فصل: تفسير الآيات رقم (65- 92)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 92‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏65‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏66‏)‏ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏67‏)‏ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏68‏)‏ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏69‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏70‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏71‏)‏ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏72‏)‏ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏76‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏77‏)‏ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏78‏)‏ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏80‏)‏ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏81‏)‏ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏82‏)‏ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏ قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏84‏)‏ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏85‏)‏ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏86‏)‏ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏87‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏88‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏89‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ‏(‏90‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏91‏)‏ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏92‏)‏‏}‏

هذا الشوط من السورة ما يزال يجري مع الخط الأول الأساسي العريض فيها‏.‏‏.‏ خط المعركة بين أهل الكتاب والجماعة المسلمة‏.‏‏.‏ معركة العقيدة، وما يبذل أعداء هذا الدين من جهد ومن حيلة ومن مكيدة ومن خداع، ومن كذب، ومن تدبير، للبس الحق بالباطل، وبث الريب والشكوك، وتبييت الشر والضر لهذه الأمة بلا وناة ولا انقطاع‏.‏‏.‏ ثم مواجهة القرآن لهذا كله، بتبصير المؤمنين بحقيقة ما هم عليه من الحق؛ وحقيقة ما عليه أعداؤهم من الباطل؛ وحقيقة ما يبيته لهم هؤلاء الأعداء‏.‏‏.‏ وأخيراً بتشريح هؤلاء الأعداء‏.‏‏.‏ طباعهم وأخلاقهم وأعمالهم ونياتهم‏.‏‏.‏ على مشهد من الجماعة المسلمة‏.‏ لتعريفها حقيقة أعدائها، وفضح ما يضفونه على أنفسهم من مظاهر العلم والمعرفة، وتبديد ثقة المخدوعين من المسلمين فيهم، وتنفيرهم من حالهم وإسقاط دسائسهم بتركها مكشوفة عوراء، لا تخدع أحداً ولا تنطلي على أحد‏!‏

ويبدأ هذا الشوط بمواجهة أهل الكتاب- اليهود والنصارى- بسخف موقفهم وهم يحاجون في إبراهيم- عليه السلام- فيزعم اليهود أنه كان يهودياً، ويزعم النصارى أنه كان نصرانياً‏.‏ على حين أن إبراهيم سابق لليهودية والنصرانية، سابق للتوراة والإنجيل‏.‏ والحجاج فيه على هذا النحو مراء لا يستند إلى دليل‏.‏‏.‏ ويقرر حقيقة ما كان عليه إبراهيم‏.‏‏.‏ لقد كان على الإسلام‏.‏‏.‏ دين الله القويم‏.‏ وأولياؤه هم الذين يسيرون على نهجه‏.‏ والله ولي المؤمنين أجمعين‏.‏‏.‏ ومن ثم تسقط ادعاءات هؤلاء وهؤلاء؛ ويتبين خط الإسلام الواصل بين رسل الله والمؤمنين بهم على توالي القرون‏:‏ ‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه، وهذا النبي، والذين آمنوا‏.‏ والله ولي المؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

يلي ذلك في السياق كشف الهدف الأصيل الكامن وراء مماراة أهل الكتاب في إبراهيم وغير إبراهيم- مما سبق في السورة ومما سيجيء- فهو الرغبة الملحة في إضلال المسلمين عن دينهم- وتشكيكهم في عقيدتهم‏.‏‏.‏ ومن ثم يتجه بالتقريع إلى المضللين‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون‏؟‏ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يطلع الجماعة المسلمة على لون من تبييت أعدائهم وتدبيرهم، لزعزعة ثقتهم في عقيدتهم ودينهم بطريقة خبيثة ماكرة لئيمة‏.‏ ذلك أن يعلنوا إيمانهم بالإسلام أول النهار، ثم يكفروا بالإسلام آخره‏.‏‏.‏ كي يلقوا في روع غير المتثبتين في الصف المسلم- ومثلهم موجود دائماً في كل صف- أنه لأمر ارتد أهل الكتاب، الخبيرون بالكتب والرسل والديانات‏:‏ ‏{‏وقالت طائفة من أهل الكتاب‏:‏ آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون‏}‏‏.‏‏.‏ وهو كيد خبيث لئيم‏!‏

ثم يكشف عن طبيعة أهل الكتاب وأخلاقهم ونظرتهم للعهود والمواثيق- على أمانة في بعضهم لا ينكرها عليهم- فأما البعض الآخر فلا أمانة له ولا عهد ولا ذمة؛ وهم يفلسفون جشعهم وخيانتهم ويدعون لها سنداً من دينهم، ودينهم من هذا الخلق بريء‏:‏ ‏{‏ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك‏.‏

ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً‏.‏ ذلك بأنهم قالوا‏:‏ ليس علينا في الأميين سبيل‏.‏ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وفي هذا الموضع يبين طبيعة نظرة الإسلام الأخلاقية ومبعثها وارتباطها بتقوى الله‏:‏ ‏{‏بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين‏.‏ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

ويمضي يعرض نموذجاً آخر من التواء أهل الكتاب وكذبهم الرخيص في أمر الدين ابتغاء مكاسب الأرض وهي كلها ثمن قليل‏:‏ ‏{‏وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب، لتحسبوه من الكتاب، وما هو من الكتاب‏.‏ ويقولون‏:‏ هو من عند الله‏.‏ وما هو من عند الله‏.‏ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

ومن هذا الذي يلوون ألسنتهم فيه ما يدعونه من ألوهية للمسيح وللروح القدس‏.‏‏.‏ وينفي الله- سبحانه- أن يكون المسيح- عليه السلام- قد جاءهم بهذا في الكتاب أو أمرهم به‏:‏ ‏{‏ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقول للناس‏:‏ كونوا عباداً لي من دون الله‏.‏ ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون‏.‏ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً‏.‏ أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وبهذه المناسبة يذكر حقيقة الصلة بين موكب الرسل المتتابعة‏.‏‏.‏ وهي عهد الله عليهم أن يسلم السابق منهم للاحق وينصره‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيين‏:‏ لما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه‏.‏ قال‏:‏ أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري‏؟‏ قالوا‏:‏ أقررنا‏.‏ قال‏:‏ فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين‏}‏‏.‏‏.‏ ومن ثم يتعين على أهل الكتاب أن يؤمنوا بالرسول الأخير وينصروه‏.‏ ولكنهم لا يوفون بعهد الله معهم ومع رسلهم الأولين‏.‏

وفي ظل هذا العهد الساري يقرر أن الذي يبتغي ديناً غير دين الله‏.‏‏.‏ الإسلام‏.‏‏.‏ يخرج في الحقيقة على نظام الكون كله كما أراده الله‏:‏ ‏{‏أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً‏؟‏ وإليه يرجعون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ فيبدو هؤلاء الذين يخرجون عن إسلام أمرهم لله كله، والطاعة والاتباع لمنهج الله في خضوع واستسلام‏.‏‏.‏ يبدو هؤلاء شذاذاً خارجين على نظام الوجود الكبير‏!‏

هنا يوجه الرسول- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين معه إلى إعلان الإيمان بدين الله الواحد، ممثلاً في كل ما جاء به الرسل أجمعين‏.‏ وأن الله لا يقبل من البشر جميعاً إلا هذا الدين‏:‏ ‏{‏ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏‏.‏

فأما الذين لا يؤمنون بهذا الدين فلا مطمع لهم في هداية الله‏.‏ ولا في النجاة من عقابه‏.‏ إلا أن يتوبوا‏.‏ وأما الذين يموتون وهم كفار فلن ينفعهم أن يكونوا قد بذلوا، ما بذلوا ولن ينجيهم أن يفتدوا بملء الأرض ذهباً‏!‏ وبمناسبة البذل والفداء يحبب للمسلمين أن ينفقوا مما يحبون من مال في هذه الدنيا، ليجدوه عند الله مدخراً يوم القيامة‏:‏ ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏.‏ وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا يستعرض هذا الشوط الواحد هذا الحشد من الحقائق والتوجيهات‏.‏ وهو شوط في المعركة الضخمة التي تعرضها السورة، دائرة بين الجماعة المسلمة وأعداء هذا الدين‏.‏ من وراء القرون‏.‏ وهي ذاتها المعركة الدائرة اليوم، لا تختلف فيها الأهداف والغايات، وإن اختلفت أشكال الوسائل والأدوات‏.‏‏.‏ وهي هي في خطها الطويل المديد‏.‏‏.‏

فلننظر في النصوص- بعد هذا الإجمال- نظرة استيعاب وتفصيل‏:‏

‏{‏يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم، وما أنزلت التوراة والإنجيل إلاّ من بعده‏؟‏ أفلا تعقلون‏؟‏ ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم‏؟‏ والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏.‏ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً، ولكن كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين‏.‏ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه، وهذا النبي، والذين آمنوا‏.‏ والله ولي المؤمنين‏}‏‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن أبي- مولى زيد بن ثابت- حدثني سعيد بن جبير- أو عكرمة- عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال‏:‏ اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتنازعوا عنده‏.‏ فقالت الأحبار‏:‏ ما كان إبراهيم إلا يهودياً‏.‏ وقالت النصارى‏:‏ ما كان إبراهيم إلا نصرانياً‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

وسواء كانت هذه هي مناسبة نزول الآية أو لم تكن، فظاهر من نصها أنها نزلت رداً على ادعاءات لأهل الكتاب، وحجاج مع النبي- صلى الله عليه وسلم- أو مع بعضهم البعض في حضرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- والهدف من هذه الادعاءات هو احتكار عهد الله مع إبراهيم- عليه السلام- أن يجعل في بيته النبوة؛ واحتكار الهداية والفضل كذلك‏.‏ ثم- وهذا هو الأهم- تكذيب دعوى النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه على دين إبراهيم، وأن المسلمين هم ورثة الحنيفية الأولى؛ وتشكيك المسلمين في هذه الحقيقة، أو بث الريبة في نفوس بعضهم على الأقل‏.‏‏.‏

ومن ثم يندد الله بهم هذا التنديد؛ ويكشف مراءهم الذي لا يستند إلى دليل‏.‏

فإبراهيم سابق على التوراة وسابق على الإنجيل‏.‏ فكيف إذن يكون يهودياً‏؟‏ أو كيف إذن يكون نصرانياً‏؟‏ إنها دعوى مخالفة للعقل، تبدو مخالفتها بمجرد النظرة الأولى إلى التاريخ‏:‏

‏{‏يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده‏؟‏ أفلا تعقلون‏؟‏‏}‏‏.‏

ثم يمضي في التنديد بهم؛ وإسقاط قيمة ما يدلون به من حجج وكشف تعنتهم وقلة اعتمادهم على منهج منطقي سليم في الجدل والحوار‏:‏

‏{‏ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم‏؟‏ والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏؟‏‏}‏‏.‏

وقد جادلوا في أمر عيسى عليه السلام؛ كما يبدو أنهم جادلوا في بعض الأحكام التشريعية حين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم تولوا وهم معرضون‏.‏‏.‏ وكان هذا وذاك في دائرة ما يعلمون من الأمر، أما أن يجادلوا فيما هو سابق على وجودهم، ووجود كتبهم ودياناتهم‏.‏‏.‏ فهو الأمر الذي لا سند له ولو كان سنداً شكلياً‏.‏‏.‏ فهو الجدل إذن لذات الجدل‏.‏ وهو المراء الذي لا يسير على منهج، وهو الغرض إذن والهوى‏.‏‏.‏ ومن كان هذا حاله فهو غير جدير بالثقة فيما يقول‏.‏ بل غير جدير بالاستماع أصلا لما يقول‏!‏

حتى إذا انتهى السياق من إسقاط قيمة جدلهم من أساسه، ونزع الثقة منهم ومما يقولون، عاد يقرر الحقيقة التي يعلمها الله‏.‏ فهو- سبحانه- الذي يعلم حقيقة هذا التاريخ البعيد؛ وهو الذي يعلم كذلك حقيقة الدين الذي نزله على عبده إبراهيم‏.‏ وقوله الفصل الذي لا يبقى معه لقائل قول؛ إلا أن يجادل ويماري بلا سلطان ولا دليل‏:‏

‏{‏ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً‏.‏ ولكن كان حنيفاً مسلماً‏.‏ وما كان من المشركين‏}‏‏.‏‏.‏

فيؤكد ما قرره من قبل ضمناً من أن إبراهيم- عليه السلام- ما كان يهودياً ولا نصرانياً‏.‏ وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده‏.‏ ويقرر أنه كان مائلاً عن كل ملة إلا الإسلام‏.‏ فقد كان مسلماً‏.‏‏.‏ مسلماً بالمعنى الشامل للإسلام الذي مر تفصيله وبيانه‏.‏‏.‏

‏{‏وما كان من المشركين‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه الحقيقة متضمنة في قوله قبلها ‏{‏ولكن كان حنيفاً مسلماً‏}‏‏.‏‏.‏ ولكن إبرازها هنا يشير إلى عدة من لطائف الإشارة والتعبير‏:‏

يشير أولاً إلى أن اليهود والنصارى- الذين انتهى أمرهم إلى تلك المعتقدات المنحرفة- مشركون‏.‏‏.‏ ومن ثم لا يمكن أن يكون إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً‏.‏ ولكن حنيفاً مسلماً‏!‏

ويشير إلى أن الإسلام شيء والشرك شيء آخر‏.‏ فلا يلتقيان‏.‏ الإسلام هو التوحيد المطلق بكل خصائصه‏.‏ وكل مقتضياته‏.‏ ومن ثم لا يلتقي مع لون من ألوان الشرك أصلاً‏.‏

ويشير ثالثاً إلى إبطال دعوى المشركين من قريش كذلك أنهم على دين إبراهيم، وسدنة بيته في مكة‏.‏‏.‏ فهو حنيف مسلم، وهم مشركون‏.‏ ‏{‏وما كان من المشركين‏}‏ ‏!‏

وما دام أن إبراهيم- عليه السلام- كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، فليس لأي من اليهود أو النصارى- أو المشركين أيضاً- أن يدعي وراثته، ولا الولاية على دينه، وهم بعيدون عن عقيدته‏.‏

‏.‏ والعقيدة هي الوشيجة الأولى التي يتلاقى عليها الناس في الإسلام‏.‏ حين لا يلتقون على نسب ولا أرومة ولا جنس ولا أرض، إذا أنبتت تلك الوشيجة التي يتجمع عليها أهل الإيمان‏.‏ فالإنسان في نظر الإسلام إنسان بروحه‏.‏ بالنفخة التي جعلت منه إنساناً‏.‏ ومن ثم فهو يتلاقى على العقيدة أخص خصائص الروح فيه‏.‏ ولا يلتقي على مثل ما تلتقي عليه البهائم من الأرض والجنس والكلأ والمرعى والحد والسياج‏!‏ والولاية بين فرد وفرد، وبين مجموعة ومجموعة، وبين جيل من الناس وجيل، لا ترتكن إلى وشيجة أخرى سوى وشيجة العقيدة‏.‏ يتلاقى فيها المؤمن والمؤمن‏.‏ والجماعة المسلمة والجماعة المسلمة‏.‏ والجيل المسلم والأجيال المسلمة من وراء حدود الزمان والمكان، ومن وراء فواصل الدم والنسب، والقوم والجنس؛ ويتجمعون أولياء- بالعقيدة وحدها- والله من ورائهم ولي الجميع‏:‏

‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه، وهذا النبي، والذين آمنوا‏.‏ والله ولي المؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

فالذين اتبعوا إبراهيم- في حياته- وساروا على منهجه، واحتكموا إلى سنته هم أولياؤه‏.‏ ثم هذا النبي الذي يلتقي معه في الإسلام بشهادة الله أصدق الشاهدين‏.‏ ثم الذين آمنوا بهذا النبي- صلى الله عليه وسلم- فالتقوا مع إبراهيم- عليه السلام- في المنهج والطريق‏.‏

‏{‏والله ولي المؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

فهم حزبه الذين ينتمون إليه، ويستظلون برايته، ويتولونه ولا يتولون أحداً غيره‏.‏ وهم أسرة واحدة‏.‏ وأمة واحدة‏.‏ من وراء الأجيال والقرون، ومن وراء المكان والأوطان؛ ومن وراء القوميات والأجناس، ومن وراء الأرومات والبيوت‏!‏

وهذه الصورة هي أرقى صورة للتجمع الإنساني تليق بالكائن الإنساني‏.‏ وتميزه من القطيع‏!‏ كما أنها هي الصورة الوحيدة التي تسمح بالتجمع بلا قيود‏.‏ لأن القيد الواحد فيها اختياري يمكن لكل من يشاء أن يفكه عن نفسه بإرادته الذاتية‏.‏ فهو عقيدة يختارها بنفسه فينتهي الأمر‏.‏‏.‏ على حين لا يملك الفرد أن يغير جنسه- إن كانت رابطة التجمع هي الجنس- ولا يملك أن يغير قومه- إن كانت رابطة التجمع هي القوم- ولا يملك أن يغير لونه- إن كانت رابطة التجمع هي اللون- ولا يملك بيسر أن يغير لغته إن كانت رابطة التجمع هي اللغة- ولا يملك بيسر أن يغير طبقته- إن كانت رابطة التجمع هي الطبقة- بل قد لا يستطيع أن يغيرها أصلا إن كانت الطبقات وراثة كما في الهند مثلاً‏.‏ ومن ثم تبقى الحواجز قائمة أبداً دون التجمع الإنساني، ما لم ترد إلى رابطة الفكرة والعقيدة والتصور‏.‏

‏.‏ الأمر المتروك للاقتناع الفردي، والذي يملك الفرد بذاته، بدون تغيير أصله أو لونه أو لغته أو طبقته أن يختاره، وأن ينضم إلى الصف على أساسه‏.‏

وذلك فوق ما فيه من تكريم للإنسان، بجعل رابطة تجمعه مسألة تتعلق بأكرم عناصره، المميزة له من القطيع‏!‏

والبشرية إما أن تعيش- كما يريدها الإسلام- أناسيّ تتجمع على زاد الروح وسمة القلب وعلامة الشعور‏.‏‏.‏ وإما أن تعيش قطعاناً خلف سياج الحدود الأرضية، أو حدود الجنس واللون‏.‏‏.‏ وكلها حدود مما يقام للماشية في المرعى كي لا يختلط قطيع بقطيع‏!‏‏!‏‏!‏

ثم يكشف للجماعة المسلمة عما يريده بها أهل الكتاب من وراء كل جدال وكل مراء‏.‏ ويواجه أهل الكتاب بألاعيبهم وكيدهم وتدبيرهم على مرأى ومسمع من الجماعة المسلمة أيضاً‏.‏ وهو يمزق عنهم الأردية التي يتخفون تحتها، فيقفهم أمام الجماعة المسلمة عراة مفضوحين‏:‏

‏{‏ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم‏.‏ وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون‏.‏ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون‏؟‏ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون‏؟‏ وقالت طائفة من أهل الكتاب‏:‏ آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون‏.‏ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم- قل‏:‏ إن الهدى هدى الله- أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم- قل‏:‏ إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم‏.‏ يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم‏}‏‏.‏

إن الإحنة التي يكنها أهل الكتاب للجماعة المسلمة هي الإحنة المتعلقة بالعقيدة‏.‏ إنهم يكرهون لهذه الأمة أن تهتدي‏.‏ يكرهون لها أن تفيء إلى عقيدتها الخاصة في قوة وثقة ويقين‏.‏ ومن ثم يرصدون جهودهم كلها لإضلالها عن هذا المنهج، والإلواء بها عن هذا الطريق‏:‏

‏{‏ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم‏}‏‏.‏‏.‏

فهو ود النفس ورغبة القلب والشهوة التي تهفو إليها الأهواء من وراء كل كيد، وكل دس، وكل مراء، وكل جدال، وكل تلبيس‏.‏

وهذه الرغبة القائمة على الهوى والحقد والشر، ضلال لا شك فيه‏.‏ فما تنبعث مثل هذه الرغبة الشريرة الآثمة عن خير ولا عن هدى‏.‏ فهم يوقعون أنفسهم في الضلالة في اللحظة التي يودون فيها إضلال المسلمين‏.‏ فما يحب إضلال المهتدين إلا ضال يهيم في الضلال البهيم‏:‏

‏{‏وما يضلون إلا أنفسهم‏.‏ وما يشعرون‏}‏‏.‏‏.‏

والمسلمون مكفيون أمر أعدائهم هؤلاء ما استقاموا على إسلامهم وما لهم عليهم من سبيل‏.‏ والله سبحانه يتعهد لهم ألا يصيبهم كيد الكائدين، وأن يرتد عليهم كيدهم ما بقي المسلمون مسلمين‏.‏

هنا يقرع أهل الكتاب بحقيقة موقفهم المريب المعيب‏:‏

‏{‏يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون‏؟‏ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون‏؟‏‏}‏‏.‏

ولقد كان أهل الكتاب وقتها- وما يزالون حتى اليوم- يشهدون الحق واضحاً في هذا الدين‏.‏ سواء منهم المطلعون على حقيقة ما جاء في كتبهم عنه من بشارات وإشارات- وكان بعضهم يصرح بما يجد من هذا كله وبعضهم يسلم بناء على هذا الذي يجده في كتبه ويشهده متحققاً أمامه- وسواء كذلك غير المطلعين، ولكنهم يجدون في الإسلام من الحق الواضح ما يدعو إلى الإيمان‏.‏‏.‏ غير أنهم يكفرون‏.‏‏.‏ لا لنقص في الدليل‏.‏ ولكن للهوى والمصلحة والتضليل‏.‏‏.‏ والقرآن يناديهم‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏‏.‏‏.‏ لأنها الصفة التي كان من شأنها أن تقودهم إلى آيات الله وكتابه الجديد‏.‏

كذلك يناديهم مرة أخرى ليفضح ما يقومون به من لبس الحق بالباطل لإخفائه وكتمانه وتضييعه في غمار الباطل، على علم وعن عمد وفي قصد‏.‏‏.‏ وهو أمر مستنكر قبيح‏!‏

وهذا الذي ندد الله به- سبحانه- من أعمال أهل الكتاب حينذاك، هو الأمر الذي درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة‏.‏‏.‏ فهذا طريقهم على مدار التاريخ‏.‏‏.‏ اليهود بدأوا منذ اللحظة الأولى‏.‏ ثم تابعهم الصليبيون‏!‏

وفي خلال القرون المتطاولة دسوا- مع الأسف- في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون‏!‏ ولبسوا الحق بالباطل في هذا التراث كله- اللهم إلا هذا الكتاب المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه أبد الآبدين- والحمد لله على فضله العظيم‏.‏

دسوا ولبسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله‏.‏ ودسوا ولبسوا في الحديث النبوي حتى قيض الله له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ند عن الجهد الإنساني المحدود‏.‏ ودسوا ولبسوا في التفسير القرآني حتى تركوه تيهاً لا يكاد الباحث يفيء فيه إلى معالم الطريق‏.‏ ودسوا ولبسوا في الرجال أيضاً‏.‏ فالمئات والألوف كانوا دسيسة على التراث الإسلامي- وما يزالون في صورة المستشرقين وتلاميذ المستشرقين الذين يشغلون مناصب القيادة الفكرية اليوم في البلاد التي يقول أهلها‏:‏ إنهم مسلمون‏.‏ والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة أبطال مصنوعين على عين الصهيونية والصليبية، ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين‏!‏

وما يزال هذا الكيد قائماً ومطرداً‏.‏ وما تزال مثابة الأمان والنجاة منه هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ؛ والعودة إليه لاستشارته في المعركة الناشبة طوال هذه القرون‏.‏

كذلك يعرض بعض المحاولات التي يبذلها فريق من أهل الكتاب لبلبلة الجماعة المسلمة في دينها، وردها عن الهدى، من ذلك الطريق الماكر اللئيم‏:‏

‏{‏وقالت طائفة من أهل الكتاب‏:‏ آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون‏.‏ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهي طريقة ماكرة لئيمة كما قلنا‏.‏ فإن إظهارهم الإسلام ثم الرجوع عنه، يوقع بعض ضعاف النفوس والعقول وغير المتثبتين من حقيقة دينهم وطبيعته‏.‏

‏.‏ يوقعهم في بلبلة واضطراب‏.‏ وبخاصة العرب الأميين، الذين كانوا يظنون أن أهل الكتاب أعرف منهم بطبيعة الديانات والكتب‏.‏ فإذا رأوهم يؤمنون ثم يرتدون، حسبوا أنهم إنما ارتدوا بسبب اطلاعهم على خبيئة ونقص في هذا الدين‏.‏ وتأرجحوا بين اتجاهين فلم يكن لهم ثبات على حال‏.‏

وما تزال هذه الخدعة تتخذ حتى اليوم‏.‏ في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل‏.‏‏.‏ ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة، فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى، كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة‏.‏

إن لهذه القوى اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيشاً جراراً من العملاء في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين- وأحياناً كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين- يحملون أسماء المسلمين، لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة‏!‏ وبعضهم من «علماء» المسلمين‏!‏

هذا الجيش من العملاء موجه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب، في صورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة‏.‏ وتوهين قواعدها من الأساس‏.‏ والتهوين من شأن العقيدة والشريعة سواء‏.‏ وتأويلها وتحميلها ما لا تطيق‏.‏ والدق المتصل على «رجعيتها»‏!‏ والدعوة للتلفت منها‏.‏ وإبعادها عن مجال الحياة إشفاقا عليها من الحياة أو إشفاقا على الحياة منها‏!‏ وابتداع تصورات ومثل وقواعد للشعور والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومثلها‏.‏ وتزيين تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويه التصورات والمثل الإيمانية‏.‏ وإطلاق الشهوات من عقالها وسحق القاعدة الخلقية التي تستوي عليها العقيدة النظيفة لتخر في الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثراً‏!‏ ويشوهون التاريخ كله ويحرفونه كما يحرفون النصوص‏!‏

وهم بعد مسلمون‏!‏ أليسوا يحملون أسماء المسلمين‏؟‏ وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار‏.‏ وبهذه المحاولات المجرمة يكفرون آخره‏.‏‏.‏ ويؤدون بهذه وتلك دور أهل الكتاب القديم‏.‏‏.‏ لا يتغير إلا الشكل والإطار في ذلك الدور القديم‏!‏

وكان أهل الكتاب يقول بعضهم لبعض‏:‏ تظاهروا بالإسلام أول النهار واكفروا آخره لعل المسلمين يرجعون عن دينهم‏.‏ وليكن هذا سراً بينكم لا تبدونه ولا تأتمنون عليه إلا أهل دينكم‏:‏

‏{‏ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏}‏‏.‏‏.‏

وفعل الإيمان حين يعدّى باللام يعني الاطمئنان والثقة‏.‏ أي ولا تطمئنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تفضوا بأسراركم إلا لهؤلاء دون المسلمين‏!‏

وعملاء الصهيونية والصليبية اليوم كذلك‏.‏‏.‏ إنهم متفاهمون فيما بينهم على أمر‏.‏‏.‏ هو الإجهاز على هذه العقيدة في الفرصة السانحة التي قد لا تعود‏.‏‏.‏ وقد لا يكون هذا التفاهم في معاهدة أو مؤامرة‏.‏ ولكنه تفاهم العميل مع العميل على المهمة المطلوبة للأصيل‏!‏ ويأمن بعضهم لبعض فيفضي بعضهم إلى بعض‏.‏‏.‏ ثم يتظاهرون- بعضهم على الأقل بغير- ما يريدون وما يبيتون‏.‏‏.‏ والجو من حولهم مهيأ، والأجهزة من حولهم معبأة‏.‏‏.‏ والذين يدركون حقيقة هذا الدين في الأرض كلها مغيبون أو مشردون‏!‏

‏{‏ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏}‏‏.‏

وهنا يوجه الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يعلن أن الهدى هو وحده هدى الله؛ وأن من لا يفيء إليه لن يجد الهدى أبداً في أي منهج ولا في أي طريق‏:‏

‏{‏قل‏:‏ إن الهدى هدى الله‏}‏‏.‏‏.‏

ويجيء هذا التقرير رداً على مقالتهم‏:‏ ‏{‏آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون‏}‏ تحذيراً للمسلمين من تحقيق الهدف اللئيم‏.‏ فهو الخروج من هدى الله كله‏.‏ فلا هدى إلا هداه وحده‏.‏ وإنما هو الضلال والكفر ما يريده بهم هؤلاء الماكرون‏.‏

يجيء هذا التقرير قبل أن ينتهي السياق من عرض مقولة أهل الكتاب كلها‏.‏‏.‏ ثم يمضي يعرض بقية تآمرهم بعد هذا التقرير المعترض‏:‏

‏{‏أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو يحاجوكم عند ربكم‏}‏‏.‏‏.‏

بهذا يعللون قولهم‏:‏ ‏{‏ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏}‏‏.‏‏.‏ فهو الحقد والحسد والنقمة أن يؤتي الله أحداً من النبوة والكتاب ما آتى أهل الكتاب‏.‏ وهو الخوف أن يكون في الاطمئنان للمسلمين وإطلاعهم على الحقيقة التي يعرفها أهل الكتاب، ثم ينكرونها، عن هذا الدين، ما يتخذه المسلمون حجة عليهم عند الله‏!‏- كأن الله سبحانه لا يأخذهم بحجة إلا حجة القول المسموع‏!‏- وهي مشاعر لا تصدر عن تصور إيماني بالله وصفاته؛ ولا عن معرفة بحقيقة الرسالات والنبوات، وتكاليف الإيمان والاعتقاد‏!‏

ويوجه الله سبحانه رسوله الكريم ليعلمهم- ويعلم الجماعة المسلمة- حقيقة فضل الله حين يشاء أن يمن على أمة برسالة وبرسول‏:‏

‏{‏قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم‏.‏ يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم‏}‏‏.‏‏.‏

وقد شاءت إرادته أن يجعل الرسالة والكتاب في غير أهل الكتاب؛ بعد ما خاسوا بعهدهم مع الله؛ ونقضوا ذمة أبيهم إبراهيم؛ وعرفوا الحق ولبسوه بالباطل؛ وتخلوا عن الأمانة التي ناطها الله بهم؛ وتركوا أحكام كتابهم وشريعة دينهم؛ وكرهوا أن يتحاكموا إلى كتاب الله بينهم‏.‏ وخلت قيادة البشرية من منهج الله وكتابه ورجاله المؤمنين‏.‏‏.‏ عندئذ سلم القيادة، وناط الأمانة، بالأمة المسلمة‏.‏ فضلا منه ومنة‏.‏ ‏{‏والله واسع عليم‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏يختص برحمته من يشاء‏}‏‏.‏‏.‏ عن سعة في فضله وعلم بمواضع رحمته‏.‏‏.‏ ‏{‏والله ذو الفضل العظيم‏}‏‏.‏‏.‏ وليس أعظم من فضله على أمة بالهدى ممثلاً في كتاب‏.‏ وبالخير ممثلاً في رسالة‏.‏‏.‏ وبالرحمة ممثلة في رسول‏.‏

فإذا سمع المسلمون هذا احسوا مدى النعمة وقيمة المنة في اختيار الله لهم، واختصاصه إياهم بهذا الفضل‏.‏ واستمسكوا به في إعزاز وحرص، وأخذوه بقوة وعزم، ودافعوا عنه في صرامة ويقين، وتيقظوا لكيد الكائدين وحقد الحاقدين‏.‏ وهذا ما كان يربيهم به القرآن الكريم والذكر الحكيم‏.‏ وهو ذاته مادة التربية والتوجيه للأمة المسلمة في كل جيل‏.‏

ثم يمضي السياق يصف حال أهل الكتاب؛ ويبين ما في هذه الحال من نقائص؛ ويقرر القيم الصحيحة التي يقوم عليها الإسلام دين المسلمين‏.‏ ويبدأ فيعرض نموذجين من نماذج أهل الكتاب في التعامل والتعاقد‏:‏

‏{‏ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً‏.‏ ذلك بأنهم قالوا‏:‏ ليس علينا في الأميين سبيل، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏.‏ بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين‏.‏ إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

إنها خطة الإنصاف والحق وعدم البخس والغبن يجري عليها القرآن الكريم في وصف حال أهل الكتاب الذين كانوا يواجهون الجماعة المسلمة حينذاك؛ والتي لعلها حال أهل الكتاب في جميع الأجيال‏.‏ ذلك أن خصومة أهل الكتاب للإسلام والمسلمين، ودسهم وكيدهم وتدبيرهم الماكر اللئيم، وإرادتهم الشر بالجماعة المسلمة وبهذا الدين‏.‏‏.‏ كل ذلك لا يجعل القرآن يبخس المحسنين منهم حقهم، حتى في معرض الجدل والمواجهة‏.‏ فهو هنا يقرر أن من أهل الكتاب ناساً أمناء، لا يأكلون الحقوق مهما كانت ضخمة مغرية‏:‏

‏{‏ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك‏}‏‏.‏‏.‏

ولكن منهم كذلك الخونة الطامعين المماطلين، الذين لا يردون حقاً- وإن صغر- إلا بالمطالبة والإلحاح والملازمة‏.‏ ثم هم يفلسفون هذا الخلق الذميم، بالكذب على الله عن علم وقصد‏:‏

‏{‏ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً‏.‏ ذلك بأنهم قالوا‏:‏ ليس علينا في الأميين سبيل‏.‏ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه بالذات صفة يهود‏.‏ فهم الذين يقولون هذا القول؛ ويجعلون للأخلاق مقاييس متعددة‏.‏ فالأمانة بين اليهودي واليهودي‏.‏ أما غير اليهود ويسمونهم الأميين وكانوا يعنون بهم العرب ‏(‏وهم في الحقيقة يعنون كل من سوى اليهود‏)‏ فلا حرج على اليهودي في أكل أموالهم، وغشهم وخداعهم، والتدليس عليهم، واستغلالهم بلا تحرج من وسيلة خسيسة ولا فعل ذميم‏!‏

ومن العجب أن يزعموا أن إلههم ودينهم يأمرهم بهذا‏.‏ وهم يعلمون أن هذا كذب‏.‏ وأن الله لا يأمر بالفحشاء، ولا يبيح لجماعة من الناس أن يأكلوا أموال جماعة من الناس سحتاً وبهتاناً، وألا يرعوا معهم عهداً ولا ذمة، وأن ينالوا منهم بلا تحرج ولا تذمم‏.‏ ولكنها يهود يهود‏!‏ التي اتخذت من عداوة البشرية والحقد عليها ديدناً وديناً‏:‏

‏{‏ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

هنا نجد القرآن الكريم يقرر قاعدته الخلقية الواحدة، وميزانه الخلقي الواحد‏.‏ ويربط نظرته هذه بالله وتقواه‏:‏

‏{‏بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين‏.‏ إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم‏.‏

ولهم عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

فهي قاعدة واحدة من راعاها وفاء بعهد الله وشعوراً بتقواه أحبه الله وأكرمه‏.‏ ومن اشترى بعهد الله وبأيمانه ثمناً قليلاً- من عرض هذه الحياة الدنيا أو بالدنيا كلها وهي متاع قليل- فلا نصيب له في الآخرة، ولا رعاية له عند الله ولا قبول، ولا زكاة له ولا طهارة‏.‏ وإنما هو العذاب الأليم‏.‏

ونلمح هنا أن الوفاء بالعهد مرتبط بالتقوى‏.‏ ومن ثم لا يتغير في التعامل مع عدو أو صديق‏.‏ فليس هو مسألة مصلحة‏.‏ إنما هو مسألة تعامل مع الله أبداً دونما نظر إلى من يتعامل معهم‏.‏

وهذه هي نظرية الإسلام الأخلاقية بصفة عامة‏.‏ في الوفاء بالعهد وفي سواه من الأخلاق‏:‏ التعامل هو أولاً تعامل مع الله، يلحظ فيه جناب الله، ويتجنب به سخطه ويطلب به رضاه‏.‏ فالباعث الأخلاقي ليس هو المصلحة؛ وليس هو عرف الجماعة، ولا مقتضيات ظروفها القائمة‏.‏ فإن الجماعة قد تضل وتنحرف، وتروج فيها المقاييس الباطلة‏.‏ فلا بد من مقياس ثابت ترجع إليه الجماعة كما يرجع إليه الفرد على السواء‏.‏ ولا بد أن يكون لهذا المقياس فوق ثباته قوة يستمدها من جهة أعلى‏.‏‏.‏ أعلى من اصطلاح الناس ومن مقتضيات حياتهم المتغيرة‏.‏‏.‏ ومن ثم ينبغي أن تستمد القيم والمقاييس من الله؛ بمعرفة ما يرضيه من الأخلاق والتطلع إلى رضاه والشعور بتقواه‏.‏‏.‏ بهذا يضمن الإسلام تطلع البشرية الدائم إلى أفق أعلى من الأرض؛ واستمدادها القيم والموازين من ذلك الأفق الثابت السامق الوضيء‏.‏

ومن ثم يجعل الذين يخيسون بالعهد ويغدرون بالأمانة‏.‏‏.‏ ‏{‏يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً‏}‏‏.‏‏.‏ فالعلاقة في هذا بينهم وبين الله قبل أن تكون بينهم وبين الناس‏.‏‏.‏ ومن هنا فلا نصيب لهم في الآخرة عنده، أن كانوا يبغون بالغدر والنكث بالعهد ثمناً قليلا هو هذه المصالح الدنيوية الزهيدة‏!‏ ولا رعاية لهم من الله في الآخرة جزاء استهانتهم بعهده- وهو عهدهم مع الناس- في الدنيا‏.‏

ونجد هنا أن القرآن قد سلك طريقة التصوير في التعبير‏.‏ وهو يعبر عن إهمال الله لهم وعدم رعايتهم، بأنه لا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يطهرهم‏.‏‏.‏ وهي أعراض الإهمال التي يعرفها الناس‏.‏‏.‏ ومن ثم يتخذها القرآن وسيلة لتصوير الموقف صورة حية تؤثر في الوجدان البشري أعمق مما يؤثر التعبير التجريدي‏.‏ على طريقة القرآن في ظلاله وإيحاءاته الجميلة‏.‏

ثم يمضي في عرض نماذج من أهل الكتاب؛ فيعرض نموذج المضللين، الذي يتخذون من كتاب الله مادة للتضليل، يلوون ألسنتهم به عن مواضعه، ويؤولون نصوصه لتوافق أهواء معينة، ويشترون بهذا كله ثمناً قليلاً‏.‏‏.‏ عرضاً من عرض هذه الحياة الدنيا‏:‏ ومن بين ما يلوون السنتهم به ويحرفونه ويؤولونه ما يختص بمعتقداتهم التي ابتدعوها عن المسيح عيسى بن مريم، مما اقتضته أهواء الكنيسة وأهواء الحكام سواء‏:‏

‏{‏وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون‏:‏ هو من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏.‏

ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقول للناس‏.‏ كونوا عباداً لي من دون الله‏.‏ ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون‏.‏ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً‏.‏ أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وآفة رجال الدين حين يفسدون، أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين‏.‏ وهذه الحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب، نعرفها نحن جيداً في زماننا هذا‏.‏ فهم كانوا يؤولون نصوص كتابهم، ويلوونها ليا ليصلوا منها إلى مقررات معينة، يزعمون أنها مدلول هذه النصوص، وأنها تمثل ما أراده الله منها‏.‏ بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين الله في أساسها‏.‏ معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولات هذه النصوص الحقيقية، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي يُلجئون إليها النصوص إلجاء‏.‏

ونحن اليوم نعرف هذا النموذج جيداً في بعض الرجال الذين ينسبون إلى الدين ظلماً‏!‏ الذين يحترفون الدين ويسخرونه في تلبية الأهواء كلها؛ ويحملون النصوص ويجرون بها وراء هذه الأهواء حيثما لاح لهم أن هناك مصلحة تتحقق، وأن هناك عرضاً من أعراض هذه الحياة الدنيا يحصل‏!‏ يحملون هذه النصوص ويلهثون بها وراء تلك الأهواء، ويلوون أعناق هذه النصوص ليا لتوافق هذه الأهواء السائدة؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه ليوافقوا بينه وبين اتجاهات تصادم هذا الدين وحقائقه الأساسية‏.‏ ويبذلون جهداً لاهثاً في التمحل وتصيد أدنى ملابسة لفظية ليوافقوا بين مدلول آية قرآنية وهوى من الأهواء السائدة التي يهمهم تمليقها‏.‏‏.‏ ‏{‏ويقولون هو من عند الله‏.‏ وما هو من عند الله‏.‏ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏ كما يحكي القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب سواء‏.‏ فهي آفة لا يختص بها أهل الكتاب وحدهم‏.‏ إنما تبتلى بها كل أمة يرخص دين الله فيها على من ينتسبون إليه حتى ما يساوي إرضاء هوى من الأهواء التي يعود تمليقها بعرض من أعراض هذه الأرض‏!‏ وتفسد الذمة حتى ما يتحرج القلب من الكذب على الله، تحريف كلماته عن مواضعها لتمليق عبيد الله، ومجاراة أهوائهم المنحرفة التي تصادم دين الله‏.‏‏.‏ وكأنما كان الله- سبحانه- يحذر الجماعة المسلمة من هذا المزلق الوبيء، الذي انتهى بنزع أمانة القيادة من بني إسرائيل‏.‏

هذا النموذج من بني إسرائيل- فيما يبدو من مجموع هذه الآيات- كانوا يتلمسون في كتاب الله الجمل ذات التعبير المجازي؛ فيلوون السنتهم بها- أي في تأويلها واستخراج مدلولات منها هي لا تدل عليها بغير ليها وتحريفها- ليوهموا الدهماء أن هذه المدلولات المبتدعة هي من كتاب الله؛ ويقولون بالفعل‏:‏ هذا ما قاله الله، وهو ما لم يقله- سبحانه- وكانوا يهدفون من هذا إلى إثبات الوهية عيسى عليه السلام ومعه «روح القدس»‏.‏

‏.‏ وذلك فيما كانوا يزعمون من الأقانيم‏:‏ الأب والابن والروح القدس‏.‏ باعتبارها كائناً واحداً هو الله- تعالى الله عما يصفون- ويروون عن عيسى- عليه السلام- كلمات تؤيد هذا الذي يدعونه، فرد الله عليهم هذا التحريف وهذا التأويل، بأنه ليس من شأن نبي يخصه الله بالنبوة ويصطفيه لهذا الأمر العظيم أن يأمر الناس أن يتخذوه إلهاً هو والملائكة‏.‏ فهذا مستحيل‏:‏

‏{‏ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقول للناس‏:‏ كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون‏.‏ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن النبي يوقن أنه عبد، وأن الله وحده هو الرب، الذي يتجه إليه العباد بعبوديتهم وبعبادتهم‏.‏ فما يمكن أن يدعي لنفسه صفة الألوهية التي تقتضي من الناس العبودية‏.‏ فلن يقول نبي للناس‏:‏ ‏{‏كونوا عباداً لي من دون الله‏}‏‏.‏‏.‏ ولكن قوله لهم‏:‏ ‏{‏كونوا ربانيين‏}‏‏.‏‏.‏ منتسبين إلى الرب، عباداً له وعبيداً، توجهوا إليه وحده بالعبادة، وخذوا عنه وحده منهج حياتكم، حتى تخلصوا له وحده فتكونوا ‏{‏ربانيين‏}‏‏.‏‏.‏ كونوا ‏{‏ربانيين‏}‏‏.‏‏.‏ بحكم علمكم للكتاب وتدارسكم له‏.‏ فهذا مقتضى العلم بالكتاب ودراسته‏.‏

والنبي لا يأمر الناس أبداً أن يتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، فالنبي لا يأمر الناس بالكفر بعد أن يسلموا لله ويستسلموا لألوهيته، وقد جاء ليهديهم إلى الله لا ليضلهم، وليقودهم إلى الإسلام لا ليكفرهم‏!‏

ومن ثم تتجلى استحالة هذا الذي ينسبه ذلك الفريق إلى عيسى- عليه السلام- كما يتجلى الكذب على الله في ادعائهم أن هذا من عند الله‏.‏‏.‏ وتسقط في الوقت ذاته قيمة كل ما يقوله هذا الفريق وما يعيده لإلقاء الريب والشكوك في الصف المسلم‏.‏ وقد عراهم القرآن هذه التعرية على مرأى ومسمع من الجماعة المسلمة‏!‏

ومثل هذا الفريق من أهل الكتاب فريق ممن يدعون الإسلام، ويدعون العلم بالدين كما أسلفنا‏.‏ وهم أولى بأن يوجه إليهم هذا القرآن اليوم‏.‏ وهم يلوون النصوص القرآنية ليا، لإقامة أرباب من دون الله في شتى الصور‏.‏ وهم يتصيدون من النصوص ما يلوونه لتمويه هذه المفتريات‏.‏ ‏{‏ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏}‏ ‏!‏

بعد ذلك يصور حقيقة الترابط بين موكب الرسل والرسالات، على عهد من الله وميثاق، ينبني عليه فسوق من يتولى عن اتباع آخر الرسالات، وشذوذه عن عهد الله وناموس الكون كله على الإطلاق‏:‏

‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيين‏:‏ لما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه‏.‏

قال‏:‏ أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري‏؟‏ قالوا‏:‏ أقررنا‏.‏ قال‏:‏ فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين‏.‏ فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون‏.‏ أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً، وإليه يرجعون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

لقد أخذ الله- سبحانه- موثقاً رهيباً جليلاً كان هو شاهده وأشهد عليه رسله‏.‏ موثقاً على كل رسول‏.‏ أنه مهما آتاه من كتاب وحكمة‏.‏ ثم جاء رسول بعده مصدقاً لما معه، أن يؤمن به وينصره، ويتبع دينه‏.‏ وجعل هذا عهداً بينه وبين كل رسول‏.‏

والتعبير القرآني يطوي الأزمنة المتتابعة بين الرسل؛ ويجمعهم كلهم في مشهد‏.‏ والله الجليل الكبير يخاطبهم جملة‏:‏ هل أقروا هذا الميثاق وأخذوا عليه عهد الله الثقيل‏:‏

‏{‏قال‏:‏ أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهم يجيبون‏:‏

‏{‏قالوا أقررنا‏}‏‏.‏‏.‏

فيشهد الجليل على هذا الميثاق ويشهدهم عليه‏:‏

‏{‏قال‏:‏ فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين‏}‏‏:‏

هذا المشهد الهائل الجليل، يرسمه التعبير، فيجف له القلب ويجب؛ وهو يتمثل المشهد بحضرة البارئ الجليل، والرسل مجتمعين‏.‏‏.‏

وفي ظل هذا المشهد يبدو الموكب الكريم متصلاً متسانداً مستسلماً للتوجيه العلوي، ممثلاً للحقيقة الواحدة التي شاء الله- سبحانه- أن تقوم عليها الحياة البشرية، ولا تنحرف، ولا تتعدد، ولا تتعارض، ولا تتصادم‏.‏‏.‏ إنما ينتدب لها المختار من عباد الله؛ ثم يسلمها إلى المختار بعده، ويسلم نفسه معها لأخيه اللاحق به‏.‏ فما للنبي في نفسه من شيء؛ وما له في هذه المهمة من أرب شخصي، ولا مجد ذاتي‏.‏ إنما هو عبد مصطفى، ومبلغ مختار‏.‏ والله- سبحانه- هو الذي ينقل خطى هذه الدعوة بين أجيال البشر؛ ويقود هذا الموكب ويصرفه كيف يشاء‏.‏ ويخلص دين الله- بهذا العهد وبهذا التصور- من العصبية الذاتية‏.‏ عصبية الرسول لشخصه‏.‏ وعصبيته لقومه‏.‏ وعصبية أتباعه لنحلتهم‏.‏ وعصبيتهم لأنفسهم‏.‏ وعصبيتهم لقوميتهم‏.‏‏.‏ ويخلص الأمر كله لله في هذا الدين الواحد، الذي تتابع به وتوالى ذلك الموكب السني الكريم‏.‏

وفي ظل هذه الحقيقة يبدو الذين يتخلفون من أهل الكتاب عن الإيمان بالرسول الأخير- صلى الله عليه وسلم- ومناصرته وتأييده، تمسكاً بدياناتهم- لا بحقيقتها فحقيقتها تدعوهم إلى الإيمان به ونصرته، ولكن باسمها تعصباً لأنفسهم في صورة التعصب لها‏!‏- مع أن رسلهم الذين حملوا إليهم هذه الديانات قد قطعوا على أنفسهم عهداً ثقيلاً غليظاً مع ربهم في مشهد مرهوب جليل‏.‏‏.‏ في ظل هذه الحقيقة يبدو أولئك الذي يتخلفون فسقة عن تعليم أنبيائهم‏.‏ فسقة عن عهد الله معهم‏.‏

فسقة كذلك عن نظام الكون كله المستسلم لبارئه، الخاضع لناموسه، المدبر بأمره ومشيئته‏:‏

‏{‏فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون‏.‏ أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إنه لا يتولى عن اتباع هذا الرسول إلا فاسق‏.‏ ولا يتولى عن دين الله إلا شاذ‏.‏ شاذ في هذا الوجود الكبير‏.‏ ناشز في وسط الكون الطائع المستسلم المستجيب‏.‏

إن دين الله واحد، جاءت به الرسل جميعاً، وتعاقدت عليه الرسل جميعاً‏.‏ وعهد الله واحد أخذه على كل رسول‏.‏ والإيمان بالدين الجديد واتباع رسوله، ونصرة منهجه على كل منهج، هو الوفاء بهذا العهد‏.‏ فمن تولى عن الإسلام فقد تولى عن دين الله كله، وقد خاس بعهد الله كله‏.‏

والإسلام- الذي يتحقق في إقامة منهج الله في الأرض واتباعه والخلوص له- هو ناموس هذا الوجود‏.‏ وهو دين كل حي في هذا الوجود‏.‏

إنها صورة شاملة عميقة للإسلام والاستسلام‏.‏ صورة كونية تأخذ بالمشاعر، وترتجف لها الضمائر‏.‏‏.‏ صورة الناموس القاهر الحاكم، الذي يرد الأشياء والأحياء إلى سنن واحد وشرعة واحدة، ومصير واحد‏.‏

‏{‏وإليه يرجعون‏}‏‏.‏‏.‏

فلا مناص لهم في نهاية المطاف من الرجوع إلى الحاكم المسيطر المدبر الجليل‏.‏‏.‏

ولا مناص للإنسان حين يبتغي سعادته وراحته وطمأنينة باله وصلاح حاله، من الرجوع إلى منهج الله في ذات نفسه، وفي نظام حياته، وفي منهج مجتمعه، ليتناسق مع النظام الكوني كله‏.‏ فلا ينفرد بمنهج من صنع نفسه، لا يتناسق مع ذلك النظام الكوني من صنع بارئه في حين أنه مضطر أن يعيش في إطار هذا الكون وأن يتعامل بجملته مع النظام الكوني‏.‏‏.‏ والتناسق بين نظامه هو في تصوره وشعوره، وفي واقعه وارتباطاته، وفي عمله ونشاطه، مع النظام الكوني هو وحده الذي يكفل له التعاون مع القوى الكونية الهائلة بدلا من التصادم معها‏.‏ وهو حين يصطدم بها يتمزق وينسحق؛ أو لا يؤدي- على كل حال- وظيفة الخلافة في الأرض كما وهبها الله له‏.‏ وحين يتناسق ويتفاهم مع نواميس الكون التي تحكمه وتحكم سائر الأحياء فيه يملك معرفة أسرارها، وتسخيرها، والانتفاع بها على وجه يحقق له السعادة والراحة والطمأنينة، ويعفيه من الخوف والقلق والتناحر‏.‏‏.‏ الانتفاع بها لا ليحترق بنار الكون، ولكن ليطبخ بها ويستدفئ ويستضيء‏!‏

والفطرة البشرية في أصلها متناسقة مع ناموس الكون، مسلمة لربها إسلام كل شيء وكل حي‏.‏ فحين يخرج الإنسان بنظام حياته عن ذلك الناموس لا يصطدم مع الكون فحسب، إنما يصطدم أولا بفطرته التي بين جنبيه، فيشقى ويتمزق، ويحتار ويقلق‏.‏ ويحيا كما تحيا البشرية الضالة النكدة اليوم في عذاب من هذا الجانب- على الرغم من جميع الانتصارات العلمية، وجميع التسهيلات الحضارية المادية‏!‏

إن البشرية اليوم تعاني من الخواء المرير‏.‏

خواء الروح من الحقيقة التي لا تطيق فطرتها أن تصبر عليها‏.‏‏.‏ حقيقة الإيمان‏.‏‏.‏ وخواء حياتها من المنهج الإلهي‏.‏ هذا المنهج الذي ينسق بين حركتها وحركة الكون الذي تعيش فيه‏.‏

إنها تعاني من الهجير المحرق الذي تعيش فيه بعيداً عن ذلك الظل الوارف الندي‏.‏ ومن الفساد المقلق الذي تتمرغ فيه بعيدا عن ذلك الخط القويم والطريق المأنوس المطروق‏!‏

ومن ثم تجد الشقاء والقلق والحيرة والاضطراب؛ وتحس الخواء والجوع والحرمان؛ وتهرب من واقعها هذا بالأفيون والحشيش والمسكرات؛ وبالسرعة المجنونة والمغامرات الحمقاء، والشذوذ في الحركة واللبس والطعام‏!‏ وذلك على الرغم من الرخاء المادي والإنتاج الوفير والحياة الميسورة والفراغ الكثير‏.‏‏.‏ لا بل إن الخواء والقلق والحيرة لتتزايد كلما تزايد الرخاء المادي والإنتاج الحضاري واليسر في وسائل الحياة ومرافقها‏.‏

إن هذا الخواء المرير ليطارد البشرية كالشبح المخيف‏.‏ يطاردها فتهرب منه‏.‏ ولكنها تنتهي كذلك إلى الخواء المرير‏!‏

وما من أحد يزور البلاد الغنية الثرية في الأرض حتى يكون الانطباع الأول في حسه أن هؤلاء قوم هاربون‏!‏ هاربون من أشباح تطاردهم‏.‏ هاربون من ذوات أنفسهم‏.‏‏.‏ وسرعان ما يتكشف الرخاء المادي والمتاع الحسي الذي يصل إلى حد التمرغ في الوحل، عن الأمراض العصبية والنفسية والشذوذ والقلق والمرض والجنون والمسكرات والمخدرات والجريمة‏.‏ وفراغ الحياة من كل تصور كريم‏!‏

إنهم لا يجدون أنفسهم لأنهم لا يجدون غاية وجودهم الحقيقية‏.‏‏.‏ إنهم لا يجدون سعادتهم لأنهم لا يجدون المنهج الإلهي الذي ينسق بين حركتهم وحركة الكون، وبين نظامهم وناموس الوجود‏.‏‏.‏ إنهم لا يجدون طمأنينتهم لأنهم لا يعرفون الله الذي إليه يرجعون‏.‏‏.‏

ولما كانت الأمة المسلمة- المسلمة حقاً لا جغرافية ولا تاريخاً‏!‏- هي الأمة المدركة لحقيقة العهد بين الله ورسله‏.‏ وحقيقة دين الله الواحد ومنهجه، وحقيقة الموكب السني الكريم الذي حمل هذا المنهج وبلغه، فإن الله يأمر نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يعلن هذه الحقيقة كلها؛ ويعلن إيمان أمته بجميع الرسالات، واحترامها لجميع الرسل، ومعرفتها بطبيعة دين الله، الذي لا يقبل الله من الناس سواه‏:‏

‏{‏قل‏:‏ آمنا بالله، وما أنزل علينا، وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل، وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم‏.‏ لا نفرق بين أحد منهم‏.‏ ونحن له مسلمون‏.‏ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏‏.‏‏.‏

هذا هو الإسلام في سعته وشموله لكل الرسالات قبله، وفي ولائه لكافة الرسل حملته‏.‏ وفي توحيده لدين الله كله، ورجعه جميع الدعوات وجميع الرسالات إلى أصلها الواحد، والإيمان بها جملة كما أرادها الله لعباده‏.‏

ومما هو جدير بالالتفات في الآية القرآنية الأولى هنا هو ذكرها الإيمان بالله وما أنزل على المسلمين- وهو القرآن- وما أنزل على سائر الرسل من قبل، ثم التعقيب على هذا الإيمان بقوله‏:‏

‏{‏ونحن له مسلمون‏}‏‏.‏

فهذا الإقرار بالإسلام له مغزاه‏.‏ بعد بيان أن الإسلام هو الاستسلام والخضوع والطاعة واتباع الأمر والنظام والمنهج والناموس‏.‏ كما يتجلى في الآية قبلها ‏{‏أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون‏}‏‏.‏‏.‏ فظاهر أن إسلام الكائنات الكونية هو إسلام الخضوع للأمر، واتباع النظام، وطاعة الناموس‏.‏‏.‏ ومن ثم تتجلى عناية الله- سبحانه- ببيان معنى الإسلام وحقيقته في كل مناسبة‏.‏ كي لا يتسرب إلى ذهن أحد أنه كلمة تقال باللسان، أو تصديق يستقر في القلب، ثم لا تتبعه آثاره العملية من الاستسلام لمنهج الله، وتحقيق هذا المنهج في واقع الحياة‏.‏

وهي لفتة ذات قيمة قبل التقرير الشامل الدقيق الأكيد‏:‏

‏{‏ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏‏.‏‏.‏

إنه لا سبيل- مع هذه النصوص المتلاحقة- لتأويل حقيقة الإسلام، ولا للي النصوص وتحريفها عن مواضعها لتعريف الإسلام بغير ما عرفه به الله، الإسلام الذي يدين به الكون كله‏.‏ في صورة خضوع للنظام الذي قرره الله له ودبره به‏.‏

ولن يكون الإسلام إذن هو النطق بالشهادتين، دون أن يتبع شهادة أن لا إله إلا الله معناها وحقيقتها‏.‏ وهي توحيد الألوهية وتوحيد القوامة‏.‏ ثم توحيد العبودية وتوحيد الاتجاه‏.‏ ودون أن يتبع شهادة أن محمداً رسول الله معناها وحقيقتها‏.‏ وهي التقيد بالمنهج الذي جاء به من عند ربه للحياة، واتباع الشريعة التي أرسله بها، والتحاكم إلى الكتاب الذي حمله إلى العباد‏.‏

ولن يكون الإسلام إذن تصديقاً بالقلب بحقيقة الألوهية والغيب والقيامة وكتب الله ورسله‏.‏‏.‏ دون أن يتبع هذا التصديق مدلوله العملي، وحقيقته الواقعية التي أسلفنا‏.‏‏.‏

ولن يكون الإسلام شعائر وعبادات، أو إشراقات وسبحات، أو تهذيباً خلقياً وإرشاداً روحياً‏.‏‏.‏ دون أن يتبع هذا كله آثاره العملية ممثلة في منهج للحياة موصول بالله الذي تتوجه إليه القلوب بالعبادات والشعائر، والإشراقات والسبحات، والذي تستشعر القلوب تقواه فتتهذب وترشد‏.‏‏.‏ فإن هذا كله يبقى معطلاً لا أثر له في حياة البشر ما لم تنصب آثاره في نظام اجتماعي يعيش الناس في إطاره النظيف الوضيء‏.‏

هذا هو الإسلام كما يريده الله؛ ولا عبرة بالإسلام كما تريده أهواء البشر في جيل منكود من أجيال الناس‏!‏ ولا كما تصوره رغائب أعدائه المتربصين به، وعملائهم هنا أو هناك‏!‏

فأما الذين لا يقبلون الإسلام على النحو الذي أراده الله، بعدما عرفوا حقيقته، ثم لم تقبلها أهواؤهم، فهم في الآخرة من الخاسرين‏.‏ ولن يهديهم الله، ولن يعفيهم من العذاب‏:‏

‏{‏كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم، وشهدوا أن الرسول حق، وجاءهم البينات‏.‏ والله لا يهدي القوم الظالمين‏.‏ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين‏.‏

خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون‏}‏‏.‏‏.‏

وهي حملة رعيبة يرجف لها كل قلب فيه ذرة من إيمان؛ ومن جدية الأمر في الدنيا وفي الآخرة سواء‏.‏ وهو جزاء حق لمن تتاح له فرصة النجاة ثم يعرض عنها هذا الإعراض‏.‏

ولكن الإسلام- مع هذا- يفتح باب التوبة، فلا يغلقه في وجه ضال يريد أن يتوب؛ ولا يكلفه إلا أن يطرق الباب‏.‏ بل أن يدلف إليه فليس دونه حجاب‏.‏ وإلا أن يفيء إلى الحمى الآمن، ويعمل صالحاً فيدل على أن التوبة صادرة من قلب تاب‏:‏

‏{‏إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

فأما الذين لا يتوبون ولا يثوبون‏.‏ الذين يصرون على الكفر ويزدادون كفراً والذين يلجون في هذا الكفر حتى تفلت الفرصة المتاحة وينتهي أمد الاختبار، ويأتي دور الجزاء‏.‏ هؤلاء وهؤلاء لا توبة لهم ولا نجاة‏.‏ ولن ينفعهم أن يكونوا قد أنفقوا ملء الأرض ذهباً فيما يظنون هم أنه خير وبر، ما دام مقطوعاً عن الصلة بالله‏.‏ ومن ثم فهو غير موصول به ولا خالص له بطبيعة الحال‏.‏ ولن ينجيهم أن يقدموا ملء الأرض ذهباً ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة‏.‏ فقد أفلتت الفرصة وأغلقت الأبواب‏:‏

‏{‏إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون‏.‏ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به‏.‏ أولئك لهم عذاب أليم‏.‏ وما لهم من ناصرين‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا يحسم السياق القضية بهذا التقرير المروع المفزع، وبهذا التوكيد الواضح الذي لا يدع ريبة لمستريب‏.‏

وبمناسبة الإنفاق على غير درب الله، وفي غير سبيله وبمناسبة الافتداء يوم لا ينفع الفداء، يبين البذل الذي يرضاه‏:‏

‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏.‏ وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم‏}‏‏.‏‏.‏

وقد فقه المسلمون وقتها معنى هذا التوجيه الإلهي، وحرصوا على أن ينالوا البر- وهو جماع الخير- بالنزول عما يحبون، وببذل الطيب من المال، سخية به نفوسهم في انتظار ما هو أكبر وأفضل‏.‏

روى الإمام أحمد- بإسناده- عن أبي إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة‏:‏ سمع أنس بن مالك يقول‏:‏ «كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بَيْرَحاء وكانت مستقبلة المسجد‏.‏ وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب‏.‏ قال أنس‏:‏ فلما نزلت‏:‏ ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏‏.‏‏.‏ قال أبو طلحة‏:‏ يا رسول الله، إن الله يقول‏:‏ ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏ وإن أحب أموالي إليّ بَيْرَحاء وإنها صدقة لله أرجو بها برها وذخرها عند الله تعالى‏.‏ فضعها يا رسول الله حيث أراك الله‏.‏ فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ بخ بخ‏.‏ ذاك مال رابح‏.‏ ذاك مال رابح‏.‏ وقد سمعت‏.‏ وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة أفعل يا رسول الله‏.‏ فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه»

‏.‏ ‏(‏أخرجه الشيخان‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين أن عمر- رضي الله عنه- قال‏:‏ «يا رسول الله لم أصب مالاً قط، هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر‏.‏ فما تأمرني به‏؟‏ قال‏:‏ احبس الأصل وسبل الثمرة»‏.‏

وعلى هذا الدرب سار الكثيرون منهم يلبون توجيه ربهم الذي هداهم إلى البر كله، يوم هداهم إلى الإسلام‏.‏ ويتحررون بهذه التلبية من استرقاق المال، ومن شح النفس، ومن حب الذات؛ ويصعدون في هذا المرتقى السامق الوضيء أحراراً خفافاً طلقاء‏.‏‏.‏