فصل: سورة القلم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


سورة القلم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 52‏]‏

‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ‏(‏1‏)‏ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ‏(‏2‏)‏ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ‏(‏3‏)‏ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ‏(‏4‏)‏ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ‏(‏5‏)‏ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏7‏)‏ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ‏(‏10‏)‏ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ‏(‏11‏)‏ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ‏(‏13‏)‏ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏14‏)‏ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏15‏)‏ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ‏(‏17‏)‏ وَلَا يَسْتَثْنُونَ ‏(‏18‏)‏ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏19‏)‏ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ‏(‏20‏)‏ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ‏(‏21‏)‏ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ‏(‏22‏)‏ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ‏(‏23‏)‏ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ‏(‏24‏)‏ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ‏(‏25‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ‏(‏26‏)‏ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ‏(‏30‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ‏(‏31‏)‏ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ‏(‏32‏)‏ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏34‏)‏ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ‏(‏35‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏36‏)‏ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ‏(‏37‏)‏ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ‏(‏38‏)‏ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ‏(‏39‏)‏ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ‏(‏40‏)‏ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏41‏)‏ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏42‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ‏(‏43‏)‏ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏44‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏45‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏46‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏47‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ‏(‏48‏)‏ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ‏(‏49‏)‏ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏50‏)‏ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ‏(‏51‏)‏ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة سواء مطلعها أو جملتها‏.‏ كما أنه لا يمكن الجزم بأن مطلعها قد نزل أولاً، وأن سائرها نزل أخيراً ولا حتى ترجيح هذا الاحتمال‏.‏ لأن مطلع السورة وختامها يتحدثان عن أمر واحد، وهو تطاول الذين كفروا على شخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم وقولهم‏:‏ إنه مجنون‏!‏

والروايات التي تقول‏:‏ إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة، ومن المتفق عليه في ترتيب المصاحف المختلفة أنها هي السورة الثانية؛ ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها يجعلنا نرجح غير هذا‏.‏ حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها، فتقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك القولة الفاجرة؛ وأخذ القرآن يردها وينفيها، ويهدد المناهضين للدعوة، ذلك التهديد الوارد في السورة‏.‏

واحتمال أن مطلع السورة نزل مبكراً وحده بعد مطلع سورة العلق‏.‏ وأن الجنون المنفي فيه‏:‏ ‏{‏ما أنت بنعمة ربك بمجنون‏}‏‏.‏‏.‏ جاء بمناسبة ما كان يتخوفه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه في أول الوحي، من أن يكون ذلك جنوناً أصابه‏.‏‏.‏ هذا الاحتمال ضعيف‏.‏ لأن هذا التخوف ذاته على هذا النحو ليست فيه رواية محققه، ولأن سياق السورة المتماسك يدل على أن هذا النفي ينصب على ما جاء في آخرها من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون‏:‏ إنه لمجنون‏}‏‏.‏‏.‏ فهذا هو الأمر الذي افتتح السورة بنفيه، كما يتبادر إلى الذهن عند قراءة السورة المتماسكة الحلقات‏.‏

كذلك ذكرت بعض الروايات أن في السورة آيات مدنية من الآية السابعة عشرة إلى نهاية الآية الثالثة والثلاثين‏.‏ وهي الآيات التي ذكرت قصة أصحاب الجنة وابتلاءهم، والآيات من الثانية والأربعين إلى نهاية الخمسين وهي التي تشير إلى قصة صاحب الحوت‏.‏‏.‏ ونحن نستبعد هذا كذلك‏.‏ ونعتقد أن السورة كلها مكية‏.‏ لأن طابع هذه الآيات عميق في مكيته‏.‏ وهو أنسب شيء لأن يجيء في سياق السورة عند نزولها متسقاً مع الموضوع ومع الحالة التي تعالجها‏.‏

والذي نرجحه بشأن السورة كلها أنها ليست الثانية في ترتيب النزول؛ وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية بعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة العامة‏.‏ وبعد قول الله تعالى له‏:‏ ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏ وبعد نزول طائفة من القرآن فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم، التي قال عنها قائلهم‏:‏ ‏{‏أساطير الأولين‏}‏‏.‏‏.‏ وبعدما أصبحت قريش مدعوة إلى الإسلام كافة، وأصبحت تدفع هذه الدعوة بالاتهامات الباطلة والحرب العنيفة التي اقتضت تلك الحملة العنيفة الواردة في السورة على المكذبين، والتهديد القاصم في أولها وفي آخرها على السواء‏.‏

‏.‏ والمشهد الأخير في السورة يوحي بهذا كذلك‏:‏ ‏{‏وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون‏:‏ إنه لمجنون‏}‏‏.‏‏.‏ فهو مشهد دعوة عامة لمجموعة كبيرة‏.‏ ولم يكن الأمر كذلك في أول الدعوة‏.‏ إنما كانت الدعوة توجه إلى أفراد‏.‏ بوسيلة فردية‏.‏ ولا تلقى إلى الذين كفروا وهم متجمعون‏.‏ ولم يقع شيء من هذا كما تقول الروايات الراجحة إلا بعد ثلاث سنوات من بدء الدعوة‏.‏

والسورة تشير إلى شيء من عروض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم للالتقاء في منتصف الطريق، والتهادن على تراض في القضية التي يختلفون عليها وهي قضية العقيدة‏:‏ ‏{‏ودوا لو تدهن فيدهنون‏}‏‏.‏‏.‏ وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية، ولا خطر منها‏.‏ إنما تكون بعد ظهورها، وشعور المشركين بخطرها‏.‏

وهكذا تتضافر الشواهد على أن هذه السورة نزلت متأخرة عن أيام الدعوة الأولى‏.‏ وأن هناك ثلاث سنوات على الأقل قابلة للزيادة بين بدء الدعوة وبين وقت نزولها‏.‏ ولا يعقل أن ثلاث سنوات مرت لم يتنزل فيها قرآن‏.‏ والطبيعي أن تكون هناك سور كثيرة، وأجزاء من سور قد نزلت في هذه الفترة، تتحدث عن ذات العقيدة بدون مهاجمة عنيفة للمكذبين بها كالوارد في هذه السورة منذ مطلعها‏.‏

ولكن هذا لا ينفي أن تكون هذه السورة وسورتا المدثر والمزمل قد نزلت في الفترة الأولى من الدعوة‏.‏ وإن لم يكن ذلك أول ما نزل كما هو وارد في المصاحف، للأسباب التي أوردناها هنا‏.‏ وهي تكاد تنطبق كذلك على سورتي المزمل والمدثر‏.‏

لقد كانت هذه الغرسة غرسة العقيدة الإسلامية تودع في الأرض لأول مرة في صورتها الرفيعة المجردة الناصعة‏.‏ وكانت غريبة على حس الجاهلية السائدة، لا في الجزيرة العربية وحدها بل كذلك في أنحاء الأرض جميعاً‏.‏

وكانت النقلة عظيمة بين الصورة الباهتة المحرفة المشوهة من ملة إبراهيم التي يستمسك بخيوط حائلة منها مشركو قريش، ويلصقون بها الترهات والأساطير والأباطيل السائدة عندهم، وبين الصورة الباهرة العظيمة المستقيمة الواضحة البسيطة الشاملة المحيطة التي جاءهم بها محمد صلى الله عليه وسلم متفقة في أصولها مع الحنيفية الأولى دين إبراهيم عليه السلام وبالغة نهاية الكمال الذي يناسب كونها الرسالة الأخيرة للأرض، الباقية لتخاطب الرشد العقلي في البشرية إلى آخر الزمان‏.‏

وكانت النقلة عظيمة بين الشرك بالله وتعدد الأرباب، وعبادة الملائكة وتماثيلها، والتعبد للجن وأرواحها، وسائر هذه التصورات المضطربة المفككة التي تتألف منها العقيدة الجاهلية‏.‏‏.‏ وبين الصورة الباهرة التي يرسمها القرآن للذات الإلهية الواحدة وعظمتها وقدرتها، وتعلق إرادتها بكل مخلوق‏.‏

كذلك كانت النقلة عظيمة بين الطبقية السائدة في الجزيرة، والكهانة السائدة في ديانتها، واختصاص طبقات بالذات بالسيادة والشرف وسدانة الكعبة والقيام بينها وبين العرب الآخرين‏.‏‏.‏ وبين البساطة والمساواة أمام الله والاتصال المباشر بينه وبين عباده كما جاء بها القرآن‏.‏

ومثلها كانت النقلة بين الأخلاق السائدة في الجاهلية والأخلاق التي جاء القرآن يبشر بها، وجاء محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إليها ويمثلها‏.‏

وكانت هذه النقلة وحدها كافية للتصادم بين العقيدة الجديدة وبين قريش ومعتقداتها وأخلاقها‏.‏ ولكن هذه لم تكن وحدها‏.‏ فقد كان إلى جانبها اعتبارات ربما كانت أضخم في تقدير قريش من العقيدة ذاتها على ضخامتها‏.‏

كانت هناك الاعتبارات الاجتماعية التي دعت بعضهم أن يقول كما حكى عنهم القرآن الكريم‏:‏ ‏{‏لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ والقريتان هما مكة والطائف‏.‏ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرف نسبه، وأنه في الذؤابة من قريش، لم تكن له مشيخه فيهم ولا رياسة قبل البعثة‏.‏ بينما كان هناك مشيخة قريش ومشيخة ثقيف وغيرهما، في بيئة تجعل للمشيخة والرياسة القبلية كل الاعتبار‏.‏ فلم يكن من السهل الانقياد خلف محمد صلى الله عليه وسلم من هؤلاء المشيخة‏!‏

وكانت هناك الاعتبارات العائلية التي تجعل رجلاً كأبي جهل ‏(‏عمرو بن هشام‏)‏ يأبى أن يسلم بالحق الذي يواجهه بقوة في الرسالة الإسلامية، لأن نبيها من بني عبد مناف‏.‏‏.‏ وذلك كما ورد في قصته مع الأخنس بن شريق وأبي سفيان بن حرب، حين خرجوا ثلاث ليال يستمعون القرآن خفية، وهم في كل ليلة يتواعدون على عدم العودة خيفة أن يراهم الناس فيقع في نفوسهم شيء‏.‏ فلما سأل الأخنس بن شريق أبا جهل رأيه فيما سمع من محمد كان جوابه‏:‏ «ماذا سمعت‏؟‏ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف‏:‏ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا‏.‏ حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا‏:‏ منا نبي يأتيه الوحي من السماء‏.‏ فمتى ندرك مثل هذه‏؟‏ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه‏!‏»‏.‏

وكانت هناك اعتبارات أخرى نفعية وطبقية ونفسية من ركام الجاهلية في المشاعر والتصورات والأوضاع كلها تحاول قتل تلك الغرسة الجديدة في مغرسها بكل وسيلة قبل أن تثبت جذورها وتتعمق، وقبل أن تمتد فروعها وتتشابك‏.‏ وبخاصة بعد أن تجاوزت دور الدعوة الفردية؛ وأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجهر بالدعوة؛ وأخذت معالم الدعوة الجديدة تبرز، كما أخذ القرآن يتنزل بتسفيه عقيدة الشرك وما وراءها من الآلهة المدعاة والتصورات المنحرفة والتقاليد الباطلة‏.‏

والرسول صلى الله عليه وسلم ولو أنه نبي، ولو أنه يتلقى من ربه الوحي، ولو أنه يتصل بالملأ الأعلى‏.‏

‏.‏ هو بشر، تخالجه مشاعر البشر‏.‏ وكان يتلقى هذه المقاومة العنيفة، وتلك الحرب التي شنها عليه المشركون، ويعاني وقعها العنيف الأليم، هو والحفنة القليلة التي آمنت به على كره من المشركين‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم يسمع والمؤمنون به يسمعون، ما كان يتقوله عليه المشركون، ويتطاولون به على شخصه الكريم، ‏{‏ويقولون‏:‏ إنه لمجنون‏}‏‏.‏‏.‏ ولم تكن هذه إلا واحدة من السخريات الكثيرة، التي حكاها القرآن في السور الأخرى؛ والتي كانت توجه إلى شخصه صلى الله عليه وسلم وإلى الذين آمنوا معه‏.‏ وغير الأذى كان يصيب الكثيرين منهم على أيدي أقربائهم الأقربين‏!‏

والسخرية والاستهزاء مع الضعف والقلة مؤذيان أشد الإيذاء للنفس البشرية، ولو كانت هي نفس رسول‏.‏

ومن ثم نرى في السور المكية كسور هذا الجزء أن الله كأنما يحتضن سبحانه رسوله والحفنة المؤمنة معه، ويواسيه ويسري عنه، ويثني عليه وعلى المؤمنين‏.‏ ويبرز العنصر الأخلاقي الذي يتمثل في هذه الدعوة وفي نبيها الكريم‏.‏ وينفي ما يقوله المتقولون عنه، ويطمئن قلوب المستضعفين بأنه هو يتولى عنهم أعدائهم، ويعفيهم من التفكير في أمر هؤلاء الأعداء الأقوياء الأغنياء‏!‏

ونجد من هذا في سورة القلم مثل قوله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏{‏ن‏.‏ والقلم وما يسطرون‏.‏ مآ أنت بنعمة ربك بمجنون‏.‏ وإن لك لأجراً غير ممنون‏.‏ وإنك لعلى خلق عظيم‏}‏‏.‏‏.‏

وقوله تعالى عن المؤمنين‏:‏

‏{‏إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم‏.‏ أفنجعل المسلمين كالمجرمين‏؟‏ ما لكم‏؟‏ كيف تحكمون‏؟‏‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

ويقول عن أحد أعداء النبي البارزين‏:‏

‏{‏ولا تطع كل حلاف مهين‏.‏ هماز مشآء بنميم‏.‏ مناع للخير معتد أثيم‏.‏ عتل بعد ذلك زنيم‏.‏ أن كان ذا مال وبنين‏.‏ إذا تتلى عليه آياتنا قال‏:‏ أساطير الأولين‏.‏ سنسمه على الخرطوم‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يقول عن حرب المكذبين عامة‏:‏

‏{‏فذرني ومن يكذب بهذا الحديث‏.‏ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون‏.‏‏؟‏ وأملي لهم إن كيدي متين‏}‏‏.‏‏.‏

وذلك غير عذاب الآخرة المذل للمتكبرين‏:‏

‏{‏يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون‏.‏ خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة‏.‏ وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون‏}‏‏.‏‏.‏

ويضرب لهم أصحاب الجنة جنة الدنيا مثلاً على عاقبة البطر تهديداً لكبراء قريش المعتزين بأموالهم وأولادهم ممن لهم مال وبنون؛ الكائدون للدعوة بسبب ما لهم من مال وبنين‏.‏

وفي نهاية السورة يوصي النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر الجميل‏:‏ ‏{‏فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ومن خلال هذه المواساة وهذا الثناء وهذا التثبيت، مع الحملة القاصمة على المكذبين والتهديد الرهيب، يتولى الله سبحانه بذاته حربهم في ذلك الأسلوب العنيف‏.‏

‏.‏ من خلال هذا كله نتبين ملامح تلك الفترة، فترة الضعف والقلة، وفترة المعاناة والشدة، وفترة المحاولة القاسية لغرس تلك الغرسة الكريمة في تلك التربة العنيدة‏!‏

كذلك نلمح من خلال أسلوب السورة وتعبيرها وموضوعاتها ملامح البيئة التي كانت الدعوة الإسلامية تواجهها‏.‏ وهي ملامح فيها سذاجة وبدائية في التصور والتفكير والمشاعر والاهتمامات والمشكلات على السواء‏.‏

نلمح هذه السذاجة في طريقة محاربتهم للدعوة بقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏إنه لمجنون‏}‏ ‏!‏ وهو اتهام لا حبكة فيه ولا براعة، وأسلوب من لا يجد إلا الشتمة الغليظة يقولها بلا تمهيد ولا برهان، كما يفعل السذج البدائيون‏.‏

ونلمحها في الطريقة التي يرد الله بها عليهم فريتهم رداً يناسب حالهم‏:‏ ‏{‏مآ أنت بنعمة ربك بمجنون‏.‏ وإن لك لأجراً غير ممنون‏.‏ وإنك لعلى خلق عظيم‏.‏ فستبصر ويبصرون‏.‏ بأيكم المفتون‏}‏‏.‏‏.‏ وكذلك في التهديد المكشوف العنيف‏:‏ ‏{‏فذرني ومن يكذب بهذا الحديث‏.‏ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون‏.‏ وأملي لهم إن كيدي متين‏}‏‏.‏‏.‏

ونلمحها في رد هذا السب على رجل منهم‏:‏ ‏{‏ولا تطع كل حلاف مهين‏.‏ هماز مشآء بنميم‏.‏ مناع للخير معتد أثيم‏.‏ عتل بعد ذلك زنيم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ونلمحها في القصة قصة أصحاب الجنة التي ضربها الله لهم‏.‏ وهي قصة قوم سذج في تفكيرهم وتصورهم وبطرهم، وفي حركاتهم كذلك وأقوالهم ‏{‏وهم يتخافتون‏.‏ ألاَّ يدخلنَّها اليوم عليكم مسكين‏.‏‏.‏ الخ‏}‏‏.‏

وأخيراً نلمح سذاجتهم من خلال ما يوجهه إليهم من الجدل‏:‏ ‏{‏أم لكم كتاب فيه تدرسون‏.‏ إن لكم فيه لما تخيرون‏؟‏ أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون‏؟‏ سلهم أيهم بذلك زعيم‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهي ملامح تظهر بوضوح من خلال التعبير القرآني، وتفيد في دراسة السيرة ووقائعها وخطوات الدعوة فيها؛ ومدى ما ارتفع القرآن بعد ذلك بهذه البيئة وبتلك الجماعة في أواخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومدى ما نقلها من هذه السذاجة في التفكير والتصور والشعور والاهتمام‏.‏ كما يتضح في أساليب الخطاب فيما بعد، وفي الحقائق والمشاعر والتصورات والاهتمامات بعد عشرين عاماً لا تزيد‏.‏ وهي في حياة الأمم ومضة لا تذكر‏.‏ ولا تقاس إليها تلك النقلة الواسعة الشاملة‏.‏‏.‏ التي انتقلتها الجماعة في هذا الوقت القصير‏.‏ والتي تسلمت بها قيادة البشرية فارتفعت بتصوراتها وأخلاقها إلى القمة التي لم ترتفع إليها قيادة قط في تاريخ البشرية، لا من ناحية طبيعة العقيدة، ولا من ناحية آثارها الواقعية في حياة الإنسان في الأرض، ولا من ناحية السعة والشمول لتضم الإنسانية كلها بين جوانحها في سماحة وعطف، وفي تلبية لكل حاجاتها الشعورية، وحاجاتها الفكرية، وحاجاتها الاجتماعية، وحاجاتها التنظيمية في شتى الميادين‏.‏

إنها المعجزة تتجلى في النقلة من هذه السذاجة التي تبدو ملامحها من خلال مثل هذه السورة إلى ذلك العمق والشمول‏.‏ وهي نقلة أوسع وأكبر من تحول القلة إلى كثرة، والضعف إلى قوة، لأن بناء النفوس والعقول أعسر من بناء الأعداد والصفوف‏.‏

‏{‏ن، والقلم وما يسطرون‏.‏ مآ أنت بنعمة ربك بمجنون‏.‏ وإن لك لأجراً غير ممنون‏.‏ وإنك لعلى خلق عظيم‏.‏ فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون‏.‏ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين‏.‏ فلا تطع المكذبين‏.‏ ودوا لو تدهن فيدهنون‏.‏ ولا تطع كل حلاف مهين‏.‏ هماز مشآء بنميم‏.‏ مناع للخير معتد أثيم‏.‏ عتل بعد ذلك زنيم‏.‏ أن كان ذا مال وبنين‏.‏ إذا تتلى عليه آياتنا قال‏:‏ أساطير الأولين‏.‏ سنسمه على الخرطوم‏}‏‏.‏‏.‏

يقسم الله سبحانه بنون، وبالقلم، وبالكتابة‏.‏ والعلاقة واضحة بين الحرف ‏(‏نون‏)‏‏.‏ بوصفه أحد حروف الأبجدية وبين القلم، والكتابة‏.‏‏.‏ فأما القسم بها فهو تعظيم لقيمتها، وتوجيه إليها، في وسط الأمة التي لم تكن تتجه إلى التعلم عن هذا الطريق، وكانت الكتابة فيها متخلفة ونادرة، في الوقت الذي كان دورها المقدر لها في علم الله يتطلب نمو هذه المقدرة فيها، وانتشارها بينها، لتقوم بنقل هذه العقيدة وما يقوم عليها من مناهج الحياة إلى أرجاء الأرض‏.‏ ثم لتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة‏.‏ وما من شك أن الكتابة عنصر أساسي في النهوض بهذه المهمة الكبرى‏.‏

ومما يؤكد هذا المفهوم أن يبدأ الوحي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقرأ باسم ربك الذي خلق‏.‏ خلق الإنسان من علق‏.‏ اقرأ وربك الأكرم‏.‏ الذي علم بالقلم‏.‏ علم الإنسان ما لم يعلم‏}‏ وأن يكون هذا الخطاب موجهاً للنبي الأمي الذي قدر الله أن يكون أمياً لحكمة معينة ولكنه بدأ الوحي إليه منوهاً بالقراءة والتعليم بالقلم‏.‏ ثم أكد هذه اللفتة هنا بالقسم بنون، والقلم وما يسطرون‏.‏ وكان هذا حلقة من المنهج الإلهي لتربية هذه الأمة وإعدادها للقيام بالدور الكوني الضخم الذي قدره لها في علمه المكنون‏.‏

يقسم الله سبحانه بنون والقلم وما يسطرون، منوهاً بقيمة الكتابة معظماً لشأنها كما أسلفنا لينفي عن رسوله صلى الله عليه وسلم تلك الفرية التي رماه بها المشركون، مستبعداً لها، ونعمته على رسوله ترفضها‏.‏

‏{‏ما أنت بنعمة ربك بمجنون‏}‏‏.‏‏.‏

فيثبت في هذه الآية القصيرة وينفي‏.‏‏.‏ يثبت نعمة الله على نبيه، في تعبير يوحي بالقربى والمودة‏:‏ حين يضيفه سبحانه إلى ذاته‏:‏ ‏{‏ربك‏}‏‏.‏ وينفي تلك الصفة المفتراة التي لا تجتمع مع نعمة الله، على عبد نسبه إليه وقربه واصطفاه‏.‏‏.‏

وإن العجب ليأخذ كل دارس لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في قومه، من قولتهم هذه عنه، وهم الذين علموا منه رجاحة العقل حتى حكموه بينهم في رفع الحجر الأسود قبل النبوة بأعوام كثيرة‏.‏

وهم الذين لقبوه بالأمين، وظلوا يستودعونه أماناتهم حتى يوم هجرته، بعد عدائهم العنيف له، فقد ثبت أن عليا كرم الله وجهه تخلف عن رسول الله أياماً في مكة، ليرد إليهم ودائعهم التي كانت عنده؛ حتى وهم يحادونه ويعادونه ذلك العداء العنيف‏.‏ وهم الذين لم يعرفوا عليه كذبة واحدة قبل البعثة‏.‏ فلما سأل هرقل أبا سفيان عنه‏:‏ هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل نبوته‏؟‏ قال أبو سفيان وهو عدوه قبل إسلامه لا، فقال هرقل‏:‏ ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله‏!‏

إن الإنسان ليأخذه العجب أن يبلغ الغيظ بالناس إلى الحد الذي يدفع مشركي قريش إلى أن يقولوا هذه القولة وغيرها عن هذا الإنسان الرفيع الكريم، المشهور بينهم برجاحة العقل وبالخلق القويم‏.‏ ولكن الحقد يعمي ويصم، والغرض يقذف بالفرية دون تحرج‏!‏ وقائلها يعرف قبل كل أحد، أنه كذاب أثيم‏!‏

‏{‏ما أنت بنعمة ربك بمجنون‏}‏‏.‏‏.‏ هكذا في عطف وفي إيناس وفي تكريم، رداً على ذلك الحقد الكافر، وهذا الافتراء الذميم‏.‏

‏{‏وإن لك لأجراً غير ممنون‏}‏‏.‏‏.‏

وإن لك لأجراً دائماً موصولاً، لا ينقطع ولا ينتهي، أجراً عند ربك الذي أنعم عليك بالنبوة ومقامها الكريم‏.‏‏.‏ وهو إيناس كذلك وتسرية وتعويض فائض غامر عن كل حرمان وعن كل جفوة وعن كل بهتان يرميه به المشركون‏.‏ وماذا فقد من يقول له ربه‏:‏ ‏{‏وإن لك لأجراً غير ممنون‏}‏‏؟‏ في عطف وفي مودة وفي تكريم‏؟‏

ثم تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم‏:‏

‏{‏وإنك لعلى خلق عظيم‏}‏‏.‏‏.‏

وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم؛ ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود‏!‏ ويعجز كل قلم، ويعجز كل تصور، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود، وهي شهادة من الله، في ميزان الله، لعبد الله، يقول له فيها‏:‏ ‏{‏وإنك لعلى خلق عظيم‏}‏‏.‏ ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند الله مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين‏!‏

ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد صلى الله عليه وسلم تبرز من نواح شتى‏:‏

تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال، يسجلها ضمير الكون، وتثبت في كيانه، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله‏.‏

وتبرز من جانب آخر، من جانب إطاقة محمد صلى الله عليه وسلم لتلقيها‏.‏ وهو يعلم من ربه هذا، قائل هذه الكلمة‏.‏ ما هو‏؟‏ ما عظمته‏؟‏ ما دلالة كلماته‏؟‏ ما مداها‏؟‏ ما صداها‏؟‏ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة، التي يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين‏.‏

إن إطاقة محمد صلى الله عليه وسلم لتلقي هذه الكلمة، من هذا المصدر، وهو ثابت، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل ولو أنها ثناء ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب‏.‏‏.‏ تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن‏.‏‏.‏ وهو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل‏.‏

ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة‏.‏ وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه‏.‏ ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر‏.‏ أعظم بصدورها عن العلي الكبير‏.‏ وأعظم بتلقي محمد لها وهو يعلم من هو العلي الكبير، وبقائه بعدها ثابتاً راسخاً مطمئناً‏.‏ لا يتكبر على العباد، ولا ينتفخ، ولا يتعاظم، وهو الذي سمع ما سمع من العلي الكبير‏!‏

والله أعلم حيث يجعل رسالته‏.‏ وما كان إلا محمد صلى الله عليه وسلم بعظمة نفسه هذه من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى‏.‏ فيكون كفئاً لها، كما يكون صورة حية منها‏.‏

إن هذه الرسالة من الكمال والجمال، والعظمة والشمول، والصدق والحق، بحيث لا يحملها إلا الرجل الذي يثني عليه الله هذا الثناء‏.‏ فتطيق شخصيته كذلك تلقي هذا الثناء‏.‏ في تماسك وفي توازن، وفي طمأنينة‏.‏ طمأنينة القلب الكبير الذي يسع حقيقة تلك الرسالة وحقيقة هذا الثناء العظيم‏.‏ ثم يتلقى بعد ذلك عتاب ربه له ومؤاخذته إياه على بعض تصرفاته، بذات التماسك وذات التوازن وذات الطمأنينة‏.‏ ويعلن هذه كما يعلن تلك، لا يكتم من هذه شيئاً ولا تلك‏.‏‏.‏ وهو هو في كلتا الحالتين النبي الكريم‏.‏ والعبد الطائع‏.‏ والمبلغ الأمين‏.‏

إن حقيقة هذه النفس من حقيقة هذه الرسالة‏.‏ وإن عظمة هذه النفس من عظمة هذه الرسالة‏.‏ وإن الحقيقة المحمدية كالحقيقة الإسلامية لأبعد من مدى أي مجهر يملكه بشر‏.‏ وقصارى ما يملكه راصد لعظمة هذه الحقيقة المزدوجة أن يراها ولا يحدد مداها‏.‏ وأن يشير إلى مسارها الكوني دون أن يحدد هذا المسار‏!‏

ومرة أخرى أجد نفسي مشدوداً للوقوف إلى جوار الدلالة الضخمة لتلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الكلمة من ربه، وهو ثابت راسخ متوازن مطمئن الكيان‏.‏‏.‏ لقد كان وهو بشر يثني على أحد أصحابه، فيهتز كيان صاحبه هذا وأصحابه من وقع هذا الثناء العظيم‏.‏ وهو بشر وصاحبه يعلم أنه بشر‏.‏ وأصحابه يدركون أنه بشر‏.‏ إنه نبي نعم‏.‏ ولكن في الدائرة المعلومة الحدود‏.‏ دائرة البشرية ذات الحدود‏.‏‏.‏ فأما هو فيتلقى هذه الكلمة من الله‏.‏ وهو يعلم من هو الله‏.‏ هو بخاصة يعلم من هو الله‏!‏ هو يعلم منه ما لا يعلمه سواه‏.‏

ثم يصطبر ويتماسك ويتلقى ويسير‏.‏‏.‏ إنه أمر فوق كل تصور وفوق كل تقدير‏!‏‏!‏‏!‏

إنه محمد وحده هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة‏.‏‏.‏ إنه محمد وحده هو الذي يبلغ قمة الكمال الإنساني المجانس لنفخة الله في الكيان الإنساني‏.‏ إنه محمد وحده هو الذي يكافئ هذه الرسالة الكونية العالمية الإنسانية؛ حتى لتتمثل في شخصه حية، تمشي على الأرض في إهاب إنسان‏.‏‏.‏ إنه محمد وحده الذي علم الله منه أنه أهل لهذا المقام‏.‏ والله أعلم حيث يجعل رسالته وأعلن في هذه أنه على خلق عظيم‏.‏ وأعلن في الأخرى أنه جل شأنه وتقدست ذاته وصفاته، يصلي عليه هو وملائكته ‏{‏إن الله وملائكته يصلون على النبي‏}‏ وهو جل شأنه وحده القادر على أن يهب عبداً من عباده ذلك الفضل العظيم‏.‏‏.‏

ثم إن لهذه اللفتة دلالتها على تمجيد العنصر الأخلاقي في ميزان الله؛ وأصالة هذا العنصر في الحقيقة الإسلامية كأصالة الحقيقة المحمدية‏.‏

والناظر في هذه العقيدة، كالناظر في سيرة رسولها، يجد العنصر الأخلاقي بارزاً أصيلاً فيها، تقوم عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء‏.‏‏.‏ الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ العهد، ومطابقة القول للفعل، ومطابقتهما معاً للنية والضمير؛ والنهي عن الجور والظلم والخداع والغش وأكل أموال الناس بالباطل، والاعتداء على الحرمات والأعراض، وإشاعة الفاحشة بأية صورة من الصور‏.‏‏.‏ والتشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس وصيانة العنصر الأخلاقي في الشعور والسلوك، وفي أعماق الضمير وفي واقع المجتمع‏.‏ وفي العلاقات الفردية والجماعية والدولية على السواء‏.‏

والرسول الكريم يقول‏:‏ «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»‏.‏ فيلخص رسالته في هذا الهدف النبيل‏.‏ وتتوارد أحاديثه تترى في الحض على كل خلق كريم‏.‏ وتقوم سيرته الشخصية مثالاً حياً وصفحة نقية، وصورة رفيعة، تستحق من الله أن يقول عنها في كتابة الخالد‏:‏ ‏{‏وإنك لعلى خلق عظيم‏}‏‏.‏‏.‏ فيمجد بهذا الثناء نبيه صلى الله عليه وسلم كما يمجد به العنصر الأخلاقي في منهجه الذي جاء به هذا النبي الكريم، ويشد به الأرض إلى السماء، ويعلق به قلوب الراغبين إليه سبحانه وهو يدلهم على ما يحب ويرضى من الخلق القويم‏.‏

وهذا الاعتبار هو الاعتبار الفذ في أخلاقية الإسلام‏.‏ فهي أخلاقية لم تنبع من البيئة، ولا من اعتبارات أرضية إطلاقاً؛ وهي لا تستمد ولا تعتمد على اعتبار من اعتبارات العرف أو المصلحة أو الارتباطات التي كانت قائمة في الجيل‏.‏ إنما تستمد من السماء وتعتمد على السماء‏.‏ تستمد من هتاف السماء للأرض لكي تتطلع إلى الأفق‏.‏ وتستمد من صفات الله المطلقة ليحققها البشر في حدود الطاقة، كي يحققوا إنسانيتهم العليا، وكي يصبحوا أهلاً لتكريم الله لهم واستخلافهم في الأرض؛ وكي يتأهلوا للحياة الرفيعة الأخرى‏:‏

‏{‏في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏}‏ ومن ثم فهي غير مقيدة ولا محدودة بحدود من أي اعتبارات قائمة في الأرض؛ إنما هي طليقة ترتفع إلى أقصى ما يطيقه البشر، لأنها تتطلع إلى تحقيق صفات الله الطليقة من كل حد ومن كل قيد‏.‏

ثم إنها ليست فضائل مفردة‏.‏‏.‏ صدق‏.‏ وأمانة، وعدل، ورحمة‏.‏ وبر‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إنما هي منهج متكامل، تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشرائع التنظيمية؛ وتقوم عليه فكرة الحياة كلها واتجاهاتها جميعاً، وتنتهي في خاتمة المطاف إلى الله‏.‏ لا إلى أي اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة‏!‏

وقد تمثلت هذه الأخلاقية الإسلامية بكمالها وجمالها وتوازنها واستقامتها واطرادها وثباتها في محمد صلى الله عليه وسلم وتمثلت في ثناء الله العظيم، وقوله‏:‏ ‏{‏وإنك لعلى خلق عظيم‏}‏‏.‏‏.‏

وبعد هذا الثناء الكريم على عبده يطمئنه إلى غده مع المشركين، الذين رموه بذلك البهت اللئيم؛ ويهددهم بافتضاح أمرهم وانكشاف بطلانهم وضلالهم المبين‏:‏

‏{‏فستبصر ويبصرون‏.‏ بأيكم المفتون‏.‏ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين‏}‏‏.‏‏.‏

والمفتون الذي يطمئن الله نبيه إلى كشفه وتعيينه هو الضال‏.‏ أو هو الممتحن الذي يكشف الامتحان عن حقيقتة‏.‏ وكلا المدلولين قريب من قريب‏.‏‏.‏ وهذا الوعد فيه من الطمأنينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه، بقدر ما فيه من التهديد للمناوئين له المفترين عليه‏.‏‏.‏ أياً كان مدلول الجنون الذي رموه به‏.‏ والأقرب إلى الظن أنهم لم يكونوا يقصدون به ذهاب العقل‏.‏ فالواقع يكذب هذا القول‏.‏ إنما كانوا يعنون به مخالطة الجنة له، وإيحاءهم إليه بهذا القول الغريب البديع كما كانوا يظنون أن لكل شاعر شيطاناً هو الذي يمده ببديع القول‏!‏ وهو مدلول بعيد عن حقيقة حال النبي صلى الله عليه وسلم وغريب عن طبيعة ما يوحى إليه من القول الثابت الصادق المستقيم‏.‏

وهذا الوعد من الله يشير إلى أن الغد سيكشف عن حقيقة النبي وحقيقة مكذبيه‏.‏ ويثبت أيهم الممتحن بما هو فيه؛ أو أيهم الضال فيما يدعيه‏.‏ ويطمئنه إلى أن ربه ‏{‏هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين‏}‏‏.‏‏.‏ وربه هو الذي أوحى إليه، فهو يعلم أنه المهتدي ومن معه‏.‏ وفي هذا ما يطمئنه وما يقلق أعداءه، وما يبعث في قلوبهم التوجس والقلق لما سيجيء‏!‏

ثم يكشف الله له عن حقيقة حالهم، وحقيقة مشاعرهم، وهم يخاصمونه ويجادلونه في الحق الذي معه، ويرمونه بما يرمونه‏.‏ وهم مزعزعو العقيدة فيما لديهم من تصورات الجاهلية، التي يتظاهرون بالتصميم عليها‏.‏ إنهم على استعداد للتخلي عن الكثير منها في مقابل أن يتخلى هو عن بعض ما يدعوهم إليه‏!‏ على استعداد أن يدهنوا ويلينوا ويحافظوا فقط على ظاهر الأمر لكي يدهن هو لهم ويلين‏.‏

‏.‏ فهم ليسوا أصحاب عقيدة يؤمنون بأنها الحق، وإنما هم أصحاب ظواهر يهمهم أن يستروها‏:‏

‏{‏فلا تطع المكذبين‏.‏ ودوا لو تدهن فيدهنون‏}‏‏.‏‏.‏

فهي المساومة إذن، والالتقاء في منتصف الطريق‏.‏ كما يفعلون في التجارة‏.‏ وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير‏!‏ فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها؛ لأن الصغير منها كالكبير‏.‏ بل ليس في العقيدة صغير وكبير‏.‏ إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء‏.‏ لا يطيع فيها صاحبها أحداً، ولا يتخلى عن شيء منها أبداً‏.‏

وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق، ولا أن يلتقيا في أي طريق‏.‏ وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان‏.‏ جاهلية الأمس وجاهلية اليوم، وجاهلية الغد كلها سواء‏.‏ إن الهوة بينها وبين الإسلام لا تعبر، ولا تقام عليها قنطرة، ولا تقبل قسمة ولا صلة‏.‏ وإنما هو النضال الكامل الذي يستحيل فيه التوفيق‏!‏

ولقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم ليدهن لهم ويلين؛ ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب‏!‏ على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول‏!‏ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حاسماً في موقفه من دينه، لا يدهن فيه ولا يلين‏.‏ وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانباً وأحسنهم معاملة وأبرهم بعشيرة وأحرصهم على اليسر والتيسير‏.‏ فأما الدين فهو الدين‏!‏ وهو فيه عند توجيه ربه‏:‏ ‏{‏فلا تطع المكذبين‏}‏ ‏!‏

ولم يساوم صلى الله عليه وسلم في دينه وهو في أحرج المواقف العصبية في مكة‏.‏ وهو محاصر بدعوته‏.‏ وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون‏.‏ ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين، تأليفاً لقلوبهم، أو دفعاً لأذاهم‏.‏ ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو من بعيد‏.‏‏.‏

روى ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق قال‏:‏

«فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام‏.‏ وصدع به كما أمره الله، لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه فيما بلغني حتى ذكر آلهتهم وعابها‏.‏ فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه، وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب ومنعه، وقام دونه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهراً لأمره، لا يرده عنه شيء»‏.‏

«فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب‏.‏‏.‏ عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب بن أمية‏.‏ وأبو البختري واسمه العاص بن هشام‏.‏ والأسود بن المطلب بن أسد‏.‏ وأبو جهل ‏(‏واسمه عمرو بن هشام وكان يكنى ابا الحكم‏)‏ والوليد بن المغيرة، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر‏.‏‏.‏ أو من مشى منهم‏.‏‏.‏ فقالوا‏:‏ يا أبا طالب‏.‏ إن ابن اخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه؛ فنكفيكه‏!‏ فقال لهم أبو طالب قولاً وفيقاً، وردهم رداً جميلاً، فانصرفوا عنه‏.‏

» ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه‏:‏ يظهر دين الله، ويدعو إليه‏.‏ ثم شري الأمر بينه وبينهم حتى تباعدوا وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذامروا فيه‏.‏ وحض بعضهم بعضاً عليه‏.‏ ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى‏.‏ فقالوا له‏:‏ يا أبا طالب، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا‏.‏ وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا؛ وإنا والله لا نصبر على هذا‏:‏ من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين أو كما قالوا له‏.‏‏.‏ ثم انصرفوا عنه‏.‏ فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه‏.‏ قال ابن إسحق‏:‏ وحدثني يعقوب بن عقبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدّث، أن قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ يا بن أخي‏.‏ إن قومك قد جاءوني فقالوا لي‏:‏ كذا وكذا ‏(‏للذي كانوا قالوا له‏)‏ فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق‏.‏ قال‏:‏ فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه‏.‏ قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته»‏.‏ قال‏:‏ واستعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى‏.‏

ثم قام‏.‏ فلما ولى ناداه أبو طالب فقال‏:‏ أقبل يا بن أخي‏.‏ قال‏:‏ فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً «‏.‏

فهذه صورة من إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على دعوته في اللحظة التي تخلى عنه فيها عمه‏.‏ حاميه وكافيه، وآخر حصن من حصون الأرض يمنعه المتربصين به المتذامرين فيه‏!‏

هذه هي صورة قوية رائعة جديدة في نوعها من حيث حقيقتها، ومن حيث صورها وظلالها ومن حيث عباراتها وألفاظها‏.‏‏.‏ جديدة جدة هذه العقيدة، رائعة روعة هذه العقيدة، قوية قوة هذه العقيدة‏.‏ فيها مصداق قول الله العظيم‏:‏ ‏{‏وإنك لعلى خلق عظيم‏}‏‏.‏‏.‏

وصورة أخرى رواها كذلك ابن اسحق، كانت في مساومة مباشرة من المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إذ أعياهم أمره، ووثبت كل قبيلة على من أسلم منها تعذبه وتفتنه عن دينه‏.‏

قال ابن إسحق‏:‏ وحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال‏:‏ حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيداً، قال يوماً وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده‏:‏» يا معشر قريش‏.‏ ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا‏؟‏ وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون‏.‏ فقالوا‏:‏ يا أبا الوليد قم إليه فكلمه‏.‏ فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا بن أخي‏.‏ إنك منا حيث علمت‏:‏ من السطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم‏.‏ فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها‏.‏ قال‏:‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «قل يا أبا الوليد أسمع»‏.‏ قال‏:‏ يا بن أخي‏.‏ إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا‏.‏ وإن كنت إنما تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك‏.‏ وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه‏!‏ أو كما قال له حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال‏:‏ «أقد فرغت يا أبا الوليد‏؟‏» قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ «فاستمع مني»‏.‏ قال‏:‏ أفعل‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ حم‏.‏ تنزيل من الرحمن الرحيم‏.‏ كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون‏.‏ بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون‏؟‏ وقالوا‏:‏ قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب، فاعمل إننا عاملون‏.‏ قل‏:‏ إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنمآ إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه‏.‏ فلما سمعها منه عتبة أنصت لها‏.‏ وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه‏.‏ ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد‏.‏ ثم قال‏.‏ «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت‏.‏ فأنت وذاك»‏.‏‏.‏ فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض‏:‏ نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به‏.‏ فلما جلس إليهم قالوا‏:‏ ما وراءك يا أبا الوليد‏؟‏ قال‏:‏ ورائي أنني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم‏.‏ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم‏.‏ وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به‏.‏ قالوا‏:‏ سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه‏.‏ قال‏:‏ هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم‏.‏‏.‏ «

وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود‏}‏ فقام مذعوراً فوضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ أنشدك الله والرحم يا محمد‏!‏ وذلك مخافة أن يقع النذير‏.‏ وقام إلى القوم فقال ما قال‏!‏

وعلى أية حال فهذه صورة أخرى من صور المساومة‏.‏ وهي كذلك صورة من صور الخلق العظيم‏.‏ تبدو في أدبه صلى الله عليه وسلم وهو يستمع إلى عتبة حتى يفرغ من قوله الفارغ الذي لا يستحق الانتباه من مثل محمد صلى الله عليه وسلم في تصوره لقيم هذا الكون، وفي ميزانه للحق ولعرض هذه الأرض‏.‏ ولكن خلقه يمسك به لا يقاطع ولا يتعجل ولا يغضب ولا يضجر، حتى يفرغ الرجل من مقالته، وهو مقبل عليه‏.‏ ثم يقول في هدوء‏:‏ «أقد فرغت يا أبا الوليد‏؟‏» زيادة في الإملاء والتوكيد‏.‏ إنها الطمأنينة الصادقة للحق مع الأدب الرفيع في الاستماع والحديث‏.‏

‏.‏ وهما معاً بعض دلالة الخلق العظيم‏.‏

وصورة ثالثة للمساومة فيما رواه ابن اسحق قال‏:‏

«واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة فيما بلغني الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزى والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي‏.‏ وكانوا ذوي أسنان في قومهم‏.‏ فقالوا‏:‏ يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر‏.‏ فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه‏!‏ فأنزل الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ يا أيها الكافرون‏.‏ لا أعبد ما تعبدون‏}‏ السورة كلها‏.‏‏.‏

وحسم الله المساومة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة‏.‏ وقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره ربه أن يقول‏.‏‏.‏

ثم يبرز قيمة العنصر الأخلاقي مرة أخرى في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن إطاعة أحد هؤلاء المكذبين بالذات، ويصفه بصفاته المزرية المنفرة، ويتوعده بالإذلال والمهانة‏:‏

‏{‏ولا تطع كل حلاف مهين‏.‏ هماز مشآء بنميم‏.‏ مناع للخير معتد أثيم‏.‏ عتل بعد ذلك زنيم‏.‏ أن كان ذا مال وبنين‏.‏ إذا تتلى عليه آياتنا قال‏:‏ أساطير الأولين‏.‏ سنسمه على الخرطوم‏}‏‏.‏‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنه الوليد بن المغيرة، وإنه هو الذي نزلت فيه كذلك آيات من سورة المدثر‏:‏ ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً، وجعلت له مالاً ممدوداً، وبنين شهودا، ومهدت له تمهيداً‏.‏ ثم يطمع أن أزيد‏.‏ كلا‏!‏‏!‏ إنه كان لآياتنا عنيدا‏.‏ سأرهقه صعوداً‏.‏ إنه فكَّر وقدَّر‏.‏ فقتل‏!‏ كيف قدر‏؟‏ ثم قتل‏!‏ كيف قدر‏؟‏ ثم نظر‏.‏ ثم عبس وبسر‏.‏ ثم أدبر واستكبر‏.‏ فقال‏:‏ إن هذآ إلا سحر يؤثر‏.‏ إن هذآ إلا قول البشر‏.‏ سأصليه سقر‏}‏ ورويت عنه مواقف كثيرة في الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنذار أصحابه، والوقوف في وجه الدعوة، والصد عن سبيل الله‏.‏‏.‏ كما قيل‏:‏ إن آيات سورة القلم نزلت في الأخنس بن شريق‏.‏‏.‏ وكلاهما كان ممن خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولجوا في حربة والتأليب عليه أمداً طويلاً‏.‏

وهذه الحملة القرآنية العنيفة في هذه السورة، والتهديدات القاصمة في السورة الأخرى، وفي سواها، شاهد على شدة دوره سواء كان هو الوليد أو الأخنس والأول أرجح، في حرب الرسول والدعوة، كما هي شاهد على سوء طويته، وفساد نفسه، وخلوها من الخير‏.‏

والقرآن يصفه هنا بتسع صفات كلها ذميم‏.‏‏.‏

فهو حلاف‏.‏‏.‏ كثير الحلف‏.‏ ولا يكثر الحلف إلا إنسان غير صادق، يدرك أن الناس يكذبونه ولا يثقون به، فيحلف ويكثر من الحلف ليداري كذبه، ويستجلب ثقة الناس‏.‏

وهو مهين‏.‏‏.‏ لا يحترم نفسه، ولا يحترم الناس قوله‏.‏

وآية مهانته حاجته إلى الحلف، وعدم ثقته بنفسه وعدم ثقة الناس به‏.‏ ولو كان ذا مال وذا بنين وذا جاه‏.‏ فالمهانة صفة نفسية تلصق بالمرء ولو كان سلطاناً طاغية جباراً‏.‏ والعزة صفة نفسية لا تفارق النفس الكريمة ولو تجردت من كل أعراض الحياة الدنيا‏!‏

وهو هماز‏.‏‏.‏ يهمز الناس ويعيبهم بالقول والإشارة في حضورهم أو في غيبتهم سواء‏.‏ وخلق الهمز يكرهه الإسلام أشد الكراهية؛ فهو يخالف المروءة، ويخالف أدب النفس، ويخالف الأدب في معاملة الناس وحفظ كراماتهم صغروا أم كبروا‏.‏ وقد تكرر ذم هذا الخلق في القرآن في غير موضع؛ فقال‏:‏ ‏{‏ويل لكل همزة لمزة‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيراً منهن‏.‏ ولا تلمزوا أنفسكم‏.‏ ولا تنابزوا بالألقاب‏}‏ وكلها أنواع من الهمز في صورة من الصور‏.‏‏.‏

وهو مشاء بنميم‏.‏ يمشي بين الناس بما يفسد قلوبهم، ويقطع صلاتهم، ويذهب بموداتهم‏.‏ وهو خلق ذميم كما أنه خلق مهين، لا يتصف به ولا يقدم عليه إنسان يحترم نفسه أو يرجو لنفسه احتراماً عند الآخرين‏.‏ حتى أولئك الذين يفتحون آذانهم للنمام، ناقل الكلام، المشاء بالسوء بين الأوداء‏.‏ حتى هؤلاء الذين يفتحون آذانهم له لا يحترمونه في قرارة نفوسهم ولا يودونه‏.‏

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن ينقل إليه أحد ما يغير قلبه على صاحب من أصحابه‏.‏ وكان يقول‏:‏ «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر»‏.‏

وثبت في الصحيحين من حديث مجاهد عن طاووس عن ابن عباس قال‏:‏ «مر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقبرين، فقال‏:‏ إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير‏.‏ أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة»‏.‏

وروى الإمام أحمد بإسناده عن حذيفة قال‏:‏ «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ لا يدخل الجنة قتات» أي نمام ‏(‏ورواه الجماعة إلا ابن ماجه‏)‏‏.‏

وروى الإمام أحمد كذلك بإسناده عن يزيد بن السكن‏.‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ألا أخبركم بخياركم‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏» الذين إذا رؤوا ذكر الله عز وجل «ثم قال‏:‏ ألا أخبركم بشراركم‏؟‏ المشاءون بالنميمة المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب»‏.‏

ولم يكن بد للإسلام أن يشدد في النهي عن هذا الخلق الذميم الوضيع، الذي يفسد القلب، كما يفسد الصحب، ويتدنى بالقائل قبل أن يفسد بين الجماعة، ويأكل قلبه وخلقه قبل أن يأكل سلامة المجتمع، ويفقد الناس الثقة بعضهم ببعض، ويجني على الأبرياء في معظم الأحايين‏!‏

وهو مناع للخير‏.‏

‏.‏ يمنع الخير عن نفسه وعن غيره‏.‏ ولقد كان يمنع الإيمان وهو جماع الخير‏.‏ وعرف عنه أنه كان يقول لأولاده وعشيرته، كلما آنس منهم ميلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لئن تبع دين محمد منكم أحد لا أنفعه بشيء أبدا‏.‏ فكان يمنعهم بهذا التهديد عن الإسلام‏.‏ ومن ثم سجل القرآن عليه هذه الصفة ‏{‏مناع للخير‏}‏ فيما كان يفعل ويقول‏.‏

وهو معتد‏.‏‏.‏ متجاوز للحق والعدل إطلاقاً‏.‏ ثم هو معتد على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين وعلى أهله وعشيرته الذين يصدهم عن الهدى ويمنعهم من الدين‏.‏‏.‏ والاعتداء صفة ذميمة تنال من عناية القرآن والحديث اهتماماً كبيراً‏.‏‏.‏ وينهى عنها الإسلام في كل صورة من صورها، حتى في الطعام والشراب‏:‏ ‏{‏كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه‏}‏‏.‏‏.‏ لأن العدل والاعتدال طابع الإسلام الأصيل‏.‏

وهو أثيم‏.‏‏.‏ يرتكب المعاصي حتى يحق عليه الوصف الثابت‏.‏ ‏{‏أثيم‏}‏‏.‏‏.‏ بدون تحديد لنوع الآثام التي يرتكبها‏.‏ فاتجاه التعبير إلى إثبات الصفة، وإلصاقها بالنفس كالطبع المقيم‏!‏

وهو بعد هذا كله ‏{‏عتل‏}‏‏.‏‏.‏ وهي لفظة تعبر بجرسها وظلها عن مجموعة من الصفات ومجموعة من السمات، لا تبلغها مجموعة ألفاظ وصفات‏.‏ فقد يقال‏:‏ إن العتل هو الغليظ الجافي‏.‏ وإنه الأكول الشروب‏.‏ وإنه الشره المنوع‏.‏ وإنه الفظ في طبعه، اللئيم في نفسه، السِّيئ في معاملته‏.‏‏.‏ وعن أبي الدرداء رضي الله عنه‏:‏ «العتل كل رغيب الجوف، وثيق الخلق، أكول شروب، جموع للمال، منوع له»‏.‏‏.‏ ولكن تبقى كلمة ‏{‏عتل‏}‏ بذاتها أدل على كل هذا، وأبلغ تصويراً للشخصية الكريهة من جميع الوجوه‏.‏

وهو زنيم‏.‏‏.‏ وهذه خاتمة الصفات الذميمة الكريهة المتجمعة في عدو من أعداء الإسلام وما يعادي الإسلام ويصر على عداوته إلا أناس من هذا الطراز الذميم والزنيم من معانيه اللصيق في القوم لا نسب له فيهم، أو أن نسبه فيهم ظنين‏.‏ ومن معانيه، الذي اشتهر وعرف بين الناس بلؤمه وخبثه وكثرة شروره‏.‏ والمعنى الثاني هو الأقرب في حالة الوليد بن المغيرة‏.‏ وإن كان إطلاق اللفظ يدمغه بصفة تدعه مهيناً في القوم، وهو المختال الفخور‏.‏

ثم يعقب على هذه الصفات الذاتية بموقفه من آيات الله، مع التشنيع بهذا الموقف الذي يجزي به نعمة الله عليه بالمال والبنين‏:‏

‏{‏أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال‏:‏ أساطير الأولين‏}‏‏.‏‏.‏

وما أقبح ما يجزي إنسان نعمة الله عليه بالمال والبنين؛ استهزاء بآياته، وسخرية من رسوله، واعتداء على دينه‏.‏‏.‏ وهذه وحدها تعدل كل ما مر من وصف ذميم‏.‏

ومن ثم يجيء التهديد من الجبار القهار، يلمس في نفسه موضع الاختيال والفخر بالمال والبنين؛ كما لمس وصفه من قبل موضع الاختيال بمكانته ونسبه‏.‏

‏.‏ ويسمع وعد الله القاطع‏:‏

‏{‏سنسمه على الخرطوم‏}‏‏.‏‏.‏

ومن معاني الخرطوم طرف أنف الخنزير البري‏.‏‏.‏ ولعله هو المقصود هنا كناية عن أنفه‏!‏ والأنف في لغة العرب يكنى به عن العزة فيقال‏:‏ أنف أشم للعزيز‏.‏ وأنف في الرغام للذليل‏.‏‏.‏ أي في التراب‏!‏ ويقال ورم أنفه وحمي أنفه، إذا غضب معتزاً‏.‏ ومنه الأنفة‏.‏‏.‏ والتهديد بوسمه على الخرطوم يحوي نوعين من الإذلال والتحقير‏.‏‏.‏ الأول الوسم كما يوسم العبد‏.‏‏.‏ والثاني جعل أنفه خرطوماً كخرطوم الخنزير‏!‏

وما من شك أن وقع هذه الآيات على نفس الوليد كان قاصماً‏.‏ فهو من أمة كانت تعد هجاء شاعر ولو بالباطل مذمة يتوقاها الكريم‏!‏ فكيف بدمغه بالحق من خالق السماوات والأرض‏.‏ بهذا الأسلوب الذي لا يبارى‏.‏ في هذا السجل الذي تتجاوب بكل لفظ من ألفاظه جنبات الوجود‏.‏ ثم يستقر في كيان الوجود‏.‏‏.‏ في خلود‏.‏‏.‏

إنها القاصمة التي يستأهلها عدو الإسلام وعدو الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم‏.‏‏.‏

وبمناسبة الإشارة إلى المال والبنين، والبطر الذي يبطره المكذبون، يضرب لهم مثلاً بقصة يبدو أنها كانت معروفة عندهم، شائعة بينهم، ويذكرهم فيها بعاقبة البطر بالنعمة، ومنع الخير والاعتداء على حقوق الآخرين؛ ويشعرهم أن ما بين أيديهم من نعم المال والبنين، إنما هو ابتلاء لهم كما ابتلي أصحاب هذه القصة، وأن له ما بعده، وأنهم غير متروكين لما هم فيه‏:‏

‏{‏إنا بلوناهم كما بلونآ أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، ولا يستثنون‏.‏ فطاف عليها طآئف من ربك وهم نآئمون، فأصبحت كالصريم‏.‏ فتنادوا مصبحين‏:‏ أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين‏.‏ فانطلقوا وهم يتخافتون‏:‏ أن لاَّ يدخلنها اليوم عليكم مسكين‏.‏ وغدوا على حرد قادرين‏.‏ فلما رأوها قالوا‏:‏ إنا لضآلون، بل نحن محرومون‏.‏ قال أوسطهم‏:‏ ألم أقل لكم لولا تسبحون‏!‏ قالوا‏:‏ سبحان ربنآ إنا كنا ظالمين‏.‏ فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، قالوا‏:‏ يا ويلنا إنا كنا طاغين، عسى ربنآ أن يبدلنا خيراً منهآ إنآ إلى ربنا راغبون‏.‏‏.‏ كذلك العذاب، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه القصة قد تكون متداولة ومعروفة، ولكن السياق القرآني يكشف عما وراء حوادثها من فعل الله وقدرته، ومن ابتلاء وجزاء لبعض عباده‏.‏ ويكون هذا هو الجديد في سياقها القرآني‏.‏

ومن خلال نصوصها وحركاتها نلمح مجموعة من الناس ساذجة بدائية أشبه في تفكيرها وتصورها وحركتها بأهل الريف البسطاء السذج‏.‏ ولعل هذا المستوى من النماذج البشرية كان أقرب إلى المخاطبين بالقصة، الذين كانوا يعاندون ويجحدون، ولكن نفوسهم ليست شديدة التعقيد، إنما هي أقرب إلى السذاجة والبساطة‏!‏

والقصة من ناحية الأداء تمثل إحدى طرق الأداء الفني للقصة في القرآن؛ وفيه مفاجآت مشوقة، كما أن فيه سخرية بالكيد البشري العاجز أمام تدبير الله وكيده‏.‏

وفيه حيوية في العرض حتى لكأن السامع أو القارئ يشهد القصة حية تقع أحداثها أمامه وتتوالى‏.‏ فلنحاول أن نراها كما هي في سياقها القرآني‏:‏

ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة جنة الدنيا لا جنة الآخرة وها هم أولاء يبيتون في شأنها أمراً‏.‏ لقد كان للمساكين حظ من ثمرة هذه الجنة كما تقول الروايات على أيام صاحبها الطيب الصالح‏.‏ ولكن الورثة يريدون أن يستأثروا بثمرها الآن، وأن يحرموا المساكين حظهم‏.‏‏.‏ فلننظر كيف تجري الأحداث إذن‏!‏

‏{‏إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة‏.‏ إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون‏}‏‏.‏

لقد قر رأيهم على أن يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر، دون أن يستثنوا منه شيئاً للمساكين‏.‏ وأقسموا على هذا، وعقدوا النية عليه، وباتوا بهذا الشر فيما اعتزموه‏.‏‏.‏ فلندعهم في غفلتهم أو في كيدهم الذي بيتوه، ولننظر ماذا يجري من ورائهم في بهمة الليل وهم لا يشعرون‏.‏ فإن الله ساهر لا ينام كما ينامون، وهو يدبر لهم غير ما يدبرون، جزاء على ما بيتوا من بطر بالنعمة ومنع للخير، وبخل بنصيب المساكين المعلوم‏.‏‏.‏ إن هناك مفاجأة تتم في خفية‏.‏ وحركة لطيفة كحركة الأشباح في الظلام‏.‏ والناس نيام‏:‏

‏{‏فطاف عليها طآئف من ربك وهم نآئمون‏.‏ فأصبحت كالصريم‏}‏‏.‏‏.‏

فلندع الجنة وما ألم بها مؤقتاً لننظر كيف يصنع المبيتون الماكرون‏.‏

ها هم أولاء يصحون مبكرين كما دبروا، وينادي بعضهم بعضاً لينفذوا ما اعتزموا‏:‏

‏{‏فتنادوا مصبحين‏:‏ أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين‏}‏‏.‏‏.‏

يذكر بعضهم بعضاً ويوصي بعضهم بعضاً، ويحمس بعضهم بعضاً‏!‏

ثم يمضي السياق في السخرية منهم، فيصورهم منطلقين، يتحدثون في خفوت، زيادة في إحكام التدبير، ليحتجنوا الثمر كله لهم، ويحرموا منه المساكين‏!‏

‏{‏فانطلقوا وهم يتخافتون‏:‏ أن لاَّ يدخلنها اليوم عليكم مسكين‏}‏ ‏!‏‏!‏‏!‏

وكأنما نحن الذين نسمع القرآن أو نقرؤه نعلم ما لا يعلمه أصحاب الجنة من أمرها‏.‏‏.‏ أجل فقد شهدنا تلك اليد الخفية اللطيفة تمتد إليها في الظلام، فتذهب بثمرها كله‏.‏ ورأيناها كأنما هي مقطوعة الثمار بعد ذلك الطائف الخفي الرهيب‏!‏ فلنمسك أنفاسنا إذن، لنرى كيف يصنع الماكرون المبيتون‏.‏

إن السياق ما يزال يسخر من الماكرين المبيتين‏:‏

‏{‏وغدوا على حرد قادرين‏}‏ ‏!‏

أجل إنهم لقادرون على المنع والحرمان‏.‏‏.‏ حرمان أنفسهم على أقل تقدير‏!‏‏!‏

وها هم أولاء يفاجأون‏.‏ فلننطلق مع السياق ساخرين‏.‏ ونحن نشهدهم مفجوئين‏:‏

‏{‏فلما رأوها قالوا‏:‏ إنا لضالون‏}‏‏.‏‏.‏

ما هذه جنتنا الموقرة بالثمار‏.‏ فقد ضللنا إليها الطريق‏!‏‏.‏‏.‏ ولكنهم يعودون فيتأكدون‏:‏

‏{‏بل نحن محرومون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا هو الخبر اليقين‏!‏

والآن وقد حاقت بهم عاقبة المكر والتبييت، وعاقبة البطر والمنع، يتقدم أوسطهم وأعقلهم وأصلحهم ويبدو أنه كان له رأي غير رأيهم‏.‏

ولكنه تابعهم عندما خالفوه وهو فريد في رأيه، ولم يصر على الحق الذي رآه فناله الحرمان كما نالهم‏.‏ ولكنه يذكرهم ما كان من نصحه وتوجيهه‏:‏

‏{‏قال أوسطهم‏:‏ ألم أقل لكم‏:‏ لولا تسبحون‏}‏‏؟‏‏!‏

والآن فقط يسمعون للناصح بعد فوات الأوان‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ سبحان ربنا، إنا كنا ظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

وكما يتنصل كل شريك من التبعة عند ما تسوء العاقبة، ويتوجه باللوم إلى الآخرين‏.‏‏.‏ ها هم أولاء يصنعون‏:‏

‏{‏فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون‏}‏ ‏!‏

ثم ها هم أولاء يتركون التلاوم ليعترفوا جميعاً بالخطيئة أمام العاقبة الرديئة‏.‏ عسى أن يغفر الله لهم، ويعوضهم من الجنة الضائعة على مذبح البطر والمنع والكيد والتدبير‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ يا ويلنا‏!‏ إنا كنا طاغين‏.‏ عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون‏}‏‏.‏‏.‏

وقبل أن يسدل السياق الستار على المشهد الأخير نسمع التعقيب‏:‏

‏{‏كذلك العذاب‏.‏ ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وكذلك الابتلاء بالنعمة‏.‏ فليعلم المشركون أهل مكة‏.‏ ‏{‏إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة‏}‏ ولينظروا ماذا وراء الابتلاء‏.‏‏.‏ ثم ليحذروا ما هو أكبر من ابتلاء الدنيا وعذاب الدنيا‏:‏

‏{‏ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون‏}‏ ‏!‏

وكذلك يسوق إلى قريش هذه التجربة من واقع البيئة، ومما هو متداول بينهم من القصص، فيربط بين سنته في الغابرين وسنته في الحاضرين؛ ويلمس قلوبهم بأقرب الأساليب إلى واقع حياتهم‏.‏ وفي الوقت ذاته يشعر المؤمنين بأن ما يرونه على المشركين من كبراء قريش من آثار النعمة والثروة إنما هو ابتلاء من الله، له عواقبه، وله نتائجه‏.‏ وسنته أن يبتلي بالنعمة كما يبتلي بالبأساء سواء‏.‏ فأما المتبطرون المانعون للخير المخدوعون بما هم فيه من نعيم، فذلك كان مثلاً لعاقبتهم‏:‏ ‏{‏ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏ وأما المتقون الحذرون فلهم عند ربهم جنات النعيم‏:‏

‏{‏إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم‏}‏‏.‏‏.‏

وهو التقابل في العاقبة، كما أنه التقابل في المسلك والحقيقة‏.‏‏.‏ تقابل النقيضين اللذين اختلفت بهما الطريق، فاختلفت بهما خاتمة الطريق‏!‏

وعند هاتين الخاتمتين يدخل معهم في جدل لا تعقيد فيه كذلك ولا تركيب‏.‏ ويتحداهم ويحرجهم بالسؤال تلو السؤال عن أمور ليس لها إلا جواب واحد يصعب المغالطة فيه؛ ويهددهم في الآخرة بمشهد رهيب، وفي الدنيا بحرب من العزيز الجبار القوي الشديد‏:‏

‏{‏أفنجعل المسلمين كالمجرمين‏؟‏ ما لكم‏؟‏ كيف تحكمون‏؟‏ أم لكم كتاب فيه تدرسون‏؟‏ إن لكم فيه لما تخيرون‏؟‏ أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون‏؟‏ سلهم أيهم بذلك زعيم‏؟‏ أم لهم شركآء‏؟‏ فليأتوا بشركآئهم إن كانوا صادقين‏.‏

يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون‏.‏ خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة‏.‏ وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون‏.‏ فذرني ومن يكذب بهذا الحديث، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون‏.‏ وأملي لهم إن كيدي متين‏.‏ أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون‏؟‏ أم عندهم الغيب فهم يكتبون‏}‏‏؟‏‏!‏

والتهديد بعذاب الآخرة وحرب الدنيا يجيء كما نرى في خلال ذلك الجدل، وهذا التحدي‏.‏ فيرفع من حرارة الجدل، ويزيد من ضغط التحدي‏.‏

والسؤال الاستنكاري الأول‏:‏ ‏{‏أفنجعل المسلمين كالمجرمين‏؟‏‏}‏ يعود إلى عاقبة هؤلاء وهؤلاء التي عرضها في الآيات السابقة‏.‏ وهو سؤال ليس له إلا جواب واحد‏.‏‏.‏ لا‏.‏ لا يكون‏.‏ فالمسلمون المذعنون المستسلمون لربهم، لا يكونون أبداً كالمجرمين الذين يأتون الجريمة عن لجاج يسمهم بهذا الوصف الذميم‏!‏ وما يجوز في عقل ولا في عدل أن يتساوى المسلمون والمجرمون في جزاء ولا مصير‏.‏

ومن ثم يجيء السؤال الاستنكاري الآخر‏:‏ ‏{‏ما لكم‏؟‏ كيف تحكمون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ ماذا بكم‏؟‏ وعلام تبنون أحكامكم‏؟‏ وكيف تزنون القيم والأقدار‏؟‏ حتى يستوي في ميزانكم وحكمكم من يسلمون ومن يجرمون‏؟‏‏!‏

ومن الاستنكار والإنكار عليهم ينتقل إلى التهكم بهم والسخرية منهم‏:‏ ‏{‏أم لكم كتاب فيه تدرسون‏؟‏ إن لكم فيه لما تخيرون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ فهو التهكم والسخرية أن يسألهم إن كان لهم كتاب يدرسونه، هو الذي يستمدون منه مثل ذلك الحكم الذي لا يقبله عقل ولا عدل؛ وهو الذي يقول لهم‏:‏ إن المسلمين كالمجرمين‏!‏ إنه كتاب مضحك يوافق هواهم ويملق رغباتهم، فلهم فيه ما يتخيرون من الأحكام وما يشتهون‏!‏ وهو لا يرتكن إلى حق ولا إلى عدل، ولا إلى معقول أو معروف‏!‏

‏{‏أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ فإن لا يكن ذلك فهو هذا‏.‏ وهو أن تكون لهم مواثيق على الله، سارية إلى يوم القيامة، مقتضاها أن لهم ما يحكمون، وما يختارون وفق ما يشتهون‏!‏ وليس من هذا شيء‏.‏ فلا عهود لهم عند الله ولا مواثيق‏.‏ فعلام إذن يتكلمون‏؟‏‏!‏ وإلام إذن يستندون‏؟‏‏!‏

‏{‏سلهم أيهم بذلك زعيم‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ سلهم من منهم المتعهد بهذا‏؟‏ من منهم المتعهد بأن لهم على الله ما يشاءون، وأن لهم ميثاقاً عليه ساري المفعول إلى يوم القيامة أن لهم ما يحكمون‏؟‏‏!‏

وهو تهكم ساخر عميق بليغ يذيب الوجوه من الحرج والتحدي السافر المكشوف‏!‏

‏{‏أم لهم شركاء‏؟‏ فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين‏}‏‏.‏‏.‏

وهم كانوا يشركون بالله‏.‏ ولكن التعبير يضيف الشركاء إليهم لا لله‏.‏ ويتجاهل أن هناك شركاء‏.‏ ويتحداهم أن يدعوا شركاءهم هؤلاء إن كانوا صادقين‏.‏‏.‏ ولكن متى يدعونهم‏؟‏

‏{‏يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون‏.‏ خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة‏.‏ وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون‏}‏‏.‏

فيقفهم وجهاً لوجه أمام هذا المشهد كأنه حاضر اللحظة، وكأنه يتحداهم فيه أن يأتوا بشركائهم المزعومين‏.‏ وهذا اليوم حقيقة حاضرة في علم الله لا تتقيد في علمه بزمن‏.‏ واستحضار للمخاطبين على هذا النحو يجعل وقعها عميقاً حياً حاضراً في النفوس على طريقة القرآن الكريم‏.‏

والكشف عن الساق كناية في تعبيرات اللغة العربية المأثورة عن الشدة والكرب‏.‏ فهو يوم القيامة الذي يشمر فيه عن الساعد ويكشف فيه عن الساق، ويشتد الكرب والضيق‏.‏‏.‏ ويدعى هؤلاء المتكبرون إلى السجود فلا يملكون السجود، إما لأن وقته قد فات، وإما لأنهم كما وصفهم في موضع آخر يكونون‏:‏ ‏{‏مهطعين مقنعي رؤوسهم‏}‏ وكأن أجسامهم وأعصابهم مشدودة من الهول على غير إرادة منهم‏!‏ وعلى أية حال فهو تعبير يشي بالكرب والعجز والتحدي المخيف‏.‏‏.‏

ثم يكمل رسم هيئتهم‏:‏ ‏{‏خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة‏}‏‏.‏‏.‏ هؤلاء المتكبرون المتبجحون‏.‏ والأبصار الخاشعة والذلة المرهقة هما المقابلان للهامات الشامخة والكبرياء المنفوخة‏.‏ وهي تذكر بالتهديد الذي جاء في أول السورة‏:‏ ‏{‏سنسمه على الخرطوم‏}‏‏.‏‏.‏ فإيحاء الذلة والانكسار ظاهر عميق مقصود‏!‏

وبينما هم في هذا الموقف المرهق الذليل، يذكرهم بما جرهم إليه من إعراض واستكبار‏:‏ ‏{‏وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون‏}‏‏.‏‏.‏ قادرون على السجود‏.‏ فكانوا يأبون ويستكبرون‏.‏‏.‏ كانوا‏.‏ فهم الآن في ذلك المشهد المرهق الذليل‏.‏ والدنيا وراءهم‏.‏ وهم الآن يدعون إلى السجود فلا يستطيعون‏!‏

وبينما هم في هذا الكرب، يجيئهم التهديد الرعيب الذي يهد القلوب‏:‏

‏{‏فذرني ومن يكذب بهذا الحديث‏}‏‏.‏‏.‏

وهو تهديد مزلزل‏.‏‏.‏ والجبار القهار القوي المتين يقول للرسول صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «خل بيني وبين من يكذب بهذا الحديث‏.‏ وذرني لحربه فأنا به كفيل»

ومن هو هذا الذي يكذب بهذا الحديث‏؟‏

إنه ذلك المخلوق الصغير الهزيل المسكين الضعيف‏!‏ هذه النملة المضعوفة‏.‏ بل هذه الهباءة المنثورة‏.‏‏.‏ بل هذا العدم الذي لا يعني شيئاً أمام جبروت الجبار القهار العظيم‏!‏

فيا محمد‏.‏ خل بيني وبين هذا المخلوق‏.‏ واسترح أنت ومن معك من المؤمنين‏.‏ فالحرب معي لا معك ولا مع المؤمنين‏.‏ الحرب معي‏.‏ وهذا المخلوق عدوي، وأنا سأتولى أمره فدعه لي، وذرني معه، واذهب أنت ومن معك فاستريحوا‏!‏

أي هول مزلزل للمكذبين‏!‏ وأي طمأنينة للنبي والمؤمنين‏.‏‏.‏ المستضعفين‏.‏‏.‏‏.‏‏؟‏

ثم يكشف لهم الجبار القهار عن خطة الحرب مع هذا المخلوق الهزيل الصغير الضعيف‏!‏

‏{‏سنستدرجهم من حيث لا يعلمون‏.‏ وأملي لهم إن كيدي متين‏}‏‏.‏‏.‏

وإن شأن المكذبين، وأهل الأرض أجمعين، لأهون وأصغر من أن يدبر الله لهم هذه التدابير‏.‏‏.‏ ولكنه سبحانه يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان‏.‏ وليعلموا أن الأمان الظاهر الذي يدعه لهم هو الفخ الذي يقعون فيه وهم غارّون‏.‏

وأن إمهالهم على الظلم والبغي والإعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوأ مصير‏.‏ وأنه تدبير من الله ليحملوا أوزارهم كاملة، ويأتوا إلى الموقف مثقلين بالذنوب، مستحقين للخزي والرهق والتعذيب‏.‏‏.‏

وليس أكبر من التحذير، وكشف الاستدراج والتدبير، عدلاً ولا رحمة‏.‏ والله سبحانه يقدم لأعدائه وأعداء دينه ورسوله عدله ورحمته في هذا التحذير وذلك النذير‏.‏ وهم بعد ذلك وما يختارون لأنفسهم، فقد كشف القناع ووضحت الأمور‏!‏

إنه سبحانه يمهل ولا يهمل‏.‏ ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته‏.‏ وهو هنا يكشف عن طريقته وعن سنته التي قدرها بمشيئته‏.‏ ويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم ذرني ومن يكذب بهذا الحديث، وخل بيني وبين المعتزين بالمال والبنين والجاه والسلطان‏.‏ فسأملي لهم، واجعل هذه النعمة فخهم‏!‏ فيطمئن رسوله، ويحذر أعداءه‏.‏‏.‏ ثم يدعهم لذلك التهديد الرعيب‏!‏

وفي ظل مشهد القيامة المكروب وظل هذا التهديد المرهوب يكمل الجدل والتحدي والتعجيب من موقفهم الغريب‏:‏

‏{‏أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

فثقل الغرامة التي تطلبها منهم أجراً على الهداية هو الذي يدفعهم إلى الإعراض والتكذيب، ويجعلهم يؤثرون ذلك المصير البشع، على فداحة ما يؤدون‏؟‏‏!‏

‏{‏أم عندهم الغيب فهم يكتبون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ومن ثم فهم على ثقة مما في الغيب، فلا يخيفهم ما ينتظرهم فيه، فقد اطلعوا عليه وكتبوه وعرفوه‏؟‏ أو أنهم هم الذين كتبوا ما فيه‏.‏ فكتبوه ضامناً لما يشتهون‏؟‏

ولا هذا ولا ذاك‏؟‏ فما لهم يقفون هذا الموقف الغريب المريب‏؟‏‏!‏

وبذلك التعبير الموحي الرعيب‏:‏ ‏{‏فذرني ومن يكذب بهذا الحديث‏}‏‏.‏‏.‏ وبالإعلان عن خطة المعركة والكشف عن سنة الحرب بين الله وأعدائه المخدوعين‏.‏‏.‏ بهذا وذلك يخلي الله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المعركة بين الإيمان والكفر‏.‏ وبين الحق والباطل‏.‏ فهي معركته سبحانه، وهي حربه التي يتولاها بذاته‏.‏

والأمر كذلك في حقيقته، مهما بدا أن للنبي صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين دوراً في هذه الحرب أصيلاً‏.‏ إن دورهم حين ييسره الله لهم هو طرف من قدر الله في حربه مع أعدائه‏.‏ فهم أداة يفعل الله بها أو لا يفعل‏.‏ وهو في الحالين فعال لما يريد‏.‏ وهو في الحالين يتولى المعركة بذاته وفق سنته التي يريد‏.‏

وهذا النص نزل والنبي صلى الله عليه وسلم في مكة، والمؤمنون معه قلة لا تقدر على شيء‏.‏ فكانت فيه الطمأنينة للمستضعفين، والفزع للمغترين بالقوة والجاه والمال والبنين‏.‏ ثم تغيرت الأحوال والأوضاع في المدينة‏.‏ وشاء الله أن يكون للرسول ومن معه من المؤمنين دور ظاهر في المعركة‏.‏ ولكنه هنالك أكد لهم ذلك القول الذي قاله لهم وهم في مكة قلة مستضعفون‏.‏ وقال لهم وهم منتصرون في بدر‏:‏

‏{‏فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً، إن الله سميع عليم‏}‏ وذلك ليقر في قلوبهم هذه الحقيقة‏.‏ حقيقة أن المعركة معركته هو سبحانه‏.‏ وأن الحرب حربه هو سبحانه‏.‏ وأن القضية قضيته هو سبحانه‏.‏ وأنه حين يجعل لهم فيها دوراً فإنما ذلك ليبليهم منه بلاء حسناً‏.‏ وليكتب لهم بهذا البلاء أجراً‏.‏ أما حقيقة الحرب فهو الذي يتولاها‏.‏ وأما حقيقة النصر فهو الذي يكتبها‏.‏‏.‏ وهو سبحانه يجريها بهم وبدونهم‏.‏ وهم حين يخوضونها أداة لقدرته ليست هي الأداة الوحيدة في يده‏!‏

وهي حقيقة واضحة من خلال النصوص القرآنية في كل موضع، وفي كل حال، وفي كل وضع‏.‏ كما أنها هي الحقيقة التي تتفق مع التصور الإيماني لقدرة الله وقدره، ولسنته ومشيئته، ولحقيقة القدرة البشرية التي تنطلق لتحقيق قدر الله‏.‏‏.‏ أداة‏.‏‏.‏ ولن تزيد على أن تكون أداة‏.‏‏.‏

وهي حقيقة تسكب الطمأنينة في قلب المؤمن، في حالتي قوته وضعفه على السواء‏.‏ ما دام يخلص قلبه لله، ويتوكل في جهاده على الله‏.‏ فقوته ليست هي التي تنصره في معركة الحق والباطل والإيمان والكفر، إنما هو الله الذي يكفل له النصر‏.‏ وضعفه لا يهزمه لأن قوة الله من ورائه وهي التي تتولى المعركة وتكفل له النصر‏.‏ ولكن الله يملي ويستدرج ويقدر الأمور في مواقيتها وفق مشيئته وحكمته، ووفق عدله ورحمته‏.‏

كما أنها حقيقة تفزع قلب العدو، سواء كان المؤمن أمامه في حالة ضعف أم في حالة قوة‏.‏ فليس المؤمن هو الذي ينازله، إنما هو الله الذي يتولى المعركة بقوته وجبروته‏.‏ الله الذي يقول لنبيه ‏{‏فذرني ومن يكذب بهذا الحديث‏}‏ وخل بيني وبين هذا البائس المتعوس‏!‏ والله يملي ويستدرج فهو في الفخ الرعيب المفزع المخيف، ولو كان في أوج قوته وعدته‏.‏‏.‏ فهذه القوة هي ذاتها الفخ وهذه العدة هي ذاتها المصيدة‏.‏‏.‏ ‏{‏وأملي لهم إن كيدي متين‏}‏ ‏!‏ أما متى يكون‏.‏ فذلك علم الله المكنون‏!‏ فمن يأمن غيب الله ومكره‏؟‏ وهل يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون‏؟‏

وأمام هذه الحقيقة يوجه الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الصبر‏.‏ الصبر على تكاليف الرسالة‏.‏ والصبر على التواءات النفوس‏.‏ والصبر على الأذى والتكذيب‏.‏ الصبر حتى يحكم الله في الوقت المقدر كما يريد‏.‏ ويذكره بتجربة أخ له من قبل ضاق صدره بهذه التكاليف، فلولا أن تداركته نعمة الله لنبذ وهو مذموم‏:‏

‏{‏فاصبر لحكم ربك، ولا تكن كصاحب الحوت‏.‏ إذ نادى وهو مكظوم‏.‏ لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعرآء وهو مذموم‏.‏ فاجتباه ربه فجعله من الصالحين‏}‏‏.‏‏.‏

وصاحب الحوت هو يونس عليه السلام كما جاء في سورة الصافات‏.‏ وملخص تجربته التي يذكر الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم لتكون له زاداً ورصيدا، وهو خاتم النبيين، الذي سبقته تجارب النبيين أجمعين في حقل الرسالة، ليكون هو صاحب الحصاد الأخير، وصاحب الرصيد الأخير، وصاحب الزاد الأخير‏.‏

فيعينه هذا على عبئه الثقيل الكبير‏.‏ عبء هداية البشرية جميعها لا قبيلة ولا قرية ولا أمة‏.‏ وعبء هداية الأجيال جميعها لا جيل واحد ولا قرن واحد كما كانت مهمة الرسل قبله‏.‏ وعبء إمداد البشرية بعده بكل أجيالها وكل أقوامها بمنهج دائم ثابت صالح لتلبية ما يجد في حياتها من أحوال وأوضاع وتجارب‏.‏ وكل يوم يأتي بجديد‏.‏‏.‏

ملخص تلك التجربة أن يونس بن متى سلام الله عليه أرسله الله إلى أهل قرية‏.‏ قيل اسمها نينوى بالموصل‏.‏ فاستبطأ إيمانهم، وشق عليه تلكؤهم، فتركهم مغاضباً قائلاً في نفسه‏:‏ إن الله لن يضيق عليّ بالبقاء بين هؤلاء المتعنتين المعاندين، وهو قادر على أن يرسلني إلى قوم آخرين‏!‏ وقد قاده الغضب والضيق إلى شاطئ البحر، حيث ركب سفينته، فلما كانوا في وسط اللج ثقلت السفينة وتعرضت للغرق‏.‏ فأقرعوا بين الركاب للتخفف من واحد منهم لتخف السفينة‏.‏‏.‏ فكانت القرعة على يونس‏.‏‏.‏ فألقوه في اليم فابتلعه الحوت‏.‏

عندئذ نادى يونس وهو كظيم في هذا الكرب الشديد في الظلمات في بطن الحوت، وفي وسط اللجة، نادى ربه‏:‏ ‏{‏لا إله إلا أنت سبحانك‏!‏ إني كنت من الظالمين‏}‏ فتداركته نعمة من ربه، فنبذه الحوت على الشاطئ‏.‏‏.‏ لحماً بلا جلد‏.‏‏.‏ ذاب جلده في بطن الحوت‏.‏ وحفظ الله حياته بقدرته التي لا يقيدها قيد من مألوف البشر المحدود‏!‏

وهنا يقول‏:‏ إنه لولا هذه النعمة لنبذه الحوت وهو مذموم‏.‏ أي مذموم من ربه‏.‏ على فعلته‏.‏ وقلة صبره‏.‏ وتصرفه في شأن نفسه قبل أن يأذن الله له‏.‏ ولكن نعمة الله وقته هذا، وقبل الله تسبيحه واعترافه وندمه‏.‏ وعلم منه ما يستحق عليه النعمة والاجتباء‏.‏ ‏{‏فاجتباه ربه فجعله من الصالحين‏}‏‏.‏‏.‏

هذه هي التجربة التي مر بها صاحب الحوت‏.‏ يذكر الله بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم في موقف العنت والتكذيب‏.‏ بعد ما أخلاه من المعركة كما هي الحقيقة، وأمره بتركها له يتولاها كما يريد‏.‏ وقتما يريد‏.‏ وكلفه الصبر لحكم الله وقضائه في تحديد الموعد، وفي مشتقات الطريق حتى يحين الموعد المضروب‏!‏

إن مشقة الدعوة الحقيقية هي مشقة الصبر لحكم الله، حتى يأتي موعده، في الوقت الذي يريده بحكمته‏.‏ في الطريق مشقات كثيرة‏.‏ مشقات التكذيب والتعذيب‏.‏ ومشقات الالتواء والعناد‏.‏ ومشقات انتفاش الباطل وانتفاخه‏.‏ ومشقات افتتان الناس بالباطل المزهو المنتصر فيما تراه العيون‏.‏ ثم مشقات إمساك النفس على هذا كله راضية مستقرة مطمئنة إلى وعد الله الحق، لا ترتاب ولا تتردد في قطع الطريق، مهما تكن مشقات الطريق‏.‏