فصل: الجزء الثاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


الجزء الثاني

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 31‏]‏

‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏24‏)‏ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏25‏)‏ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏26‏)‏ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ‏(‏27‏)‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ‏(‏28‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏29‏)‏ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

هذا الدرس تكملة لما جاء في هذه السورة عن تنظيم الأسرة على قواعد الفطرة، ولا يعود السياق بعد ذلك إلا في موضعين لبيان بعض الأحكام التكميلية في هذا الموضوع الأساسي الهام، الذي يترتب على تنظيمه جريان الحياة الإنسانية في مجراها الفطري الهادئ الصالح، كما يترتب على انحرافها عنه فساد في الأرض كبير‏.‏

وهذا الدرس يتضمن تكملة لبيان المحرمات من النساء‏.‏ ثم يحدد الطريقة التي يحب الله أن يجتمع عليه الرجال والنساء في مؤسسة الأسرة النظيفة‏.‏ ويكشف عما في هذه الطريقة من تيسير على الناس وتخفيف، إلى جانب نظافتها وطهارتها‏.‏ ويقرر القواعد التنظيمية التي تقوم عليها تلك المؤسسة الأساسية، والحقوق والواجبات الملقاة على عاتق الطرفين المتعاقدين فيها‏.‏

وإلى جانب هذا التنظيم في الأسرة يتطرق إلى شيء من التنظيم لبعض علاقات المجتمع المسلم في الأموال؛ فيبين حقوق الرجال والنساء، في المال المكتسب، والمال الموروث‏.‏ وما يتبع كذلك في تصفية ما كان من عقود التوارث بالولاء بين غير الأقارب‏.‏

ومما يلاحظ- بوجه عام- أن السياق يربط ربطاً دقيقاً بين هذه التنظيمات والأحكام وبين الأصل الأول الكبير للإيمان‏:‏ وهو أن هذه التنظيمات والأحكام صادرة من الله‏.‏ وهي مقتضى ألوهيته‏.‏ فأخص خصائص الألوهية- كما كررنا ذلك في مطلع السورة- هو الحاكمية، والتشريع للبشر، ووضع الأسس التي تقوم عليها حياتهم وارتباطاتهم‏.‏

والسياق ما يني يكرر هذا الارتباط الدقيق؛ وينبه إلى هذه الخاصية من خصائص الألوهية‏.‏ ويكرر كذلك الإشارة إلى صدور هذه التنظيمات عن العليم الحكيم‏.‏‏.‏ وهي إشارة ذات مغزى‏.‏‏.‏ فالأمر في هذا المنهج الإلهي كله هو قبل كل شيء أمر العلم الشامل الكامل، والحكمة المدركة البصيرة‏.‏‏.‏ هذه الخصائص الإلهية التي يفقدها الإنسان، فلا يصلح بعدها أبداً لوضع المنهج الأساسي لحياة الإنسان‏!‏ ومن هنا شقوة الإنسان في الأرض كلما حاد عن منهج العليم الحكيم، وراح يخبط في التيه بلا دليل، ويزعم أنه قادر، بجهله وطيشه وهواه، أن يختار لنفسه ولحياته خيراً مما يختاره الله‏!‏‏!‏‏!‏

والأمر الآخر الذي يؤكده سياق الدرس ويكرره‏:‏ هو أن منهج الله هذا أيسر على الإنسان وأخف وأقرب إلى الفطرة، من المناهج التى يريدها البشر ويهوونها، وأنه من رحمة الله بضعف الإنسان أن يشرع له هذا المنهج، الذي تكلفه الحيدة عنه عنتاً ومشقة، فوق ما تكلفه من هبوط وارتكاس‏.‏

وسنرى- عند استعراض النصوص بالتفصيل- مصداق هذه الحقيقة في واقع البشر التاريخي وهي حقيقة واضحة في هذا الواقع، لولا أن الهوى يطمس القلوب، ويعمي العيون، عندما ترين الجاهلية على القلوب والعيون‏!‏

«والمحصنات من النساء- إلا ما ملكت أيمانكم- كتاب الله عليكم- وأحل لكم- ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين‏.‏

فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة‏.‏ إن الله كان عليماً حكيماً‏.‏ ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات- والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض- فانكحوهن بإذن أهلهن، وآتوهن أجورهن بالمعروف، محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان‏.‏ فإذا أحصن، فإن أتين بفاحشة، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب- ذلك لمن خشي العنت منكم- وأن تصبروا خير لكم، والله غفور رحيم‏.‏ يريد الله ليبين لكم، ويهديكم سنن الذين من قبلكم، ويتوب عليكم، والله عليم حكيم‏.‏ والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً‏.‏ يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفاً «‏.‏‏.‏

لقد سبق في نهاية الجزء الرابع بيان المحرمات من النساء حرمة ذاتية‏.‏ وذلك في قوله تعالى‏:‏» ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء- إلا ما قد سلف- إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً‏.‏ حرمت عليكم أمهاتكم، وبناتكم، وأخواتكم، وعماتكم، وخالاتكم، وبنات الأخ، وبنات الأخت، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة، وأمهات نسائكم، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن- فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم- وحلائل أبنائكم- الذين من أصلابكم- وأن تجمعوا بين الأختين- إلا ما قد سلف- إن الله كان غفوراً رحيماً «‏.‏

أما هذه التكملة‏:‏

» والمحصنات من النساء‏.‏‏.‏‏.‏ «

فتتعلق بالمحرمات لأنهن في عصمة رجال آخرين‏.‏ محصنات بالزواج منهم‏:‏ فهن محرمات على غير أزواجهن، لا يحل نكاحهن‏.‏‏.‏‏.‏ وذلك تحقيقاً للقاعدة الأولى في نظام المجتمع الإسلامي، من قيامه على قاعدة الأسرة، وجعلها وحدة المجتمع، وصيانة هذه الأسرة من كل شائبة، ومن كل اختلاط في الأنساب، ينشأ من» شيوعية «الاتصال الجنسي، أو ينشأ من انتشار الفاحشة، وتلوث المجتمع بها‏.‏

والأسرة القائمة على الزواج العلني، الذي تتخصص فيه امرأة بعينها لرجل بعينه، ويتم به الإحصان- وهو الحفظ والصيانة- هي أكمل نظام يتفق مع فطرة» الإنسان «وحاجاته الحقيقية، الناشئة من كونه إنساناً، لحياته غاية أكبر من غاية الحياة الحيوانية- وإن كانت تتضمن هذه الغاية في ثناياها- ويحقق أهداف المجتمع الإنساني، كما يضمن لهذا المجتمع السلم المطمئنة‏:‏ سلم الضمير‏.‏ وسلم البيت‏.‏ وسلم المجتمع في نهاية المطاف‏.‏

والملاحظ بصفة ظاهرة، أن الطفل الإنساني يحتاج إلى فترة رعاية أطول من الفترة التي يحتاج إليها طفل أي حيوان آخر‏.‏ كما أن التربية التي يحتاج إليها ليصبح قادراً على إدراك مقتضيات الحياة الإنسانية الاجتماعية المترقية- التي يتميز بها الإنسان- تمتد إلى فترة طويلة أخرى‏.‏

وإذا كانت غاية الميل الجنسي في الحيوان تنتهي عند تحقيق الاتصال الجنسي والتناسل والإكثار، فإنها في الإنسان لا تنتهي عند تحقيق هذا الهدف، إنما هي تمتد إلى هدف أبعد هو الارتباط الدائم بين الذكر والأنثى- بين الرجل والمرأة- ليتم إعداد الطفل الإنساني لحماية نفسه وحفظ حياته، وجلب طعامه وضرورياته، كما يتم- وهذا هو الأهم بالنسبة لمقتضيات الحياة الإنسانية- تربية هذا الطفل وتزويده برصيد من التجارب الإنسانية والمعرفة الإنسانية يؤهله للمساهمة في حياة المجتمع الإنساني، والمشاركة في حمل تبعته من اطراد الترقي الإنساني عن طريق الأجيال المتتابعة‏.‏

ومن ثم لم تعد اللذة الجنسية هي المقوم الأول في حياة الجنسين في عالم الإنسان؛ إنما هي مجرد وسيلة ركبتها الفطرة فيهما ليتم الالتقاء بينهما ويطول بعد الاتصال الجنسي للقيام بواجب المشاركة في اطراد نمو النوع‏.‏ ولم يعد «الهوى» الشخصي هو الحكم في بقاء الارتباط بين الذكر والأنثى‏.‏ إنما الحكم هو «الواجب»‏.‏‏.‏‏.‏ واجب النسل الضعيف الذي يجيء ثمرة للالتقاء بينهما، وواجب المجتمع الإنساني الذي يحتم عليهما تربية هذا النسل إلى الحد الذي يصبح معه قادراً على النهوض بالتبعة الإنسانية، وتحقيق غاية الوجود الإنساني‏.‏

وكل هذه الاعتبارات تجعل الارتباط بين الجنسين على قاعدة الأسرة، هو النظام الوحيد الصحيح‏.‏ كما تجعل تخصيص امرأة لرجل هو الوضع الصحيح الذي تستمر معه هذه العلاقة‏.‏ والذي يجعل «الواجب» لا مجرد اللذة ولا مجرد الهوى، هو الحكم في قيامها، ثم في استمرارها، ثم في معالجة كل مشكلة تقع في أثنائها، ثم عند فصم عقدتها عند الضرورة القصوى‏.‏

وأي تهوين من شأن روابط الأسرة، وأي توهين للأساس الذي تقوم عليه- وهو «الواجب» لإحلال «الهوى» المتقلب، و«النزوة» العارضة، و«الشهوة» الجامحة محله، هي محاولة آثمة، لا لأنها تشيع الفوضى والفاحشة والانحلال في المجتمع الإنساني فحسب، بل كذلك لأنها تحطم هذا المجتمع؛ وتهدم الأساس الذي يقوم عليه‏.‏

ومن هنا ندرك مدى الجريمة التي تزاولها الأقلام والأجهزة الدنسة، المسخرة لتوهين روابط الأسرة، والتصغير من شأن الرباط الزوجي وتشويهه وتحقيره، للإعلاء من شأن الارتباطات القائمة على مجرد الهوى المتقلب، والعاطفة الهائجة، والنزوة الجامحة‏.‏ وتمجيد هذه الارتباطات، بقدر الحط من الرباط الزوجي‏!‏

كما ندرك مدى الحكمة والعمق في قول عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لرجل أراد أن يطلق زوجته، معللاً ذلك بأنه لم يعد يحبها‏:‏ «ويحك‏!‏ ألم تبن البيوت إلا على الحب‏؟‏ فأين الرعاية‏؟‏ وأين التذمم‏؟‏»‏.‏‏.‏ مستمداً قولته هذه من توجيه الله سبحانه وتربية القرآن الكريم لتلك الصفوة المختارة من عباده‏:‏

‏{‏وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً‏}‏ وذلك للإمساك بالبيوت- ما أمكن- ومقاومة نزوات القلوب، وعلاجها حتى تفيء، وعدم بت هذه الصلة إلا حين تفلس المجادلات كلها، رعاية للجيل الناشئ في هذه البيوت؛ وصيانة لها من هزات العاطفة المتقلبة، والنزوة الجامحة، والهوى الذاهب مع الريح‏!‏

وفي ظل هذه النظرة السامية العميقة، تتبدى التفاهة والسطحية فيما ينعق به اليوم أولئك المائعون، وهم يمجدون كل ارتباط إلا الارتباط الذي يحكم الواجب، والذي يرعى أمانة الجنس البشري كله، وهي تنشئة أجيال تنهض بمقتضيات الحياة الإنسانية المترقية، وتحكيم مصلحة هذه الأجيال، لا مصلحة العواطف الوقتية الزائلة‏!‏

إن أقلاماً دنسة رخيصة وأجهزة خبيثة لئيمة توحي لكل زوجة ينحرف قلبها قليلاً عن زوجها أن تسارع إلى خدين؛ ويسمون ارتباطها بخدينها هذا «رباطاً مقدساً»‏!‏ بينما يسمون ارتباطها بذلك الزوج «عقد بيع للجسد»‏!‏

والله سبحانه يقول‏:‏ في بيان المحرمات من النساء‏:‏ «والمحصنات من النساء»‏.‏‏.‏ فيجعلهن «محرمات»‏.‏

هذا قول الله‏.‏ وذلك قول المائعين المسخرين لتحطيم هذا المجتمع ونشر الفاحشة فيه‏.‏‏.‏‏.‏ ‏{‏والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏}‏ إن جهوداً منظمة موجهة تبذل لإنشاء موازين وقيم وتصورات للمجتمع غير تلك التي يريدها الله‏.‏ ولإقامة أسس للحياة والارتباطات غير تلك التي أقامها الله‏.‏ ولتوجيه الناس والحياة وجهة غير التي قررها الله‏.‏‏.‏ والموجهون لهذه الجهود يحسبون أنهم ينتهون إلى تحطيم قواعد المجتمع الإسلامي، وتدمير حياة المسلمين في الأوطان الإسلامية، حتى لا تبقى أمامهم حواجز تصد أطماعهم القديمة في هذه الأوطان، بعد أن تنهار عقائدها، وتنهار أخلاقها، وتنهار مجتمعاتها‏.‏‏.‏ ولكن الكارثة أبعد من هذا مدى‏.‏‏.‏ إنها تحطيم قواعد المجتمع الإنساني كله- لا المجتمع الإسلامي وحده- تحطيم قواعد الفطرة التي تقوم عليها حياة الإنسان‏.‏ وحرمان المجتمع البشري من العناصر التي تحمل أمانته الكبرى‏.‏ أمانة الحياة الإنسانية المترقية‏.‏ وذلك بحرمانه من الأطفال المؤهلين- في جو الأسرة الهادئ، المطمئن، الآمن من عواصف الشهوات الجامحة، والنزوات المتقلبة والهوى الذاهب مع الريح- للنهوض بأمانة الجنس البشري كله‏.‏ وهي شيء آخر غير مجرد التناسل الحيواني‏!‏ وغير مجرد الالتقاء الشهواني على أساس «العواطف» وحدها وتنحية «الواجب» المطمئن الثابت الهادئ‏!‏

وهكذا تحق اللعنة على الجنس البشري كله، إذ يحطم نفسه بنفسه؛ ويدمر الجيل الحاضر منه مستقبل الأجيال القادمة‏.‏ لتحقيق لذاته هو، وشهواته هو، وعلى الأجيال القادمة اللعنة‏.‏ وتحق كلمة الله على الخارجين على كلمته وفطرته وتوجيهه‏.‏ ويذوق الجنس البشري كله وبال أمره‏.‏ إلا أن يرحمه الله بالعصبة المؤمنة التي تقر كلمة الله ومنهجه في الأرض، وتأخذ بيد الناس إليها؛ وتعصمهم من الشر الماحق الذي يهيئونه لأنفسهم بأيديهم‏.‏

وهم يحسبون أنهم فقط إنما يحطمون الأوطان الإسلامية، لتنهار حواجزها بتلك الجهود الموجهة الخبيثة‏!‏ التي تتولاها أقلام وأجهزة من داخل هذه الأوطان ذاتها‏.‏

«والمحصنات من النساء- إلا ما ملكت أيمانكم‏.‏‏.‏»‏.‏

وهذا الاستثناء يتعلق بالسبايا اللواتي كن يؤخذن أسيرات في حروب الجهاد الإسلامي وهن متزوجات في دار الكفر والحرب‏.‏ حيث تنقطع علاقاتهن بأزواجهن الكفار، بانقطاع الدار‏.‏ ويصبحن غير محصنات‏.‏ فلا أزواج لهن في دار الإسلام‏.‏ ومن ثم يكفي استبراء أرحامهن بحيضة واحدة؛ يظهر منها خلو أرحامهن من الحمل‏.‏ ويصبح بعدها نكاحهن حلالا- إن دخلن في الإسلام- أو أن يباشرهن من غير عقد نكاح من يقعن في سهمه، باعتبارهن ملك يمين، سواء أسلمن أم لم يسلمن‏.‏

ولقد سبق لنا في الجزء الثاني من هذه الظلال، بيان موقف الإسلام من مسألة الرق بجملتها‏.‏‏.‏ كذلك ورد بيان آخر عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق؛ فإما منّاً بعد وإما فداء؛ حتى تضع الحرب أوزارها‏}‏‏.‏ في سورة «محمد» في الجزء السادس والعشرين فيرجع إليهما في مواضعهما‏.‏

ونكتفي هنا بالقول‏:‏ بأن المعسكر الإسلامي كان يعامل أعداءه في مسألة استرقاق الأسرى في الحرب كما يعاملونه من حيث مبدأ الرق، ويفضلهم في نوع معاملته للرقيق وفي اعتبار إنسانيته فضلاً كبيراً‏.‏ ولم يكن له بد من ذلك‏.‏ حيث كان استرقاق الأسرى نظاماً عالمياً لا يملك الإسلام إبطاله من جانب واحد‏.‏ وإلا كان الأسرى من المسلمين يصبحون رقيقاً؛ بينما الأسرى من الكفار يصبحون أحراراً، فترجح كفة المعسكرات الكافرة على المعسكر الإسلامي، وتطمع هذه المعسكرات في مهاجمته وهي آمنة مطمئنة من عواقب الهجوم، بل وهي رابحة غانمة‏!‏

ومن ثم لم يكن بد من أن تكون هناك سبايا كوافر في المجتمع المسلم‏.‏ فكيف يصنع بهن‏؟‏ إن الفطرة لا تكتفي بأن يأكلن ويشربن‏.‏ فهناك حاجة فطرية أخرى لا بد لهن من إشباعها وإلا التمسنها في الفاحشة التي تفسد المجتمع كله وتدنسه‏!‏ ولا يجوز للمسلمين أن ينكحوهن وهن مشركات‏.‏ لتحريم الارتباط الزوجي بين مسلم ومشركة فلا يبقى إلا طريق واحد هو إحلال وطئهن بلا نكاح ما دمن مشركات، بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن؛ وانقطاع صلتهن بأزواجهن في دار الكفر والحرب‏.‏

وقبل أن يمضي السياق القرآني في تقرير ما يحل بعد تلك المحرمات، يربط بين أصل التحريم والتحليل ومصدر التحريم والتحليل‏.‏ المصدر الذي ليس لغيره أن يحرم أو يحلل؛ أو يشرع للناس شيئاً في أمور حياتهم جميعاً‏:‏

«كتاب الله عليكم»‏.‏‏.‏

هذا عهد الله عليكم وميثاقه وكتابه‏.‏‏.‏ فليست المسألة هوى يتبع، أو عرفاً يطاع، أو موروثات بيئة تتحكم‏.‏‏.‏ إنما هو كتاب الله وعهده وميثاقه‏.‏

‏.‏ فهذا هو المصدر الذي تتلقون منه الحل والحرمة؛ وترعون ما يفرضه عليكم وما يكتبه، وتطالبون بما كتب عليكم وما عهد إليكم كذلك‏.‏

ومما يلاحظ أن معظم المحرمات التي حرمها القرآن في الآيات السابقة، كانت محرمة في الجاهلية ولم يكن يباح منها في عرف الجاهلية إلا ما نكح الآباء، والجمع بين الأختين- على كره من العرف الجاهلي ذاته لنكاح زوجات الآباء‏.‏ وقد كان يسمى عندهم «مقيتاً» نسبة إلى المقت‏!‏ ولكن لما جاء القرآن يقرر حرمة هذه المحرمات، لم يرجع في تحريمها إلى عرف الجاهلية هذا، إنما قال الله سبحانه‏:‏ «كتاب الله عليكم»‏.‏‏.‏

هذه لمسة تقتضي الوقوف أمامها لبيان حقيقة الأصل الاعتقادي في الإسلام، وحقيقة الأصل الفقهي‏.‏ فهذا البيان يفيدنا في أمور كثيرة في حياتنا الواقعية‏:‏

إن الإسلام يعتبر أن الأصل الوحيد الذي يقوم عليه التشريع للناس هو أمر الله وإذنه‏.‏ بإعتبار أنه هو مصدر السلطان الأول والأخير‏.‏ فكل ما لم يقم ابتداء على هذا الأصل فهو باطل بطلاناً أصلياً، غير قابل للتصحيح المستأنف‏.‏ فالجاهلية بكل ما فيها- والجاهلية هي كل وضع لا يستمد وجوده من ذلك الأصل الوحيد الصحيح- باطلة بطلاناً أصلياً‏.‏ باطلة بكل تصوراتها وقيمها وموازينها وعرفها وتقاليدها وشرائعها وقوانينها‏.‏ والإسلام حين يسيطر على الحياة ويصرفها، يأخذ الحياة جملة، ويأخذ الأمر جملة؛ فيسقط ابتداء كل أوضاع الجاهلية وكل قيمها، وكل عرفها، وكل شرائعها؛ لأنها باطلة بطلاناً أصلياً غير قابل للتصحيح المستأنف‏.‏‏.‏ فإذا أقر عرفاً كان سائداً في الجاهلية، فهو لا يقره بأصله الجاهلي؛ مستنداً إلى هذا الأصل‏.‏ إنما هو يقرره ابتداء بسلطانه المستمد من أمر الله وإذنه‏.‏ أما ذلك الذي كان في الجاهلية فقد سقط ولم يعد له وجود من الناحية الشرعية‏.‏

كذلك حين يحيل الفقه الإسلامي على «العرف» في بعض المسائل فهو يمنح العرف ابتداء سلطاناً من عنده هو- بأمر الله- فتصبح للعرف- في هذه المسائل- قوة الشريعة، استمداداً من سلطان الشارع- وهو الله- لا استمداداً من الناس ومن البيئة التي تواضعت على هذا العرف من قبل‏.‏ فليس تواضع البيئة على هذا العرف هو الذي يمنحه السلطان‏.‏‏.‏ كلا‏.‏‏.‏ إنما الذي يمنحه السلطان هو اعتبار الشارع إياه مصدراً في بعض المسائل‏.‏ وإلا بقي على بطلانه الأصلي، لأنه لم يستمد من أمر الله‏.‏ وهو وحده مصدر السلطان‏.‏ وهو يقول عما كانت الجاهلية تشرعه مما لم يأذن به الله‏:‏ ‏{‏أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله‏؟‏‏}‏ فيشير إلى أن الله وحده هو الذي يشرع‏.‏ فهل لهم آلهة شرعت لهم ما لم يأذن به الله‏؟‏

هذا الأصل الكبير، الذي تشير إليه هذه اللمسة‏:‏ «كتاب الله عليكم» تقرره وتؤكده النصوص القرآنية في كل مناسبات التشريع، فما من مرة ذكر القرآن تشريعاً إلا أشار إلى المصدر الذي يجعل لهذا التشريع سلطاناً‏.‏

أما حين يشير إلى شرائع الجاهلية وعرفها وتصوراتها فهو يردفها غالباً بقوله‏:‏ ‏{‏ما أنزل الله بها من سلطان‏}‏ لتحريرها من السلطان ابتداء، وبيان علة بطلانها، وهي كونها لم تصدر من ذلك المصدر الوحيد الصحيح‏.‏

وهذا الأصل الذي نقرره هنا هو شيء آخر غير الأصل المعروف في التشريع الإسلامي‏.‏ من أن الأصل في الأشياء الحل، ما لم يرد بتحريمها نص، فكون الأصل في الاشياء الحل، إنما هو كذلك بأمر الله وإذنه، فهو راجع إلى الأصل الذي قررناه ذاته، إنما نحن نتحدث عما تشرعه الجاهلية لنفسها دون رجوع إلى ما شرعه الله‏.‏ وهذا الأصل فيه البطلان جملة وكلية، حتى يقرر شرع الله ما يرى تقريره منه من جديد، فيكتسب منذ أن يرد في شرع الله المشروعية والسلطان‏.‏

فإذا انتهى السياق من بيان المحرمات، وربطها بأمر الله وعهده، أخذ في بيان المجال الذي يملك فيه الناس أن يلبوا دوافع فطرتهم في التزاوج؛ والطريقة التي يحب الله أن يلتقي بها أفراد الجنسين لتكوين البيوت؛ وإقامة مؤسسات الأسرة، والمتاع بهذا الالتقاء في نظافة وطهر وجد تليق بهذا الأمر العظيم‏:‏

‏{‏وأحل لكم- ما وراء ذلكم- أن تبتغوا بأموالكم‏.‏‏.‏ محصنين غير مسافحين‏.‏‏.‏ فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن- فريضة- ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة‏.‏ إن الله كان عليماً حكيماً‏}‏‏.‏‏.‏

ففيما وراء هذه المحرمات المذكورة فالنكاح حلال، وللراغبين فيه أن يبتغوا النساء، بأموالهم- أي لأداء صداقهن- لا لشراء أعراضهن بالأموال من غير نكاح‏!‏ ومن ثم قال‏:‏

‏{‏محصنين غير مسافحين‏}‏‏.‏‏.‏

وجعلها قيداً وشرطاً للابتغاء بالأموال، قبل أن يتم الجملة، وقبل أن يمضي في الحديث‏.‏ ولم يكتف بتقرير هذا القيد في صورته الإيجابية المثبته‏:‏ ‏{‏محصنين‏}‏ بل أردفها بنفي الصورة الأخرى‏:‏ ‏{‏غير مسافحين‏}‏ زيادة في التوكيد والإيضاح، في معرض التشريع والتقنين‏.‏‏.‏ ثم لكي يرسم صورة لطبيعة العلاقة الأولى التي يحبها ويريدها‏.‏‏.‏ علاقة النكاح‏.‏‏.‏ وصورة لطبيعة العلاقة الأخرى التي يكرهها وينفيها‏.‏‏.‏ علاقة المخادنة أو البغاء‏.‏‏.‏ وقد كانت هذه وتلك معروفة في مجتمع الجاهلية، ومعترفاً بها كذلك من المجتمع‏!‏

جاء في حديث عائشة- رضي الله عنها-‏:‏

«ان النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء‏:‏ فنكاح منها نكاح الناس اليوم‏.‏ يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته‏.‏ فيصدقها ثم ينكحها‏.‏‏.‏ والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته- إذا طهرت من طمثها- أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه‏.‏ فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب‏.‏

وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد‏!‏ فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع‏.‏‏.‏ ونكاح آخر‏.‏ يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال، بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم‏:‏ قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان‏.‏ تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل‏.‏ والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطه، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك «

فالنوعان الثالث والرابع هما السفاح الذي ينص على نفيه- سواء منه المخادنة والبغاء- والأول هو الإحصان الذي ينص على طلبه‏.‏‏.‏ أما الثاني فما ندري كيف نسميه‏!‏‏!‏‏!‏

والقرآن يصور طبيعة النوع الذي يريده الله‏.‏‏.‏ فهو إحصان‏.‏‏.‏ هو حفظ وصيانة‏.‏‏.‏ هو حماية ووقاية‏.‏‏.‏ هو إحصان للرجل وإحصان للمرأة‏.‏ ففي هذه القراءة» محصِنين «بصيغة اسم الفاعل، وفي قراءة أخرى‏:‏» محصَنين «بصيغة اسم المفعول‏.‏ وكلا المعنيين يتحقق في هذه الصورة النظيفة القويمة العفيفة‏.‏ وهو إحصان للبيت والأسرة والأطفال‏.‏ إحصان لهذه المؤسسة التي تقوم على هذا الأساس ثابتة راسخة وطيدة‏.‏

والآخر‏:‏ سفاح‏.‏‏.‏ مفاعلة من السفح، وهو إراقة الماء في المنحدر الواطئ‏!‏ مسافحة يشترك فيها الرجل والمرأة، فيريقان ماء الحياة، الذي جعله الله لامتداد النوع، ورقيه، عن طريق اشتراك الرجل والمرأة في إنجاب الذرية وتربيتها وحضانتها وصيانتها‏.‏ فإذا هما يريقانه للذة العابرة، والنزوة العارضة، يريقانه في السفح الواطئ‏!‏ فلا يحصنهما من الدنس، ولا يحصن الذرية من التلف، ولا يحصن البيت من البوار‏!‏

وهكذا يرسم التعبير القرآني صورتين كاملتين لنوعين من الحياة؛ في كلمتين اثنتين‏.‏ ويبلغ غايته من تحسين الصورة التي يرتضيها، وتبشيع الصورة التي لا يرتضيها، بينما هو يقرر حقيقة كل من الصورتين في واقع الحياة‏.‏ وذلك من بدائع التعبير في القرآن‏.‏

فإذا انتهى من هذا القيد للابتغاء بالأموال‏.‏ عاد ليقرر كيف يُبتغى بالأموال‏:‏

‏{‏فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضةْ‏}‏‏.‏

فهو يجعل صداق المرأة فريضة لها مقابل الاستمتاع بها‏.‏ فمن أراد أن يستمتع بامرأة من الحلائل- وهن ما وراء ذلكم من المحرمات- فالطريق هو ابتغاؤها للإحصان- أي عن طريق النكاح ‏(‏الزواج‏)‏ لا عن أي طريق آخر- وعليه أن يؤدي لها صداقها حتماً مفروضاً، لا نافلة، ولا تطوعاً منه، ولا إحساناً، فهو حق لها عليه مفروض‏.‏ وليس له أن يرثها وراثة بلا مقابل- كما كان يقع في بعض الأحوال في الجاهلية- وليس له أن يقايض عليها مقايضة كما كان يقع في زواج الشغار في الجاهلية‏.‏

وهو أن يتزوج الرجل امرأة في مقابل أن يدفع لوليها امرأة من عنده‏!‏ كأنهما بهيمتان‏!‏ أو شيئان‏!‏

وبعد تقرير هذا الحق للمرأة وفرضيته، يدع الباب مفتوحاً لما يتراضى عليه الزوجان بينهما وفق مقتضيات حياتهما المشتركة، ووفق مشاعرهما وعواطفهما أحدهما تجاه الآخر‏:‏

‏{‏ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة‏}‏‏.‏

فلا حرج عليهما في أن تتنازل الزوجة عن مهرها- كله أو بعضه- بعد بيانه وتحديده‏.‏ وبعد أن أصبح حقاً لها خالصاً تتصرف فيه كما تتصرف في سائر أموالها بحرية- ولا جناح عليهما في أن يزيدها الزوج على المهر، أو يزيدها فيه‏.‏ فهذا شأنه الخاص‏.‏ وهذا شأنهما معاً يتراضيان عليه في حرية وسماحة‏.‏

ثم يجيء التعقيب‏.‏ يربط هذه الأحكام بمصدرها؛ ويكشف عما وراءها من العلم الكاشف، والحكمة البصيرة‏:‏

‏{‏إن الله كان عليماً حكيماً‏}‏‏.‏‏.‏

فهو الذي شرع هذه الأحكام‏.‏ وهو الذي شرعها عن علم وعن حكمة‏.‏‏.‏ فيعرف ضمير المسلم من أين يتلقى الأحكام في كل شأن من شئون حياته- وأخصها هذا الذي بينه وبين زوجه- ويطمئن إلى ما يتلقاه من هذه الأحكام، الصادرة عن العلم وعن الحكمة ‏{‏إن الله كان عليماً حكيماً‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

فإذا كانت ظروف المسلم تحول بينه وبين الزواج من حرة تحصنها الحرية وتصونها، فقد رخص له في الزواج من غير الحرة، إذا هو لم يصبر حتى يستطيع الزواج من حرة، وخشي المشقة؛ أو خشي الفتنة‏:‏

‏{‏ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات، فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات- والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض- فانكحوهن بإذن أهلهن؛ وآتوهن أجورهن بالمعروف- محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان- فإذا أحصن‏.‏ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب‏.‏ ذلك لمن خشي العنت منكم‏.‏ وأن تصبروا خير لكم‏.‏ والله غفور رحيم‏}‏‏.‏

إن هذا الدين يتعامل مع «الإنسان» في حدود فطرته، وفي حدود طاقته‏.‏ وفي حدود واقعه، وفي حدود حاجاته الحقيقية‏.‏‏.‏ وحين يأخذ بيده ليرتفع به من حضيض الحياة الجاهلية إلى مرتقى الحياة الإسلامية لا يغفل فطرته وطاقته وواقعه وحاجاته الحقيقية، بل يلبيها كلها وهو في طريقه إلى المرتقى الصاعد‏.‏‏.‏ إنه فقط لا يعتبر واقع الجاهلية هو الواقع الذي لا فكاك منه‏.‏ فواقع الجاهلية هابط، وقد جاء الإسلام ليرفع البشرية من وهدة هذا الواقع‏!‏ إنما هو يعتبر واقع «الإنسان» في فطرته وحقيقته‏.‏‏.‏ واقتدار الإنسان على الترقي واقع من هذا الواقع‏.‏‏.‏ فليس الواقع فقط هو مجرد تلبطه في وحل الجاهلية‏.‏‏.‏ أية جاهلية‏.‏‏.‏ فمن الواقع كذلك مقدرته- بما ركب في فطرته- على الصعود والتسامي عن ذلك الوحل أيضاً‏!‏ والله- سبحانه- هو الذي يعلم «واقع الإنسان» كله، لأنه يعلم «حقيقة الإنسان» كلها‏.‏

هو الذي خلقه ويعلم ما توسوس به نفسه‏.‏‏.‏ ‏{‏ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير‏}‏ وقد كان في المجتمع المسلم الأول رقيق يتخلف من الحروب؛ ريثما يتم تدبير أمره‏.‏‏.‏ إما بإطلاق سراحه امتناناً عليه بلا مقابل‏.‏ وإما فداء مقابل إطلاق سراح أسارى المسلمين، أو مقابل مال- حسب الملابسات والظروف المنوعة فيما بين المسلمين وأعدائهم المحاربين- وقد عالج الإسلام هذا الواقع بإباحة مباشرة ملك اليمين- كما جاء في الآية السابقة- لمن هن ملك يمينه‏.‏ لمواجهة واقع فطرتهن كما أسلفنا‏.‏ مباشرتهن إما بزواج منهن- إن كن مؤمنات- أو بغير زواج، بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن في دار الحرب، بحيضة واحدة‏.‏‏.‏ ولكنه لم يبح لغير سادتهن مباشرتهن إلا أن يكون ذلك عن طريق الزواج‏.‏ لم يبح لهن أن يبعن أعراضهن في المجتمع لقاء أجر؛ ولا أن يسرحهن سادتهن في المجتمع يزاولن هذه الفاحشة لحسابهم كذلك‏!‏

وفي هذه الآية ينظم طريقة نكاحهن والظروف المبيحة لهذا النكاح‏:‏

‏{‏ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات، فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات‏}‏‏.‏‏.‏

إن الإسلام يؤثر الزواج من حرة في حالة الطول- أي القدرة على نكاح الحرة- ذلك أن الحرة تحصنها الحرية؛ وتعلمها كيف تحفظ عرضها، وكيف تصون حرمة زوجها‏.‏ فهن «محصنات» هنا- لا بمعنى متزوجات، فقد سبق تحريم نكاح المتزوجات- ولكن بمعنى حرائر، محصنات بالحرية؛ وما تسبغه على الضمير من كرامة، وما توفره للحياة من ضمانات‏.‏ فالحرة ذات أسرة وبيت وسمعة ولها من يكفيها، وهي تخشى العار، وفي نفسها أنفة وفي ضميرها عزة، فهي تأبى السفاح والانحدار‏.‏ ولا شيء من هذا كله لغير الحرة‏.‏ ومن ثم فهي ليست محصنة، وحتى إذا تزوجت، فإن رواسب من عهد الرق تبقى في نفسها، فلا يكون لها الصون والعفة والعزة التي للحرة‏.‏ فضلاً على أنه ليس لها شرف عائلي تخشى تلويثه‏.‏‏.‏ مضافاً إلى هذا كله أن نسلها من زوجها كان المجتمع ينظر إليهم نظرة أدنى من أولاد الحرائر‏.‏ فتعلق بهم هجنة الرق في صورة من الصور‏.‏‏.‏ وكل هذه الاعتبارات كانت قائمة في المجتمع الذي تشرع له هذه الآية‏.‏‏.‏

لهذه الاعتبارات كلها آثر الإسلام للمسلمين الأحرار ألا يتزوجوا من غير الحرائر، إذا هم استطاعوا الزواج من الحرائر‏.‏ وجعل الزواج من غير الحرة رخصة في حالة عدم الطول‏.‏ مع المشقة في الانتظار‏.‏

ولكن إذا وجدت المشقة، وخاف الرجال العنت‏.‏ عنت المشقة أو عنت الفتنة‏.‏ فإن الدين لا يقف أمامهم يذودهم عن اليسر والراحة والطمأنينة‏.‏

فهو يحل- إذن- الزواج من المؤمنات غير الحرائر اللواتي في ملك الآخرين‏.‏

ويعين الصورة الوحيدة التي يرضاها للعلاقة بين الرجال الأحرار وغير الحرائر‏.‏ وهي ذاتها الصورة التي رضيها من قبل في زواج الحرائر‏:‏

فأولاً‏:‏ يجب أن يكن مؤمنات‏:‏

‏{‏فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات‏}‏‏.‏‏.‏

وثانياً‏:‏ يجب أن يعطين أجورهن فريضة لهن لا لسادتهن‏.‏ فهذا حقهن الخالص‏.‏

‏{‏وآتوهن أجورهن‏}‏‏.‏

وثالثاً‏:‏ يجب أن تكون هذه الأجور في صورة صداق‏:‏ وأن يكون الاستمتاع بهن في صورة نكاح‏.‏ لا مخادنة ولا سفاح‏:‏ والمخادنة أن تكون لواحد‏.‏ والسفاح أن تكون لكل من أراد‏.‏

‏{‏محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان‏}‏‏.‏

وقد كان المجتمع إذ ذاك يعرف هذه الأنواع من الاتصال الجنسي بين الحرائر كما سلف من حديث عائشة- رضي الله عنها- كما كان يعرف كذلك بين غير الحرائر أنواعاً من البغاء‏.‏ وقد كان سادة من أشراف القوم يرسلون رقيقاتهم يكسبن بأجسامهن في هذا السبيل القذر، لحساب سادتهن‏.‏ وكان لعبدالله بن أبي بن سلول- رأس المنافقين في المدينة وهو من سادة قومه- أربع جوار يكسبن له من هذا السبيل‏!‏ وكانت هذه بقايا أو حال الجاهلية، التي جاء الإسلام ليرفع العرب منها، ويطهرهم ويزكيهم، كما يرفع منها سائر البشرية كذلك‏!‏

وكذلك جعل الإسلام طريقاً واحدة للمعاشرة بين الرجال الأحرار وهؤلاء «الفتيات»، هي طريق النكاح، الذي تتخصص فيه امرأة لرجل لتكوين بيت وأسرة، لا الذي تنطلق فيه الشهوات انطلاق البهائم‏.‏ وجعل الأموال في أيدي الرجال لتؤدى صداقاً مفروضاً، لا لتكون أجراً في مخادنة أو سفاح‏.‏‏.‏ وكذلك طهر الإسلام هذه العلاقات حتى في دنيا الرقيق من وحل الجاهلية، الذي تتلبط فيه البشرية كلما ارتكست في الجاهلية‏!‏ والذي تتلبط فيه اليوم في كل مكان، لأن رايات الجاهلية هي التي ترتفع في كل مكان، لا راية الإسلام‏!‏

ولكن- قبل أن نتجاوز هذا الموضع من الآية- ينبغي أن نقف أمام تعبير القرآن عن حقيقة العلاقات الإنسانية التي تقوم بين الأحرار والرقيق في المجتمع الإسلامي، وعن نظرة هذا الدين إلى هذا الأمر عندما واجهه المجتمع الإسلامي‏.‏ إنه لا يسمي الرقيقات‏:‏ رقيقات‏.‏ ولا جواري‏.‏ ولا إماء‏.‏ إنما يسميهن «فتيات»‏.‏

‏{‏فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات‏}‏‏.‏‏.‏

وهو لا يفرق بين الأحرار وغير الأحرار تفرقة عنصرية تتناول الأصل الإنساني- كما كانت الاعتقادات والاعتبارات السائدة في الأرض كلها يومذاك- إنما يذكر بالأصل الواحد، ويجعل الآصرة الإنسانية والآصرة الإيمانية هما محور الارتباط‏:‏

‏{‏والله أعلم بإيمانكم، بعضكم من بعض‏}‏‏.‏‏.‏

وهو لا يسمي من هن ملك لهم سادة‏.‏ إنما يسميهم «أهلاً»‏:‏

‏{‏فانكحوهن بإذن أهلهن‏}‏‏.‏

وهو لا يجعل مهر الفتاة لسيدها‏.‏ فمهرها إنما هو حق لها‏.‏ لذلك يخرج من قاعدة أن كسبها كله له‏.‏ فهذا ليس كسباً، إنما هو حق ارتباطها برجل‏:‏

‏{‏وآتوهن أجورهن‏}‏‏.‏‏.‏

وهو يكرمهن عن أن يكن بائعات أعراض بثمن، من المال إنما هو النكاح والإحصان‏:‏

‏{‏محصنات غير مسافحات ولامتحذات أخدان‏}‏‏.‏‏.‏

وكلها لمسات واعتبارات تحمل طابع التكريم لإنسانية هؤلاء الفتيات، حتى وهن في هذا الوضع، الذي اقتضته ملابسات وقتية، لا تطعن في أصل الكرامة الإنسانية‏.‏

وحين يقاس هذا التكريم إلى ما كان سائداً في جاهلية الأرض كلها يومذاك من النظرة إلى الرقيق، وحرمانه حق الانتساب إلى «إنسانية» السادة‏!‏ وسائر الحقوق التي تترتب على هذه «الإنسانية»‏.‏‏.‏ يبدو مدى النقلة التي نقل الإسلام إليها كرامة «الإنسان» وهو يرعاها في جميع الأحوال، بغض النظر عن الملابسات الطارئة التي تحد من أوضاع بعض الأناسي، كوضع الاسترقاق‏.‏

ويبدو مدى النقلة البعيدة حين يقاس صنيع الإسلام هذا، وتنظيمه لأوضاع هذه الحالة الطارئة بما تصنعه الجيوش الفاتحة في هذه الجاهلية الحديثة بنساء وفتيات البلاد المفتوحة‏.‏ وكلنا يعرف حكاية «الترفيه» أو قصة الوحل الذي تلغ فيه جيوش الجاهلية الفاتحة في كل مكان‏!‏ وتخلفه وراءها للمجتمع حين ترحل يعاني منه السنوات الطوال‏!‏

ثم يقرر الإسلام عقوبة مخففة على من ترتكب الفاحشة من هؤلاء الفتيات بعد إحصانها بالزواج، واضعاً في حسابه واقعها وظروفها التي تجعلها أقرب إلى السقوط في الفاحشة، وأضعف في مقاومة الإغراء من الحرة، مقدراً أن الرق يقلل من الحصانة النفسية، لأنه يغض من الشعور بالكرامة، والشعور بشرف العائلة- وكلاهما شعور يثير الإباء في نفس الحرة- كما يقدر الحالة الاجتماعية والاقتصادية، واختلافها بين الحرة والأمة، وأثرها في جعل هذه أكثر تسامحاً في عرضها، وأقل مقاومة لإغراء المال وإغراء النسب ممن يراودها عن نفسها‏!‏ يقدر الإسلام هذا كله فيجعل حد الأمة- بعد إحصانها- نصف حد الحرة المحصنة بالحرية قبل زواجها‏.‏

‏{‏فإذا أحصن‏.‏ فإن أتين بفاحشة، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب‏}‏‏.‏

ومفهوم أن النصف يكون من العقوبة التي تحتمل القسمة‏.‏ وهي عقوبة الجلد‏.‏ ولا يكون في عقوبة الرجم‏.‏ إذ لا يمكن قسمتها‏!‏ فإذا زنت الجارية المؤمنة المتزوجة عوقبت بنصف ما تعاقب به الحرة البكر‏.‏ أما عقوبة الجارية البكر فمختلف عليها بين الفقهاء‏.‏ هل تكون هذا الحد نفسه- وهو نصف ما على الحرة البكر- ويتولاه الإمام‏؟‏ أم تكون تأديباً يتولاه سيدها ودون النصف من الحد‏؟‏ وهو خلاف يطلب في كتب الفقه‏.‏

أما نحن- في ظلال القرآن- فنقف أمام مراعاة هذا الدين لواقع الناس وظروفهم، في الوقت الذي يأخذ بأيديهم في المرتقى الصاعد النظيف‏.‏

إن هذا الدين يأخذ في اعتباره- كما قلنا- واقع الناس، دون أن يدعهم يتلبطون في الوحل باسم هذا الواقع‏!‏

وقد علم الله ما يحيط بحياة الرقيق من مؤثرات‏.‏

تجعل الواحدة- ولو كانت متزوجة- أضعف من مقاومة الإغراء والوقوع في الخطيئة، فلم يغفل هذا الواقع ويقرر لها عقوبة كعقوبة الحرة، ولكن كذلك لم يجعل لهذا الواقع كل السلطات، فيعفيها نهائياً من العقوبة‏.‏

قوام وسط‏.‏ يلحظ كل المؤثرات وكل الملابسات‏.‏

كذلك لم يجعل من انحطاط درجة الرقيق سبباً في مضاعفة العقوبة، كما كانت قوانين الجاهلية السائدة في الأرض كلها تصنع مع الطبقات المنحطة والطبقات الراقية؛ أو مع الوضعاء والأشراف تخفف عن الأشراف، وتقسو على الضعاف‏.‏

كان المعمول به في القانون الروماني الشهير أن تشدد العقوبة كلما انحطت الطبقة‏.‏ فكان يقول‏:‏ «ومن يستهو أرملة مستقيمة أو عذراء، فعقوبته- إن كان من بيئة كريمة- مصادرة نصف ماله‏.‏ وإن كان من بيئة ذميمة فعقوبته الجلد والنفي من الأرض»‏.‏

وكان المعمول به في القانون الهندي الذي وضعه «منو» وهو القانون المعروف باسم «منوشاستر» أن البرهمي إن استحق القتل، فلا يجوز للحاكم إلا أن يحلق رأسه‏.‏ أما غيره فيقتل‏!‏ وإذا مد أحد المنبوذين إلى برهمي يداً أو عصاً ليبطش به قطعت يده‏.‏‏.‏‏.‏ الخ «

وكان اليهود إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد‏.‏

وجاء الإسلام ليضع الحق في نصابه؛ ولياخذ الجاني بالعقوبة، مراعياً جميع اعتبارات» الواقع «‏.‏ وليجعل حد الأمة- بعد الإحصان- نصف حد الحرة قبل الإحصان‏.‏ فلا يترخص فيعفيها من العقوبة، ويجعل إرادتها ملغاة كلية من ارتكاب الفعل تحت وطأة الظروف‏.‏ فهذا خلاف الواقع‏.‏ ولا يغفل واقعها كذلك فيعاقبها عقاب الحرة- وواقعها يختلف عن واقع الحرة‏.‏ ولا يتشدد تشدد الجاهلية مع الضعاف دون الأشراف‏!‏‏!‏‏!‏

وما تزال الجاهلية الحديثة في أمريكا وفي جنوب أفريقية وفي غيرها تزاول هذه التفرقة العنصرية، وتغفر للأشراف» البيض «ما لا تغفره للضعاف» الملونين «والجاهلية هي الجاهلية حيث كانت‏.‏ والإسلام هو الإسلام‏.‏‏.‏ حيث كان‏.‏‏.‏

ثم تنتهي الآية ببيان أن الزواج من الإماء رخصة لمن يخشى المشقة أو الفتنة‏.‏ فمن استطاع الصبر- في غير مشقة ولا فتنة- فهو خير‏.‏ لما أسلفناه من الملابسات التي تحيط بالزواج من الإماء‏:‏

‏{‏ذلك لمن خشي العنت منكم‏.‏ وأن تصبروا خير لكم‏.‏ والله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

إن الله لا يريد أن يعنت عباده، ولا أن يشق عليهم، ولا أن يوقعهم في الفتنة‏.‏ وإذا كان دينه الذي اختاره لهم، يريد منهم الاستعلاء والارتفاع والتسامي، فهو يريد منهم هذا كله في حدود فطرتهم الإنسانية، وفي حدود طاقتهم الكامنة، وفي حدود حاجاتهم الحقيقية كذلك‏.‏

‏.‏ ومن ثم فهو منهج ميسر، يلحظ الفطرة، ويعرف الحاجة، ويقدر الضرورة‏.‏ كل ما هنالك أنه لا يهتف للهابطين بالهبوط، ولا يقف أمامهم- وهم غارقون في الوحل- يبارك هبوطهم، ويمجد سقوطهم‏.‏ أو يعفيهم من الجهد في محاولة التسامي، أو من التبعة في قلة مقاومة الإغراء‏!‏

وهو هنا يهيب بالصبر حتى تتهيأ القدرة على نكاح الحرائر؛ فهن أولى أن تصان نفوسهن بالزواج، وأن تقوم عليهن البيوت، وأن ينجبن كرام الأبناء، وأن يحسن الإشراف على الجيل الناشئ، وأن يحفظن فراش الأزواج‏.‏‏.‏ فأما إذا خشي العنت‏:‏ عنت المشقة عند الصبر، وعنت الفتنة التي لا تقاوم، فهناك الرخصة، والمحاولة لرفع مستوى الإماء، بذلك التكريم الذي يضفيه عليهن‏.‏ فهن «فتياتكم» وهم «أهلهن»‏.‏ والجميع بعضهم من بعض يربطهم الإيمان‏.‏ والله أعلم بالإيمان‏.‏ ولهن مهورهن فريضة‏.‏ وهو نكاح لا مخادنة ولا سفاح‏.‏‏.‏ وهن مسؤولات إن وقعن في الخطيئة‏.‏‏.‏ ولكن مع الرفق والتخفيف ومراعاة الظروف‏:‏

‏{‏والله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

يعقب بها على الاضطرار لنكاح غير الحرائر‏.‏ ويعقب بها على تخفيف عقوبة الإماء‏.‏‏.‏ وهي في موضعها المناسب عقب هذه وتلك‏.‏ فمغفرة الله ورحمته وراء كل خطيئة، ووراء كل اضطرار‏.‏

ثم يجيء التعقيب الشامل على تلك الأحكام؛ وعلى تلك التنظيمات التي شرعها الله للأسرة في المنهج الإسلامي، ليرفع بها المجتمع المسلم من وهدة الحياة الجاهلية؛ وليرفع بها مستواه النفسي والخلقي والاجتماعي إلى القمة السامقة النظيفة الوضيئة التي رفعه إليها‏.‏ يجيء التعقيب ليكشف للجماعة المسلمة عن حقيقة ما يريده الله لها بهذا المنهج وبتلك الأحكام والتشريعات والتنظيمات؛ وعن حقيقة ما يريده بها الذين يتبعون الشهوات ويحيدون عن منهج الله‏:‏

‏{‏يريد الله ليبين لكم، ويهديكم سنن الذين من قبلكم، ويتوب عليكم، والله عليم حكيم، والله يريد أن يتوب عليكم؛ ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً‏.‏ يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفاً‏}‏‏.‏‏.‏

إن الله- سبحانه- يتلطف مع عباده؛ فيبين لهم حكمة تشريعاته لهم، ويطلعهم على ما في المنهج الذي يريده لحياتهم من خير ويسر‏.‏ إنه يكرمهم- سبحانه- وهو يرفعهم إلى هذا الأفق‏.‏ الأفق الذي يحدثهم فيه، ليبين لهم حكمة ما يشرعه لهم؛ وليقول لهم‏:‏ إنه يريد‏:‏ أن يبين لهم‏.‏‏.‏

‏{‏يريد الله ليبين لكم‏}‏‏.‏‏.‏

يريد الله ليكشف لكم عن حكمته؛ ويريد لكم أن تروا هذه الحكمة، وأن تتدبروها، وأن تقبلوا عليها مفتوحي الأعين والعقول والقلوب؛ فهي ليست معميات ولا ألغازاً؛ وهي ليست تحكماً لا علة له ولا غاية؛ وأنتم أهل لإدراك حكمتها؛ وأهل لبيان هذه الحكمة لكم‏.‏‏.‏ وهو تكريم للإنسان، يدرك مداه من يحسون حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، فيدركون مدى هذا التلطف الكريم‏.‏

‏{‏ويهديكم سنن الذين من قبلكم‏}‏‏.‏‏.‏

فهذا المنهج هو منهج الله الذي سنه للمؤمنين جميعاً‏.‏ وهو منهج ثابت في أصوله، موحد في مبادئه، مطرد في غاياته وأهدافه‏.‏‏.‏ هو منهج العصبة المؤمنة من قبل ومن بعد‏.‏ ومنهج الأمة الواحدة التي يجمعها موكب الإيمان على مدار القرون‏.‏

بذلك يجمع القرآن بين المهتدين إلى الله في كل زمان ومكان؛ ويكشف عن وحدة منهج الله في كل زمان ومكان؛ ويربط بين الجماعة المسلمة والموكب الإيماني الموصول، في الطريق اللاحب الطويل‏.‏ وهي لفتة تشعر المسلم بحقيقة أصله وأمته ومنهجه وطريقه‏.‏‏.‏ إنه من هذه الأمة المؤمنة بالله، تجمعها آصرة المنهج الإلهي، على اختلاف الزمان والمكان، واختلاف الأوطان؛ والألوان وتربطها سنة الله المرسومة للمؤمنين في كل جيل، ومن كل قبيل‏.‏

‏{‏ويتوب عليكم‏}‏‏.‏‏.‏

فهو- سبحانه- يبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم، ليرحمكم‏.‏‏.‏‏.‏ ليأخذ بيدكم إلى التوبة من الزلل، والتوبة من المعصية‏.‏ ليمهد لكم الطريق، ويعينكم على السير فيه‏.‏‏.‏

‏{‏والله عليم حكيم‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

فعن العلم والحكمة تصدر هذه التشريعات‏.‏ ومن العلم والحكمة تجيء هذه التوجيهات‏.‏ العلم بنفوسكم وأحوالكم‏.‏ والعلم بما يصلح لكم وما يصلحكم‏.‏ والحكمة في طبيعة المنهج وفي تطبيقاته على السواء‏.‏‏.‏‏.‏

‏{‏والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً‏}‏‏.‏‏.‏

وتكشف الآية الواحدة القصيرة عن حقيقة ما يريده الله للناس بمنهجه وطريقته، وحقيقة ما يريده بهم الذين يتبعون الشهوات، ويحيدون عن منهج الله- وكل من يحيد عن منهج الله إنما يتبع الشهوات- فليس هنالك إلا منهج واحد هو الجد والاستقامة والالتزام، وكل ما عداه إن هو إلا هوى يتبع، وشهوة تطاع، وانحراف وفسوق وضلال‏.‏

فماذا يريد الله بالناس، حين يبين لهم منهجه، ويشرع لهم سنته‏؟‏ إنه يريد أن يتوب عليهم‏.‏ يريد أن يهديهم‏.‏ يريد أن يجنبهم المزالق‏.‏ يريد أن يعينهم على التسامي في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة‏.‏

وماذا يريد الذين يتبعون الشهوات، ويزينون للناس منابع ومذاهب لم يأذن بها الله، ولم يشرعها لعباده‏؟‏ إنهم يريدن لهم أن يميلوا ميلاً عظيماً عن المنهج الراشد، والمرتقى الصاعد والطريق المستقيم‏.‏

وفي هذا الميدان الخاص الذي تواجهه الآيات السابقة‏:‏ ميدان تنظيم الأسرة؛ وتطهير المجتمع؛ وتحديد الصورة النظيفة الوحيدة، التي يحب الله أن يلتقي عليها الرجال والنساء؛ وتحريم ما عداها من الصور، وتبشيعها وتقبيحها في القلوب والعيون‏.‏‏.‏ في هذا الميدان الخاص ما الذي يريده الله وما الذي يريده الذين يتبعون الشهوات‏؟‏

فأما ما يريده الله فقد بينته الآيات السابقة في السورة‏.‏ وفيها إرادة التنظيم، وإرادة التطهير، وإرادة التيسير، وإرادة الخير بالجماعة المسلمة على كل حال‏.‏

وأما ما يريده الذين يتبعون الشهوات فهو أن يطلقوا الغرائز من كل عقال‏:‏ ديني، أو أخلاقي، أو اجتماعي‏.‏

‏.‏ يريدون أن ينطلق السعار الجنسي المحموم بلا حاجز ولا كابح، من أي لون كان‏.‏ السعار المحموم الذي لا يقر معه قلب، ولا يسكن معه عصب، ولا يطمئن معه بيت، ولا يسلم معه عرض، ولا تقوم معه أسرة‏.‏ يريدون أن يعود الآدميون قطعاناً من البهائم، ينزو فيها الذكران على الإناث بلا ضابط إلا ضابط القوة أو الحيلة أو مطلق الوسيلة‏!‏ كل هذا الدمار، وكل هذا الفساد، وكل هذا الشر باسم الحرية، وهي- في هذا الوضع- ليست سوى اسم آخر للشهوة والنزوة‏!‏

وهذا هو الميل العظيم الذي يحذر الله المؤمنين إياه، وهو يحذرهم ما يريده لهم الذين يتبعون الشهوات‏.‏ وقد كانوا يبذلون جهدهم لرد المجتمع المسلم إلى الجاهلية في هذا المجال الأخلاقي، الذي تفوقوا فيه وتفردوا بفعل المنهج الإلهي القويم النظيف‏.‏ وهو ذاته ما تريده اليوم الأقلام الهابطة والأجهزة الموجهة لتحطيم ما بقي من الحواجز في المجتمع دون الانطلاق البهيمي، الذي لا عاصم منه، إلا منهج الله، حين تقره العصبة المؤمنة في الأرض إن شاء الله‏.‏

واللمسة الأخيرة في التعقيب تتولى بيان رحمة الله بضعف الإنسان، فيما يشرعه له من منهج وأحكام‏.‏ والتخفيف عنه ممن يعلم ضعفه، ومراعاة اليسر فيما يشرع له، ونفي الحرج والمشقة والضرر والضرار‏.‏

‏{‏يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفاً‏}‏‏.‏‏.‏

فأما في هذا المجال الذي تستهدفه الآيات السابقة، وما فيها من تشريعات وأحكام وتوجيهات، فإرادة التخفيف واضحة؛ تتمثل في الاعتراف بدوافع الفطرة، وتنظيم الاستجابة لها وتصريف طاقتها في المجال الطيب المأمون المثمر، وفي الجو الطاهر النظيف الرفيع؛ دون أن يكلف الله عباده عنتاً في كبتها حتى المشقة والفتنة؛ ودون أن يطلقهم كذلك ينحدرون في الاستجابة لها بغير حد ولا قيد‏.‏

وأما في المجال العام الذي يمثله المنهج الإلهي لحياة البشر كلها فإرادة التخفيف تبدو كذلك واضحة؛ بمراعاة فطرة الإنسان، وطاقته، وحاجاته الحقيقية؛ وإطلاق كل طاقاته البانية‏.‏ ووضع السياج الذي يقيها التبدد وسوء الاستعمال‏!‏

وكثيرون يحسبون أن التقيد بمنهج الله- وبخاصة في علاقات الجنسين- شاق مجهد‏.‏ والانطلاق مع الذين يتبعون الشهوات ميسر مريح‏!‏ وهذا وهم كبير‏.‏‏.‏‏.‏ فإطلاق الشهوات من كل قيد؛ وتحري اللذة-واللذة- وحدها في كل تصرف؛ واقصاء «الواجب» الذي لا مكان له إذا كانت اللذة وحدها هي الحكم الأول والأخير؛ وقصر الغاية من التقاء الجنسين في عالم الإنسان على ما يطلب من مثل هذا الالتقاء في عالم البهائم؛ والتجرد في علاقات الجنسين من كل قيد أخلاقي، ومن كل التزام اجتماعي‏.‏‏.‏ إن هذه كلها تبدو يسراً وراحة وانطلاقاً، ولكنها في حقيقتها مشقة وجهد وثقلة‏.‏ وعقابيلها في حياة المجتمع- بل في حياة كل فرد- عقابيل مؤذية مدمرة ماحقة‏.‏‏.‏

والنظر إلى الواقع في حياة المجتمعات التي «تحررت‏!‏» من قيود الدين والأخلاق والحياء في هذه العلاقة، يكفي لإلقاء الرعب في القلوب‏.‏

لو كانت هنالك قلوب‏!‏

لقد كانت فوضى العلاقات الجنسية هي المعول الأول الذي حطم الحضارات القديمة‏.‏ حطم الحضارة الإغريقية وحطم الحضارة الرومانية وحطم الحضارة الفارسية‏.‏ وهذه الفوضى ذاتها هي التي أخذت تحطم الحضارة الغربية الراهنة؛ وقد ظهرت آثار التحطيم شبه كاملة في انهيارات فرنسا التي سبقت في هذه الفوضى؛ وبدأت هذه الآثار تظهر في أمريكا والسويد وانجلترا، وغيرها من دول الحضارة الحديثة‏.‏

وقد ظهرت آثار هذه الفوضى في فرنسا مبكرة، مما جعلها تركع على أقدامها في كل حرب خاضتها منذ سنة 1870 إلى اليوم، وهي في طريقها إلى الانهيار التام، كما تدل جميع الشواهد‏.‏ وهذه بعض الأمارات التي أخذت تبدو واضحة من بعد الحرب العالمية الأولى‏:‏

«إن أول ما قد جر على الفرنسيين تمكن الشهوات منهم‏:‏ اضمحلال قواهم الجسدية، وتدرجها إلى الضعف يوماً فيوماً‏.‏ فإن الهياج الدائم قد أوهن أعصابهم؛ وتعبد الشهوات يكاد يأتي على قوة صبرهم وجلدهم؛ وطغيان الأمراض السرية قد أجحف بصحتهم‏.‏ فمن أوائل القرن العشرين لا يزال حكام الجيش الفرنسي يخفضون من مستوى القوة والصحة البدنية المطلوب في المتطوعة للجند الفرنسي، على فترة كل بضع سنين‏.‏ لأن عدد الشبان الوافين بالمستوى السابق من القوة والصحة لا يزال يقل ويندر في الأمة على مسير الأيام‏.‏‏.‏ وهذا مقياس أمين، يدلنا كدلالة مقياس الحرارة- في الصحة والتدقيق- على كيفية اضمحلال القوى الجسدية في الأمة الفرنسية‏.‏ ومن أهم عوامل هذا الاضمحلال‏:‏ الأمراض السرية الفتاكة‏.‏ يدل على ذلك أن كان عدد الجنود الذين اضطرت الحكومة إلى أن تعفيهم من العمل، وتبعث بهم إلى المستشفيات، في السنتين الأوليين من سني الحرب العالمية الأولى، لكونهم مصابين بمرض الزهري، خمسة وسبعين الفاً‏.‏ وابتلي بهذا المرض وحده 242 جندياً في آن واحد في ثكنة متوسطة‏.‏ وتصور- بالله- حال هذه الأمة البائسة في الوقت الذي كانت فيه- بجانب- في المضيق الحرج بين الحياة والموت، فكانت أحوج ما تكون إلى مجاهدة كل واحد من أبنائها المحاربين لسلامتها وبقائها‏.‏ وكان كل فرنك من ثروتها مما يضن به ويوفر؛ وكانت الحال تدعو إلى بذل أكثر ما يمكن من القوة والوقت وسائر الأدوات والوسائل في سبيل الدفاع‏.‏ وكان- بجانب آخر- أبناؤها الشباب الذين تعطل آلاف منهم عن أعمال الدفاع، من جراء انغماسهم في اللذات؛ وما كفى أمتهم ذلك خسراناً، بل ضيعوا جانباً من ثروة الأمة ووسائلها في علاجهم، في تلك الأوضاع الحرجة»‏.‏

«يقول طبيب فرنسي نطاسي يدعى الدكتور ليريه‏:‏ إنه يموت في فرنسا ثلاثون ألف نسمة بالزهري، وما يتبعه من الأمراض الكثيرة في كل سنة‏.‏

وهذا المرض هو أفتك الأمراض بالأمة الفرنسية بعد حمى «الدق»‏.‏ وهذه جريرة مرض واحد من الأمراض السرية التي فيها عدا هذا أمراض كثيرة أخرى «‏.‏

والأمة الفرنسية يتناقص تعدادها بشكل خطير‏:‏ ذلك أن سهولة تلبية الميل الجنسي، وفوضى العلاقات الجنسية والتخلص من الأجنة والمواليد، لا تدع مجالاً لتكوين الأسرة، ولا لاستقرارها ولا لاحتمال تبعة الأطفال الذين يولدون من الالتقاء الجنسي العابر‏.‏ ومن ثم يقل الزواج، ويقل التناسل، وتتدحرج فرنسا منحدرة إلى الهاوية‏.‏

» سبعة أو ثمانية في الألف هو معدل الرجال والنساء الذين يتزوجون في فرنسا اليوم‏.‏ ولك أن تقدر من هذا المعدل المنخفض كثرة النفوس التي لا تتزوج من أهاليها‏.‏ ثم هذا النزر القليل من الذين يعقدون الزواج، قل فيهم من ينوون به التحصن والتزام المعيشة البرة الصالحة بل هم يقصدون به كل غرض سوى هذا الغرض‏.‏ حتى إنه كثيراً ما يكون من مقاصد زواجهم أن يحللوا به الولد النغل الذي قد ولدته أمه قبل النكاح‏!‏ ويتخذوه ولداً شرعياً‏!‏ فقد كتب «بول بيورو»‏:‏ من العادة الجارية في طبقة العاملين في فرنسا أن المرأة منهم تأخذ من خدنها ميثاقاً قبل أن يعقد بينهما النكاح، أن الرجل سيتخذ ولدها الذي ولدته قبل النكاح ولداً شرعياً له وجاءت امرأة في محكمة الحقوق بمدينة سين Siene فصرحت‏:‏ إنني كنت قد آذنت بعلي عن النكاح بأني لا أقصد بالزواج إلا استحلال الأولاد الذين ولدتهم نتيجة اتصالي به قبل النكاح‏.‏ وأما أن أعاشره وأعيش معه كزوجة، فما كان في نيتي عند ذاك، ولا هو في نيتي الآن‏.‏ ولذلك اعتزلت زوجي في أصيل اليوم الذي تم فيه زواجنا، ولم ألتق به إلى هذا اليوم، لأني كنت لا أنوي قط أن أعاشره معاشرة زوجية «‏.‏

» قال عميد كلية شهيرة في باريس لبول بيورو‏:‏ إن عامة الشباب يريدون بعقد النكاح استخدام بغي في بيتهم أيضاً‏.‏ ذلك أنهم يظلون مدة عشر سنين أو أكثر يهيمون في أودية الفجور أحراراً طلقاء‏.‏ ثم يأتي عليهم حين من دهرهم يملون تلك الحياة الشريدة المتقلقلة، فيتزوجون بامرأة بعينها، حتى يجمعوا بين هدوء البيت وسكينته، ولذة المخادنة الحرة خارج البيت «‏.‏

وهكذا تدهورت فرنسا‏.‏ وهكذا هزمت في كل حرب خاضتها، وهكذا تتوارى عن مسرح الحضارة ثم عن مسرح الوجود يوماً بعد يوم‏.‏ حتى تحق سنة الله التي لا تتخلف؛ وإن بدت بطيئة الدوران في بعض الأحيان‏!‏ بالقياس إلى تعجل الإنسان‏!‏

أما في الدول التي لا تزال تبدو فتية، أو لم تظهر فيها آثار الدمار واضحة بعد، فهذه نماذج مما يجري فيها‏:‏

يقول صحفي ممن زاروا السويد حديثاً‏.‏

‏.‏ بعد أن يتحدث عن «حرية الحب في السويد، وعن الرخاء المادي، والضمانات الاجتماعية في مجتمعها الاشتراكي النموذجي‏:‏»

«إذا كانت أقصى أحلامنا أن نحقق للشعب هذا المستوى الاقتصادي الممتاز؛ وأن نزيل الفوارق بين الطبقات بهذا الاتجاه الاشتراكي الناجح؛ وأن نؤمن المواطن ضد كل ما يستطيع أي عقل أن يتصوره من أنواع العقبات في الحياة‏.‏‏.‏ إذا وصلنا إلى هذا الحلم البهيج الذي نسعى بكل قوانا وإمكانياتنا إلى تحقيقه في مصر‏.‏‏.‏ فهل نرضى نتائجه الأخرى‏؟‏ هل نقبل الجانب الأسود من هذا المجتمع المثالي‏؟‏ هل نقبل» حرية الحب «وآثارها الخطيرة على كيان الأسرة‏؟‏

» دعونا نتحدث بالأرقام‏.‏‏.‏‏.‏ «

» مع وجود كل هذه المشجعات على الاستقرار في الحياة، وتكوين أسرة، فإن الخط البياني لعدد سكان السويد يميل إلى الانقراض‏!‏‏.‏‏.‏ مع وجود الدولة التي تكفل للفتاة إعانة زواج؛ ثم تكفل لطفلها الحياة المجانية حتى يتخرج في الجامعة، فإن الأسرة السويدية في الطريق إلى عدم إنجاب أطفال على الإطلاق‏!‏ «

» يقابل هذا انخفاض مستمر في نسبة المتزوجين‏.‏ وارتفاع مستمر في نسبة عدد المواليد غير الشرعبين‏.‏ مع ملاحظة أن عشرين في المائة من البالغين الأولاد والبنات لا يتزوجون أبداً «‏.‏

» لقد بدأ عهد التصنيع‏.‏ وبدأ معه المجتمع الاشتراكي في السويد عام1870‏.‏ كانت نسبة الأمهات- غير المتزوجات- في ذلك العام 7 في المائة، وارتفعت هذه النسبة في عام 1920 إلى 16 في المائة‏.‏ والاحصاءات بعد ذلك لم أعثر عليها‏.‏ ولكنها ولا شك مستمرة في الزيادة «‏.‏

» وقد أجرت المعاهد العلمية عدة استفسارات عن «الحب الحر» في السويد، فتبين منها أن الرجل تبدأ علاقاته الجنسية بدون زواج في سن الثامنة عشرة، والفتاة في سن الخامسة عشرة‏.‏ وأن 95 في المائة من الشبان في سن 21 سنة لهم علاقات جنسية‏!‏ «

» وإذا أردنا تفصيلات تقنع المطالبين بحرية الحب، فإننا نقول‏:‏ إن 7 في المائة من هذه العلاقات الجنسية مع خطيبات، و35 في المائة منها مع حبيبات‏!‏ و58 في المائة منها مع صديقات عابرات‏!‏ «

» وإذا سجلنا النسب عن علاقة المرأة الجنسية بالرجل قبل سن العشرين‏.‏ وجدنا أن 3 في المائة من هذه العلاقات مع أزواج‏.‏ و27 في المائة منها مع خطيب‏!‏ و64 في المائة منها مع صديق عابر‏!‏ «

» وتقول الأبحاث العلمية‏:‏ إن 80 في المائة من نساء السويد مارسن علاقات جنسية كاملة قبل الزواج و20 في المائة بقين بلا زواج‏!‏ «

» وأدت حرية الحب بطبيعة الحال إلى الزواج المتأخر، وإلى الخطبة الطويلة الأجل‏.‏ مع زيادة عدد الأطفال غير الشرعيين كما قلت «‏.‏

«والنتيجة الطبيعية بعد ذلك أن يزيد تفكك الأسرة‏.‏‏.‏ إن أهل السويد يدافعون عن» حرية الحب «بقولهم‏:‏ إن المجتمع السويدي ينظر نظرة احتقار إلى الخيانة بعد الزواج، كأي مجتمع متمدن آخر‏!‏ وهذا صحيح لا ننكره‏!‏ ولكنهم لا يستطيعون الدفاع عن الاتجاه إلى انقراض النسل‏.‏ ثم الزيادة المروعة في نسبة الطلاق»‏.‏

«إن نسبة الطلاق في السويد هي أكبر نسبة في العالم‏.‏ إن طلاقاً واحداً يحدث بين كل ست أو سبع زيجات، طبقاً للإحصاءات التي أعدتها وزارة الشؤون الاجتماعية بالسويد‏.‏ والنسبة بدأت صغيرة، وهي مستمرة في الزيادة‏.‏‏.‏ في عام 1925 كان يحدث 26 طلاقاً بين كل 100 ألف من السكان- ارتفع هذا الرقم إلى 104 في عام 1952، ثم ارتفع إلى 114 في عام 1954»‏.‏

«وسبب ذلك أن 30 في المائة من الزيجات تتم اضطراراً تحت ضغط الظروف، بعد أن تحمل الفتاة‏.‏ والزواج بحكم» الضرورة «لا يدوم بطبيعة الحال كالزواج العادي‏.‏ ويشجع على الطلاق أن القانون السويدي لا يضع أية عقبة أمام الطلاق إذا قرر الزوجان أنهما يريدان الطلاق‏.‏ فالأمر سهل جداً، وإذا طلب أحدهما الطلاق‏.‏ فإن أي سبب بسيط يقدمه، يمكن أن يتم به الطلاق‏!‏»

«وإذا كانت حرية الحب مكفولة في السويد‏.‏‏.‏ فهناك حرية أخرى يتمتع بها غالبية أهل السويد‏.‏‏.‏ إنها حرية عدم الإيمان بالله‏!‏ لقد انتشرت في السويد الحركات التحررية من سلطان الكنيسة على الإطلاق‏.‏ وهذه الظاهرة تسود النرويج والدنمرك أيضاً‏.‏ المدرسون في المدارس والمعاهد يدافعون عن هذه الحرية ويبثونها في عقول النشء والشباب‏.‏»

«والجيل الجديد ينحرف‏.‏‏.‏ وهذه ظاهرة جديدة تهدد الجيل الجديد في السويد وباقي دول اسكندنافيا‏.‏ إن افتقادهم للإيمان يجرفهم إلى الانحراف، وإلى الإدمان على المخدرات والخمور‏.‏‏.‏ وقد قدر عدد أطفال العائلات التي لها أب مدمن بحوالي 175 ألفاً‏.‏ أي ما يوازي 10 في المائة من مجموع أطفال العائلات كلها‏.‏ وإقبال المراهقين على إدمان الخمر يتضاعف‏.‏‏.‏ إن من يقبض عليهم البوليس السويدي في حالة سكر شديد من المراهقين بين سن 15 و17 يوازي ثلاثة أمثال عدد المقبوض عليهم بنفس السبب منذ 15 عاماً‏.‏ وعادة الشرب بين المراهقين والمراهقات تسير من سيئ إلى أسوأ‏.‏‏.‏ ويتبع ذلك حقيقة رهيبة»‏.‏

«إن عشر الذين يصلون إلى سن البلوغ في السويد يتعرضون لاضطرابات عقلية‏!‏ ويقول أطباء السويد‏:‏ إن50 في المائة من مرضاهم يعانون من اضطرابات عقلية تلازم أمراضهم الجسدية‏.‏ ولا شك أن التمادي في التمتع بحرية عدم الإيمان سيضاعف هذه الانحرافات النفسية، ويزيد من دواعي تفكك الأسرة‏.‏ ويقربهم إلى هوة انقراض النسل‏.‏‏.‏‏.‏»

والحال في أمريكا لا تقل عن هذه الحال‏.‏

ونذر السوء تتوالى‏.‏ والأمة الأمريكية في عنفوانها لا تتلفت للنذر‏.‏ ولكن عوامل التدمير تعمل في كيانها، على الرغم من هذا الرواء الظاهري؛ وتعمل بسرعة، مما يشي بسرعة الدمار الداخلي على الرغم من كل الظواهر الخارجية‏!‏‏!‏‏!‏

لقد وجد الذين يبيعون أسرار أمريكا وبريطانيا العسكرية لأعدائهم، لا لأنهم في حاجة إلى المال‏.‏ ولكن لأن بهم شذوذاً جنسياً، ناشئاً من آثار الفوضى الجنسية السائدة في المجتمع‏.‏

وقبل سنوات وضع البوليس الأمريكي يده على عصابة ضخمة ذات فروع في مدن شتى‏.‏ مؤلفة من المحامين والأطباء- أي من قمة الطبقة المثقفة- مهمتها مساعدة الأزواج والزوجات على الطلاق بإيجاد الزوج أو الزوجة في حالة تلبس بالزنا، وذلك لأن بعض الولايات لا تزال تشترط هذا الشرط لقبول توقيع الطلاق‏!‏ ومن ثم يستطيع الطرف الكاره أن يرفع دعوى على شريكه بعد ضبطه عن طريق هذه العصابة متلبساً، وهي التي أوقعته في حبائلها‏!‏

كذلك من المعروف أن هناك مكاتب مهمتها البحث عن الزوجات الهاربات والبحث عن الأزواج الهاربين‏!‏ وذلك في مجتمع لا يدري فيه الزوج إن كان سيعود فيجد زوجته في الدار أم يجدها قد طارت مع عشيق‏!‏ ولا تدري الزوجة إن كان زوجها الذي خرج في الصباح سيعود إليها أم ستخطفه أخرى أجمل منها أو أشد جاذبية‏!‏ مجتمع تعيش البيوت فيه في مثل هذا القلق الذي لا يدع عصباً يستريح‏!‏‏!‏‏!‏

وأخيراً يعلن رئيس الولايات المتحدة أن ستة من كل سبعة من شباب أمريكا لم يعودوا يصلحون للجندية بسبب الانحلال الخلقي الذي يعيشون فيه‏.‏

وقد كتبت إحدى المجلات الأمريكية منذ أكثر من ربع قرن تقول‏:‏

«عوامل شيطانية ثلاثة يحيط ثالوثها بدنيانا اليوم‏.‏ وهي جميعها في تسعير سعير لأهل الأرض، أولها‏:‏ الأدب الفاحش الخليع الذي لا يفتأ يزداد في وقاحة ورواجه بعد الحرب العالمية ‏(‏الأولى‏)‏ بسرعة عجيبة‏.‏ والثاني الأفلام السينمائية التي لا تذكي في الناس عواطف الحب الشهواني فحسب، بل تلقنهم دروساً عملية في بابه‏.‏ والثالث انحطاط المستوى الخلقي في عامة النساء، الذي يظهر في ملابسهن، بل في عريهن، وفي إكثارهن من التدخين، واختلاطهن بالرجال بلا قيد ولا التزام‏.‏‏.‏ هذه المفاسد الثلاث فينا إلى الزيادة والانتشار بتوالي الأيام‏.‏ ولا بد أن يكون مآلها زوال الحضارة والاجتماع النصرانيين وفناءهما آخر الأمر‏.‏ فإن نحن لم نحد من طغيانها، فلا جرم أن يأتي تاريخنا مشابهاً لتاريخ الرومان، ومن تبعهم من سائر الأمم، الذين قد أوردهم هذا الاتباع للأهواء والشهوات موارد الهلكة والفناء، مع ما كانوا فيه من خمر ونساء، أو مشاغل رقص ولهو وغناء»‏.‏

والذي حدث أن أمريكا لم تحد من طغيان هذه العوامل الثلاثة، بل استسلمت لها تماماً وهي تمضي في الطريق الذي سار فيه الرومان‏!‏

ويكتب صحفي آخر عن موجة انحراف الشباب في أمريكا وبريطانيا وفرنسا، ليهون من انحلال شبابنا‏!‏ يقول‏:‏

«انتشرت موجة الإجرام بين المراهقين والمراهقات من شباب أمريكا‏.‏

وأعلن حاكم ولاية نيويورك، أنه سوف يجعل علاج هذا الانحراف على رأس برنامج الإصلاح الذي يقوم به في الولاية‏:‏ «

» وعمد الحاكم إلى انشاء المزارع و«الإصلاحيات» التهذيبية والأندية الرياضية‏.‏‏.‏ الخ «

» ولكنه أعلن أن علاج الإدمان على المخدرات- التي انتشرت بصفة خاصة بين طلبة وطالبات الجامعات ومنها الحشيش والكوكايين‏!‏- لا يدخل في برنامجه، وأنه يترك أمره للسلطات الصحية‏!‏ «

» وأما في انجلترا فقد كثرت في العامين الأخيرين جرائم الاعتداء على النساء وعلى الفتيات الصغيرات في طرق الريف‏.‏ وفي معظم الحالات كان المعتدي أو المجرم غلاماً مراهقاً‏.‏ وفي بعضها كان المجرم يعمد إلى خنق الفتاة أو الطفلة، وتركها جثة هامدة، حتى لا تفشي سره، أو تتعرف عليه، إذا عرضه عليها رجال البوليس «‏.‏

» ومنذ شهرين اثنين كان شيخ عجوز في طريقه إلى القرية، عندما أبصر على جانب الطريق- وتحت شجرة- غلاماً يضاجع فتاة‏.‏‏.‏ «

» واقترب الشيخ منهما، ووكز الغلام بعصاه وزجره ووبخه، وقال له‏:‏ إن ما يفعله لا يجوز ارتكابه في الطريق العام‏!‏ «

» ونهض الفتى، وركل الشيخ بكل قوته في بطنه‏.‏‏.‏‏.‏ ووقع الشيخ «‏.‏

» وهنا ركله الفتى في رأسه بحذائه‏.‏‏.‏‏.‏ واستمر يركله بقسوة حتى تهشم الرأس‏!‏ «

» وكان الغلام في الخامسة عشرة، والفتاة في الثالثة عشرة من عمرها‏!‏ «

وقد قررت لجنة الأربعة عشر الأمريكية التي تعنى بمراقبة حالة البلاد الخلقية أن90 في المائة من الشعب الأمريكي مصابون بالأمراض السرية الفتاكة ‏(‏وذلك قبل وجود المركبات الحديثة من مضادات الحيويات كالبنسلين والاستريبتومايسين‏!‏‏)‏

وكتب القاضي لندسي بمدينة» دنفر «أنه من كل حالتي زواج تعرض قضية طلاق‏!‏

وكتب الطبيب العالم العالمي ألكسيس كاريل في كتابه‏:‏» الإنسان ذلك المجهول «‏:‏

» بالرغم من أننا بسبيل القضاء على إسهال الأطفال والسل والدفتريا والحمى التيفودية‏.‏ الخ فقد حلت محلها أمراض الفساد والانحلال‏.‏ فهناك عدد كبير من أمراض الجهاز العصبي والقوى العقلية‏.‏‏.‏‏.‏ ففي بعض ولايات أمريكا يزيد عدد المجانين الذين يوجدون في المصحات على عدد المرضى الموجودين في جميع المستشفيات الأخرى‏.‏ وكالجنون، فإن الاضطرابات العصبية وضعف القوى العقلية آخذ في الازدياد‏.‏ وهي أكثر العناصر نشاطاً في جلب التعاسة للأفراد، وتحطيم الأسر‏.‏‏.‏ إن الفساد العقلي أكثر خطورة على الحضارة من الأمراض المعدية، التي قصر علماء الصحة والأطباء اهتمامهم عليها حتى الآن‏!‏ «‏.‏‏.‏

هذا طرف مما تتكلفه البشرية الضالة، في جاهليتها الحديثة، من جراء طاعتها للذين يتبعون الشهوات ولا يريدون أن يفيئوا إلى منهج الله للحياة‏.‏

المنهج الملحوظ فيه اليسر والتخفيف على الإنسان الضعيف؛ وصيانته من نزواته، وحمايته من شهواته، وهدايته إلى الطريق الآمن، والوصول به إلى التوبة والصلاح والطهارة‏:‏

‏{‏والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً‏.‏ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً‏}‏‏.‏

والفقرة الثانية في هذا الدرس، تتناول جانباً من العلاقات المالية في المجتمع المسلم، لتنظيم طرق التعامل في هذا الجانب؛ لضمان طهارة التعامل بين الأفراد عامة؛ ثم لتقرير حق النساء كالرجال في الملك والكسب- كل حسب نصيبه- وأخيراً لتنظيم التعامل في عقود الولاء التي كانت سارية في الجاهلية وفي القسم الأول من صدر الإسلام، لتصفية هذا النظام، وتخصيص الميراث بالأقارب؛ ومنع عقود الولاء الجديدة‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل- إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم- ولا تقتلوا أنفسكم، إن الله كان بكم رحيماً‏.‏ ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً‏.‏ وكان ذلك على الله يسيراً‏.‏ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم؛ وندخلكم مدخلاً كريماً‏.‏ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن، وأسالوا الله من فضله، إن الله كان بكل شيء عليماً، ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون؛ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيداً‏}‏‏.‏‏.‏

إنها حلقة في سلسلة التربية، وحلقة في سلسلة التشريع‏.‏‏.‏ والتربية والتشريع في المنهج الإسلامي متلازمان؛ أو متداخلان؛ أو متكاملان‏.‏‏.‏ فالتشريع منظور فيه إلى التربية؛ كما هو منظور فيه إلى تنظيم شؤون الحياة الواقعية؛ والتوجيهات المصاحبة للتشريع منظور فيها إلى تربية الضمائر؛ كما أنه منظور فيها إلى حسن تنفيذ التشريع، وانبعاث التنفيذ عن شعور بجدية هذا التشريع؛ وتحقق المصلحة فيه‏.‏ والتشريع والتوجيه المصاحب منظور فيهما- معاً- إلى ربط القلب بالله، وإشعاره بمصدر هذا المنهج المتكامل من التشريع والتوجيه‏.‏‏.‏ وهذه هي خاصية المنهج الرباني للحياة البشرية‏.‏‏.‏ هذا التكامل الذي يصلح الحياة الواقعية، ويصلح الضمير البشري في ذات الأوان‏.‏‏.‏

وهنا في هذه الفقرة نجد النهي للذين آمنوا عن أكل أموالهم بينهم بالباطل- وبيان الوجه الحلال للربح في تداول الأموال- وهو التجارة- ونجد إلى جانبه تصوير أكل الأموال بالباطل بأنه قتل للأنفس؛ وهلكة وبوار‏.‏ ونجد إلى جانبه كذلك التحذير من عذاب الآخرة، ومس النار‏!‏‏.‏‏.‏ وفي الوقت ذاته نجد التيسير والوعد بالمغفرة والتكفير، والعون على الضعف والعفو عن التقصير‏.‏‏.‏ كذلك نجد تربية النفوس على عدم التطلع إلى ما أنعم الله على البعض، والتوجه إلى الله- صاحب العطاء- وسؤال من بيده الفضل والعطاء‏.‏

وذلك التوجيه مصاحب لتقرير حق الرجال ونصيبهم فيما اكتسبوا، وحق النساء ونصيبهن فيما اكتسبن، وهذا وذلك مصحوب بأن الله كان بكل شيء عليماً‏.‏‏.‏ كما أن بيان التصرف في عقود الولاء، والأمرء بالوفاء بها نجده مصحوباً بأن الله كان على كل شيء شهيداً‏.‏‏.‏ وهي لمسات وجدانية مؤثرة مصاحبة للتشريع، وتوجيهات تربوية من صنع العليم بالإنسان، وتكوينه النفسي، ومسالك نفسه ودروبها الكثيرة‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل- إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم- ولا تقتلوا أنفسكم‏.‏ إن الله كان بكم رحيماً‏.‏ ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً، وكان ذلك على الله يسيراً‏}‏‏.‏

النداء للذين آمنوا، والنهي لهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏‏.‏

مما يوحي بأنها عملية تطهير لبقايا رواسب الحياة الجاهلية في المجتمع الإسلامي؛ واستجاشة ضمائر المسلمين بهذا النداء‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏‏.‏‏.‏ واستحياء مقتضيات الإيمان‏.‏ مقتضيات هذه الصفة التي يناديهم الله بها، لينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل‏.‏

وأكل الأموال بالباطل يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله، أو نهى عنها، ومنها الغش والرشوة والقمار واحتكار الضروريات لإغلائها، وجميع أنواع البيوع المحرمة- والربا في مقدمتها- ولا نستطيع أن نجزم إن كان هذا النص قد نزل بعد تحريم الربا أو قبله؛ فإن كان قد نزل قبله، فقد كان تمهيداً للنهي عنه‏.‏ فالربا أشد الوسائل أكلاً للأموال بالباطل‏.‏ وإن كان قد نزل بعده، فهو يشمله فيما يشمل من ألوان أكل أموال الناس بالباطل‏.‏

واستثنى العمليات التجارية التي تتم عن تراض بين البائع والشاري‏:‏

‏{‏إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم‏}‏‏.‏‏.‏

وهو استثناء منقطع‏.‏‏.‏ تأويله‏:‏ ولكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم فليست داخلة في النص السابق‏.‏‏.‏ ولكن مجيئها هكذا في السياق القرآني، يوحي بنوع من الملابسة بينها وبين صور التعامل الأخرى، التي توصف بأنها أكل لأموال الناس بالباطل‏.‏‏.‏ وندرك هذه الملابسة إذا استصحبنا ما ورد في آيات النهي عن الربا- في سورة البقرة- من قول المرابين في وجه تحريم الربا‏:‏ ‏{‏إنما البيع مثل الربا‏}‏ ورد الله عليهم في الآية نفسها‏:‏ ‏{‏وأحل الله البيع وحرم الربا‏}‏‏.‏ فقد كان المرابون يغالطون؛ وهم يدافعون عن نظامهم الاقتصادي الملعون‏.‏ فيقولون‏:‏ إن البيع- وهو التجارة- تنشأ عنها زيادة في الأموال وربح‏.‏ فهو- من ثم- مثل الربا‏.‏ فلا معنى لإحلال البيع وتحريم الربا‏!‏

والفرق بعيد بين طبيعة العمليات التجارية والعمليات الربوية أولاً، وبين الخدمات التي تؤديها التجارة للصناعة وللجماهير؛ والبلاء الذي يصبه الربا على التجارة وعلى الجماهير‏.‏

فالتجارة وسيط نافع بين الصناعة والمستهلك؛ تقوم بترويج البضاعة وتسويقها؛ ومن ثم تحسينها وتيسير الحصول عليها معاً‏.‏

وهي خدمة للطرفين، وانتفاع عن طريق هذه الخدمة‏.‏ انتفاع يعتمد كذلك على المهارة والجهد؛ ويتعرض في الوقت ذاته للربح والخسارة‏.‏‏.‏

والربا على الضد من هذا كله‏.‏ يثقل الصناعة بالفوائد الربوية التي تضاف إلى أصل التكاليف ويثقل التجارة والمستهلك بأداء هذه الفوائد التي يفرضها على الصناعة‏.‏ وهو في الوقت ذاته- كما تجلى ذلك في النظام الرأسمالي عندما بلغ أوجه- يوجه الصناعة والاستثمار كله وجهة لا مراعاة فيها لصالح الصناعة ولا لصالح الجماهير المستهلكة؛ وإنما الهدف الأول فيها زيادة الربح للوفاء بفوائد القروض الصناعية‏.‏ ولو استهلكت الجماهير مواد الترف ولم تجد الضروريات‏!‏ ولو كان الاستثمار في أحط المشروعات المثيرة للغرائز، المحطمة للكيان الإنساني‏.‏‏.‏ وفوق كل شيء‏.‏‏.‏ هذا الربح الدائم لرأس المال؛ وعدم مشاركته في نوبات الخسارة- كالتجارة- وقلة اعتماده على الجهد البشري، الذي يبذل حقيقة في التجارة‏.‏‏.‏ إلى آخر قائمة الاتهام السوداء التي تحيط بعنق النظام الربوي؛ وتقتضي الحكم عليه بالإعدام؛ كما حكم عليه الإسلام‏!‏

فهذه الملابسة بين الربا والتجارة؛ هي التي لعلها جعلت هذا الاستدراك- ‏{‏إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم‏}‏ يجيء عقب النهي عن أكل الأموال بالباطل‏.‏ وإن كان استثناء منقطعاً كما يقول النحويون‏!‏

‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏.‏ إن الله كان بكم رحيماً‏}‏‏.‏‏.‏

تعقيب يجيء بعد النهي عن أكل الأموال بالباطل؛ فيوحي بالآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة الجماعة؛ إنها عملية قتل‏.‏‏.‏ يريد الله أن يرحم الذين آمنوا منها، حين ينهاهم عنها‏!‏

وإنها لكذلك‏.‏ فما تروج وسائل أكل الأموال بالباطل في جماعة‏:‏ بالربا‏.‏ والغش‏.‏ والقمار‏.‏ والاحتكار‏.‏ والتدليس‏.‏ والاختلاس‏.‏ والاحتيال‏.‏ والرشوة‏.‏ والسرقة‏.‏ وبيع ما ليس يباع‏:‏ كالعرض‏.‏ والذمة‏.‏ والضمير‏.‏ والخلق‏.‏ والدين‏!‏- مما تعج به الجاهليات القديمة والحديثة سواء- ما تروج هذه الوسائل في جماعة، إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها، وتتردى في هاوية الدمار‏!‏

والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة، المردية للنفوس؛ وهذا طرف من إرادة التخفيف عنهم؛ ومن تدارك ضعفهم الإنساني، الذي يرديهم حين يتخلون عن توجيه الله، إلى توجيه الذين يريدون لهم أن يتبعوا الشهوات‏!‏

ويلي ذلك التهديد بعذاب الآخرة، تهديد الذين يأكلون الأموال بينهم بالباطل، معتدين ظالمين‏.‏ تهديدهم بعذاب الآخرة؛ بعد تحذيرهم من مقتلة الحياة الدنيا ودمارها‏.‏ الآكل فيهم والمأكول؛ فالجماعة كلها متضامنة في التبعة؛ ومتى تركت الأوضاع المعتدية الظالمة، التي تؤكل فيها الأموال بالباطل تروج فيها فقد حقت عليها كلمة الله في الدنيا والآخرة‏:‏

‏{‏ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً، فسوف نصليه ناراً، وكان ذلك على الله يسيراً‏}‏‏.‏

وهكذا يأخذ المنهج الإسلامي على النفس أقطارها- في الدنيا والآخرة- وهو يشرع لها ويوجهها؛ ويقيم من النفس حارساً حذراً يقظاً على تلبية التوجيه، وتنفيذ التشريع؛ ويقيم من الجماعة بعضها على بعض رقيباً لأنها كلها مسؤولة؛ وكلها نصيبها المقتلة والدمار في الدنيا، وكلها تحاسب في الآخرة على إهمالها وترك الأوضاع الباطلة تعيش فيها‏.‏

‏.‏ ‏{‏وكان ذلك على الله يسيراً‏}‏ فما يمنع منه مانع، ولا يحول دونه حائل، ولا يتخلف، متى وجدت أسبابه عن الوقوع‏!‏

وفي مقابل اجتناب «الكبائر»- ومنها أكل الأموال بينهم بالباطل- يعدهم الله برحمته، وغفرانه، وتجاوزه، عما عدا الكبائر؛ مراعاة لضعفهم الذي يعلمه- سبحانه- وتيسيراً عليهم، وتطميناً لقلوبهم؛ وعوناً لهم على التحاجز عن النار؛ باجتناب الفواحش الكبار‏:‏

‏{‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه، نكفر عنكم سيئاتكم، وندخلكم مدخلاً كريماً‏}‏‏.‏

ألا ما أسمح هذا الدين‏!‏ وما أيسر منهجه‏!‏ على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو والطهر والنظافة، والطاعة‏.‏ وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود، والأوامر والنواهي، التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة؛ وإنشاء مجتمع نظيف سليم‏.‏

إن هذا الهتاف؛ وهذه التكاليف؛ لا تغفل- في الوقت ذاته- ضعف الإنسان وقصوره؛ ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه؛ ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها؛ ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة‏.‏

ومن ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة‏.‏ وبين الأشواق والضرورات‏.‏ وبين الدوافع والكوابح‏.‏ وبين الأوامر والزواجر‏.‏ وبين الترغيب والترهيب‏.‏ وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة‏.‏‏.‏

إنه حسبُ هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله؛ وأن تخلص حقاً في هذا الاتجاه، وأن تبذل غاية الجهد في طاعته ورضاه‏.‏‏.‏ فأما بعد ذلك‏.‏‏.‏ فهناك رحمة الله‏.‏‏.‏ هناك رحمة الله ترحم الضعف، وتعطف على القصور؛ وتقبل التوبة، وتصفح عن التقصير؛ وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين، في إيناس وفي تكريم‏.‏‏.‏

وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه‏.‏ أما مقارفة هذه الكبائر- وهي واضحة ضخمة بارزة؛ لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية‏!‏ فهي دليل على أن هذه النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة؛ ولم تستنفد الطاقة في المقاومة‏.‏‏.‏ وحتى هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على نفسه‏.‏‏.‏ وقد قال فيها‏:‏ ‏{‏والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم- ومن يغفر الذنوب إلا الله- ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون‏}‏‏.‏ وعدهم من ‏{‏المتقين‏}‏‏.‏

إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله، متى اجتنبت الكبائر؛ وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين‏.‏

أما ما هي الكبائر‏.‏‏.‏ فقد وردت أحاديث تعدد أنواعاً منها- ولا تستقصيها- وذلك بدليل احتواء كل حديث على مجموعة تزيد أو تنقص؛ مما يدل على أن هذه الأحاديث كانت تعالج حالات واقعة؛ فتذكر من الكبائر- في كل حديث- ما يناسب الملابسة الحاضرة، والمسلم لا يعسر عليه أن يعلم «الكبائر» من الذنوب‏.‏

وإن كانت تختلف عدداً ونوعاً بين بيئة وبيئة، وبين جيل وجيل‏!‏

ونذكر هنا قصة عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وهو المتحرج المتشدد الشديد الحساسية بالمعصية‏.‏ تبين- مع ذلك كله- كيف قوّم الإسلام حسه المرهف، وكيف جعل الميزان الحساس يعتدل في يده ويستقيم؛ وهو يعالج أمور المجتمع وأمور النفوس‏:‏

قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، عن ابن عون؛ عن الحسن أن ناساً سألوا عبدالله بن عمرو بمصر، فقالوا نرى أشياء من كتاب الله- عز وجل- أمر أن يعمل بها، لا يعمل بها؛ فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك‏.‏ فقدم وقدموا معه‏.‏ فلقي عمر- رضي الله- عنه فقال‏:‏ متى قدمت‏؟‏ فقال‏:‏ منذ كذا وكذا‏.‏ قال‏:‏ أبإذن قدمت‏؟‏ قال‏:‏ فلا أدري كيف رد عليه‏.‏ فقال‏:‏ أمير المؤمنين إن ناساً لقوني بمصر، فقالوا‏:‏ إنا نرى أشياء في كتاب الله، أمر أن يعمل بها، فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك‏.‏ قال‏:‏ فاجمعهم لي‏.‏ قال فجمعتهم له‏.‏ قال أبو عون‏:‏ أظنه قال‏:‏ في بهو‏.‏‏.‏ فأخذ أدناهم رجلاً؛ فقال‏:‏ أنشدك الله، وبحق الإسلام عليك، أقرأت القرآن كله‏!‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فهل أحصيته في نفسك‏؟‏ فقال‏:‏ اللهم لا- ولو قال‏:‏ نعم، لخصمه‏!‏ قال‏:‏ فهل أحصيته في بصرك‏؟‏ فهل أحصيته في لفظك‏؟‏ هل أحصيته في أثرك‏.‏‏.‏ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال‏:‏ ثكلت عمر أمه‏!‏ أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله‏؟‏ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات‏.‏ قال‏:‏ وتلا‏:‏ ‏{‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏ ثم قال‏:‏ هل علم أهل المدينة‏؟‏ أو قال‏:‏ هل علم أحد بما قدمتم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال لو علموا لوعظت بكم‏!‏ «‏.‏

فهكذا كان عمر- المتحرج الشديد الحساسية- يسوس القلوب والمجتمع؛ وقد قوم القرآن حسه؛ وأعطاه الميزان الدقيق‏.‏‏.‏» قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات‏!‏ «ولن نكون غير ما علم ربه أن نكون‏!‏ إنما المعول عليه هو القصد والتصويب والمحاولة والرغبة في الوفاء بالالتزامات، وبذل الجهد في هذا الوفاء‏.‏‏.‏ إنه التوازن والجد واليسر والاعتدال‏.‏

وفي سياق الحديث عن الأموال، وتداولها في الجماعة، تجيء تكملة فيما بين الرجال والنساء من ارتباطات ومعاملات‏.‏ وفيما كان من عقود الولاء وعلاقاتها بنظام التوريث العام‏.‏ الذي سبق تفصيله في أوائل السورة‏:‏