فصل: تفسير الآيات رقم (137- 160)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏137- 160‏]‏

‏{‏قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏137‏)‏ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏138‏)‏ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏140‏)‏ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ‏(‏141‏)‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ‏(‏142‏)‏ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏143‏)‏ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ‏(‏145‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ‏(‏146‏)‏ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏147‏)‏ فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏148‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ‏(‏150‏)‏ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ‏(‏151‏)‏ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏152‏)‏ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏153‏)‏ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏154‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏155‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏156‏)‏ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏157‏)‏ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏158‏)‏ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ‏(‏159‏)‏ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

‏{‏قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏.‏ هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين‏}‏‏.‏‏.‏

إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها وحاضرها بماضيها فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها‏.‏ وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم ولم تكن معارفهم ولم تكن تجاربهم- قبل الإسلام- لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة‏.‏ لولا هذا الإسلام- وكتابه القرآن- الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى وخلق به منهم أمة تقود الدنيا‏.‏‏.‏

إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة وماجريات حياتهم ‏;‏ فضلاً على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها فضلاً على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعاً‏.‏‏.‏ وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان‏!‏ إنما حملتها إليهم هذه العقيدة‏.‏ بل حملتهم إليها‏!‏ وارتقت بهم إلى مستواها في ربع قرن من الزمان‏.‏ على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ‏;‏ ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية إلا بعد أجيال وأجيال‏.‏‏.‏ فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية وأنه إلى الله تصير الأمور‏.‏‏.‏ فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله واتسع له تصورها ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان- بعد هذا- إلى مشيئته الطليقة‏!‏

‏{‏قد خلت من قبلكم سنن‏}‏‏.‏‏.‏

وهي هي التي تحكم الحياة‏.‏ وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة‏.‏ فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله- بمشيئة الله- في زمانكم وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم‏.‏

‏{‏فسيروا في الأرض‏}‏‏.‏‏.‏

فالأرض كلها وحدة‏.‏ والأرض كلها مسرح للحياة البشرية‏.‏ والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر‏.‏

‏{‏فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏‏.‏‏.‏

وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك‏.‏‏.‏ ولقد ذكر القرآن الكريم كثيراً من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة‏.‏

بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه‏.‏ وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل‏.‏‏.‏ وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة‏:‏ إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغداً‏.‏ ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة‏.‏ وكي تحذر الانزلاق مع المكذبين من جهة أخرى‏.‏ وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير‏.‏ وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير‏.‏

وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان‏:‏

‏{‏هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين‏}‏‏.‏‏.‏

هذا بيان للناس كافة‏.‏ فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي‏.‏ ولكن طائفة خاصة هي التي تجد فيه الهدى، وتجد فيه الموعظة وتنتفع به وتصل على هداه‏.‏‏.‏ طائفة ‏{‏المتقين‏}‏‏.‏‏.‏

إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى‏.‏ والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها‏.‏‏.‏ والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل، وبالهدى والضلال‏.‏‏.‏ إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل‏.‏ إنما تنقص الناس الرغبة في الحق، والقدرة على اختيار طريقه والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه‏.‏‏.‏ لا ينشئهما إلا الإيمان، ولا يحفظهما إلا التقوى‏.‏‏.‏ ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات‏.‏ تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق ومن هدى ومن نور ومن موعظة ومن عبرة‏.‏‏.‏‏.‏ إنما هي للمؤمنين وللمتقين‏.‏ فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة‏.‏ وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة‏.‏‏.‏ واحتمال مشقات الطريق‏.‏‏.‏ وهذا هو الأمر وهذا هو لب المسألة‏.‏‏.‏ لا مجرد العلم والمعرفة‏.‏‏.‏ فكم ممن يعلمون ويعرفون وهم في حمأة الباطل يتمرغون‏.‏ إما خضوعاً لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة وإما خوفاً من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة‏!‏

وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت‏:‏

‏{‏ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون‏.‏ إن كنتم مؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

لا تهنوا- من الوهن والضعف- ولا تحزنوا- لما أصابكم ولما فاتكم- وأنتم الأعلون‏.‏‏.‏ عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه‏!‏ ومنهجكم أعلى‏.‏ فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله‏!‏ ودوركم أعلى‏.‏ فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها الهداة لهذه البشرية كلها وهم شاردون عن النهج ضالون عن الطريق‏.‏ ومكانكم في الأرض أعلى فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها وهم إلى الفناء والنسيان صائرون‏.‏‏.‏ فإن كنتم مؤمنين حقاً فأنتم الأعلون‏.‏ وإن كنتم مؤمنين حقاً فلا تهنوا ولا تحزنوا‏.‏ فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص‏:‏

‏{‏إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله‏.‏

وتلك الأيام نداولها بين الناس‏.‏ وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء‏.‏ والله لا يحب الظالمين‏.‏ وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين‏}‏‏.‏‏.‏

وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله قد يكون إشارة إلى غزوة بدر‏.‏ وقد مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون‏.‏ وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد‏.‏ وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر‏.‏ حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد‏.‏ حتى رفعته لهم امرأة فلاثوا بها وتجمعوا عليها‏.‏‏.‏ ثم كانت الدولة للمشركين حينما خرج الرماة على أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واختلفوا فيما بينهم‏.‏ فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة‏.‏ جزاء وفاقاً لهذا الاختلاف وذلك الخروج وتحقيقاً لسنة من سنن الله التي لا تتخلف إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة‏.‏ والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد‏.‏ وتحقيقاً كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض وهي مداولة الأيام بين الناس- وفقاً لما يبدو من عمل الناس ونيتهم- فتكون لهؤلاء يوماً ولأولئك يوماً‏.‏ ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون‏.‏ كما تتكشف الأخطاء‏.‏ وينجلي الغبش‏.‏

‏{‏إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله‏.‏ وتلك الأيام نداولها بين الناس‏.‏‏.‏ وليعلم الله الذين آمنوا‏}‏‏.‏‏.‏

إن الشدة بعد الرخاء والرخاء بعد الشدة هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس وطبائع القلوب ودرجة الغبش فيها والصفاء ودرجة الهلع فيها والصبر ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح‏!‏

عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن‏:‏ مؤمنين ومنافقين ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم‏.‏ ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده وهم مختلطون مبهمون‏!‏

والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين‏.‏ والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور‏.‏ ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء وتجعله واقعاً في حياة الناس وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء‏.‏ فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم‏.‏

ومداولة الأيام وتعاقب الشدة والرخاء، محك لا يخطئ وميزان لا يظلم‏.‏ والرخاء في هذا كالشدة‏.‏ وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل‏.‏ والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء وتتجه إلى الله في الحالين وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله‏.‏

وقد كان الله يربي هذه الجماعة- وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية- فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب- وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة‏.‏ لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة‏.‏ ولتزيد طاعة لله وتوكلاً عليه والتصاقاً بركنه‏.‏ ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين‏.‏

ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس وفيما بعد تمييز الصفوف وعلم الله للمؤمنين‏:‏

‏{‏ويتخذ منكم شهداء‏}‏‏.‏‏.‏

وهو تعبير عجيب عن معنى عميق- إن الشهداء لمختارون‏.‏ يختارهم الله من بين المجاهدين ويتخذهم لنفسه- سبحانه- فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد‏.‏ إنما هو اختيار وانتقاء وتكريم واختصاص‏.‏‏.‏ إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة ليستخلصهم لنفسه- سبحانه- ويخصهم بقربه‏.‏

ثم هم شهداء يتخذهم الله ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس‏.‏ يستشهدهم فيؤدون الشهادة‏.‏ يؤدونها أداء لا شبهة فيه ولا مطعن عليه ولا جدال حوله‏.‏ يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق وتقريره في دنيا الناس‏.‏ يطلب الله- سبحانه- منهم أداء هذه الشهادة، على أن ما جاءهم من عنده الحق ‏;‏ وعلى أنهم آمنوا به وتجردوا له وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ‏;‏ وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ‏;‏ وعلى أنهم هم استيقنوا هذا فلم يألوا جهداً في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس‏.‏‏.‏ يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون‏.‏ وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت‏.‏ وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال‏!‏

وكل من ينطق بالشهادتين‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله‏.‏ لا يقال له إنه شهد إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها‏.‏ ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها‏.‏ ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من الله‏.‏ فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد‏;‏ وأخص خصائص العبودية التلقي من الله‏.‏‏.‏ ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله‏.‏ ولا يعتمد مصدراً آخر للتلقي إلا هذا المصدر‏.‏‏.‏

ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض كما بلغها محمد- صلى الله عليه وسلم- فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس والذي بلغه عنه محمد- صلى الله عليه وسلم- هو المنهج السائد والغالب والمطاع، وهو النظام الذي يصرّف حياة الناس كلها بلا استثناء‏.‏

فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله فهو إذن شهيد‏.‏ أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها‏.‏ واتخذه الله شهيداً‏.‏‏.‏ ورزقه هذا المقام‏.‏

هذا فقه ذلك التعبير العجيب‏:‏

‏{‏ويتخذ منكم شهداء‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ومقتضاه‏.‏‏.‏ لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع‏!‏

‏{‏والله لا يحب الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

والظلم كثيراً ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك‏.‏ بوصفه أظلم الظلم وأقبحه‏.‏ وفي القرآن‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ وفي الصحيحين «عن ابن مسعود‏:‏ أنه قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله‏.‏ أي الذنب أعظم‏؟‏ قال‏:‏ أن تجعل لله ندا وهو خلقك‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين‏;‏ فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين‏.‏ فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله‏.‏ والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين‏.‏ وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد لها مناسبتها الحاضرة‏.‏ فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه‏.‏ وهذا هو مقام الاستشهاد وفي هذا تكون الشهادة‏;‏ ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء‏.‏‏.‏

ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث، في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين وستاراً لقدرته في هلاك المكذبين‏:‏

‏{‏وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين‏}‏‏.‏‏.‏

والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز‏.‏ التمحيص عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير‏.‏‏.‏ إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية وتسليط الضوء على هذه المكنونات‏.‏ تمهيداً لإخراج الدخل والدغل والأوشاب وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق بلا غبش ولا ضباب‏.‏‏.‏

وكثيراً ما يجهل الإنسان نفسه ومخابئها ودروبها ومنحنياتها‏.‏ وكثيراً ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها وحقيقة ما استكن فيها من رواسب لا تظهر إلا بمثير‏!‏

وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله- سبحانه- بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير‏:‏ محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية‏.‏

ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص‏.‏‏.‏ ثم إذا هو يكشف- على ضوء التجربة العملية وفي مواجهة الأحداث الواقعية- إن في نفسه عقابيل لم تمحص‏.‏ وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط‏!‏ ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه ليعاود المحاولة في سبكها من جديد على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة‏!‏

والله- سبحانه- كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية وكان يريد بها أمراً في هذه الأرض‏.‏

فمحصها هذا التمحيص الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها‏:‏

‏{‏ويمحق الكافرين‏}‏‏.‏‏.‏

تحقيقاً لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق، وخلص من الشوائب بالتمحيص‏.‏‏.‏

وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات، وفي النصر والهزيمة وفي العمل والجزاء‏.‏ ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره وزاده الصبر على مشاق الطريق وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص‏:‏

‏{‏أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين‏.‏ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه‏.‏ فقد رأيتموه وأنتم تنظرون‏}‏‏.‏‏.‏

إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور‏:‏ تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان‏:‏ أسلمت وأنا على استعداد للموت‏.‏ فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان‏!‏

إنما هي التجربة الواقعية والامتحان العملي‏.‏ وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء ثم الصبر على تكاليف الجهاد وعلى معاناة البلاء‏.‏

وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى‏:‏

‏{‏ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏ويعلم الصابرين‏}‏‏.‏‏.‏

فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون‏.‏ إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضاً‏.‏ التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان‏.‏ فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يُطلب لها الصبر ويختبر بها الإيمان‏.‏ إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي‏:‏ معاناة الاستقامة على أفق الإيمان‏.‏ والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني‏:‏ في النفس وفي الغير ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية‏.‏ والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر‏!‏ والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات‏.‏ والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحداً منها في الطريق المحفوف بالمكاره‏.‏ طريق الجنة التي لا تنال بالأمانيّ وبكلمات اللسان‏!‏

‏{‏ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه‏.‏ فقد رأيتموه وأنتم تنظرون‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا يقفهم السياق وجهاً لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه‏.‏ ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان ووزن الحقيقة يواجهها في العيان‏.‏ فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حساباً لكل كلمة تطلقها ألسنتهم، ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم‏!‏ وبذلك يقدرون قيمة الكلمة وقيمة الأمنية وقيمة الوعد في ضوء الواقع الثقيل‏!‏ ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة إنما هو تحقيق الكلمة وتجسيم الأمنية والجهاد الحقيقي والصبر على المعاناة‏.‏

حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعاً كائناً في دنيا الناس‏!‏

ولقد كان الله- سبحانه- قادراً على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى وبلا كد من المؤمنين ولا عناء‏.‏ وكان قادراً أن ينزل الملائكة تقاتل معهم- أو بدونهم- وتدمر على المشركين كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط‏.‏‏.‏

ولكن المسألة ليست هي النصر‏.‏‏.‏ إنما هي تربية الجماعة المسلمة التي تعد لتتسلم قيادة البشرية‏.‏‏.‏ البشرية بكل ضعفها ونقصها ‏;‏ وبكل شهواتها ونزواتها ‏;‏ وبكل جاهليتها وانحرافها‏.‏‏.‏ وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعداداً عالياً من القادة‏.‏ وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق وثبات على الحق وصبر على المعاناة ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف ووسائل العلاج‏.‏‏.‏ ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة‏.‏ وصبر على الشدة بعد الرخاء‏.‏ وطعمها يومئذ لاذع مرير‏!‏‏.‏‏.‏

وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق الذي ينوطه بها في هذه الأرض‏.‏ وقد شاء- سبحانه- أن يجعل هذا الدور من نصيب «الإنسان» الذي استخلفه في هذا الملك العريض‏!‏

وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه بشتى الأسباب والوسائل وشتى الملابسات والوقائع‏.‏‏.‏ يمضي أحياناً عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة فتستبشر وترتفع ثقتها بنفسها- في ظل العون الإلهي- وتجرب لذة النصر وتصبر على نشوته وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء وعلى التزام التواضع والشكر لله‏.‏‏.‏ ويمضي أحياناً عن طريق الهزيمة والكرب والشدة‏.‏ فتلجأ إلى الله‏.‏ وتعرف حقيقة قوتها الذاتية وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله‏.‏ وتجرب مرارة الهزيمة‏;‏ وتستعلي مع ذلك على الباطل بما عندها من الحق المجرد‏;‏ وتعرف مواضع نقصها وضعفها ومداخل شهواتها ومزالق أقدامها‏;‏ فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة‏.‏‏.‏ وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد‏.‏‏.‏ ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد‏.‏‏.‏

وقد كان هذا كله طرفاً من رصيد معركة أحد‏;‏ الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسلمة- على نحو ما نرى في هذه الآيات- وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين‏.‏

ثم يمضي السياق في تقرير حقائق التصور الإسلامي الكبيرة‏;‏ وفي تربية الجماعة المسلمة بهذه الحقائق‏;‏ متخذاً من أحداث المعركة محوراً لتقرير تلك الحقائق‏;‏ ووسيلة لتربية الجماعة المسلمة بها على طريقة المنهج القرآني الفريد‏:‏

‏{‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل‏.‏ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم‏؟‏ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً‏;‏ وسيجزي الله الشاكرين‏.‏

وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً‏;‏ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها‏;‏ وسنجزي الشاكرين‏.‏ وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين‏.‏ وما كان قولهم إلا أن قالوا‏:‏ ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين‏.‏ فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين‏}‏‏.‏‏.‏

إن الآية الأولى في هذه الفقرة تشير إلى واقعة معينة حدثت في غزوة أحد‏.‏ ذلك حين انكشف ظهر المسلمين بعد أن ترك الرماة أماكنهم من الجبل فركبه المشركون وأوقعوا بالمسلمين وكسرت رباعية الرسول- صلى الله عليه وسلم- وشج وجهه ونزفت جراحه ‏;‏ وحين اختلطت الأمور وتفرق المسلمون لا يدري أحدهم مكان الآخر‏.‏‏.‏ حينئذ نادى مناد‏:‏ إن محمداً قد قتل‏.‏‏.‏ وكان لهذه الصيحة وقعها الشديد على المسلمين‏.‏ فانقلب الكثيرون منهم عائدين إلى المدينة مصعدين في الجبل منهزمين تاركين المعركة يائسين‏.‏‏.‏ لولا أن ثبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في تلك القلة من الرجال ‏;‏ وجعل ينادي المسلمين وهم منقلبون حتى فاءوا إليه وثبت الله قلوبهم وأنزل عليهم النعاس أمنة منه وطمأنينة‏.‏‏.‏ كما سيجيء‏.‏‏.‏

فهذه الحادثة التي أذهلتهم هذا الذهول‏.‏ يتخذها القرآن هنا مادة للتوجيه ومناسبة لتقرير حقائق التصور الإسلامي ‏;‏ ويجعلها محوراً لإشارات موحية في حقيقة الموت وحقيقة الحياة وفي تاريخ الإيمان ومواكب المؤمنين‏:‏

‏{‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل‏.‏ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم‏؟‏ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً‏.‏ وسيجزي الله الشاكرين‏}‏‏.‏‏.‏

إن محمداً ليس إلا رسولاً‏.‏ سبقته الرسل‏.‏ وقد مات الرسل‏.‏ ومحمد سيموت كما مات الرسل قبله‏.‏‏.‏ هذه حقيقة أولية بسيطة‏.‏ فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة‏؟‏

إن محمداً رسول من عند الله جاء ليبلغ كلمة الله‏.‏ والله باق لا يموت وكلمته باقية لا تموت‏.‏‏.‏ وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل‏.‏‏.‏ وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول‏.‏ وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة‏!‏

إن البشر إلى فناء والعقيدة إلى بقاء، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس من الرسل والدعاة على مدار التاريخ‏.‏‏.‏ والمسلم الذي يحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيراً‏.‏ الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة‏.‏

وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك‏!‏ ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحداً إثر واحد‏.‏‏.‏ وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم وبكل مشاعرهم حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره- صلى الله عليه وسلم-‏.‏‏.‏ هذا المسلم الذي يحب محمداً ذلك الحب مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد- صلى الله عليه وسلم- والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت‏.‏

إن الدعوة أقدم من الداعية‏:‏

‏{‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل‏}‏‏.‏‏.‏

قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن العميقة في منابت التاريخ المبتدئة مع البشرية تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق‏.‏

وهي أكبر من الداعية وأبقى من الداعية‏.‏ فدعاتها يجيئون ويذهبون وتبقى هي على الأجيال والقرون ويبقى أتباعها موصولين بمصدرها الأول الذي أرسل بها الرسل وهو باق- سبحانه- يتوجه إليه المؤمنون‏.‏‏.‏ وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه ويرتد عن هدى الله‏.‏ والله حي لا يموت‏:‏

ومن ثم هذا الاستنكار وهذا التهديد وهذا البيان المنير‏:‏

‏{‏أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم‏؟‏ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً‏.‏ وسيجزي الله الشاكرين‏}‏‏.‏‏.‏

وفي التعبير تصوير حي للارتداد‏:‏ ‏{‏انقلبتم على أعقابكم‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏ومن ينقلب على عقبيه‏}‏‏.‏ فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة كأنه منظر مشهود‏.‏ والمقصود أصلاً ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف‏:‏ إن محمداً قد قتل فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين وانتهى أمر الجهاد للمشركين‏!‏ فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب كارتدادهم في المعركة على الأعقاب‏!‏ وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس- رضي الله عنه- فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم وقالوا له‏:‏ إن محمداً قد مات‏:‏ «فما تصنعون بالحياة من بعده‏؟‏ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم»‏.‏

‏{‏ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً‏}‏‏.‏‏.‏

فإنما هو الخاسر الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق‏.‏‏.‏ وانقلابه لن يضر الله شيئاً‏.‏ فالله غني عن الناس وعن إيمانهم‏.‏ ولكنه- رحمة منه بالعباد- شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم ولخيرهم هم‏.‏ وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله‏.‏ وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق وتعوج الأمور كلها ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة وتستقيم في ظله النفوس وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها والسلام مع الكون الذي تعيش فيه‏.‏

‏{‏وسيجزي الله الشاكرين‏}‏‏.‏‏.‏

الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج فيشكرونها باتباع المنهج ويشكرونها بالثناء على الله ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيباً على شكرهم ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة وهو أكبر وأبقى‏.‏‏.‏

وكأنما أراد الله- سبحانه- بهذه الحادثة وبهذه الآية أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو حي بينهم‏.‏ وأن يصلهم مباشرة بالنبع‏.‏ النبع الذي لم يفجره محمد- صلى الله عليه وسلم- ولكن جاء فقط ليومئ إليه ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق كما أومأ إليه من قبله من الرسل ودعوا القافلة إلى الارتواء منه‏!‏

وكأنما أراد الله- سبحانه- أن يأخذ بأيديهم فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى‏.‏ العروة التي لم يعقدها محمد- صلى الله عليه وسلم- إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون‏!‏

وكأنما أراد الله- سبحانه- أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط‏.‏ حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو يقتل فهم إنما بايعوا الله‏.‏ وهم أمام الله مسؤولون‏!‏

وكأنما كان الله- سبحانه- يعدّ الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى- حين تقع- وهو- سبحانه- يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم‏.‏ فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب وأن يصلهم به هو وبدعوته الباقية قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول‏.‏

ولقد أصيبوا- حين وقعت بالفعل- بالدهش والذهول‏.‏ حتى لقد وقف عمر- رضي الله عنه- شاهراً سيفه يهدد به من يقول‏:‏ إن محمداً قد مات‏!‏

ولم يثبت إلا أبو بكر الموصول القلب بصاحبه وبقدر الله فيه الاتصال المباشر الوثيق‏.‏ وكانت هذه الآية- حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين- هي النداء الإلهي المسموع فإذا هم يثوبون ويرجعون‏!‏

ثم يلمس السياق القرآني مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية لمسة موحية تطرد ذلك الخوف عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير ومن ابتلاء للعباد وجزاء‏:‏

‏{‏وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً‏.‏ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ‏;‏ ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها‏.‏

وسنجزي الشاكرين‏}‏‏.‏‏.‏

إن لكل نفس كتاباً مؤجلاً إلى أجل مرسوم‏.‏ ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم‏.‏ فالخوف والهلع والحرص والتخلف لا تطيل أجلاً‏.‏ والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمراً‏.‏ فلا كان الجبن ولا نامت أعين الجبناء‏.‏ والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد‏!‏

بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس، فتترك الاشتغال به ولا تجعله في الحساب وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية‏.‏ وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع‏.‏ وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته في صبر وطمأنينة وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده‏.‏

ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضية التي حسم فيها القول‏.‏‏.‏ فإنه إذا كان العمر مكتوباً والأجل مرسوماً‏.‏‏.‏ فلتنظر نفس ما قدمت لغد ‏;‏ ولتنظر نفس ماذا تريد‏.‏‏.‏ أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان وأن تحصر همها كله في هذه الأرض وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها‏؟‏ أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى وإلى اهتمامات أرفع وإلى حياة أكبر من هذه الحياة‏؟‏‏.‏‏.‏ مع تساوي هذا الهم وذاك فيما يختص بالعمر والحياة‏؟‏‏!‏

‏{‏ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها‏.‏ ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها‏}‏‏.‏

وشتان بين حياة وحياة‏!‏ وشتان بين اهتمام واهتمام‏!‏- مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل- والذي يعيش لهذه الأرض وحدها ويريد ثواب الدنيا وحدها‏.‏‏.‏ إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام‏!‏ ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب‏.‏ والذي يتطلع إلى الأفق الآخر‏.‏‏.‏ إنما يحيا حياة «الإنسان» الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب‏.‏‏.‏ ‏{‏وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏وسنجزي الشاكرين‏}‏‏.‏‏.‏

الذين يدركون نعمة التكريم الإلهي للإنسان فيرتفعون عن مدارج الحيوان ‏;‏ ويشكرون الله على تلك النعمة فينهضون بتبعات الإيمان‏.‏‏.‏

وهكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء وفق ما يريدونه لأنفسهم من اهتمام قريب كاهتمام الدود أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان‏!‏ وبذلك ينقل النفس من الإنشغال بالخوف من الموت والجزع من التكاليف- وهي لا تملك شيئاً في شأن الموت والحياة- إلى الإنشغال بما هو أنفع للنفس في الحقل الذي تملكه وتملك فيه الاختيار‏.‏ فتختار الدنيا أو تختار الآخرة‏.‏ وتنال من جزاء الله ما تختار‏!‏

ثم يضرب الله للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم‏.‏ من موكب الإيمان اللاحب الممتد على طول الطريق، الضارب في جذور الزمان‏.‏‏.‏ من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم، وقاتلوا مع أنبيائهم، فلم يجزعوا عند الابتلاء‏;‏ وتأدبوا- وهم مقدمون على الموت- بالأدب الإيماني في هذا المقام‏.‏‏.‏ مقام الجهاد‏.‏‏.‏ فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربهم‏;‏ وأن يجسموا أخطاءهم فيروها «إسرافاً» في أمرهم‏.‏

وأن يطلبوا من ربهم الثبات والنصر على الكفار‏.‏‏.‏ وبذلك نالوا ثواب الدارين جزاء إحسانهم في أدب الدعاء وإحسانهم في موقف الجهاد‏.‏ وكانوا مثلاً يضربه الله للمسلمين‏:‏

‏{‏وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا‏.‏ والله يحب الصابرين‏.‏ وما كان قولهم إلا أن قالوا‏:‏ ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ‏;‏ وثبت أقدامنا‏;‏ وانصرنا على القوم الكافرين‏.‏ فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة‏.‏ والله يحب المحسنين‏}‏‏.‏‏.‏

لقد كانت الهزيمة في «أحد»، هي أول هزيمة تصدم المسلمين، الذين نصرهم الله ببدر وهم ضعاف قليل‏;‏ فكأنما وقر في نفوسهم أن النصر في كل موقعة هو السنة الكونية‏.‏ فلما أن صدمتهم أحد، فوجئوا بالابتلاء كأنهم لا ينتظرونه‏!‏

ولعله لهذا طال الحديث حول هذه الواقعة في القرآن الكريم‏.‏ واستطرد السياق يأخذ المسلمين بالتأسية تارة، وبالاستنكار تارة وبالتقرير تارة وبالمثل تارة تربية لنفوسهم وتصحيحاً لتصورهم، وإعداداً لهم‏.‏ فالطريق أمامهم طويل والتجارب أمامهم شاقة والتكاليف عليهم باهظة والأمر الذي يندبون له عظيم‏.‏

والمثل الذي يضربه لهم هنا مثل عام، لا يحدد فيه نبياً ولا يحدد فيه قوماً‏.‏ إنما يربطهم بموكب الإيمان‏;‏ ويعلمهم أدب المؤمنين‏;‏ ويصور لهم الابتلاء كأنه الأمر المطرد في كل دعوة وفي كل دين‏;‏ ويربطهم بأسلافهم من اتباع الأنبياء‏;‏ ليقرر في حسهم قرابة المؤمنين للمؤمنين‏;‏ ويقر في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد‏.‏ وإنهم كتيبة في الجيش الإيماني الكبير‏:‏

‏{‏وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير‏.‏ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا‏}‏‏.‏‏.‏

‏.‏‏.‏ وكم من نبي قاتلت معه جماعات كثيرة‏.‏ فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدة والجراح‏.‏ وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح، وما استسلموا للجزع ولا للأعداء‏.‏‏.‏ فهذا هو شأن المؤمنين المنافحين عن عقيدة ودين‏.‏‏.‏

‏{‏والله يحب الصابرين‏}‏‏.‏‏.‏

الذين لا تضعف نفوسهم ولا تتضعضع قواهم ولا تلين عزائمهم ولا يستكينون أو يستسلمون‏.‏‏.‏ والتعبير بالحب من الله للصابرين‏.‏ له وقعه‏.‏ وله إيحاؤه‏.‏ فهو الحب الذي يأسو الجراح ويمسح على القرح ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير‏!‏

وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدة والابتلاء‏.‏ فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم‏.‏ صورة الأدب في حق الله وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس ويقيدها بالخطر الراهق لا تتعداه‏.‏ ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجه إلى الله‏.‏‏.‏ لا لتطلب النصر أول ما تطلب- وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس- ولكن لتطلب العفو والمغفرة، ولتعترف بالذنب والخطيئة قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء‏:‏

‏{‏وما كان قولهم إلا أن قالوا‏:‏ ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين‏}‏‏.‏

إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء‏.‏ بل لم يطلبوا ثواباً ولا جزاء‏.‏‏.‏ لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة‏.‏ لقد كانوا أكثر أدباً مع الله وهم يتوجهون إليه بينما هم يقاتلون في سبيله‏.‏ فلم يطلبوا منه- سبحانه- إلا غفران الذنوب وتثبيت الأقدام‏.‏‏.‏ والنصر على الكفار‏.‏ فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار‏.‏‏.‏ إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم‏.‏

وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئاً أعطاهم الله من عنده كل شيء‏.‏ أعطاهم من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة‏.‏ وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه‏:‏

‏{‏فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة‏}‏‏.‏‏.‏

وشهد لهم- سبحانه- بالإحسان‏.‏ فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد وأعلن حبه لهم وهو أكبر من النعمة وأكبر من الثواب‏:‏

‏{‏والله يحب المحسنين‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا تنتهي هذه الفقرة في الاستعراض ‏;‏ وقد تضمنت تلك الحقائق الكبيرة في التصور الإسلامي‏.‏ وقد أدت هذا الدور في تربية الجماعة المسلمة‏.‏ وقد ادخرت هذا الرصيد للأمة المسلمة في كل جيل‏.‏‏.‏

ثم يمضي السياق خطوة أخرى في استعراض أحداث المعركة ‏;‏ واتخاذها محوراً للتعقيبات يتوخى بها تصحيح التصور وتربية الضمائر والتحذير من مزالق الطريق والتنبيه إلى ما يحيط بالجماعة المسلمة من الكيد وما يبيته لها أعداؤها المتربصون‏:‏

ولقد كانت الهزيمة في أحد مجالاً لدسائس الكفار والمنافقين واليهود في المدينة‏.‏ وكانت المدنية لم تخلص بعد للإسلام ‏;‏ بل لا يزال المسلمون فيها نبتة غريبة إلى حد كبير‏.‏ نبتة غريبة أحاطتها «بدر» بسياج من الرهبة بما كان فيها من النصر الأبلج‏.‏ فلما كانت الهزيمة في أحد تغير الموقف إلى حد كبير ‏;‏ وسنحت الفرصة لهؤلاء الأعداء المتربصين أن يظهروا أحقادهم وأن ينفثوا سمومهم ‏;‏ وأن يجدوا في جو الفجائع التي دخلت كل بيت من بيوت المسلمين- وبخاصة بيوت الشهداء ومن أصابتهم الجراح المثخنة- ما يساعد على ترويج الكيد والدس والبلبلة في الأفكار والصفوف‏.‏

وفي هذه الفقرة التالية من الاستعراض القرآني الموجه- وهي تمثل جسم المعركة وأضخم مشاهدها- نسمع الله سبحانه يدعو الذين آمنوا ليحذرهم من طاعة الذين كفروا ‏;‏ ونسمعه- سبحانه- يعدهم النصر على عدوهم وإلقاء الرعب في قلبه ‏;‏ ويذكرهم بالنصر الذي حققه لهم في أول المعركة حسب وعده لهم ‏;‏ والذي إنما أضاعوه هم بضعفهم ونزاعهم وخلافهم عن أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم يستحضر مشهد المعركة بشطريه في صورة فائضة بالحيوية والحركة‏.‏ ثم ما أعقب الهزيمة والفزع من إنزال الطمأنينة في قلوب المؤمنين منهم ‏;‏ بينما القلق والحيرة والحسرة تأكل قلوب المنافقين الذين ساء ظنهم بالله سبحانه‏.‏

ويكشف لهم كذلك عن جانب من حكمته الخفية وتدبيره اللطيف في سير الأحداث سيرتها تلك مع تقرير حقيقة قدر الله في آجال العباد‏.‏ ويحذرهم في نهاية هذه الفقرة من ضلال التصورات التي يشيعها الكفار في قضية الموت والاستشهاد‏.‏ ويردهم إلى حقيقة البعث التي ينتهي إليها الناس‏.‏‏.‏ ماتوا أو قتلوا‏.‏‏.‏ وإلى أنهم مرجوعون إلى الله على كل حال‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين‏.‏‏.‏ بل الله مولاكم وهو خير الناصرين‏.‏ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً‏;‏ ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين‏!‏ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون‏:‏ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين‏.‏ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم‏;‏ فأثابكم غماً بغم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون‏.‏ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون‏:‏ هل لنا من الأمر من شيء‏؟‏ قل‏:‏ إن الأمر كله لله‏.‏ يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك‏.‏ يقولون‏:‏ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا‏.‏ قل‏:‏ لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم‏.‏ وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم‏;‏ والله عليم بذات الصدور‏.‏ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا‏;‏ ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم‏.‏ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم- إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزًّى-‏:‏ لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم‏.‏ والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير‏.‏ ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون‏.‏ ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون‏}‏‏.‏‏.‏

وحين ننظر في هذه المجموعة من الآيات نظرة فاحصة نجدها قد ضمت جوانحها على حشد ضخم من المشاهد الفائضة بالحيوية ومن الحقائق الكبيرة الأصيلة في التصور الإسلامي وفي الحياة الإنسانية‏.‏ وفي السنن الكونية‏.‏‏.‏ نجدها تصور المعركة كلها بلمسات سريعة حية متحركة عميقة فلا تدع منها جانباً إلا سجلته تسجيلاً يستجيش المشاعر والخواطر‏;‏ وهي بدون شك أشد حيوية وأشد استحضاراً للمعركة بجوها وملابساتها ووقائعها وبكل الخلجات النفسية والحركات الشعورية المصاحبة لها‏.‏

‏.‏ من كل تصوير آخر ورد في روايات السيرة- على طولها وتشعبها- ثم نجدها تضم جوانحها على ذلك الحشد من الحقائق في صورتها الحية الفاعلة في النفوس البانية للتصور الصحيح‏.‏

وما من شك أن احتشاد هذه المشاهد كلها وهذه الحقائق كلها في هذا القدر من الألفاظ والعبارات- مع حيويتها وحركتها وإيحائها على هذا النحو- أمر غير معهود في التعبير البشري‏.‏ يدرك ذلك من يدركون أسرار الأساليب وطاقات الأداء وبخاصة من يعالجون منهم التعبير ويعانون أسرار الأداء‏!‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين‏.‏ بل الله مولاكم وهو خير الناصرين‏}‏‏.‏‏.‏

لقد انتهز الكفار والمنافقون واليهود في المدينة ما أصاب المسلمين من الهزيمة والقتل والقرح ليثبطوا عزائمهم ويخوفوهم عاقبة السير مع محمد ويصوروا لهم مخاوف القتال وعواقب الاشتباك مع مشركي قريش وحلفائهم‏.‏‏.‏ وجو الهزيمة هو أصلح الأجواء لبلبلة القلوب وخلخلة الصفوف وإشاعة عدم الثقة في القيادة‏;‏ والتشكيك في جدوى الإصرار على المعركة مع الأقوياء‏;‏ وتزيين الانسحاب منها ومسالمة المنتصرين فيها‏!‏ مع إثارة المواجع الشخصية والألام الفردية‏;‏ وتحويلها كلها لهدم كيان الجماعة ثم لهدم كيان العقيدة ثم للاستسلام للأقوياء الغالبين‏!‏

ومن ثم يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا‏.‏ فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة وليس فيها ربح ولا منفعة‏.‏ فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر‏.‏ فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار ويكافح الباطل والمبطلين وإما أن يرتد على عقبيه كافراً- والعياذ بالله- ومحال أن يقف سلبياً بين بين محافظاً على موقفه ومحتفظاً بدينه‏.‏‏.‏ إنه قد يخيل إليه هذا‏.‏‏.‏ يخيل إليه في أعقاب الهزيمة وتحت وطأة الجرح والقرح أنه مستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين وأن يسالمهم ويطيعهم وهو مع هذا محتفظ بدينه وعقيدته وإيمانه وكيانه‏!‏ وهو وهم كبير‏.‏ فالذي لا يتحرك إلى الأمام في هذا المجال لا بد أن يرتد إلى الوراء والذي لا يكافح الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان لا بد أن يتخاذل ويتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان‏!‏ والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين والاستماع إليهم والثقة بهم يتنازل- في الحقيقة- عن عقيدته وإيمانه منذ اللحظة الأولى‏.‏‏.‏ إنها الهزيمة الروحية أن يركن صاحب العقيدة إلى أعداء عقيدته وأن يستمع إلى وسوستهم وأن يطيع توجيهاتهم‏.‏‏.‏ الهزيمة بادئ ذي بدء‏.‏ فلا عاصم له من الهزيمة في النهاية والارتداد على عقبيه إلى الكفر ولو لم يحس في خطواته الأولى أنه في طريقه إلى هذا المصير البائس‏.‏‏.‏ إن المؤمن يجد في عقيدته وفي قيادته غناء عن مشورة أعداء دينه وأعداء قيادته‏.‏

فإذا استمع إلى هؤلاء مرة فقد سار في طريق الارتداد على الأعقاب‏.‏‏.‏ حقيقة فطرية وحقيقة واقعية ينبه الله المؤمنين لها ويحذرهم إياها وهو يناديهم باسم الإيمان‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين‏}‏‏.‏‏.‏

وأية خسارة بعد خسارة الارتداد على الأعقاب من الإيمان إلى الكفر‏؟‏ وأي ربح يتحقق بعد خسارة الإيمان‏؟‏

وإذا كان مبعث الميل إلى طاعة الذين كفروا هو رجاء الحماية والنصرة عندهم فهو وهم يضرب السياق صفحا عنه ليذكرهم بحقيقة النصرة والحماية‏:‏

‏{‏بل الله مولاكم وهو خير الناصرين‏}‏‏.‏

فهذه هي الجهة التي يطلب المؤمنون عندها الولاية ويطلبون عندها النصرة‏.‏ ومن كان الله مولاه فما حاجته بولاية أحد من خلقه‏؟‏ ومن كان الله ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبيد‏؟‏

ثم يمضي السياق يثبت قلوب المسلمين ويبشرهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم بسبب إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطاناً ولم يجعل له قوة وقدرة‏.‏ وذلك فوق عذاب الآخرة المهيأ للظالمين‏:‏

‏{‏سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً‏.‏ ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

والوعد من الله الجليل القادر القاهر بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا كفيل بنهاية المعركة وضمان لهزيمة أعدائه ونصر أوليائه‏.‏‏.‏

وهو وعد قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان‏.‏ فما يلقى الذين كفروا الذين آمنوا حتى يخافوهم ويتحرك الرعب الملقى من الله في قلوبهم‏.‏ ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين‏.‏ حقيقة الشعور بولاية الله وحده والثقة المطلقة بهذه الولاية والتجرد من كل شائبة من شك في أن جند الله هم الغالبون وأن الله غالب على أمره وأن الذين كفروا غير معجزين في الأرض ولا سابقين لله سبحانه‏!‏ والتعامل مع وعد الله هذا مهما تكن ظواهر الأمور تخالفه فوعد الله أصدق مما تراه عيون البشر وتقدره عقولهم‏!‏

إنه الرعب لأن قلوبهم خاوية من السند الصحيح‏.‏ لأنهم لا يستندون إلى قوة ولا إلى ذي قوة‏.‏ إنهم أشركوا بالله آلهة لا سلطان لها لأن الله لم يمنحها سلطاناً‏.‏

والتعبير‏:‏ ‏{‏ما لم ينزل به سلطاناً‏}‏ ذو معنى عميق وهو يصادفنا في القرآن كثيراً‏.‏ مرة توصف به الآلهة المدعاة، ومرة توصف به العقائد الزائفة‏.‏‏.‏ وهو يشير إلى حقيقة أساسية عميقة‏:‏

إن أية فكرة أو عقيدة أو شخصية أو منظمة‏.‏‏.‏ إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر‏.‏ هذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من «الحق» أي بمقدار ما فيها من توافق مع القاعدة التي أقام الله عليها الكون ومع سنن الله التي تعمل في هذا الكون‏.‏ وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان الحقيقيين الفاعلين المؤثرين في هذا الوجود‏.‏ وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية مهما بدا فيها من قوة والتماع وانتفاش‏!‏

والمشركون يشركون مع الله آلهة أخرى- في صور شتى- ويقوم الشرك ابتداء على إعطاء غير الله- سبحانه- شيئاً ما من خصائص الألوهية ومظاهرها وفي مقدمة هذه الخصائص حق التشريع للعباد في شؤون حياتهم كلها‏;‏ وحق وضع القيم التي يتحاكم إليها العباد في سلوكهم وفي مجتمعاتهم‏;‏ وحق الاستعلاء على العباد وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات والاعتبار لهذه القيم‏.‏

‏.‏ ثم تأتي مسألة العبادة الشعائرية ضمن إعطاء هذه الخصائص لغير الله سبحانه وواحدة منها‏!‏

فماذا تحمل هذه الآلهة من الحق الذي أقام الله عليه الكون‏؟‏ إن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد‏;‏ وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده بلا شريك‏;‏ ولتتلقى منه الشريعة والقيم بلا منازع‏;‏ ولتعبده وحده حق عبادته بلا أنداد‏.‏‏.‏ فكل ما يخرج على قاعدة التوحيد في معناها الشامل فهو زائف باطل مناقض للحق الكامن في بنية الكون‏.‏ ومن ثم فهو واهٍ هزيل لا يحمل قوة ولا سلطاناً ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة ‏;‏ بل لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة‏!‏

وما دام أولئك المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطاناً‏;‏ من الآلهة والعقائد والتصورات فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء وهم أبداً خوارون ضعفاء‏;‏ وهم أبداً في رعب حيثما التقوا بالمؤمنين المرتكنين إلى الحق ذي السلطان‏.‏‏.‏

وإننا لنجد مصداق هذا الوعد كلما التقى الحق والباطل‏.‏‏.‏ وكم من مرة وقف الباطل مدججاً بالسلاح أمام الحق الأعزل‏.‏ ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد المرعوب ويرتجف من كل حركة وكل صوت- وهو في حشده المسلح المحشود‏!‏ فأما إذا أقدم الحق وهاجم فهو الذعر والفزع والشتات والاضطراب في صفوف الباطل‏;‏ ولو كانت له الحشود وكان للحق القلة تصديقاً لوعد الله الصادق‏:‏

‏{‏سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك في الدنيا‏.‏ فأما في الآخرة‏.‏‏.‏ فهناك المصير المحزن البائس الذي يليق بالظالمين‏.‏

‏{‏ومأواهم النار‏.‏ وبئس مثوى الظالمين‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها‏.‏ فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها‏.‏ ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار وتركوا وراءهم الغنائم وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة‏.‏‏.‏ ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم‏;‏ وتنازعوا فيما بينهم وخالفوا عن أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نبيهم وقائدهم‏.‏‏.‏ وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها في حيوية عجيبة‏:‏

‏{‏ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم- من بعد ما أراكم ما تحبون‏:‏ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة‏.‏

ثم صرفكم عنهم ليبتليكم‏.‏ ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين‏.‏ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غماً بغم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم‏.‏ والله خبير بما تعملون‏.‏ ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون‏:‏ هل لنا من الأمر من شيء‏؟‏ قل‏:‏ إن الأمر كله لله‏.‏ يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك‏.‏ يقولون‏:‏ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا‏.‏ قل‏:‏ لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم‏.‏ وليبتلي الله ما في صدوركم‏.‏ وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور‏.‏ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا‏.‏ ولقد عفا الله عنهم‏.‏ إن الله غفور حليم‏}‏‏.‏‏.‏

إن التعبير القرآني هنا ليرسم مشهداً كاملاً لمسرح المعركة ولتداول النصر والهزيمة‏.‏ مشهداً لا يترك حركة في الميدان ولا خاطرة في النفوس ولا سمة في الوجوه ولا خالجة في الضمائر إلا ويثبتها‏.‏‏.‏ وكأن العبارات شريط مصور يمر بالبصر ويحمل في كل حركة صوراً جديدة نابضة‏.‏ وبخاصة حين يصور حركة الإصعاد في الجبل والهروب في دهش وذعر ودعاء الرسول- صلى الله عليه وسلم- للفارين المرتدين عن المعركة المصعدين للهرب‏.‏ يصحب ذلك كله حركة النفوس وما يدور فيها من خوالج وخواطر وانفعالات ومطامع‏.‏‏.‏ ومع هذا الحشد من الصور الحية المتحركة النابضة تلك التوجيهات والتقريرات التي يتميز بها أسلوب القرآن ومنهج القرآن التربوي العجيب‏:‏

‏{‏ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه‏}‏‏.‏‏.‏

وكان ذلك في مطالع المعركة حيث بدأ المسلمون يحسون المشركين أي يخمدون حسهم أو يستأصلون شأفتهم‏.‏ قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة‏.‏ وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد قال لهم‏:‏ «لكم النصر ما صبرتم» فصدقهم الله وعده على لسان نبيه‏.‏

‏{‏حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون‏:‏ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة‏}‏‏.‏‏.‏

وهو تقرير لحال الرماة‏.‏ وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة ‏;‏ ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وانتهى الأمر إلى العصيان‏.‏ بعد ما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه‏.‏ فكانوا فريقين‏:‏ فريقاً يريد غنيمة الدنيا وفريقاً يريد ثواب الآخرة‏.‏ وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة ولم يعد الهدف واحداً‏.‏ وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة‏.‏ فمعركة العقيدة ليست ككل معركة‏.‏

إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير‏.‏ ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير‏.‏ إنها معركة لله فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له‏.‏

وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها ‏;‏ كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية‏.‏ ولقد يغلب المبطلون الذين يرفعون راية الباطل صريحة في بعض المعارك- لحكمة يعلمها الله- أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد فلا يمنحهم الله النصر أبداً حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا‏.‏‏.‏ وهذا ما يريد القرآن أن يجلوه للجماعة المسلمة بهذه الإشارة إلى موقفهم في المعركة وهذا ما أراد الله- سبحانه- أن يعلمه للجماعة المسلمة وهي تتلقى الهزيمة المريرة والقرح الأليم ثمرة لهذا الموقف المضطرب المتأرجح‏!‏

‏{‏منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة‏}‏‏.‏‏.‏

والقرآن يسلط الأضواء على خفايا القلوب التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم‏.‏‏.‏ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يريد الدنيا، حتى نزل فينا يوم أحد‏:‏ ‏{‏منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة‏}‏‏.‏‏.‏ وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها ‏;‏ ويعرفهم من أين جاءتهم الهزيمة ليتقوها‏!‏

وفي الوقت ذاته يكشف لهم عن طرف من حكمة الله وتدبيره، وراء هذه الآلام التي تعرضوا لها ‏;‏ ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة‏:‏

‏{‏ثم صرفكم عنهم ليبتليكم‏}‏‏.‏‏.‏

لقد كان هناك قدر الله وراء أفعال البشر‏.‏ فلما أن ضعفوا وتنازعوا وعصوا صرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين وصرف الرماة عن ثغرة الجبل وصرف المقاتلين عن الميدان فلاذوا بالفرار‏.‏‏.‏ وقع كل هذا مرتباً على ما صدر منهم ‏;‏ ولكن مدبراً من الله ليبتليهم‏.‏‏.‏ ليبتليهم بالشدة والخوف والهزيمة والقتل والقرح ‏;‏ وما يتكشف عنه هذا كله من كشف مكنونات القلوب ومن تمحيص النفوس وتمييز الصفوف- كما سيجيء‏.‏

وهكذا تقع الأحداث مرتبة على أسبابها وهي في الوقت ذاته مدبرة بحسابها‏.‏ بلا تعارض بين هذا وذاك‏.‏ فلكل حادث سبب ووراء كل سبب تدبير‏.‏‏.‏ من اللطيف الخبير‏.‏‏.‏

‏{‏ولقد عفا عنكم‏}‏‏.‏‏.‏

عفا عما وقع منكم من ضعف ومن نزاع ومن عصيان ‏;‏ وعفا كذلك عما وقع منكم من فرار وانقلاب وارتداد‏.‏‏.‏ عفا عنكم فضلاً منه ومنة وتجاوزاً عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار على الخطيئة‏.‏‏.‏ عفا عنكم لأنكم تخطئون وتضعفون في دائرة الإيمان بالله والاستسلام له وتسليم قيادكم لمشيئته‏:‏

‏{‏والله ذو فضل على المؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم ما داموا سائرين على منهجه مقرين بعبوديتهم له ‏;‏ لا يدعون من خصائص الألوهية شيئاً لأنفسهم ولا يتلقون نهجهم ولا شريعتهم ولا قيمهم ولا موازينهم إلا منه‏.‏

‏.‏ فإذا وقعت منهم الخطيئة وقعت عن ضعف وعجز أو عن طيش ودفعة‏.‏‏.‏ فيتلقاهم عفو الله بعد الابتلاء والتمحيص والخلاص‏.‏‏.‏

ويستحضر صورة الهزيمة حية متحركة‏:‏

‏{‏إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، والرسول يدعوكم في أخراكم‏}‏‏.‏‏.‏

كي يعمق وقع المشهد في حسهم ‏;‏ ويثير الخجل والحياء من الفعل ومقدماته التي نشأ عنها من الضعف والتنازع والعصيان‏.‏‏.‏ والعبارة ترسم صورة حركتهم الحسية وحركتهم النفسية في ألفاظ قلائل‏.‏‏.‏ فهم مصعدون في الجبل هرباً في اضطراب ورعب ودهش لا يلتفت أحد منهم إلى أحد‏!‏ ولا يجيب أحد منهم داعي أحد‏!‏ والرسول- صلى الله عليه وسلم- يدعوهم، ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح‏:‏ إن محمداً قد قتل فزلزل ذلك قلوبهم وأقدامهم‏.‏‏.‏ إنه مشهد كامل في ألفاظ قلائل‏.‏‏.‏

وكانت النهاية أن يجزيهم الله على الغم الذي تركوه في نفس الرسول- صلى الله عليه وسلم- بفرارهم غماً يملأ نفوسهم على ما كان منهم، وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه- وهو ثابت دونهم وهم عنه فارون- ذلك كي لا يحفلوا شيئاً فاتهم ولا أذى أصابهم‏.‏ فهذه التجربة التي مرت بهم وهذا الألم الذي أصاب نبيهم- وهو أشق عليهم من كل ما نزل بهم- وذلك الندم الذي ساور نفوسهم وذلك الغم الذي أصابهم‏.‏‏.‏ كل ذلك سيصغر في نفوسهم كلّ ما يفوتهم من عرض وكل ما يصيبهم من مشقة‏:‏

‏{‏فأثابكم غماً بغم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم‏}‏‏.‏‏.‏

والله المطلع على الخفايا يعلم حقيقة أعمالكم ودوافع حركاتكم‏:‏

‏{‏والله خبير بما تعملون‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد أعقب هول الهزيمة وذعرها وهرجها ومرجها سكون عجيب‏.‏ سكون في نفوس المؤمنين الذين ثابوا إلى ربهم وثابوا إلى نبيهم‏.‏ لقد شملهم نعاس لطيف يستسلمون إليه مطمئنين‏!‏

والتعبير عن هذه الظاهرة العجيبة يشف ويرق وينعم حتى ليصور بجرسه وظله ذلك الجو المطمئن الوديع‏:‏

‏{‏ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم‏}‏‏.‏‏.‏

وهي ظاهرة عجيبة تشي برحمة الله التي تحف بعباده المؤمنين ‏;‏ فالنعاس حين يلم بالمجهدين المرهقين المفزعين ولو لحظة واحدة يفعل في كيانهم فعل السحر ويردهم خلقاً جديداً ويسكب في قلوبهم الطمأنينة كما يسكب في كيانهم الراحة‏.‏ بطريقة مجهولة الكنه والكيف‏!‏ أقول هذا وقد جربته في لحظة كرب وشدة‏.‏ فأحسست فيه رحمة الله الندية العميقة بصورة تعجز عن وصفها العبارة البشرية القاصرة‏!‏

روى الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال‏:‏ «رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس»‏.‏

وفي رواية أخرى عن أبي طلحة‏:‏ «غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه»‏.‏‏.‏

أما الطائفة الأخرى‏;‏ فهم ذوو الإيمان المزعزع الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم والذين لم يتخلصوا من تصورات الجاهلية ولم يسلموا أنفسهم كلها لله خالصة ولم يستسلموا بكليتهم لقدره ولم تطمئن قلوبهم إلى أن ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص وليس تخلياً من الله عن أوليائه لأعدائه ولا قضاء منه- سبحانه- للكفر والشر والباطل بالغلبة الأخيرة والنصر الكامل‏:‏

‏{‏وطائفة قد أهمتهم أنفسهم، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية‏.‏ يقولون‏:‏ هل لنا من الأمر من شيء‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن هذه العقيدة تعلم أصحابها- فيما تعلم- أن ليس لهم في أنفسهم شيء فهم كلهم لله ‏;‏ وأنهم حين يخرجون للجهاد في سبيله يخرجون له ويتحركون له ويقاتلون له بلا هدف آخر لذواتهم في هذا الجهاد وأنهم يسلمون أنفسهم لقدره فيتلقون ما يأتيهم به هذا القدر في رضى وفي تسليم كائناً هذا القدر ما يكون‏.‏

فأما الذين تهمهم أنفسهم وتصبح محور تفكيرهم وتقديرهم ومحور اهتمامهم وانشغالهم‏.‏‏.‏ فهؤلاء لم تكتمل في نفوسهم حقيقة الإيمان‏.‏ ومن هؤلاء كانت تلك الطائفة الأخرى التي يتحدث عنها القرآن في هذا الموضع‏.‏ طائفة الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم فهم في قلق وفي أرجحة يحسون أنهم مضيعون في أمر غير واضح في تصورهم ويرون أنهم دفعوا إلى المعركة دفعاً ولا إرادة لهم فيها‏;‏ وهم مع ذلك يتعرضون للبلاء المرير ويؤدون الثمن فادحاً من القتل والقرح والألم‏.‏‏.‏ وهم لا يعرفون الله على حقيقته فهم يظنون بالله غير الحق كما تظن الجاهلية‏.‏ ومن الظن غير الحق بالله أن يتصوروا أنه- سبحانه- مضيعهم في هذه المعركة التي ليس لهم من أمرها شيء وإنما دفعوا إليها دفعاً ليموتوا ويجرحوا والله لا ينصرهم ولا ينقذهم ‏;‏ إنما يدعهم فريسة لأعدائهم ويتساءلون‏:‏

‏{‏هل لنا من الأمر من شيء‏؟‏‏}‏‏.‏

وتتضمن قولتهم هذه الاعتراض على خطة القيادة والمعركة‏.‏‏.‏ ولعلهم ممن كان رأيهم عدم الخروج من المدينة ‏;‏ ممن لم يرجعوا مع عبد الله بن أبي‏.‏‏.‏ ولكن قلوبهم لم تكن قد استقرت واطمأنت‏.‏‏.‏

وقبل أن يكمل السياق عرض وساوسهم وظنونهم، يبادر بتصحيح الأمر وتقرير الحقيقة فيما يتساءلون فيه ويرد على قولتهم‏:‏ ‏{‏هل لنا من الأمر من شيء‏؟‏‏}‏‏.‏

‏{‏قل‏:‏ إن الأمر كله لله‏}‏‏.‏‏.‏

فلا أمر لأحد‏.‏ لا لهم ولا لغيرهم‏.‏ ومن قبل قال الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم- ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏‏.‏ فأمر هذا الدين والجهاد لإقامته وتقرير نظامه في الأرض وهداية القلوب له‏.‏‏.‏ كلها من أمر الله وليس للبشر فيها من شيء إلا أن يؤدوا واجبهم ويفوا ببيعتهم ثم يكون ما يشاؤه الله كيف يكون‏!‏

ويكشف كذلك خبيئة نفوسهم قبل أن يكمل عرض وساوسهم وظنونهم‏:‏

‏{‏يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك‏}‏‏.‏

فنفوسهم ملأى بالوساوس والهواجس حافلة بالاعتراضات والاحتجاجات ‏;‏ وسؤالهم‏:‏ ‏{‏هل لنا من الأمر من شيء‏}‏‏.‏‏.‏ يخفي وراءه شعورهم بأنهم دفعوا إلى مصير لم يختاروه‏!‏ وأنهم ضحية سوء القيادة وأنهم لو كانوا هم الذين يديرون المعركة ما لاقوا هذا المصير‏.‏

‏{‏يقولون‏:‏ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا‏}‏‏.‏‏.‏

وهو الهاجس الذي يجيش في النفوس التي لم تخلص للعقيدة حينما تصطدم في موقعة بالهزيمة وحينما تعاني آلام الهزيمة‏!‏ حين ترى الثمن أفدح مما كانت تظن ‏;‏ وأن الثمرة أشد مرارة مما كانت تتوقع ‏;‏ وحين تفتش في ضمائرها فلا ترى الأمر واضحاً ولا مستقراً ‏;‏ وحين تتخيل أن تصرف القيادة هو الذي القى بها في هذه المهلكة وكانت في نجوة من الأمر لو كان أمرها في يدها‏!‏ وهي لا يمكن- بهذا الغبش في التصور- أن ترى يد الله وراء الأحداث ولا حكمته في الابتلاء‏.‏ إنما المسألة كلها- في اعتبارها- خسارة في خسارة‏!‏ وضياع في ضياع‏!‏

هنا يجيئهم التصحيح العميق للأمر كله‏.‏ لأمر الحياة والموت‏.‏ ولأمر الحكمة الكامنة وراء الابتلاء‏:‏

‏{‏قل‏:‏ لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم‏.‏ وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور‏}‏‏.‏‏.‏

قل لو كنتم في بيوتكم ‏;‏ ولم تخرجوا للمعركة تلبية لنداء القيادة وكان أمركم كله لتقديركم‏.‏‏.‏ لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم‏.‏‏.‏ إن هنالك أجلاً مكتوباً لا يستقدم ولا يستأخر‏.‏ وإن هنالك مضجعاً مقسوماً لا بد أن يجيء إليه صاحبه فيضجع فيه‏!‏ فإذا حم الأجل سعى صاحبه بقدميه إليه وجاء إلى مضجعه برجليه لا يسوقه أحد إلى أجله المرسوم ولا يدفعه أحد إلى مضجعه المقسوم‏!‏

ويا للتعبير العجيب‏.‏‏.‏ ‏{‏إلى مضاجعهم‏}‏‏.‏‏.‏ فهو مضجع إذن ذلك الرمس الذي تستريح فيه الجنوب، وتسكن فيه الخطى، وينتهي إليه الضاربون في الأرض‏.‏‏.‏ مضجع يأتون إليه بدافع خفي لا يدركونه ولا يملكونه، إنما هو يدركهم ويملكهم ‏;‏ ويتصرف في أمرهم كما يشاء‏.‏ والاستسلام له أروح للقلب وأهدأ للنفس وأريح للضمير‏!‏

إنه قدر الله‏.‏ ووراءه حكمته‏:‏

‏{‏وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم‏}‏‏.‏‏.‏

فليس كالمحنة محك يكشف ما في الصدور ويصهر ما في القلوب فينفي عنها الزيف والرياء ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء‏.‏‏.‏ فهو الابتلاء والاختبار لما في الصدور ليظهر على حقيقته وهو التطهير والتصفية للقلوب فلا يبقى فيها دخل ولا زيف‏.‏ وهو التصحيح والتجلية للتصور ‏;‏ فلا يبقى فيه غبش ولا خلل‏:‏

‏{‏والله عليم بذات الصدور‏}‏‏.‏

وذات الصدور هي الأسرار الخفية الملازمة للصدور المختبئة فيها المصاحبة لها التي لا تبارحها ولا تتكشف في النور‏!‏ والله عليم بذات الصدور هذه‏.‏ ولكنه- سبحانه- يريد أن يكشفها للناس ويكشفها لأصحابها أنفسهم فقد لا يعلمونها من أنفسهم حتى تنفضها الأحداث وتكشفها لهم‏!‏

ولقد علم الله دخيلة الذين هزموا وفروا يوم التقى الجمعان في الغزوة‏.‏ إنهم ضعفوا وتولوا بسبب معصية ارتكبوها‏;‏ فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ واستزلهم فزلوا وسقطوا‏:‏

‏{‏إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا‏.‏ ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم‏}‏‏.‏‏.‏

وقد تكون الإشارة في هذه الآية خاصة بالرماة الذين جال في نفوسهم الطمع في الغنيمة كما جال فيها أن رسول الله سيحرمهم أنصبتهم‏.‏ فكان هذا هو الذي كسبوه وهو الذي استزلهم الشيطان به‏.‏‏.‏

ولكنها في عمومها تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة فتفقد ثقتها في قوتها ويضعف بالله ارتباطها ويختل توازنها وتماسكها وتصبح عرضة للوساوس والهواجس بسبب تخلخل صلتها بالله وثقتها من رضاه‏!‏ وعندئذ يجد الشيطان طريقه إلى هذه النفس فيقودها إلى الزلة بعد الزلة وهي بعيدة عن الحمى الآمن والركن الركين‏.‏

ومن هنا كان الاستغفار من الذنب هو أول ما توجه به الرّبيون الذين قاتلوا مع النبيين في مواجهة الأعداء‏.‏ الاستغفار الذي يردهم إلى الله ويقوي صلتهم به ويعفي قلوبهم من الأرجحة ويطرد عنها الوساوس ويسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان ثغرة الانقطاع عن الله والبعد عن حماه‏.‏ هذه الثغرة التي يدخل منها فيزل أقدامهم مرة ومرة حتى ينقطع بهم في التيه بعيداً بعيداً عن الحمى الذي لا ينالهم فيه‏!‏

ويحدثهم الله أن رحمته أدركتهم فلم يدع الشيطان ينقطع بهم فعفا عنهم‏.‏‏.‏ ويعرفهم بنفسه- سبحانه- فهو غفور حليم‏.‏ لا يطرد الخطاة ولا يعجل عليهم‏;‏ متى علم من نفوسهم التطلع إليه والاتصال به‏;‏ ولم يعلم منها التمرد والتفلت والإباق‏!‏

ويتم السياق بيان حقيقة قدر الله في الموت والحياة وزيف تصورات الكفار والمنافقين عن هذا الأمر منادياً الذين آمنوا بالتحذير من أن تكون تصوراتهم كتصورات هؤلاء‏.‏ ويردهم في النهاية إلى قيم أخرى وإلى اعتبارات ترجح الآلام والتضحيات‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم- إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى-‏:‏ لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا‏.‏ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم‏.‏ والله يحيى ويميت‏.‏ والله بما تعملون بصير‏.‏ ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون‏.‏ ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون‏}‏‏.‏‏.‏

وظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام ‏;‏ ولكن ما تزال بين المسلمين وبينهم علاقات وقرابات‏.‏

‏.‏ وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة- نتيجة لخروجهم- ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة‏.‏ ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه‏.‏

إن قول الكافرين‏:‏ ‏{‏لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا‏}‏‏.‏‏.‏ ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها‏:‏ سراؤها وضراؤها‏.‏‏.‏ إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله متعرف إلى مشيئة الله مطمئن إلى قدر الله‏.‏ إنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه‏.‏ ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع ولا يتلقى السراء بالزهو ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك‏;‏ ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا أو ليستجلب كذا بعد وقوع الأمر وانتهائه‏!‏ فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة كله قبل الإقدام والحركة ‏;‏ فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير- في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه- فكل ما يقع من النتائج فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم‏;‏ موقناً أنه وقع وفقاً لقدر الله وتدبيره وحكمته‏;‏ وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع‏;‏ ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله‏!‏‏.‏‏.‏ توازن بين العمل والتسليم وبين الإيجابية والتوكل يستقيم عليه الخطو ويستريح عليه الضمير‏.‏‏.‏ فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة فهو أبداً مستطار أبداً في قلق‏!‏ أبداً في «لو» و«لولا» و«يا ليت» و«وا أسفاه»‏!‏

والله- في تربيته للجماعة المسلمة، وفي ظلال غزوة أحد وما نال المسلمين فيها- يحذرهم أن يكونوا كالذين كفروا‏.‏ أولئك الذين تصيبهم الحسرات كلما مات لهم قريب وهو يضرب في الأرض ابتغاء الرزق أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى‏:‏ لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا‏}‏‏.‏‏.‏

يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري‏.‏ فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية بسبب انقطاعهم عن الله وعن قدره الجاري في الحياة‏.‏

‏{‏ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم‏}‏‏.‏‏.‏

فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا‏.‏

‏.‏ إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج‏!‏ ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل ونداء المضجع وقدر الله وسنته في الموت والحياة ما تحسروا‏.‏ ولتلقوا الابتلاء صابرين ولفاءوا إلى الله راضين‏:‏

‏{‏والله يحيي ويميت‏}‏‏.‏‏.‏

فبيده إعطاء الحياة وبيده استرداد ما أعطى في الموعد المضروب والأجل المرسوم سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة‏.‏ وعنده الجزاء وعنده العوض عن خبرة وعن علم وعن بصر‏:‏

‏{‏والله بما تعملون بصير‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل ‏;‏ فهذه ليست نهاية المطاف‏.‏ وعلى أن الحياة في الأرض ليست خير ما يمنحه الله للناس من عطاء‏.‏ فهناك قيم أخرى واعتبارات أرقى في ميزان الله‏:‏

‏{‏ولئن قتلتم- في سبيل الله- أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون‏.‏ ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون‏}‏‏.‏‏.‏

فالموت أو القتل في سبيل الله- بهذا القيد وبهذا الاعتبار- خير من الحياة وخير مما يجمعه الناس في الحياة من أعراضها الصغار‏:‏ من مال ومن جاه ومن سلطان ومن متاع‏.‏ خير بما يعقبه من مغفرة الله ورحمته وهي في ميزان الحقيقة خير مما يجمعون‏.‏ وإلى هذه المغفرة وهذه الرحمة يكل الله المؤمنين‏.‏‏.‏ إنه لا يكلهم- في هذا المقام- إلى أمجاد شخصية ولا إلى اعتبارات بشرية‏.‏ إنما يكلهم إلى ما عند الله، ويعلق قلوبهم برحمة الله‏.‏ وهي خير مما يجمع الناس على الإطلاق‏.‏ وخير مما تتعلق به القلوب من أعراض‏.‏‏.‏

وكلهم مرجوعون إلى الله محشورون إليه على كل حال‏.‏ ماتوا على فراشهم أو ماتوا وهم يضربون في الأرض‏.‏ أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان‏.‏ فما لهم مرجع سوى هذا المرجع ‏;‏ وما لهم مصير سوى هذا المصير‏.‏‏.‏ والتفاوت إذن إنما يكون في العمل والنية وفي الاتجاه والاهتمام‏.‏‏.‏ أما النهاية فواحدة‏:‏ موت أو قتل في الموعد المحتوم والأجل المقسوم‏.‏ ورجعة إلى الله وحشر في يوم الجمع والحشر‏.‏‏.‏ ومغفرة من الله ورحمة أو غضب من الله وعذاب‏.‏‏.‏ فأحمق الحمقى من يختار لنفسه المصير البائس‏.‏ وهو ميت على كل حال‏!‏

بذلك تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة وحقيقة قدر الله‏.‏ وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر ‏;‏ وإلى ما وراء القدر من حكمة وما وراء الابتلاء من جزاء‏.‏‏.‏ وبذلك تنتهي هذه الجولة في صميم أحداث المعركة وفيما صاحبها من ملابسات‏.‏‏.‏

ثم يمضي السياق القرآني في جولة جديدة‏.‏‏.‏ جولة محورها شخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحقيقته النبوية الكريمة ‏;‏ وقيمة هذه الحقيقة الكبيرة في حياة الأمة المسلمة ‏;‏ ومدى ما يتجلى فيها من رحمة الله بهذه الأمة‏.‏

‏.‏ وحول هذا المحور خيوط أخرى من المنهج الإسلامي في تنظيم حياة الجماعة المسلمة وأسس هذا التنظيم ‏;‏ ومن التصور الإسلامي والحقائق التي يقوم عليها ومن قيمة هذا التصور وذلك المنهج في حياة البشرية بصفة عامة‏:‏

‏{‏فبما رحمة من الله لنت لهم‏.‏ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك‏.‏ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر‏.‏ فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين‏.‏ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده‏؟‏ وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏.‏ وما كان لنبي أن يغل‏.‏ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون‏.‏ أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير‏؟‏ هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون‏.‏ لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين‏}‏‏.‏‏.‏

وننظر في هذه الفقرة وفي الحقائق الكثيرة الأصيلة المشدودة إلى محورها- وهي الحقيقة النبوية الكريمة- فنجد كذلك أصولاً كبيرة تحتويها عبارات قصيرة‏.‏‏.‏ نجد حقيقة الرحمة الإلهية المتمثلة في أخلاق النبي- صلى الله عليه وسلم- وطبيعته الخيرة الرحيمة الهينة اللينة المعدة لأن تتجمع عليها القلوب وتتألف حولها النفوس‏.‏‏.‏ ونجد أصل النظام الذي تقوم عليه الحياة الجماعية الإسلامية- وهو الشورى- يؤمر به في الموضع الذي كان للشورى- في ظاهر الأمر- نتائج مريرة‏!‏ ونجد مع مبدأ الشورى مبدأ الحزم والمضي- بعد الشورى- في مضاء وحسم‏.‏ ونجد حقيقة التوكل على الله- إلى جانب الشورى والمضاء- حيث تتكامل الأسس التصويرية والحركية والتنظيمية‏.‏ ونجد حقيقة قدر الله ورد الأمر كله إليه وفاعليته التي لا فاعلية غيرها في تصريف الأحداث والنتائج‏.‏ ونجد التحذير من الخيانة والغلول والطمع في الغنيمة‏.‏ ونجد التفرقة الحاسمة بين من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله‏.‏ تبرز منها حقيقة القيم والاعتبارات والكسب والخسارة‏.‏‏.‏ وتختم الفقرة بالإشادة بالمنة الإلهية الممثلة في رسالة النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الأمة المنة التي تتضاءل إلى جانبها الغنائم كما تتضاءل إلى جانبها الآلام سواء‏!‏

هذا الحشد كله في تلك الآيات القلائل المعدودات‏!‏

‏{‏فبما رحمة من الله لنت لهم‏.‏ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك‏.‏ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر‏.‏ فإذا عزمت فتوكل على الله‏.‏ إن الله يحب المتوكلين‏}‏‏.‏

إن السياق يتجه هنا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي نفسه شيء من القوم ‏;‏ تحمسوا للخروج ثم اضطربت صفوفهم فرجع ثلث الجيش قبل المعركة ‏;‏ وخالفوا- بعد ذلك- عن أمره وضعفوا أمام إغراء الغنيمة ووهنوا أمام إشاعة مقتله وانقلبوا على أعقابهم مهزومين وأفردوه في النفر القليل وتركوه يثخن بالجراح وهو صامد يدعوهم في أخراهم وهم لا يلوون على أحد‏.‏

‏.‏ يتوجه إليه- صلى الله عليه وسلم- يطيب قلبه وإلى المسلمين يشعرهم نعمة الله عليهم به‏.‏ ويذكره ويذكرهم رحمة الله الممثلة في خلقه الكريم الرحيم الذي تتجمع حوله القلوب‏.‏‏.‏ ذلك ليستجيش كوامن الرحمة في قلبه- صلى الله عليه وسلم- فتغلب على ما آثاره تصرفهم فيه ‏;‏ وليحسوا هم حقيقة النعمة الإلهية بهذا النبي الرحيم‏.‏ ثم يدعوه أن يعفو عنهم ويستغفر الله لهم‏.‏‏.‏ وأن يشاورهم في الأمر كما كان يشاورهم ‏;‏ غير متأثر بنتائج الموقف لإبطال هذا المبدأ الأساسي في الحياة الإسلامية‏.‏

‏{‏فبما رحمة من الله لنت لهم ‏;‏ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك‏}‏‏.‏‏.‏

فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم ‏;‏ فجعلته- صلى الله عليه وسلم- رحيماً بهم ليناً معهم‏.‏ ولو كان فظاً غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب ولا تجمعت حوله المشاعر‏.‏ فالناس في حاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة وإلى بشاشة سمحة وإلى ود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم‏.‏‏.‏ في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ‏;‏ ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه ‏;‏ ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء‏.‏‏.‏ وهكذا كان قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهكذا كانت حياته مع الناس‏.‏ ما غضب لنفسه قط‏.‏ ولا ضاق صدره بضعفهم البشري‏.‏ ولا احتجز لنفسه شيئاً من أعراض هذه الحياة بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية‏.‏ ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم‏.‏ وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه ‏;‏ نتيجة لما أفاض عليه- صلى الله عليه وسلم- من نفسه الكبيرة الرحيبة‏.‏

وكان هذا كله رحمة من الله به وبأمته‏.‏‏.‏ يذكرهم بها في هذا الموقف‏.‏ ليرتب عليها ما يريده- سبحانه- لحياة هذه الأمة من تنظيم‏:‏

‏{‏فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر‏}‏‏.‏‏.‏

وبهذا النص الجازم‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏‏.‏‏.‏ يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم- حتى ومحمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو الذي يتولاه‏.‏ وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكاً في أن الشورى مبدأ أساسي لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه‏.‏‏.‏ أما شكل الشورى والوسيلة التي تتحقق بها فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها‏.‏ وكل شكل وكل وسيلة تتم بها حقيقة الشورى- لا مظهرها- فهي من الإسلام‏.‏

لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة‏!‏ فقد كان من جرائها ظاهرياً وقوع خلل في وحدة الصف المسلم‏!‏ اختلفت الآراء‏.‏ فرأت مجموعة أن يبقى المسلمون في المدينة محتمين بها حتى إذا هاجمهم العدو قاتلوه على أفواه الأزقة‏.‏ وتحمست مجموعة أخرى فرأت الخروج للقاء المشركين‏.‏ وكان من جراء هذا الاختلاف ذلك الخلل في وحدة الصف‏.‏ إذ عاد عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش والعدو على الأبواب- وهو حدث ضخم وخلل مخيف- كذلك بدا أن الخطة التي نفذت لم تكن- في ظاهرها- أسلم الخطط من الناحية العسكرية‏.‏ إذ أنها كانت مخالفة «للسوابق» في الدفاع عن المدينة- كما قال عبد الله ابن أبي- وقد اتبع المسلمون عكسها في غزوة الأحزاب التالية فبقوا فعلاً في المدينة وأقاموا الخندق ولم يخرجوا للقاء العدو‏.‏ منتفعين بالدرس الذي تلقوه في أحد‏!‏

ولم يكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجهل النتائج الخطيرة التي تنتظر الصف المسلم من جراء الخروج‏.‏ فقد كان لديه الإرهاص من رؤياه الصادقة التي رآها والتي يعرف مدى صدقها‏.‏ وقد تأولها قتيلاً من أهل بيته وقتلى من صحابته وتأول المدينة درعاً حصينة‏.‏‏.‏ وكان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة للشورى‏.‏‏.‏ ولكنه أمضاها وهو يدرك ما وراءها من الآلام والخسائر والتضحيات‏.‏ لأن إقرار المبدأ وتعليم الجماعة وتربية الأمة أكبر من الخسائر الوقتية‏.‏

ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة‏.‏ أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف‏;‏ وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة‏!‏ ولكن الإسلام كان ينشئ أمة ويربيها ويعدها لقيادة البشرية‏.‏ وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة أن تربى بالشورى‏;‏ وأن تدرب على حمل التبعة وأن تخطئ- مهما يكن الخطأ جسيماً وذا نتائج مريرة- لتعرف كيف تصحح خطأها وكيف تحتمل تبعات رأيها وتصرفها‏.‏ فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ‏.‏‏.‏ والخسائر لا تهم إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة المدركة المقدرة للتبعة‏.‏ واختصار الأخطاء والعثرات والخسائر في حياة الأمة ليس فيها شيء من الكسب لها إذا كانت نتيجته أن تظل هذه الأمة قاصرة كالطفل تحت الوصاية‏.‏ إنها في هذه الحالة تتقي خسائر مادية وتحقق مكاسب مادية‏.‏ ولكنها تخسر نفسها وتخسر وجودها وتخسر تربيتها وتخسر تدريبها على الحياة الواقعية‏.‏ كالطفل الذي يمنع من مزاولة المشي- مثلاً- لتوفير العثرات والخبطات‏.‏ أو توفير الحذاء‏!‏

كان الإسلام ينشئ أمة ويربيها ويعدها للقيادة الراشدة‏.‏ فلم يكن بد أن يحقق لهذه الأمة رشدها ويرفع عنها الوصاية في حركات حياتها العملية الواقعية كي تدرب عليها في حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وبإشرافه‏.‏

ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى ويمنع تدريب الأمة عليها تدريباً عملياً واقعياً في أخطر الشؤون- كمعركة أحد التي قد تقرر مصير الأمة المسلمة نهائياً وهي أمة ناشئة تحيط بها العداوات والأخطار من كل جانب- ويحل للقيادة أن تستقل بالأمر وله كل هذه الخطورة- لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشؤون لكان وجود محمد- صلى الله عليه وسلم- ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى- كافياً لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى‏!‏- وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ظل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمة‏.‏ ولكن وجود محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومعه الوحي الإلهي ووقوع تلك الأحداث ووجود تلك الملابسات لم يلغ هذا الحق‏.‏ لأن الله- سبحانه- يعلم أن لا بد من مزاولته في أخطر الشؤون ومهما تكن النتائج ومهما تكن الخسائر ومهما يكن انقسام الصف ومهما تكن التضحيات المريرة ومهما تكن الأخطار المحيطة‏.‏‏.‏ لأن هذه كلها جزئيات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة المدربة بالفعل على الحياة ‏;‏ المدركة لتبعات الرأي والعمل الواعية لنتائج الرأي والعمل‏.‏‏.‏ ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي في هذا الوقت بالذات‏:‏

‏{‏فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر‏}‏‏.‏‏.‏

ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله ‏;‏ وليثبت هذا القرار في حياة الأمة المسلمة أياً كانت الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق ‏;‏ وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة ولو كان هو انقسام الصف كما وقع في «أحد» والعدو على الأبواب‏.‏‏.‏ لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ‏.‏ ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق‏!‏

على أن الصورة الحقيقية للنظام الإسلامي لا تكمل حتى نمضي مع بقية الآية ‏;‏ فنرى أن الشورى لا تنتهي أبداً إلى الأرجحة والتعويق ولا تغني كذلك عن التوكل على الله في نهاية المطاف‏:‏

‏{‏فإذا عزمت فتوكل على الله‏.‏ إن الله يحب المتوكلين‏}‏‏.‏‏.‏

إن مهمة الشورى هي تقليب أوجه الرأي واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد انتهى دور الشورى وجاء دور التنفيذ‏.‏‏.‏ التنفيذ في عزم وحسم وفي توكل على الله يصل الأمر بقدر الله ويدعه لمشيئته تصوغ العواقب كما تشاء‏.‏

وكما ألقى النبي- صلى الله عليه وسلم- درسه النبوي الرباني، وهو يعلم الأمة الشورى، ويعلمها إبداء الرأي، واحتمال تبعته بتنفيذه، في أخطر الشؤون وأكبرها‏.‏

‏.‏ كذلك ألقى عليها درسه الثاني في المضاء بعد الشورى، وفي التوكل على الله وإسلام النفس لقدره- على علم بمجراه واتجاهه- فأمضى الأمر في الخروج ودخل بيته فلبس درعه ولأمته- وهو يعلم إلى أين هو ماض وما الذي ينتظره وينتظر الصحابة معه من آلام وتضحيات‏.‏‏.‏ وحتى حين أتيحت فرصة أخرى بتردد المتحمسين، وخوفهم من أن يكونوا استكرهوه- صلى الله عليه وسلم- على ما لا يريد وتركهم الأمر له ليخرج أو يبقى‏.‏‏.‏ حتى حين أتيحت هذه الفرصة لم ينتهزها ليرجع‏.‏ لأنه أراد أن يعلمهم الدرس كله‏.‏ درس الشورى‏.‏ ثم العزم والمضي‏.‏ مع التوكل على الله والاستسلام لقدره‏.‏ وأن يعلمهم أن للشورى وقتها ولا مجال بعدها للتردد والتأرجح ومعاودة تقليب الرأي من جديد‏.‏ فهذا مآلة الشلل والسلبية والتأرجح الذي لا ينتهي‏.‏‏.‏ إنما هو رأي وشورى‏.‏ وعزم ومضاء‏.‏ وتوكل على الله، يحبه الله‏:‏

‏{‏إن الله يحب المتوكلين‏}‏‏.‏‏.‏

والخلة التي يحبها الله ويحب أهلها هي الخلة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمنون‏.‏ بل هي التي تميز المؤمنين‏.‏‏.‏ والتوكل على الله ورد الأمر إليه في النهاية هو خط التوازن الأخير في التصور الإسلامي وفي الحياة الإسلامية‏.‏ وهو التعامل مع الحقيقة الكبيرة‏:‏ حقيقة أن مرد الأمر كله لله وأن الله فعال لما يريد‏.‏‏.‏

لقد كان هذا درساً من دروس «أحد» الكبار‏.‏ هو رصيد الأمة المسلمة في أجيالها كلها وليس رصيد جيل بعينه في زمن من الأزمان‏.‏‏.‏

ولتقرير حقيقة التوكل على الله وإقامتها على أصولها الثابتة يمضي السياق فيقرر أن القوة الفاعلة في النصر والخذلان هي قوة الله فعندها يلتمس النصر ومنها تتقى الهزيمة وإليها يكون التوجه وعليها يكون التوكل بعد اتخاذ العدة ونفض الأيدي من العواقب وتعليقها بقدر الله‏:‏

‏{‏إن ينصركم الله فلا غالب لكم وأن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده‏؟‏ وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

إن التصور الإسلامي يتسم بالتوازن المطلق بين تقرير الفاعلية المطلقة لقدر الله- سبحانه- وتحقق هذا القدر في الحياة الإنسانية من خلال نشاط الإنسان وفاعليته وعمله‏.‏‏.‏ إن سنة الله تجري بترتيب النتائج على الأسباب‏.‏ ولكن الأسباب ليست هي التي «تنشئ» النتائج‏.‏ فالفاعل المؤثر هو الله‏.‏ والله يرتب النتائج على الأسباب بقدره ومشيئته‏.‏‏.‏ ومن ثم يطلب إلى الإنسان أن يؤدي واجبه وأن يبذل جهده وأن يفي بالتزاماته‏.‏ وبقدر ما يوفي بذلك كله يرتب الله النتائج ويحققها‏.‏‏.‏ وهكذا تظل النتائج والعواقب متعلقة بمشيئة الله وقدره‏.‏ هو وحده الذي يأذن لها بالوجود حين يشاء وكيفما يشاء‏.‏‏.‏ وهكذا يتوازن تصور المسلم وعمله‏.‏ فهو يعمل ويبذل ما في طوقه ‏;‏ وهو يتعلق في نتيجة عمله وجهده بقدر الله ومشيئته‏.‏

ولا حتمية في تصوره بين النتائج والأسباب‏.‏ فهو لا يحتم أمراً بعينه على الله‏!‏

وهنا في قضية النصر والخذلان بوصفهما نتيجتين للمعركة- أية معركة- يرد المسلمين إلى قدر الله ومشيئته ‏;‏ ويعلقهم بإرادة الله وقدرته‏:‏ إن ينصرهم الله فلا غالب لهم‏.‏ وأن يخذلهم فلا ناصر لهم من بعده‏.‏‏.‏ وهي الحقيقة الكلية المطلقة في هذا الوجود‏.‏ حيث لا قوة إلا قوة الله ولا قدرة إلا قدرته ولا مشيئة إلا مشيئته‏.‏ وعنها تصدر الأشياء والأحداث‏.‏‏.‏ ولكن هذه الحقيقة الكلية المطلقة لا تعفي المسلمين من اتباع المنهج وطاعة التوجيه والنهوض بالتكاليف وبذلك الجهد والتوكل بعد هذا كله على الله‏:‏

‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

وبذلك يخلص تصور المسلم من التماس شيء من عند غير الله ‏;‏ ويتصل قلبه مباشرة بالقوة الفاعلة في هذا الوجود ‏;‏ فينفض يده من كل الأشباح الزائفة والأسباب الباطلة للنصرة والحماية والالتجاء ‏;‏ ويتوكل على الله وحده في أحداث النتائج وتحقيق المصاير وتدبير الأمر بحكمته وتقبل ما يجيء به قدر الله في اطمئنان أياً كان‏.‏

إنه التوازن العجيب الذي لا يعرفه القلب البشري إلا في الإسلام‏.‏

ثم يعود إلى الحديث عن النبوة وخصائصها الخلقية ‏;‏ ليمد من هذا المحور خيوطاً في التوجيه للأمانة والنهي عن الغلول والتذكير بالحساب وتوفية النفوس دون إجحاف‏:‏