العادية، لم تسجل ولم تنقل‏.‏‏.‏ وكان هذا طرفاً من قدر الله في تسجيل حياة هذا الرسول، أو تسجيل دقائق هذه العقيدة مطبقة في حياة الرسول‏.‏ فكان هذا إلى جانب ما سجله القرآن الكريم من هذه الحياة السجل الباقي للبشرية إلى نهاية الحياة‏.‏

وهذه السورة تعرض في صدرها صفحة من الحياة البيتية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصورة من الانفعالات والاستجابات الإنسانية بين بعض نسائه وبعض، وبينهن وبينه‏!‏ وانعكاس هذه الانفعالات والاستجابات في حياته صلى الله عليه وسلم وفي حياة الجماعة المسلمة كذلك‏.‏‏.‏ ثم في التوجيهات العامة للأمة على ضوء ما وقع في بيوت رسول الله وبين أزواجه‏.‏

والوقت الذي وقعت فيه الأحداث التي تشير إليها السورة ليس محدداً‏.‏ ولكن بالرجوع إلى الروايات التي جاءت عنه يتأكد أنه بعد زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش قطعاً‏.‏

ولعله يحسن أن نذكر هنا ملخصاً عن قصة أزواج النبي، وعن حياته البيتية يعين على تصور الحوادث والنصوص التي جاءت بصددها في هذه السورة‏.‏ ونعتمد في هذا الملخص على ما أثبته الإمام ابن حزم في كتابه‏:‏ «جوامع السيرة»‏.‏‏.‏ وعلى السيرة لابن هشام مع بعض التعليقات السريعة‏:‏

أول أزواجه صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد‏.‏ تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة وقيل ثلاث وعشرون، وسنها رضي الله عنها أربعون أو فوق الأربعين، وماتت رضي الله عنها قبل الهجرة بثلاث سنوات، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت‏.‏ وقد تجاوزت سنة الخمسين‏.‏

فلما ماتت خديجة تزوج عليه السلام سودة بنت زمعه رضي الله عنها ولم يرو أنها ذات جمال ولا شباب‏.‏ إنما كانت أرملة للسكران بن عمرو بن عبد شمس‏.‏ كان زوجها من السابقين إلى الإسلام من مهاجري الحبشة‏.‏ فلما توفي عنها، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم تزوج عائشة رضي الله عنها بنت الصديق أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه وكانت صغيرة فلم يدخل بها إلا بعد الهجرة‏.‏

ولم يتزوج بكرا غيرها‏.‏ وكانت أحب نسائه إليه، وقيل كانت سنها تسع سنوات وبقيت معه تسع سنوات وخمسة أشهر‏.‏ وتوفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم تزوج حفصة بنت عمر رضي الله عنه وعنها بعد الهجرة بسنتين وأشهر‏.‏ تزوجها ثيباً‏.‏ بعدما عرضها أبوها على أبي بكر وعلى عثمان فلم يستجيبا‏.‏ فوعده النبي خيراً منهما وتزوجها‏!‏

ثم تزوج زينب بنت خزيمة‏.‏ وكان زوجها الأول عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب قد قتل يوم بدر‏.‏ وتوفيت زينب هذه في حياته صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل كان زوجها قبل النبي هو عبد الله بن جحش الأسدي المستشهد يوم أحد‏.‏ ولعل هذا هو الأقرب‏.‏

وتزوج أم سلمة‏.‏ وكانت قبله زوجاً لأبي سلمة، الذي جرح في أحد، وظل جرحه يعاوده حتى مات به‏.‏ فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أرملته‏.‏ وضم إليه عيالها من أبي سلمة‏.‏

وتزوج زينب بنت جحش‏.‏ بعد أن زوجها لمولاه ومتبناه زيد بن حارثة فلم تستقم حياتهما فطلقها‏.‏ وقد عرضنا قصتها في سورة الأحزاب في الجزء الثاني والعشرين، وكانت جميلة وضيئة‏.‏ وهي التي كانت عائشة رضي الله عنها تحس أنها تساميها، لنسبها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت عمته، ولوضاءتها‏!‏

ثم تزوج جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد غزوة بني المصطلق في أواسط السنة السادسة الهجرية‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها‏.‏ قالت‏:‏ «لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في أسهم الثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة مليحة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها‏.‏ قالت عائشة‏:‏ فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها‏!‏ وعرفت أنه سيرى منها صلى الله عليه وسلم ما رأيت، فدخلت عليه فقالت‏:‏ يا رسول الله‏.‏ أنا جويرية بنت الحارث بن أبي صرار سيد قومه‏.‏ وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسي، فجئت أستعينك على كتابتي‏.‏ قال‏:‏» فهل لك في خير من ذلك‏؟‏ «قالت‏:‏ وما هو يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏» أقضي عنك كتابتك وأتزوجك‏؟‏ «قالت‏:‏ نعم يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ قد فعلت»‏.‏

ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بعد الحديبية‏.‏ وكانت مهاجرة مسلمة في بلاد الحبشة، فارتد زوجها عبد الله بن جحش إلى النصرانية وتركها‏.‏ فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه نجاشي الحبشة‏.‏ وجاءت من هناك إلى المدينة‏.‏

وتزوج إثر فتح خيبر بعد الحديبية صفية بنت حيي بن أخطب زعيم بني النضير‏.‏ وكانت زوجة لكنانة ابن أبي الحقيق وهو من زعماء اليهود أيضاً‏.‏ ويذكر ابن إسحاق في قصة زواجه صلى الله عليه وسلم منها‏:‏ أنه أتي بها وبأخرى معها من السبي، فمر بهما بلال رضي الله عنه على قتلى من قتلى اليهود فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم «اعزبوا عني هذه الشيطانة» وأمر بصفية فحيزت خلفه، وألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفاها لنفسه‏.‏ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم لبلال فيما بلغني حين رأى بتلك اليهودية ما رأى‏:‏ «أنزعت منك الرحمة يا بلال‏؟‏ حين تمر بامرأتين على قتلى رجالهما‏؟‏»‏.‏

ثم تزوج ميمونة بنت الحارث بن حزن‏.‏ وهي خالة خالد بن الوليد وعبد الله بن عباس‏.‏ وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي رهم بن عبد العزى‏.‏ وقيل حويطب بن عبد العزى‏.‏ وهي آخر من تزوج صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهكذا ترى أن لكل زوجة من أزواجه صلى الله عليه وسلم قصة وسبباً في زواجه منها‏.‏ وهن فيمن عدا زينت بنت جحش، وجويرية بنت الحارث، لم يكن شواب ولا ممن يرغب فيهن الرجال لجمال‏.‏ وكانت عائشة رضي الله عنها هي أحب نسائه إليه‏.‏ وحتى هاتان اللتان عرف عنهما الجمال والشباب كان هناك عامل نفسي وإنساني آخر إلى جانب جاذبيتهن ولست أحاول أن أنفي عنصر الجاذبية الذي لحظته عائشة في جويرية مثلاً، ولا عنصر الجمال الذي عرفت به زينب‏.‏ فلا حاجة أبداً إلى نفي مثل هذه العناصر الإنسانية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وليست هذه العناصر موضع اتهام يدفعه الأنصار عن نبيهم‏.‏ إذا حلا لأعدائه أن يتهموه‏!‏ فقد اختير ليكون إنساناً‏.‏ ولكن إنساناً رفيعاً‏.‏ وهكذا كان‏.‏ وهكذا كانت دوافعه في حياته وفي أزواجه صلى الله عليه وسلم على اختلاف الدوافع والأسباب‏.‏

ولقد عاش في بيته مع أزواجه بشراً رسولاً كما خلقه الله، وكما أمره أن يقول‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ سبحان ربي‏!‏ هل كنت إلا بشراً رسولاً‏؟‏‏}‏

استمتع بأزواجه وأمتعهن‏.‏ كما قالت عائشة رضي الله عنها عنه‏:‏ «كان إذا خلا بنسائه ألين الناس‏.‏ وأكرم الناس ضحاكاً بساماً»‏.‏ ولكنه إنما كان يستمتع بهن ويمتعهن من ذات نفسه، ومن فيض قلبه، ومن حسن أدبه، ومن كريم معاملته‏.‏ فأما حياتهن المادية فكانت في غالبها كفافاً حتى بعد أن فتحت له الفتوح وتبحبح المسلمون بالغنائم والفيء‏.‏ وقد سبق في سورة الأحزاب قصة طلبهن الوسعة في النفقة، وما أعقب هذا الطلب من أزمة، انتهت بتخييرهن بين الله ورسوله والدار الآخرة، أو المتاع والتسريح من عصمته صلى الله عليه وسلم فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة‏.‏

ولكن الحياة في جو النبوة في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لتقضي على المشاعر البشرية، والهواتف البشرية في نفوس أزواجه رضي الله عنهن فقد كان يبدو أو يشجر بينهن، ما لا بد أن يشجر في قلوب النساء في مثل هذه الحال‏.‏ وقد سلف في رواية ابن إسحاق عن عائشة رضي الله عنها أنها كرهت جويريه بمجرد رؤيتها لما توقعته من استملاح رسول الله صلى الله عليه وسلم لها إذا رآها وصح ما توقعته فعلاً‏!‏ وكذلك روت هي نفسها حادثاً لها مع صفية‏.‏ قالت‏.‏ «قلت للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ حسبك من صفية كذا وكذا‏.‏ قال الراوي‏:‏ تعني قصيرة‏!‏ فقال صلى الله عليه وسلم-» لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته «‏.‏ كذلك روت عن نفسها أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت آية التخيير التي في الأحزاب، فاختارت هي الله ورسوله والدار الآخرة، طلبت إليه ألا يخبر زوجاته عن اختيارها‏!‏ وظاهر لماذا طلبت هذا‏!‏ فقال صلى الله عليه وسلم-‏:‏» إن الله تعالى لم يبعثني معنفاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً‏.‏ لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها‏.‏‏.‏ «‏.‏

وهذه الوقائع التي روتها عائشة رضي الله عنها عن نفسها بدافع من صدقها ولتربيتها الإسلامية الناصعة ليست إلا أمثلة لغيرها تصور هذا الجو الإنساني الذي لا بد منه في مثل هذه الحياة‏.‏ كما تصور كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي رسالته بالتربية والتعلية في بيته كما يؤديها في أمته سواء‏.‏

وهذا الحادث الذي نزل بشأنه صدر هذه السورة هو واحد من تلك الأمثلة التي كانت تقع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي حياة أزواجه‏.‏ وقد وردت بشأنه روايات متعددة ومختلفة سنعرض لها عند استعراض النصوص القرآنية في السورة‏.‏

وبمناسبة هذا الحادث وما ورد فيه من توجيهات‏.‏

وبخاصة دعوة الزوجتين المتآمرتين فيه إلى التوبة‏.‏ أعقبه في السورة دعوة إلى التوبة وإلى قيام أصحاب البيوت على بيوتهم بالتربية، ووقاية أنفسهم وأهليهم من النار‏.‏

كما ورد مشهد للكافرين في هذه النار‏.‏ واختتمت السورة بالحديث عن امرأة نوح وامرأة لوط كمثل للكفر في بيت مؤمن‏.‏ وعن امرأة فرعون كمثل للإيمان في بيت كافر، وكذلك عن مريم ابنة عمران التي تطهرت فتلقت النفخة من روح الله وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين‏.‏‏.‏

‏{‏يا أيها النبي لم تحرم مآ أحل الله لك، تبتغي مرضاة أزواجك، والله غفور رحيم‏.‏ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم‏}‏‏.‏

‏{‏وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرَّف بعضه وأعرض عن بعض، فلما نبأها به قالت‏:‏ من أنبأك هذا‏؟‏ قال‏:‏ نبأني العليم الخبير‏}‏‏.‏

‏{‏إن تتوبآ إلى الله فقد صغت قلوبكما، وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير‏.‏ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً‏}‏‏.‏‏.‏

وردت في سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة منها ما رواه البخاري عند هذه الآية قال‏:‏ حدثنا إبراهيم ابن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت‏:‏ «كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يشرب عسلاً عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها‏.‏ فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له‏:‏ أكلت مغافير‏.‏ إني أجد منك ريح مغافير‏.‏ قال‏:‏ لا‏.‏ ولكني كنت أشرب عسلاً عند زينب بنت جحش فلن أعود له‏.‏ وقد حلفت‏.‏ لا تخبري بذلك أحداً»‏.‏ فهذا هو ما حرمه على نفسه وهو حلال له‏:‏ ‏{‏لم تحرم ما أحل الله لك‏؟‏‏}‏‏.‏

ويبدو أن التي حدثها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث وأمرها بستره قالت لزميلتها المتآمرة معها‏.‏ فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على الأمر‏.‏ فعاد عليها في هذا وذكر لها بعض ما دار بينها وبين زميلتها دون استقصاء لجميعه‏.‏ تمشياً مع أدبه الكريم‏.‏ فقد لمس الموضوع لمساً مختصراً لتعرف أنه يعرف وكفى‏.‏ فدهشت هي وسألته‏:‏ ‏{‏من أنبأك هذا‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ ولعله دار في خلدها أن الأخرى هي التي نبأته‏!‏ ولكنه أجابها‏:‏ ‏{‏نبأني العليم الخبير‏}‏‏.‏‏.‏ فالخبر من المصدر الذي يعلمه كله‏.‏ ومضمون هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم كل ما دار، لا الطرف الذي حدثها به وحده‏!‏

وقد كان من جراء هذا الحادث، وما كشف عنه من تآمر ومكايدات في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم أن غضب‏.‏

فآلى من نسائه لا يقربهن شهراً، وهم بتطليقهن على ما تسامع المسلمون ثم نزلت هذه الآيات‏.‏ وقد هدأ غضبه صلى الله عليه وسلم فعاد إلى نسائه بعد تفصيل سنذكره بعد عرض رواية أخرى للحادث‏.‏

وهذه الرواية الأخرى أخرجها النسائي من حديث أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها‏.‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك؛ تبتغي مرضاة أزواجك‏}‏‏.‏‏.‏

وفي رواية لابن جرير ولابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم وطئ مارية أم ولده إبراهيم في بيت حفصه‏.‏ فغضبت وعدتها إهانة لها‏.‏ فوعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم مارية وحلف بهذا‏.‏ وكلفها كتمان الأمر‏.‏ فأخبرت به عائشة‏.‏‏.‏ فهذا هو الحديث الذي جاء ذكره في السورة‏.‏

وكلا الروايتين يمكن أن يكون هو الذي وقع‏.‏ وربما كانت هذه الثانية أقرب إلى جو النصوص وإلى ما أعقب الحادث من غضب كاد يؤدي إلى طلاق زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم نظراً لدقة الموضوع وشدة حساسيته‏.‏ ولكن الرواية الأولى أقوى إسناداً‏.‏ وهي في الوقت ذاته ممكنة الوقوع، ويمكن أن تحدث الآثار التي ترتبت عليها‏.‏ إذا نظرنا إلى المستوى الذي يسود بيوت النبي، مما يمكن أن تعد فيه الحادثة بهذا الوصف شيئاً كبيراً‏.‏‏.‏ والله أعلم أي ذلك كان‏.‏

أما وقع هذا الحادث حادث إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه، فيصوره الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو يرسم كذلك جانباً من صورة المجتمع الإسلامي يومذاك‏.‏‏.‏ قال‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله ابن عبد الله بن أبي ثور، عن ابن عباس قال‏:‏ «لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما‏}‏ حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة، فتبّرز،» ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما‏}‏‏؟‏ فقال عمر‏:‏ واعجباً لك يا ابن عباس‏!‏ «قال الزهري‏:‏» كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه‏)‏ قال‏:‏ هي عائشة وحفصة‏.‏ قال‏:‏ ثم أخذ يسوق الحديث، قال‏:‏ كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم‏.‏ قال‏:‏ وكان منزلي في دار أمية بن زيد بالعوالي‏.‏ قال‏:‏ فغضبت يوماً على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني‏.‏ فقالت‏:‏ ما تنكر أن أراجعك‏؟‏ فوالله إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل‏!‏ قال‏:‏ فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت‏:‏ أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالت‏:‏ نعم‏!‏ قلت‏:‏ وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل‏؟‏ قالت‏:‏ نعم‏!‏ قلت‏:‏ قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر‏!‏ أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت‏؟‏ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئاً وسليني من مالي ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم أي أجمل وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منك يريد عائشة قال‏:‏ وكان لي جار من الأنصار وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوماً وأنزل يوماً، فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك‏.‏ قال‏:‏ وكنا نتحدث أن غسان تنحل الخيل لتغزونا‏.‏ فنزل صاحبي يوماً ثم أتى عشاء فضرب بابي ثم نادى، فخرجت إليه، فقال‏:‏ حدث أمر عظيم‏.‏ فقلت‏:‏ وما ذاك‏؟‏ أجاءت غسان‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ بل أعظم من ذلك وأطول‏!‏ طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه‏!‏ فقلت‏:‏ قد خابت حفصة وخسرت‏!‏ قد كنت أظن هذا كائناً‏.‏ حتى إذا صليت الصبح شددت على ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي‏.‏ فقلت‏:‏ أطلقكن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم‏؟‏ فقالت‏:‏ لا أدري‏.‏ هو هذا معتزل في هذه المشربة‏.‏ فأتيت غلاماً أسود فقلت‏:‏ استأذن لعمر‏.‏ فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال‏:‏ ذكرتك له فصمت‏!‏ فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم‏.‏ فجلست عنده قليلاً، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت‏:‏ استأذن لعمر‏.‏ فدخل ثم خرج إليّ فقال‏:‏ ذكرتك له فصمت‏!‏ فخرجت فجلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت‏:‏ استأذن لعمر‏.‏ فدخل ثم خرج إليّ فقال‏:‏ ذكرتك له فصمت‏!‏ فوليت مدبراً فإذا الغلام يدعوني‏.‏ فقال‏:‏ ادخل قد أذن لك‏.‏ فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه‏.‏ فقلت‏:‏ أطلقت يا رسول الله نساءك‏؟‏ فرفع رأسه إليّ وقال‏:‏ «لا»‏.‏ فقلت‏:‏ الله أكبر‏!‏ ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يوماً، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت‏:‏ ما تنكر أن أراجعك‏؟‏ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل‏.‏ فقلت‏:‏ قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر‏!‏ أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله؛ فإذا هي قد هلكت‏؟‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت‏:‏ لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك‏!‏ فتبسم أخرى‏.‏ فقلت‏:‏ أستأنس يا رسول الله‏!‏ قال‏:‏ «نعم» فجلست، فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت في البيت شيئاً يرد البصر إلا هيبة مقامه فقلت‏:‏ ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله‏.‏ فاستوى جالساً وقال‏:‏ «أفي شك أنت يا بن الخطاب‏؟‏ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا» فقلت‏:‏ «استغفر لي يا رسول الله‏.‏‏.‏ وكان أقسم ألا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل»

‏.‏ ‏(‏وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الزهري بهذا النص‏)‏‏.‏‏.‏

هذه رواية الحادث في السير‏.‏ فلننظر في السياق القرآني الجميل‏:‏

تبدأ السورة بهذا العتاب من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏{‏يا أيها النبي لم تحرم مآ أحل الله لك، تبتغي مرضاة أزواجك، والله غفور رحيم‏؟‏ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم، والله مولاكم، وهو العليم الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏

وهو عتاب مؤثر موح‏.‏ فما يجوز أن يحرم المؤمن على نفسه ما أحله الله له من متاع‏.‏ والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن حرم العسل أو مارية بمعنى التحريم الشرعي؛ إنما كان قد قرر حرمان نفسه‏.‏ فجاء هذا العتاب يوحي بأن ما جعله الله حلالاً فلا يجوز حرمان النفس منه عمداً وقصداً إرضاء لأحد‏.‏‏.‏ والتعقيب‏.‏‏.‏ ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏ يوحي بأن هذا الحرمان من شأنه أن يستوجب المؤاخذة، وأن تتداركه مغفرة الله ورحمته‏.‏ وهو إيحاء لطيف‏.‏

فأما اليمين التي يوحي النص بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حلفها، فقد فرض الله تحلتها‏.‏ أي كفارتها التي يحل منها‏.‏ ما دامت في غير معروف والعدول عنها أولى‏.‏ ‏{‏والله مولاكم‏}‏‏.‏‏.‏ فهو يعينكم على ضعفكم وعلى ما يشق عليكم‏.‏ ومن ثم فرض تحلة الأيمان، للخروج من العنت والمشقة‏.‏‏.‏ ‏{‏وهو العليم الحكيم‏}‏‏.‏ يشرع لكم عن علم وعن حكمة، ويأمركم بما يناسب طاقتكم وما يصلح لكم‏.‏ فلا تحرموا إلا ما حرم، ولا تحلوا غير ما أحل‏.‏

وهو تعقيب يناسب ما قبله من توجيه‏.‏

ثم يشير إلى الحديث ولا يذكر موضوعه ولا تفصيله، لأن موضوعه ليس هو المهم، وليس هو العنصر الباقي فيه‏.‏ إنما العنصر الباقي هو دلالته وآثاره‏:‏

‏{‏وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً‏}‏‏.‏‏.‏

ومن النص نطلع على نموذج من تلك الفترة العجيبة في تاريخ البشرية‏.‏ الفترة التي يعيش فيها الناس مع السماء‏.‏ والسماء تتدخل في أمرهم علانية وتفصيلاً‏.‏ ونعلم أن الله قد أطلع نبيه على ما دار بين زوجيه بشأن ذلك الحديث الذي أسره إلى بعض أزواجه‏.‏ وأنه صلى الله عليه وسلم حين راجعها فيه اكتفى بالإشارة إلى جانب منه‏.‏ ترفعاً عن السرد الطويل، وتجملاً عن الإطالة في التفصيل؛ وأنه أنبأها بمصدر علمه وهو المصدر الأصيل‏:‏

‏{‏فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض، فلما نبأها به قالت‏:‏ من أنبأك هذا‏؟‏ قال‏:‏ نبأني العليم الخبير‏}‏‏.‏‏.‏

والإشارة إلى العلم والخبرة هنا إشارة مؤثرة في حالة التآمر والمكايدات المحبوكة وراء الأستار‏!‏ ترد السائلة إلى هذه الحقيقة التي ربما نسيتها أو غفلت عنها، وترد القلوب بصفة عامة إلى هذه الحقيقة كلما قرأت هذا القرآن‏.‏

ويتغير السياق من الحكاية عن حادث وقع إلى مواجهة وخطاب للمرأتين كأن الأمر حاضر‏:‏

‏{‏إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما‏.‏ وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير‏}‏‏.‏‏.‏

وحين نتجاوز صدر الخطاب، ودعوتهما إلى التوبة لتعود قلوبهما فتميل إلى الله، فقد بعدت عنه بما كان منها‏.‏‏.‏ حين نتجاوز هذه الدعوة إلى التوبة نجد حملة ضخمة هائلة وتهديداً رعيباً مخيفاً‏.‏

ومن هذه الحملة الضخمة الهائلة ندرك عمق الحادث وأثره في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احتاج الأمر إلى إعلان موالاة الله وجبريل وصالح المؤمنين‏.‏ والملائكة بعد ذلك ظهيرا‏!‏ ليطيب خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم ويحس بالطمأنينة والراحة من ذلك الأمر الخطير‏!‏

ولا بد أن الموقف في حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي محيطه كان من الضخامة والعمق والتأثير إلى الحد الذي يتناسب مع هذه الحملة‏.‏ ولعلنا ندرك حقيقته من هذا النص ومما جاء في الرواية على لسان الأنصاري صاحب عمر رضي الله عنهما وهو يسألة‏:‏ جاءت غسان‏؟‏ فيقول لا بل أعظم من ذلك وأطول‏.‏ وغسان هي الدولة العربية الموالية للروم في الشام على حافة الجزيرة، وهجومها إذ ذاك أمر خطير‏.‏ ولكن الأمر الآخر في نفوس المسلمين كان أعظم وأطول‏!‏ فقد كانوا يرون أن استقرار هذا القلب الكبير، وسلام هذا البيت الكريم أكبر من كل شأن‏.‏

وأن اضطرابه وقلقه أخطر على الجماعة المسلمة من هجوم غسان عملاء الروم‏!‏ وهو تقدير يوحي بشتى الدلالات على نظرة أولئك الناس للأمور‏.‏ وهو تقدير يلتقي بتقدير السماء للأمر، فهو إذن صحيح قويم عميق‏.‏

وكذلك دلالة الآية التالية، وتفصيل صفات النساء اللواتي يمكن أن يبدل الله النبي بهن من أزواجه ولو طلقهن‏.‏ مع توجيه الخطاب للجميع في معرض التهديد‏:‏

‏{‏عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات، مؤمنات، قانتات، تائبات، عابدات، سائحات، ثيبات وأبكاراً‏}‏‏.‏‏.‏

وهي الصفات التي يدعوهن إليها عن طريق الإيحاء والتلميح‏.‏

الإسلام الذي تدل عليه الطاعة والقيام بأوامر الدين‏.‏ والإيمان الذي يعمر القلب، وعنه ينبثق الإسلام حين يصح ويتكامل‏.‏ والقنوت وهو الطاعة القلبية‏.‏ والتوبة وهي الندم على ما وقع من معصية والاتجاه إلى الطاعة‏.‏ والعبادة وهي أداة الاتصال بالله والتعبير عن العبودية له‏.‏ والسياحة وهي التأمل والتدبر والتفكر في إبداع الله والسياحة بالقلب في ملكوته‏.‏ وهن مع هذه الصفات من الثيبات ومن الأبكار‏.‏ كما أن نساءه الحاضرات كان فيهن الثيب وفيهن البكر‏.‏

وهو تهديد لهن لا بد كان له ما يقتضيه من تأثير مكايداتهن في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان ليغضب من قليل‏!‏

وقد رضيت نفس النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآيات‏.‏ وخطاب ربه له ولأهل بيته‏.‏ واطمأن هذا البيت الكريم بعد هذه الزلزلة، وعاد إليه هدوؤه بتوجيه الله سبحانه‏.‏ وهو تكريم لهذا البيت ورعاية تناسب دوره في إنشاء منهج الله في الأرض وتثبيت أركانه‏.‏

وبعد فهذه صورة من الحياة البيتية لهذا الرجل الذي كان ينهض بإنشاء أمة، وإقامة دولة، على غير مثال معروف، وعلى غير نسق مسبوق‏.‏ أمة تنهض بحمل أمانة العقيدة الإلهية في صورتها الأخيرة، وتنشئ في الأرض مجتمعاً ربانياً، في صورة واقعية يتأسى بها الناس‏.‏

وهي صورة من حياة إنسان كريم رفيع جليل عظيم‏.‏ يزاول إنسانيته في الوقت الذي يزاول فيه نبوته‏.‏ فلا تفترق هذه عن تلك؛ لأن القدر جرى بأن يكون بشراً رسولاً، حينما جرى بأن يحمله الرسالة الأخيرة للبشر أو منهج الحياة الأخير‏.‏

إنها الرسالة الكاملة يحملها الرسول الكامل‏.‏ ومن كمالها أن يظل الإنسان بها إنساناً‏.‏ فلا تكبت طاقة من طاقاته البانية‏.‏ ولا تعطل استعداداً من استعداداته النافعة؛ وفي الوقت ذاته تهذبه وتربيه، وترتفع به إلى غاية مراقيه‏.‏

وكذلك فعل الإسلام بمن فقهوه وتكيفوا به، حتى استحالوا نسخاً حية منه‏.‏ وكانت سيرة نبيهم وحياته الواقعية، بكل ما فيها من تجارب الإنسان، ومحاولات الإنسان، وضعف الإنسان، وقوة الإنسان، مختلطة بحقيقة الدعوة السماوية، مرتقية بها خطوة خطوة كما يبدو في سيرة أهله وأقرب الناس إليه كانت هي النموذج العملي للمحاولة الناجحة، يراها ويتأثر بها من يريد القدوة الميسرة العملية الواقعية، التي لا تعيش في هالات ولا في خيالات‏!‏

وتحققت حكمة القدر في تنزيل الرسالة الأخيرة للبشر بصورتها الكاملة الشاملة المتكاملة‏.‏

وفي اختيار الرسول الذي يطيق تلقيها وترجمتها في صورة حية‏.‏ وفي جعل حياة هذا الرسول كتاباً مفتوحاً يقرؤه الجميع‏.‏ وتراجعه الأجيال بعد الأجيال‏.‏‏.‏

وفي ظلال هذا الحادث الذي كان وقعه عميقاً في نفوس المسلمين، يهيب القرآن بالذين آمنوا ليؤدوا واجبهم في بيوتهم من التربية والتوجيه والتذكير، فيقوا أنفسهم وأهليهم من النار‏.‏ ويرسم لهم مشهداً من مشاهدها‏.‏ وحال الكفار عندها‏.‏ وفي ظلال الدعوة إلى التوبة التي وردت في سياق الحادث يدعو الذين آمنوا إلى التوبة، ويصور لهم الجنة التي تنتظر التائبين‏.‏ ثم يدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الكفار والمنافقين‏.‏‏.‏ وهذا هو المقطع الثاني في السورة‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً، وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله مآ أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون‏.‏ يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم، إنما تجزون ما كنتم تعملون‏.‏ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه، نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، يقولون‏:‏ ربنآ أتمم لنا نورنا، واغفر لنآ إنك على كل شيء قدير‏.‏ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم، ومأواهم جهنم وبئس المصير‏}‏‏.‏‏.‏

إن تبعة المؤمن في نفسه وفي أهله تبعة ثقيلة رهيبة‏.‏ فالنار هناك وهو متعرض لها هو وأهله، وعليه أن يحول دون نفسه وأهله ودون هذه النار التي تنتظر هناك‏.‏ إنها نار‏.‏ فظيعة متسعرة‏:‏ ‏{‏وقودها الناس والحجارة‏}‏‏.‏‏.‏ الناس فيها كالحجارة سواء‏.‏ في مهانة الحجارة‏.‏ وفي رخص الحجارة، وفي قذف الحجارة‏.‏ دون اعتبار ولا عناية‏.‏ وما أفظعها ناراً هذه التي توقد بالحجارة‏!‏ وما أشده عذاباً هذا الذي يجمع إلى شدة اللذع المهانة والحقارة‏!‏ وكل ما بها وما يلابسها فظيع رهيب‏:‏ ‏{‏عليها ملائكة غلاظ شداد‏}‏‏.‏ تتناسب طبيعتهم مع طبيعة العذاب الذي هم به موكلون‏.‏‏.‏ ‏{‏لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‏}‏‏.‏‏.‏ فمن خصائصهم طاعة الله فيما يأمرهم، ومن خصائصهم كذلك القدرة على النهوض بما يأمرهم‏.‏‏.‏ وهم بغلظتهم هذه وشدتهم موكلون بهذه النار الشديدة الغليظة‏.‏ وعلى المؤمن أن يقي نفسه وأن يقي أهله من هذه النار‏.‏ وعليه أن يحول بينها وبينهم قبل أن تضيع الفرصة ولا ينفع الاعتذار‏.‏ فها هم أولاء الذين كفروا يعتذرون وهم عليها وقوف، فلا يؤبه لاعتذارهم، بل يجبهون بالتيئيس‏:‏

‏{‏يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم‏.‏

إنما تجزون ما كنتم تعملون‏}‏‏.‏‏.‏

لا تعتذروا فليس اليوم يوم اعتذار، إنما هو يوم الجزاء على ما كان من عمل‏.‏ وقد عملتم ما تجزون عليه بهذه النار‏!‏

فكيف يقي المؤمنون أنفسهم وأهليهم من هذه النار‏؟‏ إنه يبين لهم الطريق، ويطمعهم بالرجاء‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً، عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار‏.‏ يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه، نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، يقولون‏:‏ ربنآ أتمم لنا نورنا، واغفر لنآ إنك على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏

هذا هو الطريق‏.‏‏.‏ توبة نصوح‏.‏‏.‏ توبة تنصح القلب وتخلصه، ثم لا تغشه ولا تخدعه‏.‏

توبه عن الذنب والمعصية، تبدأ بالندم على ما كان، وتنتهي بالعمل الصالح والطاعة، فهي عندئد تنصح القلب فتخلصه من رواسب المعاصي وعكارها؛ وتحضه على العمل الصالح بعدها‏.‏ فهذه هي التوبة النصوح‏.‏ التوبة التي تظل تذكر القلب بعدها وتنصحه فلا يعود إلى الذنوب‏.‏

فإذا كانت هذه التوبة فهي مرجوة إذن في أن يكفر الله بها السيئات‏.‏ وأن يدخلهم الجنات‏.‏ في اليوم الذي يخزي فيه الكفار كما هم في المشهد الذي سبق في السياق‏.‏ ولا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه‏.‏

وإنه لإغراء مطمع، وتكريم عظيم، أن يضم الله المؤمنين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجعلهم معه صفاً يتلقى الكرامة في يوم الخزي‏.‏ ثم يجعل لهم نوراً ‏{‏يسعى بين أيديهم وبأيمانهم‏}‏‏.‏ نوراً يعرفون به في ذلك اليوم الهائل المائج العصيب الرهيب‏.‏ ونوراً يهتدون به في الزحام المريج‏.‏ ونوراً يسعى بين أيديهم وبأيمانهم إلى الجنة في نهاية المطاف‏!‏

وهم في رهبة الموقف وشدته يلهمون الدعاء الصالح بين يدي الله‏:‏ ‏{‏يقولون‏:‏ ربنا أتمم لنا نورنا، واغفر لنا، إنك على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏ وإلهامهم هذا الدعاء في هذا الموقف الذي يلجم الألسنة ويسقط القلوب، هو علامة الاستجابة‏.‏ فما يلهم الله المؤمنين هذا الدعاء إلا وقد جرى قدره بأنه سيستجيب‏.‏ فالدعاء هنا نعمة يمنّ بها الله عليهم تضاف إلى منة الله بالتكريم وبالنور‏.‏

فأين هذا من النار التي وقودها الناس والحجارة‏؟‏

إن هذا الثواب، كذلك العقاب، كلاهما يصور تبعة المؤمن في وقاية نفسه وأهله من النار، وإنالتهم هذا النعيم في جنات تجري من تحتها الأنهار‏.‏

وفي ظلال ذلك الحادث الذي كان في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ندرك الإيحاء المقصود هنا من وراء هذه النصوص‏.‏

إن المؤمن مكلف هداية أهله، وإصلاح بيته، كما هو مكلف هداية نفسه وإصلاح قلبه‏.‏

إن الإسلام دين أسرة كما أسلفنا في سورة الطلاق ومن ثم يقرر تبعة المؤمن في أسرته، وواجبه في بيته‏.‏

والبيت المسلم هو نواة الجماعة المسلمة، وهو الخلية التي يتألف منها ومن الخلايا الأخرى ذلك الجسم الحي‏.‏‏.‏ المجتمع الإسلامي‏.‏‏.‏

إن البيت الواحد قلعة من قلاع هذه العقيدة‏.‏ ولا بد أن تكون القلعة متماسكة من داخلها حصينة في ذاتها، كل فرد فيها يقف على ثغرة لا ينفذ إليها‏.‏ وإلا تكن كذلك سهل اقتحام المعسكر من داخل قلاعه، فلا يصعب على طارق، ولا يستعصي على مهاجم‏!‏

وواجب المؤمن أن يتجه بالدعوة أول ما يتجه إلى بيته وأهله‏.‏ واجبه أن يؤمن هذه القلعة من داخلها‏.‏ واجبه أن يسد الثغرات فيها قبل أن يذهب عنها بدعوته بعيداً‏.‏

ولا بد من الأم المسلمة‏.‏ فالأب المسلم وحده لا يكفي لتأمين القلعة‏.‏ لا بد من أب وأم ليقوما كذلك على الأبناء والبنات‏.‏ فعبثاً يحاول الرجل أن ينشئ المجتمع الإسلامي بمجموعة من الرجال‏.‏ لا بد من النساء في هذا المجتمع فهن الحارسات على النشء، وهو بذور المستقبل وثماره‏.‏

ومن ثم كان القرآن يتنزل للرجال وللنساء؛ وكان ينظم البيوت، ويقيمها على المنهج الإسلامي، وكان يحمل المؤمنين تبعة أهليهم كما يحملهم تبعة أنفسهم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً‏}‏‏.‏‏.‏

هذا أمر ينبغي أن يدركه الدعاة إلى الإسلام وأن يدركوه جيداً‏.‏ إن أول الجهد ينبغي أن يوجه إلى البيت‏.‏ إلى الزوجة‏.‏ إلى الأم‏.‏ ثم إلى الأولاد؛ وإلى الأهل بعامة‏.‏ ويجب الاهتمام البالغ بتكوين المسلمة لتنشئ البيت المسلم‏.‏ وينبغي لمن يريد بناء بيت مسلم أن يبحث له أولاً عن الزوجة المسلمة‏.‏ وإلا فسيتأخر طويلاً بناء الجماعة الإسلامية‏.‏ وسيظل البنيان متخاذلاً كثير الثغرات‏!‏

وفي الجماعة المسلمة الأولى كان الأمر أيسر مما هو في أيامنا هذه‏.‏‏.‏ كان قد أنشئ مجتمع مسلم في المدينة يهيمن عليه الإسلام‏.‏ يهيمن عليه بتصوره النظيف للحياة البشرية، ويهيمن عليه بتشريعه المنبثق من هذا التصور‏.‏ وكان المرجع فيه، مرجع الرجال والنساء جميعاً، إلى الله ورسوله‏.‏ وإلى حكم الله وحكم رسوله‏.‏ فإذا نزل الحكم فهو القضاء الأخير‏.‏‏.‏ وبحكم وجود هذا المجتمع وسيطرة تصوره وتقاليده على الحياة كان الأمر سهلاً بالنسبة للمرأة لكي تصوغ نفسها كما يريد الإسلام‏.‏ وكان الأمر سهلاً بالنسبة للأزواج كي ينصحوا نساءهم ويربوا أبناءهم على منهج الإسلام‏.‏‏.‏

نحن الآن في موقف متغير‏.‏ نحن نعيش في جاهلية‏.‏ جاهلية مجتمع‏.‏ وجاهلية تشريع‏.‏ وجاهلية أخلاق‏.‏ وجاهلية تقاليد‏.‏ وجاهلية نظم‏.‏ وجاهلية آداب‏.‏ وجاهلية ثقافة كذلك‏!‏‏!‏

والمرأة تتعامل مع هذا المجتمع الجاهلي، وتشعر بثقل وطأته الساحقة حين تهم أن تلبي الإسلام، سواء اهتدت إليه بنفسها، أو هداها إليه رجلها‏.‏ زوجها أو أخوها أو أبوها‏.‏‏.‏

هناك كان الرجل والمرأة والمجتمع‏.‏ كلهم‏.‏ يتحاكمون إلى تصور واحد، وحكم واحد، وطابع واحد‏.‏

فأما هنا فالرجل يتحاكم إلى تصور مجرد لا وجود له في دنيا الواقع‏.‏ والمرأة تنوء تحت ثقل المجتمع الذي يعادي ذلك التصور عداء الجاهلية الجامح‏!‏ وما من شك أن ضغط المجتمع وتقاليده على حس المرأة أضعاف ضغطه على حس الرجل‏!‏

وهنا يتضاعف واجب الرجل المؤمن، إن عليه أن يقي نفسه النار‏!‏ ثم عليه أن يقي أهله وهم تحت هذا الضغط الساحق والجذب العنيف‏!‏

فينبغي له أن يدرك ثقل هذا الواجب ليبذل له من الجهد المباشر أضعاف ما كان يبذله أخوه في الجماعة المسلمة الأولى‏.‏ ويتعين حينئذ على من يريد أن ينشئ بيتاً أن يبحث أولاً عن حارسة للقلعة، تستمد تصورها من مصدر تصوره هو‏.‏‏.‏ من الإسلام‏.‏‏.‏ وسيضحي في هذا بأشياء‏:‏ سيضحي بالالتماع الكاذب في المرأة‏.‏ سيضحي بخضراء الدمن‏!‏ سيضحي بالمظهر البراق للجيف الطافية على وجه المجتمع‏.‏ ليبحث عن ذات الدين، التي تعينه على بناء بيت مسلم، وعلى إنشاء قلعة مسلمة‏!‏ ويتعين على الآباء المؤمنين الذين يريدون البعث الإسلامي أن يعلموا أن الخلايا الحية لهذا البعث وديعة في أيديهم وأن عليهم أن يتوجهوا إليهن بالدعوة والتربية والإعداد قبل أي أحد آخر‏.‏ وأن يستجيبوا لله وهو يدعوهم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً‏}‏؛

ونرجع الكرة بهذه المناسبة إلى طبيعة الإسلام التي تقتضي قيام الجماعة المسلمة التي يهيمن عليها الإسلام، والتي يتحقق فيها وجوده الواقعي‏.‏ فهو مبني على أساس أن تكون هناك جماعة‏.‏ الإسلام عقيدتها، والإسلام نظامها، والإسلام شريعتها، والإسلام منهجها الكامل الذي تستقي منه كل تصوراتها‏.‏

هذه الجماعة هي المحضن الذي يحمي التصور الإسلامي ويحمله إلى النفوس، ويحميها من ضغط المجتمع الجاهلي، كما يحميها من فتنة الإيذاء سواء‏.‏

ومن ثم تتبين أهمية الجماعة المسلمة التي تعيش فيها الفتاة المسلمة والمرأة المسلمة، محتمية بها من ضغط المجتمع الجاهلي حولها‏.‏ فلا تتمزق مشاعرها بين مقتضيات تصورها الإسلامي وبين تقاليد المجتمع الجاهلي الضاغط الساحق‏.‏ ويجد فيها الفتى المسلم شريكة في العش المسلم، أو في القلعة المسلمة، التي يتألف منها ومن نظيراتها المعسكر الإسلامي‏.‏

إنها ضرورة- وليست نافلة- أن تقوم جماعة مسلمة، تتواصى بالإسلام، وتحتضن فكرته وأخلاقه وآدابه وتصوراته كلها، فتعيش بها فيما بينها، وتعيش لها تحرسها وتحميها وتدعو إليها، في صورة واقعية يراها من يدعون إليها من المجتمع الجاهلي الضال ليخرجوا من الظلمات إلى النور بإذن الله‏.‏ إلى أن يأذن الله بهيمنة الإسلام‏.‏ حتى تنشأ الأجيال في ظله، في حماية من الجاهلية الضاربة الأطناب‏.‏‏.‏

وفي سبيل حماية الجماعة المسلمة الأولى كان الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمجاهدة أعدائها‏:‏

‏{‏يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين، واغلظ عليهم، ومأواهم جهنم وبئس المصير‏}‏‏.‏

وهي لفتة لها معناها وقيمتها بعدما تقدم من أمر المؤمنين بوقاية أنفسهم وأهليهم من النار‏.‏ وبالتوبة النصوح التي تكفر عنهم السيئات وتدخلهم الجنة تجري من تحتها الأنهار‏.‏‏.‏

لها معناها وقيمتها في ضرورة حماية المحضن الذي تتم فيه الوقاية من النار‏.‏ فلا تترك هذه العناصر المفسدة الجائرة الظالمة، تهاجم المعسكر الإسلامي من خارجه كما كان الكفار يصنعون‏.‏ أو تهاجمه من داخله كما كان المنافقون يفعلون‏.‏

وتجمع الآية بين الكفار والمنافقين في الأمر بجهادهم والغلظة عليهم‏.‏ لأن كلا من الفريقين يؤدي دوراً مماثلاً في تهديد المعسكر الإسلامي، وتحطيمه أو تفتيته‏.‏ فجهادهم هو الجهاد الواقي من النار‏.‏ وجزاؤهم هو الغلظة عليهم من رسول الله والمؤمنين في الدنيا‏.‏

‏{‏ومأواهم جهنم وبئس المصير‏}‏ في الآخرة‏!‏

وهكذا تتناسق هذه الجولة فيما بين آياتها واتجاهاتها؛ كما تتناسق بجملتها مع الجولة الأولى مع السياق‏.‏‏.‏

ثم تجيء الجولة الثالثة والأخيرة‏.‏ وكأنها التكملة المباشرة للجولة الأولى، إذ تتحدث عن نساء كافرات في بيوت أنبياء‏.‏ ونساء مؤمنات في وسط كفار‏:‏

‏{‏ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين، فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً، وقيل‏:‏ ادخلا النار مع الداخلين‏.‏‏.‏ وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون، إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة، ونجني من فرعون وعمله، ونجني من القوم الظالمين‏.‏ ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا، وصدقت بكلمات ربها وكتبه‏.‏ وكانت من القانتين‏}‏‏.‏‏.‏

والمأثور في تفسير خيانة امرأة نوح وامرأة لوط، أنها كانت خيانة في الدعوة، وليست خيانة الفاحشة‏.‏ امرأة نوح كانت تسخر منه مع الساخرين من قومه؛ وإمرأة لوط كانت تدل القوم على ضيوفه وهي تعلم شأنهم مع ضيوفه‏!‏

والمأثور كذلك عن امرأة فرعون أنها كانت مؤمنة في قصره ولعلها كانت أسيوية من بقايا المؤمنين بدين سماوي قبل موسى‏.‏ وقد ورد في التاريخ أن أم «أمنحوتب الرابع» الذي وحد الآلهة في مصر ورمز للإله الواحد بقرص الشمس، وسمى نفسه «إخناتون»‏.‏‏.‏ كانت أسيوية على دين غير دين المصريين‏.‏‏.‏ والله أعلم إن كانت هي المقصودة في هذه السورة أم إنها امرأة فرعون موسى‏.‏‏.‏ وهو غير «أمنحوتب» هذا‏.‏‏.‏

ولا يعنينا هنا التحقيق التاريخي لشخص امرأة فرعون‏.‏‏.‏ فالإشارة القرآنية تعني حقيقة دائمة مستقلة عن الأشخاص‏.‏ والأشخاص مجرد أمثلة لهذه الحقيقة‏.‏‏.‏

إن مبدأ التبعة الفردية يراد إبرازه هنا، بعد الأمر بوقاية النفس والأهل من النار‏.‏ كما يراد أن يقال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأزواج المؤمنين كذلك‏:‏ إن عليهن أنفسهن بعد كل شيء‏.‏