فصل: تفسير الآيات رقم (71- 86)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 86‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ‏(‏71‏)‏ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ‏(‏72‏)‏ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏73‏)‏ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏74‏)‏ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ‏(‏76‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏77‏)‏ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ‏(‏78‏)‏ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏79‏)‏ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ‏(‏80‏)‏ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏81‏)‏ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏83‏)‏ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ‏(‏84‏)‏ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ‏(‏86‏)‏‏}‏

نرجح أن تكون مجموعة هذه الآيات الواردة في هذا الدرس، نزلت في وقت مبكر‏.‏‏.‏ ربما كان ذلك بعد غزوة أحد، وقبل الخندق‏.‏ فصورة الصف المسلم التي تبدو من خلال هذه الآيات توحي بهذا‏.‏ توحي بوجود جماعات منوعة في داخل الصف، لم تنضج بعد؛ أو لم تؤمن إنما هي تنافق‏!‏ وتوحي بأن الصف كان في حاجة إلى جهود ضخمة من التربية والتوجيه، ومن الاستنهاض والتشجيع، لينهض بالمهمة الضخمة الملقاة على عاتق الجماعة المسلمة؛ والارتفاع إلى مستوى هذه المهمة‏.‏ سواء في التصورات الاعتقادية؛ أو في خوض المعركة مع المعسكرات المعادية‏.‏

وهذا الذي نقرره لا يطعن في الحقيقة الأخرى‏.‏ حقيقة أنه كان في هذا الصف من النماذج المسلمة من استوى على القمة السامقة؛ وصعد المرتقى إلى هذه القمة‏.‏‏.‏ ووصل‏.‏‏.‏ ولكننا إنما نتحدث عن «الصف المسلم» ككل‏.‏ وكبناء مختلط ولكنه غير متجانس؛ وهو في هذه الحالة يحتاج إلى الجهد الجاهد لتسويته وتنسيقه؛ مما هو ظاهر في هذه التوجيهات القرآنية الكثيرة‏.‏

والتدقيق في الملامح التي تبدو من خلال هذه التوجيهات، يجعلنا نعيش مع الجماعة المسلمة، في صورتها البشرية التي كثيراً ما ننساها‏!‏ ونرى فيها مواضع الضعف ومواضع القوة‏.‏ ونرى كيف كان القرآن يخوض المعركة مع الضعف البشري ومع رواسب الجاهلية ومع المعسكرات المعادية في وقت واحد‏.‏ ونرى منهج القرآن في التربية- وهو يعمل في النفوس الحية في عالم الواقع- ونرى طرفاً من الجهد الموصول الذي بذله هذا المنهج، حتى انتهى بهذه المجموعة- المختلفة الدرجات، المختلفة السمات، الملتقطة ابتداء من سفح الجاهلية- إلى ذلك التناسق والتكامل والارتفاع، الذي نشهده في أواخر أيام الرسول- صلى الله عليه وسلم- بقدر ما تسمح به الفطرة البشرية كذلك‏!‏

وهذا يفيدنا‏.‏‏.‏ يفيدنا كثيراً‏.‏‏.‏

يفيدنا في إدراك طبيعة النفس البشرية، وما تحمله من استعدادات الضعف واستعدادات القوة‏.‏ متمثلة في خير الجماعات‏.‏‏.‏ الجماعة التي رباها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالمنهج القرآني‏.‏‏.‏

ويفيدنا في إدراك طبيعة المنهج القرآني في التربية؛ وكيف كان يأخذ هذه النفوس؛ وكيف كان يتلطف لها؛ وكيف كان ينسق الصف، الذي يحتوي على نماذج شتى‏.‏ من مستويات شتى حيث نراه وهو يعمل في عالم الواقع‏.‏‏.‏ على الطبيعة‏.‏‏.‏ ‏!‏

ويفيدنا في أن نقيس حالنا وحال المجموعات البشرية؛ على واقع النفس البشرية، ممثلة في تلك الجماعة المختارة‏.‏‏.‏ كي لا نيأس من أنفسنا حين نطلع على مواضع الضعف، فنترك العلاج والمحاولة‏!‏ وكي لا تبقى الجماعة الأولى- على كل فضلها- مجرد حلم طائر في خيالنا، لا مطمع لنا في محاولة السير على خطاها‏.‏ من السفح الهابط، في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة‏!‏

وكل هذه ذخيرة، حين نخرج بها- من الحياة في ظلال القرآن- نكون قد جنينا خيراً كثيراً إن شاء الله‏.‏

إن من خلال هذه المجموعة من آيات هذا الدرس يبدو لنا أنه كان في الصف المسلم يومذاك‏:‏

«أ» من يبطئ نفسه عن الجهاد في سبيل الله، ومن يبطئ غيره‏.‏ ثم يحسبها غنيمة إذا لم يخرج فسلم، على حين أصابت المسلمين مصيبة‏!‏ كما يعدها خسارة إذا لم يخرج فغنم المسلمون، لأنه لم يكن له سهم في الغنيمة‏!‏ وبذلك يشتري الدنيا بالآخرة‏!‏

«ب» وكان فيه من المهاجرين أنفسهم- وممن كانت تأخذهم الحماسة للقتال ودفع العدوان وهم في مكة، مكفوفون عن القتال- من يأخذهم الجزع حينما كتب عليهم القتال في المدينة؛ ويتمنى لو أن الله أمهلهم إلى أجل، ولم يكتب عليهم القتال الآن‏!‏

«ج» ومن كان يرجع الحسنة- حين تصيبه- إلى الله؛ ويرجع السيئة- حين تصيبه- إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- لا لشدة إيمانه بالله طبعاً ‏;‏ ولكن لتجريح القيادة والتطير بها‏!‏

«د» ومن كان يقول‏:‏ طاعة، في حضرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- فإذا خرج بيت هو ومن لف لفه غير الذي يقول‏!‏

«ه» ومن كان يتناول الشائعات، فيذيع بها في الصف؛ محدثاً بها ما يحدثه من البلبة، قبل أن يتثبت منها، من القيادة التي يتبعها‏!‏

«و» ومن كان يشك في أن مصدر هذه الأوامر والتوجيهات كلها هو الله سبحانه‏.‏ ويظن أن بعضها من عند النبي- صلى الله عليه وسلم- لا مما أوحي له به‏!‏

«ز» ومن كان يدافع عن بعض المنافقين- كما سيأتي في مطلع الدرس التالي- حتى لتنقسم الجماعة المسلمة في أمرهم فئتين‏.‏‏.‏ مما يوحي بعدم التناسق في التصور الإيماني وفي التنظيم القيادي ‏(‏من ناحية عدم فهم المجموع لوظيفة القيادة وعلاقتهم بها في مثل هذه الشؤون‏)‏‏.‏‏.‏

وقد يكون هؤلاء جميعاً مجموعة واحدة من المنافقين؛ أو مجموعتين‏:‏ المنافقين‏.‏ وضعاف الإيمان، الذين لم تنضج شخصيتهم الإيمانية- ولو كان بعضهم من المهاجرين‏.‏‏.‏ ولكن وجود تلك المجموعة أو هاتين المجموعتين في الصف المسلم- وهو يواجه العداوات المحيطة به في المدينة من اليهود، وفي مكة من المشركين، وفي الجزيرة العربية كلها من المتربصين‏.‏‏.‏ من شأنه أن يحدث خلخلة في الصف؛ تحتاج إلى تربية طويلة، وإلى جهاد طويل‏!‏

ونحن نرى في هذا الدرس نماذج من هذا الجهاد، ومن هذه التربية‏.‏ وعلاجاً لكل خبيئة في النفس أو في الصف‏.‏ في دقة، وفي عمق، وفي صبر كذلك، يتمثل في صبر النبي- صلى الله عليه وسلم- قائد هذا الصف، الذي يتولى تربيته بالمنهج القرآني‏:‏

«أ» نرى الأمر بالحذر، فلا يخرج المجاهدون المؤمنون فرادى، للسرايا أو المهام الجهادية‏.‏

بل يخرجون «ثُباتٍ» أي سرايا أو فصائل‏.‏‏.‏ أو يخرجون جميعاً في جيش متكامل‏.‏ لأن الأرض حولهم ملغمة‏!‏ والعداوات حولهم شتى، والكمين قد يكون كامناً بينهم من المنافقين، أو ممن يؤويهم المنافقون واليهود من عيون الأعداء المتربصين‏!‏

«ب» ونرى تصويراً منفراً للمبطئين يبدو فيه سقوط الهمة؛ وحب المنفعة القريبة؛ والتلون من حال إلى حال، حسب اختلاف الأحوال‏!‏ وكذلك نرى التعجيب من حال أولئك الذين كانوا شديدي التحمس في مكة للقتال، فلما كتب عليهم في المدينة عراهم الجزع‏.‏

«ج» ونرى وعد الله لمن يقاتلون في سبيل الله، بالأجر العظيم، وإحدى الحسنيين‏:‏ ‏{‏ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏‏.‏‏.‏

«د» ونرى تصوير القرآن لشرف القصد، وارتفاع الهدف، ونبل الغاية، في القتال الذي يدفعهم إليه‏.‏‏.‏ ‏{‏في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين يقولون‏:‏ ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً‏}‏‏.‏‏.‏

«ه» كما نرى تصوير القرآن لأحقية الغاية التي يجاهد لها الذين آمنوا وقوة السند؛ إلى جانب بطلان غاية الذين كفروا وضعف سندهم فيها‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت‏.‏ فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً‏}‏‏.‏‏.‏

«و» ونرى معالجة المنهج القرآني للتصورات الفاسدة، التي تنشأ عنها المشاعر الفاسدة والسلوك الضعيف‏.‏ وذلك بتصحيح هذه التصورات الاعتقادية‏.‏‏.‏ مرة في بيان حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلاً‏}‏‏.‏‏.‏ ومرة في تقرير حتمية الموت ونفاذ المقدر فيه؛ مهما يتخذ المرء من الاحتياط، ومهما ينكل عن الجهاد‏:‏ ‏{‏أينما تكونوا يدرككم الموت، ولو كنتم في بروج مشيدة‏}‏‏.‏‏.‏ ومرة في تقرير حقيقة قدر الله وعمل الإنسان‏:‏ ‏{‏وإن تصبهم حسنة يقولوا‏:‏ هذه من عند الله‏.‏ وإن تصبهم سيئة يقولوا‏:‏ هذه من عندك‏.‏ قل‏:‏ كل من عند الله‏.‏ فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً‏؟‏ ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏}‏‏.‏‏.‏

«ز» ونرى القرآن يؤكد حقيقة الصلة بين الله- سبحانه- ورسوله- صلى الله عليه وسلم- وأن طاعته من طاعته‏.‏ ويقرر أن هذا القرآن كله من عنده؛ ويدعوهم إلى تدبر الوحدة الكاملة فيه، الدالة على وحدة مصدره‏:‏ ‏{‏من يطع الرسول فقد أطاع الله‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن‏؟‏ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏‏.‏

«ح» ثم نراه- بعد أن يصف حال المرجفين بالأنباء- يوجههم إلى الطريق الأسلم، المتفق مع قاعدة التنظيم القيادي للجماعة‏:‏ ‏{‏ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏‏.‏

«ط» ويحذرهم من عاقبة هذا الطريق، وهو يذكرهم فضل الله عليهم في هدايتهم‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً‏}‏‏.‏‏.‏

ونستطيع أن ندرك مدى الخلخلة التي كانت تنشئها هذه الظواهر في الجماعة المسلمة؛ والتي كانت تحتاج إلى مثل هذا الجهد الموصول، المنوع الأساليب‏.‏‏.‏ حين نسمع الله- سبحانه- يأمر نبيه- صلى الله عليه وسلم- بأن يجاهد- ولو كان وحيداً- وأن يحرض المؤمنين على القتال‏.‏ فيكون مسئولاً عن نفسه فحسب‏:‏ والله يتولى المعركة‏:‏ ‏{‏فقاتل في سبيل الله- لا تكلف إلا نفسك- وحرض المؤمنين، عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً‏}‏‏.‏‏.‏ وفي هذا الأسلوب ما فيه من استجاشة القلوب، واستثارة الهمم؛ بقدر ما فيه من استجاشة الأمل في النصر، والثقة ببأس الله وقوته‏.‏‏.‏

لقد كان القرآن يخوض المعركة بالجماعة المسلمة في ميادين كثيرة‏.‏ وكان أولها ميدان النفس ضد الهواجس والوساوس وسوء التصور ورواسب الجاهلية، والضعف البشري- حتى ولو لم يكن صادراً عن نفاق أو انحراف- وكان يسوسها بمنهجه الرباني لتصل إلى مرتبة القوة، ثم إلى مرتبة التناسق في الصف المسلم‏.‏ وهذه غاية أبعد وأطول أمداً‏.‏ فالجماعة حين يوجد فيها الأقوياء كل القوة، لا يغنيها هذا، إذا وجدت اللبنات المخلخلة في الصف بكثرة‏.‏‏.‏ ولا بد من التناسق مع اختلاف المستويات‏.‏‏.‏ وهي تواجه المعارك الكبيرة‏.‏

والآن نأخذ في مواجهة النصوص مواجهة تفصيلية‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم‏.‏ فانفروا ثبات، أو انفروا جميعاً‏.‏ وإن منكم لمن ليبطئن‏.‏ فإن أصابتكم مصيبة قال‏:‏ قد أنعم الله عليّ، إذ لم أكن معهم شهيداً‏.‏ ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن- كأن لم تكن بينكم وبينه مودة- يا ليتني كنت معهم، فأفوز فوزاً عظيماً‏}‏‏.‏‏.‏

إنها الوصية للذين آمنوا‏:‏ الوصية من القيادة العليا، التي ترسم لهم المنهج، وتبين لهم الطريق‏.‏ وإن الإنسان ليعجب، وهو يراجع القرآن الكريم؛ فيجد هذا الكتاب يرسم للمسلمين- بصفة عامة طبعاً- الخطة العامة للمعركة وهي ما يعرف باسم «استراتيجية المعركة»‏.‏ ففي الآية الأخرى يقول للذين أمنوا‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة‏}‏ فيرسم الخطة العامة للحركة الإسلامية‏.‏ وفي هذه الآية يقول للذين آمنوا‏:‏ ‏{‏خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً‏}‏ وهي تبين ناحية من الخطة التنفيذية أو ما يسمى «التاكتيك»‏.‏ وفي سورة الأنفال جوانب كذلك في الآيات‏:‏ ‏{‏فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون‏}‏

‏.‏‏.‏ الآيات‏.‏

وهكذا نجد هذا الكتاب لا يعلم المسلمين العبادات والشعائر فحسب؛ ولا يعلمهم الآداب والأخلاق فحسب- كما يتصور الناس الدين ذلك التصور المسكين‏!‏ إنما هو يأخذ حياتهم كلها جملة‏.‏ ويعرض لكل ما تتعرض له حياة الناس من ملابسات واقعية‏.‏‏.‏ ومن ثم يطلب- بحق- الوصاية التامة على الحياة البشرية؛ ولا يقبل من الفرد المسلم ولا من المجتمع المسلم، أقل من أن تكون حياته بجملتها من صنع هذا المنهج، وتحت تصرفه وتوجيهه‏.‏ وعلى وجه التحديد لا يقبل من الفرد المسلم، ولا من المجتمع المسلم أن يجعل لحياته مناهج متعددة المصادر‏:‏ منهجاً للحياة الشخصية، وللشعائر والعبادات، والأخلاق والآداب، مستمداً من كتاب الله‏.‏ ومنهجاً للمعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية، مستمداً من كتاب أحد آخر؛ أو من تفكير بشري على الإطلاق‏!‏ إن مهمة التفكير البشري أن تستنبط من كتاب الله ومنهجه أحكاماً تفصيلية تطبيقية لأحداث الحياة المتجددة، وأقضيتها المتطورة- بالطريقة التي رسمها الله في الدرس السابق من هذه السورة- ولا شيء وراء ذلك‏.‏ وإلا فلا إيمان أصلاً ولا إسلام‏.‏ لا إيمان ابتداء ولا إسلام، لأن الذين يفعلون ذلك لم يدخلوا بعد في الإيمان، ولم يعترفوا بعد بأركان الإسلام‏.‏ وفي أولها‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، التي ينشأ منها أن لا حاكم إلا الله، وأن لا مشرع إلا الله‏.‏

وها هو ذا كتاب الله يرسم للمسلمين جانباً من الخطة التنفيذية للمعركة؛ المناسبة لموقفهم حينذاك‏.‏ ولوجودهم بين العداوات الكثيرة في الخارج‏.‏ والمنافقين وحلفائهم اليهود في الداخل‏.‏ وهو يحذرهم ابتداء‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم‏}‏‏.‏‏.‏

خذو حذركم من عدوكم جميعاً‏.‏ وبخاصة المندسين في الصفوف من المبطئين، الذين سيرد ذكرهم في الآية‏:‏

‏{‏فانفروا ثباتٍ أو انفروا جميعاً‏}‏‏.‏‏.‏

ثُباتٍ‏.‏ جميع ثُبة‏:‏ أي مجموعة‏.‏‏.‏ والمقصود لا تخرجوا للجهاد فرادى‏.‏ ولكن اخرجوا مجموعات صغيرة، أو الجيش كله‏.‏‏.‏ حسب طبيعة المعركة‏.‏‏.‏ ذلك أن الآحاد قد يتصيدهم الأعداء، المبثوثون في كل مكان‏.‏ وبخاصة إذا كان هؤلاء الأعداء منبثين في قلب المعسكر الإسلامي‏.‏‏.‏ وهم كانوا كذلك؛ ممثلين في المنافقين، وفي اليهود، في قلب المدينة‏.‏

‏{‏وإن منكم لمن ليبطئن‏.‏ فإن أصابتكم مصيبة قال‏:‏ قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً‏.‏ ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن- كأن لم تكن بينكم وبينه مودة- يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً‏}‏‏.‏‏.‏

انفروا جماعات نظامية‏.‏ أو انفروا جميعاً‏.‏ ولا ينفر بعضكم ويتثاقل بعضكم- كما هو واقع- وخذوا حذركم‏.‏ لا من العدو الخارجي وحده؛ ولكن كذلك من المعوقين المبطئين المخذلين؛ سواء كانوا يبطئون أنفسهم- أي يقعدون متثاقلين- أو يبطئون غيرهم معهم؛ وهو الذي يقع عادة من المخذّلين المثبطين‏!‏

ولفظة «ليبطئن» مختارة هنا بكل ما فيها من ثقل وتعثر؛ وإن اللسان ليتعثر في حروفها وجرسها، حتى يأتي على آخرها، وهو يشدها شداً؛ وإنها لتصور الحركة النفسية المصاحبة لها تصويراً كاملاً بهذا التعثر والتثاقل في جرسها‏.‏

وذلك من بدائع التصوير الفني في القرآن، الذي يرسم حالة كاملة بلفظة واحدة‏.‏

وكذلك يشي تركيب الجملة كلها‏:‏ ‏{‏وإن منكم لمن ليبطئن‏}‏، بأن هؤلاء المبطئين- وهم معدودون من المسلمين- ‏{‏منكم‏}‏ يزاولون عملية التبطئة كاملة، ويصرون عليها إصراراً، ويجتهدون فيها اجتهاداً‏.‏‏.‏ وذلك بأسلوب التوكيد بشتى المؤكدات في الجملة‏!‏ مما يوحي بشدة إصرار هذه المجموعة على التبطئة، وشدة أثرها في الصف المسلم؛ وشدة ما يلقاه منها‏!‏

ومن ثم يسلط السياق الأضواء الكاشفة عليهم، وعلى دخيلة نفوسهم؛ ويرسم حقيقتهم المنفرة، على طريقة القرآن التصويرية العجيبة‏:‏

فها هم أولاء، بكل بواعثهم، وبكل طبيعتهم وبكل أعمالهم وأقوالهم‏.‏‏.‏ ها هم أولاء مكشوفين للأعين، كما لو كانوا قد وضعوا تحت مجهر، يكشف النوايا والسرائر؛ ويكشف البواعث والدوافع‏.‏

ها هم أولاء- كما كانوا على عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- وكما يكونون في كل زمان وكل مكان‏.‏ ها هم أولاء‏.‏ ضعافاً منافقين ملتوين؛ صغار الاهتمامات أيضاً‏:‏ لا يعرفون غاية أعلى من صالحهم الشخصي المباشر، ولا أفقاً أعلى من ذواتهم المحدودة الصغيرة‏.‏ فهم يديرون الدنيا كلها على محور واحد‏.‏ وهم هم هذا المحور الذي لا ينسونه لحظة‏!‏

إنهم يبطئون ويتلكأون، ولا يصارحون، ليمسكوا العصا من وسطها كما يقال‏!‏ وتصورهم للربح والخسارة هو التصور الذي يليق بالمنافقين الضعاف الصغار‏:‏

يتخلفون عن المعركة‏.‏‏.‏ فإن أصابت المجاهدين محنة، وابتلوا الابتلاء الذي يصيب المجاهدين- في بعض الأحايين- فرح المتخلفون؛ وحسبوا أن فرارهم من الجهاد، ونجاتهم من الابتلاء نعمة‏:‏

‏{‏فإن أصابتكم مصيبة قال‏:‏ قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً‏}‏‏.‏‏.‏

إنهم لا يخجلون- وهم يعدون هذه النجاة مع التخلف نعمة- أن ينسبوها لله‏.‏ الله الذي خالفوا عن أمره فقعدوا‏!‏ والنجاة في هذه الملابسة لا تكون من نعمة الله أبداً‏.‏ فنعمة الله لا تنال بالمخالفة‏.‏ ولو كان ظاهرها نجاة‏!‏

إنها نعمة‏!‏ ولكن عند الذين لا يتعاملون مع الله‏.‏ عند من لا يدركون لماذا خلقهم الله‏.‏ ولا يعبدون الله بالطاعة والجهاد لتحقيق منهجه في الحياة‏.‏ نعمة عند من لا يتطلعون إلى آفاق أعلى من مواطئ الأقدام في هذه الأرض‏.‏‏.‏ كالنمال‏.‏‏.‏ نعمة عند من لا يحسون أن البلاء- في سبيل الله وفي الجهاد لتحقيق منهج الله وإعلاء كلمة الله- هو فضل واختيار من الله، يختص به من يشاء من عباده؛ ليرفعهم في الحياة الدنيا على ضعفهم البشري، ويطلقهم من إسار الأرض يستشرفون حياة رفيعة، يملكونها ولا تملكهم‏.‏

وليؤهلهم بهذا الانطلاق وذلك الارتفاع للقرب منه في الآخرة‏.‏‏.‏ في منازل الشهداء‏.‏‏.‏

إن الناس كلهم يموتون‏!‏ ولكن الشهداء في- سبيل الله- هم وحدهم الذين «يستشهدون»‏.‏‏.‏ وهذا فضل من الله عظيم‏.‏

فأما إذا كانت الأخرى‏.‏‏.‏ فانتصر المجاهدون؛ الذين خرجوا مستعدين لقبول كل ما يأتيهم به الله‏.‏‏.‏ ونالهم فضل من الله بالنصر والغنيمة‏.‏‏.‏ ندم المتخلفون أن لم يكونوا شركاء في معركة رابحة‏!‏ رابحة بحسب مفهومهم القريب الصغير للربح والخسارة‏!‏

‏{‏ولئن أصابكم فضل من الله، ليقولن- كأن لم تكن بينكم وبينه مودة- يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً‏}‏‏.‏

إنها أمنية الفوز الصغير بالغنيمة والإياب، هي التي يقولون عنها‏:‏ ‏{‏فوزاً عظيماً‏}‏ والمؤمن لا يكره الفوز بالإياب والغنيمة؛ بل مطلوب منه أن يرجوه من الله‏.‏ والمؤمن لا يتمنى وقوع البلاء بل مطلوب منه أن يسأل الله العافية‏.‏‏.‏ ولكن التصور الكلي للمؤمن غير هذا التصور، الذي يرسمه التعبير القرآني لهذه الفئة رسماً مستنكراً منفراً‏.‏‏.‏

إن المؤمن لا يتمنى البلاء بل يسأل الله العافية‏.‏ ولكنه إذا ندب للجهاد خرج- غير متثاقل- خرج يسأل الله إحدى الحسنيين‏:‏ النصر أو الشهادة‏.‏‏.‏ وكلاهما فضل من الله؛ وكلاهما فوز عظيم‏.‏ فيقسم له الله الشهادة، فإذا هو راض بما قسم الله؛ أو فرح بمقام الشهادة عند الله‏.‏ ويقسم له الله الغنيمة والإياب، فيشكر الله على فضله، ويفرح بنصر الله‏.‏ لا لمجرد النجاة‏!‏

وهذا هو الأفق الذي أراد الله أن يرفع المسلمين إليه؛ وهو يرسم لهم هذه الصورة المنفرة لذلك الفريق «منهم» وهو يكشف لهم عن المندسين في الصف من المعوقين، ليأخذوا منهم حذرهم؛ ‏;‏ كما يأخذون حذرهم من أعدائهم‏!‏

ومن وراء التحذير والاستنهاض للجماعة المسلمة في ذلك الزمان، يرتسم نموذج إنساني متكرر في بني الإنسان، في كل زمان ومكان، في هذه الكلمات المعدودة من كلمات القرآن‏!‏

ثم تبقى هذه الحقيقة تتملاها الجماعة المسلمة أبداً‏.‏ وهي أن الصف قد يوجد فيه أمثال هؤلاء‏.‏ فلا ييئس من نفسه‏.‏ ولكن يأخذ حذره ويمضي‏.‏ ويحاول بالتربية والتوجيه والجهد، أن يكمل النقص، ويعالج الضعف، وينسق الخطى والمشاعر والحركات‏!‏

ثم يمضي السياق يحاول أن يرفع ويطلق هؤلاء المبطئين المثقلين بالطين‏!‏ وأن يوقظ في حسهم التطلع إلى ما هو خير وأبقى‏.‏‏.‏ الآخرة‏.‏‏.‏ وأن يدفعهم إلى بيع الدنيا وشراء الآخرة‏.‏ ويعدهم على ذلك فضل الله في الحالتين، وإحدى الحسنيين‏:‏ النصر أو الشهادة‏:‏

‏{‏فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة‏.‏ ومن يقاتل في سبيل الله، فيقتل أو يَغلب، فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏‏.‏‏.‏

فليقاتل- في سبيل الله- فالإسلام لا يعرف قتالاً إلا في هذا السبيل‏.‏ لا يعرف القتال للغنيمة ولا يعرف القتال للسيطرة‏.‏ ولا يعرف القتال للمجد الشخصي أو القومي‏!‏

إنه لا يقاتل للاستيلاء على الأرض؛ ولا للاستيلاء على السكان‏.‏

‏.‏ لا يقاتل ليجد الخامات للصناعات، والأسواق للمنتجات؛ أو لرؤوس الأموال يستثمرها في المستعمرات وشبه المستعمرات‏!‏

إنه لا يقاتل لمجد شخص‏.‏ ولا لمجد بيت‏.‏ ولا لمجد طبقة‏.‏ ولا لمجد دولة، ولا لمجد أمة، ولا لمجد جنس‏.‏ إنما يقاتل في سبيل الله‏.‏ لإعلاء كلمة الله في الأرض‏.‏ ولتمكين منهجه من تصريف الحياة‏.‏ ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج، وعدله المطلق «بين الناس» مع ترك كل فرد حراً في اختيار العقيدة التي يقتنع بها‏.‏‏.‏ في ظل هذا المنهج الرباني الإنساني العالمي العام‏.‏‏.‏

وحين يخرج المسلم ليقاتل في سبيل الله، بقصد إعلاء كلمة الله، وتمكين منهجه في الحياة‏.‏ ثم يقتل‏.‏‏.‏ يكون شهيداً‏.‏ وينال مقام الشهداء عند الله‏.‏‏.‏ وحين يخرج لأي هدف آخر- غير هذا الهدف- لا يسمى «شهيداً» ولا ينتظر أجره عند الله، بل عند صاحب الهدف الأخر الذي خرج له‏.‏‏.‏ والذين يصفونه حينئذ بأنه «شهيد» يفترون على الله الكذب؛ ويزكون أنفسهم أو غيرهم بغير ما يزكي به الله الناس‏.‏ افتراء على الله‏!‏

فليقاتل في سبيل الله- بهذا التحديد‏.‏‏.‏ من يريدون أن يبيعوا الدنيا ليشتروا بها الآخرة‏.‏ ولهم- حينئذ- فضل من الله عظيم؛ في كلتا الحالتين‏:‏ سواء من يُقتل في سبيل الله؛ ومن يَغلب في سبيل الله أيضاً‏:‏

‏{‏ومن يقاتل في- سبيل الله- فيقتل أو يغلب، فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏‏.‏‏.‏

بهذه اللمسة يتجه المنهج القرآني إلى رفع هذه النفوس؛ وإلى تعليقها بالرجاء في فضل الله العظيم؛ في كلتا الحالتين‏.‏ وأن يهوّن عليها ما تخشاه من القتل، وما ترجوه من الغنيمة كذلك‏!‏ فالحياة أو الغنيمة لا تساوي شيئاً إلى جانب الفضل العظيم من الله‏.‏ كما يتجه إلى تنفيرها من الصفقة الخاسرة إذا هي اشترت الدنيا بالآخرة ولم تشتر الآخرة بالدنيا ‏(‏ولفظ يشري من ألفاظ الضد فهي غالباً بمعنى يبيع‏)‏ فهي خاسرة سواء غنموا أو لم يغنموا في معارك الأرض‏.‏ وأين الدنيا من الآخرة‏؟‏ وأين غنيمة المال من فضل الله‏؟‏ وهو يحتوي المال- فيما يحتويه- ويحتوي سواه‏؟‏‏!‏

ثم يلتفت السياق إلى المسلمين‏.‏ يلتفت من أسلوب الحكاية والتصوير عن أولئك المبطئين؛ إلى أسلوب الخطاب للجماعة المسلمة كلها‏.‏ يلتفت إليها لاستجاشة مروءة النفوس، وحساسية القلوب؛ تجاه المستضعفين من الرجال والنساء والولدان؛ الذين كانوا يقاسون في مكة ما يقاسون على أيدي المشركين غير قادرين على الهجرة إلى دار الإسلام والفرار بدينهم وعقيدتهم؛ وهم يتطلعون إلى الخلاص، ويدعون الله أن يجعل لهم مخرجاً من دار الظلم والعدوان‏.‏‏.‏ يلتفت هذه الالتفاتة ليوحي إليهم بسمو المقصد، وشرف الغاية، ونبل الهدف، في هذا القتال، الذي يدعوهم أن ينفروا إليه، غير متثاقلين ولا مبطئين‏.‏

وذلك في أسلوب تحضيضي؛ يستنكر البطء والقعود‏:‏

‏{‏وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان‏.‏ الذين يقولون‏:‏ ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك ولياً، واجعل لنا من لدنك نصيراً‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وكيف تقعدون عن القتال في سبيل الله؛ واستنقاذ هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان‏؟‏ هؤلاء الذين ترتسم صورهم في مشهد مثير لحمية المسلم، وكرامة المؤمن، ولعاطفة الرحمة الإنسانية على الإطلاق‏؟‏ هؤلاء الذين يعانون أشد المحنة والفتنة؛ لأنهم يعانون المحنة في عقيدتهم، والفتنة في دينهم‏.‏ والمحنة في العقيدة أشد من المحنة في المال والأرض والنفس والعرض، لأنها محنة في أخص خصائص الوجود الإنساني، الذي تتبعه كرامة النفس والعرض، وحق المال والأرض‏!‏

ومشهد المرأة الكسيرة والولد الضعيف، مشهد مؤثر مثير‏.‏ لا يقل عنه مشهد الشيوخ الذين لا يملكون أن يدفعوا- وبخاصة حين يكون الدفع عن الدين والعقيدة- وهذا المشهد كله معروض في مجال الدعوة إلى الجهاد‏.‏ وهو وحده يكفي‏.‏ لذلك يستنكر القعود عن الاستجابة لهذه الصرخات‏.‏‏.‏ وهو أسلوب عميق الوقع، بعيد الغور في مسارب الشعور والإحساس‏.‏

ولا بد من لفتة هنا إلى التصور الإسلامي للبلد والأرض والوطن‏:‏ إن ‏{‏هذه القرية الظالم أهلها‏}‏ التي يعدها الإسلام- في موضعها ذاك- دار حرب، يجب أن يقاتل المسلمون لاستنقاذ المسلمين المستضعفين منها، هي «مكة» وطن المهاجرين، الذين يُدعون هذه الدعوة الحارة إلى قتال المشركين فيها‏.‏ ويدعو المسلمون المستضعفون هذه الدعوة الحادة للخروج منه‏!‏

إن كونها بلدهم لم يغير وضعها في نظر الإسلام- حين لم تقم فيها شريعة الله ومنهجه؛ وحين فتن فيها المؤمنون عن دينهم، وعذبوا في عقيدتهم‏.‏‏.‏ بل اعتبرت بالنسبة لهم هم أنفسهم «دار حرب»‏.‏‏.‏ دار حرب، هم لا يدافعون عنها، وليس هذا فحسب بل هم يحاربونها لإنقاذ إخوتهم المسلمين منها‏.‏‏.‏ إن راية المسلم التي يحامي عنها هي عقيدته‏.‏ ووطنه الذي يجاهد من أجله هو البلد الذي تقام شريعة الله فيه؛ وأرضه التي يدفع عنها هي «دار الإسلام» التي تتخذ المنهج الإسلامي منهجاً للحياة‏.‏‏.‏ وكل تصور آخر للوطن هو تصور غير إسلامي، تنضح به الجاهليات، ولا يعرفه الإسلام‏.‏

ثم لمسة نفسية أخرى، لاستنهاض الهمم، واستجاشة العزائم، وإنارة الطريق، وتحديد القيم والغايات والأهداف، التي يعمل لها كل فريق‏:‏

‏{‏الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله؛ والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت‏.‏ فقاتلوا أولياء الشيطان‏.‏ إن كيد الشيطان كان ضعيفاً‏}‏‏.‏‏.‏

وفي لمسة واحدة يقف الناس على مفرق الطريق‏.‏ وفي لحظة ترتسم الأهداف، وتتضح الخطوط‏.‏ وينقسم الناس إلى فريقين اثنين؛ تحت رايتين متميزتين‏:‏

‏{‏الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت‏}‏‏.‏

الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله؛ لتحقيق منهجه، وإقرار شريعته، وإقامة العدل «بين الناس» باسم الله‏.‏ لا تحت أي عنوان آخر‏.‏ اعترافاً بأن الله وحده هو الإله ومن ثم فهو الحاكم‏:‏

والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، لتحقيق مناهج شتى- غير منهج الله- وإقرار شرائع شتى- غير شريعة الله- وإقامة قيم شتى- غير التي أذن بها الله- ونصب موازين شتى غير ميزان الله‏!‏

ويقف الذين آمنوا مستندين الى ولاية الله وحمايته ورعايته‏.‏

ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم، وشتى مناهجهم، وشتى شرائعهم، وشتى طرائقهم، وشتى قيمهم، وشتى موازينهم‏.‏‏.‏‏.‏ فكلهم أولياء الشيطان‏.‏

ويأمر الله الذين أمنوا أن يقاتلوا أولياء الشيطان؛ ولا يخشوا مكرهم ولا مكر الشيطان‏:‏

‏{‏فقاتلوا أولياء الشيطان، إن كيد الشيطان كان ضعيفاً‏}‏‏.‏

وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة، مسندين ظهورهم إلى ركن شديد‏.‏ مقتنعي الوجدان بأنهم يخوضون معركة لله، ليس لأنفسهم منها نصيب، ولا لذواتهم منها حظ‏.‏ وليست لقومهم، ولا لجنسهم، ولا لقرابتهم وعشيرتهم منها شيء‏.‏‏.‏ إنما هي لله وحده، ولمنهجه وشريعته‏.‏ وأنهم يواجهون قوماً أهل باطل؛ يقاتلون لتغليب الباطل على الحق‏.‏ لأنهم يقاتلون لتغليب مناهج البشر الجاهلية- وكل مناهج البشر جاهلية- على شريعة منهج الله؛ ولتغليب شرائع البشر الجاهلية- وكل شرائع البشر جاهلية- على الله؛ ولتغليب ظلم البشر- وكل حكم للبشر من دون الله ظلم- على عدل الله، الذي هم مأمورون أن يحكموا به بين الناس‏.‏‏.‏

كذلك يخوضون المعركة، وهم يوقنون أن الله وليهم فيها‏.‏ وأنهم يواجهون قوماً، الشيطان وليهم فهم إذن ضعاف‏.‏‏.‏ إن كيد الشيطان كان ضعيفاً‏.‏‏.‏

ومن هنا يتقرر مصير المعركة في حس المؤمنين، وتتحدد نهايتها‏.‏ قبل أن يدخلوها‏.‏ وسواء بعد ذلك استشهد المؤمن في المعركة- فهو واثق من النتيجة- أم بقي حتى غلب، ورأى بعينيه النصر؛ فهو واثق من الأجر العظيم‏.‏

من هذا التصور الحقيقي للأمر في كلتا حالتيه، انبثقت تلك الخوارق الكثيرة التي حفظها تاريخ الجهاد في سبيل الله في حياة الجماعة المسلمة الأولى؛ والتي تناثرت على مدى التاريخ في أجيال كثيرة‏.‏ وما بنا أن نضرب لها هنا الأمثال؛ فهي كثيرة مشهورة‏.‏‏.‏ ومن هذا التصور كان ذلك المد الإسلامي العجيب، في أقصر فترة عرفت في التاريخ؛ فقد كان هذا التصور جانباً من جوانب التفوق الذي حققه المنهج الرباني للجماعة المسلمة، على المعسكرات المعادية‏.‏‏.‏ ذلك التفوق الذي أشرنا إليه من قبل في هذا الجزء‏.‏ وبناء هذا التصور ذاته كان طرفاً من المعركة الكلية الشاملة التي خاضها القرآن في نفوس المؤمنين، وهو يخوض بهم المعركة مع أعدائهم المتفوقين في العدد والعدة والمال؛ ولكنهم في هذا الجانب كانوا متخلفين؛ فأمسوا مهزومين‏!‏

وها نحن أولاء نرى الجهد الذي بذله المنهج في إنشاء هذا التصور وتثبيته‏.‏

فلم يكن الأمر هيناً‏.‏ ولم يكن مجرد كلمة تقال‏.‏ ولكنه كان جهداً موصولاً، لمعالجة شح النفس، وحرصها على الحياة- بأي ثمن- وسوء التصور لحقيقة الربح والخسارة‏.‏‏.‏ وفي الدرس بقية من هذا العلاج، وذلك الجهد الموصول‏.‏

إن السياق يمضي- بعد هذا- إلى التعجيب من أمر طائفة أو أكثر من المسلمين- قيل إن بعضهم من المهاجرين، الذين كانت تشتد بهم الحماسة- وهم في مكة يلقون الأذى والاضطهاد- ليؤذن لهم في قتال المشركين‏.‏ حيث لم يكن مأذوناً لهم- بعد- في قتال، للحكمة التي يعلمها الله؛ والتي قد نصيب طرفاً من معرفتها فيما سنذكره بعد‏.‏‏.‏ فلما كتب عليهم القتال، بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة، وعلم الله أن في هذا الإذن خيراً لهم وللبشرية‏.‏‏.‏ إذا هم- كما يصورهم القرآن- ‏{‏يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية‏!‏ وقالوا‏:‏ ربنا لم كتبت علينا القتال‏!‏ لولا أخرتنا إلى أجل قريب‏!‏‏}‏ ممن إذا أصابتهم الحسنة قالوا‏:‏ هذه من عند الله‏.‏ وإن أصابتهم السيئة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذه من عندك‏.‏ وممن يقولون‏:‏ طاعة حتى إذا خرجوا من عند الرسول- صلى الله عليه وسلم- بيت طائفة منهم غير الذي تقول‏.‏ وممن إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به‏.‏‏.‏‏.‏

يمضي السياق ليعجب من شأن هؤلاء، في الأسلوب القرآني؛ الذي يصور حالة النفس، كما لو كانت مشهداً يرى ويحس‏!‏ ويصحح لهم- ولغيرهم- سوء التصور والإدراك لحقائق الموت والحياة، والأجل والقدر، والخير والشر، والنفع والضرر، والكسب والخسارة، والموازين والقيم؛ ويبين لهم حقائقها في أسلوب يصور الحقائق في صورتها الموحية المؤثرة‏:‏

‏{‏ألم تر إلى الذين قيل لهم‏:‏ كفوا أيديكم، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏.‏ فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية‏.‏ وقالوا‏:‏ ربنا لم كتبت علينا القتال‏؟‏ لولا أخرتنا إلى أجل قريب‏!‏ قل‏:‏ متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلاً‏.‏ أينما تكونوا يدرككم الموت‏.‏ ولو كنتم في بروج مشيدة‏}‏‏.‏

‏{‏وإن تصبهم حسنة يقولوا‏:‏ هذه من عند الله‏.‏ وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك‏.‏ قل‏:‏ كل من عندالله‏.‏ فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً‏؟‏ ما أصابك من حسنة فمن الله‏.‏ وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏.‏ وأرسلناك للناس رسولاً، وكفى بالله شهيداً‏.‏ من يطع الرسول فقد أطاع الله؛ ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً‏}‏‏.‏

‏{‏ويقولون‏:‏ طاعة‏.‏ فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول- والله يكتب ما يبيتون- فأعرض عنهم، وتوكل على الله، وكفى بالله وكيلاً‏.‏

أفلا يتدبرون القرآن‏؟‏ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏‏.‏

‏{‏وأذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به‏.‏ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏.‏‏.‏ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً‏}‏‏.‏‏.‏

هؤلاء الذين تتحدث عنهم هذه المجموعات الأربع من الآيات؛ قد يكونون هم أنفسهم الذين تحدثت عنهم مجموعة سابقة في هذا الدرس‏:‏ ‏{‏وإن منكم لمن ليبطئن‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآيات‏.‏‏.‏‏.‏ ويكون الحديث كله عن تلك الطائفة من المنافقين؛ التي تصدر منها هذه الأعمال وهذه الأقوال كلها‏.‏

وقد كدنا نرجح هذا الرأي؛ لأن ملامح النفاق واضحة، فيما تصفه هذه المجموعات كلها‏.‏ وصدور هذه الأعمال وهذا الأقوال عن طوائف المنافقين في الصف المسلم، أمر أقرب إلى طبيعتهم، وإلى سوابقهم كذلك‏.‏ وطبيعة السياق القرآني شديدة الالتحام بين الآيات جميعا‏.‏‏.‏

ولكن المجموعة الأولى من هذه المجموعات التي تتحدث عن الذين‏:‏ ‏{‏قيل لهم‏:‏ كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏.‏ فلما كتب عليهم القتال‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآيات هي التي جعلتنا نتردد في اعتبار الآيات كلها حديثاً عن المنافقين- وإن بدت فيها صفات المنافقين وبدت فيها لحمة السياق واستطراده- وجعلتنا نميل إلى اعتبار هذه المجموعة واردة في طائفة من المهاجرين- ضعاف الإيمان غير منافقين- والضعف قريب الملامح من النفاق- وأن كل مجموعة أخرى من هذه المجموعات الأربع ربما كانت تصف طائفة بعينها من طوائف المنافقين، المندسين في الصف المسلم‏.‏ وربما كانت كلها وصفاً للمنافقين عامة؛ وهي تعدد ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال‏.‏

والسبب في وقوفنا هذا الموقف أمام آيات المجموعة الأولى؛ وظننا أنها تصف طائفة من المهاجرين الضعاف الإيمان؛ أو الذين لم ينضج بعد تصورهم الإيماني؛ ولم تتضح معالم الاعتقاد في قلوبهم وعقولهم‏.‏‏.‏

السبب هو أن المهاجرين هم الذين كان بعضهم تأخذه الحماسة والاندفاع، لدفع أذى المشركين- وهم في مكة- في وقت لم يكن مأذوناً لهم في القتال- فقيل لهم‏:‏ ‏{‏كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏‏.‏‏.‏

وحتى لو أخذنا في الاعتبار ما عرضه أصحاب بيعة العقبة الثانية الاثنان والسبعون على النبي- صلى الله عليه وسلم- من ميلهم على أهل منى- أي قتلهم- لو أمرهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- ورده عليهم‏:‏ «إننا لم نؤمر بقتال»‏.‏ فإن هذا لا يجعلنا ندمج هذه المجموعة من السابقين من الأنصار- أصحاب بيعه العقبة- في المنافقين، الذين تتحدث عنهم بقية الآيات‏.‏ ولا في الضعاف الذين تصفهم المجموعة الأولى‏.‏ فإنه لم يعرف عن هؤلاء الصفوة نفاق ولا ضعف؛ رضي الله عنهم جميعاً‏.‏

فأقرب الاحتمالات هو أن تكون هذه المجموعة واردة في بعض من المهاجرين، الذين ضعفت نفوسهم- وقد أمنوا في المدينة وذهب عنهم الأذى- عن تكاليف القتال‏.‏

‏.‏ وألا تكون بقية الأوصاف واردة فيهم، بل في المنافقين‏.‏ لأنه يصعب علينا- مهما عرفنا من ظواهر الضعف البشري- أن نسم أي مهاجر من هؤلاء السابقين بسمة رد السيئة إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- دون الحسنة‏!‏ أو قول الطاعة وتبييت غيرها‏.‏‏.‏ وإن كنا لا نستبعد أن توجد فيهم صفة الإذاعة بالأمر من الأمن أو الخوف‏.‏ لأن هذه قد تدل على عدم الدربة على النظام، ولا تدل على النفاق‏.‏‏.‏

والحق‏.‏‏.‏ أننا نجد أنفسنا- أمام هذه الآيات كلها- في موفق لا نملك الجزم فيه بشيء‏.‏ والروايات الواردة عنها ليس فيها جزم كذلك بشيء‏.‏‏.‏ حتى في آيات المجموعة الأولى‏.‏ التي ورد أنها في طائفة من المهاجرين؛ كما ورد أنها في طائفة من المنافقين‏!‏

ومن ثم نأخذ بالأحوط؛ في تبرئة المهاجرين من سمات التبطئة والانخلاع مما يصيب المؤمنين من الخير والشر‏.‏ التي وردت في الآيات السابقة‏.‏ ومن سمة إسناد السيئة للرسول- صلى الله عليه وسلم- دون الحسنة، ورد هذه وحدها إلى الله‏!‏ ومن سمة تبييت غير الطاعة‏.‏‏.‏ وإن كانت تجزئة سياق الآيات على هذا النحو ليست سهلة على من يتابع السياق القرآني، ويدرك- بطول الصحبة- طريقة التعبير القرآنية‏!‏‏!‏‏!‏ والله المعين‏.‏

‏{‏ألم تر إلى الذين قيل لهم‏:‏ كفوا أيديكم، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاه‏.‏‏.‏ فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية‏.‏ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال‏؟‏ لولا أخرتنا إلى أجل قريب‏!‏ قل‏:‏ متاع الدنيا قليل‏.‏ والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً‏.‏ أينما تكونوا يدرككم الموت، ولو كنتم في بروج مشيدة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

يعجب الله- سبحانه- من أمر هؤلاء الناس؛ الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال ويستعجلونه وهم في مكة، يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين‏.‏ حين لم يكن مأذونا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله‏.‏ فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدره الله؛ وتهيأت الظروف المناسبة وكتب عليهم القتال- في سبيل الله- إذا فريق منهم شديد الجزع، شديد الفزع، حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم- وهم ناس من البشر- كخشية الله ‏;‏ القهار الجبار، الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد‏.‏‏.‏ ‏{‏أو أشد خشية‏}‏ ‏!‏‏!‏ وإذا هم يقولون- في حسرة وخوف وجزع- ‏{‏ربنا لم كتبت علينا القتال‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ وهو سؤال غريب من مؤمن‏.‏ وهو دلالة على عدم وضوح تصوره لتكاليف هذا الدين؛ ولوظيفة هذا الدين أيضاً‏.‏‏.‏ ويتبعون ذلك التساؤل، بأمنية حسيرة مسكينة‏!‏ ‏{‏لولا أخرتنا إلى أجل قريب‏!‏‏}‏ وأمهلتنا بعض الوقت، قبل ملاقاة هذا التكليف الثقيل المخيف‏!‏

إن أشد الناس حماسة واندفاعاً وتهوراً، قد يكونون هم أشد الناس جزعاً وانهياراً وهزيمة عندما يجد الجد، وتقع الواقعة‏.‏

‏.‏ بل إن هذه قد تكون القاعدة‏!‏ ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالباً ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف‏.‏ لا عن شجاعة واحتمال وإصرار‏.‏ كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال‏.‏ قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة؛ فتدفعهم قلة الاحتمال، إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل‏.‏ دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار‏.‏‏.‏ حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا، وأشق مما تصوروا‏.‏ فكانوا أول الصف جزعاً ونكولاً وانهياراً‏.‏‏.‏ على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت؛ ويعدون للأمر عدته، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف‏.‏ فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته‏.‏‏.‏ والمتهورون المندفعون المستحمسون يحسبونهم إذا ذاك ضعافاً، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور‏!‏ وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالاً؛ وأي الفريقين أبعد نظراً كذلك‏!‏

وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف، الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه؛ ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة‏.‏ فيندفع يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة‏.‏ والرسول- صلى الله عليه وسلم- يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار، والتربية والإعداد، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب‏.‏ فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة؛ ولم يعد هناك أذى ولا إذلال، وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص؛ لم يعد يرى للقتال مبرراً؛ أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة‏!‏

‏{‏فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، وقالوا‏:‏ ربنا لم كتبت علينا القتال‏؟‏ لولا أخرتنا إلى أجل قريب‏!‏‏}‏‏.‏

وقد يكون هذا الفريق مؤمناً فعلا‏.‏ بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى‏!‏ وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا‏.‏ فالإيمان الذي لم ينضج بعد؛ والتصور الذي لم تتضح معالمه؛ ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض- وأنها أكبر من حماية الأشخاص، وحماية الأقوام، وحماية الأوطان، إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم؛ وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان، يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله؛ ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض؛ ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه إذا هو اختاره بكامل حريته- بأي لون من ألوان الفتنة- ومنها أن يطارد في رزقه أو في نشاطه حيث هو- وهذه كلها مهام خارجة عن وقوع أذى على أشخاص بعينهم أو عدم وقوعه‏.‏

‏.‏ وإذن فلم يكن الأمن في المدينة- حتى على فرض وجوده كاملاً غير مهدد- لينهي مهمة المسلمين هناك؛ وينهى عن الجهاد‏!‏

الإيمان الذي لم ينضج بعد ليبلغ بالنفس إلى إخراج ذاتها من الأمر؛ والاستماع فقط إلى أمر الله واعتباره هو العلة والمعلول، والسبب والمسبب، والكلمة الأخيرة- سواء عرف المكلف حكمتها أم لم تتضح له- والتصور الذي لم تتضح معالمه بعد ليعرف المؤمن مهمة هذا الدين في الأرض؛ ومهمته هو- المؤمن- بوصفه قدراً من قدر الله، ينفذ به الله ما يشاؤه في هذه الحياة‏.‏‏.‏ لا جرم ينشأ عنه مثل هذا الموقف، الذي يصوره السياق القرآني هذا التصوير؛ ويعجب منه هذا التعجيب‏!‏ وينفر منه هذا التنفير‏.‏

فأما لماذا لم يأذن الله للمسلمين- في مكة- بالانتصار من الظلم؛ والرد على العدوان؛ ودفع الأذى بالقوة‏.‏‏.‏ وكثيرون منهم كان يملك هذا؛ فلم يكن ضعيفاً ولا مستضعفاً؛ ولم يكن عاجزاً عن رد الصاع صاعين‏.‏‏.‏ مهما يكن المسلمون في ذلك الوقت قلة‏.‏‏.‏

أما حكمة هذا، والأمر بالكف عن القتال، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والصبر والاحتمال‏.‏‏.‏ حتى وبعض المسلمين يلقى من الأذى والعذاب ما لا يطاق، وبعضهم يتجاوز العذاب طاقته؛ فيفتن عن دينه‏.‏ وبعضهم لا يحتمل الاستمرار في العذاب فيموت تحت وطأته‏.‏‏.‏

أما حكمة هذا فلسنا في حل من الجزم بها‏.‏ لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة؛ ونفرض على أوامره أسباباً وعللاً، قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية‏.‏ أو قد تكون، ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها، ويعلم- سبحانه- أن فيها الخير والمصلحة‏.‏‏.‏ وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف‏.‏ أو أي حكم في شريعة الله- لم يبين الله سببه محدداً جازماً حاسماً- فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف؛ أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم أو طريقة أداء ذلك التكليف، مما يدركه عقله ويحسن فيه‏.‏‏.‏ فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال‏.‏ ولا يجزم- مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله- بأن ما رآه هو حكمة؛ هو الحكمة التي أرادها الله‏.‏‏.‏ نصاً‏.‏‏.‏ وليس وراءها شيء، وليس من دونها شيء‏!‏ فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله‏.‏ ومقتضى ما بين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف في الطبيعة والحقيقة‏.‏

وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة‏.‏‏.‏ نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب‏.‏‏.‏ على أنه مجرد احتمال‏.‏‏.‏ وندع ما وراءه لله‏.‏ لا نفرض على أمره أسباباً وعللاً، لا يعلمها إلا هو‏.‏‏.‏ ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح‏!‏

إنها أسباب‏.‏

‏.‏ اجتهادية‏.‏‏.‏ تخطئ وتصيب‏.‏ وتنقص وتزيد‏.‏ ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله‏.‏ وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان‏:‏

«أ» ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد؛ في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة‏.‏ ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به‏.‏ ليخلص من شخصه، ويتجرد من ذاته، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به، محوراً لحياة في نظره، ودافع الحركة في حياته‏.‏‏.‏ وتربيته كذلك على ضبط أعصابه؛ فلا يندفع لأول مؤثر- كما هي طبيعته- ولا يهتاج لأول مهيج‏.‏ ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته‏.‏‏.‏ وتربيته على أن يتبع مجتمعاً منظماً له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته؛ ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره- مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته- وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي، لإنشاء «المجتمع المسلم» الخاضع لقيادة موجهة؛ المترقي المتحضر، غير الهمجي أو القبلي‏.‏

«ب» وربما كان ذلك أيضاً، لأن الدعوة السلمية أشد أثراً وأنفذ، في مثل بيئة قريش؛ ذات العنجهية والشرف؛ والتي قد يدفعها القتال معها- في مثل هذه الفترة- إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية جديدة، كثارات العرب المعروفة، التي أثارت حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس- أعواماً طويلة، تفانت فيها قبائل برمتها- وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام‏.‏ فلا تهدأ بعد ذلك أبداً‏.‏ ويتحول الإسلام من دعوة، إلى ثارات وذحول تنسى معها فكرته الأساسية، وهو في مبدئه، فلا تذكر أبداً‏!‏

«ج» وربما كان ذلك أيضاً، اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت‏.‏ فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم‏.‏ إنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد، يعذبونه هم ويفتنونه و«يؤدبونه»‏!‏ ومعنى الإذن بالقتال- في مثل هذه البيئة- أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت‏.‏‏.‏ ثم يقال‏:‏ هذا هو الإسلام‏!‏ ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال‏!‏ فقد كانت دعاية قريش في الموسم، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة‏:‏ إن محمداً يفرق بين الوالد وولده؛ فوق تفريقه لقومه وعشيرته‏!‏ فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي‏.‏‏.‏ في كل بيت وكل محلة‏؟‏

«د» وربما كان ذلك أيضاً، لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم، ويعذبونهم ويؤذونهم؛ هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته‏.‏

‏.‏ ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء‏؟‏‏!‏

«ه» وربما كان ذلك، أيضاً، لأن النخوة العربية، في بيئة قبلية، من عادتها أن تثور للمظلوم، الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع‏!‏ وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم‏.‏‏.‏ وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة- في هذه البيئة- فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر- وهو رجل كريم- يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عاراً على العرب‏!‏ وعرض عليه جواره وحمايته‏.‏‏.‏‏.‏ وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب، بعدما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة‏.‏‏.‏ بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذل، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة؛ وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي‏!‏

«و» وربما كان ذلك أيضاً، لقلة عدد المسلمين حينذاك، وانحصارهم في مكة‏.‏ حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة‏.‏ أو بلغت أخبارها متناثرة؛ حيث كانت القبائل تقف على الحياد، من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف‏.‏‏.‏ ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة- حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم- ويبقى الشرك، وتنمحي الجماعة المسلمة‏.‏ ولم يقم في الأرض للإسلام نظام، ولا وجد له كيان واقعي‏.‏‏.‏ وهو دين جاء ليكون منهج حياة، وليكون نظاماً واقعياً عملياً للحياة‏.‏

«ز» في الوقت ذاته لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال ودفع الأذى‏.‏ لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائماً- وقتها- ومحققاً‏.‏‏.‏ هذا الأمر الأساسي هو «وجود الدعوة»‏.‏‏.‏ وجودها في شخص الداعية- صلى الله عليه وسلم- وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع‏!‏ والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم، إذا هي امتدت يدها إلى محمد- صلى الله عليه وسلم- فكان شخص الداعية من ثم محمياً حماية كافية‏.‏‏.‏ وكان الداعية يبلغ دعوته- إذن- في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي، ولا يكتمها، ولا يخفيها، ولا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها، في ندوات قريش في الكعبة، ومن فوق جبل الصفا؛ وفي اجتماعات عامة‏.‏‏.‏ ولا يجرؤ أحد على سد فمه؛ ولا يجرؤ أحد على خطفه وسجنه أو قتله‏!‏ ولا يجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلاماً بعينه يقوله؛ يعلن فيه بعض حقيقة دينه؛ ويسكت عن بعضها‏.‏ وحين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف‏.‏

وحين طلبوا إليه أن يسكت عن عيب دين آبائهم وأجدادهم وكونهم في جهنم لم يسكت‏.‏ وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا‏.‏ أي أن يجاملهم فيجاملوه؛ بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا هم بعض عبادته، لم يدهن‏.‏‏.‏‏.‏ وعلى الجملة كان للدعوة «وجودها» الكامل، في شخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- محروساً بسيوف بني هاشم- وفي إبلاغه لدعوة ربه كاملة في كل مكان وفي كل صورة‏.‏‏.‏ ومن ثم لم تكن هنالك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة، والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئية التي هي في مجموعها، مساندة للدعوة ومساعدة في مثل هذه البيئة‏.‏

هذه الاعتبارات- كلها- فيما نحسب- كانت بعض ما اقتضت حكمة الله- معه- أن يأمر المسلمين بكف أيديهم‏.‏ وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة‏.‏‏.‏ لتتم تربيتهم وإعدادهم، ولينتفع بكل إمكانيات الخطة في هذه البيئة؛ وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة، في الوقت المناسب‏.‏ وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظ‏.‏ لتكون خالصة لله‏.‏ وفي سبيل الله‏.‏‏.‏ والدعوة لها «وجودها» وهي قائمة ومؤداة ومحمية ومحروسة‏.‏‏.‏‏.‏

وأياً ما كانت حكمة الله من وراء هذه الخطة، فقد كان هناك المتحمسون يبدون لهفتهم على اللحظة التي يؤذن لهم فيها بالقتال‏:‏

‏{‏فلما كتب عليهم القتال، إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية‏.‏ وقالوا‏:‏ ربنا لم كتبت علينا القتال‏؟‏ لولا أخرتنا إلى أجل قريب‏!‏‏}‏‏.‏

وكان وجود هذه الطائفة في الصف المسلم ينشئ فيه حالة من الخلخلة وينشى ء فيه حالة من عدم التناسق بين هذه الطائفة الجزوع الهلوع، وبين الرجال المؤمنين، ذوي القلوب الثابتة المطمئنة؛ المستقبلة لتكاليف الجهاد- على كل ما فيها من مشقة- بالطمأنينة والثقة والعزم والحماسة أيضاً‏.‏ ولكن في موضعها المناسب‏.‏ فالحماسة في تنفيذ الأمر حين يصدر هي الحماسة الحقيقية‏.‏ أما الحماسة قبل الأمر، فقد تكون مجرد اندفاع وتهور؛ يتبخر عند مواجهة الخطر‏!‏

وكان القرآن يعالج هذه الحالة بمنهجه الرباني‏:‏

‏{‏قل‏:‏ متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلاً‏.‏ أينما تكونوا يدرككم الموت، ولو كنتم في بروج مشيدة‏}‏‏.‏‏.‏

إنهم يخشون الموت، ويريدون الحياة‏.‏ ويتمنون في حسرة مسكينة‏!‏ لو كان الله قد أمهلهم بعض الوقت؛ ومد لهم- شيئاً- في المتاع بالحياة‏!‏

والقرآن يعالج هذه المشاعر في منابتها؛ ويجلو غبش التصور لحقيقة الموت والأجل‏.‏‏.‏

‏{‏قل متاع الدنيا قليل‏}‏‏.‏‏.‏

متاع الدنيا كله‏.‏ والدنيا كلها‏.‏ فما بال أيام، أو أسابيع، أو شهور، أو سنين‏؟‏ ما قيمة هذا الإمهال لأجل قصير‏.‏ إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلا‏؟‏‏!‏ ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيام، أو أسابيع، أو شهور، أو سنين‏.‏

ومتاع الدنيا كله والدنيا بطولها قليل‏!‏‏؟‏

‏{‏والآخرة خير لمن اتقى‏}‏‏.‏‏.‏

فالدنيا- أولاً- ليست نهاية المطاف ولا نهاية الرحلة‏.‏‏.‏ إنها مرحلة‏.‏‏.‏ ووراءها الآخرة والمتاع فيها هو المتاع- فضلاً على أن المتاع فيها طويل كثير- فهي ‏{‏خير‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏خير لمن اتقى‏}‏‏.‏‏.‏ وتذكر التقوى هنا والخشية والخوف في موضعها‏.‏ التقوى لله‏.‏ فهو الذي يتقى، وهو الذي يخشى‏.‏ وليس الناس الناس‏.‏‏.‏ الذين سبق أن قال‏:‏ إنهم يخشونهم كخشية الله- أو أشد خشية‏!‏- والذي يتقي الله لا يتقي الناس‏.‏ والذي يعمر قلبه الخوف من الله لا يخاف أحداً‏.‏ فماذا يملك له إذا كان الله لا يريد‏؟‏

‏{‏ولا تظلمون فتيلاً‏}‏

فلا غبن ولا ضير ولا بخس؛ إذا فاتهم شيء من متاع الدنيا‏.‏ فهناك الآخرة‏.‏ وهناك الجزاء الأوفى؛ الذي لا يبقى معه ظلم ولا بخس في الحساب الختامي للدنيا والآخرة جميعاً‏!‏

ولكن بعض الناس قد تهفو نفسه- مع هذا كله- إلى أيام تطول به في هذه الأرض‏!‏ حتى وهو يؤمن بالآخرة، وهو ينتظر جزاءها الخير‏.‏‏.‏ وبخاصة حين يكون في المرحلة الإيمانية التي كانت فيها هذه الطائفة‏!‏

هنا تجيء اللمسة الأخرى‏.‏ اللمسة التي تصحح التصور عن حقيقة الموت والحياة، والأجل والقدر؛ وعلاقة هذا كله بتكليف القتال، الذي جزعوا له هذا الجزع، وخشوا الناس فيه هذه الخشية‏!‏

‏{‏أينما تكونوا يدرككم الموت، ولو كنتم في بروج مشيدة‏}‏‏.‏‏.‏

فالموت حتم في موعده المقدر‏.‏ ولا علاقة له بالحرب والسلم‏.‏ ولا علاقة له بحصانة المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته‏.‏ ولا يؤخره أن يؤخر عنهم تكليف القتال إذن؛ ولا هذا التكليف والتعرض للناس في الجهاد يعجله عن موعده‏.‏‏.‏

هذا أمر وذاك أمر؛ ولا علاقة بينهما‏.‏‏.‏ إنما العلاقة هناك بين الموت والأجل‏.‏ بين الموعد الذي قدره الله وحلول ذلك الموعد‏.‏‏.‏ وليست هنالك علاقة أخرى‏.‏‏.‏ ولا معنى إذن لتمني تأجيل القتال‏.‏ ولا معنى إذن لخشية الناس في قتال أو في غير قتال‏!‏

وبهذه اللمسة الثانية يعالج المنهج القرآني كل ما يهجس في الخاطر عن هذا الأمر؛ وكل ما ينشئه التصور المضطرب من خوف ومن ذعر‏.‏‏.‏

إنه ليس معنى هذا ألا يأخذ الإنسان حذره وحيطته وكل ما يدخل في طوقه من استعداد وأهبة ووقاية‏.‏‏.‏ فقد سبق أن أمرهم الله بأخذ الحذر‏.‏ وفي مواضع أخرى أمرهم بالاحتياط في صلاة الخوف‏.‏ وفي سور أخرى أمرهم باستكمال العدة والأهبة‏.‏‏.‏ ولكن هذا كله شيء، وتعليق الموت والأجل به شيء آخر‏.‏‏.‏ إن أخذ الحذر واستكمال العدة أمر يجب أن يطاع، وله حكمته الظاهرة والخفية، ووراءه تدبير الله‏.‏‏.‏ وإن التصور الصحيح لحقيقة العلاقة بين الموت والأجل المضروب- رغم كل استعداد واحتياط- أمر آخر يجب أن يطاع؛ وله حكمته الظاهرة والخفية، ووراءه تدبير الله‏.‏

توازن واعتدال‏.‏ وإلمام بجميع الأطراف‏.‏ وتناسق بين جميع الأطراف‏.‏‏.‏

هذا هو الإسلام‏.‏ وهذا هو منهج التربية الإسلامي، للأفراد والجماعات‏.‏‏.‏

وبهذا ربما ينتهي الحديث عن تلك الطائفة من المهاجرين‏.‏ ويبدأ الحديث عن طائفة أخرى من الطوائف المنبثة في المجتمع الإسلامي، والتي يتألف منها الصف المسلم ومن سواها‏.‏‏.‏ هذا وإن كان السياق لا انقطاع فيه، ولا فصل، ولا وقفة تنبئ بأن الحديث الآتي عن طائفة أخرى، وأن الحديث عن هذه الطائفة قد انتهى‏.‏‏.‏ ولكننا نمضي مع الاعتبارات التي أسلفناها‏:‏

‏{‏وإن تصبهم حسنة يقولوا‏:‏ هذه من عند الله‏.‏ وإن تصبهم سيئة يقولوا‏:‏ هذه من عندك‏!‏ قل‏:‏ كل من عند الله‏.‏ فمال هؤلاء القول لا يكادون يفقهون حديثاً‏؟‏‏!‏ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏.‏ وأرسلناك للناس رسولاً‏.‏ وكفى بالله شهيداً‏.‏ من يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً‏}‏‏.‏‏.‏

إن الذين يقولون هذا القول، وينسبون ما يصيبهم من الخير إلى الله، وما يصيبهم من الضر إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- يحتمل فيهم وجوه‏:‏

الوجه الأول‏:‏ أنهم يتطيرون بالنبي- صلى الله عليه وسلم- فيظنونه- حاشاه- شؤماً عليهم‏.‏ يأتيهم السوء من قبله‏.‏ فإن أجدبت السنة، ولم تنسل الماشية، أو إذا أصيبوا في موقعة؛ تطيروا بالرسول- صلى الله عليه وسلم- فأما حين يصيبهم الخير فينسبون هذا إلى الله‏!‏

الوجه الثاني‏:‏ أنهم يريدون عامدين تجريح قيادة الرسول- صلى الله عليه وسلم- تخلصاً من التكاليف التي يأمرهم بها‏.‏ وقد يكون تكليف القتال منها- أو أخصها- فبدلاً من أن يقولوا‏:‏ إنهم ضعاف يخشون مواجهة القتال، يتخذون ذلك الطريق الملتوي الآخر‏!‏ ويقولون‏:‏ إن الخير يأتيهم من الله، وإن السوء لا يجيئهم إلا من قبل الرسول- صلى الله عليه وسلم- ومن أوامره‏.‏ وهم يعنون بالخير أو السوء النفع أو الضر القريب الظاهر‏!‏

والوجه الثالث‏:‏ هو سوء التصور فعلاً لحقيقة ما يجري لهم وللناس في هذه الحياة، وعلاقته بمشيئة الله‏.‏ وطبيعة أوامر النبي- صلى الله عليه وسلم- لهم؛ وحقيقة صلة الرسول بالله سبحانه وتعالى‏.‏‏.‏

وهذا الوجه الثالث- إذا صح- ربما يكون قابلاً لأن يوسم به ذلك الفريق من المهاجرين الذين كان سوء تصورهم لحقيقة الموت والأجل، يجعلهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية‏.‏ ويقولون‏:‏ ‏{‏ربنا لم كتبت علينا القتال‏؟‏ لولا أخرتنا إلى أجل قريب‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏ غير أننا ما نزال نميل إلى اعتبار المتحدث عنهم هنا طائفة أخرى‏.‏‏.‏ تجتمع فيها تلك الأوجه كلها أو بعضها‏.‏ وهذا الوجه الثالث منها‏.‏‏.‏

إن القضية التي تتناولها هذه الآيات، هي جانب من قضية كبيرة‏.‏‏.‏ القضية المعروفة في تاريخ الجدل والفلسفة في العالم كله باسم «قضية القضاء والقدر» أو «الجبر والاختيار»‏.‏

‏.‏ وقد وردت في أثناء حكاية ذلك الفريق من الناس؛ ثم في الرد عليهم، وتصحيح تصورهم‏.‏ والقرآن يتناولها ببساطة واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض‏.‏‏.‏ فلنعرضها كما وردت وكما رد عليها القرآن الكريم‏:‏

‏{‏وإن تصبهم حسنة يقولوا‏:‏ هذه من عندالله‏.‏ وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك‏.‏ قل‏:‏ كل من عند الله‏.‏ فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن الله هو الفاعل الأول، والفاعل الواحد، لكل ما يقع في الكون، وما يقع للناس، وما يقع من الناس‏.‏ فالناس يملكون أن يتجهوا وأن يحاولوا‏.‏ ولكن تحقق الفعل- أي فعل- لا يكون إلا بإرادة من الله وقدر‏.‏

فنسبة إنشاء الحسنة أو إنشاء السيئة، وإيقاعها بهم، للرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو بشر منهم مخلوق مثلهم- نسبة غير حقيقية؛ تدل على عدم فقههم لشيء ما في هذا الموضوع‏.‏

إن الإنسان قد يتجه ويحاول تحقيق الخير؛ بالوسائل التي أرشد الله إلى أنها تحقق الخير‏.‏ ولكن تحقق الخير فعلاً يتم بإرادة الله وقدره‏.‏ لأنه ليست هناك قدرة- غير قدرة الله- تنشئ الأشياء والأحداث وتحقق ما يقع في هذا الكون من وقائع‏.‏ وإذن يكون تحقق الخير- بوسائله التي اتخذها الإنسان وباتجاه الإنسان وجهده- عملاً من أعمال القدرة الإلهية‏.‏

وإن الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء‏.‏ أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء‏.‏ ولكن وقوع السوء فعلاً، ووجوده أصلاً، لا يتم إلا بقدرة الله وقدر الله‏.‏ لأنه ليس هناك قدرة منشئة للأشياء والأحداث في هذا الكون غير قوة الله‏.‏

وفي الحالتين يكون وجود الحدث وتحققه من عند الله‏.‏‏.‏ وهذا ما تقرره الآية الأولى‏.‏‏.‏

أما الآية الثانية‏:‏

‏{‏ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

فإنها تقرر حقيقة أخرى‏.‏ ليست داخلة ولا متداخلة مع مجال الحقيقة الأولى‏.‏‏.‏ إنها في واد آخر‏.‏‏.‏ والنظرة فيها من زاوية أخرى‏:‏

إن الله- سبحانه- قد سن منهجاً، وشرع طريقاً، ودل على الخير، وحذر من الشر‏.‏ فحين يتبع الإنسان هذا المنهج، ويسير في هذا الطريق، ويحاول الخير، ويحذر الشر‏.‏‏.‏ فإن الله يعينه على الهدى كما قال‏:‏ ‏{‏والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا‏}‏‏.‏ ويظفر الإنسان بالحسنة‏.‏‏.‏ ولا يهم أن تكون من الظواهر التي يحسبها الناس من الخارج كسباً‏.‏‏.‏ إنما هي الحسنة فعلاً في ميزان الله تعالى‏.‏‏.‏ وتكون من عند الله‏.‏ لأن الله هو الذي سن المنهج وشرع الطريق ودل على الخير وحذر من الشر‏.‏‏.‏ وحين لا يتبع الإنسان منهج الله الذي سنه، ولا يسلك طريقه الذي شرعه، ولا يحاول الخير الذي دله عليه، ولا يحذر الشر الذي حذره منه‏.‏

‏.‏ حينئذ تصيبه السيئة‏.‏ السيئة الحقيقية‏.‏ سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً‏.‏‏.‏ ويكون هذا من عند نفسه‏.‏ لأنه هو الذي لم يتبع منهج الله وطريقه‏.‏‏.‏

وهذا معنى غير المعنى الأول، ومجال غير المجال الأول‏.‏‏.‏ كما هو واضح فيما نحسب‏.‏‏.‏

ولا يغير هذا من الحقيقة الأولى شيئاً‏.‏ وهي أن تحقق الحسنة، وتحقق السيئة ووقوعهما لا يتم إلا بقدرة الله وقدره‏.‏ لأنه المنشئ لكل ما ينشأ‏.‏ المحدث لكل ما يحدث‏.‏ الخالق لكل ما يكون‏.‏‏.‏ أياً كانت ملابسة إرادة الناس وعملهم في هذا الذي يحدث، وهذا الذي يكون‏.‏

ثم يبين لهم حدود وظيفة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وعمله وموقف الناس منه، وموقفه من الناس‏.‏ ويرد الأمر كله إلى الله في النهاية‏:‏

‏{‏وأرسلناك للناس رسولاً‏.‏ وكفى بالله شهيداً‏.‏ من يطع الرسول فقد أطاع الله‏.‏ ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً‏}‏‏.‏‏.‏

إن وظيفة الرسول هي أداء الرسالة‏.‏ لا إحداث الخير ولا إحداث السوء‏.‏ فهذا من أمر الله- كما سلف- والله شهيد على أنه أرسل النبي- صلى الله عليه وسلم- لأداء هذه الوظيفة ‏{‏وكفى بالله شهيداً‏}‏‏.‏‏.‏

وأمُر الناس مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن من أطاعه فقد أطاع الله‏.‏ فلا تفرقة بين الله ورسوله‏.‏ ولا بين قول الله وقول رسوله‏.‏‏.‏ ومن تولى معرضاً مكذباً فأمره إلى الله من ناحية حسابه وجزائه‏.‏ ولم يرسل الرسول- صلى الله عليه وسلم- ليجبره على الهدى، ويكرهه على الدين، وليس موكلاً بحفظه من العصيان والضلال‏.‏ فهذا ليس داخلاً في وظيفة الرسول؛ ولا داخلاً في قدرة الرسول‏.‏

بهذا البيان يصحح تصورهم عن حقيقة ما يقع لهم‏.‏‏.‏ فكله لا ينشأ ولا يتحقق إلا بإرادة الله وقدره‏.‏ وما يصيبهم من حسنة أو سيئة- بأي معنى من معاني الحسنة أو السيئة، سواء حسب ما يرونه هم في الظاهر، أو ما هو في حقيقة الأمر والواقع- فهو من عند الله‏.‏ لأنه لا ينشئ شيئاً ولا يحدثه ولا يخلقه ويوجده إلا الله‏.‏‏.‏ وما يصيبهم من حسنة حقيقية- في ميزان الله- فهو من عند الله، لأنه بسبب منهجه وهدايته‏.‏ وما يصيبهم من سيئة حقيقية- في ميزان الله- فهو من عند أنفسهم، لأنه بسبب تنكبهم عن منهج الله والإعراض عن هدايته‏.‏‏.‏

والرسول وظيفته الأولى والأخيرة أنه رسول‏.‏ لا ينشئ ولا يحدث ولا يخلق‏.‏ ولا يشارك الله تعالى في خاصية الألوهية هذه‏:‏ وهي الخلق والإنشاء والإحداث‏.‏ وهو يبلغ ما جاء به من عند الله، فطاعته فيما يأمر به إذن هي طاعة لله‏.‏ وليس هناك طريق آخر لطاعة الله غير طاعة الرسول‏.‏ والرسول ليس مكلفاً أن يحدث الهدى للمعرضين المتولين، ولا أن يحفظهم من الإعراض والتولي‏.‏

بعد البلاغ والبيان‏.‏‏.‏

حقائق- هكذا- واضحة مريحة، بينة صريحة؛ تبني التصور، وتريح الشعور؛ وتمضي شوطاً مع تعليم الله لهذه الجماعة، وإعدادها لدورها الكبير الخطير‏.‏‏.‏

بعد ذلك يحكي السياق عن حال طائفة أخرى- في الصف المسلم- أم لعلها هي طائفة المنافقين يذكر عنها فعلاً جديداً، وفصلاً جديداً‏!‏ ومع الحكاية التنفير من الفعلة؛ ومع التنفير التعليم والتوجيه والتنظيم‏.‏‏.‏ كل ذلك في آيات قليلة، وعبارات معدودة‏:‏

‏{‏ويقولون‏:‏ طاعة‏.‏ فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول- والله يكتب ما يبيتون- فأعرض عنهم، وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً‏.‏ أفلا يتدبرون القرآن‏؟‏ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏‏.‏‏.‏

إن هذا الفريق من الناس إذا كان عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسمع منه القرآن وما فيه من التكاليف‏.‏‏.‏ قالوا‏:‏ ‏{‏طاعة‏}‏‏.‏‏.‏ قالوها هكذا جامعة شاملة‏.‏ طاعة مطلقة‏.‏ لا اعتراض ولا استفهام ولا استيضاح ولا استثناء‏!‏ ولكن ما إن يخرجوا من عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى تبيت طائفة منهم غير الذي تقول؛ وتروح في ما بينها تتآمر على عدم التنفيذ؛ وعلى اتخاذ خطة للتخلص من التكليف‏.‏

أم لعل النص يصور حال الجماعة المسلمة كلها؛ ويستثني منها هذه الطائفة ذات الشأن الخاص، والتصرف الخاص‏.‏‏.‏ ويكون المعنى أن المسلمين يقولون‏:‏ طاعة‏.‏ بجملتهم‏.‏ ولكن طائفة منهم- وهي هذه الطائفة المنافقة- إذا خرجت بيت أفرادها غير ما قالوا‏.‏‏.‏ وهي صورة ترسم تلك الخلخلة بعينها في الصف المسلم‏.‏ فإن هؤلاء مندسون فيه على كل حال‏.‏ وتصرفهم على هذا النحو يؤذي الصف ويخلخله؛ والجماعة المسلمة تخوض المعركة في كل ميادينها وبكل قوتها‏!‏

والله- سبحانه- يطمئن النبي- صلى الله عليه وسلم- والمخلصين في الصف‏.‏ يطمئنهم بأن عينه على هذه الطائفة التي تبيت وتمكر، وشعور المسلمين بأن عين الله على المبيتين الماكرين يثبت قلوبهم، ويسكب فيها الطمأنينة إلى أن هذه الطائفة لن تضرهم شيئاً بتآمرها وتبيتها‏.‏ ثم هي تهديد ووعيد للمتآمرين المبيتين؛ فلن يذهبوا مفلحين، ولن يذهبوا ناجين‏:‏

‏{‏والله يكتب ما يبيتون‏}‏‏.‏‏.‏

وكانت الخطة التي وجه الله إليها نبيه- صلى الله عليه وسلم- في معاملة المنافقين، هي أخذهم بظاهرهم- لا بحقيقة نواياهم- والإعراض والتغاضي عما يبدر منهم‏.‏‏.‏ وهي خطة فتلتهم في النهاية، وأضعفتهم، وجعلت بقاياهم تتوارى ضعفاً وخجلاً‏.‏‏.‏ وهنا طرف من هذه الخطة‏:‏

‏{‏فأعرض عنهم‏}‏‏.‏

ومع هذا التوجيه بالإغضاء عنهم، التطمين بكلاءة الله وحفظه مما يبيتون‏:‏

‏{‏وتوكل على الله‏.‏‏.‏ وكفى بالله وكيلاً‏}‏‏.‏‏.‏

نعم‏.‏‏.‏ وكفى بالله وكيلاً‏.‏ لا يضار من كان وكيله؛ ولا يناله تآمر ولا تبيت ولا مكيدة‏.‏

وكأنما كان الذي يدفع هذه الطائفة إلى أن تقول في حضرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- مع القائلين‏:‏ ‏{‏طاعة‏}‏ فإذا خرجت بيتت غير الذي تقول‏.‏‏.‏ كأنما كان هذا بسبب شكهم في مصدر ما يأمرهم به الرسول- صلى الله عليه وسلم- وظنهم أن هذا القرآن من عنده‏!‏ وحين يوجد مثل هذا الشك لحظة يتوارى سلطان الأمر والتكليف جملة‏.‏ فهذا السلطان مستمد كله من الاعتقاد الجازم الكامل، بأن هذا كلام الله، وبأنه- صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن الهوى‏.‏‏.‏ ومن ثم كان هذا التوكيد الشديد الجازم المكرر على هذه الحقيقة‏.‏‏.‏

وهنا يعرض عليهم القرآن خطة، هي غاية ما يبلغه المنهج الرباني من تكريم الإنسان والعقل الإنساني، واحترام هذا الكائن البشري وإدراكه، الذي وهبه له الخالق المنان‏.‏ يعرض عليهم الاحتكام في أمر القرآن إلى إدراكهم هم وتدبر عقولهم‏.‏‏.‏ ويعين لهم منهج النظر الصحيح؛ كما يعين لهم الظاهرة التي لا تخطئ إذا اتبعها ذلك المنهج‏.‏ وهي ظاهرة واضحة كل الوضوح في القرآن من جهة؛ ويمكن للعقل البشري إدراكها من جهة أخرى‏.‏‏.‏ ودلالتها على أنه من عند الله دلالة لا تمارى‏:‏

‏{‏أفلا يتدبرون القرآن‏؟‏ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏‏.‏‏.‏

وفي هذا العرض، وهذا التوجيه، منتهى الإكرام للإنسان وإدراكه وشخصيته- كما قلنا- كما أن فيه منتهى النصفة في الاحتكام إلى هذا الإدراك في ظاهرة لا يعييه إدراكها‏.‏ وهي في الوقت ذاته ذات دلالة- كما أسلفنا- لا تمارى‏!‏

والتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر هذا القرآن أبداً‏.‏‏.‏ ومستوياتها ومجالاتها، مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها‏.‏ ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها- بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه- ما يملك إدراكه، في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى‏.‏

ومن ثم فإن كل أحد، وكل جيل، مخاطب بهذه الآية‏.‏ ومستطيع- عند التدبر وفق منهج مستقيم- أن يدرك من هذه الظاهرة- ظاهرة عدم الاختلاف، أو ظاهرة التناسق- ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه‏.‏‏.‏

وتلك الطائفة في ذلك الجيل كانت تخاطب بشيء تدركه، وتملك التحقق منه بإدراكها في حدودها الخاصة‏.‏

تتجلى هذه الظاهرة ظاهرة‏.‏ عدم الاختلاف‏.‏‏.‏ أو ظاهرة التناسق‏.‏‏.‏ ابتداء في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية‏.‏‏.‏ ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح؛ التوفيق والتعثر‏.‏ القوة والضعف‏.‏ التحليق والهبوط‏.‏ الرفرفة والثقلة‏.‏ الإشراق والانطفاء‏.‏‏.‏ إلى آخر الظواهر التي تتجلى معها سمات البشر‏.‏ وأخصها سمة «التغير» والاختلاف المستمر الدائم من حال إلى حال‏.‏ يبدو ذلك في كلام البشر، واضحاً عندما تستعرض أعمال الأديب الواحد، أو المفكر الواحد، أو الفنان الواحد، أو السياسي الواحد، أو القائد العسكري الواحد‏.‏

‏.‏ أو أيٍّ كان في صناعته؛ التي يبدو فيها الوسم البشري واضحاً‏.‏‏.‏ وهو‏:‏ التغير، والاختلاف‏.‏‏.‏

هذه الظاهرة واضح كل الوضوح أن عكسها وهو‏:‏ الثبات، والتناسق، هو الظاهرة الملحوظة في القرآن- ونحن نتحدث فقط عن ناحية التعبير اللفظي والأداء الأسلوبي- فهناك مستوى واحد في هذا الكتاب المعجز- تختلف ألوانه باختلاف الموضوعات التي يتناولها- ولكن يتحد مستواه وأفقه، والكمال في الأداء بلا تغير ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى‏.‏‏.‏ كما هو الحال في كل ما يصنع الإنسان‏.‏‏.‏ إنه يحمل طابع الصنعة الإلهية؛ ويدل على الصانع‏.‏ يدل على الموجود الذي لا يتغير من حال إلى حال، ولا تتوالى عليه الأحوال‏!‏‏.‏

وتتجلى ظاهرة عدم الاختلاف‏.‏‏.‏ والتناسق المطلق الشامل الكامل‏.‏‏.‏ بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحمله العبارات‏.‏ ويؤديه الأداء‏.‏‏.‏ منهج التربية للنفس البشرية- والمجتمعات البشرية- ومحتويات هذا المنهج وجوانبه الكثيرة- ومنهج التنظيم للنشاط الإنساني للأفراد- وللمجتمع الذي يضم الأفراد وشتى الجوانب والملابسات التي تطرأ في حياة المجتمعات البشرية على توالي الأجيال- ومنهج التقويم للإدراك البشري ذاته وتناول شتى قواه وطاقاته وإعمالها معاً في عملية الإدراك‏!‏- ومنهج التنسيق بين الكائن الإنساني بجملته- في جميع مجتمعاته وأجياله ومستوياته- وبين هذا الكون الذي يعيش فيه؛ ثم بين دنياه وآخرته؛ وما يشتجر في العلاقة بينهما من ملابسات لا تحصى في عالم كل فرد؛ وفي عالم «الإنسان» وهو يعيش في هذا الكون بشكل عام‏.‏‏.‏

وإذا كان الفارق بين صنعة الله وصنعة الإنسان واضحاً كل الوضوح في جانب التعبير اللفظي والأداء الفني، فإنه أوضح من ذلك في جانب التفكير والتنظيم والتشريع‏.‏ فما من نظرية بشرية، وما من مذهب بشري، إلا وهو يحمل الطابع البشري‏.‏‏.‏ جزئية النظر والرؤية‏.‏‏.‏ والتأثر الوقتي بالمشكلات الوقتية‏.‏‏.‏ وعدم رؤية المتناقضات في النظرية أو المذهب أو الخطة؛ التي تؤدي إلى الاصطدام بين مكوّناتها- إن عاجلاً وإن آجلاً- كما تؤدي إلى إيذاء بعض الخصائص في الشخصية البشرية الواحدة التي لم يحسب حساب بعضها؛ أو في مجموعة الشخصيات الذين لم يحسب حساب كل واحدة منها‏.‏‏.‏ إلى عشرات ومئات من النقائص والاختلاف، الناشئة من طبيعة الإدراك البشري المحدود، ومن الجهل البشري بما وراء اللحظة الحاضرة، فوق جهله بكل مكونات اللحظة الحاضرة- في أية لحظة حاضرة‏!‏- وعكس ذلك كله هو ما يتسم به المنهج القرآني الشامل المتكامل، الثابت الأصول؛ ثبات النواميس الكونية؛ الذي يسمح بالحركة الدائمة- مع ثباته- كما تسمح بها النواميس الكونية‏!‏

وتدبر هذه الظاهرة، في آفاقها هذه، قد لا يتسنى لكل إدراك، ولا يتسنى لكل جيل‏.‏ بل المؤكد أن كل إدراك سيتفاوت مع الآخر في إدراكها؛ وكل جيل سيأخذ بنصيبه في إدراكها ويدع آفاقاً منها للأجيال المترقية، في جانب من جوانب المعرفة أو التجربة‏.‏

‏.‏ إلا أنه يتبقى من وراء كل الاختلاف البشري الكثير في إدراك هذه الظاهرة- كاختلافه الكثير في كل شيء آخر‏!‏- بقية يلتقي عليها كل إدراك، ويلتقي عليها كل جيل‏.‏‏.‏ وهي أن هذه الصنعة شيء وصنعة البشر شيء آخر‏.‏ وأنه لا اختلاف في هذه الصنعة ولا تفاوت، وإنما وحدة وتناسق‏.‏‏.‏ ثم يختلف الناس بعد ذلك ما يختلفون في إدراك آماد وآفاق وأبعاد وأنواع ذلك التناسق‏!‏

وإلى هذا القدر الذي لا يخطئه متدبر- حين يتدبر- يكل الله تلك الطائفة، كما يكل كل أحد، وكل جماعة، وكل جيل‏.‏ وإلى هذا القدر من الإدراك المشترك يكل إليهم الحكم على هذا القرآن؛ وبناء اعتقادهم في أنه من عند الله‏.‏ ولا يمكن أن يكون من عند غير الله‏.‏

ويحسن أن نقف هنا وقفة قصيرة، لتحديد مجال الإدراك البشري في هذا الأمر وفي أمر الدين كله‏.‏ فلا يكون هذا التكريم الذي كرمه الله للإنسان بهذا التحكيم، سبيلاً إلى الغرور، وتجاوز الحد المأمون؛ والانطلاق من السياج الحافظ من المضي في التيه بلا دليل‏!‏

إن مثل هذه التوجيهات في القرآن الكريم يساء إدراكها، وإدراك مداها‏.‏ فيذهب بها جماعة من المفكرين الإسلاميين- قديماً وحديثاً- إلى إعطاء الإدراك البشري سلطة الحكم النهائية في أمر الدين كله‏.‏ ويجعلون منه نداً لشرع الله‏.‏ بل يجعلونه هو المسيطر على شرع الله‏!‏

الأمر ليس كذلك‏.‏‏.‏ الأمر أن هذه الأداة العظيمة- أداة الإدراك البشري- هي بلا شك موضع التكريم من الله- ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى‏:‏ حقيقة أن هذا الدين من عند الله‏.‏ لأن هناك ظواهر يسهل إدراكها؛ وهي كافية بذاتها للدلالة- دلالة هذا الإدراك البشري ذاته- على أن هذا الدين من عند الله‏.‏‏.‏ ومتى أصبحت هذه القاعدة الكبيرة مسلماً بها، أصبح من منطق هذا الإدراك ذاته أن يسلم- بعد ذلك-تلقائياً بكل ما ورد في هذا الدين- لا يهم عندئذ أن يدرك حكمته الخفية أو لا يدركها‏.‏ فالحكمة متحققة حتماً ما دام من عند الله‏.‏ ولا يهم عندئذ أن يرى «المصلحة» متحققة فيه في اللحظة الحاضرة‏.‏ فالمصلحة متحققة حتماً ما دام من عندالله‏.‏‏.‏ والعقل البشري ليس نداً لشريعة الله- فضلاً على أن يكون الحاكم عليها- لأنه لا يدرك إلا إدراكاً ناقصاً في المدى المحدود؛ ويستحيل أن ينظر من جميع الزوايا وإلى جميع المصالح- لا في اللحظة الواحدة ولا في التاريخ كله- بينما شريعة الله تنظر هذه النظرة؛ فلا ينبغي أن يكون الحكم فيها، أو في حكم ثابت قطعي من أحكامها موكولاً إلى الإدراك البشري‏.‏

‏.‏ وأقصى ما يتطلب من الإدراك البشري أن يتحرى إدراك دلالة النص وانطباقه؛ لا أن يتحرى المصلحة أو عدم المصلحة فيه‏!‏ فالمصلحة متحققة أصلاً بوجود النص من قبل الله تعالى‏.‏‏.‏ إنما يكون هذا فيما لا نص فيه، مما يجدّ من الأقضية؛ وهذا سبق بيان المنهج فيه، وهو رده إلى الله والرسول‏.‏‏.‏ وهذا هو مجال الاجتهاد الحقيقي‏.‏ إلى جانب الاجتهاد في فهم النص، والوقوف عنده، لا تحكيم العقل البشري في أن مدلوله يحمل المصلحة أو لا يحملها‏!‏‏!‏‏!‏ إن مجال العقل البشري الأكبر في معرفة نواميس الكون والإبداع في عالم المادة‏.‏‏.‏ وهو ملك عريض‏!‏‏!‏‏!‏

يجب أن نحترم الإدراك البشري بالقدر الذي أراده الله له من التكريم في مجاله الذي يحسنه- ثم لا نتجاوز به هذا المجال‏.‏ كي لا نمضي في التيه بلا دليل‏.‏ إلا دليلاً يهجم على ما لا يعرف من مجاهل الطريق‏.‏‏.‏ وهو عندئذ أخطر من المضي بلا دليل‏!‏‏!‏‏!‏

ويمضي السياق يصور حال طائفة أخرى‏.‏ أو يصف فعلة أخرى لطائفة في المجتمع المسلم‏:‏ ‏{‏وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به‏.‏ ولوردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏.‏ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً‏}‏‏.‏‏.‏

والصورة التي يرسمها هذا النص، هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي، لم تألف نفوسهم النظام؛ ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر؛ وفي النتائج التي تترتب عليها، وقد تكون قاصمة؛ لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث؛ ولم يدركوا جدية الموقف؛ وأن كلمة عابرة وفلتة لسان، قد تجر من العواقب على الشخص ذاته، وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال؛ وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال‏!‏ أو- ربما- لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر؛ وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك، وإذاعتها، حين يتلقاها لسان عن لسان‏.‏ سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف‏.‏‏.‏

فكلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة‏!‏- فإن إشاعة أمر الأمن مثلاً في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة من العدو‏.‏‏.‏ إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تحدث نوعاً من التراخي- مهما تكن الأوامر باليقظة- لأن اليقظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر‏!‏ وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية‏!‏ كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة‏.‏ وقد تحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكاً، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف‏.‏‏.‏ وقد تكون كذلك القاضية‏!‏

وعلى أية حال فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه؛ أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته‏.‏

أو هما معاً‏.‏‏.‏ ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في المجتمع المسلم حينذاك؛ باحتوائه على طوائف مختلفة المستويات في الإيمان، ومختلفة المستويات في الإدراك، ومختلفة المستويات في الولاء‏.‏‏.‏‏.‏ وهذه الخلخلة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرباني‏.‏

والقرآن يدل الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح‏:‏

‏{‏ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏‏.‏

أي لو أنهم ردوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- إن كان معهم، أو إلى أمرائهم المؤمنين، لعلم حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة؛ واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة، والملابسات المتراكمة‏.‏

فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم، الذي يقوده أمير مؤمن- بشرط الإيمان ذاك وحدّه- حين يبلغ إلى أذنيه خبر، أن يسارع فيخبر به نبيه أو أميره‏.‏ لا أن ينقله ويذيعه بين زملائه؛ أو بين من لا شأن لهم به‏.‏ لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة، كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر- حتى بعد ثبوته- أو عدم إذاعته‏.‏‏.‏

وهكذا كان القرآن يربي‏.‏‏.‏ فيغرس الإيمان والولاء للقيادة المؤمنة؛ ويعلم نظام الجندية في آية واحدة‏.‏‏.‏ بل بعض آية‏.‏‏.‏ فصدر الآية يرسم صورة منفرة للجندي وهو يتلقى نبأ الأمن أو الخوف، فيحمله ويجري متنقلاً، مذيعاً له، من غير تثبت، ومن غير تمحيص، ومن غير رجعة إلى القيادة‏.‏‏.‏ ووسطها يعلم ذلك التعليم‏.‏‏.‏ وآخرها يربط القلوب بالله في هذا، ويذكرها بفضله، ويحركها إلى الشكر على هذا الفضل، ويحذرها من اتباع الشيطان الواقف بالمرصاد؛ الكفيل بإفساد القلوب لولا فضل الله ورحمته‏:‏

‏{‏ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً‏}‏‏.‏‏.‏

آية واحدة تحمل هذه الشحنة كلها؛ وتتناول القضية من أطرافها؛ وتتعمق السريرة والضمير؛ وهي تضع التوجيه والتعليم‏!‏‏!‏‏!‏ ذلك أنه من عند الله‏.‏‏.‏ ‏{‏ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏‏.‏‏.‏

وحين يصل السياق إلى هذا الحد من تقويم عيوب الصف؛ التي تؤثر في موقفه في الجهاد وفي الحياة- ومنذ أول الدرس وهذا التقويم مطرد لهذه العيوب- عندئذ ينتهي إلى قمة التحضيض على القتال الذي جاء ذكره في ثنايا الدرس‏.‏ قمة التكليف الشخصي، الذي لا يقعد الفرد عنه تبطئة ولا تخذيل، ولا خلل في الصف، ولا وعورة في الطريق‏.‏ حيث يوجه الخطاب إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- بأن يقاتل- ولو كان وحيداً- فإنه لا يحمل في الجهاد إلا تبعة شخصه- صلى الله عليه وسلم- وفي الوقت ذاته يحرض المؤمنين على القتال‏.‏‏.‏ وكذلك يوحي إلى النفوس بالطمأنينة ورجاء النصر‏:‏ فالله هو الذي يتولى المعركة‏.‏ والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً‏:‏

‏{‏فقاتل في سبيل الله- لا تكلف إلا نفسك- وحرض المؤمنين‏.‏

عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا‏.‏ والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً‏}‏‏.‏‏.‏

ومن خلال هذه الآية- بالإضافة إلى ما قبلها- تبرز لنا ملامح كثيرة في الجماعة المسلمة يومذاك‏.‏ كما تبرز لنا ملامح كثيرة في النفس البشرية في كل حين‏:‏

«أ» يبرز لنا مدى الخلخلة في الصف المسلم؛ وعمق آثار التبطئة والتعويق والتثبيط فيه؛ حتى لتكون وسيلة الاستنهاض والاستجاشة، هي تكليف النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يقاتل في سبيل الله- ولو كان وحده- ليس عليه إلا نفسه؛ مع تحريض المؤمنين‏.‏ غير متوقف مضيه في الجهاد على استجابتهم أو عدم استجابتهم‏!‏ ولو أن عدم استجابتهم- جملة- أمر لا يكون‏.‏ ولكن وضع المسألة هذا الوضع يدل على ضرورة إبراز هذا التكليف على هذا النحو؛ واستجاشة النفوس له هذه الاستجاشة‏.‏ فوق ما يحمله النص- طبعاً- من حقيقة أساسية ثابتة في التصور الإسلامي‏.‏ وهي أن كل فرد لا يكلف إلا نفسه‏.‏‏.‏

«ب» كما يبرز لنا مدى المخاوف والمتاعب في التعرض لقتال المشركين يومذاك‏.‏‏.‏ حتى ليكون أقصى ما يعلق الله به رجاء المؤمنين‏:‏ أن يتولى هو سبحانه كف بأس الذين كفروا؛ فيكون المسلمون ستاراً لقدرته في كف بأسهم عن المسلمين‏.‏‏.‏ مع إبراز قوة الله- سبحانه- وأنه أشد بأساً وأشد تنكيلاً‏.‏‏.‏ وإيحاء هذه الكلمات واضح عن قوة بأس الذين كفروا يومذاك؛ والمخاوف المبثوثة في الصف المسلم‏.‏‏.‏ وربما كان هذا بين أحد والخندق‏.‏ فهذه أحرج الأوقات التي مرت بها الجماعة المسلمة في المدينة؛ بين المنافقين، وكيد اليهود، وتحفز المشركين‏!‏ وعدم اكتمال التصور الإسلامي ووضوحه وتناسقه بين المسلمين‏!‏

«ج» كذلك تبرز لنا حاجة النفس البشرية؛ وهي تدفع إلى التكاليف التي تشق عليها، إلى شدة الارتباط بالله؛ وشدة الطمأنينة إليه؛ وشدة الاستعانة به؛ وشدة الثقة بقدرته وقوته‏.‏‏.‏ فكل وسائل التقوية غير هذه لا تجدي حين يبلغ الخطر قمته‏.‏ وهذه كلها حقائق يستخدمها المنهج الرباني؛ والله هو الذي خلق هذه النفوس‏.‏ وهو الذي يعلم كيف تربى وكيف تُقّوى وكيف تستجاش وكيف تستجيب‏.‏‏.‏

وبمناسبة تحريض الرسول- صلى الله عليه وسلم- للمؤمنين على القتال الذي ورد الأمر به في آخر الدرس، وذكر المبطئين المثبطين في أوله، يقرر قاعدة عامة في الشفاعة- وهي تشمل التوجيه والنصح والتعاون‏:‏

‏{‏من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها، وكان الله على كل شيء مقيتاً‏}‏‏.‏‏.‏

فالذي يشجع ويحرض ويعاون على القتال في سبيل الله، يكون له نصيب من أجر هذه الدعوة وآثارها‏.‏ والذي يبطئ ويثبط تكون له تبعة فيها وفي آثارها‏.‏

‏.‏ وكلمة ‏{‏كفل‏}‏ توحي بأنه متكفل بجرائرها‏.‏

والمبدأ عام في كل شفاعة خير، أو شفاعة سوء‏.‏ وقد ذكر المبدأ العام بمناسبة الملابسة الخاصة، على طريقة المنهج القرآني، في إعطاء القاعدة الكلية من خلال الحادثة الجزئية، وربط الواقعة المفردة بالمبدأ العام كذلك‏.‏ وربط الأمر كله بالله، الذي يرزق بكل شيء‏.‏ أو الذي يمنح القدرة على كل شيء‏.‏ وهو ما يفسر كلمة «مقيت» في قوله تعالى في التعقيب‏:‏

‏{‏وكان الله على كل شيء مقيتاً‏}‏‏.‏

ثم استطرد السياق بعد ذكر الشفاعة إلى الأمر برد التحية بخير منها أو بمثلها‏.‏ والتحية في المجتمع علاقة من العلاقات التي تدور بها عجلة الحياة في يسر، إذا اتبع الأدب الواجب فيها‏.‏‏.‏ والمناسبة قريبة بينها- في جو المجتمع- وبين الشفاعة التي سبق التوجيه فيها‏:‏

‏{‏وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها، أو ردوها، إن الله كان على كل شيء حسيباً‏}‏‏.‏‏.‏

وقد جاء الإسلام بتحيته الخاصة، التي تميز المجتمع المسلم؛ وتجعل كل سمة فيه- حتى السمات اليومية العادية- متفردة متميزة؛ لا تندغم ولا تضيع في سمات المجتمعات الأخرى ومعالمها‏.‏‏.‏

جعل الإسلام تحيته‏:‏ «السلام عليكم» أو «السلام عليكم ورحمة الله» أو «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته»‏.‏‏.‏ والرد عليها بأحسن منها- بالزيادة على كل منها ما عدا الثالثة فلم تبق زيادة لمستزيد- فالرد على الأولى ‏(‏وعليكم السلام ورحمة الله‏)‏ والرد على الثانية ‏(‏وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته‏)‏‏.‏ والرد على الثالثة ‏(‏وعليكم‏.‏‏.‏‏)‏ إذ أنها استوفت كل الزيادات، فترد بمثلها‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏‏.‏

ونقف أمام اللمسات الكامنة في آية التحية هذه‏:‏

إنها- أولاً- تلك السمة المتفردة، التي يحرص المنهج الإسلامي على أن يطبع بها المجتمع المسلم بحيث تكون له ملامحه الخاصة، وتقاليده الخاصة- كما أن له شرائعه الخاصة ونظامه الخاص- وقد سبق أن تحدثنا عن هذه الخاصية بالتفصيل عند الكلام عن تحويل القبلة، وتميز الجماعة المسلمة بقبلتها، كتميزها بعقيدتها‏.‏ وذلك في سورة البقرة من قبل في الظلال‏.‏

وهي- ثانياً- المحاولة الدائمة لتوثيق علاقات المودة والقربى بين أفراد الجماعة المسلمة‏.‏‏.‏ وإفشاء السلام؛ والرد على التحية بأحسن منها، من خير الوسائل لإنشاء هذه العلاقات وتوثيقها‏.‏ «وقد سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أي العمل خير‏؟‏ قال‏:‏ تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»‏.‏ هذا في إفشاء السلام بين الجماعة المسلمة ابتداء‏.‏ وهو سنة‏.‏ أما الرد عليها فهو فريضة بهذه الآية‏.‏‏.‏ والعناية بهذا الأمر تبدو قيمتها عند الملاحظة الواقعية لآثار هذا التقليد في إصفاء القلوب، وتعارف غير المتعارفين؛ وتوثيق الصلة بين المتصلين‏.‏‏.‏ وهي ظاهرة يدركها كل من يلاحظ آثار مثل هذا التقليد في المجتمعات، ويتدبر نتائجها العجيبة‏!‏

وهي- ثالثاً- نسمة رخية في وسط آيات القتال قبلها وبعدها‏.‏‏.‏ لعل المراد منها أن يشار إلى قاعدة الإسلام الأساسية‏.‏‏.‏ السلام‏.‏‏.‏ فالإسلام دين السلام‏.‏ وهو لا يقاتل إلا لإقرار السلام في الأرض، بمعناه الواسع الشامل‏.‏ السلام الناشئ من استقامة الفطرة على منهج الله‏.‏