فصل: تفسير الآيات رقم (87- 94)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 94‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ‏(‏87‏)‏ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏88‏)‏ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏89‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ‏(‏90‏)‏ سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏91‏)‏ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏92‏)‏ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ‏(‏93‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏94‏)‏‏}‏

يبدأ هذا الدرس بقاعدة التصور الإسلامي الأساسية‏.‏‏.‏ التوحيد وإفراد الله- سبحانه- بالألوهية؛ ثم يبني على هذه القاعدة أحكاماً شتى في معاملة المجتمع المسلم مع المعسكرات المختلفة؛ بعد التنديد بانقسام الصف المسلم إلى فئتين ورأيين، في معاملة المنافقين- ويبدو أنها جماعة خاصة من المنافقين من غير سكان المدينة- فتقوم هذه الأحكام- وهذا التنديد أيضاً- على قاعدتها الأصيلة، التي يقوم عليها بناء النظام الإسلامي كله‏.‏‏.‏ والتي يتكرر ذكرها كلما اتجه المنهج الرباني إلى تشريع أو توجيه‏.‏

هذه الأحكام في معاملة المعسكرات المختلفة، هي طرف من القواعد التي أنشأها الإسلام- لأول مرة في تاريخ البشرية- لتنظيم المعاملات الدولية؛ واتخاذ قواعد أخرى لهذه المعاملات، غير تحكيم السيف، ومنطق القوة، وشريعة الغاب‏.‏

إن أوربا بقانونها الدولي- وكل ما تفرع عنه من المنظمات الدولية- لم تبدأ في هذا الاتجاه إلا في القرن السابع عشر الميلادي ‏(‏الحادي عشر الهجري‏)‏‏.‏ ولم يزل هذا القانون- في جملته- حبراً على ورق؛ ولم تزل هذه المنظمات- في جملتها- أدوات تختفي وراءها الأطماع الدولية؛ ومنابر للحرب الباردة‏!‏ وليست أداة لإحقاق حق؛ ولا لتحقيق عدل‏!‏ وقد دعت إليها منازعات بين دول متكافئة القوى‏.‏ ولكن كلما اختل هذا التكافؤ لم يعد للقوانين الدولية قيمة، ولا للمنظمات الدولية عمل ذو قيمة‏!‏

أما الإسلام- المنهج الرباني للبشر- فقد وضع أسس المعاملات الدولية في القرن السابع الميلادي ‏(‏الأول الهجري‏)‏‏.‏ ووضعها من عند نفسه؛ دون أن تضطره إلى ذلك ملابسات القوى المتكافئة‏.‏ فهو كان يضعها ليستخدمها هو، وليقيم المجتمع المسلم علاقاته مع المعسكرات الأخرى على أساسها‏.‏ ليرفع للبشرية راية العدالة، وليقيم لها معالم الطريق‏.‏ ولو كانت المعسكرات الأخرى- الجاهلية- لا تعامل المجتمع المسلم بتلك المبادئ من جانبها‏.‏‏.‏ فلقد كان الإسلام ينشئ هذه المبادئ إنشاء وللمرة الأولى‏.‏‏.‏

وهذه القواعد للمعاملات الدولية متفرقة في مواضعها ومناسباتها من سور القرآن، وهي تؤلف في مجموعها قانوناً كاملاً للتعامل الدولي‏.‏ يضم حكماً لكل حالة من الحالات التي تعرض بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات الأخرى‏:‏ محاربة‏.‏ ومهادنة‏.‏ ومحالفة‏.‏ ومحايدة‏.‏ ومرتبطة مع محارب، أو مهادن، أو محالف، أو محايد‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏‏.‏

وليس بنا هنا أن نستعرض هذه المبادئ والأحكام ‏(‏فهي جديرة ببحث مستقل يتولاه متخصص في القانون الدولي‏)‏‏.‏ ولكننا نستعرض ما جاء في هذه المجموعة من الآيات في هذا الدرس‏.‏‏.‏ وهي تتعلق بالتعامل مع الطوائف التالية‏:‏

«أ» المنافقين غير المقيمين في المدينة‏.‏

«ب» الذين يرتبطون بقوم بينهم وبين المسلمين ميثاق‏.‏‏.‏

«ج» المحايدين الذين تضيق صدورهم بحرب المسلمين أو حرب قومهم كذلك‏.‏

وهم على دينهم‏.‏

«د» المتلاعبين بالعقيدة الذين يظهرون الإسلام إذا قدموا المدينة ويظهرون الكفر إذا عادوا إلى مكة‏.‏

«ه» حالات القتل الخطأ بين المسلمين والقتل العمد على اختلاف المواطن والأقوام‏.‏‏.‏

وسنجد أحكاماً صريحة واضحة في جميع هذه الحالات؛ التي تكوّن جانباً من مبادئ التعامل في المحيط الدولي‏.‏ شأنها شأن بقية الأحكام، التي تتناول شتى العلاقات الأخرى‏.‏

ونبدأ من حيث بدأ السياق القرآني بالقاعدة الأولية التي يقوم عليها بناء الإسلام كله‏.‏ وبناء النظام الإسلامي في شتى جوانبه‏:‏

‏{‏الله لا إله إلا هو، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه‏.‏ ومن أصدق من الله حديثاً‏؟‏‏}‏

إنه من توحيد الله- سبحانه- وإفراده بالألوهية تبدأ خطوات المنهج الرباني- سواء في تربية النفوس أم في إقامة المجتمع، ووضع شرائعه وتنظيمه؛ وسواء كانت هذه الشرائع متعلقة بالنظام الداخلي للمجتمع المسلم، أم بالنظام الدولي، الذي يتعامل هذا المجتمع على أساسه مع المجتمعات الأخرى‏.‏ ومن ثم نجد هذا الافتتاح لمجموعة الآيات المتضمنة لطائفة من قواعد التعامل الخارجية والداخلية أيضاً‏.‏

كذلك من الاعتقاد في الآخرة، وجمع الله الواحد لعباده، ليحاسبهم هناك على ما أتاح لهم في الدنيا من فرص العمل والابتلاء، تبدأ خطوات هذا المنهج في تربية النفوس، وإثارة الحساسية فيها تجاه التشريعات والتوجيهات؛ وتجاه كل حركة من حركاتها في الحياة‏.‏‏.‏ فهو الابتلاء في الصغيرة والكبيرة في الدنيا؛ والحساب على الصغيرة والكبيرة في الآخرة‏.‏‏.‏ وهذا هو الضمان الأوثق لنفاذ الشرائع والأنظمة؛ لأنه كامن هناك في أعماق النفس، حارس عليها، سهران حيث يغفو الرقباء ويغفل السلطان‏!‏

هذا حديث الله- سبحانه- وهذا وعده‏:‏

‏{‏ومن أصدق من الله حديثاً‏}‏‏.‏‏.‏

وبعد هذه اللمسة للقلوب، وهي اللمسة الدالة على طريقة هذا المنهج في التربية، كما هي دالة على أساس التصور الاعتقادي العملي في حياة الجماعة المسلمة‏.‏‏.‏

بعد هذه اللمسة يبدأ في إستنكار حالة من التميع في مواجهة النفاق والمنافقين؛ وقلة الحسم في موضع الحسم في معاملة الجماعة المسلمة لهم؛ وانقسام هذه الجماعة فئتين في أمر طائفة من المنافقين- من خارج المدينة كما سنبين- حيث يشي هذا الاستنكار بما كان في المجتمع المسلم يومئذ من عدم التناسق؛ كما يشي بتشدد الإسلام في ضرورة تحديد الأمور وحسمها، وكراهة التميع في التعامل مع المنافقين والنظر إليهم؛ والارتكان إلى ظاهرهم‏.‏‏.‏ ما لم يكن ذلك عن خطة مقررة هادفة‏:‏

‏{‏فما لكم في المنافقين فئتين‏؟‏ والله أركسهم بما كسبوا؛ أتريدون أن تهدوا من أضل الله‏؟‏ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً‏.‏ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء‏.‏ فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله‏.‏ فإن تولوا فخذوهم، واقتلوهم حيث وجدتموهم، ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيرًا‏}‏‏.‏

وقد وردت في شأن هؤلاء المنافقين روايات، أهمها روايتان‏:‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا بهز، حدثنا شعبة، قال عدي بن ثابت‏:‏ أخبرني عبدالله بن يزيد، عن زيد بن ثابت، «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه‏.‏ فكان أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيهم، فرقتين‏:‏ فرقة تقول‏:‏ نقتلهم، وفرقة تقول‏:‏ لا‏.‏ هم المؤمنون‏!‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏فما لكم في المنافقين فئتين‏؟‏‏}‏ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إنها طيبة‏.‏ وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد»‏.‏ ‏(‏أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة‏)‏‏.‏

وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ نزلت في قوم كانوا قد تكلموا بالإسلام؛ وكانوا يظاهرون المشركين‏.‏ فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم‏.‏ فقالوا‏:‏ إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس‏.‏‏.‏ وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين‏:‏ اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عدوكم‏.‏ وقالت فئة أخرى من المؤمنين‏:‏ سبحان الله‏:‏- أو كما قالوا- أتقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به‏؟‏ من أجل أنهم لم يهاجروا، ولم يتركوا ديارهم نستحل دماءهم وأموالهم‏؟‏ فكانوا كذلك فئتين، والرسول عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شيء، فنزلت‏:‏ ‏{‏فما لكم في المنافقين فئتين‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ ‏(‏رواه ابن أبي حاتم، وقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا‏)‏‏.‏

ومع أن الرواية الأولى أوثق من ناحية السند والإخراج إلا أننا نرجح مضمون الرواية الثانية، بالاستناد إلى الواقع التاريخي؛ فالثابت أن منافقي المدينة لم يرد أمر بقتالهم؛ ولم يقاتلهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو يقتلهم‏.‏ إنما كانت هناك خطة أخرى مقررة في التعامل معهم‏.‏ هي خطة الإغضاء عنهم، وترك المجتمع نفسه ينبذهم، وتقطيع الأسناد من حولهم بطرد اليهود- وهم الذين يغرونهم ويملون لهم- من المدينة أولاً‏.‏ ثم من الجزيرة العربية كلها أخيراً‏.‏‏.‏ أما هنا فنحن نجد أمراً جازماً بأخذهم أسرى، وقتلهم حيث وجدوا‏:‏ مما يقطع بأنهم مجموعة أخرى غير مجموعة المنافقين في المدينة‏.‏‏.‏ وقد يقال‏:‏ إن الأمر بأخذهم أسرى وقتلهم مشروط بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله، فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم‏}‏‏.‏‏.‏ فهو تهديد ليقلعوا عما هم فيه‏.‏‏.‏ وقد يكونون أقلعوا فلم ينفذ الرسول- صلى الله عليه وسلم- هذا الأمر فيهم‏.‏‏.‏ ولكن كلمة ‏{‏يهاجروا‏}‏ تقطع- في هذه الفترة- بأنهم ليسوا من أهل المدينة‏.‏ وأن المقصود هو أن يهاجروا إلى المدينة؛ فقد كان هذا قبل الفتح‏.‏ ومعنى الهجرة- قبل الفتح- كان محدداً بأنه الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام؛ والانضمام للجماعة المسلمة؛ والخضوع لنظامها‏.‏

وإلا فهو الكفر أو النفاق‏.‏‏.‏ وسيجيء في سياق السورة- في الدرس التالي- تنديد شديد بموقف الذين بقوا- بغير عذر من الضعف- من المسلمين في مكة؛ دار الكفر والحرب بالنسبة لهم- ولو كانوا من أهلها ومواطنين فيها‏!‏- وكل هذا يؤيد ترجيح الرواية الثانية‏.‏ وأن هؤلاء المنافقين كانوا جماعة من مكة- أو ممن حولها- يقولون كلمة الإسلام بأفواههم، ويظاهرون عدو المسلمين بأعمالهم‏.‏

ونعود إلى النص القرآني‏:‏

‏{‏فما لكم في المنافقين فئتين؛ والله أركسهم بما كسبوا‏؟‏ أتريدون أن تهدوا من أضل الله‏؟‏ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً‏.‏ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء‏.‏ فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله‏.‏ فإن تولوا فخذوهم، واقتلوهم حيث وجدتموهم، ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً‏}‏‏.‏‏.‏

إننا نجد في النصوص استنكاراً لانقسام المؤمنين فئتين في أمر المنافقين وتعجباً من اتخاذهم هذا الموقف؛ وشدة وحسماً في التوجيه إلى تصور الموقف على حقيقته، وفي التعامل مع أولئك المنافقين كذلك‏.‏

وكل ذلك يشي بخطر التميع في الصف المسلم حينذاك- وفي كل موقف مماثل- التميع في النظرة إلى النفاق والمنافقين؛ لأن فيها تميعاً كذلك في الشعور بحقيقة هذا الدين‏.‏ ذلك أن قول جماعة من المؤمنين‏:‏ «سبحان الله‏!‏- أو كما قالوا- أتقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم، نستحل دماءهم وأموالهم‏؟‏»‏.‏‏.‏ وتصورهم للأمر على هذا النحو، من أنه كلام مثل ما يتكلم المسلمون‏!‏ مع أن شواهد الحال كلها وقول هؤلاء المنافقين‏:‏ «إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس»‏.‏‏.‏ وشهادة الفئة الأخرى من المؤمنين وقولهم‏:‏ «يظاهرون عدوكم»‏.‏‏.‏ تصورهم للأمر على هذا النحو فيه تمييع كبير لحقيقة الإيمان، في ظروف تستدعي الوضوح الكامل، والحسم القاطع‏.‏ فإن كلمة تقال باللسان؛ مع عمل واقعي في مساعدة عدو المسلمين الظاهرين، لا تكون إلا نفاقاً‏.‏ ولا موضع هنا للتسامح أو للإغضاء‏.‏ لأنه تمييع للتصور ذاته‏.‏‏.‏ وهذا هو الخطر الذي يواجهه النص القرآني بالعجب والاستنكار والتشديد البين‏.‏

ولم يكن الحال كذلك في الإغضاء عن منافقي المدينة‏.‏ فقد كان التصور واضحاً‏.‏‏.‏ هؤلاء منافقون‏.‏‏.‏ ولكن هناك خطة مقررة للتعامل معهم‏.‏ هي أخذهم بظاهرهم والإغضاء إلى حين‏.‏

وهذا أمر آخر غير أن ينافح جماعة من المسلمين عن المنافقين‏.‏ لأنهم قالوا كلاماً كالذي يقوله المسلمون‏.‏ وأدَّوا بألسنتهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله‏.‏ بينما هم يظاهرون أعداء المسلمين‏!‏

من أجل هذا التميع في فهم فئة من المسلمين، ومن أجل ذلك الاختلاف في شأن المنافقين في الصف المسلم، كان هذا الاستنكار الشديد في مطلع الآية‏.‏

‏.‏ ثم تبعه الإيضاح الإلهي لحقيقة موقف هؤلاء المنافقين‏:‏

‏{‏والله أركسهم بما كسبوا‏}‏‏.‏‏.‏

ما لكم فئتين في شأن المنافقين‏.‏ والله أوقعهم فيما هم فيه بسبب سوء نيتهم وسوء عملهم‏؟‏ وهي شهادة من الله حاسمة في أمرهم‏.‏ بأنهم واقعون في السوء بما أضمروا وبما عملوا من سوء‏.‏

ثم استنكار آخر‏:‏

‏{‏أتريدون أن تهدوا من أضل الله‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ولعله كان في قول الفريق‏.‏‏.‏ المتسامح‏!‏‏!‏‏.‏‏.‏ ما يشير إلى إعطائهم فرصة ليهتدوا، ويتركوا اللجلجة‏!‏ فاستنكر الله هذا في شأن قوم استحقوا أن يوقعهم الله في شر أعمالهم وسوء مكاسبهم‏.‏

‏{‏ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً‏}‏‏.‏‏.‏

فإنما يضل الله الضالين‏.‏ أي يمد لهم في الضلالة حين يتجهون هم بجهدهم ونيتهم إلى الضلالة‏.‏ وعندئذ تغلق في وجوههم سبل الهداية؛ بما بعدوا عنها، وسلكوا غير طريقها؛ ونبذوا العون والهدى، وتنكروا لمعالم الطريق‏!‏

ثم يخطو السياق خطوة أخرى في كشف موقف المنافقين‏.‏‏.‏ إنهم لم يضلوا أنفسهم فحسب؛ ولم يستحقوا أن يوقعهم الله في الضلالة بسعيهم ونيتهم فحسب‏.‏‏.‏ إنما هم كذلك يبتغون إضلال المؤمنين‏:‏

‏{‏ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء‏}‏‏.‏‏.‏

إنهم قد كفروا‏.‏‏.‏ على الرغم من أنهم تكلموا بما تكلم به المسلمون، ونطقوا بالشهادتين نطقاً يكذبه العمل في مظاهرة أعداء المسلمين‏.‏‏.‏ وهم لا يريدون أن يقفوا عند هذا الحد‏.‏ فالذي يكفر لا يستريح لوجود الإيمان في الأرض ووجود المؤمنين‏.‏ ولا بد له من عمل وسعي، ولا بد له من جهد وكيد لرد المسلمين إلى الكفر‏.‏ ليكونوا كلهم سواء‏.‏

هذا هو الإيضاح الأول لحقيقة موقف أولئك المنافقين‏.‏‏.‏ وهو يحمل البيان الذي يرفع التميع في تصور الإيمان؛ ويقيمه على أساس واضح من القول والعمل متطابقين‏.‏ وإلا فلا عبرة بكلمات اللسان، وحولها هذه القرائن التي تشهد بالكذب والنفاق‏:‏

والقرآن يلمس مشاعر المؤمنين لمسة قوية مفزعة لهم، وهو يقول لهم‏:‏

‏{‏ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء‏}‏‏.‏‏.‏

فقد كانوا حديثي عهد بتذوق حلاوة الإيمان بعد مرارة الكفر‏.‏ وبالنقلة الضخمة التي يجدونها في أنفسهم، بين مشاعرهم ومستواهم ومجتمعهم في الجاهلية‏.‏‏.‏ ثم في الإسلام‏.‏ وكان الفرق واضحاً بارزاً في مشاعرهم وفي واقعهم، تكفي الإشارة إليه لاستثارة عداوتهم كلها لمن يريد أن يردهم إلى ذلك السفح الهابط- سفح الجاهلية- الذي التقطهم منه الإسلام؛ فسار بهم صعداً في المرتقى الصاعد، نحو القمة السامقة‏.‏

ومن ثم يتكئ المنهج القرآني على هذه الحقيقة؛ فيوجه إليهم الأمر في لحظة التوفز والتحفز والانتباه للخطر البشع الفظيع الذي يتهددهم من قبل هؤلاء‏:‏

‏{‏فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله‏.‏ فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً‏}‏‏.‏‏.‏

ونحس من النهي عن اتخاذ أولياء منهم‏.‏

‏.‏ أنه كانت ما تزال للروابط والوشائج العائلية والقبلية بقايا في نفوس المسلمين في المدينة- وربما كان للمصالح الاقتصادية أيضاً- وكان المنهج القرآني يعالج هذه الرواسب؛ ويقرر للأمة المسلمة قواعد ارتباطاتها‏.‏ كما يقرر قواعد تصورها في الوقت ذاته‏.‏

كان يعلمها أن الأمة لا تقوم على روابط العشيرة والقبيلة، أو روابط الدم والقرابة‏.‏ أو روابط الحياة في أرض واحدة أو مدينة واحدة أو روابط المصالح الاقتصادية في التجارة وغير التجارة‏.‏‏.‏ إنما تقوم الأمة على العقيدة؛ وعلى النظام الاجتماعي المنبثق من هذه العقيدة‏.‏

ومن ثم فلا ولاية بين المسلمين في دار الإسلام، وبين غيرهم ممن هم في دار الحرب‏.‏‏.‏ ودار الحرب هي يومئذ مكة موطن المهاجرين الأول‏.‏‏.‏ لا ولاية حتى يهاجر أولئك الذين يتكلمون بكلمة الإسلام؛ وينضموا إلى المجتمع المسلم- أي إلى الأمة المسلمة- حيث تكون هجرتهم لله وفي سبيل الله‏.‏ من أجل عقيدتهم، لا من أجل أي هدف آخر؛ ولإقامة المجتمع المسلم الذي يعيش بالمنهج الإسلامي لا لأي غرض آخر‏.‏‏.‏ بهذه النصاعة‏.‏ وبهذا الحسم‏.‏ وبهذا التحديد الذي لا يقبل أن تختلط به شوائب أخرى، أو مصالح أخرى، أو أهداف أخرى‏.‏‏.‏

فإن هم فعلوا‏.‏ فتركوا أهلهم ووطنهم ومصالحهم‏.‏‏.‏ في دار الحرب‏.‏‏.‏ وهاجروا إلى دار الإسلام، ليعيشوا بالنظام الإسلامي، المنبثق من العقيدة الإسلامية، القائم على الشريعة الإسلامية‏.‏‏.‏ إن هم فعلوا هذا فهم أعضاء في المجتمع المسلم، مواطنون في الأمة المسلمة‏.‏ وإن لم يفعلوا وأبوا الهجرة، فلا عبرة بكلمات تقال فتكذبها الأفعال‏:‏

‏{‏فإن تولوا فخذوهم ‏(‏أي أسرى‏)‏ واقتلوهم حيث وجدتموهم، ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً‏}‏‏.‏

وهذا الحكم- كما قلنا- هو الذي يرجح عندنا، أنهم لم يكونوا هم منافقي المدينة‏.‏ إذ قد اتبعت مع منافقي المدينة سياسة أخرى‏.‏

إن الإسلام يتسامح مع أصحاب العقائد المخالفة له؛ فلا يكرههم أبداً على اعتناق عقيدته‏.‏ ولهم- حتى وهم يعيشون في ظل نظامه ودولته- أن يجهروا بمعتقداتهم المخالفة للإسلام‏.‏ في غير ما دعوة للمسلمين ولا طعن في الدين‏.‏ فقد ورد في القرآن من استنكار مثل هذا الطعن من أهل الكتاب ما لا يدع مجالاً للشك في أن الإسلام لا يدع غير المعتنقين له ممن يعيشون في ظله يطعنون فيه ويموهون حقائقه ويلبسون الحق بالباطل كما تقول بعض الآراء المائعة في زماننا هذا‏!‏ وحسب الإسلام أنه لا يكرههم على اعتناق عقيدته‏.‏ وأنه يحافظ على حياتهم وأموالهم ودمائهم؛ وأنه يمتعهم بخير الوطن الإسلامي بلا تمييز بينهم وبين أهل الإسلام؛ وأنه يدعهم يتحاكمون إلى شريعتهم في غير ما يتعلق بمسائل النظام العام‏.‏

إن الإسلام يتسامح هذا التسامح مع مخالفيه جهاراً نهاراً في العقيدة‏.‏‏.‏ ولكنه لا يتسامح هذا التسامح مع من يقولون الإسلام كلمة باللسان تكذبها الأفعال‏.‏

لا يتسامح مع من يقولون‏:‏ إنهم يوحدون الله ويشهدون أن لا إله إلا الله‏.‏ ثم يعترفون لغير الله بخاصية من خصائص الألوهية، كالحاكمية والتشريع للناس؛ فيصم أهل الكتاب بأنهم مشركون، لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم‏.‏‏.‏ لا لأنهم عبدوهم‏.‏ ولكن لأنهم أحلوا لهم الحلال، وحرموا عليهم الحرام فاتبعوهم‏!‏

ولا يتسامح هذا التسامح في وصف جماعة من المنافقين بأنهم مؤمنون‏.‏ لأنهم شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله‏.‏ ثم بقوا في دار الكفر، يناصرون أعداء المسلمين‏!‏

ذلك أن التسامح هنا ليس تسامحاً‏.‏ إنما هو تميع‏.‏ والإسلام عقيدة التسامح‏.‏ ولكنه ليس عقيدة «التميع»‏.‏ إنه تصور جاد‏.‏ ونظام جاد‏.‏ والجد لا ينافي التسامح‏.‏ ولكنه ينافي التميع‏.‏

وفي هذه اللفتات واللمسات من المنهج القرآني للجماعة المسلمة الأولى، بيان، وبلاغ‏.‏‏.‏

ثم استثنى من هذا الحكم- حكم الأسر والقتل- لهذا الصنف من المنافقين، الذين يعينون أعداء المسلمين- من يلجأون إلى معسكر بينه وبين الجماعة الإسلامية عهد- عهد مهادنة أو عهد ذمة- ففي هذه الحالة يأخذون حكم المعسكر الذي يلتجئون، إليه ويتصلون به‏:‏

‏{‏إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏‏.‏‏.‏

ويبدو في هذا الحكم اختيار الإسلام للسلم، حيثما وجد مجالاً للسلم لا يتعارض مع منهجه الأساسي‏.‏ من حرية الإبلاغ وحرية الاختيار؛ وعدم الوقوف في وجه الدعوة، بالقوة مع كفالة الأمن للمسلمين؛ وعدم تعريضهم للفتنة، أو تعريض الدعوة الإسلامية ذاتها للتجميد والخطر‏.‏

ومن ثم يجعل كل من يلجأ ويتصل ويعيش بين قوم معاهدين- عهد ذمة أو عهد هدنة- شأنه شأن القوم المعاهدين‏.‏ يعامل معاملتهم، ويسالم مسالمتهم‏.‏ وهي روح سلمية واضحة المعالم في مثل هذه الأحكام‏.‏

كذلك يستثني من الأسر والقتل جماعة أخرى‏.‏ هي الأفراد أو القبائل أو المجموعات التي تريد أن تقف على الحياد، فيما بين قومهم وبين المسلمين من قتال‏.‏ إذ تضيق صدورهم أن يقاتلوا المسلمين مع قومهم‏.‏ كما تضيق صدورهم أن يقاتلوا قومهم مع المسلمين‏.‏ فيكفوا أيديهم عن الفريقين بسبب هذا التحرج من المساس بهؤلاء أو هؤلاء‏:‏

‏{‏أو جاءوكم، حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم‏}‏‏.‏‏.‏

وواضح كذلك في هذا الحكم الرغبة السلمية في اجتناب القتال؛ حيثما كف الآخرون عن التعرض للمسلمين ودعوتهم؛ واختاروا الحياد بينهم وبين المحاربين لهم‏.‏ وهؤلاء الذين يتحرجون أن يحاربوا المسلمين أو يحاربوا قومهم‏.‏‏.‏ كانوا موجودين في الجزيرة؛ وفي قريش نفسها؛ ولم يلزمهم الإسلام أن يكونوا معه أو عليه‏.‏ فقد كان حسبه ألا يكونوا عليه‏.‏‏.‏ كما أنه كان المرجو من أمرهم أن ينحازوا إلى الإسلام، حينما تزول الملابسات التي تحرجهم من الدخول فيه؛ كما وقع بالفعل‏.‏

ويحبب الله المسلمين في انتهاج هذه الخطة مع المحايدين المتحرجين‏.‏ فيكشف لهم عن الفرض الثاني الممكن في الموقف‏!‏ فلقد كان من الممكن- بدل أن يقفوا هكذا على الحياد متحرجين- أن يسلطهم الله على المسلمين فيقاتلوهم مع أعدائهم المحاربين‏!‏ فأما وقد كفهم الله عنهم على هذا النحو، فالسلم أولى، وتركهم وشأنهم هو السبيل‏:‏

‏{‏ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم‏.‏ فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم السلم‏.‏ فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا يلمس المنهج التربوي الحكيم نفوس المسلمين المتحمسين، الذين قد لا يرضون هذا الموقف من هذا الفريق‏.‏ يلمسه بما في هذا الموقف من فضل الله وتدبيره؛ ومن كف لجانب من العداء والأذى كان سيضاعف العبء على عاتق المسلمين‏.‏ ويعلمهم أن يأخذوا الخير الذي يعرض فلا يرفضوه، ويجتنبوا الشر الذي يأخذ طريقه بعيداً عنهم، فلا يناوشوه‏.‏‏.‏ طالما أن ليس في هذا كله تفريط في شيء من دينهم، ولا تمييع لشيء من عقيدتهم؛ ولا رضى بالدنية في طلب السلم الرخيصة‏!‏

لقد نهاهم عن السلم الرخيصة‏.‏ لأنه ليس الكف عن القتال بأي ثمن هو غاية الإسلام‏.‏‏.‏ إنما غاية الإسلام‏:‏ السلم التي لا تتحيف حقاً من حقوق الدعوة، ولا من حقوق المسلمين‏.‏‏.‏ لا حقوق أشخاصهم وذواتهم؛ ولكن حقوق هذا المنهج الذي يحملونه ويسمون به مسلمين‏.‏

وإن من حق هذا المنهج أن تزال العقبات كلها من طريق إبلاغ دعوته وبيانه للناس في كل زاوية من زوايا الأرض‏.‏ وأن يكون لكل من شاء- ممن بلغتهم الدعوة- أن يدخل فيه فلا يضار ولا يؤذى في كل زاوية من زوايا الأرض‏.‏ وأن تكون هناك القوة التي يخشاها كل من يفكر في الوقوف في وجه الدعوة- في صورة من الصور- أو مضارة من يؤمن بها- أي لون من ألوان المضارة- وبعد ذلك فالسلم قاعدة‏.‏ والجهاد ماض إلى يوم القيامة‏.‏

ولكن هناك طائفة أخرى، لا يتسامح معها الإسلام هذا التسامح‏.‏ لأنها طائفة منافقة شريرة كالطائفة الأولى‏.‏ وليست مرتبطة بميثاق ولا متصلة بقوم لهم ميثاق‏.‏ فإلاسلام إزاءها إذن طليق‏.‏ يأخذها بما أخذ به طائفة المنافقين الأولى‏:‏

‏{‏ستجدون آخرين، يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم‏.‏ كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها‏.‏ فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم، ويكفوا أيديهم؛ فخذوهم، واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً‏}‏‏.‏‏.‏

حكى ابن جرير عن مجاهد، أنها نزلت في قوم من أهل مكة، كانوا يأتون النبي- صلى الله عليه وسلم- فيسلمون رياء؛ ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ها هنا، وها هنا‏.‏ فأمر بقتلهم- إن لم يعتزلوا ويصلحوا- ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ‏(‏المهادنة والصلح‏)‏ ويكفوا أيديهم ‏(‏أي عن القتال‏)‏ فخذوهم ‏(‏أسراء‏)‏ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ‏(‏أي حيث وجدتموهم‏)‏ وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً‏}‏‏.‏

وهكذا نرى صفحة من حسم الإسلام وجديته، إلى جانب سماحته وتغاضيه‏.‏‏.‏ هذه في موضعها، وتلك في موضعها‏.‏ وطبيعة الموقف، وحقيقة الواقعة، هي التي تحدد هذه وتلك‏.‏‏.‏

ورؤية هاتين الصفحتين- على هذا النحو- كفيلة بأن تنشئ التوازن في شعور المسلم؛ كما تنشئ التوازن في النظام الإسلامي- السمة الأساسية الأصيلة- فأما حين يجيء المتشددون فيأخذون الأمر كله عنفاً وحماسة وشدة واندفاعاً فليس هذا هو الإسلام‏!‏ وأما حين يجيء المتميعون المترققون المعتذرون عن الجهاد في الإسلام، كأن الإسلام في قفص الاتهام وهم يترافعون عن المتهم الفاتك الخطير‏!‏ فيجعلون الأمر كله سماحة وسلماً وإغضاء وعفواً؛ ومجرد دفاع عن الوطن الإسلامي وعن جماعة المسلمين- وليس دفعاً عن حرية الدعوة وإبلاغها لكل زاوية في الأرض بلا عقبة‏.‏ وليس تأميناً لأي فرد في كل زاوية من زوايا الأرض يريد أن يختار الإسلام عقيدة‏.‏ وليس سيادة لنظام فاضل وقانون فاضل يأمن الناس كلهم في ظله، من اختار عقيدته ومن لم يخترها سواء‏.‏‏.‏ فأما حينئذ فليس هذا هو الإسلام‏.‏

وفي هذه الطائفة من أحكام المعاملات الدولية بلاغ وبيان‏.‏‏.‏

ذلك في علاقات المسلمين مع المعسكرات الأخرى‏.‏ فأما في علاقات المسلمين بعضهم ببعض، مهما اختلفت الديار- وفي ذلك الوقت كما في كل وقت كان هناك مسلمون في شتى الديار- فلا قتل ولا قتال‏.‏‏.‏ لا قتل إلا في حد أو قصاص‏.‏‏.‏ فإنه لا يوجد سبب يبلغ من ضخامته أن يفوق ما بين المسلم والمسلم من وشيجة العقيدة‏.‏ ومن ثم لا يقتل المسلم المسلم أبداً‏.‏ وقد ربطت بينهما هذه الرابطة الوثيقة‏.‏ اللهم إلا أن يكون ذلك خطأ‏.‏‏.‏ وللقتل الخطأ توضع التشريعات والأحكام‏.‏ فأما القتل العمد فلا كفارة له‏.‏ لأنه وراء الحسبان‏!‏ ووراء حدود الإسلام‏!‏

‏{‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ‏.‏ ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله- إلا أن يصدقوا- فإن كان من قوم عدو لكم- وهو مؤمن- فتحرير رقبة مؤمنة‏.‏ وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة‏.‏ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين‏.‏ توبة من الله‏.‏ وكان الله عليماً حكيماً‏}‏‏.‏

‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه الأحكام تتناول أربع حالات‏:‏ ثلاث منها من حالات القتل الخطأ- وهو الأمر المحتمل وقوعه بين المسلمين في دار واحدة- دار الإسلام- أو في ديار مختلفة بين شتى الأقوام- والحالة الرابعة حالة القتل العمد‏.‏ وهي التي يستبعد السياق القرآني وقوعها ابتداء‏.‏

فليس من شأنها أن تقع‏.‏ إذ ليس في هذه الحياة الدنيا كلها ما يساوي دم مسلم يريقه مسلم عمداً‏.‏ وليس في ملابسات هذه الحياة الدنيا كلها ما من شأنه أن يوهن من علاقة المسلم بالمسلم إلى حد أن يقتله عمداً‏.‏ وهذه العلاقة التي أنشأها الإسلام بين المسلم والمسلم من المتانة والعمق والضخامة والغلاوة والإعزاز بحيث لا يفترض الإسلام أن تخدش هذا الخدش الخطير أبداً‏.‏‏.‏ ومن ثم يبدأ حديثه عن أحكام القتل الخطأ‏:‏

‏{‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ‏}‏‏.‏‏.‏

فهذا هو الاحتمال الوحيد في الحس الإسلامي‏.‏‏.‏ وهو الاحتمال الحقيقي في الواقع‏.‏‏.‏ فإن وجود مسلم إلى جوار مسلم مسألة كبيرة‏.‏ كبيرة جداً‏.‏ ونعمة عظيمة‏.‏ عظيمة جداً‏.‏ ومن العسير تصور أن يقدم مسلم على إزالة هذه النعمة عن نفسه؛ والإقدام على هذه الكبيرة عن عمد وقصد‏.‏‏.‏ إن هذا العنصر‏.‏‏.‏ المسلم‏.‏‏.‏ عنصر عزيز في هذه الأرض‏.‏‏.‏ وأشد الناس شعوراً بإعزاز هذا العنصر هو المسلم مثله‏.‏‏.‏ فمن العسير أن يقدم على إعدامه بقتله‏.‏‏.‏ وهذا أمر يعرفه أصحابه‏.‏ يعرفونه في نفوسهم ومشاعرهم‏.‏ وقد علمهم الله إياه بهذه العقيدة‏.‏ وبهذه الوشيجة‏.‏ وبهذه القرابة التي تجمعهم في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم ترتقي فتجمعهم في الله سبحانه الذي ألف بين قلوبهم‏.‏ ذلك التأليف الرباني العجيب‏.‏

فأما إذا وقع القتل خطأ فهناك تلك الحالات الثلاث، التي يبين السياق أحكامها هنا‏:‏

الحالة الأولى‏:‏ أن يقع القتل على مؤمن أهله مؤمنون في دار الإسلام‏.‏ ويجب في هذه الحالة تحرير رقبة مؤمنة، ودية تسلم إلى أهله‏.‏‏.‏ فأما تحرير الرقبة المؤمنة، فهو تعويض للمجتمع المسلم عن قتل نفس مؤمنة باستحياء نفس مؤمنة‏.‏ وكذلك هو تحرير الرقاب في حس الإسلام‏.‏ وأما الدية فتسكين لثائرة النفوس، وشراء لخواطر المفجوعين، وتعويض لهم عن بعض ما فقدوا من نفع المقتول‏.‏‏.‏ ومع هذا يلوح الإسلام لأهل القتيل بالعفو- إذا اطمأنت نفوسهم إليه- لأنه أقرب إلى جو التعاطف والتسامح في المجتمع المسلم‏.‏

‏{‏ومن يقتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله- إلا أن يصدّقوا‏}‏‏.‏‏.‏

والحالة الثانية‏:‏ أن يقع القتل على مؤمن وأهله محاربون للإسلام في دار الحرب‏.‏‏.‏ وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة لتعويض النفس المؤمنة التي قتلت، وفقدها الإسلام‏.‏ ولكن لا يجوز أداء دية لقومه المحاربين، يستعينون بها على قتال المسلمين‏!‏ ولا مكان هنا لاسترضاء أهل القتيل وكسب مودتهم، فهم محاربون، وهم عدو للمسلمين‏.‏

والحالة الثالثة‏:‏ أن يقع القتل على مؤمن قومه معاهدون- عهد هدنة أو عهد ذمة- ولم ينص على كون المقتول مؤمناً في هذه الحالة‏.‏ مما جعل بعض المفسرين والفقهاء يرى النص على إطلاقه‏.‏ ويرى الحكم بتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله- المعاهدين- ولو لم يكن مؤمناً‏.‏

لأن عهدهم مع المؤمنين يجعل دماءهم مصونة كدماء المسلمين‏.‏

ولكن الذي يظهر لنا أن الكلام ابتداء منصب على قتل المؤمن‏.‏ ‏{‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ‏}‏‏.‏‏.‏ ثم بيان للحالات المتنوعة التي يكون فيها القتيل مؤمناً‏.‏ وإذا كان قد نص في الحالة الثانية فقال‏:‏ ‏{‏وإن كان من قوم عدو لكم- وهو مؤمن‏}‏ فقد كان هذا الاحتراز مرة أخرى بسبب ملابسة أنه من قوم عدو‏.‏ ويؤيد هذا الفهم النص على تحرير رقبة مؤمنة في هذه الحالة الثالثة‏.‏ مما يوحي بأن القتيل مؤمن فأعتقت رقبة مؤمنة تعويضاً عنه‏.‏ وإلا لكفى عتق رقبة إطلاقاً دون شرط الإيمان‏.‏‏.‏

«وقد ورد أن النبي- صلى الله عليه وسلم- ودى بعض القتلى من المعاهدين‏:‏ ولكن لم يرد عتق رقاب مؤمنة بعددهم» مما يدل على أن الواجب في هذه الحالة هو الدية‏.‏ وأن هذا ثبت بعمل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا بهذه الآية‏.‏ وأن الحالات التي تتناولها هذه الآية كلها هي حالات وقوع القتل على مؤمن‏.‏ سواء كان من قوم مؤمنين في دار الإسلام، أو من قوم محاربين عدو للمسلمين في دار الحرب، أو من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق‏.‏‏.‏ ميثاق هدنة أو ذمة‏.‏‏.‏ وهذا هو الأظهر في السياق‏.‏

ذلك القتل الخطأ‏.‏ فأما القتل العمد، فهو الكبيرة التي لا ترتكب مع إيمان؛ والتي لا تكفر عنها دية ولا عتق رقبة؛ وإنما يوكل جزاؤها إلى عذاب الله‏:‏

‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه ولعنه‏.‏ وأعد له عذاباً عظيماً‏}‏‏.‏‏.‏

إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب- بغير حق- ولكنها كذلك جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة، التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم‏.‏ إنها تنكر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسها‏.‏

ومن ثم قرنت بالشرك في مواضع كثيرة؛ واتجه بعضهم- ومنهم ابن عباس- إلى أنه لا توبة منها‏.‏‏.‏ ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏‏.‏‏.‏ فرجا للقاتل التائب المغفرة‏.‏‏.‏ وفسر الخلود بأنه الدهر الطويل‏.‏

والذين تربوا في مدرسة الإسلام الأولى، كانوا يرون قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم،- قبل إسلامهم- يمشون على الأرض- وقد دخلوا في الإسلام- فيهيج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة‏.‏ ولكنهم لا يفكرون في قتلهم‏.‏ لا يفكرون مرة واحدة؛ ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشد الحالات وجداً ولذعاً ومرارة‏.‏ بل إنهم لم يفكروا في إنقاصهم حقاً واحداً من حقوقهم التي يخولها لهم الإسلام‏.‏

واحتراساً من وقوع القتل ولو كان خطأ؛ وتطهيراً لقلوب المجاهدين حتى ما يكون فيها شيء إلا لله، وفي سبيل الله‏.‏

‏.‏ يأمر الله المسلمين إذا خرجوا غزاة، ألا يبدأوا بقتال أحد أو قتله حتى يتبينوا؛ وأن يكتفوا بظاهر الإسلام في كلمة اللسان ‏(‏إذ لا دليل هنا يناقض كلمة اللسان‏)‏‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا؛ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً‏.‏ تبتغون عرض الحياة الدنيا‏.‏ فعند الله مغانم كثيرة‏.‏ كذلك كنتم من قبل، فمن الله عليكم‏.‏ فتبينوا‏.‏ إن الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏‏.‏‏.‏

وقد وردت روايات كثيرة في سبب نزول الآية‏:‏ خلاصتها أن سرية من سرايا المسلمين لقيت رجلاً معه غنم له‏.‏ فقال السلام عليكم‏.‏ يعني أنه مسلم‏.‏ فاعتبر بعضهم أنها كلمة يقولها لينجو بها، فقتله‏.‏

ومن ثم نزلت الآية، تحرج على مثل هذا التصرف؛ وتنفض عن قلوب المؤمنين كل شائبة من طمع في الغنيمة؛ أو تسرع في الحكم‏.‏‏.‏ وكلاهما يكرهه الإسلام‏.‏

إن عرض الحياة الدنيا لا يجوز أن يدخل للمسلمين في حساب؛ إذا خرجوا يجاهدون في سبيل الله‏.‏ إنه ليس الدافع إلى الجهاد ولا الباعث عليه‏.‏‏.‏ وكذلك التسرع بإهدار دم قبل التبين‏.‏ وقد يكون دم مسلم عزيز، لا يجوز أن يراق‏.‏

والله سبحانه يذكر الذين آمنوا بجاهليتهم القريبة وما كان فيها من تسرع ورعونة؛ وما كان فيها من طمع في الغنيمة‏.‏ ويمن عليهم أن طهر نفوسهم ورفع أهدافهم، فلم يعودوا يغزون ابتغاء عرض الحياة الدنيا كما كانوا في جاهليتهم‏.‏ ويمن عليهم أن شرع لهم حدوداً وجعل لهم نظاماً؛ فلا تكون الهيجة الأولى هي الحكم الآخر‏.‏ كما كانوا في جاهليتهم كذلك‏.‏‏.‏ وقد يتضمن النص إشارة إلى أنهم هم كذلك كانوا يخفون إسلامهم- على قومهم- من الضعف والخوف، فلا يظهرونه إلا عند الأمن مع المسلمين، وأن ذلك الرجل القتيل كان يخفي إسلامه على قومه، فلما لقي المسلمين أظهر لهم إسلامه وأقرأهم سلام المسلمين‏.‏

‏{‏كذلك كنتم من قبل‏.‏ فمن الله عليكم‏.‏ فتبينوا‏.‏ إن الله كان بما تعلمون خبيراً‏}‏‏.‏

وهكذا يلمس المنهج القرآني القلوب لتحيا وتتحرج وتتذكر نعمة الله‏.‏‏.‏ وعلى هذه الحساسية والتقوى، يقيم الشرائع والأحكام؛ بعد بيانها وإيضاحها‏.‏

وهكذا يتناول هذا الدرس تلك الجوانب من قواعد المعاملات الدولية بمثل هذا الوضوح، ومثل هذه النظافة‏.‏ منذ أربعة عشر قرناً‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 104‏]‏

‏{‏لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏95‏)‏ دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏96‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏97‏)‏ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ‏(‏98‏)‏ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏99‏)‏ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏100‏)‏ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏101‏)‏ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏102‏)‏ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ‏(‏103‏)‏ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

هذا الدرس وثيق الصلة، شديد اللحمة بالدرس السابق والدرس الذي قبله كذلك‏.‏ فهو تكملة موضوعية لموضوع الدرسين السابقين‏.‏ ولو الرغبة في إقرار مبادئ المعاملات الدولية- كما يقررها الإسلام- لاعتبرناهما معاً مع هذا الدرس درساً واحداً متصلاً‏.‏ إنما هي حلقات في خط واحد‏.‏

إن موضوعه الأساسي هو الهجرة إلى دار الإسلام؛ والحث على انضمام المسلمين المتخلفين في دار الكفر والحرب إلى الصف المسلم المجاهد في سبيل الله بالنفس والمال‏.‏ واطراح الراحة النسبية والمصلحة كذلك في البقاء بمكة، إلى جوار الأهل والمال‏!‏

ولعل هذا هو المقصود بقوله تعالى في مطلع هذا الدرس‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين- غير أولي الضرر- والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم‏.‏ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة- وكلا وعد الله الحسنى- وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏ فما كان في المدينة قاعدون- إلا المنافقين المعوقين الذين تحدث عنهم بلهجة غير هذه اللهجة في الدرس الماضي‏!‏

وقد تلا هذه الفقرة فقرة أخرى فيها تحذير وتهديد لمن يظلون قاعدين هنالك في دار الكفر- وهم قادرون على الهجرة منها بدينهم وعقيدتهم- حتى تتوفاهم الملائكة ‏{‏ظالمي أنفسهم‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً‏}‏‏.‏‏.‏

ثم تلتها فقرة أخرى عن ضمان الله سبحانه لمن يهاجر في سبيله، منذ اللحظة التي يخرج فيها من بيته، قاصداً الهجرة إلى الله خالصة‏.‏ عالج فيها كل المخاوف التي تهجس في النفس البشرية وهي تقدم على هذه المخاطرة، المحفوفة بالخطر، الكثيرة التكاليف في الوقت ذاته‏.‏‏.‏

فالحديث مطرد عن الجهاد والهجرة إلى دار المجاهدين، وأحكام التعامل بين المسلمين في دار الهجرة وبقية الطوائف خارج هذه الدار- بما في ذلك المسلمون الذين لم يهاجروا- والحديث موصول‏.‏

كذلك يلم هذا الدرس بكيفية الصلاة عند الخوف- في ميدان القتال أو في أثناء طريق الهجرة- وتدل هذه العناية بالصلاة في هذه الآونة الحرجة، على طبيعة نظرة الإسلام إلى الصلاة- كما أسلفنا- كما يهيئ لإيجاد حالة تعبئة نفسية كاملة؛ في مواجهة الخطر الحقيقي المحدق بالجماعة المسلمة؛ من أعدائها الذين يتربصون بها لحظة غفلة أو غرة‏!‏

وينتهي الدرس بلمسة قوية عميقة التأثير؛ في التشجيع على الجهاد في سبيل الله؛ في وجه الآلام والمتاعب التي تصيب المجاهدين‏.‏ وذلك في تصوير ناصع لحال المؤمنين المجاهدين، وحال أعدائهم المحاربين؛ على مفرق الطريق‏:‏

‏{‏ولا تهنوا في ابتغاء القوم‏.‏‏.‏ إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون‏.‏ وترجون من الله ما لا يرجون‏.‏‏.‏‏}‏

وبهذا التصوير يفترق طريقان؛ ويبرز منهجان؛ ويصغر كل ألم، وتهون كل مشقة‏.‏ ولا يبقى مجال للشعور بالضنى وبالكلال‏.‏

‏.‏ فالآخرون كذلك يألمون‏.‏ ولكنهم يرجون من الله ما لا يرجون‏!‏

ويرسم هذا الدرس- بجملة الموضوعات التي يعالجها، وبطرائق العلاج التي يسلكها- ما كان يعتمل في جسم الجماعة المسلمة، وهي تواجه مشاق التكوين الواقعية؛ ومشكلات التكوين العملية‏.‏ وما كان يشتجر في النفوس من عوامل الضعف البشري؛ ومن رواسب الماضي الجاهلي، ومن طبيعة الفطرة البشرية وهي تواجه التكاليف بمشاقها وآلامها؛ مع ما يصاحب هذه المشاق والآلام من أشواق ومن تطلع إلى الوفاء كذلك؛ يستثيرها المنهج الحكيم، ويستجيشها في الفطرة لتنهض بهذا الأمر العظيم‏.‏

ونرى ذلك كله مرتسماً من خلال الوصف للواقع؛ ومن خلال التشجيع والاستجاشة؛ ومن خلال المعالجة للمخاوف الفطرية والآلام الواقعية؛ ومن خلال التسليح في المعركة بالصلاة‏!‏ وبالصلاة خاصة- إلى جانب التسلح بالعدة واليقظة- وبالثقة في ضمانة الله للمهاجرين، وثوابه للمجاهدين، وعونه للخارجين في سبيله، وما أعده للكافرين من عذاب مهين‏.‏

ونرى طريقة المنهج القرآني الرباني في التعامل مع النفس البشرية في قوتها وضعفها؛ وفي التعامل مع الجماعة الإنسانية في أثناء تكوينها وإنضاجها‏.‏ ونرى شتى الخيوط التي يشدها منها في الوقت الواحد وفي الآية الواحدة‏.‏‏.‏ ونرى- على الأخص- كيف يملأ مشاعر الجماعة المسلمة بالتفوق على عدوها، في الوقت الذي يملأ نفوسها بالحذر واليقظة والتهيؤ الدائم للخطر، وفي الوقت الذي يدلها كذلك على مواطن الضعف فيها، ومواضع التقصير، ويحذرها إياها أشد التحذير‏.‏

إنه منهج عجيب في تكامله وفي تقابله مع النفس البشرية؛ وفي عدد الأوتار التي يلمسها في اللمسة الواحدة، وعدد الخيوط التي يشدها في هذه النفس، فتصوت كلها وتستجيب‏!‏

لقد كان التفوق في منهج التربية، والتفوق في التنظيم الاجتماعي الذي قام عليه؛ هو الأمر البارز الظاهر فيما بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات حوله من فروق‏.‏‏.‏ ولقد كان هذا التفوق البارز هو كذلك أوضح الأسباب- التي يراها البشر- لتمكن هذا المجتمع الناشئ الشاب- بكل ما كان في حياته من ملابسات ومن ضعف أحياناً وتقصير- من طي تلك المجتمعات الأخرى، والغلبة عليها‏.‏ لا غلبة معركة بالسلاح فحسب؛ ولكن غلبة حضارة فتية على حضارات شاخت‏.‏ غلبة منهج على مناهج، ونموذج من الحياة على نماذج؛ ومولد عصر جديد على مولد إنسان جديد‏.‏‏.‏

ونكتفي بهذا القدر حتى نواجه النصوص بالتفصيل‏:‏

‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين- غير أولي الضرر- والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم‏.‏ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى‏.‏ وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً‏.‏ درجات منه ومغفرة ورحمة‏.‏ وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏‏.‏‏.‏

إن هذا النص القرآني كان يواجه حالة خاصة في المجتمع المسلم وما حوله؛ وكان يعالج حالة خاصة في هذا المجتمع من التراخي- من بعض عناصره- في النهوض بتكاليف الجهاد بالأموال والأنفس‏.‏

سواء كان المقصود أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة احتفاظاً بأموالهم، إذ لم يكن المشركون يسمحون لمهاجر أن يحمل معه شيئاً من ماله؛ أو توفيراً لعناء الهجرة وما فيها من مخاطر، إذ لم يكن المشركون يتركون المسلمين يهاجرون، وكثيراً ما كانوا يحبسونهم ويؤذونهم- أو يزيدون في إيذائهم بتعبير أدق- إذا عرفوا منهم نية الهجرة‏.‏‏.‏ سواء كان المقصود هم أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة- وهو ما نرجحه- أو كان المقصود بعض المسلمين في دار الإسلام، الذين لم ينشطوا للجهاد بالأموال والأنفس- من غير المنافقين المبطئين الذين ورد ذكرهم في درس سابق- أو كان المقصود هؤلاء وهؤلاء ممن لم ينشطوا للجهاد بالأموال والأنفس في دار الحرب ودار الإسلام سواء‏.‏

إن هذا النص كان يواجه هذه الحالة الخاصة؛ ولكن التعبير القرآني يقرر قاعدة عامة؛ يطلقها من قيود الزمان، وملابسات البيئة؛ ويجعلها هي القاعدة التي ينظر الله بها إلى المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان- قاعدة عدم الاستواء بين القاعدين من المؤمنين عن الجهاد بالأموال والأنفس- غير أولي الضرر الذين يقعدهم العجز عن الجهاد بالنفس، او يقعدهم الفقر والعجز عن الجهاد بالنفس والمال- عدم الاستواء بين هؤلاء القاعدين والآخرين الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم‏.‏‏.‏ قاعدة عامة على الإطلاق‏:‏

‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين- غير أولي الضرر- والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم‏}‏‏.‏‏.‏

ولا يتركها هكذا مبهمة، بل يوضحها ويقررها، ويبين طبيعة عدم الاستواء بين الفريقين‏:‏

‏{‏فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه الدرجة يمثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامهم في الجنة‏.‏

في الصحيحين «عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله‏.‏ وما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض»‏.‏

وقال الأعمش عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، «عن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏» من رمى بسهم فله أجره درجة «فقال رجل‏:‏ يا رسول الله، وما الدرجة‏؟‏ فقال‏:‏ أما إنها ليست بعتبة أمك‏.‏ ما بين الدرجتين مائة عام»‏.‏

وهذه المسافات التي يمثل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحسب أننا اليوم أقدر على تصورها؛ بعد الذي عرفناه من بعض أبعاد الكون‏.‏ حتى إن الضوء ليصل من نجم إلى كوكب في مئات السنين الضوئية‏!‏ وقد كان الذين يسمعون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصدقونه بما يقول‏.‏ ولكنا- كما قلت- ربما كنا أقدر- فوق الإيمان- على تصور هذه الأبعاد بما عرفناه من بعض أبعاد الكون العجيب‏!‏

ثم يعود السياق بعد تقرير هذا الفارق في المستوى بين القاعدين من المؤمنين- غير أولي الضرر- والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم، فيقرر أن الله وعد جميعهم الحسنى‏:‏

‏{‏وكلاًّ وعد الله الحسنى‏}‏‏.‏

فللإيمان وزنه وقيمته على كل حال؛ مع تفاضل أهله في الدرجات وفق تفاضلهم في النهوض بتكاليف الإيمان؛ فيما يتعلق بالجهاد بالأموال والأنفس‏.‏‏.‏ وهذا الاستدراك هو الذي نفهم منه أن هؤلاء القاعدين ليسوا هم المنافقين المبطئين‏.‏ إنما هم طائفة أخرى صالحة في الصف المسلم ومخلصة؛ ولكنها قصرت في هذا الجانب؛ والقرآن يستحثها لتلافي التقصير؛ والخير مرجو فيها، والأمل قائم في أن تستجيب‏.‏

فإذا انتهى من هذا الاستدراك عاد لتقرير القاعدة الأولى؛ مؤكداً لها، متوسعاً في عرضها؛ ممعناً في الترغيب فيما وراءها من أجر عظيم‏:‏

‏{‏وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً‏.‏ درجات منه ومغفرة ورحمة‏.‏ وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏‏.‏

وهذا التوكيد‏.‏‏.‏ وهذه الوعود‏.‏‏.‏ وهذا التمجيد للمجاهدين‏.‏‏.‏ والتفضيل على القاعدين‏.‏‏.‏ والتلويح بكل ما تهفو له نفس المؤمن من درجات الأجر العظيم‏.‏‏.‏ ومن مغفرة الله ورحمته للذنوب والتقصير‏.‏‏.‏

هذا كله يشي بحقيقتين هامتين‏:‏

الحقيقة الأولى‏:‏ هي أن هذه النصوص كانت تواجه حالات قائمة في الجماعة المسلمة كما أسلفنا وتعالجها‏.‏ وهذا كفيل بأن يجعلنا أكثر إدراكاً لطبيعة النفس البشرية، ولطبيعة الجماعات البشرية، وأنها مهما بلغت في مجموعها من التفوق في الإيمان والتربية فهي دائماً في حاجة إلى علاج ما يطرأ عليها من الضعف والحرص والشح والتقصير في مواجهة التكاليف، وبخاصة تكاليف الجهاد بالأموال والأنفس، مع خلوص النفس لله، وفي سبيل الله‏.‏ وظهور هذه الخصائص البشرية- من الضعف والحرص والشح والتقصير- لا يدعو لليأس من النفس أو الجماعة، ولا إلى نفض اليد، منها وازدرائها؛ طالما أن عناصر الإخلاص والجد والتعلق بالصف والرغبة في التعامل مع الله موفورة فيها‏.‏‏.‏ ولكن ليس معنى هذا هو إقرار النفس أو الجماعة على ما بدا منها من الضعف والحرص والشح والتقصير؛ والهتاف لها بالانبطاح في السفح، باعتبار أن هذا كله جزء من «واقعها»‏!‏ بل لا بد لها من الهتاف لتنهض من السفح والحداء لتسير في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة‏.‏ بكل ألوان الهتاف والحداء‏.‏‏.‏ كما نرى هنا في المنهج الرباني الحكيم‏.‏

والحقيقة الثانية‏:‏ هي قيمة الجهاد بالأموال والأنفس في ميزان الله واعتبارات هذا الدين وأصالة هذا العنصر في طبيعة هذه العقيدة وهذا النظام‏.‏ لما يعلمه الله- سبحانه- من طبيعة الطريق؛ وطبيعة البشر؛ وطبيعة المعسكرات المعادية للإسلام في كل حين‏.‏

إن «الجهاد» ليس ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة‏.‏ إنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة‏!‏ وليست المسألة- كما توهم بعض المخلصين- أن الإسلام نشأ في عصر الإمبراطوريات؛ فاندس في تصورات أهله- اقتباساً مما حولهم- أنه لا بد لهم من قوة قاهرة لحفظ التوازن‏!‏

هذه المقررات تشهد- على الأقل- بقلة ملابسة طبيعة الإسلام الأصيلة لنفوس هؤلاء القائلين بهذه التكهنات والظنون‏.‏

لو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب كتاب الله؛ في مثل هذا الأسلوب‏!‏ ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي مثل هذا الأسلوب‏.‏‏.‏

لو كان الجهاد ملابسة طارئة ما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تلك الكلمة الشاملة لكل مسلم إلى قيام الساعة‏:‏ «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق»‏.‏

ولئن كان- صلى الله عليه وسلم- رد في حالات فردية بعض المجاهدين، لظروف عائلية لهم خاصة، كالذي جاء في الصحيح «أن رجلاً قال للنبي- صلى الله عليه وسلم- أجاهد‏.‏ قال‏:‏» لك أبوان‏؟‏ «قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ففيهما جاهد»‏.‏ لئن كان ذلك فإنما هي حالة فردية لا تنقض القاعدة العامة؛ وفرد واحد لا ينقص المجاهدين الكثيرين‏.‏ ولعله- صلى الله عليه وسلم- على عادته في معرفة كل ظروف جنوده فرداً فرداً، كان يعلم من حال هذا الرجل وأبويه، ما جعله يوجهه هذا التوجيه‏.‏‏.‏

فلا يقولن أحد- بسبب ذلك- إنما كان الجهاد ملابسة طارئة بسبب ظروف‏.‏ وقد تغيرت هذه الظروف‏!‏

وليس ذلك لأن الإسلام يجب أن يشهر سيفه ويمشي به في الطريق يقطع به الروؤس‏!‏ ولكن لأن واقع حياة الناس وطبيعة طريق الدعوة تلزمه أن يمسك بهذا السيف ويأخذ حذره في كل حين‏!‏

إن الله- سبحانه- يعلم أن هذا أمر تكرهه الملوك‏!‏ ويعلم أن لا بد لأصحاب السلطان أن يقاوموه‏.‏ لأنه طريق غير طريقهم، ومنهج غير منهجهم‏.‏ ليس بالأمس فقط‏.‏ ولكن اليوم وغداً‏.‏ وفي كل أرض، وفي كل جيل‏!‏

وإن الله- سبحانه- يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفاً‏.‏ ولا يمكن أن يدع الخير ينمو- مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة‏!‏- فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر‏.‏ ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل‏.‏ ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان؛ ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة‏!‏

هذه جبلة‏!‏ وليست ملابسة وقتية‏.‏‏.‏‏.‏

هذه فطرة‏!‏ وليست حالة طارئة‏.‏‏.‏‏.‏

ومن ثم لا بد من الجهاد‏.‏‏.‏ لابد منه في كل صورة‏.‏‏.‏ ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير‏.‏

ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود‏.‏ ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح‏.‏ ولا بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة‏.‏‏.‏ وإلا كان الأمر انتحاراً‏.‏ أو كان هزلاً لا يليق بالمؤمنين‏!‏

ولا بد من بذل الأموال والأنفس‏.‏ كما طلب الله من المؤمنين‏.‏ وكما اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة‏.‏‏.‏ فأما أن يقدر لهم الغلب؛ أو يقدر لهم الاستشهاد؛ فذلك شأنه- سبحانه- وذلك قدره المصحوب بحكمته‏.‏‏.‏ أما هم فلهم إحدى الحسنيين عند ربهم‏.‏‏.‏ والناس كلهم يموتون عندما يحين الأجل‏.‏‏.‏ والشهداء وحدهم هم الذين يستشهدون‏.‏‏.‏

هناك نقط ارتكاز أصيلة في هذه العقيدة، وفي منهجها الواقعي، وفي خط سيرها المرسوم، وفي طبيعة هذا الخط وحتمياته الفطرية، التي لا علاقة لها بتغير الظروف‏.‏

وهذه النقط لا يجوز أن تتميع في حس المؤمنين- تحت أي ظرف من الظروف‏.‏ ومن هذه النقط‏.‏‏.‏ الجهاد‏.‏‏.‏ الذي يتحدث عنه الله سبحانه هذا الحديث‏.‏‏.‏ الجهاد في سبيل الله وحده‏.‏ وتحت رايته وحدها‏.‏‏.‏ وهذا هو الجهاد الذي يسمى من يقتلون فيه «شهداء» ويتلقاهم الملأ الأعلى بالتكريم‏.‏‏.‏

بعد ذلك يتحدث عن فريق من القاعدين؛ أولئك الذين يظلون قاعدين في دار الكفر لا يهاجرون؛ تمسك بهم أموالهم ومصالحهم، أو يمسك بهم ضعفهم عن مواجهة متاعب الهجرة وآلام الطريق- وهم قادرون لو أرادوا واعتزموا التضحية- أن يهاجروا‏.‏‏.‏ حتى يحين أجلهم؛ وتأتي الملائكة لتتوفاهم‏.‏ يتحدث عنهم فيصورهم صورة زرية منكرة؛ تستنهض كل قاعد منهم للفرار بدينه وعقيدته، وبمصيره عند ربه؛ من هذا الموقف الذي يرسمه لهم‏:‏

‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏.‏‏.‏ قالوا‏:‏ فيم كنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ كنا مستضعفين في الأرض‏.‏ قالوا‏:‏ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها‏؟‏ فأولئك مأواهم جهنم، وساءت مصيراً‏.‏ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً‏.‏ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوّاً غفوراً‏}‏‏.‏‏.‏

لقد كان هذا النص يواجه حالة واقعة في الجزيرة العربية- في مكة وغيرها- بعد هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقيام الدولة المسلمة‏.‏ فقد كان هناك مسلمون لم يهاجروا‏.‏ حبستهم أموالهم ومصالحهم- حيث لم يكن المشركون يدعون مهاجراً يحمل معه شيئاً من ماله- أو حبسهم إشفاقهم وخوفهم من مشاق الهجرة- حيث لم يكن المشركون يدعون مسلماً يهاجر حتى يمنعوه ويرصدوا له في الطريق‏.‏‏.‏ وجماعة حبسهم عجزهم الحقيقي، من الشيوخ والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة للهرب ولا يجدون سبيلاً للهجرة‏.‏‏.‏

وقد اشتد أذى المشركين لهؤلاء الباقين من أفراد المسلمين؛ بعد عجزهم عن إدراك الرسول- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، ومنعهما من الهجرة‏.‏ وبعد قيام الدولة المسلمة‏.‏

وبعد تعرض الدولة المسلمة لتجارة قريش في بدر، وانتصار المسلمين ذلك الانتصار الحاسم‏.‏ فأخذ المشركون يسومون هذه البقية المتخلفة ألواناً من العذاب والنكال، ويفتنونهم عن دينهم في غيظ شديد‏.‏

وقد فتن بعضهم عن دينهم فعلاً؛ واضطر بعضهم إلى إظهار الكفر تقية، ومشاركة المشركين عبادتهم‏.‏‏.‏ وكانت هذه التقية جائزة لهم يوم أن لم تكن لهم دولة يهاجرون إليها- متى استطاعوا- فأما بعد قيام الدولة، ووجود دار الإسلام، فإن الخضوع للفتنة، أو الالتجاء للتقية، وفي الوسع الهجرة والجهر بالإسلام، والحياة في دار الإسلام‏.‏‏.‏ أمر غير مقبول‏.‏

وهكذا نزلت هذه النصوص؛ تسمي هؤلاء القاعدين محافظة على أموالهم ومصالحهم، أو إشفاقاً من مشاق الهجرة ومتاعب الطريق‏.‏‏.‏ حتى يحين أجلهم‏.‏‏.‏ تسميهم‏:‏ ‏{‏ظالمي أنفسهم‏}‏‏.‏‏.‏ بما أنهم حرموها الحياة في دار الإسلام، تلك الحياة الرفيعة النظيفة الكريمة الحرة الطليقة‏.‏ وألزموها الحياة في دار الكفر تلك الحياة الذليلة الخانسة الضعيفة المضطهدة، وتوعدهم ‏{‏جهنم وساءت مصيراً‏}‏‏.‏‏.‏ مما يدل على أنها تعني الذين فتنوا عن دينهم بالفعل هناك‏!‏

ولكن التعبير القرآني- على أسلوب القرآن- يعبر في صورة، ويصور في مشهد حي نابض بالحركة والحوار‏:‏

‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة‏.‏‏.‏ ظالمي أنفسهم‏.‏‏.‏ قالوا‏:‏ فيم كنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ كنا مستضعفين في الأرض‏!‏ قالوا‏:‏ ألم تكن أرض الله واسعة، فتهاجروا فيها‏؟‏‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن القرآن يعالج نفوساً بشرية؛ ويهدف الى استجاشة عناصر الخير والمروءة والعزة فيها؛ وإلى مطاردة عوامل الضعف والشح والحرص والثقلة‏.‏‏.‏ لذلك يرسم هذا المشهد‏.‏‏.‏ إنه يصور حقيقة‏.‏ ولكنه يستخدم هذه الحقيقة في موضعها أحسن استخدام، في علاج النفس البشرية‏.‏‏.‏

ومشهد الاحتضار بذاته مشهد ترتجف له النفس البشرية، وتتحفز لتصور ما فيه‏.‏ وإظهار الملائكة في المشهد يزيد النفس ارتجافاً وتحفزاً وحساسية‏.‏

وهم- القاعدون- ظلموا أنفسهم‏.‏ وقد حضرت الملائكة لتتوفاهم وهذا حالهم‏.‏‏.‏ ظالمي أنفسهم‏.‏ وهذا وحده كفيل بتحريك النفس وارتجافها‏.‏ إذ يكفي أن يتصور المرء نفسه والملائكة تتوفاه وهو ظالم لنفسه؛ وليس أمامه من فرصة أخرى لإنصاف نفسه، فهذه هي اللحظة الأخيرة‏.‏

ولكن الملائكة لا يتوفونهم- ظالمي أنفسهم- في صمت‏.‏ بل يقلبون ماضيهم، ويستنكرون أمرهم‏!‏ ويسألونهم‏:‏ فيم أضاعوا أيامهم ولياليهم‏؟‏ وماذا كان شغلهم وهمهم في الدنيا‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ فيم كنتم‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

فإن ما كانوا فيه ضياع في ضياع؛ كأن لم يكن لهم شغل إلا هذا الضياع‏!‏

ويجيب هؤلاء المحتضرون، في لحظة الاحتضار، على هذا الاستنكار، جواباً كله مذلة، ويحسبونه معذرة على ما فيه من مذلة‏.‏

‏{‏قالوا‏:‏ كنا مستضعفين في الأرض‏}‏‏.‏‏.‏

كنا مستضعفين‏.‏ يستضعفنا الأقوياء‏.‏ كنا أذلاء في الأرض لا نملك من أمرنا شيئاً‏.‏

وعلى كل ما في هذا الرد من مهانة تدعو إلى الزراية؛ وتنفر كل نفس من أن يكون هذا موقفها في لحظة الاحتضار، بعد أن يكون هذا موقفها طوال الحياة‏.‏

‏.‏ فإن الملائكة لا يتركون هؤلاء المستضعفين الظالمي أنفسهم‏.‏ بل يجبهونهم بالحقيقة الواقعة؛ ويؤنبونهم على عدم المحاولة، والفرصة قائمة‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها‏؟‏‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم- إذن- على قبول الذل والهوان والاستضعاف، والفتنة عن الإيمان‏.‏‏.‏ إنما كان هناك شيء آخر‏.‏‏.‏ حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم يمسكهم في دار الكفر، وهناك دار الإسلام‏.‏ ويمسكهم في الضيق وهناك أرض الله الواسعة‏.‏ والهجرة إليها مستطاعة؛ مع احتمال الآلام والتضحيات‏.‏

وهنا ينهي المشهد المؤثر، بذكر النهاية المخيفة‏:‏

‏{‏فأولئك مأواهم جهنم، وساءت مصيراً‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يستثني من لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر؛ والتعرض للفتنة في الدين؛ والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ الضعاف، والنساء والأطفال؛ فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته ورحمته‏.‏ بسبب عذرهم البين وعجزهم عن الفرار‏:‏

‏{‏إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً‏.‏ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفواً غفوراً‏}‏‏.‏‏.‏

ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان؛ متجاوزاً تلك الحالة الخاصة التي كان يواجهها النص في تاريخ معين؛ وفي بيئة معينة‏.‏‏.‏ يمضي حكماً عاماً؛ يلحق كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض؛ وتمسكه أمواله ومصالحه، أو قراباته وصداقاته؛ أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها‏.‏ متى كان هناك- في الأرض في أي مكان- دار للإسلام؛ يأمن فيها على دينه، ويجهر فيها بعقيدته، ويؤدي فيها عباداته؛ ويحيا حياة إسلامية في ظل شريعة الله، ويستمتع بهذا المستوى الرفيع من الحياة‏.‏‏.‏

أما السياق القرآني فيمضي في معالجة النفوس البشرية؛ التي تواجه مشاق الهجرة ومتاعبها ومخاوفها؛ وتشفق من التعرض لها‏.‏ وقد عالجها في الآيات السابقة بذلك المشهد المثير للاشمئزاز والخوف معاً‏.‏ فهو يعالجها بعد ذلك ببث عوامل الطمأنينة- سواء وصل المهاجر إلى وجهته أو مات في طريقه- في حالة الهجرة في سبيل الله؛ وبضمان الله للمهاجر منذ أن يخرج من بيته مهاجراً في سبيله‏.‏ ووعده بالسعة والمتنفس في الأرض والمنطلق، فلا تضيق به الشعاب والفجاج‏:‏

‏{‏ومن يهاجر- في سبيل الله- يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة‏.‏ ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله- ثم يدركه الموت- فقد وقع أجره على الله‏.‏ وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏‏.‏‏.‏

إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة؛ وهي تواجه مخاطر الهجرة؛ في مثل تلك الظروف التي كانت قائمة؛ والتي قد تتكرر بذاتها أو بما يشابهها من المخاوف في كل حين‏.‏

وهو يعالج هذه النفس في وضوح وفصاحة؛ فلا يكتم عنها شيئاً من المخاوف؛ ولا يداري عنها شيئاً من الأخطار- بما في ذلك خطر الموت- ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة الله سبحانه وتعالى‏.‏

فهو أولاً يحدد الهجرة بأنها ‏{‏في سبيل الله‏}‏‏.‏‏.‏ وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام‏.‏ فليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة للذائذ والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة‏.‏ ومن يهاجر هذه الهجرة- في سبيل الله- يجد في الأرض فسحة ومنطلقاً فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة‏.‏ للنجاة وللرزق والحياة‏:‏

‏{‏ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة‏}‏‏.‏‏.‏

وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها؛ يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق، مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلاً‏.‏

وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة؛ هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم، وتسكت على الفتنة في الدين؛ ثم تتعرض لذلك المصير البائس‏.‏ مصير الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏.‏ والله يقرر الحقيقة الموعودة لمن يهاجر في سبيل الله‏.‏‏.‏ إنه سيجد في أرض الله منطلقاً وسيجد فيها سعة‏.‏ وسيجد الله في كل مكان يذهب إليه، يحييه ويرزقه وينجيه‏.‏‏.‏

ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الرحلة والهجرة في سبيل الله‏.‏‏.‏ والموت- كما تقدم في سياق السورة- لا علاقة له بالأسباب الظاهرة؛ إنما هو حتم محتوم عندما يحين الأجل المرسوم‏.‏ وسواء أقام أم هاجر، فإن الأجل لا يستقدم ولا يستأخر‏.‏

غير أن النفس البشرية لها تصوراتها ولها تأثراتها بالملابسات الظاهرة‏.‏‏.‏‏.‏ والمنهج يراعي هذا ويعالجه‏.‏ فيعطي ضمانة الله بوقوع الأجر على الله منذ الخطوة الأولى من البيت في الهجرة إلى الله ورسوله‏:‏

‏{‏ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله- ثم يدركه الموت- فقد وقع أجره على الله‏}‏‏.‏‏.‏

أجره كله‏.‏ أجر الهجرة والرحلة والوصول إلى دار الإسلام والحياة في دار الإسلام‏.‏‏.‏ فماذا بعد ضمان الله من ضمان‏؟‏

ومع ضمانة الأجر التلويح بالمغفرة للذنوب والرحمة في الحساب‏.‏ وهذا فوق الصفقة الأولى‏.‏

‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏‏.‏

إنها صفقة رابحة دون شك‏.‏ يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى- خطوة الخروج من البيت مهاجراً إلى الله ورسوله- والموت هو الموت‏.‏ في موعده الذي لا يتأخر‏.‏ والذي لا علاقة له بهجرة أو إقامة‏.‏ ولو أقام المهاجر ولم يخرج من بيته لجاءه الموت في موعده‏.‏ ولخسر الصفقة الرابحة‏.‏ فلا أجر ولا مغفرة ولا رحمة‏.‏ بل هنالك الملائكة تتوفاه ظالماً لنفسه‏!‏

وشتان بين صفقة وصفقة‏!‏ وشتان بين مصير ومصير‏!‏

ويخلص لنا من هذه الآيات التي استعرضناها من هذا الدرس- إلى هذا الموضع- عدة اعتبارات، نجملها قبل أن نعبر إلى بقية الدرس وبقية ما فيه من موضوعات‏.‏

يخلص لنا منها مدى كراهية الإسلام للقعود عن الجهاد في سبيل الله؛ والقعود عن الانضمام للصف المسلم المجاهد‏.‏

‏.‏ اللهم إلا من عذرهم الله من أولي الضرر، ومن العاجزين عن الهجرة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً‏.‏‏.‏

ويخلص لنا منها مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي النظام الإسلامي، وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني‏.‏‏.‏ وقد عدته الشيعة ركناً من أركان الإسلام- ولهم من قوة النصوص ومن قوة الواقع ما يفسر اتجاههم هذا‏.‏ لولا ما ورد في حديث‏:‏ «بني الإسلام على خمس‏.‏‏.‏‏.‏» ولكن قوة التكليف بالجهاد؛ وأصالة هذا العنصر في خطر الحياة الإسلامية؛ وبروز ضرورته في كل وقت وفي كل أرض- الضرورة التي تستند إلى مقتضيات فطرية لا ملابسات زمنية- كلها تؤيد هذا الشعور العميق بجدية هذا العنصر وأصالته‏.‏

ويخلص لنا كذلك أن النفس البشرية هي النفس البشرية؛ وأنها قد تحجم أمام الصعاب، أو تخاف أمام المخاطر، وتكسل أمام العقبات، في خير الأزمنة وخير المجتمعات‏.‏ وأن منهج العلاج في هذه الحالة، ليس هو اليأس من هذه النفوس‏.‏ ولكن استجاشتها، وتشجيعها، وتحذيرها، وطمأنتها في آن واحد‏.‏ وفق هذا المنهج القرآني الرباني الحكيم‏.‏

وأخيراً يخلص لنا كيف كان هذا القرآن يواجه واقع الحياة؛ ويقود المجتمع المسلم؛ ويخوض المعركة- في كل ميادينها- وأول هذه الميادين هو ميدان النفس البشرية؛ وطبائعها الفطرية، ورواسبها كذلك من الجاهلية‏.‏ وكيف ينبغي أن نقرأ القرآن، ونتعامل معه ونحن نواجه واقع الحياة والنفس بالدعوة إلى الله‏.‏

بعد ذلك يستطرد الى رخصة، يبيحها الله للمهاجرين، أو الضاربين في الأرض للجهاد أو للتجارة‏.‏ في حالة خوفهم أن يأخذهم الذين كفروا أسارى‏.‏ فيفتنوهم عن دينهم‏.‏ وهي رخصة القصر من الصلاة- وهو غير القصر المرخص به للمسافر إطلاقاً سواء خاف فتنة الذين كفروا أو لم يخف- فهذا قصر خاص‏.‏

‏{‏وإذا ضربتم في الأرض، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة- إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا- إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً‏}‏‏.‏‏.‏

إن الضارب في الأرض في حاجة ماسة إلى الصلة الدائمة بربه، تعينه على ما هو فيه، وتكمل عدته وسلاحه فيما هو مقدم عليه، وما هو مرصود له في الطريق‏.‏‏.‏ والصلاة أقرب الصلات إلى الله‏.‏ وهي العدة التي يدعى المسلمون للاستعانة بها في الشدائد والملمات‏.‏ فكلما كان هناك خوف أو مشقة قال لهم‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏‏.‏‏.‏

ومن ثم يجيء ذكرها هنا في إبانها المناسب، وفي وقت الحاجة إليها والاضطرار‏.‏ فما أحوج الخائف في الطريق إلى أن يطمئن قلبه بذكر الله‏.‏ وما أحوج المهاجر من أرضه إلى أن يلتجى ء إلى حمى الله‏.‏‏.‏ غير أن الصلاة الكاملة- وما فيها من قيام وركوع وسجود- قد تعوق الضارب في الأرض عن الإفلات من كمين قريب‏.‏

أو قد تلفت إليه أنظار عدوه فيعرفوه‏.‏ أو قد تمكن لهم منه وهو راكع أو ساجد فيأخذوه‏.‏‏.‏ ومن ثم هذه الرخصة للضارب في الأرض أن يقصر في الصلاة عند مخافة الفتنة‏.‏

والمعنى الذي نختاره في القصر هنا هو المعنى الذي اختاره الإمام الجصاص‏.‏ وهو أنه ليس القصر في عدد الركعات بجعلها اثنتين في الصلاة الرباعية‏.‏ فهذا مرخص به للمسافر إطلاقاً، بلا تخصيص حالة الخوف من الفتنة‏.‏ بل هذا هو المختار في الصلاة للمسافر- كفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل سفر- بحيث لا يجوز إكمال الصلاة في السفر في أرجح الأقوال‏.‏

وإذن فهذه الرخصة الجديدة- في حالة خوف الفتنة- تعني معنى جديداً غير مجرد القصر المرخص به لكل مسافر‏.‏ إنما هو قصر في صفة الصلاة ذاتها‏.‏ كالقيام بلا حركة ولا ركوع ولا سجود ولا قعود للتشهد‏.‏ حيث يصلي الضارب في الأرض قائماً وسائراً وراكباً، ويومى ء للركوع والسجود‏.‏

وكذلك لا يترك صلته بالله في حالة الخوف من الفتنة، ولا يدع سلاحه الأول في المعركة، ويأخذ حذره من عدوه‏:‏

‏{‏إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً‏}‏‏.‏

وبمناسبة الحديث عن صلاة الضارب في الأرض، الخائف من فتنة الذين كفروا، يجيء حكم صلاة الخوف في أرض المعركة؛ وتحتشد جنبات هذا الحكم الفقهي بلمسات نفسية وتربوية شتى‏:‏

‏{‏وإذا كنت فيهم، فأقمت لهم الصلاة، فلتقم طائفة منهم معك، وليأخذوا أسلحتهم؛ فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم‏.‏ ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك؛ وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم‏.‏ ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم، فيميلون عليكم ميلة واحدة‏.‏ ولا جناح عليكم- إن كان بكم أذى من مطر، أو كنتم مرضى- أن تضعوا أسلحتكم‏.‏ وخذوا حذركم، إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً‏.‏ فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم‏.‏ فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة، إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً‏}‏‏.‏‏.‏

إن المتأمل في أسرار هذا القرآن؛ وفي أسرار المنهج الرباني للتربية، المتمثل فيه، يطلع على عجب من اللفتات النفسية، النافذة إلى أعماق الروح البشرية‏.‏ ومنها هذه اللفتة في ساحة المعركة إلى الصلاة‏.‏‏.‏

إن السياق القرآني لا يجيء بهذا النص هنا لمجرد بيان الحكم «الفقهي» في صفة صلاة الخوف‏.‏ ولكنه يحشد هذا النص في حملة التربية والتوجيه والتعليم والإعداد للصف المسلم وللجماعة المسلمة‏.‏

وأول ما يلفت النظر هو الحرص على الصلاة في ساحة المعركة‏!‏ ولكن هذا طبيعي بل بديهي في الاعتبار الإيماني‏.‏ إن هذه الصلاة سلاح من أسلحة المعركة‏.‏ بل إنها السلاح‏!‏ فلا بد من تنظيم استخدام هذا السلاح، بما يتناسب مع طبيعة المعركة، وجو المعركة‏!‏

ولقد كان أولئك الرجال- الذين تربوا بالقرآن وفق المنهج الرباني- يلقون عدوهم بهذا السلاح الذي يتفوقون فيه قبل أي سلاح‏.‏

لقد كانوا متفوقين في إيمانهم بإله واحد يعرفونه حق المعرفة؛ ويشعرون أنه معهم في المعركة‏.‏ متفوقين كذلك في إيمانهم بهدف يقاتلون من أجله؛ ويشعرون أنه أرفع الأهداف جميعاً‏.‏ متفوقين أيضاً في تصورهم للكون والحياة ولغاية وجودهم الإنساني، تفوقهم في تنظيمهم الاجتماعي الناشئ من تفوق منهجهم الرباني‏.‏‏.‏ وكانت الصلاة رمزاً لهذا كله، وتذكيراً بهذا كله‏.‏ ومن ثم كانت سلاحاً في المعركة‏.‏ بل كانت هي السلاح‏!‏

والأمر الثاني الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو‏.‏ وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم، ليميل عليهم ميلة واحدة‏!‏ ومع هذا التحذير والتخويف؛ التطمين والتثبيت؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قوماً كتب الله عليهم الهوان‏:‏ ‏{‏إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً‏}‏‏.‏‏.‏ وهذا التقابل بين التحذير والتطمين؛ وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة؛ هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم، في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم‏!‏

أما كيفية صلاة الخوف؛ فتختلف فيها آراء الفقهاء، أخذاً من هذا النص، ولكننا نكتفي بالصفة العامة، دون دخول في تفصيل الكيفيات المتنوعة‏.‏

‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة، فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم‏.‏ ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك‏.‏ وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم‏}‏‏.‏‏.‏

والمعنى‏:‏ إذا كنت فيهم فأممتهم في الصلاة، فلتقم طائفة منهم تصلي معك الركعة الأولى‏.‏ على حين تقف طائفة أخرى بأسلحتها من ورائكم لحمايتكم‏.‏ فإذا أتمت الطائفة الأولى الركعة الأولى رجعت فأخذت مكان الحراسة، وجاءت الطائفة التي كانت في الحراسة ولم تصل‏.‏ فلتصل معك ركعة كذلك‏.‏ ‏(‏وهنا يسلم الإمام إذ يكون قد أتم صلاته ركعتين‏)‏‏.‏

عندئذ تجيء الطائفة الأولى فتقضي الركعة الثانية التي فاتتها مع الإمام‏.‏ وتسلم- بينما تحرسها الطائفة الثانية- ثم تجيء الثانية فتقضي الركعة الأولى التي فاتتها وتسلم- بينما تحرسها الطائفة الأولى‏.‏‏.‏

وبذلك تكون الطائفتان قد صلتا بإمامة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وكذلك مع خلفائه وأمرائه، وأمراء المسلمين ‏(‏منهم‏)‏ في كل معركة‏.‏

‏{‏وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم‏.‏ ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم، فيميلون عليكم ميلة واحدة‏}‏‏.‏‏.‏

وهي رغبة في نفوس الكفار تجاه المؤمنين دائمة‏.‏ والسنون تتوالى، والقرون تمر، فتؤكد هذه الحقيقة، التي وضعها الله في قلوب المجموعة المؤمنة الأولى‏.‏ وهو يضع لها الخطط العامة للمعركة‏.‏ كما يضع لها الخطة الحركية أحياناً‏.‏ على هذا النحو الذي رأينا في صلاة الخوف‏.‏

على أن هذا الحذر، وهذه التعبئة النفسية، وهذا الاستعداد بالسلاح المستمر، ليس من شأنه أن يوقع المسلمين في المشقة‏.‏

فهم يأخذون منه بقدر الطاقة‏:‏

‏{‏ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر، أو كنتم مرضى، أن تضعوا أسلحتكم‏}‏ فحمل السلاح في هذه الحالة يشق، ولا يفيد‏.‏ ويكفي أخذ الحذر؛ وتوقع عون الله ونصره‏:‏

‏{‏وخذوا حذركم‏.‏ إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً‏}‏‏.‏‏.‏

ولعل هذا الاحتياط، وهذه اليقظة، وهذا الحذر يكون أداة ووسيلة لتحقيق العذاب المهين الذي أعده الله للكافرين‏.‏ فيكون المؤمنون هم ستار قدرته؛ وأداة مشيئته‏.‏‏.‏ وهي الطمأنينة مع ذلك الحذر؛ والثقة في النصر على قوم أعد الله لهم عذاباً مهيناً‏.‏‏.‏‏.‏

‏{‏فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم‏.‏ فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة‏.‏ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا يوجههم إلى الاتصال بالله في كل حال، وفي كل وضع، إلى جانب الصلاة‏.‏‏.‏ فهذه هي العدة الكبرى، وهذا هو السلاح الذي لا يبلى‏.‏‏.‏

فأما حين الاطمئنان ‏{‏فأقيموا الصلاة‏}‏‏.‏‏.‏ أقيموها كاملة تامة بلا قصر- قصر الخوف الذي تحدثنا عنه- فهي فريضة ذات وقت محدد لأدائها‏.‏ ومتى زالت أسباب الرخصة في صفة من صفاتها عادت إلى صفتها المفروضة الدائمة‏.‏

ومن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً‏}‏‏.‏‏.‏ يأخذ الظاهرية رأيهم في عدم قضاء الفائتة من الصلاة لأنها لا تجزي ولا تصح‏.‏ لأن الصلاة لا تصح إلا في ميقاتها المعين‏.‏ فمتى فات الميقات، فلا سبيل لإقامة الصلاة‏.‏‏.‏ والجمهور على صحة قضاء الفوائت‏.‏ وعلى تحسين التبكير في الأداء، والكراهية في التأخير‏.‏‏.‏ ولا ندخل بعد هذا في تفصيلات الفروع‏.‏‏.‏

ويختم هذا الدرس بالتشجيع على المضي في الجهاد؛ مع الألم والضنى والكلال‏.‏ ويلمس القلوب المؤمنة لمسة عميقة موحية، تمس أعماق هذه القلوب، وتلقي الضوء القوي على المصائر والغايات والاتجاهات‏:‏

‏{‏ولا تهنوا في ابتغاء القوم‏.‏ إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون‏.‏ وترجون من الله ما لا يرجون‏.‏ وكان الله عليماً حكيماً‏}‏‏.‏‏.‏

إنهن كلمات معدودات‏.‏ يضعن الخطوط الحاسمة، ويكشفن عن الشقة البعيدة، بين جبهتي الصراع‏.‏‏.‏

إن المؤمنين يحتملون الألم والقرح في المعركة‏.‏‏.‏ ولكنهم ليسوا وحدهم الذين يحتملونه‏.‏‏.‏ إن أعداءهم كذلك يتألمون وينالهم القرح واللأواء‏.‏‏.‏ ولكن شتان بين هؤلاء وهؤلاء‏.‏‏.‏ إن المؤمنين يتوجهون إلى الله بجهادهم، ويرتقبون عنده جزاءهم‏.‏‏.‏ فأما الكفار فهم ضائعون مضيعون، لا يتجهون لله، ولا يرتقبون عنده شيئاً في الحياة ولا بعد الحياة‏.‏‏.‏

فإذا أصر الكفار على المعركة، فما أجدر المؤمنين أن يكونوا هم أشد إصراراً، وإذا احتمل الكفار آلامها، فما أجدر المؤمنين بالصبر على ما ينالهم من آلام‏.‏ وما أجدرهم كذلك أن لا يكفوا عن ابتغاء القوم ومتابعتهم بالقتال، وتعقب آثارهم، حتى لا تبقى لهم قوة، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله‏.‏

وإن هذا لهو فضل العقيدة في الله في كل كفاح‏.‏

فهناك اللحظات التي تعلو فيها المشقة على الطاقة، ويربو الألم على الاحتمال‏.‏ ويحتاج القلب البشري إلى مدد فائض وإلى زاد‏.‏ هنالك يأتي المدد من هذا المعين، ويأتي الزاد من ذلك الكنف الرحيم‏.‏

ولقد كان هذا التوجيه في معركة مكشوفة متكافئة‏.‏ معركة يألم فيها المتقاتلون من الفريقين‏.‏ لأن كلا الفريقين يحمل سلاحه ويقاتل‏.‏

ولربما أتت على العصبة المؤمنة فترة لا تكون فيها في معركة مكشوفة متكافئة‏.‏‏.‏ ولكن القاعدة لا تتغير‏.‏ فالباطل لا يكون بعافية أبداً، حتى ولو كان غالباً‏!‏ إنه يلاقي الآلام من داخله‏.‏ من تناقضه الداخلي؛ ومن صراع بعضه مع بعض‏.‏ ومن صراعه هو مع فطرة الأشياء وطبائع الأشياء‏.‏

وسبيل العصبة المؤمنة حينئذ أن تحتمل ولا تنهار‏.‏ وأن تعلم أنها إن كانت تألم، فإن عدوها كذلك يألم‏.‏ والألم أنواع‏.‏ والقرح ألوان‏.‏‏.‏ ‏{‏وترجون من الله ما لا يرجون‏}‏‏.‏‏.‏ وهذا هو العزاء العميق‏.‏ وهذا هو مفرق الطريق‏.‏‏.‏

‏{‏وكان الله عليماً حكيماً‏}‏‏.‏‏.‏

يعلم كيف تعتلج المشاعر في القلوب‏.‏ ويصف للنفس ما يطب لها من الألم والقرح‏.‏‏.‏