فصل: سورة آل عمران

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


سورة آل عمران

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 32‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ‏(‏2‏)‏ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏3‏)‏ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏4‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏5‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏6‏)‏ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏7‏)‏ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ‏(‏8‏)‏ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ‏(‏10‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏11‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏12‏)‏ قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏13‏)‏ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ ‏(‏14‏)‏ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏15‏)‏ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏16‏)‏ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ‏(‏17‏)‏ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏19‏)‏ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏20‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏21‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏22‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏23‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏26‏)‏ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏27‏)‏ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏28‏)‏ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏30‏)‏ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏31‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

إذا أخذنا بالروايات التي تقول‏:‏ إن الآيات الأولى من هذه السورة إلى بضع وثمانين آية منها قد نزلت في مناسبة قدوم الوفد من نصارى نجران اليمن، ومناظرته للرسول- صلى الله عليه وسلم- في أمر عيسى عليه السلام، فإن هذا الدرس بجملته يكون داخلا في إطار هذه المناسبة‏.‏ لولا أن هذه الروايات توقت مجيء ذلك الوفد بالسنة التاسعة للهجرة، وهي السنة المعروفة في السيرة باسم «عام الوفود» حيث كان الإسلام قد انتهى إلى درجة من القوة والشهرة في الجزيرة العربية كلها- وفيما وراءها كذلك- جعل الوفود من شتى بقاع الجزيرة تفد على النبي- صلى الله عليه وسلم- تخطب وده، أو تعرض التعاهد معه، أو تستجلي حقيقة أمره‏.‏

ونحن كما أشرنا فيما تقدم نحس أن الموضوع الذي تعالجه هذه الآيات، وطريقة علاجها له، كلاهما يرجح أن هذه الآيات نزلت مبكرة في السنوات الأولى للهجرة‏.‏‏.‏ ومن ثم فنحن أميل إلى اعتبار ما ورد في هذه السورة من حجاج وجدل مع أهل الكتاب، ونفي للشبهات التي تضمنتها معتقداتهم المنحرفة، أو التي تعمدوا نثرها حول صحة رسالة النبي- صلى الله عليه وسلم- وحقيقة عقيدة التوحيد الإسلامية، وكذلك ما اقتضاه كيد أهل الكتاب من تحذير للجماعة المسلمة وتثبيت‏.‏‏.‏ نحن أميل إلى اعتبار هذا كله غير مقيد بحادث وفد نجران في السنة التاسعة؛ وأنه كانت هناك مناسبات أخرى مبكرة هي التي نزل فيها هذا القرآن من هذه السورة‏.‏

ومن ثم سنمضي في استعراض هذه النصوص بوصفها مواجهة لأهل الكتاب غير مقيد بهذا الحادث الخاص المتأخر في التاريخ‏.‏

على أن هذه النصوص- كما قلنا في التمهيد للسورة- تكشف عن الصراع الأصيل الدائم بين الجماعة المسلمة وعقيدتها، وبين أهل الكتاب والمشركين وعقائدهم‏.‏‏.‏ هذا الصراع الذي لم يفتر منذ ظهور الإسلام- وبخاصة منذ مقدمه إلى المدينة وقيام دولته فيها- والذي اشترك فيه المشركون واليهود اشتراكاً عنيفاً يسجله القرآن تسجيلاً رائعاً دقيقاً‏.‏

ولا عجب أن يشاركهم بعض رجال الكنيسة في أطراف الجزيرة العربية في صورة من الصور‏.‏ ليس بعيداً عن الواقع أن يفد أفراد منهم أو جماعات لمناظرة النبي- صلى الله عليه وسلم- ومجادلته في المواضع التي يظهر فيها الاختلاف بين عقائدهم المنحرفة والعقيدة الجديدة القائمة على التوحيد الخالص الناصع- وبخاصة فيما يتعلق بصفة عيسى عليه السلام‏.‏

وفي هذا الدرس منذ ابتدائه تحديد لمفرق الطريق بين عقيدة التوحيد الخالصة الناصعة والشبهات والانحرافات‏.‏ وتهديد لمن يكفر بالفرقان وآيات الله فيه، واعتبارهم كفاراً ولو كانوا من أهل الكتاب‏!‏ وبيان لحال المؤمنين مع ربهم وموقفهم مما ينزل على رسله‏.‏

وهو بيان يحدد الموقف ويحسمه‏:‏ فللإيمان علاماته التي لا تخطئ وللكفر علاماته التي لا شبهة فيها كذلك‏!‏

‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏.‏ نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان‏.‏ إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد‏.‏ والله عزيز ذو انتقام‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخر متشابهات‏.‏ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا، ما يذكر إلا أولو الألباب‏}‏‏.‏

‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو- والملائكة وأولو العلم- قائماً بالقسط‏.‏ لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏.‏ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم‏.‏ بغياً بينهم‏.‏ ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب‏}‏‏.‏‏.‏

كما أن هذا الدرس يحمل تهديداً، لا خفاء في أنه يتضمن تعريضاً باليهود‏.‏ وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏ فحين يذكر قتل الأنبياء يتجه الذهن مباشرة إلى اليهود‏!‏

وكذلك النهي الوارد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏.‏ فالغالب أن المقصود به هم اليهود‏.‏ وإن كان من الجائز أن يشمل المشركين أيضاً‏.‏ فحتى هذا التاريخ كان بعض المسلمين لا يزالون يوالون أقاربهم من المشركين كما يوالون اليهود، فنهوا عن ذلك كله وحذروا هذا التحذير العنيف‏.‏ سواء كان الأولياء من اليهود أو من المشركين‏.‏ فكلهم سماهم ‏{‏الكافرين‏}‏ ‏!‏

وظاهر أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل للذين كفروا‏:‏ ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد‏.‏ قد كان لكم آية في فئتين التقتا‏:‏ فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يرونهم مثليهم رأي العين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏.‏ تتضمن الإشارة إلى أحداث غزوة بدر، وأن الخطاب فيها موجه إلى اليهود‏.‏ وقد وردت في هذا رواية عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال‏:‏ «لما أصاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة وجمع اليهود، وقال‏:‏ أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشاً، قالوا‏:‏ يا محمد‏:‏ لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش أغماراً لا يعرفون القتال‏.‏ إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا‏.‏ فأنزل الله تعالى في ذلك‏:‏ ‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم‏.‏‏.‏- إلى قوله‏:‏- ‏{‏فئة تقاتل في سبيل الله- أي ببدر- وأخرى كافرة‏}‏»

‏.‏ ‏(‏أخرجه أبو داود‏)‏‏.‏

كذلك يبدو من التلقين الموجه للرسول- صلى الله عليه وسلم- في آية‏:‏ ‏{‏فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله- ومن اتبعن- وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين‏:‏ ‏{‏أأسلمتم‏؟‏ فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ، والله بصير بالعباد‏}‏‏.‏‏.‏ أنه وإن كان هذا التلقين في صدد مناقشة حاضرة، إلا أنه تلقين عام شامل، ليواجه به النبي- صلى الله عليه وسلم- كل المخالفين له في العقيدة‏.‏

وظاهر من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد‏}‏ أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- حتى ذلك الحين لم يكن مأموراً بقتال أهل الكتاب، ولا بأخذ الجزية منهم، مما يرجح ما ذهبنا إليه من نزول هذه الآيات في وقت مبكر‏.‏

وهكذا نرى من طبيعة النصوص أنها مواجهة عامة غير مقيدة بمناسبة واحدة، هي مناسبة وفد نجران‏.‏ وقد تكون هذه إحدى المناسبات التي نزلت هذه النصوص لمواجهتها، وهي المناسبات الكثيرة المكررة في الصراع بين الإسلام وخصومه المتعددين في الجزيرة‏.‏‏.‏ وبخاصة اليهود في المدينة‏.‏‏.‏

ثم يتضمن هذا الدرس الأول إيضاحات قوية لأسس التصور الإسلامي من ناحية العقيدة، وإلى جانبها إيضاحات قوية كذلك في طبيعة هذه العقيدة وآثارها في الحياة الواقعية‏.‏ هذه الآثار الملازمة للإيمان بها‏.‏ فهي عقيدة التوحيد لله‏.‏ ومن ثم تجعل الدين هو الإسلام لله‏.‏ ولا دين سواه‏.‏‏.‏ الإسلام بمعنى الاستسلام والطاعة والاتباع‏.‏ الاستسلام لأمره، والطاعة لشرعه، والاتباع لرسوله ومنهجه‏.‏ فمن لم يستسلم ويطع ويتبع فليس بمسلم، ومن ثم فليس بصاحب دين يرضاه الله‏.‏ فالله لا يرضى إلا الإسلام‏.‏ والإسلام- كما قلنا- الاستسلام والطاعة والاتباع‏.‏‏.‏ ومن ثم يرد التعجيب والتشهير بأهل الكتاب الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ‏{‏ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون‏}‏‏.‏‏.‏ ويعتبر الإعراض عن تحكيم كتاب الله علامة الكفر التي تنفي دعوى الإيمان‏.‏ الإيمان بالله على الإطلاق‏!‏

والمقطع الثاني في هذا الدرس يدور كله حول هذه الحقيقة الكبيرة‏.‏‏.‏

فلنأخذ الآن في الاستعراض التفصيلي لنصوص هذا الدرس من السورة‏:‏

‏{‏ألم‏}‏‏.‏‏.‏

هذه الأحرف المقطعة‏:‏ ألفْ‏.‏ لام‏.‏ ميم‏.‏ نختار في تفسيرها- على سبيل الترجيح لا الجزم- ما اخترنا في مثلها في أول سورة البقرة‏:‏ «إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف؛ وهي في متناول المخاطبين به من العرب‏.‏ ولكنه- مع هذا- هو ذلك الكتاب المعجز، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ»‏.‏‏.‏

وهذا الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور- على سبيل الترجيح لا الجزم- يتمشى معنا بيسر في إدراك مناسبات هذه «الإشارة» في شتى السور‏.‏ ففي سورة البقرة كانت الإشارة تتضمن التحدي الذي ورد في السورة بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين‏.‏

‏.‏‏.‏ إلخ‏}‏‏.‏‏.‏

فأما هنا في سورة «آل عمران» فتبدو مناسبة أخرى لهذه «الإشارة»‏.‏‏.‏ هي أن هذا الكتاب منزل من الله الذي لا إله إلا هو‏.‏ وهو مؤلف من أحرف وكلمات شأنه في هذا شأن ما سبقه من الكتب السماوية التي يعترف بها أهل الكتاب- المخاطبون في السورة- فليس هناك غرابة في أن ينزل الله هذا الكتاب على رسوله بهذه الصورة‏.‏

‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏.‏ نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، وأنزل الفرقان‏.‏ إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد، والله عزيز ذو انتقام‏.‏ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏.‏ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء، لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏.‏ هو الذي أنزل عليك الكتاب‏:‏ منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات‏.‏ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله- وما يعلم تأويله إلا الله- والراسخون في العلم يقولون‏:‏ آمنا به، كل من عند ربنا- وما يذكر إلا أولو الألباب- ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب‏.‏ ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد‏}‏‏.‏‏.‏

هكذا تبدأ السورة في مواجهة أهل الكتاب المنكرين لرسالة النبي- صلى الله عليه وسلم- وهم بحكم معرفتهم بالنبوات والرسالات والكتب المنزلة والوحي من الله، كانوا أولى الناس بأن يكونوا أول المصدقين المسلمين‏.‏ لو أن الأمر أمر اقتناع بحجة ودليل‏!‏

هكذا تبدأ السورة في مواجهتهم بهذا الشوط القاطع، الفاصل في أكبر الشبهات التي تحيك في صدورهم، أو التي يتعمدون نثرها في صدور المسلمين تعمداً‏.‏ والكاشف لمداخل هذه الشبهات في القلوب ومساربها‏.‏ والمحدد لموقف المؤمنين الحقيقيين من آيات الله وموقف أهل الزيغ والانحراف‏!‏ والمصور لحال المؤمنين من ربهم والتجائهم إليه، وتضرعهم له، ومعرفتهم بصفاته تعالى‏:‏

‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا التوحيد الخالص الناصع هو مفرق الطريق بين عقيدة المسلم وسائر العقائد، سواء منها عقائد الملحدين والمشركين، وعقائد أهل الكتاب المنحرفين‏:‏ يهوداً أو نصارى‏.‏ على اختلاف مللهم ونحلهم جميعاً‏.‏ كما أنه هو مفرق الطريق بين حياة المسلم وحياة سائر أهل العقائد في الأرض‏.‏ فالعقيدة هنا تحدد منهج الحياة ونظامها تحديداً كاملاً دقيقاً‏.‏

‏{‏الله لا إله إلا هو‏}‏‏.‏‏.‏

فلا شريك له في الألوهية‏.‏‏.‏ ‏{‏الحي‏}‏‏.‏

‏.‏ الذي يتصف بحقيقة الحياة الذاتية المطلقة من كل قيد فلا شبيه له في صفته‏.‏‏.‏ ‏{‏القيوم‏}‏‏.‏‏.‏ الذي به تقوم كل حياة وبه يقوم كل وجود؛ والذي يقوم كذلك على كل حياة وعلى كل وجود‏.‏ فلا قيام لحياة في هذا الكون ولا وجود إلا به سبحانه‏.‏

وهذا مفرق الطريق في التصور والاعتقاد‏.‏ ومفرق الطريق في الحياة والسلوك‏.‏

مفرق الطريق في التصور والاعتقاد‏.‏ بين تفرد الله- سبحانه- بصفة الألوهية وذلك الركام من التصورات الجاهلية‏:‏ سواء في ذلك تصورات المشركين- وقتها في الجزيرة- وتصورات اليهود والنصارى- وبخاصة تصورات النصارى‏.‏

ولقد حكى القرآن عن اليهود أنهم كانوا يقولون‏:‏ عزير ابن الله‏.‏ كما أن الانحراف الذي سجله ما يعتبره اليهود اليوم «الكتاب المقدس» يتضمن شيئاً كهذا‏.‏ كما جاء في سفر التكوين‏:‏ الإصحاح السادس‏.‏

فأما انحرافات التصورات المسيحية فقد حكى القرآن منها قولهم‏:‏ إن الله ثالث ثلاثة‏.‏ وقولهم‏:‏ إن الله هو المسيح بن مريم‏.‏ واتخاذهم المسيح وأمه إلهين من دون الله‏.‏ واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله‏.‏‏.‏

وقد جاء في كتاب «الدعوة إلى الإسلام» تأليف أرنولد، شيء عن هذه التصورات‏.‏‏.‏

«ولقد أفلح جستنيان قبل الفتح الإسلامي بمائة عام في أن يكسب الإمبراطورية الرومانية مظهراً من مظاهر الوحدة‏.‏ ولكن سرعان ما تصدعت بعد موته، وأصبحت في حاجة ماسة إلى شعور قومي مشترك، يربط بين الولايات وحاضرة الدولة‏.‏ أما هرقل فقد بذل جهوداً لم تصادف نجاحاً كاملاً في إعادة ربط الشام بالحكومة المركزية‏.‏ ولكن ما اتخذه من وسائل عامة في سبيل التوفيق قد أدى لسوء الحظ إلى زيادة الانقسام بدلاً من القضاء عليه‏.‏ ولم يكن ثمة ما يقوم مقام الشعور بالقومية سوى العواطف الدينية‏.‏ فحاول بتفسيره العقيدة تفسيراً يستعين به على تهدئة النفوس أن يقف ما يمكن أن يشجر بعد ذلك بين الطوائف المتناحرة من خصومات؛ وأن يوحد بين الخارجين على الدين وبين الكنيسة الأرثوذكسية، وبينهم وبين الحكومة المركزية‏.‏‏.‏ وكان مجمع خلقيدونية قد أعلن في سنة 451 ميلادية أن المسيح ينبغي أن يعترف بأنه يتمثل في طبيعتين لا اختلاط بينهما، ولا تغير، ولا تجزؤ، ولا انفصال‏.‏ ولا يمكن أن ينتفي خلافهما بسبب اتحادهما‏.‏ بل الأحرى أن تحتفظ كل طبيعة منهما بخصائصها؛ وتجتمع في أقنوم واحد، وجسد واحد‏.‏ لا كما لو كانت متجزئة أو منفصلة في أقنومين‏.‏ بل متجمعة في أقنوم واحد هو ذلك الابن والله والكلمة‏.‏‏.‏ وقد رفض اليعاقبة هذا المجمع، وكانوا لا يعترفون في المسيح إلا بطبيعة واحدة‏.‏ وقالوا‏:‏ إنه مركب الأقانيم‏.‏‏.‏ له كل الصفات الإلهية والبشرية ولكن المادة التي تحمل هذه الصفات لم تعد ثنائية بل أصبحت وحدة مركبة الأقانيم وكان الجدل قد احتدم قرابة قرنين من الزمان بين طائفة الأرثوذكس وبين اليعاقبة الذين ازدهروا بوجه خاص في مصر والشام والبلاد الخارجة عن نطاق الإمبراطورية البيزنطية، في الوقت الذي سعى فيه هرقل في إصلاح ذات البين عن طريق المذهب القائل بأن للمسيح مشيئة واحدة‏.‏

ففي الوقت الذي نجد فيه هذا المذهب يعترف بوجود الطبيعتين، إذا به يتمسك بوحدة الأقنوم في حياة المسيح البشرية‏.‏ وذلك بإنكاره وجود نوعين من الحياة في أقنوم واحد‏.‏ فالمسيح الواحد، الذي هو ابن الله، يحقق الجانب الإنساني والجانب الإلهي بقوة إلهية إنسانية واحدة ومعنى هذا أنه لا يوجد سوى إرادة واحدة في الكلمة المتجسدة‏.‏‏.‏ لكن هرقل قد لقي المصير الذي انتهى إليه كثيرون جداً ممن كانوا يأملون أن يقيموا دعائم السلام‏.‏ ذلك بأن الجدل لم يحتدم مرة أخرى كأعنف ما يكون فحسب، بل إن هرقل نفسه قد وصم بالإلحاد، وجر على نفسه سخط الطائفتين على السواء «

كذلك يقول باحث مسيحي آخر هو» كانون تايلور «عن الحالة بين نصارى الشرق عند البعثة المحمدية‏:‏» وكان الناس في الواقع مشركين يعبدون زمرة من الشهداء والقديسين والملائكة «‏.‏

أما انحرافات عقائد المشركين فقد حكى القرآن عنها‏:‏ عبادتهم للجن والملائكة والشمس والقمر والأصنام‏.‏ وكان أقل عقائدهم انحرافاً عقيدة من يقولون عن هذه الآلهة‏:‏ ‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏}‏ فأمام هذا الركام من التصورات الفاسدة والمنحرفة التي أشرنا إليها هذه الإشارات الخاطفة جاء الإسلام في هذه السورة- ليعلنها ناصعة واضحة صريحة حاسمة‏:‏

‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏‏.‏

فكانت مفرق الطريق في التصور والاعتقاد‏.‏‏.‏ كذلك كانت مفرق الطريق في الحياة والسلوك‏.‏‏.‏

إن الذي يمتلئ شعوره بوجود الله الواحد الذي لا إله إلا هو‏.‏ الحي الواحد الذي لا حي غيره‏.‏ القيوم الواحد الذي به تقوم كل حياة أخرى وكل وجود، كما أنه هو الذي يقوم على كل حي وكل موجود‏.‏‏.‏

إن الذي يمتلئ شعوره بوجود الله الواحد الذي هذه صفته، لا بد أن يختلف منهج حياته ونظامها من الأساس عن الذي تغيم في حسه تلك التصورات التائهة المهوشة‏.‏ فلا يجد في ضميره أثراً لحقيقة الألوهية الفاعلة المتصرفة في حياته‏!‏

إنه مع التوحيد الواضح الخالص لا مكان لعبودية إلا لله‏.‏ ولا مكان للاستمداد والتلقي إلا من الله‏.‏ لا في شريعة أو نظام، ولا في أدب أو خلق‏.‏ ولا في اقتصاد أو اجتماع‏.‏ ولا مكان كذلك للتوجه لغير الله في شأن من شؤون الحياة، وما بعد الحياة‏.‏‏.‏ أما في تلك التصورات الزائغة المنحرفة المهزوزة الغامضة فلا متجه ولا قرار، ولا حدود لحرام أو حلال، ولا لخطإ أو صواب‏:‏ في شرع أو نظام، في أدب أو خلق، وفي معاملة أو سلوك‏.‏‏.‏ فكلها‏.‏‏.‏ كلها‏.‏

‏.‏ إنما تتحدد وتتضح عندما تتحدد الجهة التي منها التلقي، وإليها التوجه، ولها الطاعة والعبودية والاستسلام‏.‏

ومن ثم كانت هذه المواجهة بذلك الحسم في مفرق الطريق‏:‏

‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏‏.‏‏.‏

ومن ثم كان التميز والتفرد لطبيعة الحياة الإسلامية- لا لطبيعة الاعتقاد وحده- فالحياة الإسلامية بكل مقوماتها إنما تنبثق انبثاقاً من حقيقة هذا التصور الإسلامي عن التوحيد الخالص الجازم‏.‏ التوحيد الذي لا يستقيم عقيدة في الضمير ما لم تتبعه آثاره العملية في الحياة‏.‏ من تلقي الشريعة والتوحيد من الله في كل شأن من شؤون الحياة‏.‏ والتوجه كذلك إلى الله في كل نشاط وكل اتجاه‏.‏

وعقب هذا الإيضاح الحاسم في مفرق الطريق، بإعلان الوحدانية المطلقة لذات الله وصفاته، يجيء الحديث عن وحدانية الجهة التي تتنزل منها الأديان والكتب والرسالات‏.‏ أي التي يتنزل منها المنهج الذي يصرف حياة البشر في جميع الأجيال‏:‏

‏{‏نزل عليك الكتاب بالحق- مصدقاً لما بين يديه- وأنزل التوراة والإنجيل من قبل- هدى للناس- وأنزل الفرقان‏.‏ إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد‏.‏ والله عزيز ذو انتقام‏}‏‏.‏

وتتضمن هذه الآية في شطرها الأول جملة حقائق أساسية في التصور الاعتقادي، وفي الرد كذلك على أهل الكتاب وغيرهم من المنكرين لرسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- وصحة ما جاء به من عند الله‏.‏

فهي تقرر وحدة الجهة التي تتنزل منها الكتب على الرسل‏.‏ فالله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، هو الذي نزل هذا القرآن- عليك- كما أنه أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من قبل‏.‏ وإذن فلا اختلاط ولا امتزاج بين الألوهية والعبودية‏.‏ إنما هناك إله واحد ينزل الكتب على المختارين من عباده‏.‏ وهناك عبيد يتلقون‏.‏ وهم عبيد لله ولو كانوا أنبياء مرسلين‏.‏

وهي تقرر وحدة الدين ووحدة الحق الذي تتضمنه الكتب المنزلة من عند الله‏.‏ فهذا الكتاب نزله- عليك- ‏{‏بالحق‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏مصدقاً لما بين يديه‏}‏‏.‏‏.‏ من التوراة والإنجيل‏.‏‏.‏ وكلها تستهدف غاية واحدة‏:‏ ‏{‏هدى للناس‏}‏‏.‏‏.‏ وهذا الكتاب الجديد «فرقان» بين الحق الذي تضمنته الكتب المنزلة، والانحرافات والشبهات التي لحقت بها بفعل الأهواء والتيارات الفكرية والسياسية ‏(‏التي رأينا نموذجاً منها فيما نقلناه عن الكاتب المسيحي سيرت‏.‏ و‏.‏ آرنولد في كتاب «الدعوة إلى الإسلام»‏)‏‏.‏

وهي تقرر- ضمناً- أنه لا وجه لتكذيب أهل الكتاب للرسالة الجديدة‏.‏ فهي سائرة على نمط الرسالات قبلها‏.‏ وكتابها نزل بالحق كالكتب المنزلة‏.‏ ونزل على رسول من البشر كما نزلت الكتب على رسل من البشر‏.‏ وهو مصدق لما بين يديه من كتب الله، يضم جناحيه على «الحق» الذي تضم جوانحها عليه‏.‏ وقد نزله من يملك تنزيل الكتب‏.‏

‏.‏ فهو منزل من الجهة التي لها «الحق» في وضع منهاج الحياة للبشر، وبناء تصوراتهم الاعتقادية، وشرائعهم وأخلاقهم وآدابهم في الكتاب الذي ينزله على رسوله‏.‏

ثم تتضمن الآية في شطرها الثاني التهديد الرعيب للذين كفروا بآيات الله، وتلوح لهم بعزة الله وقوته وشدة عذابه وانتقامه‏.‏‏.‏ والذين كفروا بآيات الله هم الذين كذبوا بهذا الدين الواحد بإطلاقه‏.‏‏.‏ وأهل الكتاب الذين انحرفوا عن كتاب الله الصحيح المنزل إليهم من قبل، فقادهم هذا الانحراف إلى التكذيب بالكتاب الجديد- وهو فرقان واضح مبين- هم أول المعنيين هنا بصفة الكفر، وهم أول من يتوجه إليهم التهديد الرعيب بعذاب الله الشديد وانتقامه الأكيد‏.‏‏.‏

وفي صدد التهديد بالعذاب والانتقام يؤكد لهم علم الله الذي لا يند عنه شيء، فلا خفاء عليه ولا إفلات منه‏:‏

‏{‏إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏}‏‏.‏‏.‏

وتوكيد العلم المطلق الذي لا يخفى عليه شيء، وإثبات هذه الصفة لله- سبحانه- في هذا المقام‏.‏‏.‏ هذا التوكيد يتفق أولاً مع وحدانية الألوهية والقوامة التي افتتح بها السياق‏.‏ كما يتفق مع التهديد الرعيب في الآية السابقة‏.‏‏.‏ فلن يفلت ‏{‏شيء‏}‏ من علم الله ‏{‏في الأرض ولا في السماء‏}‏ بهذا الشمول والإطلاق‏.‏ ولن يمكن إذن ستر النوايا عليه، ولا إخفاء الكيد عنه‏.‏ ولن يمكن كذلك التفلت من الجزاء الدقيق، ولا التهرب من العلم اللطيف العميق‏.‏

وفي ظلال العلم اللطيف الشامل الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يلمس المشاعر الإنسانية لمسة رفيقة عميقة، تتعلق بالنشأة الإنسانية‏.‏ النشأة المجهولة في ظلام الغيب وظلام الأرحام، حيث لا علم للإنسان ولا قدرة ولا إدراك‏:‏

‏{‏هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء‏.‏ لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

هكذا ‏{‏يصوركم‏}‏‏.‏‏.‏ يمنحكم الصورة التي يشاء؛ ويمنحكم الخصائص المميزة لهذه الصورة‏.‏ وهو وحده الذي يتولى التصوير، بمحض إرادته، ومطلق مشيئته‏:‏ ‏{‏كيف يشاء‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏العزيز‏}‏‏.‏‏.‏ ذو القدرة والقوة على الصنع والتصوير ‏{‏الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏ الذي يدبر الأمر بحكمته فيما يصور ويخلق بلا معقب ولا شريك‏.‏

وفي هذه اللمسة تجلية لشبهات النصارى في عيسى عليه السلام ونشأته ومولده‏.‏ فالله هو الذي صور عيسى‏.‏‏.‏ ‏{‏كيف يشاء‏}‏ لا أن عيسى هو الرب‏.‏ أو هو الله‏.‏ أو هو الابن‏.‏ أو هو الأقنوم اللاهوتي الناسوتي‏.‏ إلى آخر ما انتهت إليه التصوارت المنحرفة الغامضة المجانبة لفكرة التوحيد الناصعة الواضحة اليسيرة التصور القريبة الإدراك‏!‏

بعدئذ يكشف الذين في قلوبهم زيغ، الذين يتركون الحقائق القاطعة في آيات القرآن المحكمة، ويتبعون النصوص التي تحتمل التأويل، ليصوغوا حولها الشبهات؛ ويصور سمات المؤمنين حقاً وإيمانهم الخالص وتسليمهم لله في كل ما يأتيهم من عنده بلا جدال‏:‏

‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب‏.‏

منه آيات محكمات هن أم الكتاب‏.‏ وأخر متشابهات‏.‏ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله‏.‏ وما يعلم تأويله إلا الله‏.‏ والراسخون في العلم يقولون‏:‏ آمنا به‏.‏ كل من عند ربنا- وما يذكر إلا أولو الألباب- ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة‏.‏ إنك أنت الوهاب‏.‏ ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه‏.‏ إن الله لا يخلف الميعاد‏}‏‏.‏‏.‏

وقد روى أن نصارى نجران قالوا للرسول- صلى الله عليه وسلم- ألست تقول عن المسيح‏:‏ إنه كلمة الله وروحه‏؟‏ يريدون أن يتخذوا من هذا التعبير أداة لتثبيت معتقداتهم عن عيسى- عليه السلام- وأنه ليس من البشر، إنما هو روح الله- على ما يفهمون هم من هذا التعبير- بينما هم يتركون الآيات القاطعة المحكمة التي تقرر وحدانية الله المطلقة، وتنفي عنه الشريك والولد في كل صورة من الصور‏.‏‏.‏ فنزلت فيهم هذه الآية، تكشف محاولتهم هذه في استغلال النصوص المجازية المصورة، وترك النصوص التجريدية القاطعة‏.‏

على أن نص الآية أعم من هذه المناسبة؛ فهي تصور موقف الناس على اختلافهم من هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه- صلى الله عليه وسلم- متضمناً حقائق التصور الإيماني، ومنهاج الحياة الإسلامية؛ ومتضمناً كذلك أموراً غيبية لا سبيل للعقل البشري أن يدركها بوسائله الخاصة، ولا مجال له لأن يدرك منها أكثر مما تعطيه النصوص بذاتها‏.‏

فأما الأصول الدقيقة للعقيدة والشريعة فهي مفهومة المدلولات قاطعة الدلالة، مدركة المقاصد- وهي أصل هذا الكتاب- وأما السمعيات والغيبيات- ومنها نشأة عيسى عليه السلام ومولده- فقد جاءت للوقوف عند مدلولاتها القريبة والتصديق بها لأنها صادرة من هذا المصدر «الحق» ويصعب إدراك ماهياتها وكيفياتها، لأنها بطبيعتها فوق وسائل الإدراك الإنساني المحدود‏.‏

وهنا يختلف الناس- حسب استقامة فطرتهم أو زيغها- في استقبال هذه الآيات وتلك‏.‏ فأما الذين في قلوبهم زيغ وانحراف وضلال عن سواء الفطرة، فيتركون الأصول الواضحة الدقيقة التي تقوم عليها العقيدة والشريعة والمنهاج العملي للحياة، ويجرون وراء المتشابه الذي يعوّل في تصديقه على الإيمان بصدق مصدره، والتسليم بأنه هو الذي يعلم «الحق» كله، بينما الإدراك البشري نسبي محدود المجال‏.‏ كما يعول فيه على استقامة الفطرة التي تدرك بالإلهام المباشر صدق هذا الكتاب كله، وأنه نزل بالحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏.‏‏.‏ يجرون وراء المتشابه لأنهم يجدون فيه مجالاً لإيقاع الفتنة بالتأويلات المزلزلة للعقيدة، والاختلافات التي تنشأ عن بلبلة الفكر، نتيجة إقحامه فيما لا مجال للفكر في تأويله‏.‏‏.‏ ‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏}‏‏.‏‏.‏

وأما الراسخون في العلم، الذين بلغ من علمهم أن يعرفوا مجال العقل وطبيعة التفكير البشري، وحدود المجال الذي يملك العمل فيه بوسائله الممنوحة له‏.‏

‏.‏ أما هؤلاء فيقولون في طمأنينة وثقة‏:‏

‏{‏آمنا به، كل من عند ربنا‏}‏‏.‏‏.‏

يدفعهم إلى هذه الطمأنينة، أنه من عند ربهم‏.‏ فهو إذن حق وصدق‏.‏ وما يقرره الله صادق بذاته‏.‏ وليس من وظيفة العقل البشري ولا في طوقه أن يبحث عن أسبابه وعلله، كما أنه ليس في طوقه أن يدرك ماهيته وطبيعة العلل الكامنة وراءه‏.‏

والراسخون في العلم يطمئنون ابتداء إلى صدق ما يأتيهم من عند الله‏.‏ يطمئنون إليه بفطرتهم الصادقة الواصلة‏.‏‏.‏ ثم لا يجدون من عقولهم شكاً فيه كذلك؛ لأنهم يدركون أن من العلم ألا يخوض العقل فيما لا مجال فيه للعلم، وفيما لا تؤهله وسائله وأدواته الإنسانية لعلمه‏.‏‏.‏

وهذا تصوير صحيح للراسخين في العلم‏.‏‏.‏ فما يتبجح وينكر إلا السطحيون الذين تخدعهم قشور العلم، فيتوهمون أنهم أدركوا كل شيء، وأن ما لم يدركوه لا وجود له؛ أو يفرضون إدراكهم على الحقائق، فلا يسمحون لها بالوجود إلا على الصورة التي أدركوها‏.‏ ومن ثم يقابلون كلام الله المطلق بمقررات عقلية لهم‏!‏ صاغتها عقولهم المحدودة‏!‏ أما العلماء حقاً فهم أكثر تواضعاً، وأقرب إلى التسليم بعجز العقل البشري عن إدراك حقائق كثيرة تكبر طاقته وترتفع عليها‏.‏ كما أنهم أصدق فطرة فما تلبث فطرتهم الصادقة أن تتصل بالحق وتطمئن إليه‏.‏

‏{‏وما يذكر إلا أولو الألباب‏}‏‏.‏‏.‏

وكأنه ليس بين أولي الألباب وإدراك الحق إلا أن يتذكروا‏.‏‏.‏ فإذا الحق المستقر في فطرتهم الموصولة بالله، ينبض ويبرز ويتقرر في الألباب‏.‏

عندئذ تنطلق ألسنتهم وقلوبهم في دعاء خاشع وفي ابتهال منيب‏:‏ أن يثبتهم على الحق، وألا يزيغ قلوبهم بعد الهدى، وأن يسبغ عليهم رحمته وفضله‏.‏‏.‏ ويتذكرون يوم الجمع الذي لا ريب فيه، والميعاد الذي لا خلف له‏:‏

‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا‏.‏ وهب لنا من لدنك رحمة‏.‏ إنك أنت الوهاب‏.‏ ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه‏.‏ إن الله لا يخلف الميعاد‏}‏‏.‏‏.‏

هذا هو حال الراسخين في العلم مع ربهم؛ وهو الحال اللائق بالإيمان؛ المنبثق من الطمأنينة لقول الله ووعده؛ والثقة بكلمته وعهده؛ والمعرفة برحمته وفضله؛ والإشفاق مع هذا من قضائه المحكم وقدره المغيب؛ والتقوى والحساسية واليقظة التي يفرضها الإيمان على قلوب أهله، فلا تغفل ولا تغتر ولا تنسى في ليل أو نهار‏.‏‏.‏

والقلب المؤمن يدرك قيمة الاهتداء بعد الضلال‏.‏ قيمة الرؤية الواضحة بعد الغبش‏.‏ قيمة الاستقامة على الدرب بعد الحيرة‏.‏ قيمة الطمأنينة للحق بعد الأرجحة‏.‏ قيمة التحرر من العبودية للعبيد بالعبودية لله وحده‏.‏ قيمة الاهتمامات الرفيعة الكبيرة بعد اللهو بالاهتمامات الصغيرة الحقيرة‏.‏‏.‏ ويدرك أن الله منحه بالإيمان كل هذا الزاد‏.‏‏.‏ ومن ثم يشفق من العودة إلى الضلال، كما يشفق السائر في الدرب المستقيم المنير أن يعود إلى التخبط في المنعرجات المظلمة‏.‏

وكما يشفق من ذاق نداوة الظلال أن يعود إلى الهجير القائظ والشواظ‏!‏ وفي بشاشة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق جفاف الإلحاد وشقاوته المريرة‏.‏ وفي طمأنينة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق شقوة الشرود والضلال‏!‏

ومن ثم يتجه المؤمنون إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع‏:‏

‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا‏}‏‏.‏‏.‏

وينادون رحمة الله التي أدركتهم مرة بالهدى بعد الضلال، ووهبتهم هذا العطاء الذي لا يعدله عطاء‏:‏

‏{‏وهب لنا من لدنك رحمة‏.‏ إنك أنت الوهّاب‏}‏‏.‏‏.‏

وهم بوحي إيمانهم يعرفون أنهم لا يقدرون على شيء إلا بفضل الله ورحمته‏.‏‏.‏ وأنهم لا يملكون قلوبهم فهي في يد الله‏.‏‏.‏ فيتجهون إليه بالدعاء أن يمدهم بالعون والنجاة‏.‏

عن عائشة- رضي الله- عنها قالت‏:‏ «كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يدعو‏:‏ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قلت‏:‏ يا رسول الله، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء‏.‏ فقال‏:‏ ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن‏.‏ إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه»‏.‏

ومتى استشعر القلب المؤمن وقع المشيئة على هذا النحو لم يكن أمامه إلا أن يلتصق بركن الله في حرارة‏.‏ وأن يتشبث بحماه في إصرار، وأن يتجه إليه يناشده رحمته وفضله، لاستبقاء الكنز الذي وهبه، والعطاء الذي أولاه‏!‏

بعد هذا البيان يتجه إلى تقرير مصير الذين كفروا، وسنة الله التي لا تتخلف في أخذهم بذنوبهم، وإلى تهديد الذين يكفرون من أهل الكتاب، ويقفون لهذا الدين، ويلقن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن ينذرهم، ويذكرهم ما رأوه بأعينهم في غزوة بدر من نصر القلة المؤمنة على حشود الكافرين‏:‏

‏{‏إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً، وأولئك هم وقود النار‏.‏ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا‏:‏ فأخذهم الله بذنوبهم، والله شديد العقاب‏.‏ قل للذين كفروا‏.‏ ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد‏.‏ قد كان لكم آية في فئتين التقتا‏:‏ فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يرونهم مثليهم رأي العين، والله يؤيد بنصره من يشاء، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار‏}‏‏.‏‏.‏

إن هذه الآيات واردة في صدد خطاب بني إسرائيل، وتهديدهم بمصير الكفار قبلهم وبعدهم‏.‏ وفيها لفتة لطيفة عميقة الدلالة كذلك‏.‏‏.‏ فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون‏.‏‏.‏ وكان الله سبحانه قد أهلك آل فرعون وأنجى بني إسرائيل‏.‏ ولكن هذا لا يمنحهم حقاً خاصاً إذا هم ضلوا وكفروا، ولا يعصمهم أن يوصموا بالكفر إذا هم انحرفوا، وأن ينالوا جزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما نال آل فرعون الذين أنجاهم الله منهم‏!‏

كذلك يذكرهم مصارع قريش في بدر- وهم كفار- ليقول لهم‏:‏ إن سنة الله لا تتخلف‏.‏

وإنه لا يعصمهم عاصم من أن يحق عليهم ما حق على قريش‏.‏ فالعلة هي الكفر‏.‏ وليس لأحد على الله دالة، ولا له شفاعة إلا بالإيمان الصحيح‏!‏

‏{‏إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً، وأولئك هم وقود النار‏}‏‏.‏‏.‏

والأموال والأولاد مظنة حماية ووقاية؛ ولكنهما لا يغنيان شيئاً في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه، لأنه لا إخلاف لميعاد الله‏.‏ وهم فيه‏:‏ ‏{‏وقود النار‏}‏‏.‏‏.‏ بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص «الإنسان» ومميزاته، ويصورهم في صورة الحطب والخشب وسائر «وقود النار»‏.‏‏.‏

لا بل إن الأموال والأولاد، ومعهما الجاه والسلطان، لا تغني شياً في الدنيا‏:‏

‏{‏كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا، فأخذهم الله بذنوبهم، والله شديد العقاب‏}‏‏.‏‏.‏

وهو مثل مضى في التاريخ مكروراً، وقصة الله في هذا الكتاب تفصيلاً‏:‏ وهو يمثل سنة الله في المكذبين بآياته، يجريها حيث يشاء‏.‏ فلا أمان إذن ولا ضمان لمكذب بآيات الله‏.‏

وإذن فالذين كفروا وكذبوا بدعوة محمد- صلى الله عليه وسلم- وآيات الكتاب الذي نزله عليه بالحق، معرضون لهذا المصير في الدنيا والآخرة سواء‏.‏‏.‏ ومن ثم يلقن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن ينذرهم هذا المصير في الدارين، وأن يضرب لهم المثل بيوم بدر القريب، فلعلهم نسوا مثل فرعون والذين من قبله في التكذيب والأخذ الشديد‏:‏

‏{‏قل للذين كفروا‏:‏ ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد‏.‏ قد كان لكم آية في فئتين التقتا‏:‏ فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يرونهم مثليهم رأي العين‏.‏ والله يؤيد بنصره من يشاء‏.‏ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار‏}‏‏.‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يرونهم مثليهم رأي العين‏}‏ يحتمل تفسيرين‏:‏ فإما أن يكون ضمير «يرون» راجعاً إلى الكفار، وضمير «هم» راجعاً إلى المسلمين، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين ‏{‏مثليهم‏}‏‏.‏‏.‏ وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم‏.‏

وإما أن يكون العكس، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين ‏{‏مثليهم‏}‏ هم- في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم- ومع هذا ثبتوا وانتصروا‏.‏

والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره‏.‏‏.‏ وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد‏.‏ كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم‏.‏‏.‏ وكان الموقف- كما ذكرنا في التمهيد للسورة- يقتضي هذا وذاك‏.‏‏.‏ وكان القرآن يعمل هنا وهناك‏.‏‏.‏

وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة‏.‏ وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة‏.‏‏.‏ إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله، قائم في كل لحظة‏.‏

ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة- ولو قل عددها- قائم كذلك في كل لحظة‏.‏ وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ، وسنة ماضية لم تتوقف‏.‏

وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة؛ وتثق في ذلك الوعد؛ وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة؛ وتصبر حتى يأذن الله؛ ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله، المدبر بحكمته، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة‏.‏

‏{‏إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار‏}‏‏.‏‏.‏

ولا بد من بصر ينظر وبصير تتدبر، لتبرز العبرة، وتعيها القلوب‏.‏ وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار‏!‏

وفي مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف؛ إذا لم تضبط باليقظة الدائمة؛ وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى؛ وإذا لم تتعلق بما عند الله وهو خير وأزكى‏.‏

إن الاستغراق في شهوات الدنيا، ورغائب النفوس، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار؛ ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة؛ ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى؛ ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة؛ ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض؛ واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض‏.‏

ولما كانت هذه الرغائب والدوافع- مع هذا- طبيعية وفطرية، ومكلفة من قبل البارئ- جل وعلا- أن تؤدي للبشرية دوراً أساسياً في حفظ الحياة وامتدادها، فإن الإسلام لا يشير بكبتها وقتلها، ولكن إلى ضبطها وتنظيمها، وتخفيف حدتها واندفاعها؛ وإلى أن يكون الإنسان مالكاً لها متصرفاً فيها، لا أن تكون مالكة له متصرفة فيه؛ وإلى تقوية روح التسامي فيه والتطلع إلى ما هو أعلى‏.‏

ومن ثم يعرض النص القرآني الذي يتولى هذا التوجيه التربوي‏.‏‏.‏ هذه الرغائب والدافع، ويعرض إلى جوارها على امتداد البصر ألواناً من لذائذ الحس والنفس في العالم الآخر، ينالها من يضبطون أنفسهم في هذه الحياة الدنيا عن الاستغراق في لذائذها المحببة، ويحتفظون بإنسانيتهم الرفيعة‏.‏

وفي آية واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان‏:‏ النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام‏.‏‏.‏ وهي خلاصة للرغائب الأرضية‏.‏ إما بذاتها، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى‏.‏‏.‏ وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر‏:‏ جنات تجري من تحتها الأنهار‏.‏ وأزواج مطهرة‏.‏ وفوقها رضوان من الله‏.‏‏.‏ وذلك كله لمن يمد ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض، ويصل قلبه بالله على النحو الذي تعرضه آيتان تاليتان‏:‏

‏{‏زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث‏.‏

‏.‏ ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب‏.‏ قل‏:‏ أؤنبئكم بخير من ذلكم‏؟‏ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار- خالدين فيها- وأزواج مطهرة، ورضوان من الله‏.‏ والله بصير بالعباد‏.‏ الذين يقولون‏:‏ ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار‏.‏ الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏زين للناس‏}‏‏.‏ وصياغة الفعل للمجهول هنا تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمن هذا الميل؛ فهو محبب ومزين‏.‏‏.‏ وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه‏.‏ ففي الإنسان هذا الميل إلى هذه «الشهوات»، وهو جزء من تكوينه الأصيل، لا حاجة إلى إنكاره، ولا إلى استنكاره في ذاته‏.‏ فهو ضروري للحياة البشرية كي تتأصل وتنمو وتطرد- كما أسلفنا- ولكن الواقع يشهد كذلك بأن في فطرة الإنسان جانباً آخر يوازن ذلك الميل، ويحرس الإنسان أن يستغرق في ذلك الجانب وحده؛ وأن يفقد قوة النفخة العلوية أو مدلولها وإيحاءها‏.‏ هذا الجانب الآخر هو جانب الاستعداد للتسامي، والاستعداد لضبط النفس ووقفها عند الحد السليم من مزاولة هذه «الشهوات»‏.‏ الحد الباني للنفس وللحياة؛ مع التطلع المستمر إلى ترقية الحياة ورفعها إلى الأفق الذي تهتف إليه النفحة العلوية، وربط القلب البشري بالملإ الأعلى والدار الآخرة ورضوان الله‏.‏‏.‏ هذا الاستعداد الثاني يهذب الاستعداد الأول، وينقيه من الشوائب، ويجعله في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعاتها القريبة، على الروح الإنسانية وأشواقها البعيدة‏.‏‏.‏ والاتجاه إلى الله، وتقواه، هو خيط الصعود والتسامي إلى تلك الأشواق البعيدة‏.‏

‏{‏زين للناس حب الشهوات‏}‏‏.‏‏.‏ فهي شهوات مستحبة مستلذة؛ وليست مستقذرة ولا كريهة‏.‏ والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها؛ إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها، ووضعها في مكانها لا تتعداه، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى‏.‏ والتطلع إلى آفاق أخرى بعد أخذ الضروري من تلك «الشهوات» في غير استغراق ولا إغراق‏!‏

وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعها، ومحاولة تهذيبها ورفعها، لا كبتها وقمعها‏.‏‏.‏ والذين يتحدثون في هذه الأيام عن «الكبت» وأضراره، وعن «العقد النفسية» التي ينشئها الكبت والقمع، يقررون أن السبب الرئيسي للعقد هو «الكبت» وليس هو «الضبط»‏.‏‏.‏ وهو استقذار دوافع الفطرة واستنكارها من الأساس، مما يوقع الفرد تحت ضغطين متعارضين‏:‏ ضغط من شعوره- الذي كونه الإيحاء أو كونه الدين أو كونه العرف- بأن دوافع الفطرة دوافع قذرة لا يجوز وجودها أصلاً، فهي خطيئة ودافع شيطاني‏!‏ وضغط هذه الدوافع التي لا تغلب لأنها عميقة في الفطرة، ولأنها ذات وظيفة أصيلة في كيان الحياة البشرية، لا تتم إلا بها، ولم يخلقها الله في الفطرة عبثاً‏.‏

‏.‏ وعندئذ وفي ظل هذا الصراع تتكون «العقد النفسية»‏.‏‏.‏ فحتى إذا سلمنا جدلاً بصحة هذه النظريات النفسية، فإننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من هذا الصراع بين شطري النفس البشرية‏.‏ بين نوازع الشهوة واللذة، وأشواق الارتفاع والتسامي‏.‏‏.‏ وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال‏.‏

‏{‏زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

والنساء والبنون شهوة من شهوات النفس الإنسانية قوية‏.‏‏.‏ وقد قرن اليهما ‏{‏القناطير المقنطرة‏}‏ من الذهب والفضة‏.‏‏.‏ ونهم المال هو الذي ترسمه ‏{‏القناطير المقنطرة‏}‏ ولو كان يريد مجرد الميل إلى المال لقال‏:‏ والأموال‏.‏ أو والذهب والفضة‏.‏ ولكن القناطير المقنطرة تلقي ظلاً خاصاً هو المقصود‏.‏ ظل النهم الشديد لتكديس الذهب والفضة‏.‏ ذلك أن التكديس ذاته شهوة‏.‏ بغض النظر عما يستطيع المال توفيره لصاحبه من الشهوات الأخرى‏!‏

ثم قرن إلى النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة‏.‏‏.‏ الخيل المسومة‏.‏ والخيل كانت- وما تزال حتى في عصر الآلة المادي اليوم- زينة محببة مشتهاة‏.‏ ففي الخيل جمال وفتوة وانطلاق وقوة‏.‏ وفيها ذكاء وألفة ومودة‏.‏ وحتى الذين لا يركبونها فروسية، يعجبهم مشهدها، ما دام في كيانهم حيوية تجيش لمشهد الخيل الفتية‏!‏

وقرن إلى تلك الشهوات الأنعامَ والحرث‏.‏ وهما يقترنان عادة في الذهن وفي الواقع‏.‏‏.‏ الأنعام والحقول المخصبة‏.‏‏.‏ والحرث شهوة بما فيه من مشهد الإنبات والنماء‏.‏ وإن تفتح الحياة في ذاته لمشهد حبيب فإذا أضيفت إليه شهوة الملك، كان الحرث والأنعام شهوة‏.‏

وهذه الشهوات التي ذكرت هنا هي نموذج لشهوات النفوس، يمثل شهوات البيئة التي كانت مخاطبة بهذا القرآن؛ ومنها ما هو شهوة كل نفس على مدار الزمان‏.‏ والقرآن يعرضها ثم يقرر قيمتها الحقيقية، لتبقى في مكانها هذا لا تتعداه، ولا تطغى على ما سواه‏:‏

‏{‏ذلك متاع الحياة الدنيا‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك كله الذي عرضه من اللذائذ المحببة- وسائر ما يماثله من اللذائذ والشهوات- متاع الحياة الدنيا‏.‏ لا الحياة الرفيعة، ولا الآفاق البعيدة‏.‏‏.‏ متاع هذه الأرض القريب‏.‏‏.‏ فأما من أراد الذي هو خير‏.‏‏.‏ خير من ذلك كله‏.‏ خير لأنه أرفع في ذاته‏.‏ وخير لأنه يرفع النفس ويصونها من الاستغراق في الشهوات، والانكباب على الأرض دون التطلع إلى السماء‏.‏‏.‏ من أراد الذي هو خير فعند الله من المتاع ما هو خير‏.‏ وفيه عوض كذلك عن تلك الشهوات‏:‏

‏{‏قل‏:‏ أؤنبئكم بخير من ذلكم‏؟‏ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار- خالدين فيها- وأزواج مطهرة، ورضوان من الله، والله بصير بالعباد‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا المتاع الأخروي الذي تذكره الآية هنا، ويؤمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يبشر به المتقين، هو نعيم حسي في عمومه‏.‏

‏.‏ ولكن هنالك فارقاً أساسياً بينه وبين متاع الدنيا‏.‏‏.‏ إنه متاع لا يناله إلا الذين اتقوا‏.‏ الذين كان خوف الله وذكره في قلوبهم‏.‏ وشعور التقوى شعور مهذب للروح والحس جميعاً‏.‏ شعور ضابط للنفس أن تستغرقها الشهوات، وأن تنساق فيها كالبهيمة‏.‏ فالذين اتقوا ربهم حين يتطلعون إلى هذا المتاع الحسي الذي يبشرون به يتطلعون إليه في شفافية مبرأة من غلظة الحس‏!‏ وفي حساسية مبرأة من بهيمية الشهوة‏!‏ ويرتفعون بالتطلع إليه- وهم في هذه الأرض- قبل أن ينتهي بهم المطاف إلى قرب الله‏.‏‏.‏

وفي هذا المتاع النظيف العفيف عوض كامل عن متاع الدنيا‏.‏‏.‏ وفيه زيادة‏.‏‏.‏

فإذا كان متاعهم في الدنيا حرثاً مُعطياً مخصباً، ففي الآخرة جنات كاملة تجري من تحتها الأنهار‏.‏ وهي فوق هذا خالدة وهم خالدون فيها، لا كالحرث المحدود الميقات‏!‏

وإذا كان متاعهم في الدنيا نساء وبنين، ففي الآخرة أزواج مطهرة‏.‏ وفي طهارتها فضل وارتفاع على شهوات الأرض في الحياة‏!‏

فأما الخيل المسومة والأنعام‏.‏ وأما القناطير المقنطرة من الذهب والفضة‏.‏ فقد كانت في الدنيا وسائل لتحقيق متاع‏.‏ فأما في نعيم الآخرة فلا حاجة إلى الوسائل لبلوغ الغايات‏!‏

ثم‏.‏‏.‏ هنالك ما هو أكبر من كل متاع‏.‏‏.‏ هنالك ‏{‏رضوان من الله‏}‏‏.‏ رضوان يعدل الحياة الدنيا والحياة الأخرى كليهما‏.‏‏.‏ ويرجح‏.‏‏.‏ رضوان‏.‏ بكل ما في لفظه من نداوة‏.‏ وبكل ما في ظله من حنان‏.‏

‏{‏والله بصير بالعباد‏}‏‏.‏‏.‏

بصير بحقيقة فطرتهم وما ركب فيها من ميول ونوازع‏.‏ بصير بما يصلح لهذه الفطرة من توجيهات وإيحاءات‏.‏ بصير بتصريفها في الحياة وما بعد الحياة‏.‏

ثم وصف لهؤلاء العباد، يصور حال المتقين مع ربهم، الحال التي استحقوا عليها هذا الرضوان‏:‏

‏{‏الذين يقولون‏:‏ ربنا إننا آمنا، فاغفر لنا ذنوبنا، وقنا عذاب النار‏.‏ الصابرين والصادقين‏.‏ والقانتين‏.‏ والمنفقين‏.‏ والمستغفرين بالأسحار‏}‏‏.‏‏.‏

وفي دعائهم ما ينم عن تقواهم‏.‏ فهو إعلان للإيمان، وشفاعة به عند الله، وطلب للغفران، وتوقٍ من النيران‏.‏

وفي كل صفة من صفاتهم تتحقق سمة ذات قيمة في حياة الإنسانية وفي حياة الجماعة المسلمة‏:‏

في الصبر ترفع على الألم واستعلاء على الشكوى، وثبات على تكاليف الدعوة، وأداء لتكاليف الحق، وتسليم لله واستسلام لما يريد بهم من الأمر، وقبول لحكمه ورضاء‏.‏‏.‏

وفي الصدق اعتزاز بالحق الذي هو قوام الوجود، وترفع عن الضعف؛ فما الكذب إلا ضعف عن كلمة الحق، اتقاء لضرر أو اجتلابا لمنفعة‏.‏

وفي القنوت لله أداء لحق الألوهية وواجب العبودية؛ وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت لله الواحد الذي لا قنوت لسواه‏.‏

وفي الإنفاق تحرر من استذلال المال؛ وانفلات من ربقة الشح؛ وإعلاء لحقيقة الأخوة الإنسانية على شهوة اللذة الشخصية؛ وتكافل بين الناس يليق بعالم يسكنه الناس‏!‏

والاستغفار بالأسحار بعد هذا كله يلقي ظلالاً رفافة ندية عميقة‏.‏

‏.‏ ولفظة «الأسحار» بذاتها ترسم ظلال هذه الفترة من الليل قبيل الفجر‏.‏ الفترة التي يصفو فيها الجو ويرق ويسكن؛ وتترقرق فيها خواطر النفس وخوالجها الحبيسة‏!‏ فإذا انضمت إليها صورة الاستغفار ألقت تلك الظلال المنسابة في عالم النفس وفي ضمير الوجود سواء‏.‏ وتلاقت روح الإنسان وروح الكون في الاتجاه لبارئ الكون وبارئ الإنسان‏.‏

هؤلاء الصابرون، الصادقون، القانتون، المنفقون، المستغفرون بالأسحار‏.‏‏.‏ لهم ‏{‏رضوان من الله‏}‏‏.‏‏.‏ وهم أهل لهذا الرضوان‏:‏ ظله الندي ومعناه الحاني‏.‏ وهو خير من كل شهوة وخير من كل متاع‏.‏‏.‏

وهكذا يبدأ القرآن بالنفس البشرية من موضعها على الأرض‏.‏‏.‏ وشيئاً فشيئاً يرف بها في آفاق وأضواء، حتى ينتهي بها إلى الملإ الأعلى في يسر وهينة، وفي رفق ورحمة‏.‏ وفي اعتبار لكامل فطرتها وكامل نوازعها‏.‏ وفي مراعاة لضعفها وعجزها، وفي استجاشة لطاقاتها وأشواقها، ودون ما كبت ولا إكراه‏.‏ ودون ما وقف لجريان الحياة‏.‏‏.‏ فطرة الله‏.‏ ومنهج الله لهذه الفطرة‏.‏‏.‏ ‏{‏والله بصير بالعباد‏}‏‏.‏‏.‏

وإلى هنا كان سياق السورة يستهدف تقرير حقيقة التوحيد‏:‏ توحيد الألوهية والقوامة، وتوحيد الكتاب والرسالة‏.‏‏.‏ ويصور موقف المؤمنين حقاً والمنحرفين الذين في قلوبهم زيغ، من آيات الله وكتابه‏.‏‏.‏ ويهدد المنحرفين بمصير كمصير الذين كفروا في الماضي وفي الحاضر‏.‏‏.‏ ثم يكشف عن الدوافع الفطرية التي تلهي عن الاعتبار؛ ويصور حال المتقين مع ربهم والتجاءهم إلى الله‏.‏‏.‏

فالآن- وإلى نهاية هذا الدرس- نجدنا أمام حقيقة أخرى‏.‏‏.‏ هي مقتضى الحقيقة الأولى‏.‏‏.‏ فحقيقة التوحيد تستلزم مصداقاً لها في واقع الحياة البشرية، هو الذي يقرره الشطر الثاني من هذا الدرس‏.‏

ومن ثم يبدأ بإعادة تقرير الحقيقة الأولى ليرتب عليها آثارها الملازمة لها‏.‏‏.‏ يبدأ بشهادة الله- سبحانه- ‏{‏أنه لا إله إلا هو‏}‏ وشهادة الملائكة وأولي العلم بهذه الحقيقة‏.‏ ويقرر معها صفة الله المتعلقة بالقوامة، وهي قيامه بالقسط في أمر الناس وفي أمر الكون‏.‏

وما دام الله متفرداً بالألوهية وبالقوامة فإن أول مستلزمات الإقرار بهذه الحقيقة، هو الإقرار بالعبودية لله وحده وتحكيمه في شأن العبيد كله؛ واستسلام العبيد لإلههم، وطاعتهم للقيوم عليهم، واتباعهم لكتابه ولرسوله- صلى الله عليه وسلم-‏.‏

ويضمن هذه الحقيقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏‏.‏‏.‏ فهو لا يقبل ديناً سواه من أحد‏.‏‏.‏ الإسلام الذي هو الاستسلام والطاعة والاتباع‏.‏‏.‏ وإذن فليس الدين الذي يقبله الله من الناس هو مجرد تصور في العقل؛ ولا مجرد تصديق في القلب‏.‏ إنما هو القيام بحق هذا التصديق وذلك التصور‏.‏‏.‏ هو تحكيم منهج الله في أمر العباد كله، وطاعتهم لما يحكم به، واتباعهم لرسوله في منهجه‏.‏

وهكذا‏.‏‏.‏ يعجب من أهل الكتاب ويشهر بأمرهم‏.‏‏.‏ إذ يدعون أنهم على دين الله‏.‏ ثم ‏{‏يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون‏}‏ ‏!‏‏!‏‏!‏ مما ينقض دعوى التدين من الأساس‏.‏

فلا دين يقبله الله إلا الإسلام‏.‏ ولا إسلام بغير استسلام لله وطاعة لرسوله، واتباع لمنهجه، وتحكيم لكتابه في أمور الحياة‏.‏‏.‏

ويكشف عن علة هذا الإعراض- الذي هو التعبير الواقعي عن عدم الإيمان بدين الله- فإذا هي عدم الاعتقاد بجدية «القسط» في الجزاء يوم الحساب‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قالوا‏:‏ لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات‏}‏‏.‏‏.‏ معتمدين على أنهم أهل كتاب ‏{‏وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون‏}‏‏.‏‏.‏ وهو غرور خادع‏.‏ فما هم بأهل كتاب، وما هم بمؤمنين أصلاً‏.‏ وما هم على دين الله إطلاقاً؛ وهم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون‏.‏

وبهذا الجزم القاطع يقرر الله سبحانه في القرآن الكريم معنى الدين وحقيقة التدين‏.‏‏.‏ فلا يقبل من العباد إلا صورة واحدة ناصعة قاطعة‏.‏‏.‏ الدين‏:‏ الإسلام‏.‏ والإسلام‏:‏ التحاكم إلى كتاب الله وطاعته واتباعه‏.‏‏.‏ فمن لم يفعل فليس له دين، وليس مسلماً؛ وإن ادعى الإسلام وادعى أنه على دين الله‏.‏ فدين الله يحدده ويقرره ويفسره الله، وليس خاضعاً في تعريفه وتحديده لأهواء البشر‏.‏‏.‏ كل يحدده أو يعرّفه كما يشاء‏!‏

لا‏.‏ بل إن الذي يتخذ الكفار أولياء- والكفار كما يقرر السياق هم الذين لا يقبلون التحاكم إلى كتاب الله- ‏{‏فليس من الله في شيء‏}‏‏.‏‏.‏ ولا علاقة له بالله في شيء ولا صلة بينه وبين الله في شيء‏.‏‏.‏ مجرد من يتولى وينصر أو يستنصر أولئك الكفار الذين يرفضون أن يتحاكموا إلى كتاب الله‏.‏ ولو ادعوا أنهم على دين الله‏!‏

ويشتد التحذير من هذه الولاية التي تذهب بالدين من أساسه‏.‏ ويضيف السياق إلى التحذير التبصير‏.‏ تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة القوى التي تعمل في هذا الوجود‏.‏ فالله وحده هو السيد المتصرف، مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء‏.‏‏.‏ وهذا التصريف لأمر الناس ليس إلا طرفاً من التصريف لأمر الكون كله‏.‏ فهو كذلك يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي‏.‏‏.‏ وهذا هو القيام بالقسط في أمر الناس وفي أمر الكون، فلا داعي إذن لولاية غيره من العباد، مهما يكن لهم من قوة ومن مال وأولاد‏.‏

ويشي هذا التحذير المؤكد المكرر بما كان واقعاً في الجماعة المسلمة يومذاك من عدم وضوح الأمر تماماً؛ ومن تشبث بعضهم بصلاته العائلية والقومية والاقتصادية مع المشركين في مكة ومع اليهود في المدينة، مما اقتضى هذا التفسير والتحذير‏.‏ كما أنه يشي بطبيعة ميل النفس البشرية إلى التأثر بالقوى البشرية الظاهرة، وضرورة تذكيرها بحقيقة الأمر وحقيقة القوى، إلى جانب إيضاح أصل العقيدة ومقتضياتها في واقع الحياة‏.‏

ويختم الدرس بكلمة حاسمة قاطعة‏:‏ إن الإسلام هو طاعة الله والرسول‏.‏ وإن الطريق إلى الله هو طريق الاتباع للرسول‏.‏ وليس مجرد الاعتقاد بالقلب، ولا الشهادة باللسان‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏{‏قل‏:‏ أطيعوا الله والرسول‏.‏ فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين‏}‏‏.‏‏.‏ فإما طاعة واتباع يحبه الله، وإما كفر يكرهه الله‏.‏‏.‏ وهذا هو مفرق الطريق الواضح المبين‏.‏‏.‏

فلنأخذ في التفصيل بعد هذا الإجمال‏.‏‏.‏

‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو- والملائكة وأولو العلم- قائماً بالقسط‏.‏ لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏

هذه هي الحقيقة الأولى التي يقوم عليها التصور الاعتقادي في الإسلام‏.‏ حقيقة التوحيد‏:‏ توحيد الألوهية، وتوحيد القوامة‏.‏‏.‏ القوامة بالقسط‏.‏‏.‏ وهي الحقيقة التي بدأت بها السورة‏:‏ ‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏‏.‏‏.‏ وهي تستهدف إقرار حقيقة العقيدة الإسلامية من جهة، وجلاء الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب من جهة‏.‏ جلاءها عن أهل الكتاب أنفسهم، وجلاءها عن المسلمين الذين قد تؤثر هذه الشبهات في عقيدتهم‏.‏

وشهادة الله- سبحانه- أنه لا إله إلا هو‏.‏‏.‏ هي حسب كل من يؤمن بالله‏.‏‏.‏ وقد يقال‏:‏ إنه لا يكتفي بشهادة الله إلا من يؤمن بالله وأن من يؤمن بالله‏.‏ ليس في حاجة إلى هذه الشهادة‏.‏‏.‏ ولكن واقع الأمر أن أهل الكتاب كانوا يؤمنون بالله ولكنهم في نفس الوقت يجعلون له ابناً وشريكاً‏.‏ بل إن المشركين أنفسهم كانوا يؤمنون بالله، ولكن الضلال كان يجيئهم من ناحية الشركاء والأنداد والأبناء والبنات‏!‏ فإذا قرر لهؤلاء وهؤلاء أن الله- سبحانه- شهد أنه لا إله إلا هو، فهذا مؤثر قوي في تصحيح تصوراتهم‏.‏

على أن الأمر- كما يبدو من متابعة السياق كما تابعناه فيما تقدم- أعمق من هذا وأدق‏.‏ فإن شهادة الله- سبحانه- بأنه لا إله إلا هو، مسوقة هنا ليساق بعدها ما هو من مستلزماتها؛ وهو أنه لا يقبل إذن من العباد إلا العبودية الخالصة له، الممثلة في الإسلام بمعنى الاستسلام- لا اعتقاداً وشعوراً فحسب- ولكن كذلك عملاً وطاعة واتباعاً للمنهج العملي الواقعي المتمثل في أحكام الكتاب‏.‏‏.‏ ومن هذه الناحية نجد كثيرين في كل زمان يقولون‏:‏ إنهم يؤمنون بالله، ولكنهم يشركون معه غيره في الألوهية، حين يتحاكمون إلى شريعة من صنع غيره، وحين يطيعون من لا يتبع رسوله وكتابه؛ وحين يتلقون التصورات والقيم والموازين والأخلاق والآداب من غيره‏.‏‏.‏ فهذه كلها تناقض القول بأنهم يؤمنون بالله‏.‏ ولا تستقيم مع شهادة الله- سبحانه- بأنه لا إله إلا هو‏.‏

وأما شهادة الملائكة وشهادة أولي العلم، فهي متمثلة في طاعتهم لأوامر الله وحدها، والتلقي عن الله وحده، والتسليم بكل ما يجيئهم من عنده بدون تشكك ولا جدال، متى ثبت لهم أنها من عنده‏.‏

وقد سبق في السورة بيان حال أولي العلم هؤلاء في قوله‏:‏ ‏{‏والراسخون في العلم يقولون‏:‏ آمنا به، كل من عند ربنا‏}‏‏.‏‏.‏ فهذه شهادة أولي العلم وشهادة الملائكة‏:‏ تصديق‏.‏ وطاعة‏.‏ واتباع‏.‏ واستسلام‏.‏

وشهادة الله سبحانه وشهادة الملائكة وأولي العلم بوحدانية الله يصاحبها شهادتهم بأنه- تعالى- قائم بالقسط‏.‏ بوصفها حالة ملازمة للألوهية‏.‏

‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو- والملائكة وأولو العلم- قائماً بالقسط‏}‏‏.‏‏.‏

فهي حالة ملازمة للألوهية كما تفيد صياغة العبارة‏.‏ وهذا إيضاح للقوامة التي وردت في مطلع السورة‏:‏

‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏‏.‏‏.‏ فهي قوامة بالقسط‏.‏

وتدبير الله لهذا الكون ولحياة الناس متلبس دائماً بالقسط- وهو العدل- فلا يتحقق العدل المطلق في حياة الناس، ولا تستقيم أمورهم استقامة أمور الكون، التي يؤدي كل كائن معها دوره في تناسق مطلق مع دور كل كائن آخر‏.‏‏.‏ لا يتحقق هذا إلا بتحكيم منهج الله الذي اختاره لحياة الناس، وبينه في كتابه‏.‏ وإلا فلا قسط ولا عدل، ولا استقامة ولا تناسق، ولا تلاؤم بين دورة الكون ودورة الإنسان‏.‏ وهو الظلم إذن والتصادم والتشتت والضياع‏!‏

وها نحن أولاء نرى على مدار التاريخ أن الفترات التي حكم فيها كتاب الله وحدها هي التي ذاق فيها الناس طعم القسط، واستقامت حياتهم استقامة دورة الفلك- بقدر ما تطيق طبيعة البشر المتميزة بالجنوح إلى الطاعة والجنوح إلى المعصية، والتأرجح بين هذا وذاك؛ والقرب من الطاعة كلما قام منهج الله، وحُكم في حياة الناس كتاب الله‏.‏ وأنه حيثما حكم في حياة الناس منهج آخر من صنع البشر، لازمه جهل البشر وقصور البشر‏.‏ كما لازمه الظلم والتناقض في صورة من الصور‏.‏ ظلم الفرد للجماعة‏.‏ أو ظلم الجماعة للفرد‏.‏ أو ظلم طبقة لطبقة‏.‏ أو ظلم أمة لأمة‏.‏ أو ظلم جيل لجيل‏.‏‏.‏ وعدل الله وحده هو المبرأ من الميل لأي من هؤلاء‏.‏ وهو إله جميع العباد‏.‏ وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏.‏

‏{‏لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏

يؤكد حقيقة وحدة الألوهية مرة أخرى في الآية الواحدة، مصحوبة بصفة العزة وصفة الحكمة‏.‏ والقدرة والحكمة لازمتان كلتاهما للقوامة بالقسط‏.‏ فالقسط يقوم على وضع الأمور في مواضعها مع القدرة على إنفاذها‏.‏ وصفات الله سبحانه تصور وتوحي بالفاعلية الإيجابية‏.‏‏.‏ فلا سلبية في التصور الإسلامي لله‏.‏ وهو أكمل تصور وأصدقه لأنه وصف الله لنفسه سبحانه‏.‏ وقيمة هذه الفاعلية الإيجابية أنها تعلق القلب بالله وإرادته وفعله، فتصبح العقيدة مؤثراً حياً دافعاً لا مجرد تصور فكري بارد‏!‏

ويرتب على هذه الحقيقة التي عاد لتوكيدها مرتين في الآية الواحدة، نتيجتها الطبيعية‏.‏‏.‏ ألوهية واحدة‏.‏ فلا عبودية إلا لهذه الألوهية الواحدة‏:‏

‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏.‏

وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم‏.‏ بغياً بينهم‏.‏ ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب‏.‏ فإن حاجوك فقل‏:‏ أسلمت وجهي لله ومن اتبعن‏.‏ وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين‏:‏ أأسلمتم‏؟‏ فإن أسلموا فقد اهتدوا‏.‏ وإن تولوا فإنما عليك البلاغ، والله بصير بالعباد‏}‏‏.‏‏.‏

ألوهية واحدة‏.‏‏.‏ وإذن فدينونة واحدة‏.‏‏.‏ واستسلام لهذه الألوهية لا يبقى معه شيء في نفوس العباد ولا في حياتهم خارجا عن سلطان الله‏.‏

ألوهية واحدة‏.‏‏.‏ وإذن فجهة واحدة هي صاحبة الحق في تعبيد الناس لها؛ وفي تطويعهم لأمرها؛ وفي إنفاذ شريعتها فيهم وحكمها؛ وفي وضع القيم والموازين لهم وأمرهم باتباعها؛ وفي إقامة حياتهم كلها وفق التعليمات التي ترضاها‏.‏‏.‏

ألوهية واحدة‏.‏‏.‏ وإذن فعقيدة واحدة هي التي يرضاها الله من عباده‏.‏ عقيدة التوحيد الخالص الناصع‏.‏‏.‏ ومقتضيات التوحيد هذه التي أسلفنا‏:‏

‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏‏.‏‏.‏

الإسلام الذي هو ليس مجرد دعوى، وليس مجرد راية، وليس مجرد كلمة تقال باللسان؛ ولا حتى تصوراً يشتمل عليه القلب في سكون؛ ولا شعائر فردية يؤديها الأفراد في الصلاة والحج والصيام‏.‏‏.‏ لا‏.‏ فهذا ليس بالإسلام الذي لا يرضى الله من الناس ديناً سواه‏.‏ إنما الإسلام الاستسلام‏.‏ الإسلام الطاعة والاتباع‏.‏ الإسلام تحكيم كتاب الله في أمور العباد‏.‏‏.‏ كما سيجيء في السياق القرآني ذاته بعد قليل‏.‏

والإسلام توحيد الألوهية والقوامة‏.‏‏.‏ بينما كان أهل الكتاب يخلطون بين ذات الله- سبحانه- وذات المسيح- عليه السلام- كما يخلطون بين إرادة الله وإرادة المسيح أيضاً‏.‏‏.‏ ويختلفون فيما بينهم على هذه التصورات اختلافاً عنيفاً يصل في أحيان كثيرة إلى حد القتل والقتال‏.‏‏.‏ هنا يبين الله لأهل الكتاب وللجماعة المسلمة علة هذا الاختلاف‏:‏

‏{‏وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم‏.‏ بغياً بينهم‏}‏‏.‏

إنه ليس اختلافاً عن جهل بحقيقة الأمر‏.‏ فقد جاءهم العلم القاطع بوحدانية الله، وتفرد الألوهية‏.‏ وبطبيعة البشرية، وحقيقة العبودية‏.‏‏.‏ ولكنهم إنما اختلفوا ‏{‏بغياً بينهم‏}‏ واعتداء وظلماً؛ حينما تخلوا عن قسط الله وعدله الذي تتضمنه عقيدته وشريعته وكتبه‏.‏

وقد رأينا فيما نقلناه عن المؤلف المسيحي الحديث كيف كانت التيارات السياسية تخلق هذه الاختلافات المذهبية‏.‏ وليس هذا إلا نموذجاً مما تكرر وقوعه في حياة اليهودية والمسيحية‏.‏ وقد رأينا كيف كانت كراهية مصر والشام وما إليهما للحكم الروماني سبباً في رفض المذهب الروماني الرسمي والتمذهب بمذهب آخر‏!‏ كما كان حرص بعض القياصرة على التوفيق بين أجزاء مملكته سبباً في ابتداع مذهب وسط، يظن أنه يوفق بين الأغراض جميعاً‏!‏‏!‏ كأنما العقيدة لعبة تستخدم في المناورات السياسية والوطنية‏!‏ وهذا هو البغي أشنع البغي‏.‏ عن قصد وعن علم‏!‏

ومن ثم يجيء التهديد القاصم في موضعه المناسب‏:‏

‏{‏ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب‏}‏‏.‏

وقد عد الاختلاف على حقيقة التوحيد كفراً؛ وهدد الكافرين بسرعة الحساب؛ كي لا يكون الإمهال- إلى أجل- مدعاة للجاجة في الكفر والإنكار والاختلاف‏.‏‏.‏

ثم لقن نبيه- صلى الله عليه وسلم- فصل الخطاب في موقفه من أهل الكتاب والمشركين جميعاً‏.‏ ليحسم الأمر معهم عن بينة، ويدع أمرهم بعد ذلك لله، ويمضي في طريقه الواضح متميزاً متفرداً‏:‏

‏{‏فإن حاجوك فقل‏:‏ أسلمت وجهي لله ومن اتبعن‏.‏ وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم‏؟‏ فإن أسلموا فقد اهتدوا‏.‏ وأن تولوا فإنما عليك البلاغ‏.‏ والله بصير بالعباد‏}‏‏.‏‏.‏

إنه لا سبيل إلى مزيد من الإيضاح بعد ما تقدم‏.‏ فإما اعتراف بوحدة الألوهية والقوامة، وإذن فلا بد من الإسلام والاتباع‏.‏ وإما مماحكة ومداورة‏.‏ وإذن فلا توحيد ولا إسلام‏.‏

ومن ثم يلقن الله- تعالى- رسوله- صلى الله عليه وسلم- كلمة واحدة تبين عقيدته كما تبين منهج حياته‏:‏

‏{‏فإن حاجوك‏}‏- أي في التوحيد وفي الدين- ‏{‏فقل‏:‏ أسلمت وجهي لله‏}‏ أنا ‏{‏ومن اتبعن‏}‏‏.‏‏.‏ والتعبير بالاتباع ذو مغزى هنا‏.‏ فليس هو مجرد التصديق‏.‏ إنما هو الاتباع‏.‏ كما أن التعبير بالإسلام الوجه ذو مغزى كذلك‏.‏ فليس هو مجرد النطق باللسان أو الاعتقاد بالجنان‏.‏ إنما هو كذلك الاستسلام‏.‏ استسلام الطاعة والاتباع‏.‏‏.‏ وإسلام الوجه كناية عن هذا الاستسلام‏.‏ والوجه أعلى وأكرم ما في الإنسان‏.‏ فهي صورة الانقياد الطائع الخاضع المتبع المستجيب‏.‏

هذا اعتقاد محمد- صلى الله عليه وسلم- ومنهج حياته‏.‏ والمسلمون متبعوه ومقلدوه في اعتقاده ومنهج حياته‏.‏‏.‏ فليسأل إذن أهل الكتاب والأميين سؤال التبين والتمييز ووضع الشارة المميزة للمعسكرين على وضوح لا اختلاط فيه ولا اشتباه‏:‏

‏{‏وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين‏:‏ أأسلمتم‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

فهم سواء‏.‏ هؤلاء وهؤلاء‏.‏ المشركون وأهل الكتاب هم مدعوون إلى الإسلام بمعناه الذي شرحناه‏.‏ مدعوون للإقرار بتوحيد ذات الله، ووحدة الألوهية ووحدة القوامة‏.‏ مدعوون بعد هذا الإقرار إلى الخضوع لمقتضاه‏.‏ وهو تحكيم كتاب الله ونهجه في الحياة‏.‏

‏{‏فإن أسلموا فقد اهتدوا‏}‏‏.‏‏.‏

فالهدى يتمثل في صورة واحدة‏.‏ هي صورة الإسلام بحقيقته تلك وطبيعته‏.‏ وليس هنالك صورة أخرى، ولا تصور آخر، ولا وضع آخر، ولا منهج آخر يتمثل فيه الاهتداء‏.‏‏.‏ إنما هو الضلال والجاهلية والحيرة والزيغ والالتواء‏.‏‏.‏

‏{‏وإن تولوا فإنما عليك البلاغ‏}‏‏.‏‏.‏

فعند البلاغ تنتهي تبعة الرسول وينتهي عمله‏.‏ وكان هذا قبل أن يأمره الله بقتال من لا يقبلون الإسلام حتى ينتهوا‏:‏ إما إلى اعتناق الدين والخضوع للنظام الذي يتمثل فيه‏.‏ وإما إلى التعهد فقط بالطاعة للنظام في صورة أداء الجزية‏.‏‏.‏ حيث لا إكراه على الاعتقاد‏.‏‏.‏

‏{‏والله بصير بالعباد‏}‏‏.‏‏.‏

يتصرف في أمرهم وفق بصره وعلمه‏.‏ وأمرهم إليه على كل حال‏.‏

ولكنه لا يدعهم حتى يبين لهم مصيرهم الذي ينتظرهم وينتظر أمثالهم وفق سنة الله الماضية أبداً في المكذبين والبغاة‏:‏

‏{‏إن الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، فبشرهم بعذاب أليم‏.‏

أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة‏.‏ وما لهم من ناصرين‏}‏‏.‏‏.‏

فهذا هو المصير المحتوم‏:‏ عذاب أليم لا يحدده بالدنيا أو بالآخرة‏.‏ فهو متوقع هنا وهناك‏.‏ وبطلان لأعمالهم في الدنيا والآخرة في تعبير مصور‏.‏ فالحبوط هو انتفاخ الدابة التي ترعى نبتاً مسموماً، توطئة لهلاكها‏.‏‏.‏ وهكذا أعمال هؤلاء قد تنتفخ وتتضخم في الأعين‏.‏ ولكنه الانتفاخ المؤدي إلى البطلان والهلاك‏!‏ حيث لا ينصرهم ناصر ولا يدفع عنهم حام‏!‏

وذكر الكفر بآيات الله مصحوباً بقتل النبيين بغير حق- وما يمكن أن يقتل نبي ثم يكون هناك حق- وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس- أي الذين يأمرون باتباع منهج الله القائم بالقسط المحقق وحده للقسط‏.‏‏.‏ ذكر هذه الصفات يوحي بأن التهديد كان موجهاً لليهود، فهذه سمتهم في تاريخهم يعرفون بها متى ذكرت‏!‏ ولكن هذا لا يمنع أن يكون الكلام موجهاً للنصارى كذلك‏.‏ فقد كانوا حتى ذلك التاريخ قتلوا الألوف من أصحاب المذاهب المخالفة لمذهب الدولة الرومانية المسيحية- بما فيهم من جاهروا بتوحيد الله تعالى وبشرية المسيح عليه السلام- وهؤلاء ممن يأمرون بالقسط‏.‏‏.‏ كما أنه تهديد دائم لكل من يقع منه مثل هذا الصنيع البشع‏.‏‏.‏ وكثير ما هم في كل زمان‏.‏‏.‏

ويحسن أن نتذكر دائماً ماذا يعني القرآن بوصف ‏{‏الذين يكفرون بآيات الله‏}‏‏.‏‏.‏ فليس المقصود فقط من يعلن كلمة الكفر‏.‏ إنما يدخل في مدلول هذا الوصف من لا يقر بوحدة الألوهية، وقصر العبودية عليها‏.‏ وهذا يتضمن بصراحة وحدة الجهة التي تصرّف حياة العباد بالتشريع والتوجيه والقيم والموازين‏.‏‏.‏ فمن جعل لغير الله شيئاً من هذا ابتداء فهو مشرك به أو كافر بألوهيته‏.‏ ولو قالها ألف مرة باللسان‏!‏ وسنرى في الآيات التالية في السياق مصداق هذا الكلام‏.‏‏.‏

‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون‏؟‏ ذلك بأنهم قالوا‏:‏ لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون‏.‏ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه، ووفيت كل نفس ما كسبت‏؟‏ وهم لا يظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

إنه سؤال التعجيب والتشهير من هذا الموقف المتناقض الغريب‏.‏ موقف الذين أوتوا نصيباً من الكتاب‏.‏ وهو التوراة لليهود ومعها الإنجيل للنصارى‏.‏ وكل منهما «نصيب» من الكتاب باعتبار أن كتاب الله هو كل ما أنزل على رسله، وقرر فيه وحدة ألوهيته ووحدة قوامته‏.‏ فهو كتاب واحد في حقيقته، أوتي اليهود نصيباً منه، وأوتي النصارى نصيباً منه، وأوتي المسلمون الكتاب كله باعتبار القرآن جامعاً لأصول الدين كله، ومصدقاً لما بين يديه من الكتاب‏.‏

‏.‏ سؤال التعجيب من هؤلاء ‏{‏الذين أوتوا نصيباً من الكتاب‏}‏‏.‏‏.‏ ثم هم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم في خلافاتهم، وليحكم بينهم في شؤون حياتهم ومعاشهم، فلا يستجيبون جميعاً لهذه الدعوة، إنما يتخلف فريق منهم ويعرض عن تحكيم كتاب الله وشريعته‏.‏ الأمر الذي يتناقض مع الإيمان بأي نصيب من كتاب الله؛ والذي لا يستقيم مع دعوى أنهم أهل كتاب‏:‏

‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

هكذا يعجب الله من أهل الكتاب حين يعرض بعضهم- لا كلهم- عن الاحتكام إلى كتاب الله في أمور الاعتقاد وأمور الحياة‏.‏ فكيف بمن يقولون‏:‏ إنهم مسلمون، ثم يخرجون شريعة الله من حياتهم كلها‏.‏ ثم يظلون يزعمون أنهم مسلمون‏!‏ إنه مثل يضربه الله للمسلمين أيضاً كي يعلموا حقيقة الدين وطبيعة الإسلام؛ ويحذروا أن يكونوا موضعاً لتعجيب الله وتشهيره بهم‏.‏ فإذا كان هذا هو استنكار موقف أهل الكتاب الذين لم يدعوا الإسلام، حين يعرض فريق منهم عن التحاكم إلى كتاب الله، فكيف يكون الاستنكار إذا كان «المسلمون» هم الذين يعرضون هذا الإعراض‏.‏‏.‏ إنه العجب الذي لا ينقضي، والبلاء الذي لا يقدر، والغضب الذي ينتهي إلى الشقوة والطرد من رحمة الله‏!‏ والعياذ بالله‏!‏

ثم يكشف عن علة هذا الموقف المستنكر المتناقض‏:‏

‏{‏ذلك بأنهم قالوا‏:‏ لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون‏}‏‏.‏‏.‏

هذا هو السبب في الإعراض عن الاحتكام إلى كتاب الله؛ والتناقض مع دعوى الإيمان ودعوى أنهم أهل كتاب‏.‏‏.‏ إنه عدم الاعتقاد بجدية الحساب يوم القيامة، وجدية القسط الإلهي الذي لا يحابي ولا يميل‏.‏ يتجلى هذا في قولهم‏:‏

‏{‏لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات‏}‏‏.‏‏.‏

وإلا فلماذا لا تمسهم النار إلا أياماً معدودات‏؟‏ لماذا وهم ينحرفون أصلاً عن حقيقة الدين وهي الاحتكام في كل شيء إلى كتاب الله‏؟‏ لماذا إذا كانوا يعتقدون حقاً بعدل الله‏؟‏ بل إذا كانوا يحسون أصلاً بجدية لقاء الله‏؟‏ إنهم لا يقولون إلا افتراء، ثم يغرهم هذا الافتراء‏:‏

‏{‏وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون‏}‏‏.‏‏.‏

وحقاً إنه لا يجتمع في قلب واحد جدية الاعتقاد بلقاء الله، والشعور بحقيقة هذا اللقاء، مع هذا التميع في تصور جزائه وعدله‏.‏‏.‏

وحقاً إنه لا يجتمع في قلب واحد الخوف من الآخرة والحياء من الله، مع الإعراض عن الاحتكام إلى كتاب الله، وتحكيمه في كل شأن من شؤون الحياة‏.‏‏.‏

ومثل أهل الكتاب هؤلاء مثل من يزعمون اليوم أنهم مسلمون‏.‏ ثم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون‏.‏ وفيهم من يتبجحون ويتوقحون، ويزعمون أن حياة الناس دنيا لا دين‏!‏ وأن لا ضرورة لإقحام الدين في حياة الناس العملية وارتباطاتهم الاقتصادية والاجتماعية، بل العائلية، ثم يظلون بعد ذلك يزعمون أنهم مسلمون‏!‏ ثم يعتقد بعضهم في غرارة بلهاء أن الله لن يعذبهم إلا تطهيراً من المعاصي، ثم يساقون إلى الجنة‏!‏ أليسوا مسلمين‏؟‏ إنه نفس الظن الذي كان يظنه أهل الكتاب هؤلاء، ونفس الغرور بما افتروه ولا أصل له في الدين‏.‏

‏.‏ وهؤلاء وأولئك سواء في تنصلهم من أصل الدين، وتملصهم من حقيقته التي يرضاها الله‏:‏ الإسلام‏:‏ الاستسلام والطاعة والاتباع‏.‏ والتلقي من الله وحده في كل شأن من شؤون الحياة‏:‏

‏{‏فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه، ووفيت كل نفس ما كسبت، وهم لا يظلمون‏}‏‏؟‏

كيف‏؟‏ إنه التهديد الرعيب الذي يشفق القلب المؤمن أن يتعرض له وهو يستشعر جدية هذا اليوم وجدية لقاء الله، وجدية عدل الله؛ ولا يتميع تصوره وشعوره مع الأماني الباطلة والمفتريات الخادعة‏.‏‏.‏ وهو بعد تهديد قائم للجميع‏.‏‏.‏ مشركين وملحدين، وأهل كتاب ومدعي إسلام، فهم سواء في أنهم لا يحققون في حياتهم الإسلام‏!‏

‏{‏فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه‏}‏‏.‏‏.‏ وجرى العدل الإلهي مجراه‏؟‏ ‏{‏ووفيت كل نفس ما كسبت‏}‏‏.‏‏.‏ بلا ظلم ولا محاباة‏؟‏ ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏‏.‏‏.‏ كما أنهم لا يحابون في حساب الله‏؟‏

سؤال يلقى ويترك بلا جواب‏.‏‏.‏ وقد اهتز القلب وارتجف وهو يستحضر الجواب‏!‏

بعدئذ يلقن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكل مؤمن، أن يتجه إلى الله، مقرراً حقيقة الألوهية الواحدة، وحقيقة القوامة الواحدة، في حياة البشر، وفي تدبير الكون‏.‏ فهذه وتلك كلتاهما مظهر للألوهية وللحاكمية التي لا شريك لله فيها ولا شبيه‏:‏

‏{‏قل‏:‏ اللهم مالك الملك‏:‏ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء‏.‏ وتعز من تشاء وتذل من تشاء‏.‏ بيدك الخير‏.‏ إنك على كل شيء قدير‏.‏ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل‏.‏ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي‏.‏ وترزق من تشاء بغير حساب‏}‏‏.‏‏.‏

نداء خاشع‏.‏‏.‏ في تركيبه اللفظي إيقاع الدعاء‏.‏ وفي ظلاله المعنوية روح الابتهال‏.‏ وفي التفاتاته إلى كتاب الكون المفتوح استجاشة للمشاعر في رفق وإيناس‏.‏ وفي جمعه بين تدبير الله وتصريفه لأمور الناس ولأمور الكون إشارة إلى الحقيقة الكبيرة‏:‏ حقيقة الألوهية الواحدة القوامة على الكون والناس؛ وحقيقة أن شأن الإنسان ليس إلا طرفاً من شأن الكون الكبير الذي يصرفه الله؛ وأن الدينونة لله وحده هي شأن الكون كله كما هي شأن الناس؛ وأن الانحراف عن هذه القاعدة شذوذ وسفه وانحراف‏!‏

‏{‏قل‏:‏ اللهم مالك الملك‏.‏ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء‏.‏ وتعز من تشاء وتذل من تشاء‏}‏‏.‏‏.‏

إنها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة‏.‏‏.‏ إله واحد فهو المالك الواحد‏.‏‏.‏ هو ‏{‏مالك الملك‏}‏ بلا شريك‏.‏‏.‏ ثم هو من جانبه يملك من يشاء ما يشاء من ملكه‏.‏

يملكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عندما يشاء‏.‏ فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه‏.‏ إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته؛ فإذا تصرف المستعير فيها تصرفاً مخالفاً لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلاً‏.‏ وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا‏.‏ أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك صاحب الملك الأصيل‏.‏‏.‏

وكذلك هو يعز من يشاء ويذل من يشاء بلا معقب على حكمه، وبلا مجير عليه، وبلا راد لقضائه، فهو صاحب الأمر كله بما أنه- سبحانه- هو الله‏.‏‏.‏ وما يجوز أن يتولى هذا الاختصاص أحد من دون الله‏.‏

وفي قوامة الله هذه الخير كل الخير‏.‏ فهو يتولاها سبحانه بالقسط والعدل‏.‏ يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل‏.‏ ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالقسط والعدل‏.‏ فهو الخير الحقيقي في جميع الحالات؛ وهي المشيئة المطلقة والقدرة المطلقة على تحقيق هذا الخير في كل حال‏:‏ ‏{‏بيدك الخير‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏إنك على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه القوامة على شؤون البشر، وهذا التدبير لأمرهم بالخير، ليس إلا طرفاً من القوامة الكبرى على شؤون الكون والحياة على الإطلاق‏:‏

‏{‏تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل؛ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي؛ وترزق من تشاء بغير حساب‏}‏‏.‏‏.‏

والتعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس‏:‏ هذه الحركة الخفية المتداخلة‏.‏ حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل؛ وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي‏.‏‏.‏ الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال، متى ألقى القلب إليها انتباهه، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق‏.‏

وسواء كان معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هو أخذ هذا من ذاك وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول‏.‏‏.‏ أو كان هو دخول هذا في هذا عند دبيب الظلمة ودبيب الضياء في الأمساء والأصباح‏.‏‏.‏ سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء‏.‏‏.‏ شيئاً فشيئاً يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار‏.‏ وشيئاً فشيئاً يتنفس الصبح في غيابة الظلام‏.‏‏.‏ شيئاً فشيئاً يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء‏.‏ وشيئاً فشيئاً يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف‏.‏‏.‏ وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية الدقيقة؛ ولا يدعي كذلك عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير‏!‏

كذلك الحياة والموت، يدب أحدهما في الآخر في بطء وتدرج‏.‏ كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت إلى جانب الحياة، ويأكل منه الموت وتبنى فيه الحياة‏!‏ خلايا حية منه تموت وتذهب، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل‏.‏

وما ذهب منه ميتاً يعود في دورة أخرى إلى الحياة‏.‏ وما نشأ فيه حياً يعود في دورة أخرى إلى الموت‏.‏‏.‏ هذا في كيان الحي الواحد‏.‏‏.‏ ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله، ولكن خلاياه تتحول إلى ذرات تدخل في تركيب آخر ثم تدخل في جسم حي فتدب فيها الحياة‏.‏‏.‏ وهكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار‏.‏‏.‏ ولا يدعي الإنسان أنه هو الذي يصنع من هذا كله شيئاً‏.‏ ولا يزعم عاقل كذلك أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير‏!‏

حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك‏.‏ حركة خفية عميقة لطيفة هائلة‏.‏ تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري؛ وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر‏.‏‏.‏ فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدّبر‏؟‏ وأنى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير‏؟‏

ثم أنى يتخذ بعضهم بعضاً عبيداً، ويتخذ بعضهم بعضاً أرباباً، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال‏:‏ ‏{‏وترزق من تشاء بغير حساب‏}‏‏.‏‏.‏

إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى‏.‏ حقيقة الألوهية الواحدة‏.‏ حقيقة القوامة الواحدة‏.‏ وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد‏.‏ وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد‏.‏ ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم، مالك الملك، المعز المذل، المحيي المميت، المانح المانع، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال‏.‏

هذه اللمسة تؤكد الاستنكار الذي سبق في الفقرة الماضية لموقف الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، ثم هم يتولون ويعرضون عن التحاكم إلى كتاب الله، المتضمن لمنهج الله للبشر، بينما منهج الله يدبر أمر الكون كله وأمر البشر‏.‏‏.‏ وفي الوقت ذاته تمهد للتحذير الوارد في الفقرة التالية من تولي المؤمنين الكافرين من دون المؤمنين‏.‏ ما دام أن لا حول للكافرين في هذا الكون ولا طول‏.‏ والأمر كله بيد الله‏.‏ وهو ولي المؤمنين دون سواه‏:‏

‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏.‏ ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء- إلا أن تتقوا منهم تقاة- ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير‏.‏ قل‏:‏ إن تخفوا ما في صدروكم أو تبدوه يعلمه الله، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض، والله على كل شيء قدير‏.‏ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً‏.‏ ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد‏}‏‏.‏‏.‏

لقد استجاش السياق القرآني في الفقرة الماضية الشعور بأن الأمر كله لله، والقوة كلها لله، والتدبير كله لله، والرزق كله بيد الله‏.‏‏.‏ فما ولاء المؤمن إذن لأعداء الله‏؟‏ إنه لا يجتمع في قلب واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون‏.‏

‏.‏ ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد، وهذا التقرير الحاسم بخروج المسلم من إسلامه إذا هو وإلى من لا يرتضي أن يحكم كتاب الله في الحياة، سواء كانت الموالاة بمودة القلب، أو بنصره، أو باستنصاره سواء‏:‏

‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏.‏ ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء‏}‏‏.‏‏.‏

هكذا‏.‏‏.‏ ليس من الله في شيء‏.‏ لا في صلة ولا نسبة، ولا دين ولا عقيدة، ولا رابطة ولا ولاية‏.‏‏.‏ فهو بعيد عن الله، منقطع الصلة تماماً في كل شيء تكون فيه الصلات‏.‏

ويرخص فقط بالتقية لمن خاف في بعض البلدان والأوقات‏.‏‏.‏ ولكنها تقية اللسان لا ولاء القلب ولا ولاء العمل‏.‏ قال ابن عباس- رضي الله عنهما- «ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان»‏.‏‏.‏ فليس من التقية المرخص فيها أن تقوم المودة بين المؤمن وبين الكافر- والكافر هو الذي لا يرضى بتحكيم كتاب الله في الحياة على الإطلاق، كما يدل السياق هنا ضمناً وفي موضع آخر من السورة تصريحاً- كما أنه ليس من التقية المرخص بها أن يعاون المؤمن الكافر بالعمل في صورة من الصور باسم التقية‏.‏ فما يجوز هذا الخداع على الله‏!‏

ولما كان الأمر في هذه الحالة متروكاً للضمائر ولتقوى القلوب وخشيتها من علام الغيوب، فقد تضمن التهديد تحذير المؤمنين من نقمة الله وغضبه في صورة عجيبة من التعبير حقاً‏:‏

‏{‏ويحذركم الله نفسه‏.‏ وإلى الله المصير‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يتابع السياق التحذير ولمس القلوب، وإشعارها أن عين الله عليها، وأن علم الله يتابعها‏:‏

‏{‏قل‏:‏ إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏

وهو إمعان في التحذير والتهديد، واستجاشة الخشية واتقاء التعرض للنقمة التي يساندها العلم والقدرة، فلا ملجأ منها ولا نصرة‏!‏

ثم يتابع السياق التحذير ولمس القلوب خطوة أخرى كذلك باستحضار اليوم المرهوب، الذي لا يند فيه عمل ولا نية؛ والذي تواجه فيه كل نفس برصيدها كله‏:‏

‏{‏يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً‏}‏‏.‏‏.‏

وهي مواجهة تأخذ المسالك على القلب البشري، وتحاصره برصيده من الخير والسوء‏.‏ وتصور له نفسه وهو يواجه هذا الرصيد، ويود- ولكن لات حين مودة‏!‏- لو أن بينه وبين السوء الذي عمله أمداً بعيداً‏.‏ أو أن بينه وبين هذا اليوم كله أمداً بعيداً‏.‏ بينما هو في مواجهته، آخذ بخناقه، ولات حين خلاص، ولات حين فرار‏!‏

ثم يتابع السياق الحملة على القلب البشري، فيكرر تحذير الله للناس من نفسه- سبحانه-‏:‏

‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏‏.‏

ويذكرهم رحمته في هذا التحذير والفرصة متاحة قبل فوات الأوان‏:‏

‏{‏والله رؤوف بالعباد‏}‏‏.‏‏.‏

ومن رأفته هذا التحذير وهذا التذكير‏.‏ وهو دليل على إرادته الخير والرحمة بالعباد‏.‏‏.‏

وتشي هذه الحملة الضخمة المنوعة الإيماءات والإيحاءات والأساليب والإشارات، بما كان واقعاً في حياة الجماعة المسلمة من خطورة تميع العلاقات بين أفراد من المعسكر المسلم وأقربائهم وأصدقائهم وعملائهم في مكة مع المشركين وفي المدينة مع اليهود‏.‏ تحت دوافع القرابة أو التجارة‏.‏‏.‏ على حين يريد الإسلام أن يقيم أساس المجتمع المسلم الجديد على قاعدة العقيدة وحدها، وعلى قاعدة المنهج المنبثق من هذه العقيدة‏.‏‏.‏ الأمر الذي لا يسمح الإسلام فيه بالتميع والأرجحة إطلاقاً‏.‏‏.‏

كذلك يشي بحاجة القلب البشري في كل حين إلى الجهد الناصب للتخلص من هذه الأوهاق، والتحرر من تلك القيود، والفرار إلى الله والارتباط بمنهجه دون سواه‏.‏

والإسلام لا يمنع أن يعامل المسلم بالحسنى من لا يحاربه في دينه، ولو كان على غير دينه‏.‏‏.‏ ولكن الولاء شيء آخر غير المعاملة بالحسنى‏.‏ الولاء ارتباط وتناصر وتواد‏.‏ وهذا لا يكون- في قلب يؤمن بالله حقاً- إلا للمؤمنين الذين يرتبطون معه في الله؛ ويخضعون معه لمنهجه في الحياة؛ ويتحاكمون إلى كتابه في طاعة واتباع واستسلام‏.‏

وأخيراً يجيء ختام هذا الدرس قوياً حازما، حاسماً في القضية التي يعالجها، والتي تمثل أكبر الخطوط العريضة الأساسية في السورة‏.‏ يجيء ليقرر في كلمات قصيرة حقيقة الإيمان، وحقيقة الدين‏.‏ ويفرق تفريق حاسماً بين الإيمان والكفر في جلاء لا يحتمل الشبهات‏:‏

‏{‏قل‏:‏ إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم‏.‏ قل‏:‏ أطيعوا الله والرسول‏:‏ فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين‏}‏‏.‏‏.‏

إن حب الله ليس دعوى باللسان، ولا هياماً بالوجدان، إلا أن يصاحبه الأتباع لرسول الله، والسير على هداه، وتحقيق منهجه في الحياة‏.‏‏.‏ وإن الإيمان ليس كلمات تقال، ولا مشاعر تجيش، ولا شعائر تقام‏.‏ ولكنه طاعة لله والرسول، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول‏.‏‏.‏

يقول الإمام ابن كثير في التفسير عن الآية الأولى‏:‏ «هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية‏.‏ فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏» من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد «‏.‏

ويقول عن الآية الثانية‏:‏ ‏{‏قل أطيعوا الله والرسول‏.‏ فإن تولوا‏}‏‏.‏‏.‏ أي تخالفوا عن أمره- ‏{‏فإن الله لا يحب الكافرين‏}‏‏.‏‏.‏ فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله‏.‏

ويقول الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه‏:‏ «زاد المعاد في هدى خير العباد»‏:‏

«ومن تأمل في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له- صلى الله عليه وسلم- بالرسالة وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام‏.‏‏.‏ علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس مجرد المعرفة فقط‏.‏ ولا المعرفة والإقرار فقط‏.‏ بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً‏.‏‏.‏»

إن هذا الدين له حقيقة مميزة لا يوجد إلا بوجودها‏.‏‏.‏ حقيقة الطاعة لشريعة الله، والاتباع لرسول الله، والتحاكم إلى كتاب الله‏.‏‏.‏ وهي الحقيقة المنبثقة من عقيدة التوحيد كما جاء بها الإسلام‏.‏ توحيد الألوهية التي لها وحدها الحق في أن تعبد الناس لها، وتطوّعهم لأمرها، وتنفذ فيهم شرعها، وتضع لهم القيم والموازين التي يتحاكمون إليها ويرتضون حكمها‏.‏ ومن ثم توحيد القوامة التي تجعل الحاكمية لله وحده في حياة البشر وارتباطاتها جميعاً، كما أن الحاكمية لله وحده في تدبير أمر الكون كله‏.‏ وما الإنسان إلا قطاع من هذا الكون الكبير‏.‏

وهذا الدرس الأول من السورة يقرر هذه الحقيقة- كما رأينا- في صورة ناصعة كاملة شاملة، لا مهرب من مواجهتها والتسليم بها لمن شاء أن يكون مسلماً‏.‏ إن الدين عند الله الإسلام‏.‏‏.‏ وهذا- وحده- هو الإسلام كما شرعه الله، لا كما تصوره المفتريات والأوهام‏.‏‏.‏