فصل: تفسير الآيات رقم (180- 189)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏180- 189‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏180‏)‏ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏181‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏182‏)‏ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏183‏)‏ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏184‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏185‏)‏ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏186‏)‏ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ‏(‏187‏)‏ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏188‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏189‏)‏‏}‏

انتهى الاستعراض القرآني للمعركة- معركة أحد- ولكن المعركة الدائبة بين الجماعة المسلمة وأعدائها المحيطين بها في المدينة- وبخاصة اليهود- لم تكن قد انتهت بعد‏.‏ معركة الجدل والمراء، والتشكيك والبلبلة، والكيد والدس، والتربص والتدبير‏.‏‏.‏ هذه المعركة التي استغرقت الشطر الأكبر من هذه السورة‏.‏

وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد أجلى بني قينقاع عن جواره في المدينة، بعد ما كان منهم- عقب غزوة بدر- من غيظ وكيد، وتحرش بالمسلمين، ونقض للمواثيق التي عقدها معهم النبي- صلى الله عليه وسلم- عند مقدمه إلى المدينة، وقيام الدولة المسلمة برياسته مرتكنة إلى المسلمين من الأوس والخزرج‏.‏‏.‏ ولكن كان بقي من حوله‏:‏ بنو النضير، وبنو قريظة، وغيرهم من يهود خيبر وسواهم في الجزيرة‏.‏‏.‏ وكلهم يتراسلون ويتجمعون، ويتصلون بالمنافقين في المدينة، وبالمشركين في مكة وفيما حول المدينة، ويكيدون للمسلمين كيداً لا ينقطع ولا يكف‏.‏

وقد ورد في أوائل سورة آل عمران تحذير لليهود أن يصيبهم على أيدي المسلمين ما أصاب المشركين‏:‏ ‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد‏.‏ قد كان لكم آية في فئتين التقتا‏.‏ فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يرونهم مثليهم رأي العين، والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار‏}‏ فلما أبلغهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذا التحذير- الذي جاء رداً على أفاعيلهم وما بدا منهم من الغيظ والدس والكيد عقب بدر- أساءوا أدبهم في استقباله؛ وقالوا‏:‏ يا محمد‏.‏ لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال‏.‏ إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وإنك لم تلق مثلنا‏.‏ ثم مضوا في دسهم وكيدهم، الذي روت هذه السورة منه الواناً شتى، حتى انتهى أمرهم بنقض ما بينهم وبين النبي- صلى الله عليه وسلم- من العهد‏.‏ فحاصرهم النبي- صلى الله عليه وسلم- حتى نزلوا على حكمه، فأجلاهم عن المدينة إلى أذرعات‏.‏‏.‏ وبقيت الطائفتان الأخريان‏:‏ بنو قريظة وبنو النضير بالمدينة على عهدهما- في الظاهر- مع الكيد والدس والتلبيس والتضليل والبلبلة والفتنة‏.‏‏.‏ وسائر ما برعت فيه يهود في تاريخها كله، وسجله عليها السجل الصادق- كتاب الله- وتعارفه أهل الأرض كلهم، عن ذلك الجنس الملعون‏!‏

وفي هذا الدرس استعراض لبعض أفاعيل يهود وأقاويلها‏.‏ يبدو فيه سوء الأدب مع الله- سبحانه- بعد سوء الفعل مع المسلمين‏.‏ وهم يبخلون بالوفاء بتعهداتهم المالية للرسول- صلى الله عليه وسلم- ثم يزيدون فيقولون‏:‏ ‏{‏إن الله فقير ونحن أغنياء‏}‏ ‏!‏

ويبدو فيه التعلل الواهي، الذي يدفعون به دعوة الإسلام الموجهة إليهم؛ وكذب هذا التعلل، ومخالفته لواقعهم التاريخي المعروف‏.‏

هذا الواقع الذي ينضح بمخالفتهم لعهد الله معهم، وبكتمانهم لما أمرهم الله ببيانه من الحق، ونبذه وراء ظهورهم وشرائهم به ثمناً قليلاً‏.‏ وبقتلهم أنبياءهم بغير حق، وقد جاءوهم بالخوارق التي طلبوها، وجاءوهم بالبينات فرفضوها‏.‏

وهذا الكشف المخجل لأفاعيل اليهود مع أنبيائهم، وأقاويلهم على ربهم، كان هو الأمر الذي يقتضيه سوء موقفهم من الجماعة المسلمة، وتأثير كيدهم ودسهم وإيذائهم- هم والمشركون- للمسلمين‏.‏ كما كانت تقتضيه تربية الله للجماعة المسلمة تربية واعية؛ تبصرهم بما حولهم، وبمن حولهم‏;‏ وتعرفهم طبيعة الأرض التي يعملون فيها، وطبيعة العقبات والفخاخ المنصوبة لهم، وطبيعة الآلام والتضحيات المرصودة لهم في الطريق‏.‏‏.‏ وقد كان الكيد اليهودي للجماعة المسلمة في المدينة أقسى وأخطر من عداوة المشركين لهم في مكة‏.‏ ولعله ما يزال أخطر ما يرصد للجماعات المسلمة في كل مكان، على مدار التاريخ‏.‏‏.‏

ومن ثم نجد التوجيهات الربانية تتوالى على المسلمين في ثنايا الاستعراض المثير‏.‏‏.‏ نجد توجيههم إلى حقيقة القيم الباقية والقيم الزائلة‏.‏ فالحياة في هذه الأرض محدودة بأجل‏.‏ وكل نفس ذائقة الموت على كل حال‏.‏ إنما الجزاء هناك، والكسب والخسارة هناك‏.‏ ‏{‏فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز‏.‏ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور‏}‏‏.‏‏.‏ وهم مبتلون في أموالهم وأنفسهم، والأذى سينالهم من أعدائهم المشركين وأهل الكتاب‏.‏ فلا عاصم لهم إلا الصبر والتقوى، والمضي مع المنهج، الذي يزحزحهم عن النار‏!‏

وهذا التوجيه الإلهي للجماعة المسلمة في المدينة ما يزال هو هو، قائماً اليوم وغداً، يبصر كل جماعة مسلمة تعتزم سلوك الطريق، لإعادة نشأة الإسلام ولاستئناف حياة إسلامية في ظل الله‏.‏‏.‏ يبصرها بطبيعة أعدائها- وهم هم مشركين وملحدين وأهل كتاب- الصهيونية العالمية والصليبية العالمية والشيوعية‏!‏- ويبصرها بطبيعة العقبات والفخاخ المرصودة في طريقها، وبطبيعة الآلام والتضحيات والأذى والابتلاء‏.‏ ويعلق قلوبها وأبصارها بما هنالك‏.‏ بما عند الله‏.‏ ويهوّن عليها الأذى والموت والفتنة في النفس والمال‏.‏ ويناديها- كما نادى الجماعة المسلمة الأولى-‏:‏ ‏{‏كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة‏.‏ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز‏.‏ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور‏.‏ لتبلون في أموالكم وأنفسكم؛ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً‏.‏ وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور‏}‏‏.‏‏.‏

والقرآن هو القرآن‏.‏ كتاب هذه الأمة الخالد‏.‏ ودستورها الشامل‏.‏ وحاديها الهادي‏.‏ وقائدها الأمين‏.‏ وأعداؤها هم أعداؤها‏.‏‏.‏ والطريق هو الطريق‏.‏‏.‏

‏{‏ولا يحسبن الذي يبخلون بما أتاهم الله من فضله هو خيراً لهم، بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة‏.‏ ولله ميراث السماوات والأرض، والله بما تعملون خبير‏.‏

لقد سمع الله قول الذين قالوا‏:‏ إن الله فقير ونحن أغنياء‏.‏ سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق‏.‏ ذلك بما قدمت أيديكم، وأن الله ليس بظلام للعبيد‏.‏ الذين قالوا‏:‏ إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار‏.‏ قل‏:‏ قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم، فلم قتلتموهم، إن كنتم صادقين‏؟‏ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير‏}‏‏.‏‏.‏

لم ترد في الآية الأولى من هذه المجموعة رواية مؤكدة، عمن تعنيهم، ومن تحذرهم البخل، وعاقبة يوم القيامة‏.‏‏.‏ ولكن ورودها في هذا السياق يرجح أنها متصلة بما بعدها من الآيات، في شأن اليهود‏.‏ فهم- قبحهم الله- الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء‏.‏ وهم الذين قالوا‏:‏ إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار‏.‏

والظاهر أن الآيات في عمومها نزلت بمناسبة دعوة اليهود إلى الوفاء بالتزاماتهم المالية الناشئة عن معاهدتهم مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- ودعوتهم كذلك إلى الإيمان بالرسول- صلى الله عليه وسلم- والإنفاق في سبيل الله‏.‏

وقد نزل هذا التحذير التهديدي، مع فضح تعلات اليهود في عدم الإيمان بمحمد- صلى الله عليه وسلم- رداً على ما بدا من سوء أدبهم مع ربهم، ومن كذب تعلاتهم؛ ونزلت معه المواساة للرسول- صلى الله عليه وسلم- عن تكذيبهم، بما وقع للرسل قبله مع أقوامهم‏.‏ ومنهم أنبياء بني إسرائيل، الذي قتلوهم بعد ما جاءوهم بالبينات والخوارق كما هو معروف في تاريخ بني إسرائيل‏:‏

‏{‏ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم، بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة‏.‏ ولله ميراث السماوات والأرض‏.‏ والله بما تعملون خبير‏}‏‏.‏‏.‏

إن مدلول الآية عام‏.‏ فهو يشمل اليهود الذين بخلوا بالوفاء بتعهداتهم، كما يشمل غيرهم ممن يبخلون بما آتاهم الله من فضله؛ ويحسبون أن هذا البخل خير لهم، يحفظ لهم أموالهم، فلا تذهب بالإنفاق‏.‏

والنص القرآني ينهاهم عن هذا الحسبان الكاذب؛ ويقرر أن ما كنزوه سيطوقونه يوم القيامة ناراً‏.‏‏.‏ وهو تهديد مفزع‏.‏‏.‏ والتعبير يزيد هذا البخل شناعة حين يذكر أنهم ‏{‏يبخلون بما آتاهم الله من فضله‏}‏‏.‏‏.‏ فهم لا يبخلون بمال أصيل لهم‏.‏ فقد جاءوا إلى هذه الحياة لا يملكون شيئاً‏.‏‏.‏ ولا جلودهم‏.‏‏.‏ ‏!‏ فآتاهم الله من فضله فأغناهم‏.‏ حتى إذا طلب إليهم أن ينفقوا ‏{‏من فضله‏}‏ شيئاً لم يذكروا فضل الله عليهم‏.‏ وبخلوا بالقليل، وحسبوا أن في كنزه خيراً لهم‏.‏ وهو شر فظيع‏.‏ وهم- بعد هذا كله- ذاهبون وتاركوه وراءهم‏.‏ فالله هو الوارث‏:‏ ‏{‏ولله ميراث السماوات والأرض‏}‏‏.‏‏.‏ فهذا الكنز إلى أمد قصير‏.‏ ثم يعود كله إلى الله‏.‏

ولا يبقى لهم منه إلا القدر الذي أنفقوه ابتغاء مرضاته‏.‏ فيبقى مدخراً لهم عنده، بدلاً من أن يطوقهم إياه يوم القيامة‏!‏

ثم يندد باليهود الذين وجدوا في أيديهم المال- الذي آتاهم الله من فضله- فحسبوا أنفسهم أغنياء عن الله، لا حاجة بهم إلى جزائه، ولا إلى الأضعاف المضاعفة التي يعدها لمن يبذل في سبيله- وهو ما يسميه تفضلاً منه ومنة إقراضاً له سبحانه- وقالوا في وقاحة‏:‏ ما بال الله يطلب الينا أن نقرضه من مالنا‏.‏ ويعطينا عليه الأضعاف المضاعفة، وهو ينهى عن الربا والأضعاف المضاعفة‏؟‏‏!‏ وهو تلاعب بالألفاظ ينم عن القحة وسوء الأدب في حق الله‏:‏

‏{‏لقد سمع الله قول الذين قالوا‏:‏ إن الله فقير ونحن أغنياء‏.‏ سنكتب ما قالوا‏!‏ وقتلهم الأنبياء بغير حق، ونقول ذوقوا عذاب الحريق‏.‏ ذلك بما قدمت أيديكم، وأن الله ليس بظلام للعبيد‏}‏‏.‏

وسوء تصور اليهود للحقيقة الإلهية شائع في كتبهم المحرفة‏.‏ ولكن هذه تبلغ مبلغاً عظيماً من سوء التصور ومن سوء الأدب معاً‏.‏‏.‏ ومن ثم يستحقون هذا التهديد المتلاحق‏:‏

‏{‏سنكتب ما قالوا‏}‏‏.‏‏.‏

لنحاسبهم عليه، فما هو بمتروك ولا منسي ولا مهمل‏.‏‏.‏ وإلى جانبه تسجيل آثامهم السابقة- وهي آثام جنسهم وأجيالهم متضامنة فيه- فكلهم جبلة واحدة في المعصية والإثم‏:‏

‏{‏وقتلهم الأنبياء بغير حق‏}‏‏.‏‏.‏

وقد حفظ تاريخ بني إسرائيل سلسلة أثيمة في قتل الأنبياء، آخرها محاولتهم قتل المسيح عليه السلام‏.‏‏.‏ وهم يزعمون أنهم قتلوه، متباهين بهذا الجرم العظيم‏.‏‏.‏ ‏!‏

‏{‏ونقول ذوقوا عذاب الحريق‏}‏‏.‏‏.‏

والنص على ‏{‏الحريق‏}‏ هنا مقصود لتبشيع ذلك العذاب وتفظيعه‏.‏ ولتجسيم مشهد العذاب بهوله وتأججه وضرامه‏.‏‏.‏ جزاء على الفعلة الشنيعة‏:‏ قتل الأنبياء بغير حق‏.‏ وجزاء على القولة الشنيعة‏:‏ إن الله فقير ونحن أغنياء‏.‏

‏{‏ذلك بما قدمت أيديكم‏}‏‏.‏‏.‏

جزاء وفاقاً، لا ظلم فيه، ولا قسوة‏:‏

‏{‏وأن الله ليس بظلام للعبيد‏}‏‏.‏‏.‏

والتعبير بالعبيد هنا، إبراز لحقيقة وضعهم- وهم عبيد من العبيد- بالقياس إلى الله تعالى‏.‏ وهو يزيد في شناعة الجرم‏.‏ وفظاعة سوء الأدب‏.‏ الذي يتجلى في قول العبيد‏:‏ ‏{‏إن الله فقير ونحن أغنياء‏}‏ والذي يتجلى كذلك في قتل الأنبياء‏.‏‏.‏

هؤلاء الذين قالوا‏:‏ إن الله فقير ونحن أغنياء، والذين قتلوا الأنبياء‏.‏‏.‏ هم الذين يزعمون أنهم لا يؤمنون بمحمد- محمد صلى الله عليه وسلم- لأن الله عهد إليهم- بزعمهم- ألا يؤمنوا لرسول، حتى يأتيهم بقربان يقدمونه، فتقع المعجزة، وتبهط نار تأكله، على نحو ما كانت معجزة بعض أنبياء بني إسرائيل‏.‏ وما دام محمد لم يقدم لهم هذه المعجزة فهم على عهد مع الله‏!‏‏!‏

هنا يجبههم القرآن بواقعهم التاريخي‏.‏‏.‏ لقد قتلوا هؤلاء الأنبياء الذين جاءوهم بالخوارق التي طلبوها وجاءوهم بآيات الله بينات‏:‏

‏{‏الذين قالوا‏:‏ إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول، حتى يأتينا بقربان تأكله النار‏.‏

قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم، فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين‏؟‏‏}‏‏.‏

وهي مجابهة قوية، تكشف عن كذبهم والتوائهم وإصرارهم على الكفر، وتبجحهم بعد ذلك وافترائهم على الله‏!‏

وهنا يلتفت إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- مسلياً مواسياً، مهوناً عليه ما يلقاه منهم، وهو ما لقيه إخوانه الكرام من الرسل على توالي العصور‏:‏

‏{‏فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك، جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير‏}‏‏.‏

فما هو أول رسول يتلقى بالتكذيب‏.‏ والأجيال المتعاقبة- وبخاصة من بني إسرائيل- تلقوا بالتكذيب رسلاً جاءوهم بالبينات والخوارق، وجاءوهم بالصحائف المتضمنة للتوجيهات الإلهية- وهي الزبر- وجاءوهم بالكتاب المنير كالتوراة والإنجيل‏.‏‏.‏ فهذا هو طريق الرسل والرسالات‏.‏‏.‏ وما فيه من عناء ومشقة‏.‏ وهو وحده الطريق‏.‏

بعد ذلك يتجه السياق إلى الجماعة المسلمة؛ يحدثها عن القيم التي ينبغي لها أن تحرص عليها، وتضحي من أجلها؛ ويحدثها عن أشواك الطريق ومتاعبها وآلامها، ويهيب بها إلى الصبر والتقوى والعزم والاحتمال‏:‏

‏{‏كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور‏.‏ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور‏}‏‏.‏‏.‏

إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس‏:‏ حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة، محدودة بأجل؛ ثم تأتي نهايتها حتماً‏.‏‏.‏ يموت الصالحون يموت الطالحون‏.‏ يموت المجاهدون ويموت القاعدون‏.‏ يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد‏.‏ يموت الشجعان الذين يأبون الضيم، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن‏.‏‏.‏ يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص‏.‏

الكل يموت‏.‏‏.‏ ‏{‏كل نفس ذائقة الموت‏}‏‏.‏‏.‏ كل نفس تذوق هذه الجرعة، وتفارق هذه الحياة‏.‏‏.‏ لا فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع‏.‏ إنما الفارق في شيء آخر‏.‏

الفارق في قيمة أخرى‏.‏ الفارق في المصير الأخير‏:‏

‏{‏وإنما توفون أجوركم يوم القيامة‏.‏ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز‏}‏‏.‏‏.‏

هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق‏.‏ وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان‏.‏ القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد‏.‏ والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب‏:‏

‏{‏فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز‏}‏‏.‏‏.‏

ولفظ ‏{‏زحزح‏}‏ بذاته يصور معناه بجرسه، ويرسم هيئته، ويلقي ظله‏!‏ وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها، ويدخل في مجالها‏!‏ فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلاً قليلاً ليخلصه من جاذبيتها المنهومة‏!‏ فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها، ويستنقذ من جاذبيتها، ويدخل الجنة‏.‏

‏.‏ فقد فاز‏.‏‏.‏

صورة قوية‏.‏ بل مشهد حي‏.‏ فيه حركة وشد وجذب‏!‏ وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته‏.‏ فللنار جاذبية‏!‏ أليست للمعصية جاذبية‏؟‏ أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية‏؟‏ بلى‏!‏ وهذه هي زحزحتها عن النار‏!‏ أليس الإنسان- حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة- يظل أبداً مقصراً في العمل‏.‏‏.‏ إلا أن يدركه فضل الله‏؟‏ بلى‏!‏ وهذه هي الزحزحة عن النار؛ حين يدرك الإنسان فضل الله، فيزحزحه عن النار‏!‏

‏{‏وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور‏}‏‏.‏‏.‏

إنها متاع‏.‏ ولكنه ليس متاع الحقيقة، ولا متاع الصحو واليقظة‏.‏‏.‏ إنها متاع الغرور‏.‏ المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعاً‏.‏ أو المتاع الذي ينشئ الغرور والخداع‏!‏ فأما المتاع الحق‏.‏ المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله‏.‏‏.‏ فهو ذاك‏.‏‏.‏ هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن النار‏.‏

وعندما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس‏.‏ عندما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة- إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال- وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل‏.‏‏.‏ عندئذ يحدث الله المؤمنين عما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس‏.‏ وقد استعدت نفوسهم للبلاء‏:‏

‏{‏لتبلون في أموالكم وأنفسكم، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً‏.‏ وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور‏}‏‏.‏‏.‏

إنها سنة العقائد والدعوات‏.‏ لا بد من بلاء، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام‏.‏

إنه الطريق إلى الجنة‏.‏ وقد حفت الجنة بالمكاره‏.‏ بينما حفت النار بالشهوات‏.‏

ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره، لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة، وتنهض بتكاليفها‏.‏ طريق التربية لهذه الجماعة؛ وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال‏.‏ وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف؛ والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة‏.‏

ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عوداً‏.‏ فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها‏.‏‏.‏ فهم عليها مؤتمنون‏.‏

وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال‏.‏ فلا يفرطوا فيها بعد ذلك، مهما تكن الأحوال‏.‏

وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة‏.‏ فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة، وتنميها وتجمعها وتوجهها‏.‏ والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى، لتتأصل جذورها وتتعمق؛ وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة‏.‏‏.‏

وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم؛ وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية‏.‏ ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها‏.‏ وحقيقة الجماعات والمجتمعات‏.‏ وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم، مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس‏.‏ ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطريق، ومسارب الضلال‏!‏

ثم‏.‏

‏.‏ لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير، ولا بد فيها من سر، يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون‏.‏‏.‏ فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها‏.‏‏.‏ أفواجاً‏.‏‏.‏ في نهاية المطاف‏!‏

إنها سنة الدعوات‏.‏ وما يصبر على ما فيها من مشقة؛ ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله، فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء؛ ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد‏.‏‏.‏ ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء‏:‏

‏{‏وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام‏.‏ وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال‏.‏ من أهل الكتاب من حولها‏.‏ ومن المشركين أعدائها‏.‏‏.‏ ولكنها سارت في الطريق‏.‏ لم تتخاذل، ولم تتراجع ولم تنكص على أعقابها‏.‏‏.‏ لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت‏.‏ وأن توفية الأجور يوم القيامة‏.‏ وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز‏.‏ وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور‏.‏‏.‏ على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف؛ وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو‏.‏‏.‏ والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان‏.‏ والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان‏.‏ وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها تتوالى القرون والأجيال؛ وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال‏.‏‏.‏ والقرآن هو القرآن‏.‏‏.‏

وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان؛ وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة، ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوّماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها‏.‏‏.‏ ولكن القاعدة واحدة‏:‏ ‏{‏لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً‏}‏ ‏!‏

ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين؛ وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك‏.‏ أحياناً في أصول الدعوة وحقيقتها، وأحياناً في أصحابها وقيادتها‏.‏ وهذه الصور تتجدد مع الزمان‏.‏ وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة، وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية، وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية‏.‏ فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف الله عنها للجماعة المسلمة الأولى، وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق، وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق‏.‏‏.‏

ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيداً للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة، وأن تحاول تحقيق منهج الله في الأرض؛ فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة، ووسائل الدعاية الحديثة، لتشويه أهدافها، وتمزيق أوصالها‏.‏‏.‏ يبقى هذا التوجيه القرآني حاضراً يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة، وطبيعة طريقها‏.‏ وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق‏.‏ ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله ذاك؛ فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى، وحين تعوي حولها بالدعاية، وحين يصيبها الابتلاء والفتنة‏.‏‏.‏ أنها سائرة في الطريق، وأنها ترى معالم الطريق‏!‏

ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي‏.‏

‏.‏ تستبشر بهذا كله، لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل‏.‏ وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق‏.‏ ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى؛ وتمضي في طريقها الموعود، إلى الأمل المنشود‏.‏‏.‏ في صبر وفي تقوى‏.‏‏.‏ وفي عزم أكيد‏.‏‏.‏

ثم يمضي السياق القرآني يفضح موقف أهل الكتاب في مخالفتهم عن عهد الله معهم يوم آتاهم الكتاب‏.‏ ونبذهم له‏.‏ وكتمانهم لما ائتمنهم عليه منه، حين يسألون عنه‏:‏

‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب‏:‏ لتبينَّنه للناس ولا تكتمونه‏.‏ فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً‏.‏ فبئس ما يشترون‏}‏ ‏!‏

وقد تضمن سياق السورة الكثير من أفاعيل أهل الكتاب وأقاويلهم- وبخاصة اليهود- وأبرز هذه الأفاعيل والأقاويل كتمانهم للحق الذي يعلمونه، ولبسه بالباطل، لإحداث البلبلة والاضطراب في مفهوم الدين، وفي صحة الإسلام، وفي وحدة الأسس والمبادئ بينه وبين الأديان قبله، وفي تصديقه لها وتصديقها له‏.‏‏.‏ وكانت التوراة بين أيديهم يعلمون منها أن ما جاء به محمد حق؛ وأنه من ذات المصدر الذي جاءتهم منه التوارة‏.‏‏.‏

فالآن يبدو هذا الموقف منهم بشعاً غاية البشاعة؛ حين ينكشف أيضاً أن الله- سبحانه- قد أخذ عليهم العهد- وهو يعطيهم الكتاب- أن يبينوه للناس، ويبلغوه، ولا يكتموه أو يخفوه‏.‏ وأنهم نبذوا هذا العهد مع الله- والتعبير يجسم إهمالهم وإخلافهم للعهد؛ فيمثله في حركة‏:‏

‏{‏فنبذوه وراء ظهورهم‏}‏ ‏!‏

وأنهم فعلوا هذه الفعلة الفاضحة، ابتغاء ثمن قليل‏:‏

‏{‏واشتروا به ثمناً قليلاً‏}‏‏.‏

هو عرض من أعراض هذه الأرض، ومصلحة شخصية للأحبار أو قومية لليهود‏!‏ وكله ثمن قليل، ولو كان ملك الأرض كلها طوال الدهور‏!‏ فما أقل هذا الثمن ثمناً لعهد الله‏!‏ وما أقل هذا المتاع متاعاً حين يقاس بما عند الله‏!‏

‏{‏فبئس ما يشترون‏}‏ ‏!‏

وقد ورد في رواية للبخاري- بإسناده- عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه» وأنه في هذا نزلت آية‏:‏

‏{‏ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

وفي رواية أخرى للبخاري- بإسناده- عن أبي سعيد الخدري، أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كانوا إذا خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الغزو وتخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإذا قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا‏.‏

فنزلت‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ومسألة نزول آية بعينها في مسألة بعينها ليست قطعية في هذا‏.‏ فكثيراً ما يكون الذي وقع هو الاستشهاد بالآية على حادثة بعينها‏.‏ فيروى أنها نزلت فيها‏.‏ أو تكون الآية منطبقة على الحادثة فيقال كذلك‏:‏ إنها نزلت فيها‏.‏‏.‏ ومن ثم لا نجزم في الروايتين بقول‏.‏

فأما إذا كانت الأولى، فهناك مناسبة في السياق عن أهل الكتاب، وكتمانهم لما ائتمنهم الله عليه من الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه‏.‏ ثم هم يكتمونه‏.‏ ويقولون غير الحق ويمضون في الكذب والخداع، حتى ليطلبوا أن يحمدوا على بيانهم الكاذب وردهم المفتري‏!‏

وأما إذا كانت الثانية، ففي سياق السورة حديث عن المنافقين يصلح أن تلحق به هذه الآية‏.‏ وهي تصور نموذجاً من الناس يوجد على عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويوجد في كل جماعة‏.‏ نموذج الرجال الذين يعجزون عن احتمال تبعة الرأي، وتكاليف العقيدة، فيقعدون متخلفين عن الكفاح‏.‏ فإن غُلب المكافحون وهزموا رفعوا هم رؤوسهم وشمخوا بأنوفهم ونسبوا إلى أنفسهم التعقل والحصافة والأناة‏.‏‏.‏ أما إذا انتصر المكافحون وغنموا، فإن أصحابنا هؤلاء يتظاهرون بأنهم كانوا من مؤيدي خطتهم؛ وينتحلون لأنفسهم يداً في النصر، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا‏!‏

إنه نموذج من نماذج البشرية يقتات الجبن والادعاء‏.‏ نموذج يرسمه التعبير القرآني في لمسة أو لمستين‏.‏ فإذا ملامحه واضحة للعيان، وسماته خالدة في الزمان‏.‏‏.‏ وتلك طريقة القرآن‏.‏

هؤلاء الناس يؤكد الله للرسول- صلى الله عليه وسلم- أنهم لا نجاة لهم من العذاب‏.‏ وأن الذي ينتظرهم عذاب أليم لا مفر لهم منه ولا معين‏:‏

‏{‏فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم‏}‏‏.‏

والذي يتوعدهم به هو الله‏.‏ مالك السماوات والأرض‏.‏ القادر على كل شيء‏.‏ فأين المفازة إذن‏؟‏ وكيف النجاة‏؟‏

‏{‏ولله ملك السماوات والأرض، والله على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏190- 200‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏190‏)‏ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏191‏)‏ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏192‏)‏ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ‏(‏193‏)‏ رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏194‏)‏ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ‏(‏195‏)‏ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ‏(‏196‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏197‏)‏ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ‏(‏198‏)‏ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏199‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏200‏)‏‏}‏

هذا هو الدرس الأخير في السورة التي ضمت ذلك الحشد الضخم الذي استعرضناه‏:‏ من مقوّمات التصور الإسلامي‏.‏ وتقرير هذه المقوّمات وتجليتها من الغبش واللبس في الجدل مع أهل الكتاب، ثم في الجدل مع المنافقين والمشركين، وبيان طبيعة هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في الأنفس والأموال‏.‏ وتعليم الجماعة المسلمة كيف تنهض بهذه التكاليف، وكيف تستقبل الابتلاء بالسراء والضراء، وكيف تتجرد لهذه العقيدة وتكاليفها الضخمة في الأنفس والأموال‏.‏‏.‏ إلى آخر ما ضمه سياق السورة، واستعرضناه في الجزئين الثالث والرابع من هذه الظلال‏.‏‏.‏

فالآن يجيء هذا الإيقاع الأخير في السورة- أو هذه الإيقاعات الأخيرة- متناسقة في موضوعها وفي أسلوبها مع ذلك الحشد من الإيقاعات من ناحية الموضوع ومن ناحية الأداء

تجيء بحقيقة عميقة‏:‏ إن هذا الكون بذاته كتاب مفتوح، يحمل بذاته دلائل الإيمان وآياته‏;‏ ويشي وراءه من يد تدبره بحكمة‏;‏ ويوحي بأن وراء هذه الحياة الدنيا آخرة وحساباً وجزاء إنما يدرك هذه الدلائل ويقرأ هذه الآيات ويرى هذه الحكمة، ويسمع هذه الإيحاءات ‏{‏أولو الألباب‏}‏ من الناس، الذين لا يمرون بهذا الكتاب المفتوح وبهذه الآيات الباهرة مغمضي الأعين غير واعين‏!‏

وهذه الحقيقة تمثل أحد مقومات التصور الإسلامي عن هذا «الكون» والصلة الوثيقة بينه وبين فطرة «الإنسان» والتفاهم الداخلي الوثيق بين فطرة الكون وفطرة الإنسان‏;‏ ودلالة هذا الكون بذاته على خالقه من جهة‏;‏ وعلى الناموس الذي يصرّفه وما يصاحبه من «غاية» و«حكمة» و«قصد» من جهة أخرى‏.‏‏.‏ وهي ذات أهمية بالغة في تقرير موقف «الإنسان» من «الكون» و«إله» الكون سبحانه وتعالى‏.‏ فهي ركيزة من ركائز التصور الإسلامي للوجود‏.‏

يلي هذه الحقيقة في سياق الدرس استجابة الله ‏{‏لأولي الألباب‏}‏ وقد توجهوا إليه سبحانه بدعاء خاشع منيب؛ وهم يتدبرون كتاب الكون المفتوح، ويتأملون ما ينطق به من الآيات، وما يوحي به من الغايات‏.‏‏.‏ استجابته لهم استجابة توجيهية إلى العمل والجهاد والتضحية والصبر، والنهوض بتكاليف هذا الإيمان، الذي ثابوا به من جولتهم الخاشعة في كتاب الكون المفتوح‏.‏‏.‏ مع التهوين من شأن الذين كفروا وما قد يستمتعون به من أعراض هذه الحياة‏.‏ وإبراز القيم الباقية في الجزاء الأخروي، التي ينبغي أن يحفل بها المؤمنون الأبرار‏.‏

وعطفاً على الحديث الطويل في السورة عن أهل الكتاب ومواقفهم من المؤمنين، يرد هنا في هذا القطاع الأخير ذكر الفريق المؤمن، وجزاؤه المناسب، ويبرز من صفاتهم صفة الخشوع، التي تتناسق مع مشهد أولي الألباب أمام كتاب الكون المفتوح، ودعائهم الخاشع المنيب‏.‏ وصفة الحياء من الله أن يشتروا بآياته ثمناً قليلاً، كأولئك الذين كفروا من أهل الكتاب وتقدم وصفهم في السورة‏.‏

ثم تجيء الآية الخاتمة تلخص التوجيهات الإلهية للجماعة المسلمة، وتمثل خصائصها المطلوبة، وتكاليفها المحددة، والتي بها يكون الفلاح‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اصبروا، وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله، لعلكم تفلحون‏}‏‏.‏‏.‏

وهو ختام يناسب محور السورة الأصيل، وموضوعاتها الرئيسية، ويتسق معها كل الاتساق‏.‏ ‏{‏إن في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، لآيات لأولي الألباب‏.‏ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض‏:‏ ربنا ما خلقت هذا باطلاً‏.‏ سبحانك‏!‏ فقنا عذاب النار‏.‏ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته، وما للظالمين من أنصار‏.‏ ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان‏:‏ أن آمنوا بربكم‏.‏ فآمنا‏.‏ ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار‏.‏ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

ما الآيات التي في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار‏؟‏ ما الآيات التي تتراءى لأولي الألباب عندما يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، وهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم‏؟‏ وما علاقة التفكر في هذه الآيات بذكرهم الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم‏؟‏ وكيف ينتهون من التفكر فيها إلى هذا الدعاء الخاشع الواجف‏:‏

‏{‏ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك‏!‏ فقنا عذاب النار‏}‏‏.‏‏.‏

إلى نهاية ذلك الدعاء‏؟‏

إن التعبير يرسم هنا صورة حية من الاستقبال السليم للمؤثرات الكونية في الإدراك السليم‏.‏ وصورة حية من الاستجابة السليمة لهذه المؤثرات المعروضة للأنظار والأفكار في صميم الكون، بالليل والنهار‏.‏

والقرآن يوجه القلوب والأنظار توجيهاً مكرراً مؤكداً إلى هذا الكتاب المفتوح؛ الذي لا تفتأ صفحاته تقلب، فتتبدى في كل صفحة آية موحية، تستجيش في الفطرة السليمة إحساساً بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب، وفي «تصميم» هذا البناء، ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الخلق، ومودعه هذا الحق مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان‏!‏‏!‏‏!‏ وأولو الألباب‏.‏‏.‏ أولو الإدراك الصحيح‏.‏‏.‏ يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية؛ ولا يقيمون الحواجز، ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات‏.‏ ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فتتفتح بصائرهم، وتشف مداركهم، وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله إياه، وتدرك غاية وجوده، وعلة نشأته، وقوام فطرته‏.‏ بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود‏.‏

ومشهد السماوات والأرض، ومشهد اختلاف الليل والنهار‏.‏ لو فتحنا له بصائرنا وقلوبنا وإدراكنا‏.‏ لو تلقيناه كمشهد جديد تتفتح عليه العيون أول مرة‏.‏ لو استنقذنا حسنا من همود الإلف، وخمود التكرار‏.‏‏.‏ لارتعشت له رؤانا، ولاهتزت له مشاعرنا، ولأحسسنا أن وراء ما فيه من تناسق لا بد من يد تنسق؛ ووراء ما فيه من نظام لا بد من عقل يدبر؛ ووراء ما فيه من إحكام لا بد من ناموس لا يتخلف‏.‏

‏.‏ وأن هذا كله لا يمكن أن يكون خداعاً ولا يمكن أن يكون جزافاً، ولا يمكن أن يكون باطلاً‏.‏

ولا ينقص من اهتزازنا للمشهد الكوني الرائع أن نعرف أن الليل والنهار، ظاهرتان ناشئتان من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس‏.‏ ولا أن تناسق السماوات والأرض مرتكز إلى «الجاذبية» أو غير الجاذبية‏.‏ هذه فروض تصح أو لا تصح، وهي في كلتا الحالتين لا تقدم ولا تؤخر في استقبال هذه العجيبة الكونية، واستقبال النواميس الهائلة الدقيقة التي تحكمها وتحفظها‏.‏‏.‏ وهذه النواميس- أياً كان اسمها عند الباحثين من بني الإنسان- هي آية القدرة، وآية الحق، في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار‏.‏

والسياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشئها استقبال مشهد السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الألباب تصويراً دقيقاً، وهو في الوقت ذاته تصوير إيحائي، يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح، في التعامل مع الكون، وفي التخاطب معه بلغته، والتجاوب مع فطرته وحقيقته والانطباع بإشاراته وإيحاءاته‏.‏ ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب «معرفة» للإنسان المؤمن الموصول بالله، وبما تبدعه يد الله‏.‏

وإنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته‏:‏ ‏{‏قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم‏}‏‏.‏‏.‏ وبين التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار‏.‏‏.‏ فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة، ويجعله جانباً من مشهد الذكر‏.‏‏.‏ فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين‏.‏

الحقيقة الأولى‏:‏ أن التفكر في خلق الله، والتدبر في كتاب الكون المفتوح، وتتبع يد الله المبدعة، وهي تحرك هذا الكون، وتقلب صفحات هذا الكتاب‏.‏‏.‏ هو عبادة لله من صميم العبادة، وذكر لله من صميم الذكر‏.‏ ولو اتصلت العلوم الكونية، التي تبحث في تصميم الكون وفي نواميسه وسننه، وفي قواه ومدخراته، وفي أسراره وطاقاته‏.‏‏.‏ لو اتصلت هذه العلوم بتذكر خالق هذا الكون وذكره، والشعور بجلاله وفضله‏.‏ لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة‏.‏ ولاستقامت الحياة- بهذه العلوم- واتجهت إلى الله‏.‏ ولكن الاتجاه المادي الكافر، يقطع ما بين الكون وخالقه، ويقطع ما بين العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية؛ ومن هنا يتحول العلم- أجمل هبة من الله للإنسان- لعنة تطارد الإنسان، وتحيل حياته إلى جحيم منكرة، وإلى حياة قلقة مهددة، وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار‏!‏

والحقيقة الثانية‏:‏ أن آيات الله في الكون، لا تتجلى على حقيقتها الموحية، إلا للقلوب الذاكرة العابدة‏.‏ وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم- وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار- هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح‏.‏

‏.‏ فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا، ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية- بدون هذا الاتصال- فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار، ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد، وإلى قلق خانق‏.‏ ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف‏!‏

فهما أمران متلازمان، تعرضهما هذه الصورة التي يرسمها القرآن لأولي الألباب في لحظة الاستقبال والاستجابة والاتصال‏.‏

إنها لحظة تمثل صفاء القلب، وشفافية الروح، وتفتح الإدراك، واستعداده للتلقي‏.‏ كما تمثل الاستجابة والتأثر والانطباع‏.‏‏.‏

إنها لحظة العبادة‏.‏‏.‏ وهي بهذا الوصف لحظة اتصال، ولحظة استقبال‏.‏ فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر؛ وأن يكون مجرد التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، ملهما للحقيقة الكامنة فيها، ولإدراك أنها لم تخلق عبثاً ولا باطلاً‏.‏ ومن ثم تكون الحصيلة المباشرة، للخطة الواصلة‏.‏

‏{‏ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

ما خلقت هذا الكون ليكون باطلاً‏.‏ ولكن ليكون حقاً‏.‏ الحق قوامه‏.‏ والحق قانونه‏.‏ والحق أصيل فيه‏.‏ إن لهذا الكون حقيقة، فهو ليس «عدماً» كما تقول بعض الفلسفات‏!‏ وهو يسير وفق ناموس، فليس متروكاً للفوضى‏.‏ وهو يمضي لغاية، فليس متروكاً للمصادفة‏.‏ وهو محكوم في وجوده وفي حركته وفي غايته بالحق لا يتلبس به الباطل‏.‏

هذه هي اللمسة الأولى، التي تمس قلوب «أولي الألباب» من التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بشعور العبادة والذكر والاتصال‏.‏ وهي اللمسة التي تطبع حسهم بالحق الأصيل في تصميم هذا الكون، فتطلق ألسنتهم بتسبيح الله وتنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلاً‏:‏

‏{‏ربنا ما خلقت هذا باطلاً‏.‏ سبحانك‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

ثم تتوالى الحركات النفسية، تجاه لمسات الكون وإيحاءاته‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ فقنا عذاب النار‏.‏ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته‏.‏ وما للظالمين من أنصار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

فما العلاقة الوجدانية، بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق، وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار‏؟‏

إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره، معناه عند- أولي الألباب- أن هناك تقديراً وتدبيراً وأن هناك حكمة وغاية، وأن هناك حقاً وعدلاً وراء حياة الناس في هذا الكوكب‏.‏ ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال‏.‏ ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء‏.‏

فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة، تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع‏.‏ لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار، فيكون الدعاء إلى الله أن يقيهم منها، هو الخاطر الأول، المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود‏.‏‏.‏ وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر‏.‏

‏.‏ ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء الطويل، الخاشع الواجف الراجف المنيب، ذي النغم العذب، والإيقاع المنساب، والحرارة البادية في المقاطع والأنغام‏!‏

ولا بد من وقفة أمام الرجفة الأولى وهم يتجهون إلى ربهم ليقيهم عذاب النار‏.‏‏.‏ لا بد من وقفة أمام قولهم‏:‏ ‏{‏ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وما للظالمين من أنصار‏}‏‏.‏‏.‏

إنها تشي بأن خوفهم من النار، إنما هو خوف- قبل كل شيء- من الخزي الذي يصيب أهل النار‏.‏‏.‏ وهذه الرجفة التي تصيبهم هي أولاً رجفة الحياء من الخزي الذي ينال أهل النار‏.‏ فهي ارتجافة باعثها الأكبر الحياء من الله، فهم أشد حساسية به من لذع النار‏!‏ كما أنها تشي بشعور القوي بأنه لا ناصر من الله، وأن الظالمين ما لهم من أنصار‏.‏‏.‏

ثم نمضي مع الدعاء الخاشع الطويل‏:‏

‏{‏ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم‏.‏ فآمنا‏.‏ ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار‏}‏‏.‏‏.‏

فهي قلوب مفتوحة؛ ما إن تتلقى حتى تستجيب‏.‏ وحتى تستيقظ فيها الحساسية الشديدة، فتبحث أول ما تبحث عن تقصيرها وذنوبها ومعصيتها، فتتجه إلى ربها تطلب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات، والوفاة مع الأبرار‏.‏

ويتسق ظل هذه الفقرة في الدعاء مع ظلال السورة كلها، في الاتجاه إلى الاستغفار والتطهر من الذنب والمعصية، في المعركة الشاملة مع شهوات النفس ومع الذنب والخطيئة‏.‏ المعركة التي يتوقف على الانتصار فيها ابتداء كل انتصار في معارك الميدان، مع أعداء الله وأعداء الإيمان‏.‏‏.‏ والسورة كلها وحدة متكاملة متناسقة الإيقاعات والظلال‏.‏

وختام هذا الدعاء‏.‏ توجه ورجاء‏.‏ واعتماد واستمداد من الثقة بوفاء الله بالميعاد‏:‏

‏{‏ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد‏}‏‏.‏‏.‏

فهو استنجاز لوعد الله، الذي بلغته الرسل، وثقة بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد، ورجاء في الإعفاء من الخزي يوم القيامة، يتصل بالرجفة الأولى في هذا الدعاء، ويدل على شدة الخوف من هذا الخزي، وشدة تذكره واستحضاره في مطلع الدعاء وفي ختامه‏.‏ مما يشي بحساسية هذه القلوب ورقتها وشفافيتها وتقواها وحيائها من الله‏.‏

والدعاء في مجموعه يمثل الاستجابة الصادقة العميقة، لإيحاء هذا الكون وإيقاع الحق الكامن فيه، في القلوب السليمة المفتوحة‏.‏‏.‏

ولا بد من وقفة أخرى أمام هذا الدعاء، من جانب الجمال الفني والتناسق في الأداء‏.‏‏.‏

إن كل سورة من سور القرآن تغلب فيها قافية معينة لآياتها- والقوافي في القرآن غيرها في الشعر، فهي ليست حرفاً متحداً ولكنها إيقاع متشابه- مثل «بصير‏.‏ حكيم‏.‏ مبين‏.‏ مريب»‏.‏‏.‏ «الألباب، الأبصار‏.‏ النار‏.‏ قرار»‏.‏‏.‏ «خفياً‏.‏ شقياً‏.‏ شرقياً‏.‏ شيئاً»‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

وتغلب القافية الأولى في مواضع التقرير‏.‏ والثانية في مواضع الدعاء‏.‏ والثالثة في مواضع الحكاية‏.‏

وسورة آل عمران تغلب فيها القافية الأولى‏.‏

ولم تبعد عنها إلا في موضعين‏:‏ أولهما في أوائل السورة وفيه دعاء‏.‏ والثاني هنا عند هذا الدعاء الجديد‏.‏‏.‏

وذلك من بدائع التناسق الفني في التعبير القرآني‏.‏‏.‏ فهذا المد يمنح الدعاء رنة رخية، وعذوبة صوتية‏.‏ تناسب جو الدعاء والتوجه والابتهال‏.‏

وهناك ظاهرة فنية أخرى‏.‏‏.‏ إن عرض هذا المشهد‏:‏ مشهد التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، يناسبه دعاء خاشع مرتل طويل النغم، عميق النبرات‏.‏ فيطول بذلك عرض المشهد وإيحاءاته ومؤثراته، على الأعصاب والأسماع والخيال، فيؤثر في الوجدان، بما فيه من خشوع وتنغيم وتوجه وارتجاف‏.‏‏.‏ وهنا طال المشهد بعباراته وطال بنغماته مما يؤدي غرضاً أصيلاً من أغراض التعبير القرآني، ويحقق سمة فنية أصيلة من سماته‏.‏ ثم‏.‏‏.‏ طال بالرد عليه والاستجابة له كذلك‏:‏

‏{‏فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى- بعضكم من بعض- فالذين هاجروا، وأخرجوا من ديارهم، وأوذوا في سبيلي، وقاتلوا وقتلوا، لأكفرن عنهم سيئاتهم، ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏.‏‏.‏ ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب‏.‏‏.‏ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد‏.‏ متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد‏.‏ لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، نزلاً من عند الله‏.‏ وما عند الله خير للأبرار‏}‏‏.‏‏.‏

وهي استجابة مفصلة، وتعبير مطول، يتناسق مع السمة الفنية للتعبير القرآني؛ وفق مقتضى الحال، ومتطلبات الموقف، من الجانب النفسي والشعوري‏.‏

ثم نخلص لمحتويات هذه الاستجابة الإلهية، ودلالتها على طبيعة هذا المنهج الإلهي ومقوماته، ثم على طبيعة منهج التربية الإسلامية وخصائصه‏.‏‏.‏

إن أولي الألباب هؤلاء تفكروا في خلق السماوات والأرض، وتدبروا اختلاف الليل والنهار، وتلقوا من كتاب الكون المفتوح، واستجابت فطرتهم لإيحاء الحق المستكن فيه، فاتجهوا إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع الواجف الطويل العميق‏.‏‏.‏ ثم تلقوا الاستجابة من ربهم الكريم الرحيم، على دعائهم المخلص الودود‏.‏‏.‏ فماذا كانت الاستجابة‏؟‏

لقد كانت قبولاً للدعاء وتوجيهاً إلى مقومات هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في آن‏:‏

‏{‏فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم‏.‏‏.‏ من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض‏}‏‏.‏‏.‏

إنه ليس مجرد التفكر ومجرد التدبر‏.‏ وليس مجرد الخشوع والارتجاف‏.‏ وليس مجرد الاتجاه إلى الله لتكفير السيئات والنجاة من الخزي ومن النار‏.‏‏.‏ إنما هو «العمل» العمل الإيجابي، الذي ينشأ عن هذا التلقي، وعن هذه الاستجابة، وعن هذه الحساسية الممثلة في هذه الارتجافة‏.‏ العمل الذي يعتبره الإسلام عبادة كعبادة التفكر، والتدبر والذكر والاستغفار، والخوف من الله، والتوجه إليه بالرجاء‏.‏ بل العمل الذي يعتبره الإسلام الثمرة الواقعية المرجوة لهذه العبادة، والذي يقبل من الجميع‏:‏ ذكرانا وإناثاً بلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس‏.‏ فكلهم سواء في الإنسانية- بعضهم من بعض- وكلهم سواء في الميزان‏.‏

ثم تفصيل للعمل، تتبين منه تكاليف هذه العقيدة في النفس والمال؛ كما تتبين منه طبيعة المنهج، وطبيعة الأرض التي يقوم عليها، وطبيعة الطريق وما فيه من عوائق وأشواك، وضرورة مغالبة العوائق، وتكسير الأشواك، وتمهيد التربة للنبتة الطيبة، والتمكين لها في الأرض، أياً كانت التضحيات، وأياً كانت العقبات‏:‏

‏{‏فالذين هاجروا، وأخرجوا من ديارهم، وأوذوا في سبيلي، وقاتلوا وقتلوا‏.‏ لأكفرن عنهم سيئاتهم، ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏.‏ ثواباً من عند الله، والله عنده حسن الثواب‏}‏‏.‏

وقد كانت هذه صورة الداعين المخاطبين بهذا القرآن أول مرة‏.‏ الذين هاجروا من مكة، وأخرجوا من ديارهم، في سبيل العقيدة، وأوذوا في سبيل الله لا في أي غاية سواه، وقاتلوا وقتلوا‏.‏‏.‏ ولكنها صورة أصحاب هذه العقيدة في صميمها‏.‏‏.‏ في كل أرض وفي كل زمان‏.‏‏.‏ صورتها وهي تنشأ في الجاهلية- أية جاهلية- في الأرض المعادية لها- أية أرض- وبين القوم المعادين- أي قوم- فتضيق بها الصدور، وتتأذى بها الأطماع والشهوات، وتتعرض للأذى والمطاردة، وأصحابها- في أول الأمر- قلة مستضعفة‏.‏‏.‏ ثم تنمو النبتة الطيبة- كما لا بد أن تنمو- على الرغم من الأذى، وعلى الرغم من المطاردة، ثم تملك الصمود والمقاومة والدفاع عن نفسها‏.‏ فيكون القتال، ويكون القتل‏.‏‏.‏ وعلى هذا الجهد الشاق المرير يكون تكفير السيئات، ويكون الجزاء ويكون الثواب‏.‏

هذا هو الطريق‏.‏‏.‏ طريق هذا المنهج الرباني، الذي قدر الله أن يكون تحققه في واقع الحياة بالجهد البشري، وعن طريق هذا الجهد، وبالقدر الذي يبذله المؤمنون المجاهدون في سبيل الله‏.‏ ابتغاء وجه الله‏.‏

وهذه هي طبيعة هذا المنهج، ومقوماته، وتكاليفه‏.‏‏.‏ ثم هذه هي طريقة المنهج في التربية، وطريقته في التوجيه، للانتقال من مرحلة التأثر الوجداني بالتفكر والتدبر في خلق الله؛ إلى مرحلة العمل الإيجابي وفق هذا التأثر تحقيقاً للمنهج الذي أراده الله‏.‏

ثم التفاتة واقعية إلى الفتنة المستكنة في المتاع المتاح في هذه الأرض للكفار والعصاة والمعادين لمنهج الله‏.‏‏.‏ التفاتة لإعطاء هذا المتاع وزنه الصحيح وقيمته الصحيحة، حتى لا يكون فتنة لأصحابه‏.‏ ثم كي لا يكون فتنة للمؤمنين، الذي يعانون ما يعانون، من أذى وإخراج من الديار، وقتل وقتال‏:‏

‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد‏.‏ متاع قليل‏.‏‏.‏ ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد‏.‏ لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها نزلاً من عند الله‏.‏ وما عند الله خير للأبرار‏}‏‏.‏‏.‏

وتقلب الذين كفروا في البلاد، مظهر من مظاهر النعمة والوجدان، ومن مظاهر المكانة والسلطان، وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة‏.‏ يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين؛ وهم يعانون الشظف والحرمان، ويعانون الأذى والجهد، ويعانون المطاردة أو الجهاد‏.‏

‏.‏ وكلها مشقات وأهوال، بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون‏!‏‏.‏‏.‏ ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة، وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء، والباطل وأهله في منجاة، بل في مسلاة‏!‏ ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم؛ فيزيدهم ضلالاً وبطراً ولجاجاً في الشر والفساد‏.‏

هنا تأتي هذه اللمسة‏:‏

‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد‏.‏ متاع قليل‏.‏ ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد‏}‏‏.‏

متاع قليل‏.‏‏.‏ ينتهي ويذهب‏.‏‏.‏ أما المأوى الدائم الخالد، فهو جهنم‏.‏‏.‏ وبئس المهاد‏!‏

وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات‏.‏ وخلود‏.‏ وتكريم من الله‏:‏

‏{‏جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏نزلاً من عند الله‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وما عند الله خير للأبرار‏}‏‏.‏‏.‏

وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة، وهذا النصيب في كفة، أن ما عند الله خير للأبرار‏.‏ وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان‏.‏ وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب‏!‏

إن الله- سبحانه- في موضع التربية، وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر، ولا يعدهم بقهر الأعداء، ولا يعدهم بالتمكين في الأرض، ولا يعدهم شيئاً من الأشياء في هذه الحياة‏.‏‏.‏ مما يعدهم به في مواضع أخرى، ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه‏.‏

إنه يعدهم هنا شيئاً واحداً هو ‏{‏ما عند الله‏}‏‏.‏ فهذا هو الأصل في هذه الدعوة‏.‏ وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة‏:‏ التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية، ومن كل مطمع- حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله- وقهر أعداء الله- حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون، ويكلوا أمرها إليه، وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها‏!‏

هذه العقيدة‏:‏ عطاء ووفاء وأداء‏.‏‏.‏ فقط‏.‏ وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض، وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء‏.‏‏.‏ ثم انتظار كل شيء هناك‏!‏

ثم يقع النصر، ويقع التمكين، ويقع الاستعلاء‏.‏‏.‏ ولكن هذا ليس داخلاً في البيعة‏.‏ ليس جزءاً من الصفقة‏.‏ ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا‏.‏ وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء‏.‏‏.‏ والابتلاء‏.‏‏.‏

على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة؛ وعلى هذا كان البيع والشراء‏.‏ ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء؛ ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية، إلا حين تجردوا هذا التجرد، ووفوا هذا الوفاء‏:‏

قال محمد بن كعب القرظي وغيره‏:‏ «قال عبد الله بن رواحة- رضي الله عنه- لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعني ليلة العقبة ‏(‏ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه- صلى الله عليه وسلم- على الهجرة إليهم‏)‏‏:‏ اشترط لربك ولنفسك ما شئت‏.‏ فقال» أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً‏.‏ وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم «‏.‏ قال‏:‏ فما لنا إذا فعلنا ذلك‏؟‏ قال» الجنة «‏.‏‏.‏ قالوا‏:‏ ربح البيع‏.‏ ولا نقيل ولا نستقيل»‏.‏

هكذا‏.‏‏.‏ «الجنة» والجنة فقط لم يقل‏:‏ النصر والعز والوحدة‏.‏ والقوة‏.‏ والتمكين‏.‏ والقيادة‏.‏ والمال‏.‏ والرخاء- مما منحهم الله وأجراه على أيديهم- فذلك كله خارج عن الصفقة‏!‏

وهكذا‏.‏‏.‏ ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل‏.‏‏.‏ لقد أخذوها صفقة بين متبايعين؛ أنهي أمرها، وأمضي عقدها‏.‏ ولم تعد هناك مساومة حولها‏!‏

وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض، وزمام القيادة، وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها، وكل رغباتها، وكل شهواتها، حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها، والمنهج الذي تحققه، والعقيدة التي تموت من أجلها‏.‏ فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه، أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة‏.‏

وقبل ختام السورة يعود السياق إلى أهل الكتاب، فيقرر أن فريقاً منهم يؤمن إيمان المسلمين، وقد انضم إلى موكب الإسلام معهم‏.‏ وسار سيرتهم‏.‏ وله كذلك جزاؤهم‏:‏

‏{‏وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً‏.‏ أولئك لهم أجرهم عند ربهم‏.‏ إن الله سريع الحساب‏}‏‏.‏

إنه الحساب الختامي مع أهل الكتاب‏.‏ وقد ذكر من طوائفهم ومواقفهم فيما سبق من السورة الكثير‏.‏ ففي معرض الإيمان، وفي مشهد الدعاء والاستجابة، يذكر كذلك أن من أهل الكتاب من سلكوا الطريق، وانتهوا إلى النهاية‏.‏ فآمنوا بالكتاب كله، ولم يفرقوا بين الله ورسله، ولم يفرقوا بين أحد من رسله‏.‏ آمنوا بما أنزل إليهم من قبل، وآمنوا بما أنزل للمسلمين- وهذه سمة هذه العقيدة التي تنظر إلى موكب الإيمان نظرة القرب والود؛ وتنظر إلى خط العقيدة موصولاً بالله، وتنظر إلى منهج الله في وحدته وكليته الشاملة، ويبرز من سمات المؤمنين من أهل الكتاب‏:‏ سمة الخشوع لله وسمة عدم شرائهم بآياته ثمناً قليلاً‏.‏‏.‏ ليفرقهم بهذا من صفوف أهل الكتاب‏:‏ وسمتهم الأصيلة هي التبجح وقلة الحياء من الله‏.‏ ثم التزوير والكتمان لآيات الله، لقاء أعراض الحياة الرخيصة‏!‏

ويعدهم أجر المؤمنين عند الله‏.‏ الذي لا يمطل المتعاملين معه- حاشاه-‏!‏

‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يجيء الإيقاع الأخير، في نداء الله للذين آمنوا، وتلخيص أعباء المنهج، وشرط الطريق‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اصبروا، وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون‏}‏‏.‏‏.‏

إنه النداء العلوي للذين آمنوا‏.‏ نداؤهم بالصفة التي تربطهم بمصدر النداء‏.‏

والتي تلقي عليهم هذه الأعباء‏.‏ والتي تؤهلهم للنداء وتؤهلهم للأعباء، وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏‏.‏

النداء لهم‏.‏ للصبر والمصابرة، والمرابطة والتقوى‏.‏‏.‏

وسياق السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى‏.‏‏.‏ يذكران مفردين، ويذكران مجتمعين‏.‏‏.‏ وسياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة، ومن ثم تختم السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة، وإلى المرابطة والتقوى، فيكون هذا أنسب ختام‏.‏

والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة‏.‏ إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك مفروش بالدماء والأشلاء وبالإيذاء والابتلاء‏.‏‏.‏ الصبر على أشياء كثيرة‏:‏ الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها وملالها من قريب‏!‏ والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم، وانحراف طباعهم، وأثرتهم، وغرورهم، والتوائهم، واستعجالهم للثمار‏!‏ والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الشهوة، وتصعير الغرور والخيلاء‏!‏ والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق‏!‏ والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة‏.‏ من الألم والغيظ، والحنق، والضيق، وضعف الثقة أحياناً في الخير، وقلة الرجاء أحياناً في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحياناً والقنوط‏!‏ والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء‏!‏ والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله، واستسلام لقدره، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع‏.‏‏.‏

والصبر على هذا كله- وعلى مثله- مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل‏.‏‏.‏ لا تصوره حقيقة الكلمات‏.‏ فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة‏.‏ إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق؛ وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات‏!‏

والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي‏.‏ فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء‏.‏ كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه‏.‏‏.‏

والمصابرة‏.‏‏.‏ وهي مفاعلة من الصبر‏.‏‏.‏ مصابرة هذه المشاعر كلها، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين‏.‏‏.‏ مصابرتها ومصابرتهم، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة‏.‏ بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى‏:‏ أعدائهم من كوامن الصدور، وأعدائهم من شرار الناس سواء‏.‏ فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر، والدفع بالدفع، والجهد بالجهد، والإصرار بالإصرار‏.‏‏.‏ ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء‏.‏‏.‏ وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصراراً وأعظم صبراً على المضي في الطريق‏!‏

والمرابطة‏.‏‏.‏ الإقامة في مواقع الجهاد، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء‏.‏‏.‏ وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبداً ولا تستسلم للرقاد‏!‏ فما هادنها أعداؤها قط، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة، والتعرض بها للناس‏.‏

وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد، حيثما كانت إلى آخر الزمان‏!‏

إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي‏.‏ منهج يتحكم في ضمائرهم، كما يتحكم في أموالهم، كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم‏.‏ منهج خير عادل مستقيم‏.‏ ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم؛ والباطل لا يحب الخير والعدل والاستقامة؛ والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة‏.‏‏.‏ ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان‏.‏ ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال‏.‏ وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار‏.‏ وينهد لحربها المستهترون المنحلون، لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات‏.‏‏.‏ ولا بد من مجاهدتهم جميعاً‏.‏ ولا بد من الصبر والمصابرة‏.‏ ولا بد من المرابطة والحراسة‏.‏ كي لا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين، الدائمين في كل أرض وفي كل جيل‏.‏‏.‏

هذه طبيعة هذه الدعوة، وهذا طريقها‏.‏‏.‏ إنها لا تريد أن تعتدي؛ ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم‏.‏‏.‏ وهي واجدة أبداً من يكره ذلك المنهج وهذا النظام‏.‏ ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد‏.‏ ومن يتربص بها الدوائر‏.‏ ومن يحاربها باليد والقلب واللسان‏.‏‏.‏ ولا بد لها أن تقبل المعركة بكل تكاليفها، ولا بد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام‏!‏‏!‏

والتقوى‏.‏‏.‏ التقوى تصاحب هذا كله‏.‏ فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل؛ ويحرسه أن يضعف؛ ويحرسه أن يعتدي؛ ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن هناك‏.‏

ولا يدرك الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ، إلا من يعاني مشاق هذا الطريق؛ ويعالج الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتى الحالات وشتى اللحظات‏.‏‏.‏

إنه الإيقاع الأخير في السورة التي حوت ذلك الحشد من الإيقاعات‏.‏ وهو جماعها كلها، وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها‏.‏‏.‏ ومن ثم يعلق الله بها عاقبة الشوط الطويل وينوط بها الفلاح في هذا المضمار‏:‏

‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏‏.‏

وصدق الله العظيم‏.‏