فصل: سورة البروج

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


سورة البروج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 22‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ‏(‏1‏)‏ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ‏(‏2‏)‏ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ‏(‏3‏)‏ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ‏(‏4‏)‏ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ‏(‏5‏)‏ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ‏(‏6‏)‏ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ‏(‏7‏)‏ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏8‏)‏ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ‏(‏10‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ‏(‏11‏)‏ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ‏(‏13‏)‏ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ‏(‏14‏)‏ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ‏(‏15‏)‏ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏16‏)‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ‏(‏17‏)‏ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ‏(‏18‏)‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ‏(‏19‏)‏ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ‏(‏20‏)‏ بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ ‏(‏21‏)‏ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

هذه السورة القصيرة تعرض، حقائق العقيدة، وقواعد التصور الإيماني‏.‏‏.‏ أموراً عظيمة وتشع حولها أضواء قوية بعيدة المدى، وراء المعاني والحقائق المباشرة التي تعبر عنها نصوصها حتى لتكاد كل آية وأحياناً كل كلمة في الآية أن تفتح كوة على عالم مترامي الأطراف من الحقيقة‏.‏‏.‏

والموضوع المباشر الذي تتحدث عنه السورة هو حادث أصحاب الأخدود‏.‏‏.‏ والموضوع هو أن فئة من المؤمنين السابقين على الإسلام قيل إنهم من النصارى الموحدين ابتلوا بأعداء لهم طغاة قساة شريرين، أرادوهم على ترك عقيدتهم والارتداد عن دينهم، فأبوا وتمنعوا بعقيدتهم‏.‏ فشق الطغاة لهم شقاً في الأرض، وأوقدوا فيه النار، وكبوا فيه جماعة المؤمنين فماتوا حرقاً، على مرأى من الجموع التي حشدها المتسلطون لتشهد مصرع الفئة المؤمنة بهذه الطريقة البشعة، ولكي يتلهى الطغاة بمشهد الحريق‏.‏ حريق الآدميين المؤمنين‏:‏ ‏{‏وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد‏}‏‏.‏‏.‏

تبدأ السورة بقسم‏:‏ ‏{‏والسماء ذات البروج، واليوم الموعود، وشاهد ومشهود، قتل أصحاب الأخدود‏.‏‏.‏‏}‏ فتربط بين السماء وما فيها من بروج هائلة، واليوم الموعود وأحداثه الضخام، والحشود التي تشهده والأحداث المشهودة فيه‏.‏‏.‏ تربط بين هذا كله وبين الحادث ونقمة السماء على أصحابه البغاة‏.‏

ثم تعرض المشهد المفجع في لمحات خاطفة، تودع المشاعر بشاعة الحادث بدون تفصيل ولا تطويل‏.‏‏.‏ مع التلميح إلى عظمة العقيدة التي تعالت على فتنة الناس مع شدتها، وانتصرت على النار وعلى الحياة ذاتها، وارتفعت إلى الأوج الذي يشرف الإنسان في أجياله جميعاً‏.‏ والتلميح إلى بشاعة الفعلة، وما يكمن فيها من بغي وشر وتسفل، إلى جانب ذلك الارتفاع والبراءة والتطهر من جانب المؤمنين‏:‏ ‏{‏النار ذات الوقود‏.‏ إذ هم عليها قعود‏.‏ وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود‏}‏‏.‏‏.‏

بعد ذلك تجيء التعقيبات المتوالية القصيرة متضمنة تلك الأمور العظيمة في شأن الدعوة والعقيدة والتصور الإيماني الأصيل‏:‏

إشارة إلى ملك الله في السماوات والأرض وشهادته وحضوره تعالى لكل ما يقع في السماوات والأرض‏:‏ الله ‏{‏الذي له ملك السماوات والأرض‏.‏ والله على كل شيء شهيد‏}‏‏.‏‏.‏

وإشارة إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق الذي ينتظر الطغاة الفجرة السفلة؛ وإلى نعيم الجنة‏.‏‏.‏ ذلك الفوز الكبير‏.‏‏.‏ الذي ينتظر المؤمنين الذين اختاروا عقيدتهم على الحياة، وارتفعوا على فتنة النار والحريق‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق‏.‏ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏.‏ ذلك الفوز الكبير‏}‏‏.‏‏.‏

وتلويح ببطش الله الشديد، الذي يبدئ ويعيد‏:‏ ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏.‏ إنه هو يبدئ ويعيد‏}‏‏.‏‏.‏ وهي حقيقة تتصل اتصالاً مباشراً بالحياة التي أزهقت في الحادث، وتلقي وراء الحادث إشعاعات بعيدة‏.‏

وبعد ذلك بعض صفات الله تعالى‏.‏ وكل صفة منها تعني أمراً‏.‏‏.‏

‏{‏وهو الغفور الودود‏}‏ الغفور للتائبين من الإثم مهما عظم وبشع‏.‏ الودود لعباده الذين يختارونه على كل شيء‏.‏ والود هنا هو البلسم المريح لمثل تلك القروح‏!‏

‏{‏ذو العرش المجيد‏.‏ فعال لما يريد‏}‏‏.‏‏.‏ وهي صفات تصور الهيمنة المطلقة، والقدرة المطلقة‏.‏ والإرادة المطلقة‏.‏‏.‏ وكلها ذات اتصال بالحادث‏.‏‏.‏ كما أنها تطلق وراءه إشعاعات بعيدة الآماد‏.‏

ثم إشارة سريعة إلى سوابق من أخذه للطغاة، وهم مدججون بالسلاح‏.‏‏.‏ ‏{‏هل أتاك حديث الجنود‏.‏ فرعون وثمود‏؟‏‏}‏ وهما مصرعان متنوعان في طبيعتهما وآثارهما‏.‏ وورءاهما مع حادث الأخدود إشعاعات كثيرة‏.‏

وفي الختام يقرر شأن الذين كفروا وإحاطة الله بهم وهم لا يشعرون‏:‏ ‏{‏بل الذين كفروا في تكذيب‏.‏ والله من ورائهم محيط‏}‏‏.‏‏.‏

ويقرر حقيقة القرآن، وثبات أصله وحياطته‏:‏ ‏{‏بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ‏}‏‏.‏‏.‏ مما يوحي بأن ما يقرره هو القول الفصل والمرجع الأخير، في كل الأمور‏.‏

هذه لمحات مجملة عن إشعاعات السورة ومجالها الواسع البعيد‏.‏ تمهد لاستعراض هذه الإشعاعات بالتفصيل‏:‏

‏{‏والسماء ذات البروج، واليوم الموعود، وشاهد ومشهود‏}‏‏.‏‏.‏

تبدأ السورة قبل الإشارة إلى حادث الأخدود بهذا القسم‏:‏ بالسماء ذات البروج، وهي إما أن تكون أجرام النجوم الهائلة وكأنها بروج السماء الضخمة أي قصورها المبنية، كما قال‏:‏ ‏{‏والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون‏}‏ وكما قال‏:‏ ‏{‏أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها‏}‏ وإما أن تكون هي المنازل التي تنتقل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها، وهي مجالاتها التي لا تتعداها في جريانها في السماء‏.‏ والإشارة إليها يوحي بالضخامة‏.‏ وهو الظل المراد إلقاؤه في هذا الجو‏.‏

‏{‏واليوم الموعود‏}‏‏.‏‏.‏ وهو يوم الفصل في أحداث الدنيا، وتصفية حساب الأرض وما كان فيها‏.‏ وهو الموعود الذي وعد الله بمجيئه، ووعد بالحساب والجزاء فيه؛ وأمهل المتخاصمين والمتقاضين إليه‏.‏ وهو اليوم العظيم الذي تتطلع إليه الخلائق، وتترقبه لترى كيف تصير الأمور‏.‏

‏{‏وشاهد ومشهود‏}‏‏.‏‏.‏ في ذلك اليوم الذي تعرض فيه الأعمال، وتعرض فيه الخلائق، فتصبح كلها مشهودة، ويصبح الجميع شاهدين‏.‏‏.‏ ويعلم كل شيء‏.‏ ويظهر مكشوفاً لا يستره ساتر عن القلوب والعيون‏.‏‏.‏

وتلتقي السماء ذات البروج، واليوم الموعود، وشاهد ومشهود‏.‏‏.‏ تلتقي جميعاً في إلقاء ظلال الاهتمام والاحتفال والاحتشاد والضخامة على الجو الذي يعرض فيه بعد ذلك حادث الأخدود‏.‏‏.‏ كما توحي بالمجال الواسع الشامل الذي يوضع فيه هذا الحادث‏.‏ وتوزن فيه حقيقته ويصفى فيه حسابه‏.‏‏.‏ وهو أكبر من مجال الأرض، وأبعد من مدى الحياة الدنيا وأجلها المحدود‏.‏‏.‏

وبعد رسم هذا الجو، وفتح هذا المجال، تجيء الإشارة إلى الحادث في لمسات قلائل‏:‏

‏{‏قتل أصحاب الأخدود‏.‏ النار ذات الوقود‏.‏ إذ هم عليها قعود‏.‏ وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود‏.‏ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد‏.‏ الذي له ملك السماوات والأرض، والله على كل شيء شهيد‏}‏‏.‏

وتبدأ الإشارة إلى الحادث بإعلان النقمة على أصحاب الأخدود‏:‏ ‏{‏قتل أصحاب الأخدود‏}‏‏.‏‏.‏ وهي كلمة تدل على الغضب‏.‏ غضب الله على الفعلة وفاعليها‏.‏ كما تدل على شناعة الذنب الذي يثير غضب الحليم، ونقمته، ووعيده بالقتل لفاعليه‏.‏

ثم يجيء تفسير الأخدود‏:‏ ‏{‏النار ذات الوقود‏}‏ والأخدود‏:‏ الشق في الأرض‏.‏ وكان أصحابه قد شقوه وأوقدوا فيه النار حتى ملأوه ناراً، فصارت النار بدلاً في التعبير من الأخدود للإيحاء بتلهب النار فيه كله وتوقدها‏.‏

قتل أصحاب الأخدود، واستحقوا هذه النقمة وهذا الغضب، في الحالة التي كانوا عليها وهم يرتكبون ذلك الإثم، ويزاولون تلك الجريمة‏:‏ ‏{‏إذ هم عليها قعود‏.‏ وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود‏}‏‏.‏‏.‏ وهو تعبير يصور موقفهم ومشهدهم، وهم يوقدون النار، ويلقون بالمؤمنين والمؤمنات فيها وهم قعود على النار، قريبون من عملية التعذيب البشعة، يشاهدون أطوار التعذيب، وفعل النار في الأجسام في لذة وسعار، كأنما يثبتون في حسهم هذا المشهد البشع الشنيع‏!‏

وما كان للمؤمنين من ذنب عندهم ولا ثأر‏:‏ ‏{‏وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد‏.‏ الذي له ملك السماوات والأرض‏.‏ والله على كل شيء شهيد‏}‏‏.‏‏.‏ فهذه جريمتهم أنهم آمنوا بالله، العزيز‏:‏ القادر على ما يريد، الحميد‏:‏ المستحق للحمد في كل حال، والمحمود بذاته ولو لم يحمده الجهال‏!‏ وهو الحقيق بالإيمان وبالعبودية له‏.‏ وهو وحده الذي له ملك السماوات والأرض وهو يشهد كل شيء وتتعلق به إرادته تعلق الحضور‏.‏

ثم هو الشهيد على ما كان من أمر المؤمنين وأصحاب الأخدود‏.‏‏.‏ وهذه لمسة تطمئن قلوب المؤمنين، وتهدد العتاة المتجبرين‏.‏ فالله كان شهيداً‏.‏ وكفى بالله شهيداً‏.‏

وتنتهي رواية الحادث في هذه الآيات القصار، التي تملأ القلب بشحنة من الكراهية لبشاعة الفعلة وفاعليها، كما تستجيش فيه التأمل فيما وراء الحادث ووزنه عند الله وما استحقه من نقمته وغضبه‏.‏ فهو أمر لم ينته بعد عند هذا الحد، ووراءه في حساب الله ما وراءه‏.‏

كذلك تنتهي رواية الحادث وقد ملأت القلب بالروعة‏.‏ روعة الإيمان المستعلي على الفتنة، والعقيدة المنتصرة على الحياة، والانطلاق المتجرد من أوهاق الجسم وجاذبية الأرض‏.‏ فقد كان مكنة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم‏.‏ ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة‏؟‏ وكم كانت البشرية كلها تخسر‏؟‏ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير‏:‏ معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد‏!‏ إنه معنى كريم جداً ومعنى كبير جداً هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض‏.‏ ربحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار‏؟‏ وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب، ولأعدائهم الطاغين حساب‏.‏‏.‏ يعقب به السياق‏.‏

‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق‏.‏ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏.‏ ذلك الفوز الكبير‏}‏‏.‏‏.‏

إن الذي حدث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث وليس نهاية المطاف‏.‏ فالبقية آتية هناك‏.‏ والجزاء الذي يضع الأمر في نصابه، ويفصل فيما كان بين المؤمنين والطاغين آت‏.‏ وهو مقرر مؤكد، وواقع كما يقول عنه الله‏:‏

‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات‏}‏‏.‏‏.‏ ومضوا في ضلالتهم سادرين، لم يندموا على ما فعلوا ‏{‏ثم لم يتوبوا‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق‏}‏‏.‏‏.‏ وينص على ‏{‏الحريق‏}‏‏.‏‏.‏ وهو مفهوم من عذاب جهنم‏.‏ ولكنه ينطق به وينص عليه ليكون مقابلاً للحريق في الأخدود‏.‏ وبنفس اللفظ الذي يدل على الحدث‏.‏ ولكن أين حريق من حريق‏؟‏ في شدته أو في مدته‏!‏ وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق‏.‏ وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق‏!‏ وحريق الدنيا لحظات وتنتهي، وحريق الاخرة آباد لا يعلمها إلا الله‏!‏ ومع حريق الدنيا رضى الله عن المؤمنين وانتصار لذلك المعنى الإنساني الكريم‏.‏ ومع حريق الآخرة غضب الله، والارتكاس الهابط الذميم‏!‏

ويتمثل رضى الله وإنعامه على الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏‏.‏‏.‏ وهذه هي النجاة الحقيقية‏:‏ ‏{‏ذلك الفوز الكبير‏}‏‏.‏‏.‏ والفوز‏:‏ النجاة والنجاح‏.‏ والنجاة من عذاب الآخرة فوز‏.‏ فكيف بالجنات تجري من تحتها الأنهار‏؟‏

بهذه الخاتمة يستقر الأمر في نصابه‏.‏ وهي الخاتمة الحقيقية للموقف‏.‏ فلم يكن ما وقع منه في الأرض إلا طرفاً من أطرافه، لا يتم به تمامه‏.‏‏.‏ وهذه هي الحقيقة التي يهدف إليها هذا التعقيب الأول على الحادث لتستقر في قلوب القلة المؤمنة في مكة، وفي قلوب كل فئة مؤمنة تتعرض للفتنة على مدار القرون‏.‏ ثم تتوالى التعقيبات‏.‏‏.‏

‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏‏.‏‏.‏ وإظهار حقيقة البطش وشدته في هذا الموضع هو الذي يناسب ما مر في الحادث من مظهر البطش الصغير الهزيل الذي يحسبه أصحابه ويحسبه الناس في الأرض كبيراً شديداً‏.‏ فالبطش الشديد هو بطش الجبار‏.‏ الذي له ملك السماوات والأرض‏.‏ لا بطش الضعاف المهازيل الذين يتسلطون على رقعة من الأرض محدودة، في رقعة من الزمان محدودة‏.‏‏.‏

ويظهر التعبير العلاقة بين المخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم والقائل وهو الله عز وجل‏.‏ وهو يقول له‏:‏ ‏{‏إن بطش ربك‏.‏‏.‏‏}‏ ربك الذي تنتسب إلى ربوبيته، وسندك الذي تركن إلى معونته‏.‏‏.‏ ولهذه النسبة قيمتها في هذا المجال الذي يبطش فيه الفجار بالمؤمنين‏!‏

‏{‏إنه هو يبدئ ويعيد‏}‏‏.‏‏.‏ والبدء والإعادة وإن اتجه معناهما الكلي إلى النشأة الأولى والنشأة الآخرة‏.‏‏.‏ إلا أنهما حدثان دائبان في كل لحظة من ليل أو نهار‏.‏ ففي كل لحظة بدء وإنشاء، وفي كل لحظة إعادة لما بلي ومات‏.‏

والكون كله في تجدد مستمر‏.‏‏.‏ وفي بلى مستمر‏.‏‏.‏ وفي ظل هذه الحركة الدائبة الشاملة من البدء والإعادة يبدو حادث الأخدود ونتائجه الظاهرة مسألة عابرة في واقع الأمر وحقيقة التقدير‏.‏ فهو بدء لإعادة‏.‏ أو إعادة لبدء‏.‏ في هذه الحركة الدائبة الدائرة‏.‏‏.‏

‏{‏وهو الغفور الودود‏}‏‏.‏‏.‏ والمغفرة تتصل بقوله من قبل‏:‏ ‏{‏ثم لم يتوبوا‏}‏‏.‏‏.‏ فهي من الرحمة والفضل الفائض بلا حدود ولا قيود‏.‏ وهي الباب المفتوح الذي لا يغلق في وجه عائد تائب‏.‏ ولو عظم الذنب وكبرت المعصية‏.‏‏.‏ أما الود‏.‏‏.‏ فيتصل بموقف المؤمنين، الذين اختاروا ربهم على كل شيء‏.‏ وهو الإيناس اللطيف الحلو الكريم‏.‏ حين يرفع الله عباده الذين يؤثرونه ويحبونه إلى مرتبة، يتحرج القلم من وصفها لولا أن فضل الله يجود بها‏.‏‏.‏ مرتبة الصداقة‏.‏‏.‏ الصداقة بين الرب والعبد‏.‏‏.‏ ودرجة الود من الله لأودائه وأحبائه المقربين‏.‏‏.‏ فماذا تكون الحياة التي ضحوا بها وهي ذاهبة‏.‏ وماذا يكون العذاب الذي احتملوه وهو موقوت‏؟‏ ماذا يكون هذا إلى جانب قطرة من هذا الود الحلو‏.‏ وإلى جانب لمحة من هذا الإيناس الحبيب‏؟‏

إن عبيداً من رقيق هذه الأرض‏.‏ عبيد الواحد من البشر، ليلقون بأنفسهم إلى التهلكة لكلمة تشجيع تصدر من فمه، أو لمحة رضاء تبدو في وجهه‏.‏‏.‏ وهو عبد وهم عبيد‏.‏‏.‏ فكيف بعباد الله‏.‏ الذين يؤنسهم الله بوده الكريم الجليل، الله ‏{‏ذو العرش المجيد‏}‏ العالي المهيمن الماجد الكريم‏؟‏ ألا هانت الحياة‏.‏ وهان الألم‏.‏ وهان العذاب‏.‏ وهان كل غال عزيز، في سبيل لمحة رضى يجود بها المولى الودود ذو العرش المجيد‏.‏‏.‏

‏{‏فعال لما يريد‏}‏‏.‏‏.‏ هذه صفته الكثيرة التحقق، الدائبة العمل‏.‏‏.‏ فعال لما يريد‏.‏‏.‏ فهو مطلق الإرادة، يختار ما يشاء؛ ويفعل ما يريده ويختاره، دائماً أبداً، فتلك صفته سبحانه‏.‏

يريد مرة أن ينتصر المؤمنون به في هذه الأرض لحكمة يريدها‏.‏ ويريد مرة أن ينتصر الإيمان على الفتنة وتذهب الأجسام الفانية لحكمة يريدها‏.‏‏.‏ يريد مرة أن يأخذ الجبارين في الأرض‏.‏ ويريد مرة أن يمهلهم لليوم الموعود‏.‏‏.‏ لحكمة تتحقق هنا وتتحقق هناك، في قدره المرسوم‏.‏‏.‏

فهذا طرف من فعله لما يريد‏.‏ يناسب الحادث ويناسب ما سيأتي من حديث فرعون وثمود‏.‏ وتبقى حقيقة الإرادة الطليقة والقدرة المطلقة وراء الأحداث ووراء الحياة والكون تفعل فعلها في الوجود‏.‏

فعال لما يريد‏.‏‏.‏ وهاك نموذجاً من فعله لما يريد‏:‏

‏{‏هل أتاك حديث الجنود‏:‏ فرعون وثمود‏؟‏‏}‏‏.‏ وهي إشارة إلى قصتين طويلتين، ارتكاناً إلى المعلوم من أمرهما للمخاطبين، بعدما ورد ذكرهما كثيراً في القرآن الكريم‏.‏ ويسميهم الجنود‏.‏ إشارة إلى قوتهم واستعدادهم‏.‏‏.‏ هل أتاك حديثهم‏؟‏ وكيف فعل ربك بهم ما يريد‏؟‏

وهما حديثان مختلفان في طبعتهما وفي نتائجهما‏.‏‏.‏ فأما حديث فرعون، فقد أهلكه الله وجنده ونجى بني إسرائيل، ومكن لهم في الأرض فترة، ليحقق بهم قدراً من قدره، وإرادة من إرادته‏.‏

وأما حديث ثمود فقد أهلكهم الله عن بكرة أبيهم وأنجى صالحاً والقلة معه حيث لم يكن بعد ذلك ملك ولا تمكين‏.‏ إنما هي مجرد النجاة من القوم الفاسقين‏.‏

وهما نموذجان لفعل الإرادة، وتوجه المشيئة‏.‏ وصورتان من صور الدعوة إلى الله واحتمالاتها المتوقعة، إلى جانب الاحتمال الثالث الذي وقع في حادث الأخدود‏.‏‏.‏ وكلها يعرضها القرآن للقلة المؤمنة في مكة، ولكل جيل من أجيال المؤمنين‏.‏‏.‏

وفي الختام يجيء إيقاعان قويان جازمان‏.‏ في كل منهما تقرير، وكلمة فصل وحكم أخير‏:‏

‏{‏بل الذين كفروا في تكذيب، والله من ورائهم محيط‏}‏‏.‏‏.‏

فشأن الكفار وحقيقة حالهم أنهم في تكذيب يمسون به ويصبحون‏.‏ ‏{‏والله من ورائهم محيط‏}‏‏.‏‏.‏ وهم غافلون عما يحيط بهم من قهر الله وعلمه‏.‏ فهم أضعف من الفيران المحصورة في الطوفان العميم‏!‏

‏{‏بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ‏}‏‏.‏‏.‏

والمجيد الرفيع الكريم العريق‏.‏‏.‏ وهل أمجد وأرفع وأعرق من قول الله العظيم‏؟‏ وهو في لوح محفوظ‏.‏ لا ندرك نحن طبيعته، لأنه من أمر الغيب الذي تفرد الله بعلمه‏.‏ إنما ننتفع نحن بالظل الذي يلقيه التعبير، والإيحاء الذي يتركه في القلوب‏.‏ وهو أن هذا القرآن مصون ثابت، قوله هو المرجع الأخير، في كل ما يتناوله من الأمور‏.‏ يذهب كل قول، وقوله هو المرعي المحفوظ‏.‏‏.‏

ولقد قال القرآن قوله في حادث الأخدود، وفي الحقيقة التي وراءه‏.‏‏.‏ وهو القول الأخير‏.‏‏.‏

سورة الطارق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 17‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ‏(‏2‏)‏ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ‏(‏3‏)‏ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ‏(‏4‏)‏ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ‏(‏5‏)‏ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ‏(‏6‏)‏ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ‏(‏9‏)‏ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ‏(‏10‏)‏ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ‏(‏11‏)‏ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ‏(‏13‏)‏ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ‏(‏14‏)‏ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ‏(‏15‏)‏ وَأَكِيدُ كَيْدًا ‏(‏16‏)‏ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

جاء في مقدمة هذا الجزء أن سوره تمثل طرقات متوالية على الحس‏.‏ طرقات عنيفة قوية عالية، وصيحات بنوّم غارقين في النوم‏.‏‏.‏ تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات بإيقاع واحد، ونذير واحد‏.‏ «اصحوا‏.‏ تيقظوا‏.‏ انظروا‏.‏ تلفتوا‏.‏ تفكروا‏.‏ تدبروا‏.‏ إن هنالك إلهاً‏.‏ وإن هنالك تدبيراً‏.‏ وإن هنالك تقديراً‏.‏ وإن هنالك ابتلاء‏.‏ وإن هنالك تبعة‏.‏ وإن هنالك حساباً وجزاء‏.‏ وإن هنالك عذاباً شديداً ونعيماً كبيراً‏.‏‏.‏»‏.‏‏.‏

وهذه السورة نموذج واضح لهذه الخصائص‏.‏ ففي إيقاعاتها حدة يشارك فيها نوع المشاهد، ونوع الإيقاع الموسيقي، وجرس الألفاظ، وإيحاء المعاني‏.‏

ومن مشاهدها‏:‏ الطارق‏.‏ والثاقب‏.‏ والدافق‏.‏ والرجع‏.‏ والصدع‏.‏

ومن معانيها‏:‏ الرقابة على كل نفس‏:‏ ‏{‏إن كل نفس لما عليها حافظ‏}‏‏.‏‏.‏ ونفي القوة والناصر‏:‏ ‏{‏يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر‏}‏‏.‏‏.‏ والجد الصارم‏:‏ ‏{‏إنه لقول فصل وما هو بالهزل‏}‏‏.‏‏.‏

والوعيد فيها يحمل الطابع ذاته‏:‏ ‏{‏إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً‏.‏ فمهل الكافرين أمهلهم رويداً‏!‏‏}‏ ‏!‏

وتكاد تتضمن تلك الموضوعات التي أشير إليها في مقدمة الجزء‏:‏ «إن هنالك إلهاً‏.‏ وإن هنالك تدبيراً‏.‏ وإن هنالك تقديراً‏.‏ وإن هنالك ابتلاء‏.‏ وإن هنالك تبعة‏.‏ وإن هنالك حساباً وجزاء‏.‏‏.‏ الخ»‏.‏

وبين المشاهد الكونية والحقائق الموضوعية في السورة تناسق مطلق دقيق ملحوظ يتضح من استعراض السورة في سياقها القرآني الجميل‏.‏‏.‏

‏{‏والسماء والطارق‏.‏ وما أدراك ما الطارق‏؟‏ النجم الثاقب‏.‏ إن كل نفس لما عليها حافظ‏}‏‏.‏‏.‏

هذا القسم يتضمن مشهداً كونياً وحقيقة إيمانية‏.‏ وهو يبدأ بذكر السماء والطارق ويثني بالاستفهام المعهود في التعبير القرآني‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما الطارق‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ وكأنه أمر وراء الإدراك والعلم‏.‏ ثم يحدده ويبينه بشكله وصورته‏:‏ ‏{‏النجم الثاقب‏}‏ الذي يثقب الظلام بشعاعه النافذ‏.‏ وهذا الوصف ينطبق على جنس النجم‏.‏ ولا سبيل إلى تحديد نجم بذاته من هذا النص، ولا ضرورة لهذا التحديد‏.‏ بل إن الإطلاق أولى‏.‏ ليكون المعنى‏:‏ والسماء ونجومها الثاقبة للظلام، النافذة من هذا الحجاب الذي يستر الأشياء‏.‏ ويكون لهذه الإشارة إيحاؤها حول حقائق السورة وحول مشاهدها الأخرى‏.‏‏.‏ كما سيأتي‏.‏‏.‏

يقسم بالسماء ونجمها الثاقب‏:‏ أن كل نفس عليها من أمر الله رقيب‏:‏ ‏{‏إن كل نفس لما عليها حافظ‏}‏‏.‏‏.‏ وفي التعبير بصيغته هذه معنى التوكيد الشديد‏.‏‏.‏ ما من نفس إلا عليها حافظ‏.‏ يراقبها، ويحصى عليها، ويحفظ عنها، وهو موكل بها بأمر الله‏.‏ ويعين النفس لأنها مستودع الأسرار والأفكار‏.‏ وهي التي يناط بها العمل والجزاء‏.‏

ليست هنالك فوضى إذن ولا هيصة‏!‏ والناس ليسوا مطلقين في الأرض هكذا بلا حارس‏.‏ ولا مهملين في شعابها بلا حافظ، ولا متروكين يفعلون كيف شاءوا بلا رقيب‏.‏ إنما هو الإحصاء الدقيق المباشر، والحساب المبني على هذا الإحصاء الدقيق المباشر‏.‏

ويلقي النص إيحاءه الرهيب حيث تحس النفس أنها ليست أبداً في خلوة وإن خلت فهناك الحافظ الرقيب عليها حين تنفرد من كل رقيب، وتتخفى عن كل عين، وتأمن من كل طارق‏.‏ هنالك الحافظ الذي يشق كل غطاء وينفذ إلى كل مستور‏.‏ كما يطرق النجم الثاقب حجاب الليل الساتر‏.‏‏.‏ وصنعة الله واحدة متناسقة في الأنفس وفي الآفاق‏.‏

ويخلص من هذه اللمسة التي تصل النفس بالكون، إلى لمسة أخرى تؤكد التقدير والتدبير، التي أقسم عليها بالسماء والطارق‏.‏ فهذه نشأة الإنسان الأولى تدل على هذه الحقيقة؛ وتوحي بأن الإنسان ليس متروكاً سدى، ولا مهملاً ضياعاً‏:‏

‏{‏فلينظر الإنسان ممّ خلق‏.‏ خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب‏}‏‏.‏‏.‏

فلينظر الإنسان من أي شيء خلق وإلى أي شيء صار‏.‏‏.‏ إنه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل وهو عظام ظهره الفقارية ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلوية‏.‏‏.‏ ولقد كان هذا سراً مكنوناً في علم الله لا يعلمه البشر‏.‏ حتى كان نصف القرن الأخير حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته؛ وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل، وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة‏.‏ حيث يلتقيان في قرار مكين فينشأ منهما الإنسان‏!‏

والمسافة الهائلة بين المنشأ والمصير‏.‏‏.‏ بين الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب وبين الإنسان المدرك العاقل المعقد التركيب العضوي والعصبي والعقلي والنفسي‏.‏‏.‏ هذه المسافة الهائلة التي يعبرها الماء الدافق إلى الإنسان الناطق توحي بأن هنالك يداً خارج ذات الإنسان هي التي تدفع بهذا الشيء المائع الذي لا قوام له ولا إرادة ولا قدرة، في طريق الرحلة الطويلة العجيبة الهائلة، حتى تنتهي به إلى هذه النهاية الماثلة‏.‏ وتشي بأن هنالك حافظاً من أمر الله يرعى هذه النطفة المجردة من الشكل والعقل، ومن الإرادة والقدرة، في رحلتها الطويلة العجيبة‏.‏ وهي تحوي من العجائب أضعاف ما يعرض للإنسان من العجائب من مولده إلى مماته‏!‏

هذه الخلية الواحدة الملقحة لا تكاد ترى بالمجهر، إذ أن هنالك ملايين منها في الدفقة الواحدة‏.‏‏.‏ هذه الخليقة التي لا قوام لها ولا عقل ولا قدرة ولا إرادة، تبدأ في الحال بمجرد استقرارها في الرحم في عملية بحث عن الغذاء‏.‏ حيث تزودها اليد الحافظة بخاصية أكالة تحوّل بها جدار الرحم حولها إلى بركة من الدم السائل المعد للغذاء الطازج‏!‏ وبمجرد اطمئنانها على غذائها تبدأ في عملية جديدة‏.‏ عملية انقسام مستمرة تنشأ عنها خلايا‏.‏‏.‏ وتعرف هذه الخليقة الساذجة التي لا قوام لها ولا عقل ولا قدرة ولا إرادة‏.‏‏.‏ تعرف ماذا هي فاعلة وماذا هي تريد‏.‏‏.‏ حيث تزودها اليد الحافظة بالهدى والمعرفة والقدرة والإرادة التي تعرف بها الطريق‏!‏ إنها مكلفة أن تخصص كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة لبناء ركن من أركان هذه العمارة الهائلة‏.‏

‏.‏ عمارة الجسم الإنساني‏.‏‏.‏ فهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الهيكل العظمي‏.‏ وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز العضلي‏.‏ وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز العصبي‏.‏ وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز للمفاوي‏.‏‏.‏ إلى آخر هذه الأركان الأساسية في العمارة الإنسانية‏!‏‏.‏‏.‏ ولكن العمل ليس بمثل هذه البساطة‏.‏‏.‏ إن هنالك تخصصاً أدق‏.‏ فكل عظم من العظام‏.‏ وكل عضلة من العضلات‏.‏ وكل عصب من الأعصاب‏.‏‏.‏ لا يشبه الآخر‏.‏ لأن العمارة دقيقة الصنع، عجيبة التكوين، متنوعة الوظائف‏.‏‏.‏ ومن ثم تتعلم كل مجموعة من الخلايا المنطلقة لبناء ركن من العمارة، أن تتفرق طوائف متخصصة، تقوم كل طائفة منها بنوع معين من العمل في الركن المخصص لها من العمارة، الكبيرة‏!‏‏.‏‏.‏ إن كل خلية صغيرة تنطلق وهي تعرف طريقها‏.‏ تعرف إلى أين هي ذاهبة، وماذا هو مطلوب منها‏!‏ ولا تخطئ واحدة منها طريقها في هذه المتاهة الهائلة‏.‏ فالخلايا المكلفة أن تصنع العين تعرف أن العين ينبغي أن تكون في الوجه، ولا يجوز أبداً أن تكون في البطن أو القدم أو الذراع‏.‏ مع أن كل موضع من هذه المواضع يمكن أن تنمو فيه عين‏.‏ ولو أخذت الخلية الأولى المكلفة بصنع العين وزرعت في أي من هذه المواضع لصنعت عيناً هنالك‏!‏ ولكنها هي بذاتها حين تنطلق لا تذهب إلا للمكان المخصص للعين في هذا الجهاز الإنساني المعقد‏.‏‏.‏ فمن ترى قال لها‏:‏ إن هذا الجهاز يحتاج إلى عين في هذا المكان دون سواه‏؟‏ إنه الله‏.‏ إنه الحافظ الأعلى الذي يرعاها ويوجهها ويهديها إلى طريقها في المتاهة التي لا هادي فيها إلا الله‏!‏

وكل تلك الخلايا فرادى ومجتمعة تعمل في نطاق ترسمه لها مجموعة معينة من الوحدات كامنة فيها‏.‏ هي وحدات الوراثة، الحافظة لسجل النوع ولخصائص الأجداد‏.‏ فخلية العين وهي تنقسم وتتكاثر لكي تكوّن العين، تحاول أن تحافظ في أثناء العمل على شكل معين للعين وخصائص محددة تجعلها عين إنسان لا عين أي حيوان آخر‏.‏ وإنسان لأجداده شكل معين للعين وخصائص معينة‏.‏‏.‏ وأقل انحراف في تصميم هذه العين من ناحية الشكل أو ناحية الخصائص يحيد بها عن الخط المرسوم‏.‏ فمن ذا الذي أودعها هذه القدرة‏؟‏ وعلمها ذلك التعليم‏؟‏ وهي الخلية الساذجة التي لا عقل لها ولا إدراك، ولا إرادة لها ولا قوة‏؟‏ إنه الله‏.‏ علمها ما يعجز الإنسان كله عن تصميمه لو وكل إليه تصميم عين أو جزء من عين‏.‏ بينما خلية واحدة منه أو عدة خلايا ساذجة، تقوم بهذا العمل العظيم‏!‏

ووراء هذا اللمحة الخاطفة عن صور الرحلة الطويلة العجيبة بين الماء الدافق والإنسان الناطق، حشود لا تحصى من العجائب والغرائب، في خصائص الأجهزة والأعضاء، لا نملك تقصيها في هذه الظلال‏.‏

‏.‏ تشهد كلها بالتقدير والتدبير‏.‏ وتشي باليد الحافظة الهادية المعينة‏.‏ وتؤكد الحقيقة الأولى التي أقسم عليها بالسماء والطارق‏.‏ كما تمهد للحقيقة التالية‏.‏ حقيقة النشأة الآخرة التي لا يصدقها المشركون، المخاطبون أول مرة بهذه السورة‏.‏‏.‏

‏{‏إنه على رجعه لقادر‏.‏ يوم تبلى السرائر‏.‏ فما له من قوة ولا ناصر‏}‏‏.‏‏.‏

إنه الله الذي أنشأه ورعاه إنه لقادر على رجعة إلى الحياة بعد الموت، وإلى التجدد بعد البلى، تشهد النشأة الأولى بقدرته، كما تشهد بتقديره وتدبيره‏.‏ فهذه النشأة البالغة الدقة والحكمة تذهب كلها عبثاً إذا لم تكن هناك رجعة لتختبر السرائر وتجزى جزاءها العادل‏:‏ ‏{‏يوم تبلى السرائر‏}‏‏.‏‏.‏ السرائر المكنونة، المطوية على الأسرار المحجوبة‏.‏‏.‏ يوم تبلى وتختبر، وتتكشف وتظهر كما ينفذ الطارق من خلال الظلام الساتر؛ وكما ينفذ الحافظ إلى النفس الملفعة بالسواتر‏!‏ كذلك تبلى السرائر يوم يتجرد الإنسان من كل قوة ومن كل ناصر‏:‏ ‏{‏فما له من قوة ولا ناصر‏}‏‏.‏‏.‏ ما له من قوة في ذاته، وما له من ناصر خارج ذاته‏.‏‏.‏ والتكشف من كل ستر، مع التجرد من كل قوة، يضاعف شدة الموقف؛ ويلمس الحس لمسة عميقة التأثير‏.‏ وهو ينتقل من الكون والنفس، إلى نشأة الإنسان ورحلته العجيبة، إلى نهاية المطاف هناك، حيث يتكشف ستره ويكشف سره، ويتجرد من القوة والنصير‏.‏‏.‏

ولعل طائفاً من شك، أو بقية من ريب، تكون باقية في النفس، في أن هذا لا بد كائن‏.‏‏.‏ فمن ثم يجزم جزماً بأن هذا القول هو القول الفصل، ويربط بين هذا القول وبين مشاهد الكون، كما صنع في مطلع السورة‏:‏

‏{‏والسماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع، إنه لقول فصل، وما هو بالهزل‏}‏‏.‏‏.‏

والرجع المطر ترجع به السماء مرة بعد مرة، والصدع النبت يشق الأرض وينبثق‏.‏‏.‏ وهما يمثلان مشهداً للحياة في صورة من صورها‏.‏ حياة النبات ونشأته الأولى‏:‏ ماء يتدفق من السماء، ونبت ينبثق من الأرض‏.‏‏.‏ أشبه شيء بالماء الدافق من الصلب والترائب؛ والجنين المنبثق من ظلمات الرحم‏.‏ الحياة هي الحياة‏.‏ والمشهد هو المشهد‏.‏ والحركة هي الحركة‏.‏‏.‏ نظام ثابت، وصنعة مُعلمة، تدل على الصانع‏.‏ الذي لا يشبهه أحد لا في حقيقة الصنعة ولا في شكلها الظاهر‏!‏

وهو مشهد قريب الشبه بالطارق‏.‏ النجم الثاقب‏.‏ وهو يشق الحجب والستائر‏.‏ كما أنه قريب الشبه بابتلاء السرائر وكشف السواتر‏.‏‏.‏ صنعة واحدة تشير إلى الصانع‏!‏

يقسم الله بهذين الكائنين وهذين الحدثين‏:‏ السماء ذات الرجع‏.‏ والأرض ذات الصدع‏.‏‏.‏ حيث يوقع مشهدهما وإيحاؤهما، كما يوحي جرس التعبير ذاته، بالشدة والنفاذ والجزم‏.‏‏.‏ يقسم بأن هذا القول الذي يقرر الرجعة والابتلاء أو بأن هذا القرآن عامة هو القول الفصل الذي لا يتلبس به الهزل‏.‏ القول الفصل الذي ينهي كل قول وكل جدل وكل شك وكل ريب‏.‏

القول الذي ليس بعده قول‏.‏ تشهد بهذا السماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع‏!‏

وفي ظل هذا القول الفصل بالرجعة والابتلاء يتجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ومن معه من القلة المؤمنة في مكة يعانون من كيد المشركين ومؤامراتهم على الدعوة والمؤمنين بها وقد كانوا في هم مقعد مقيم للكيد لها والتدبير ضدها وأخذ الطرق عليها وابتكار الوسائل في حربها يتجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتثبيت والتطمين وبالتهوين من أمر الكيد والكائدين‏.‏ وأنه إلى حين‏.‏ وأن المعركة بيده هو سبحانه وقيادته‏.‏ فليصبر الرسول وليطمئن هو والمؤمنون‏:‏

‏{‏إنهم يكيدون كيداً، وأكيد كيداً، فمهل الكافرين، أمهلهم رويداً‏}‏‏.‏‏.‏

إنهم هؤلاء الذين خلقوا من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب بلا حول ولا قوة ولا قدرة ولا إرادة، ولا معرفة ولا هداية‏.‏ والذين تولتهم يد القدرة في رحلتهم الطويلة‏.‏ والذين هم صائرون إلى رجعة تبلى فيها السرائر، حيث لا قوة لهم ولا ناصر‏.‏‏.‏ إنهم هؤلاء يكيدون كيداً‏.‏‏.‏

وأنا أنا المنشئ‏.‏‏.‏ الهادي‏.‏ الحافظ‏.‏ الموجه‏.‏ المعيد‏.‏ المبتلي‏.‏ القادر‏.‏ القاهر‏.‏ خالق السماء والطارق‏.‏ وخالق الماء الدافق، والإنسان الناطق، وخالق السماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع‏.‏‏.‏ أنا الله‏.‏‏.‏ أكيد كيداً‏.‏‏.‏

فهذا كيد‏.‏ وهذا كيد‏.‏ وهذه هي المعركة‏.‏‏.‏ ذات طرف واحد في الحقيقة‏.‏‏.‏ وإن صورت ذات طرفين لمجرد السخرية والهزاء‏!‏

‏{‏فمهل الكافرين‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏أمهلهم رويداً‏}‏‏.‏‏.‏ لا تعجل‏.‏ ولا تستبطئ نهاية المعركة‏.‏ وقد رأيت طبيعتها وحقيقتها‏.‏‏.‏ فإنما الحكمة وراء الإمهال‏.‏ الإمهال قليلاً‏.‏‏.‏ وهو قليل حتى لو استغرق عمر الحياة الدنيا‏.‏ فما هو عمر الحياة الدنيا إلى جانب تلك الآباد المجهولة المدى‏؟‏

ونلحظ في التعبير الإيناس الإلهي للرسول‏:‏ ‏{‏فمهل الكافرين أمهلهم رويداً‏}‏‏.‏‏.‏ كأنه هو صلى الله عليه وسلم صاحب الأمر، وصاحب الإذن، وكأنه هو الذي يأذن بإمهالهم‏.‏ أو يوافق على إمهالهم‏.‏ وليس من هذا كله شيء للرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو الإيناس والود في هذا الموضع الذي تنسم نسائم الرحمة على قلبه- صلى الله عليه وسلم- الإيناس الذي يخلط بين رغبة نفسه وإرادة ربه‏.‏ ويشركه في الأمر كأن له فيه شيئاً‏.‏ ويرفع الفوارق والحواجز بينه وبين الساحة الإلهية التي يقضي فيها الأمر ويبرم‏.‏‏.‏ وكأنما يقول له ربه‏:‏ إنك مأذون فيهم‏.‏ ولكن أمهلهم‏.‏ أمهلهم رويداً‏.‏‏.‏ فهو الود العطوف والإيناس اللطيف‏.‏ يمسح على الكرب والشدة والعناء والكيد، فتنمحي كلها وتذوب‏.‏‏.‏ ويبقى العطف الودود‏.‏‏.‏

سورة الأعلى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 19‏]‏

‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ‏(‏1‏)‏ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ‏(‏4‏)‏ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ‏(‏5‏)‏ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ‏(‏6‏)‏ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ‏(‏7‏)‏ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ‏(‏8‏)‏ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ‏(‏9‏)‏ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ‏(‏10‏)‏ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ‏(‏11‏)‏ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ‏(‏12‏)‏ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏13‏)‏ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏14‏)‏ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ‏(‏15‏)‏ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏16‏)‏ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏17‏)‏ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏18‏)‏ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ‏(‏19‏)‏‏}‏

في رواية للإمام أحمد عن الإمام علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب هذه السورة‏:‏ ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏‏.‏‏.‏ وفي صحيح مسلم أنه كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، و‏{‏هل أتاك حديث الغاشية‏}‏‏.‏ وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما‏.‏‏.‏

وحق لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحب هذه السورة وهي تحيل له الكون كله معبداً تتجاوب أرجاؤه بتسبيح ربه الأعلى وتمجيده، ومعرضاً يحفل بموحيات التسبيح والتحميد‏:‏ ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏.‏ الذي خلق فسوى‏.‏ والذي قدر فهدى‏.‏ والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى‏}‏‏.‏‏.‏ وإيقاع السورة الرخي المديد يلقي ظلال التسبيح ذي الصدى البعيد‏.‏‏.‏

وحق له صلى الله عليه وسلم أن يحبها، وهي تحمل له من البشريات أمراً عظيماً‏.‏ وربه يقول له، وهو يكلفه التبليغ والتذكير‏:‏ ‏{‏سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى‏.‏ فذكر إن نفعت الذكرى‏}‏‏.‏‏.‏ وفيها يتكفل له ربه بحفظ قلبه لهذا القرآن، ورفع هذه الكلفة من عاتقه‏.‏ ويعده أن ييسره لليسرى في كل أموره وأمور هذه الدعوة‏.‏ وهو أمر عظيم جداً‏.‏

وحق له صلى الله عليه وسلم أن يحبها، وهي تتضمن الثابت من قواعد التصور الإيماني‏:‏ من توحيد الرب الخالق وإثبات الوحي الإلهي، وتقرير الجزاء في الآخرة‏.‏ وهي مقومات العقيدة الأولى‏.‏ ثم تصل هذه العقيدة بأصولها البعيدة، وجذورها الضاربة في شعاب الزمان‏:‏ ‏{‏إن هذا لفي الصحف الأولى‏.‏ صحف إبراهيم وموسى‏}‏‏.‏‏.‏ فوق ما تصوره من طبيعة هذه العقيدة، وطبيعة الرسول الذي يبلغها والأمة التي تحملها‏.‏‏.‏ طبيعة اليسر والسماحة‏.‏‏.‏

وكل واحدة من هذه تحتها موحيات شتى؛ ووراءها مجالات بعيدة المدى‏.‏‏.‏

‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏.‏ الذي خلق فسوى‏.‏ والذي قدر فهدى‏.‏ والذي أخرج المرعى‏.‏ فجعله غثآء أحوى‏}‏‏.‏‏.‏

إن هذا الافتتاح، بهذا المطلع الرخي المديد، ليطلق في الجو ابتداء أصداء التسبيح، إلى جانب معنى التسبيح‏.‏ وإن هذه الصفات التي تلي الأمر بالتسبيح‏:‏ ‏{‏الأعلى الذي خلق فسوى‏.‏ والذي قدر فهدى‏.‏ والذي أخرج المرعى‏.‏ فجعله غثاء أحوى‏}‏‏.‏‏.‏ لتحيل الوجود كله معبداً يتجاوب جنباته بتلك الأصداء؛ ومعرضاً تتجلى فيه آثار الصانع المبدع‏:‏ ‏{‏الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى‏}‏‏.‏‏.‏

والتسبيح هو التمجيد والتنزيه واستحضار معاني الصفات الحسنى لله، والحياة بين إشعاعاتها وفيوضاتها وإشراقاتها ومذاقاتها الوجدانية بالقلب والشعور‏.‏ وليست هي مجرد ترديد لفظ‏:‏ سبحان الله‏!‏‏.‏‏.‏ و‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏‏.‏‏.‏ تطلق في الوجدان معنى وحالة يصعب تحديدها باللفظ، ولكنها تتذوق بالوجدان‏.‏ وتوحي بالحياة مع الإشراقات المنبثقة من استحضار معاني الصفات‏.‏

والصفة الأولى القريبة في هذا النص هي صفة الرب‏.‏ وصفة الأعلى‏.‏‏.‏ والرب‏:‏ المربي والراعي، وظلال هذه الصفة الحانية مما يتناسق مع جو السورة وبشرياتها وإيقاعاتها الرخية‏.‏‏.‏ وصفة الأعلى تطلق التطلع إلى الآفاق التي لا تتناهى؛ وتطلق الروح لتسبح وتسبح إلى غير مدى‏.‏‏.‏ وتتناسق مع التمجيد والتنزيه، وهو في صميمه الشعور بصفة الأعلى‏.‏‏.‏

والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء‏.‏ وهذا الأمر صادر إليه من ربه‏.‏ بهذه الصيغة‏:‏ ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏‏.‏‏.‏ وفيه من التلطف والإيناس ما يجل عن التعبير‏.‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذا الأمر، ثم يعقب عليه بالاستجابة المباشرة، قبل أن يمضي في آيات السورة، يقول‏:‏ ‏{‏سبحان ربي الأعلى‏}‏‏.‏‏.‏ فهو خطاب ورده‏.‏ وأمر وطاعته‏.‏ وإيناس ومجاوبته‏.‏‏.‏ إنه في حضرة ربه، يتلقى مباشرة ويستجيب‏.‏ في أنس وفي اتصال قريب‏.‏ وحينما نزلت هذه الآية قال‏:‏ «اجعلوها في سجودكم» وحينما نزلت قبلها‏:‏ ‏{‏فسبح باسم ربك العظيم‏}‏ قال‏:‏ «اجعلوها في ركوعكم»‏.‏ فهذا التسبيح في الركوع والسجود كلمة حية ألحقت بالصلاة وهي دافئة بالحياة‏.‏ لتكون استجابه مباشرة لأمر مباشر‏.‏ أو بتعبير أدق‏.‏‏.‏ لإذن مباشر‏.‏‏.‏ فإذن الله لعباده بأن يحمدوه ويسبحوه إحدى نعمه عليهم وأفضاله‏.‏ إنه إذن بالاتصال به سبحانه في صورة مقربة إلى مدارك البشر المحدودة‏.‏ صورة تفضل الله عليهم بها ليعرفهم ذاته‏.‏ في صفاته‏.‏ في الحدود التي يملكون أن يتطلعوا إليها‏.‏ وكل إذن للعباد بالاتصال بالله في أي صورة من صور الاتصال، هو مكرمة له وفضل على العباد‏.‏

‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏الذي خلق فسوى‏.‏ والذي قدر فهدى‏}‏‏.‏‏.‏

الذي خلق كل شيء فسواه، فأكمل صنعته، وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه‏.‏‏.‏ والذي قدر لكل مخلوق وظيفته وغايته فهداه إلى ما خلقه لأجله، وألهمه غاية وجوده؛ وقدر له ما يصلحه مدة بقائه، وهداه إليه أيضاً‏.‏‏.‏

وهذه الحقيقة الكبرى ماثلة في كل شيء في هذا الوجود؛ يشهد بها كل شيء في رحاب الوجود‏.‏ من الكبير إلى الصغير‏.‏ ومن الجليل إلى الحقير‏.‏‏.‏ كل شيء مسوى في صنعته، كامل في خلقته‏.‏ معد لأداء وظيفته‏.‏ مقدر له غاية وجوده، وهو ميسر لتحقيق هذه الغاية من أيسر طريق‏.‏‏.‏ وجميع الأشياء مجتمعة كاملة التناسق، ميسرة لكي تؤدي في تجمعها دورها الجماعي؛ مثلما هي ميسرة فرادى لكي تؤدي دورها الفردي‏.‏

الذرة بمفردها كاملة التناسق بين كهاربها وبروتوناتها وإلكتروناتها، شأنها شأن المجموعة الشمسية في تناسق شمسها وكواكبها وتوابعها‏.‏‏.‏ وهي تعرف طريقها وتؤدي مثلها وظيفتها‏.‏‏.‏

والخلية الحية المفردة كاملة الخلقة والاستعداد لأداء وظائفها كلها، شأنها شأن أرقى الخلائق الحية المركبة المعقدة‏.‏

وبين الذرة المفردة والمجموعة الشمسية؛ كما بين الخلية الواحدة وأرقى الكائنات الحية، درجات من التنظيمات والتركيبات كلها في مثل هذا الكمال الخلقي، وفي مثل هذا التناسق الجماعي، وفي مثل هذا التدبير والتقدير الذي يحكمها ويصرفها‏.‏

‏.‏ والكون كله هو الشاهد الحاضر على هذه الحقيقة العميقة‏.‏‏.‏

هذه الحقيقة يدركها القلب البشري جملة حين يتلقى إيقاعات هذا الوجود؛ وحين يتدبر الأشياء في رحابه بحس مفتوح‏.‏ وهذا الإدراك الإلهامي لا يستعصي على أي إنسان في أية بيئة، وعلى أية درجة من درجات العلم الكسبي، متى تفتحت منافذ القلب، وتيقظت أوتاره لتلقي إيقاعات الوجود‏.‏

والملاحظة بعد ذلك والعلم الكسبي يوضحان بالأمثلة الفردية ما يدركه الإلهام بالنظرة الأولى‏.‏‏.‏ وهناك من رصيد الملاحظة والدراسة ما يشير إلى طرف من تلك الحقيقة الشاملة لكل ما في الوجود‏.‏

يقول العالم ‏(‏ا‏.‏ كريسي موريسون‏)‏ رئيس أكاديمية العلوم بنيورك في كتابه‏:‏ «الإنسان لا يقوم وحده»

«إن الطيور لها غريزة العودة إلى الموطن‏.‏ فعصفور الهزاز الذي عشش ببابك يهاجر جنوباً في الخريف‏.‏ ولكنه يعود إلى عشه في الربيع التالي‏.‏ وفي شهر سبتمبر تطير أسراب من معظم طيورنا إلى الجنوب‏.‏ وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق أرض البحار‏.‏ ولكنها لا تضل طريقها‏.‏ وحمام الزاجل إذا تحير من جراء أصوات جديدة عليه في رحلة طويلة داخل قفص، يحوم برهة ثم يقصد قدماً إلى موطنه دون أن يضل‏.‏‏.‏ والنحلة تجد خليتها مهما طمست الريح، في هبوبها على الأعشاب والأشجار، كل دليل يرى‏.‏ وحاسة العودة إلى الوطن هذه هي ضعيفة في الإنسان، ولكنه يكمل عتاده القليل منها بأدوات الملاحة‏.‏ ونحن في حاجة إلى هذه الغريزة، وعقولنا تسد هذه الحاجة‏.‏ ولا بد أن للحشرات الدقيقة عيوناً ميكروسكوبية ‏(‏مكبرة‏)‏ لا ندري مبلغها من الإحكام؛ وأن للصقور بصراً تلسكوبياً ‏(‏مكبراً مقرباً‏)‏‏.‏ وهنا أيضاً يتفوق الإنسان بأدواته الميكانيكية فهو بتلسكوبه يبصر سديماً بلغ من الضعف أنه يحتاج إلى مضاعفة قوة إبصاره مليوني مرة ليراه‏.‏ وهو بمكروسكوبه الكهربائي يستطيع أن يرى بكتريا كانت غير مرئية ‏(‏بل كذلك الحشرات الصغيرة التي تعضها‏!‏‏)‏‏.‏»

«وأنت إذا تركت حصانك العجوز وحده، فإنه يلزم الطريق مهما اشتدت ظلمة الليل‏.‏ وهو يقدر أن يرى ولو في غير وضوح‏.‏ ولكنه يلحظ اختلاف درجة الحرارة في الطريق وجانبيه، بعينين تأثرتا قليلاً بالأشعة تحت الحمراء التي للطريق‏.‏ والبومة تستطيع أن تبصر الفأر الدافئ اللطيف وهو يجري على العشب البارد مهما تكن ظلمة الليل‏.‏ ونحن نقلب الليل نهاراً بإحداث إشعاع في تلك المجموعة التي نسميها الضوء»‏.‏‏.‏

‏.‏‏.‏ «إن العاملات من النحل تصنع حجرات مختلفات الأحجام في المشط الذي يستخدم في التربية‏.‏ وتعد الحجرات الصغيرات للعمال، والأكبر منها لليعاسيب ‏(‏ذكور النحل‏)‏ وتعد غرفة خاصة للملكات الحوامل‏.‏ والنحلة الملكية تضع بيضاً غير مخصب في الخلايا المخصصة للذكور، وبيضاً مخصباً في الحجرات الصحيحة المعدة للعاملات الإناث والملكات المنتظرات‏.‏

والعاملات اللائي هن إناث معدلات بعد أن انتظرن طويلاً مجيء الجيل الجديد، تهيأن أيضاً لإعداد الغذاء للنحل الصغير بمضغ العسل واللقح ومقدمات هضمه‏.‏ ثم ينقطعن عن عملية المضغ ومقدمات الهضم عند مرحلة معينة من تطور الذكور والإناث، ولا يغذين سوى العسل واللقح‏.‏ والإناث اللاتي يعالجن على هذا الشكل يصبحن عاملات «‏.‏‏.‏

» أما الإناث اللاتي في حجرات الملكة، فإن التغذية بالمضغ ومقدمات الهضم تستمر بالنسبة لهن‏.‏ وهؤلاء اللاتي يعاملن هذه المعاملة الخاصة يتطورن إلى ملكات نحل، وهن وحدهن اللائي ينتجن بيضاً مخصباً‏.‏ وعملية تكرار الإنتاج هذه تتضمن حجرات خاصة، وبيضاً خاصاً، كما تتضمن الأثر العجيب الذي لتغيير الغذاء، وهذا يتطلب الانتظار والتمييز وتطبيق اكتشاف أثر الغذاء‏!‏ وهذه التغيرات تنطبق بوجه خاص على حياة الجماعة، وتبدو ضرورية لوجودها‏.‏ ولا بد أن المعرفة والمهارة اللازمتين لذلك قد تم اكتسابهما بعد ابتداء هذه الحياة الجماعة، وليستا بالضرورة ملازمتين لتكوين النحل ولا لبقائه على الحياة‏.‏ وعلى ذلك فيبدو أن النحل قد فاق الإنسان في معرفة تأثير الغذاء تحت ظروف معينة‏!‏ «

» والكلب بما أوتي من أنف فضولي يستطيع أن يحس الحيوان الذي مر‏.‏ وليس ثمة من أداة من اختراع الإنسان لتقوي حاسة الشم الضعيفة لديه‏.‏ ومع هذا فإن حاسة الشم الخاصة بنا على ضعفها قد بلغت من الدقة أنها يمكنها أن تتبين الذرات المكروسكوبية البالغة الدقة «‏.‏‏.‏

» وكل الحيوانات تسمع الأصوات التي يكون كثير منها خارج دائرة الاهتزازات الخاصة بنا، وذلك بدقة تفوق كثيراً حاسة السمع المحدودة عندنا‏.‏ وقد أصبح الإنسان يستطيع بفضل وسائله أن يسمع صوت ذبابة تطير على بعد أميال، كما لو كانت فوق طبلة أذنه‏.‏ ويستطيع بمثل تلك الأدوات أن يسجل وقع شعاع شمسي‏!‏ «

» إن إحدى العناكب المائية تصنع لنفسها عشاً على شكل منطاد ‏(‏بالون‏)‏ من خيوط العنكبوت‏.‏ وتعلقه بشيء ما تحت الماء‏.‏ ثم تمسك ببراعة فقاعة هواء في شعر جسمها، وتحملها إلى الماء، ثم تطلقها تحت العش‏.‏ ثم تكرر هذه العملية حتى ينتفخ العش‏.‏ وعندئذ تلد صغارها وتربيها، آمنة عليها من هبوب الهواء‏.‏ فها هنا نجد طريقة النسج، بما يشمله من هندسة وتركيب وملاحة جوية‏!‏ «

وسمك» السلمون «الصغير يمضي سنوات في البحر، ثم يعود إلى نهره الخاص به‏.‏ والأكثر من ذلك أنه يصعد إلى جانب النهر الذي يصب عنده النهير الذي ولد فيه‏.‏‏.‏ فما الذي يجعل السمك يرجع إلى مكان مولده بهذا التحديد‏؟‏ إن سمكة السلمون التي تصعد في النهر صعداً إذا انقلت إلى نهير آخر أدركت تواً أنه ليس جدولها‏.‏ فهي لذلك تشق طريقها خلال النهر، ثم تحيد ضد التيار، قاصدة إلى مصيرها‏!‏

» وهناك لغز أصعب من ذلك يتطلب الحل، وهو الخاص بثعابين الماء التي تسلك عكس هذا المسلك، فإن تلك المخلوقات العجيبة متى اكتمل نموها، هاجرت من مختلف البرك والأنهار‏.‏

وإذا كانت في أوربا قطعت آلاف الأميال في المحيط قاصدة كلها إلى الأعماق السحيقة جنوبي برمودا‏.‏ وهناك تبيض وتموت‏.‏ أما صغارها تلك التي لا تملك وسيلة لتعرف بها أي شيء سوى أنها في مياه قفرة فإنها تعود أدراجها وتجد طريقها إلى الشاطئ الذي جاءت منه أمهاتها‏.‏ ومن ثم إلى كل نهر أو بحيرة أو بركة صغيرة‏.‏ ولذا يظل كل جسم من الماء آهلاً بثعابين البحار‏.‏ لقد قاومت التيارات القوية، وثبتت للأمداد والعواصف، وغالبت الأمواج المتلاطمة على كل شاطئ‏.‏ وهي الآن يتاح لها النمو‏.‏ حتى إذا اكتمل نموها دفعها قانون خفي إلى الرجوع حيث كانت بعد أن تتم الرحلة كلها‏.‏ فمن أين ينشأ الحافز الذي يواجهها لذلك‏؟‏ لم يحدث قط أن صيد ثعبان ماء أمريكي في المياه الأوربية، أو صيد ثعبان ماء أوربي في المياه الأمريكية‏.‏ والطبيعة تبطئ في إنماء ثعبان الماء الأوربي مدة سنة أو أكثر لتعوض من زيادة مسافة الرحلة التي يقطعها ‏(‏إذ إن مسافته أطول من مسافة زميله الأمريكي‏)‏ ترى هل الذرات والهباءات إذا توحدت معاً في ثعبان ماء يكون لها حاسة التوجيه وقوة الإرادة اللازمة للتنفيذ‏؟‏‏!‏

‏.‏‏.‏ «وإذا حمل الريح فراشة أنثى من خلال نافذة إلى علية بيتك، فإنها لا تلبث حتى ترسل إشارة خفية‏.‏ وقد يكون الذكر على مسافة بعيدة‏.‏ ولكنه يتلقى هذه الإشارة ويجاوبها، مهما أحدثت أنت من رائحة بعملك لتضليلهما‏.‏ ترى هل لتلك المخلوقة الضئيلة محطة إذاعة‏.‏ وهل لذكر الفراشة جهاز راديو عقلي، فضلاً عن السلك اللاقط للصوت ‏(‏إيريال‏)‏‏؟‏ أتراها تهز الأثير فهو يتلقى الاهتزاز‏؟‏‏!‏»

‏.‏‏.‏ «إن التليفون والراديو هما من العجائب الآلية‏.‏ وهما يتيحان لنا الاتصال السريع‏.‏ ولكنا مرتبطون في شأنهما بسلك ومكان‏.‏ وعلى ذلك لا تزال الفراشة متفوقة علينا من هذه الوجهة»‏.‏

«والنبات يتحايل على استخدام وكلاء لمواصلة وجوده دون رغبة من جانبهم‏!‏ كالحشرات التي تحمل اللقح من زهرة إلى أخرى، والرياح، وكل شيء يطير أو يمشي، ليوزع بذوره‏.‏ وأخيراً أوقع النبات الإنسان ذا السيادة في الفخ‏!‏ فقد حسن الطبيعة وجازته بسخاء‏.‏ غير أنه شديد التكاثر؛ حتى أصبح مقيداً بالمحراث، وعليه أن يبذر ويحصد ويخزن، وعليه أن يربي ويهجن، وأن يشذب ويطعم‏.‏ وإذا هو أغفل هذه الأعمال كانت المجاعة نصيبه، وتدهورت المدنية، وعادت الأرض إلى حالتها الفطرية‏!‏»‏.‏‏.‏

«وكثير من الحيوانات هي مثل» سرطان البحر «الذي إذا فقد مخلباً عرف أن جزءاً من جسمه قد ضاع، وسارع إلى تعويضه بإعادة تنشيط الخلايا وعوامل الوراثة؛ ومتى تم ذلك كفت الخلايا عن العمل، لأنها تعرف بطريقة ما أن وقت الراحة قد حان‏!‏»

«وكثير الأرجل المائي إذا انقسم إلى قسمين استطاع أن يصلح نفسه عن طريق أحد هذين النصفين‏.‏

وأنت إذا قطعت رأس دودة الطعم تسارع إلى صنع رأس بدلاً منه‏.‏ ونحن نستطيع أن ننشط التئام الجروح، ولكن متى يتاح للجراحين أن يعرفوا كيف يحركون الخلايا لتنتج ذراعاً جديدة، أو لحماً أو عظاماً أو أظافر أو أعصاباً‏؟‏ إذا كان ذلك في حيز الإمكان‏؟‏‏!‏ «

» وهناك حقيقة مدهشة تلقي بعض الضوء على لغز هذا الخلق من جديد‏:‏ فإن الخلايا في المراحل الأولى من تطورها، إذا تفرقت، صار لكل منها القدرة على خلق حيوان كامل‏.‏ ومن ثم فإنه إذا انقسمت الخلية الأولى إلى قسمين، وتفرق هذان، تطور منهما فردان‏.‏ وقد يكون في ذلك تفسير لتشابه التوأمين‏.‏ ولكنه يدل على أكثر من ذلك‏.‏ وهو أن كل خلية في البداية يمكن أن تكون فرداً كاملاً بالتفصيل‏.‏ فليس هناك شك إذن، في أنك أنت، في كل خلية ونسيج‏!‏ «‏.‏‏.‏

ويقول في فصل آخر‏:‏

» إن جوزة البلوط تسقط على الأرض، فتحفظها قشرتها السمراء الجامدة، وتتدرج في حفرة ما من الأرض، وفي الربيع تستيقظ الجرثومة، فتنفجر القشرة، وتزدرد الطعام من اللب الشبيه بالبيضة الذي اختفت فيه «الجينات» ‏(‏وحدات الوراثة‏)‏ وهي تمد الجذور في الأرض، وإذا بك ترى فرخاً أو شتلة ‏(‏شجيرة‏)‏ وبعد سنوات شجرة‏!‏ وإن الجرثومة بما فيها من جينات قد تضاعفت ملايين الملايين، فصنعت الجذع والقشرة وكل ورقة وكل ثمرة، مماثلة لتلك التي لشجرة البلوط التي تولدت عنها‏.‏ وفي خلايا مئات السنين قد بقي من ثمار البلوط التي لا تحصى نفس ترتيب الذرات تماماً الذي أنتج أول شجرة بلوط منذ ملايين السنين «‏.‏

وفي فصل ثالث يقول‏:‏

» وكل خلية تنتج في أي مخلوق حي يجب أن تكيف نفسها لتكون جزءاً من اللحم‏.‏ أو أن تضحي بنفسها كجزء من الجلد الذي لا يلبث حتى يبلى‏.‏ وعليها أن تصنع ميناء الأسنان، وأن تنتج السائل الشفاف في العين، أو أن تدخل في تكوين الأنف أو الأذن‏.‏ ثم على كل خلية أن تكيف نفسها من حيث الشكل وكل خاصية أخرى لازمة لتأدية مهمتها‏.‏ ومن العسير أن نتصور أن خلية ما هي ذات يد يمنى أو يسرى‏.‏ ولكن إحدى الخلايا تصبح جزءاً من الأذن اليمنى، بينما الأخرى تصبح جزءاً من الأذن اليسرى‏.‏ «

‏.‏‏.‏» وإن مئات الآلاف من الخلايا تبدو كأنها مدفوعة لأن تفعل الشيء الصواب في الوقت الصواب‏.‏ وفي المكان الصواب «‏!‏

وفي فصل رابع‏.‏

‏.‏‏.‏ «في خليط الخلق قد أتيح لكثير من المخلوقات أن تبدي درجة عالية من أشكال معينة من الغريزة أو الذكاء أو ما لا ندري‏.‏ فالدبور مثلاً يصيد الجندب النطاط، ويحفر حفرة في الأرض، ويخز الجندب في المكان المناسب تماماً حتى يفقد وعيه، ولكنه يعيش كنوع من اللحم المحفوظ‏.‏‏.‏ وأنثى الدبور تضع بيضاً في المكان المناسب بالضبط، ولعلها لا تدري أن صغارها حين تفقس يمكنها أن تتغذى، دون أن تقتل الحشرة التي هي غذاؤها، فيكون ذلك خطراً على وجودها‏.‏ ولا بد أن الدبور قد فعل ذلك من البداية وكرره دائماً، وإلا ما بقيت زنابير على وجه الأرض‏.‏‏.‏ والعلم لا يجد تفسيراً لهذه الظاهرة الخفية، ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تنسب إلى المصادفة‏!‏»

«وإن أنثى الدبور تغطي حفرة في الأرض، وترحل فرحاً، ثم تموت‏.‏ فلا هي ولا أسلافها قد فكرت في هذه العملية، وهي لا تعلم ماذا يحدث لصغارها، أو أن هناك شيئاً يسمى صغاراً‏.‏‏.‏ بل إنها لا تدري أنها عاشت وعملت لحفظ نوعها‏!‏»

‏.‏‏.‏ «وفي بعض أنواع النمل يأتي العملة منه بحبوب صغيرة لإطعام غيرها من النمل في خلال فصل الشتاء‏.‏ وينشئ النمل ما هو معروف» بمخزن الطحن «وفيه يقوم النمل الذي أوتي أفكاكاً كبيرة معدة للطحن، بإعداد الطعام للمستعمرة‏.‏ وهذا هو شاغلها الوحيد‏.‏ وحين يأتي الخريف، وتكون الحبوب كلها قد طحنت، فإن» أعظم خير لأكبر عدد «يتطلب حفظ تلك المؤونة من الطعام‏.‏ وما دام الجيل الجديد سينتظم كثيراً من النمل الطحان؛ فإن جنود النمل تقتل النمل الطاحن الموجود‏.‏ ولعلها ترضي ضميرها الحشري بأن ذلك النمل قد نال جزاءه الكافي، إذ كانت له الفرصة الأولى في الإفادة من الغذاء أثناء طحنه‏!‏»

«وهناك أنواع من النمل تدفعها الغريزة أو التفكير ‏(‏واختر منهما ما يحلو لك‏)‏ إلى زرع أعشاش للطعام فيما يمكن تسميته» بحدائق الأعشاش «‏.‏ وتصيد أنواعاً معينة من الدود والأرق أو اليرق ‏(‏وهي حشرات صغيرة تسبب آفة الندوة العسلية‏)‏ فهذه المخلوقات هي بقر النمل وعنزاتها‏!‏ ومنها يأخذ النمل إفرازات معينة تشبه العسل ليكون طعاماً له»‏.‏

«والنمل يأسر طوائف منه ويسترقها‏.‏ وبعض النمل حين يصنع أعشاشه، يقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب‏.‏ وبينما يضع بعض عملة النمل الأطراف في مكانها، تستخدم صغارها التي وهي في الدور اليرقي تقدر أن تغزل الحرير لحياكتها معاً‏!‏ وربما حرم طفل النمل عمل شرنقة لنفسه، ولكنه قد خدم الجماعة‏!‏»

«فكيف يتاح لذرات المادة التي تتكون منها النملة، أن تقوم بهذه العمليات المعقدة‏؟‏»

«لا شك أن هناك خالقاً أرشدها إلى كل ذلك»‏.‏

‏.‏ انتهى‏.‏‏.‏

أجل‏.‏ لا شك أن هناك خالقاً أرشدها، وأرشد غيرها من الخلائق‏.‏ كبيرها وصغيرها‏.‏ إلى كل ذلك‏.‏‏.‏ إنه ‏{‏الأعلى الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه النماذج التي اقتطفناها من كلام ذلك العالم ليست سوى طرف صغير من الملاحظات التي سجلها البشر في عوالم النبات والحشرات والطيور والحيوان‏.‏ ووراءها حشود من مثلها كثيرة‏.‏‏.‏ وهذه الحشود لا تزيد على أن تشير إلى جانب صغير من مدلول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلق فسوى‏.‏ والذي قدر فهدى‏}‏‏.‏‏.‏ في هذا الوجود المشهود الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل‏.‏ ووراءه عالم الغيب الذي ترد لنا عنه لمحات فيما يحدثنا الله عنه؛ بالقدر الذي يطيقه تكويننا البشري الضعيف‏!‏

وبعد عرض هذا المدى المتطاول، من صفحة الوجود الكبيرة، وإطلاق التسبيح في جنباته، تتجاوب به أرجاؤه البعيدة، يكمل التسبيحة الكبرى بلمسة في حياة النبات لها إيحاؤها ولها مغزاها‏:‏

‏{‏والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى‏}‏‏.‏

والمرعى كل نبات‏.‏ وما من نبات إلا وهو صالح لخلق من خلق الله‏.‏ فهو هنا أشمل مما نعهده من مرعى أنعامنا‏.‏ فالله خلق هذه الأرض وقدر فيها أقواتها لكل حي يدب فوق ظهرها أو يختبئ في جوفها، أو يطير في جوها‏.‏

والمرعى يخرج في أول أمره خضراً، ثم يذوي فإذا هو غثاء، أميل إلى السواد فهو أحوى، وقد يصلح أن يكون طعاماً وهو أخضر، ويصلح أن يكون طعاماً وهو غثاء أحوى‏.‏ وما بينهما فهو في كل حالة صالح لأمر من أمور هذه الحياة، بتقدير الذي خلق فسوى وقدر فهدى‏.‏

والإشارة إلى حياة النبات هنا توحي من طرف خفي، بأن كل نبت إلى حصاد وأن كل حي إلى نهاية‏.‏ وهي اللمسة التي تتفق مع الحديث عن الحياة الدنيا والحياة الأخرى‏.‏‏.‏ ‏{‏بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى‏}‏‏.‏‏.‏ والحياة الدنيا كهذا المرعى، الذي ينتهي فيكون غثاء أحوى‏.‏‏.‏ والآخرة هي التي تبقى‏.‏

وبهذا المطلع الذي يكشف عن هذا المدى المتطاول من صفحة الوجود الكبيرة‏.‏‏.‏ تتصل حقائق السورة الآتية في سياقها، بهذا الوجود؛ ويتصل الوجود بها، في هذا الإطار الجميل‏.‏ والملحوظ أن معظم السور في هذا الجزء تتضمن مثل هذا الإطار‏.‏ الإطار الذي يتناسق مع جوها وظلها وإيقاعها تناسقاً كاملاً‏.‏

بعدئذ يجيء بتلك البشرى العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته من ورائه‏:‏

‏{‏سنقرئك فلا تنسى إلا ما شآء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى‏.‏ فذكر إن نفعت الذكرى‏}‏‏.‏‏.‏ وتبدأ البشرى برفع عناء الحفظ لهذا القرآن والكد في إمساكه عن عاتق الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏سنقرئك فلا تنسى‏}‏‏.‏‏.‏ فعليه القراءة يتلقاها عن ربه، وربه هو المتكفل بعد ذلك بقلبه، فلا ينسى ما يقرئه ربه‏.‏

وهي بشرى للنبي صلى الله عليه وسلم تريحه وتطمئنه على هذا القرآن العظيم الجميل الحبيب إلى قلبه‏.‏ الذي كان يندفع بعاطفة الحب له، وبشعور الحرص عليه، وبإحساس التبعة العظمى فيه‏.‏‏.‏ إلى ترديده آية آية وجبريل يحمله إليه، وتحريك لسانه به خيفة أن ينسى حرفاً منه‏.‏ حتى جاءته هذه البشائر المطمئنة بأن ربه سيتكفل بهذا الأمر عنه‏.‏

وهي بشرى لأمته من ورائه، تطمئن بها إلى أصل هذه العقيدة‏.‏ فهي من الله‏.‏ والله كافلها وحافظها في قلب نبيها‏.‏ وهذا من رعايته سبحانه، ومن كرامة هذا الدين عنده، وعظمة هذا الأمر في ميزانه‏.‏

وفي هذا الموضع كما في كل موضع يرد فيه وعد جازم، أو ناموس دائم، يرد ما يفيد طلاقة المشيئة الإلهية من وراء ذلك، وعدم تقيدها بقيد ما ولو كان هذا القيد نابعاً من وعدها وناموسها‏.‏ فهي طليقة وراء الوعد والناموس‏.‏ ويحرص القرآن على تقرير هذه الحقيقة في كل موضع كما سبق أن مثلنا لهذا في الظلال ومن ذلك ما جاء هنا‏:‏

‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏‏.‏‏.‏ فهو الاحتراس الذي يقرر طلاقة المشيئة الإلهية، بعد الوعد الصادق بأنه لا ينسى‏.‏ ليظل الأمر في إطار المشيئة الكبرى، ويظل التطلع دائماً إلى هذه المشيئة حتى فيما سلف فيه وعد منها‏.‏ ويظل القلب معلقاً بمشيئة الله حياً بهذا التعلق أبداً‏.‏‏.‏

‏{‏إنه يعلم الجهر وما يخفى‏}‏‏.‏‏.‏ وكأن هذا تعليل لما مر في هذا المقطع من الإقرار والحفظ والاستثناء‏.‏‏.‏ فكلها ترجع إلى حكمة يعلمها من يعلم الجهر وما يخفى؛ ويطلع على الأمر من جوانبه جميعاً، فيقرر فيه ما تقتضيه حكمته المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعاً‏.‏

والبشرى الثانية الشاملة‏:‏

‏{‏ونيسرك لليسرى‏}‏‏.‏‏.‏

بشرى لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم وبشرى لأمته من ورائه‏.‏ وتقرير لطبيعة هذا الدين، وحقيقة هذه الدعوة، ودورها في حياة البشر، وموضعها في نظام الوجود‏.‏‏.‏ وإن هاتين الكلمتين‏:‏ ‏{‏ونيسرك لليسرى‏}‏، لتشتملان على حقيقة من أضخم حقائق هذه العقيدة، وحقائق هذا الوجود أيضاً‏.‏ فهي تصل طبيعة هذا الرسول بطبيعة هذه العقيدة بطعبية هذا الوجود‏.‏ الوجود الخارج من يد القدرة في يسر‏.‏ السائر في طريقه بيسر‏.‏ المتجه إلى غايته بيسر‏.‏ فهي انطلاقة من نور؛ تشير إلى أبعاد وآماد وآفاق من الحقيقة ليس لها حدود‏.‏‏.‏

إن الذي ييسره الله لليسرى ليمضي في حياته كلها ميسراً‏.‏ يمضي مع هذا الوجود المتناسق التركيب والحركة والاتجاه‏.‏‏.‏ إلى الله‏.‏‏.‏ فلا يصطدم إلا مع المنحرفين عن خط هذا الوجود الكبير وهم لا وزن لهم ولا حساب حين يقاسون إلى هذا الوجود الكبير يمضي في حركة يسيرة لطيفة هينة لينة مع الوجود كله ومع الأحداث والأشياء والأشخاص، ومع القدر الذي يصرف الأحداث والأشياء والأشخاص‏.‏

اليسر في يده‏.‏ واليسر في لسانه‏.‏ واليسر في خطوه‏.‏ واليسر في عمله واليسر في تصوره‏.‏ واليسر في تفكيره‏.‏ واليسر في أخذه للأمور‏.‏ واليسر في علاجه للأمور‏.‏ اليسر مع نفسه واليسر مع غيره‏.‏

وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمره‏.‏‏.‏ ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما كما روت عنه عائشة رضي الله عنها وكما قالت عنه‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في بيته ألين الناس، بساماً ضحاكاً» وفي صحيح البخاري‏:‏ «كانت الأمة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت»‏!‏

وفي هديه صلى الله عليه وسلم في اللباس والطعام والفراش وغيرها ما يعبر عن اختيار اليسر وقلة التكليف ألبتة‏.‏

جاء في زاد المعاد لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزية، عن هديه صلى الله عليه وسلم في «ملابسه»‏:‏ «كانت له عمامة تسمى السحاب كساها علياً، وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة‏.‏ وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة، ويلبس العمامة بغير قلنسوة‏.‏ وكان إذا اعتم أرخى عمامته بين كتفيه كما رواه مسلم في صحيحه‏.‏ عن عمر بن حريث قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه‏.‏ وفي مسلم أيضاً عن جابر ذؤابة، فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائماً بين كتفيه‏.‏ وقد يقال‏:‏ إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه فلبس في كل موطن ما يناسبه»‏.‏

وفي فصل آخر قال‏:‏ «والصواب أن أفضل الطرق طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سنها وأمر بها ورغب فيها وداوم عليها‏.‏ وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس‏.‏ من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتان تارة، ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر‏.‏ ولبس الجبة والقباء والقميص والسراويل والإزار والرداء والخف والنعل، وأرخى الذؤابة من خلفه تارة وتركها تارة‏.‏‏.‏ الخ»‏.‏‏.‏

وقال في هديه في الطعام‏:‏ «وكذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم وسيرته في الطعام، لا يرد موجوداً ولا يتكلف مفقوداً‏.‏ فما قرب إليه شيء من الطيبات إلا أكله إلا أن تعافه نفسه فيتركه من غير تحريم وما عاب طعاماً قط‏.‏ إن اشتهاه أكله، وإلا تركه، كما ترك أكل الضب لما لم يعتده، ولم يحرمه على الأمة، بل أُكل على مائدته وهو ينظر‏.‏ وأكل الحلوى والعسل وكان يحبهما وأكل الرطب والتمر، وشرب اللبن خالصاً ومشوباً والسويق والعسل بالماء، وشرب نقيع التمر، وأكل الخزبرة وهي حساء يتخذ من اللبن والدقيق وأكل القثاء بالرطب، وأكل الأقط، وأكل التمر بالخبز، وأكل الخبز بالخل، وأكل القديد، وأكل الدباء المطبوخة- وكان يحبها- وأكل المسلوقة، وأكل الثريد بالسمن، وأكل الجبن، وأكل الخبز بالزيت، وأكل البطيخ بالرطب‏.‏

وأكل التمر بالزبد وكان يحبه ولم يكن يرد طيباً ولا يتكلفه، بل كان هديه أكل ما تيسر، فإن أعوزه صبر‏.‏‏.‏ الخ «‏.‏

وقال عن هديه في نومه وانتباهه‏:‏» كان ينام على فراشه تارة وعلى النطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة بين رماله، وتارة على كساء أسود «‏.‏‏.‏

وأحاديثه التي تحض على اليسر والسماحة والرفق في تناول الأمور وفي أولها أمر العقيدة وتكاليفها كثيرة جداً يصعب تقصيها‏.‏ من هذا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏» إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه «‏(‏أخرجه البخاري‏)‏‏.‏‏.‏» لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم‏.‏‏.‏ «‏(‏أخرجه أبو داود‏)‏‏.‏‏.‏» إن المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى «‏(‏أخرجه البخاري‏)‏‏.‏‏.‏» يسروا ولا تعسروا «‏(‏أخرجه الشيخان‏)‏‏.‏

وفي التعامل‏:‏» رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى «‏(‏أخرجه البخاري‏)‏» المؤمن هين لين «‏(‏أخرجه البيهقي‏)‏» المؤمن يألف ويؤلف «‏(‏أخرجه الدارقطني‏)‏‏.‏» إن أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم «‏(‏أخرجه الشيخان‏)‏‏.‏

ومن اللمحات العميقة الدلالة كراهيته صلى الله عليه وسلم للعسر والصعوبة حتى في الأسماء وسمات الوجوه، مما يوحي بحقيقة فطرته وصنع ربه بها وتيسيره لليسرى انطباعاً وتكويناً‏.‏‏.‏ عن سعيد ابن المسيب عن أبيه رضي الله عنه أنه جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما اسمك‏؟‏ قال‏:‏ حَزْن ‏(‏أي صعب وعر‏)‏ قال‏:‏ بل أنت سهل‏.‏ قال‏:‏ لا أغير اسماً سمانيه أبي‏!‏ قال ابن المسيب رحمه الله‏:‏» فما زالت فينا حزونة بعد «‏!‏ ‏(‏أخرجه البخاري‏)‏‏.‏‏.‏» وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية وسماها جميلة «‏(‏أخرجه مسلم‏)‏‏.‏ ومن قوله‏:‏» إن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق «‏(‏أخرجه الترمذي‏)‏‏.‏‏.‏

فهو الحس المرهف الذي يلمح الوعورة والشدة حتى في الأسماء والملامح فينفر منها، ويميل بها إلى اليسر والهوادة‏!‏

وسيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كلها صفحات من السماحة واليسر والهوادة واللين والتوفيق إلى اليسر في تناول الأمور جميعاً‏.‏

وهذا مثل من علاجه للنفوس، يكشف عن طريقته صلى الله عليه وسلم وطبيعته‏:‏

» جاءه أعرابي يوماً يطلب منه شيئاً فأعطاه‏.‏ قال له‏:‏

«أحسنت إليك‏؟‏» قال الأعرابي‏:‏ لا‏.‏ ولا أجملت‏!‏ فغضب المسلمون، وقاموا إليه؛ فأشار إليهم أن كفوا‏.‏ ثم دخل منزله، وأرسل إلى الأعرابي، وزاده شيئاً‏.‏ ثم قال‏:‏ «أحسنت إليك‏؟‏» قال‏:‏ نعم‏.‏ فجزاك الله من أهل ومن عشيرة خيراً‏.‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإذا أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك» قال‏:‏ نعم‏.‏ فلما كان الغداة جاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن هذا الأعرابي قال ما قال، فزدناه، فزعم أنه رضي‏.‏ أكذلك‏؟‏» فقال الأعرابي‏:‏ نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم «إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه، فتبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفوراً، فناداهم صاحب الناقة‏:‏ خلوا بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها وأعلم‏.‏ فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردها هوناً هوناً، حتى جاءت واستناخت، وشد عليها رحلها، واستوى عليها‏.‏ وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار»‏.‏

فهكذا كان أخذه صلى الله عليه وسلم للنفوس الشاردة‏.‏ بهذه البساطة، وبهذا اليسر، وبهذا الرفق وبهذا التوفيق‏.‏‏.‏ والنماذج شتى في سيرته كلها‏.‏ وهي من التيسير لليسرى كما بشره ربه ووفقه في حياته وفي دعوته وفي أموره جميعاً‏.‏‏.‏

هذه الشخصية الكريمة الحبيبة الميسرة لليسرى كانت كذلك لكي تحمل إلى البشرية هذه الدعوة‏.‏ فتكون طبيعتها من طبيعتها، وحقيقتها من حقيقتها، وتكون كفاء للأمانة الضخمة التي حملتها بتيسير الله وتوفيقه على ضخامتها‏.‏‏.‏ حيث تتحول الرسالة بهذا التيسير من عبء مثقل، إلى عمل محبب، ورياضة جميلة، وفرح وانشراح‏.‏‏.‏

وفي صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وصفة وظيفته التي جاء ليؤديها ورد في القرآن الكريم‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏}‏ ‏{‏الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم‏}‏ فقد جاء صلى الله عليه وسلم رحمة للبشرية‏.‏ جاء ميسراً يضع عن كواهل الناس الأثقال والأغلال التي كتبت عليهم، حينما شددوا فشدد عليهم‏.‏

وفي صفة الرسالة التي حملها ورد‏:‏ ‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‏}‏ ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏ ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا وسعها‏}‏ ‏{‏ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم‏}‏ فقد جاءت هذه الرسالة ميسرة في حدود الطاقة لا تكلف الناس حرجاً ولا مشقة‏.‏ وسرى هذا اليسر في روحها كما سرى في تكاليفها

‏{‏فطرة الله التي فطر الناس عليها‏}‏ وحيثما سار الإنسان مع هذه العقيدة وجد اليسر ومراعاة الطاقة البشرية، والحالات المختلفة للإنسان، والظروف التي يصادفها في جميع البيئات والأحوال‏.‏‏.‏ العقيدة ذاتها سهلة التصور‏.‏ إله واحد ليس كمثله شيء‏.‏ أبدع كل شيء، وهداه إلى غاية وجوده‏.‏ وأرسل رسلاً تذكر الناس بغاية وجودهم، وتردهم إلى الله الذي خلقهم‏.‏ والتكاليف بعد ذلك كلها تنبثق من هذه العقيدة في تناسق مطلق لا عوج فيه ولا انحراف‏.‏ وعلى الناس أن يأتوا منها بما في طوقهم بلا حرج ولا مشقة‏:‏ «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه»‏.‏ والمنهي عنه لا حرج فيه في حالة الضرورة‏:‏ ‏{‏إلا ما اضطررتم إليه‏}‏ وبين هذه الحدود الواسعة تنحصر جميع التكاليف‏.‏‏.‏ ومن ثم التقت طبيعة الرسول بطبيعة الرسالة، والتقت حقيقة الداعي بحقيقة الدعوة‏.‏ في هذه السمة الأصيلة البارزة‏.‏ وكذلك كانت الأمة التي جاءها الرسول الميسر بالرسالة الميسرة‏.‏ فهي الأمة الوسط، وهي الأمة المرحومة الحاملة للرحمة‏.‏ الميسرة الحاملة لليسر‏.‏‏.‏ تتفق فطرتها هذه مع فطرة هذا الوجود الكبير‏.‏‏.‏

وهذا الوجود بتناسقه وانسياب حركته يمثل صنعة الله من اليسر والانسياب الذي لا تصادم فيه ولا احتكاك‏.‏‏.‏ ملايين الملايين من الأجرام تسبح في فضاء الله وتنساب في مداراتها متناسقة متجاذبة‏.‏ لا تصطدم ولا تضطرب ولا تميد‏.‏‏.‏ وملايين من الخلائق الحية تجري بها الحياة إلى غاياتها القريبة والبعيدة في انتظام وفي إحكام‏.‏

وكل منها ميسر لما خلق له، سائر في طريقه إلى غاية‏.‏ وملايين الملايين من الحركات والأحداث والأحوال تتجمع وتتفرق وهي ماضية في طريقها كنغمات الفرقة العازفة بشتى الآلات، لتجتمع كلها في لحن واحد طويل مديد‏!‏

إنه التوافق المطلق بين طبيعة الوجود، وطبيعة الرسالة، وطبيعة الرسول، وطبيعة الأمة المسلمة‏.‏‏.‏ صنعة الله الواحد، وفطرة المبدع الحكيم‏.‏

‏{‏فذكر إن نفعت الذكرى‏}‏‏.‏‏.‏

لقد أقرأه فلا ينسى ‏(‏إلا ما شاء الله‏)‏ ويسره لليسرى‏.‏ لينهض بالأمانة الكبرى‏.‏‏.‏ ليذكر‏.‏ فلهذا أعدّ، ولهذا بُشر‏.‏‏.‏ فذكر حيثما وجدت فرصة للتذكير، ومنفذاً للقلوب، ووسيلة للبلاغ‏.‏ ذكر ‏{‏إن نفعت الذكرى‏}‏‏.‏‏.‏ والذكرى تنفع دائماً، ولن تعدم من ينتفع بها كثيراً كان أو قليلاً‏.‏ ولن يخلو جيل ولن تخلو أرض ممن يستمع وينتفع، مهما فسد الناس وقست القلوب وران عليها الحجاب‏.‏‏.‏

وحين نتأمل هذا الترتيب في الآيات، ندرك عظمة الرسالة، وضخامة الأمانة، التي اقتضت للنهوض بها هذا التيسير لليسرى، وذلك الإقراء والحفظ وتكفل الله بهما؛ كي ينهض الرسول صلى الله عليه وسلم بعبء التذكير، وهو مزود بهذا الزاد الكبير‏.‏

فإذا نهض صلى الله عليه وسلم بهذا العبء فقد أدى ما عليه، والناس بعد ذلك وشأنهم؛ تختلف مسالكهم وتختلف مصائرهم، ويفعل الله بهم ما يشاء وفق ما يستجيبون لهذه الذكرى‏:‏

‏{‏سيذكر من يخشى، ويتجنبها الأشقى، الذى يصلى النار الكبرى، ثم لا يموت فيها ولا يحيا‏.‏

قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى‏}‏‏.‏‏.‏

فذكّر‏.‏‏.‏ وسينتفع بالذكرى ‏{‏من يخشى‏}‏‏.‏‏.‏ ذلك الذي يستشعر قلبه التقوى، فيخشى غضب الله وعذابه‏.‏ والقلب الحي يتوجس ويخشى، مذ يعلم أن للوجود إلهاً خلق فسوى، وقدر فهدى، فلن يترك الناس سدى، ولن يدعهم هملاً؛ وهو لا بد محاسبهم على الخير والشر، ومجازيهم بالقسط والعدل‏.‏ ومن ثم فهو يخشى‏.‏ فإذا ذُكر ذكر، وإذا بُصر أبصر، وإذا وعظ اعتبر‏.‏

‏{‏ويتجنبها الأشقى‏}‏‏.‏‏.‏ يتجنب الذكرى، فلا يسمع لها ولا يفيد منها‏.‏ وهو إذن ‏{‏الأشقى‏}‏ الأشقى إطلاقاً وإجمالاً‏.‏ الأشقى الذي تتمثل فيه غاية الشقوة ومنتهاها‏.‏ الأشقى في الدنيا بروحه الخاوية الميتة الكثيفة الصفيقة، التي لا تحس حقائق الوجود، ولا تسمع شهادتها الصادقة، ولا تتأثر بموحياتها العميقة‏.‏ والذي يعيش قلقاً متكالباً على ما في الأرض كادحاً لهذا الشأن الصغير‏!‏ والأشقى في الآخرة بعذابها الذي لا يعرف له مدى‏:‏

‏{‏الذي يصلى النار الكبرى‏.‏ ثم لا يموت فيها ولا يحيا‏}‏‏.‏‏.‏

والنار الكبرى هي نار جهنم‏.‏ الكبرى بشدتها، والكبرى بمدتها، والكبرى بضخامتها‏.‏‏.‏ حيث يمتد بقاؤه فيها ويطول‏.‏ فلا هو يموت فيجد طعم الراحة؛ ولا هو يحيا في أمن وراحة‏.‏ إنما هو العذاب الخالد، الذي يتطلع صاحبه إلى الموت كما يتطلع إلى الأمنية الكبرى‏!‏

وفي الصفحة المقابلة نجد النجاة والفلاح مع التطهر والتذكر‏:‏

‏{‏قد أفلح من تزكى‏.‏ وذكر اسم ربه فصلى‏}‏‏.‏‏.‏

والتزكي‏:‏ التطهر من كل رجس ودنس، والله سبحانه يقرر أن هذا الذي تطهر وذكر اسم ربه، فاستحضر في قلبه جلاله‏:‏ ‏{‏فصلى‏}‏‏.‏‏.‏ إما بمعنى خشع وقنت‏.‏ وإما بمعنى الصلاة الاصطلاحي، فكلاهما يمكن أن ينشأ من التذكر واستحضار جلال الله في القلب، والشعور بمهابته في الضمير‏.‏‏.‏ هذا الذي تطهر وذكر وصلى ‏{‏قد أفلح‏}‏ يقينا‏.‏ أفلح في دنياه، فعاش موصولاً، حي القلب، شاعراً بحلاوة الذكر وإيناسه‏.‏ وأفلح في أخراه، فنجا من النار الكبرى، وفاز بالنعيم والرضى‏.‏‏.‏

فأين عاقبة من عاقبة‏؟‏ وأين مصير من مصير‏؟‏

وفي ظل هذا المشهد‏.‏ مشهد النار الكبرى للأشقى‏.‏ والنجاة والفلاح لمن تزكى، يعود بالمخاطبين إلى علة شقائهم، ومنشأ غفلتهم، وما يصرفهم عن التذكر والتطهر والنجاة والفلاح، ويذهب بهم إلى النار الكبرى والشقوة العظمى‏:‏

‏{‏بل تؤثرون الحياة الدنيا‏.‏ والآخرة خير وأبقى‏}‏‏.‏‏.‏

إن إيثار الحياة الدنيا هو أساس كل بلوى‏.‏ فعن هذا الإيثار ينشأ الإعراض عن الذكرى؛ لأنها تقتضيهم أن يحسبوا حساب الآخرة ويؤثروها‏.‏ وهم يريدون الدنيا، ويؤثرونها‏.‏‏.‏

وتسميتها ‏{‏الدنيا‏}‏ لا تجيء مصادفة‏.‏ فهي الواطية الهابطة إلى جانب أنها الدانية‏:‏ العاجلة‏:‏ ‏{‏والآخرة خير وأبقى‏}‏‏.‏‏.‏ خير في نوعها، وأبقى في أمدها‏.‏

وفي ظل هذه الحقيقة يبدو إيثار الدنيا على الآخرة حماقة وسوء تقدير‏.‏ لا يقدم عليهما عاقل بصير‏.‏

وفي الختام تجيء الإشارة إلى قدم هذه الدعوة، وعراقة منبتها، وامتداد جذورها في شعاب الزمن، وتوحد أصولها من وراء الزمان والمكان‏:‏

‏{‏إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى‏}‏‏.‏‏.‏

هذا الذي ورد في هذه السورة وهو يتضمن أصول العقيدة الكبرى‏.‏ هذا الحق الأصيل العريق‏.‏ هو الذي في الصحف الأولى‏.‏ صحف إبراهيم وموسى‏.‏

ووحدة الحق، ووحدة العقيدة، هي الأمر الذي تقتضيه وحدة الجهة التي صدر عنها‏.‏ ووحدة المشيئة التي اقتضت بعثة الرسل إلى البشر‏.‏‏.‏ إنه حق واحد، يرجع إلى أصل واحد‏.‏ تختلف جزئياته وتفصيلاته باختلاف الحاجات المتجددة، والأطوار المتعاقبة‏.‏ ولكنها تلتقي عند ذلك الأصل الواحد‏.‏ الصادر من مصدر واحد‏.‏‏.‏ من ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى‏.‏‏.‏