فصل: تفسير الآيات رقم (105- 113)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 113‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ‏(‏105‏)‏ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏106‏)‏ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ‏(‏107‏)‏ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ‏(‏108‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏109‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏110‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏112‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ‏(‏113‏)‏‏}‏

هذه الآيات تحكي قصة لا تعرف لها الأرض نظيراً، ولا تعرف لها البشرية شبيهاً‏.‏‏.‏ وتشهد- وحدها- بأن هذا القرآن وهذا الدين لا بد أن يكون من عند الله؛ لأن البشر- مهما ارتفع تصورهم، ومهما صفت أرواحهم، ومهما استقامت طبائعهم- لا يمكن أن يرتفعوا- بأنفسهم- إلى هذا المستوى الذي تشير إليه هذه الآيات؛ إلا بوحي من الله‏.‏‏.‏ هذا المستوى الذي يرسم خطا على الأفق لم تصعد إليه البشرية- إلا في ظل هذا المنهج- ولا تملك الصعود إليه أبداً إلا في ظل هذا المنهج كذلك‏!‏

إنه في الوقت الذي كان اليهود في المدينة يطلقون كل سهامهم المسمومة، التي تحويها جعبتهم اللئيمة، على الإسلام والمسلمين؛ والتي حكت هذه السورة وسورة البقرة وسورة آل عمران جانباً منها ومن فعلها في الصف المسلم‏.‏‏.‏

في الوقت الذي كانوا فيه ينشرون الأكاذيب؛ ويؤلبون المشركين؛ ويشجعون المنافقين، ويرسمون لهم الطريق؛ ويطلقون الإشاعات؛ ويضللون العقول؛ ويطعنون في القيادة النبوية، ويشككون في الوحي والرسالة؛ ويحاولون تفسيخ المجتمع المسلم من الداخل، في الوقت الذي يؤلبون عليه خصومه ليهاجموه من الخارج‏.‏‏.‏ والإسلام ناشئ في المدينة، ورواسب الجاهلية ما يزال لها آثارها في النفوس؛ ووشائج القربى والمصلحة بين بعض المسلمين وبعض المشركين والمنافقين واليهود أنفسهم، تمثل خطراً حقيقياً على تماسك الصف المسلم وتناسقه‏.‏‏.‏

في هذا الوقت الحرج، الخطر، الشديد الخطورة‏.‏‏.‏ كانت هذه الآيات كلها تتنزل، على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلى الجماعة المسلمة، لتنصف رجلاً يهودياً، اتهم ظلماً بسرقة؛ ولتدين الذين تآمروا على اتهامه، وهم بيت من الأنصار في المدينة‏.‏ والأنصار يومئذ هم عدة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وجنده، في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله، ومن حول الرسالة والدين والعقيدة الجديدة‏.‏‏.‏‏.‏ ‏!‏

أي مستوى هذا من النظافة والعدالة والتسامي‏!‏ ثم أي كلام يمكن أن يرتفع ليصف هذا المستوى‏؟‏ وكل كلام، وكل تعليق، وكل تعقيب، يتهاوى دون هذه القمة السامقة؛ التي لا يبلغها البشر وحدهم‏.‏ بل لا يعرفها البشر وحدهم‏.‏ إلا أن يقادوا بمنهج الله، إلى هذا الأفق العلوي الكريم الوضيء‏؟‏‏!‏

والقصة التي رويت من عدة مصادر في سبب نزول هذه الآيات أن نفراً من الأنصار- قتادة بن النعمان وعمه رفاعة- غزوا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بعض غزواته‏.‏ فسرقت درع لأحدهم ‏(‏رفاعة‏)‏‏.‏ فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من أهل بيت يقال لهم‏:‏ بنو أبيرق‏.‏ فأتى صاحب الدرع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ إن طعمة بن أبيرق سرق درعي‏.‏ ‏(‏وفي رواية‏:‏ إنه بشير بن أبيرق‏.‏

‏.‏ وفي هذه الرواية‏:‏ أن بشيراً هذا كان منافقاً يقول الشعر في ذم الصحابة وينسبه لبعض العرب‏!‏‏)‏ فلما رأى السارق ذلك عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل يهودي ‏(‏اسمه زيد ابن السمين‏)‏‏.‏ وقال لنفر من عشيرته‏:‏ إني غيبت الدرع، وألقيتها في بيت فلان‏.‏ وستوجد عنده‏.‏ فانطلقوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالوا‏:‏ يا نبي الله‏:‏ إن صاحبنا بريء، وإن الذي سرق الدرع فلان‏.‏ وقد أحطنا بذلك علماً‏.‏ فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك‏.‏‏.‏ ولما عرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن الدرع وجدت في بيت اليهودي، قام فبرأ ابن أبيرق وعذره على رؤوس الناس‏.‏ وكان أهله قد قالوا للنبي- صلى الله عليه وسلم- قبل ظهور الدرع في بيت اليهودي- إن قتادة بن النعمان وعمه عمداً إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت‏!‏ قال قتادة‏:‏ فأتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فكلمته‏.‏ فقال‏:‏ «عمدت الى إهل بيت يذكر منهم إسلام وصلاح وترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة‏؟‏» قال‏:‏ فرجعت، ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ذلك‏.‏ فأتاني عمي رفاعة فقال‏:‏ يا ابن أخي ما صنعت‏؟‏ فأخبرته بما قال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ الله المستعان‏.‏‏.‏ فلم نلبث أن نزلت‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيماً‏}‏- أي بني أبيرق- وخصيماً‏:‏ أي محامياً ومدافعاً ومجادلاً عنهم- ‏{‏واستغفر الله‏}‏- أي مما قلت لقتادة- ‏{‏إن الله كان غفوراً رحيماً‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم‏}‏- إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رحيماً‏}‏- أي لو استغفروا الله لغفر لهم- ‏{‏ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه‏}‏- إلى قوله‏:‏ ‏{‏إثماً مبيناً‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليك ورحمته‏}‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏‏.‏‏.‏ فلما نزل القرآن أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالسلاح فرده إلى رفاعة‏.‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ لما أتيت عمي بالسلاح- وكان شيخاً قد عمي- أو عشي- في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولاً، فلما أتيته بالسلاح قال‏:‏ يا ابن أخي هي في سبيل الله‏.‏ فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً‏!‏ فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين، نوله ما تولى، ونصله جهنم وساءت مصيراً‏.‏ إن الله لا يغفر أن يشرك به‏.‏ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏.‏ ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً‏}‏

إن المسألة لم تكن مجرد تبرئة بريء، تآمرت عليه عصبة لتوقعه في الاتهام- وإن كانت تبرئة بريء أمراً هائلاً ثقيل الوزن في ميزان الله- إنما كانت أكبر من ذلك‏.‏ كانت هي إقامة الميزان الذي لا يميل مع الهوى، ولا مع العصبية، ولا يتأرجح مع المودة والشنآن أياً كانت الملابسات والأحوال‏.‏

وكانت المسألة هي تطهير هذا المجتمع الجديد؛ وعلاج عناصر الضعف البشري فيه مع علاج رواسب الجاهلية والعصبية- في كل صورها حتى في صورة العقيدة، إذا تعلق الأمر بإقامة العدل بين الناس- وإقامة هذا المجتمع الجديد، الفريد في تاريخ البشرية، على القاعدة الطيبة النظيفة الصلبة المتينة التي لا تدنسها شوائب الهوى والمصلحة والعصبية، والتي لا تترجرج مع الأهواء والميول والشهوات‏!‏

ولقد كان هناك أكثر من سبب للإغضاء عن الحادث، أو عدم التشديد فيه والتنديد به وكشفه هكذا لجميع الأبصار‏.‏ بل فضحه بين الناس- على هذا النحو العنيف المكشوف‏.‏‏.‏

كان هناك أكثر من سبب، لو كانت الاعتبارات الأرضية هي التي تتحكم وتحكم‏.‏ ولو كانت موازين البشر ومقاييسهم هي التي يرجع إليها هذا المنهج‏!‏

كان هناك سبب واضح عريض‏.‏‏.‏ أن هذا المتهم «يهودي»‏.‏‏.‏ من «يهود»‏.‏‏.‏ يهود التي لا تدع سهماً مسموماً تملكه إلا أطلقته في حرب الإسلام وأهله‏.‏ يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين في هذه الحقبة ‏(‏ويشاء الله أن يكون ذلك في كل حقبة‏!‏‏)‏ يهود التي لا تعرف حقاً ولا عدلاً ولا نصفة، ولا تقيم اعتباراً لقيمة واحدة من قيم الأخلاق في التعامل مع المسلمين على الإطلاق‏!‏

وكان هنالك سبب آخر؛ وهو أن الأمر في الأنصار‏.‏ الأنصار الذين آووا ونصروا‏.‏ والذين قد يوجد هذا الحادث بين بعض بيوتهم ما يوجد من الضغائن‏.‏ بينما أن اتجاه الاتهام إلى يهودي، يبعد شبح الشقاق‏!‏

وكان هنالك سبب ثالث‏.‏ هو عدم إعطاء اليهود سهماً جديداً يوجهونه إلى الأنصار‏.‏ وهو أن بعضهم يسرق بعضاً، ثم يتهمون اليهود‏!‏ وهم لا يدعون هذه الفرصة تفلت للتشهير بها والتغرير‏!‏

ولكن الأمر كان أكبر من هذا كله‏.‏ كان أكبر من كل هذه الاعتبارات الصغيرة‏.‏ الصغيرة في حساب الإسلام‏.‏ كان أمر تربية هذه الجماعة الجديدة لتنهض بتكاليفها في خلافة الأرض وفي قيادة البشرية‏.‏ وهي لا تقوم بالخلافة في الأرض ولا تنهض بقيادة البشرية حتى يتضح لها منهج فريد متفوق على كل ما تعرف البشرية؛ وحتى يثبت هذا المنهج في حياتها الواقعية‏.‏ وحتى يمحص كيانها تمحيصاً شديداً؛ وتنفض عنه كل خبيئة من ضعف البشر ومن رواسب الجاهلية‏.‏ وحتى يقام فيها ميزان العدل- لتحكم به بين الناس- مجرداً من جميع الاعتبارات الأرضية، والمصالح القريبة الظاهرة، والملابسات التي يراها الناس شيئاً كبيراً لا يقدرون على تجاهله‏!‏

واختار الله- سبحانه- هذا الحادث بذاته، في ميقاته‏.‏

‏.‏ مع يهودي‏.‏‏.‏ من يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين إذ ذاك في المدينة؛ والتي تؤلب عليهم المشركين، وتؤيد بينهم المنافقين، وترصد كل ما في جعبتها من مكر وتجربة وعلم لهذا الدين‏!‏ وفي فترة حرجة من حياة المسلمين في المدينة، والعداوات تحيط بهم من كل جانب‏.‏ ووراء كل هذه العداوات يهود‏!‏

اختار الله هذا الحادث في هذا الظرف، ليقول فيه- سبحانه- للجماعة المسلمة ما أراد أن يقول، وليعلمها به ما يريد لها أن تتعلم‏!‏

ومن ثم لم يكن هناك مجال للباقة‏!‏ ولا للكياسة‏!‏ ولا للسياسة‏!‏ ولا للمهارة في إخفاء ما يحرج، وتغطية ما يسوء‏!‏

ولم يكن هناك مجال لمصلحة الجماعة المسلمة الظاهرية‏!‏ ومراعاة الظروف الوقتية المحيطة بها‏!‏

هنا كان الأمر جداً خالصاً، لا يحتمل الدهان ولا التمويه‏!‏ وكان هذا الجد هو أمر هذا المنهج الرباني وأصوله‏.‏ وأمر هذه الأمة التي تعد لتنهض بهذا المنهج وتنشره‏.‏ وأمر العدل بين الناس‏.‏ العدل في هذا المستوى الذي لا يرتفع إليه الناس- بل لا يعرفه الناس- إلا بوحي من الله، وعون من الله‏.‏

وينظر الإنسان من هذه القمة السامقة على السفوح الهابطة- في جميع الأمم على مدار الزمان- فيراها هنالك‏.‏‏.‏ هنالك في السفوح‏.‏‏.‏ ويرى بين تلك القمة السامقة والسفوح الهابطة صخوراً متردية، هنا وهناك، من الدهاء، والمراء، والسياسة، والكياسة، والبراعة، والمهارة، ومصلحة الدولة، ومصلحة الوطن، ومصلحة الجماعة‏.‏‏.‏ إلى آخر الأسماء والعنوانات‏.‏‏.‏ فإذا دقق الإنسان فيها النظر رأى من تحتها‏.‏‏.‏ الدود‏.‏‏.‏ ‏!‏‏!‏ وينظر الإنسان مرة أخرى فيرى نماذج الأمة المسلمة- وحدها- صاعدة من السفح إلى القمة‏.‏‏.‏ تتناثر على مدار التاريخ، وهي تتطلع إلى القمة، التي وجهها إليها المنهج الفريد‏.‏

أما العفن الذي يسمونه «العدالة» في أمم الجاهلية الغابرة والحاضرة، فلا يستحق أن نرفع عنه الغطاء، في مثل هذا الجو النظيف الكريم‏.‏‏.‏

والآن نواجه نصوص الدرس بالتفصيل‏:‏

‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق، لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيماً‏.‏ واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً‏.‏ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً‏.‏ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله‏.‏ وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول- وكان الله بما يعملون محيطاً‏.‏ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة‏؟‏ أم من يكون عليهم وكيلاً‏؟‏‏}‏‏.‏

إننا نحس في التعبير صرامة، يفوح منها الغضب للحق، والغيرة على العدل؛ وتشيع في جو الآيات وتفيض منها‏:‏

وأول ما يبدو هذا في تذكير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بتنزيل الكتاب إليه بالحق ليحكم بين الناس بما أراه الله‏.‏

وإتباع هذا التذكير بالنهي عن أن يكون خصيماً للخائنين، يدافع عنهم ويجادل‏.‏ وتوجيهه لاستغفار الله- سبحانه- عن هذه المجادلة‏.‏

‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله‏.‏ ولا تكن للخائنين خصيماً‏.‏ واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً‏}‏‏.‏‏.‏

ثم تكرار هذا النهي؛ ووصف هؤلاء الخائنين، الذين جادل عنهم- صلى الله عليه وسلم- بأنهم يختانون أنفسهم‏.‏ وتعليل ذلك بأن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً‏:‏

‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم‏.‏ إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً‏}‏‏.‏

وهم خانوا غيرهم في الظاهر‏.‏ ولكنهم في الحقيقة خانوا أنفسهم‏.‏ فقد خانوا الجماعة ومنهجها، ومبادئها التي تميزها وتفردها‏.‏ وخانوا الأمانة الملقاة على الجماعة كلها، وهم منها‏.‏‏.‏ ثم هم يختانون أنفسهم في صورة أخرى‏.‏ صورة تعريض أنفسهم للإثم الذي يجازون عليه شر الجزاء‏.‏ حيث يكرههم الله، ويعاقبهم بما أثموا‏.‏ وهي خيانة للنفس من غير شك‏.‏‏.‏ وصورة ثالثة لخيانتهم لأنفسهم، هي تلويث هذه الأنفس وتدنيسها بالمؤامرة والكذب والخيانة‏.‏

‏{‏إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً‏}‏‏.‏‏.‏

وهذ عقوبة أكبر من كل عقوبة‏.‏‏.‏ وهي تلقي إلى جانبها إيحاء آخر‏.‏ فالذين لا يحبهم الله لا يجوز أن يجادل عنهم أحد، ولا أن يحامي عنهم أحد‏.‏ وقد كرههم الله للإثم والخيانة‏!‏

ويعقب الوصف بالإثم والخيانة تصوير منفر لسلوك هؤلاء الخونة الآثمين‏:‏

‏{‏يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله- وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

وهي صورة زرية داعية إلى الاحتقار والسخرية‏.‏ زرية بما فيها من ضعف والتواء، وهم يبيتون ما يبيتون من الكيد والمؤامرة والخيانة؛ ويستخفون بها عن الناس‏.‏ والناس لا يملكون لهم نفعاً ولا ضراً‏.‏ بينما الذي يملك النفع والضر معهم وهم يبيتون ما يبيتون؛ مطلع عليهم وهم يخفون نياتهم ويستخفون‏.‏ وهم يزورون من القول مالا يرضاه‏!‏ فأي موقف يدعو إلى الزراية والاستهزاء أكثر من هذا الموقف‏؟‏

‏{‏وكان الله بما يعملون محيطاً‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

إجمالاً وإطلاقاً‏.‏‏.‏ فأين يذهبون بما يبيتون‏.‏ والله معهم إذ يبيتون‏.‏ والله بكل شيء محيط وهم تحت عينه وفي قبضته‏؟‏

وتستمر الحملة التي يفوح منها الغضب؛ على كل من جادل عن الخائنين‏:‏

‏{‏ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا‏.‏ فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة‏؟‏ أم من يكون عليهم وكيلاً‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

واللهم لا مجادل عنهم يوم القيامة ولا وكيل‏.‏ فما جدوى الجدال عنهم في الدنيا وهي لا تدفع عنهم ذلك اليوم الثقيل‏؟‏

وبعد هذه الحملة الغاضبة على الخونة الأثمة، والعتاب الشديد للمنافحين عنهم والمجادلين‏.‏ يجيء تقرير القواعد العامة لهذه الفعلة وآثارها‏.‏

وللحساب عليها والجزاء‏.‏ ولقاعدة الجزاء عامة‏.‏ القاعدة العادلة التي يعامل بها الله العباد‏.‏ ويطلب إليهم أن يحاولوا محاكاتها في تعاملهم فيما بينهم، وأن يتخلقوا بخلق الله- خلق العدل- فيها‏:‏

‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه، ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً‏.‏ ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه‏.‏ وكان الله عليماً حكيماً‏.‏‏.‏ ومن يكسب خطيئة أو إثماً، ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً‏}‏‏.‏‏.‏

إنها آيات ثلاث تقرر المبادئ الكلية التي يعامل بها الله عباده؛ والتي يملك العباد أن يعاملوا بعضهم بعضاً بها، ويعاملوا الله على أساسها فلا يصيبهم السوء‏.‏

الآية الأولى تفتح باب التوبة على مصراعيه، وباب المغفرة على سعته؛ وتطمع كل مذنب تائب في العفو والقبول‏:‏

‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه، ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً‏}‏‏.‏‏.‏ إنه- سبحانه- موجود للمغفرة والرحمة حيثما قصده مستغفر منيب‏.‏‏.‏ والذي يعمل السوء يظلم غيره‏.‏ ويظلم نفسه‏.‏ وقد يظلم نفسه وحدها إذا عمل السيئة التي لا تتعدى شخصه‏.‏‏.‏ وعلى أية حال فالغفور الرحيم يستقبل المستغفرين في كل حين؛ ويغفر لهم ويرحمهم متى جاءوه تائبين‏.‏ هكذا بلا قيد ولا شرط ولا حجاب ولا بوّاب‏!‏ حيثما جاءوا تائبين مستغفرين وجدوا الله غفوراً رحيماً‏.‏‏.‏

والآية الثانية تقرر فردية التبعة‏.‏ وهي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي في الجزاء، والتي تثير في كل قلب شعور الخوف وشعور الطمأنينة‏.‏ الخوف من عمله وكسبه‏.‏ والطمأنينة من أن لا يحمل تبعة غيره‏.‏

‏{‏ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه‏.‏ وكان الله عليماً حكيماً‏}‏‏.‏‏.‏

ليست هناك خطيئة موروثة في الإسلام، كالتي تتحدث عنها تصورات الكنيسة، كما أنه ليست هناك كفارة غير الكفارة التي تؤديها النفس عن نفسها‏.‏‏.‏ وعندئذ تنطلق كل نفس حذرة مما تكسب‏.‏ مطمئنة إلى أنها لا تحاسب إلا على ما تكسب‏.‏‏.‏ توازن عجيب، في هذا التصور الفريد‏.‏ هو إحدى خصائص التصور الإسلامي وأحد مقوماته، التي تطمئن الفطرة، وتحقق العدل الإلهي المطلق؛ المطلوب أن يحاكيه بنو الإنسان‏.‏

والآية الثالثة تقرر تبعة من يكسب الخطيئة ثم يرمي بها البريء‏.‏‏.‏ وهي الحالة المنطبقة على حالة العصابة التي يدور عليها الكلام‏:‏

‏{‏ومن يكسب خطيئة أو إثماً، ثم يرم به بريئاً، فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً‏}‏‏.‏‏.‏

البهتان في رميه البريء‏.‏ والإثم في ارتكابه الذنب الذي رمى به البريء‏.‏‏.‏ وقد احتملهما معه‏.‏ وكأنما هما حمل يحمل‏.‏ على طريقة التجسيم التي تبرز المعنى وتؤكده في التعبير القرآني المصور‏.‏

وبهذه القواعد الثلاث يرسم القرآن ميزان العدالة الذي يحاسب كل فرد على ما اجترح‏.‏ ولا يدع المجرم يمضي ناجياً إذا ألقى جرمه على سواه‏.‏‏.‏ وفي الوقت ذاته يفتح باب التوبة والمغفرة على مصراعيه؛ ويضرب موعداً مع الله- سبحانه- في كل لحظة للتائبين المستغفرين، الذين يطرقون الأبواب في كل حين‏.‏

بل يلجونها بلا استئذان فيجدون الرحمة والغفران‏!‏

وأخيراً يمن الله على رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن عصمه من الانسياق وراء المتآمرين المبيتين؛ فأطلعه على مؤامراتهم التي يستخفون بها من الناس ولا يستخفون بها من الله- وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول- ثم يمتن عليه المنة الكبرى في إنزال الكتاب والحكمة وتعليمه ما لم يكن يعلم‏.‏‏.‏ وهي المنة على البشرية كلها، ممثلة ابتداء في شخص أكرمها على الله وأقربها لله‏:‏

‏{‏ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك‏.‏ وما يضلون إلا أنفسهم‏.‏ وما يضرونك من شيء‏.‏ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة‏.‏ وعلمك ما لم تكن تعلم‏.‏ وكان فضل الله عليك عظيماً‏}‏‏.‏

إن هذه المحاولة ليست إلا واحدة من محاولات كثيرة، شتى الألوان والأنواع؛ مما بذله أعداء هذا الرسول الكريم ليضلوه عن الحق والعدل والصواب‏.‏ ولكن الله- سبحانه- كان يتولاه بفضله ورحمته في كل مرة‏.‏

وكان الكائدون المتأمرون هم الذين يضلون ويقعون في الضلالة‏.‏‏.‏ وسيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حافلة بتلك المحاولات؛ ونجاته وهدايته؛ وضلال المتآمرين وخيبتهم‏.‏

والله- سبحانه- يمتن عليه بفضله ورحمته هذه؛ ويطمئنه في الوقت ذاته أنهم لا يضرونه شيئاً‏.‏ بفضل من الله ورحمة‏.‏

وبمناسبة المنة في حفظه من هذه المؤامرة الأخيرة؛ وصيانة أحكامه من أن تتعرض لظلم بريء وتبرئة جارم، وكشف الحقيقة له وتعريفه بالمؤامرة‏.‏‏.‏ تجيء المنة الكبرى‏.‏‏.‏ منة الرسالة‏:‏

‏{‏وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم‏.‏ وكان فضل الله عليك عظيماً‏}‏‏.‏

وهي منة الله على «الإنسان» في هذه الأرض‏.‏ المنة التي ولد الإنسان معها ميلاداً جديداً‏.‏ ونشأ بها «الإنسان» كما نشأ أول مرة بنفخة الروح الأولى‏.‏‏.‏

المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية، لترقى بها في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة‏.‏ عن طريق المنهج الرباني الفريد العجيب‏.‏‏.‏

المنة التي لا يعرف قدرها إلا الذي عرف الإسلام وعرف الجاهلية- جاهلية الغابر والحاضر- وذاق الإسلام وذاق الجاهلية‏.‏‏.‏

وإذا كانت منة يذكر الله بها رسوله- صلى الله عليه وسلم- فلأنه هو أول من عرفها وذاقها‏.‏ وأكبر من عرفها وذاقها‏.‏ وأعرف من عرفها وذاقها‏.‏‏.‏

‏{‏وعلمك ما لم تكن تعلم‏.‏ وكان فضل الله عليك عظيماً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 126‏]‏

‏{‏لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏114‏)‏ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏115‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏116‏)‏ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ‏(‏117‏)‏ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏118‏)‏ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ‏(‏119‏)‏ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏120‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ‏(‏121‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ‏(‏122‏)‏ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏123‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ‏(‏124‏)‏ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ‏(‏125‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ‏(‏126‏)‏‏}‏

يتصل هذا الدرس بالدرس السابق، بأكثر من صلة‏.‏ فهو أولاً نزلت بعض آياته تعليقاً وتعقيباً على الأحداث التي تلت حادث اليهودي‏.‏ من ارتداد «بشير بن أبيرق» ومشاقته للرسول- صلى الله عليه وسلم- وعودته إلى الجاهلية؛ التي تحدث هذا الدرس عنها، وعن تصوراتها وحماقاتها وعلاقاتها بالشيطان، ودور الشيطان فيها‏!‏ ويقرر أن الله لا يغفر أن يشرك به‏.‏ ويغفر ما دون ذلك- لمن يشاء‏.‏ وهو ثانياً يتحدث عن النجوى والتآمر؛ وأنه لا خير في كثير مما يتناجون به، من أمثال ما بيتوا في ذلك الحادث وتناجوا‏.‏ ويحدد أنواع النجوى التي يحبها الله؛ وهي التناجي في فعل الخير والمعروف والإصلاح بين الناس‏.‏ ويقرر جزاء هذه النجوى وتلك عند الله‏.‏‏.‏ وأخيراً يقرر القواعد العادلة التي يجازي بها الله على الأعمال؛ وأنها ليست تابعة لرغبات أحد من الناس وتمنياتهم‏.‏ لا أماني المسلمين ولا أماني أهل الكتاب‏.‏ إنما هي ترجع إلى عدل الله المطلق؛ وإلى الحق الذي لو اتبع أهواءهم لفسدت السماوات والأرض‏.‏‏.‏

فالدرس كله، موضوعاً واتجاهاً، موصول الأسباب بالدرس السابق من هذه الناحية‏.‏‏.‏

ثم هو حلقة من حلقات المنهج التربوي الحكيم، في إعداد هذه الجماعة لتكون الأمة التي تقود البشرية؛ بتفوقها التربوي والتنظيمي؛ وليعالج فيها مواضع الضعف البشري ورواسب المجتمع الجاهلي؛ وليخوض بها المعركة في ميادينها كلها‏.‏‏.‏ وهو الهدف الذي تتوخاه السورة بشتى موضوعاتها، ويتولاه المنهج القرآني كله‏.‏‏.‏

‏{‏لا خير في كثير من نجواهم‏.‏ إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس‏.‏ ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏‏.‏‏.‏

لقد تكرر في القرآن النهي عن النجوى؛ وهي أن تجتمع طائفة بعيداً عن الجماعة المسلمة، وعن القيادة المسلمة، لتبيت أمراً‏.‏‏.‏ وكان اتجاه التربية الإسلامية واتجاه التنظيم الإسلامي كذلك أن يأتي كل إنسان بمشكلته أو بموضوعه، فيعرضه على النبي- صلى الله عليه وسلم- مسارة إن كان أمراً شخصياً لا يريد أن يشيع عنه شيء في الناس‏.‏ أو مساءلة علنية إن كان من الموضوعات ذات الصبغة العامة، التي ليست من خصوصيات هذا الشخص‏.‏

والحكمة في هذه الخطة، هو ألا تتكون «جيوب» في الجماعة المسلمة؛ وألا تنعزل مجموعات منها بتصوراتها ومشكلاتها، أو بأفكارها واتجاهاتها‏.‏ وألا تبيت مجموعة من الجماعة المسلمة أمراً بليل، وتواجه به الجماعة أمراً مقرراً من قبل؛ أو تخفيه عن الجماعة وتستخفي به عن أعينها- وإن كانت لا تختفي به عن الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول‏.‏

وهذا الموضع أحد المواضع التي ورد فيها هذا النهي عن التناجي والتبييت بمعزل عن الجماعة المسلمة وقيادتها‏.‏

ولقد كان المسجد هو ندوة الجماعة المسلمة، تتلاقى فيه وتتجمع للصلاة ولشؤون الحياة‏.‏ وكان المجتمع المسلم كله مجتمعاً مفتوحاً؛ تعرض مشكلاته- التي ليست بأسرار للقيادة في المعارك وغيرها؛ والتي ليست بمسائل شخصية بحتة لا يحب أصحابها أن تلوكها الألسن- عرضاً عاماً‏.‏ وكان هذا المجتمع المفتوح من ثم مجتمعاً نظيفاً طلق الهواء‏.‏ لا يتجنبه ليبيت من وراء ظهره، إلا الذين يتآمرون عليه‏!‏ أو على مبدأ من مبادئه- من المنافقين غالباً- وكذلك اقترنت النجوى بالمنافقين في معظم المواضع‏.‏

وهذه حقيقة تنفعنا‏.‏ فالمجتمع المسلم يجب أن يكون بريئاً من هذه الظاهرة، وأن يرجع أفراده إليه وإلى قيادتهم العامة بما يخطر لهم من الخواطر، أو بما يعرض لهم من خطط واتجاهات أو مشكلات‏!‏

والنص القرآني هنا يستثني نوعاً من النجوى‏.‏‏.‏ هو في الحقيقة ليس منها، وإن كان له شكلها‏:‏

‏{‏إلا من أمر بصدقة أو معروف، أو إصلاح بين الناس‏}‏‏.‏‏.‏

وذلك أن يجتمع الرجل الخير بالرجل الخير، فيقول له‏:‏ هلم نتصدق على فلان فقد علمت حاجته في خفية عن الأعين‏.‏ أو هلم إلى معروف معين نفعله أو نحض عليه‏.‏ أو هلم نصلح بين فلان وفلان فقد علمت أن بينهما نزاعاً‏.‏‏.‏ وقد تتكون العصبة من الخيرين لأداء أمر من هذه الأمور، وتتفق فيما بينها سراً على النهوض بهذا الأمر‏.‏ فهذا ليس نجوى ولا تآمراً‏.‏ ومن ثم سماه «أمراً» وإن كان له شكل النجوى، في مسارة الرجل الخير للخيرين أمثاله بأمر في معروف يعلمه أو خطر له‏.‏‏.‏

على شرط أن يكون الباعث هو ابتغاء مرضاة الله‏:‏

‏{‏ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏‏.‏‏.‏

فلا يكون لهوى في الصدقة على فلان، أو الإصلاح بين فلان وعلان‏.‏ ولا يكون ليشتهر الرجل بأنه- والله رجل طيب-‏!‏ يحض على الصدقة والمعروف، ويسعى في الإصلاح بين الناس‏!‏ ولا تكون هناك شائبة تعكر صفاء الاتجاه إلى الله، بهذا الخير‏.‏ فهذا هو مفرق الطريق بين العمل يعمله المرء فيرضى الله عنه ويثيبه به‏.‏ والعمل نفسه يعمله المرء فيغضب الله عليه، ويكتبه له في سجل السيئات‏!‏

‏{‏ومن يشاقق الرسول- من بعد ما تبين له الهدى- ويتبع غير سبيل المؤمنين، نوله ما تولى، ونصله جهنم وساءت مصيراً‏.‏ إن الله لا يغفر أن يشرك به‏.‏ ويغفر ما دون ذلك- لمن يشاء- ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً‏}‏‏.‏

وقد ذكر في سبب نزول هذه المجموعة من الآيات‏.‏ أن بشير بن أبيرق قد ارتد والتحق بالمشركين‏.‏‏.‏ ‏{‏من بعد ما تبين له الهدى‏}‏‏.‏‏.‏ فقد كان في صفوف المسلمين، ثم اتبع غير سبيل المؤمنين‏.‏‏.‏ ولكن النص عام، ينطبق على كل حالة، ويواجه كل حالة من مشاقة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ومشاقته كفر وشرك وردة، ينطبق عليه ما ينطبق على ذلك الحادث القديم‏.‏

والمشاقة- لغة- أن يأخذ المرء شقاً مقابلاً للشق الذي يأخذه الآخر‏.‏ والذي يشاق الرسول- صلى الله عليه وسلم- هو الذي يأخذ له شقاً وجانباً وصفاً غير الصف والجانب والشق الذي يأخذه النبي- صلى الله عليه وسلم- ومعنى هذا أن يتخذ له منهجاً للحياة كلها غير منهجه، وأن يختار له طريقاً غير طريقه‏.‏ فالرسول- صلى الله عليه وسلم- جاء يحمل من عند الله منهجاً كاملاً للحياة يشتمل على العقيدة والشعائر التعبدية، كما يشتمل على الشريعة والنظام الواقعي لجوانب الحياة البشرية كلها‏.‏‏.‏ وهذه وتلك كلتاهما جسم هذا المنهج، بحيث تزهق روح هذا المنهج إذا شطر جسمه فأخذ منه شق وطرح شق‏!‏ والذي يشاق الرسول- صلى الله عليه وسلم- هو كل من ينكر منهجه جملة، أو يؤمن ببعض ويكفر ببعض، فيأخذ بشق منه ويطرح شقاً‏!‏

وقد اقتضت رحمة الله بالناس، ألا يحق عليهم القول، ولا يصلوا جهنم وساءت مصيراً، إلا بعد أن يرسل إليهم رسولاً‏.‏ وبعد أن يبين لهم‏.‏ وبعد أن يتبينوا الهدى‏.‏ ثم يختاروا الضلالة‏.‏ وهي رحمة الله الواسعة الحانية على هذا المخلوق الضعيف‏.‏ فإذا تبين له الهدى‏.‏ أي إذا علم أن هذا المنهج من عند الله‏.‏ ثم شاق الرسول- صلى الله عليه وسلم- فيه، ولم يتبعه ويطعه، ولم يرض بمنهج الله الذي تبين له، فعندئذ يكتب الله عليه الضلال، ويوليه الوجهة التي تولاها، ويلحقه بالكفار والمشركين الذين توجه إليهم‏.‏ ويحق عليه العذاب المذكور في الآية بنصه‏:‏

‏{‏ومن يشاقق الرسول- من بعد ما تبين له الهدى- ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى، ونصله جهنم‏.‏ وساءت مصيراً‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

ويعلل النص هذا المصير البائس السيئ، بأن مغفرة الله- سبحانه- تتناول كل شيء‏.‏‏.‏ إلا أن يشرك به‏.‏‏.‏ فهذه لا مغفرة لمن مات عليها‏:‏

‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك- لمن يشاء- ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً‏}‏‏.‏‏.‏

والشرك بالله- كما أسلفنا في هذا الجزء عند تفسير مثل هذه الآية من قبل- يتحقق باتخاذ آلهة مع الله اتخاذاً صريحاً على طريقة الجاهلية العربية وغيرها من الجاهليات القديمة- كما يتحقق بعدم إفراد الله بخصائص الألوهية؛ والاعتراف لبعض البشر بهذه الخصائص‏.‏ كإشراك اليهود والنصارى الذي حكاه القرآن من أنهم ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله‏}‏ ولم يكونوا عبدوهم مع الله‏.‏ ولكن كانوا فقط اعترفوا لهم بحق التشريع لهم من دون الله‏.‏ فحرموا عليهم وأحلوا لهم‏.‏ فاتبعوهم في هذا‏.‏

ومنحوهم خاصية من خصائص الألوهية‏!‏ فحق عليهم وصف الشرك‏.‏ وقيل عنهم إنهم خالفوا ما أمروا به من التوحيد ‏{‏وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً‏}‏ فيقيموا له وحده الشعائر، ويتلقوا منه وحده الشرائع والأوامر‏.‏

ولا غفران لذنب الشرك- متى مات صاحبه عليه- بينما باب المغفرة مفتوح لكل ذنب سواه‏.‏‏.‏ عندما يشاء الله‏.‏‏.‏ والسبب في تعظيم جريمة الشرك، وخروجها من دائرة المغفرة، أن من يشرك بالله يخرج عن حدود الخير والصلاح تماماً؛ وتفسد كل فطرته بحيث لا تصلح أبداً‏:‏

‏{‏ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً‏}‏‏.‏‏.‏

ولو بقي خيط واحد صالح من خيوط الفطرة لشده إلى الشعور بوحدانية ربه؛ ولو قبل الموت بساعة‏.‏‏.‏ فأما وقد غرغر- وهو على الشرك- فقد انتهى أمره وحق عليه القول‏:‏

‏{‏ونصله جهنم وساءت مصيراً‏!‏‏}‏‏.‏

ثم يصف بعض أوهام الجاهلية العربية في شركها‏.‏ وأساطيرها حول اتخاذ الله بنات- هن الملائكة- وحول عبادتهم للشيطان- وقد عبدوه كما عبدوا الملائكة وتماثيلها الأصنام- كما يصف بعض شعائرهم في تقطيع أو تشقيق آذان الأنعام المنذورة للآلهة‏!‏ وفي تغييرهم خلق الله‏.‏ والشرك بالله‏.‏ وهو مخالف للفطرة التي فطر الله الناس عليها‏:‏

‏{‏إن يدعون من دونه إلا إناثاً، وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً، لعنه الله وقال‏:‏ لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً، ولأضلنهم، ولأمنينهم، ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام؛ ولآمرنهم فلغيرن خلق الله‏.‏‏.‏ ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً‏.‏ يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً‏}‏‏.‏

لقد كان العرب- في جاهليتهم- يزعمون أن الملائكة بنات الله‏.‏ ثم يتخذون لهذه الملائكة تماثيل يسمونها أسماء الإناث‏:‏ «اللات‏.‏ والعزى‏.‏ ومناة» وأمثالها ثم يعبدون هذه الأصنام- بوصفها تماثيل لبنات الله- يتقربون بها إلى الله زلفى‏.‏‏.‏ كان هذا على الأقل في مبدأ الأمر‏.‏‏.‏ ثم ينسون أصل الأسطورة، ويعبدون الأصنام ذاتها، بل يعبدون جنس الحجر، كما بينا ذلك في الجزء الرابع‏.‏

كذلك كان بعضهم يعبد الشيطان نصاً‏.‏‏.‏ قال الكلبي‏:‏ كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن‏.‏‏.‏

على أن النص هنا أوسع مدلولاً، فهم في شركهم كله إنما يدعون الشيطان، ويستمدون منه‏:‏ هذا الشيطان صاحب القصة مع أبيهم آدم؛ الذي لعنه الله بسبب معصيته وعدائه للبشر‏.‏ والذي بلغ من حقده بعد طرده ولعنته، أن يأخذ من الله- سبحانه- إذناً بأن يغوي من البشر كل من لا يلجأ إلى حمى الله‏:‏

‏{‏إن يدعون من دونه إلا إناثاً‏.‏ وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً‏.‏ لعنه الله‏.‏ وقال‏:‏ لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً‏.‏ ولأضلنهم، ولأمنينهم؛ ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام، ولآمرنهم فليغيرن خلق الله‏}‏‏.‏

إنهم يدعون الشيطان- عدوهم القديم- ويستوحونه ويستمدون منه هذا الضلال‏.‏ ذلك الشيطان الذي لعنه الله‏.‏

والذي صرح بنيته في إضلال فريق من أبناء آدم، وتمنيتهم بالأمنيات الكاذبة في طريق الغواية، من لذة كاذبة، وسعادة موهومة، ونجاة من الجزاء في نهاية المطاف‏!‏ كما صرح بنيته في أن يدفع بهم إلى أفعال قبيحة، وشعائر سخيفة، من نسج الأساطير‏.‏ كتمزيق آذان بعض الأنعام؛ ليصبح ركوبها بعد ذلك حراماً، أو أكلها حراماً- دون أن يحرمها الله- ومن تغيير خلق الله وفطرته بقطع بعض أجزاء الجسد أو تغيير شكلها في الحيوان أو الإنسان، كخصاء الرقيق، ووشم الجلود‏.‏‏.‏ وما إليها من التغيير والتشويه الذي حرمه الإسلام‏.‏

وشعور الإنسان بأن الشيطان- عدوه القديم- هو الذي يأمر بهذا الشرك وتوابعه من الشعائر الوثنية، يثير في نفسه- على الأقل- الحذر من الفخ الذي نصبه العدو‏.‏ وقد جعل الإسلام المعركة الرئيسية بين الإنسان والشيطان‏.‏ ووجه قوى المؤمن كلها لكفاح الشيطان والشر الذي ينشئه في الأرض؛ والوقوف تحت راية الله وحزبه، في مواجهة الشيطان وحزبه‏:‏ وهي معركة دائمة لا تضع أوزارها‏.‏ لأن الشيطان لا يمل هذه الحرب التي أعلنها منذ لعنه وطرده‏.‏ والمؤمن لا يغفل عنها، ولا ينسحب منها‏.‏ وهو يعلم أنه إما أن يكون ولياً لله، وإما أن يكون ولياً للشيطان؛ وليس هنالك وسط‏.‏‏.‏ والشيطان يتمثل في نفسه وما يبثه في النفس من شهوات ونزوات؛ ويتمثل في أتباعه من المشركين وأهل الشر عامة‏.‏ والمسلم يكافحه في ذات نفسه، كما يكافحه في أتباعه‏.‏‏.‏ معركة واحدة متصلة طوال الحياة‏.‏

ومن يجعل الله مولاه فهو ناج غانم‏.‏ ومن يجعل الشيطان مولاه فهو خاسر هالك‏:‏

‏{‏ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً‏}‏‏.‏‏.‏

ويصور السياق القرآني فعل الشيطان مع أوليائه، في مثل حالة الاستهواء‏.‏

‏{‏يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً‏}‏‏.‏

إنها حالة استهواء معينة هي التي تنحرف بالفطرة البشرية عن الإيمان والتوحيد، إلى الكفر والشرك‏.‏ ولولا هذا الاستهواء لمضت الفطرة في طريقها، ولكان الإيمان هو هادي الفطرة وحاديها‏.‏

وإنها حالة استهواء معينة هي التي يزين فيها الشيطان للإنسان سوء عمله، فيراه حسناً‏!‏ ويعده الكسب والسعادة في طريق المعصية، فيعدو معه في الطريق‏!‏ ويمنيه النجاة من عاقبة ما يعمل فيطمئن ويمضي في طريقه إلى المهلكة‏!‏

‏{‏وما يعدهم الشيطان إلا غروراً‏}‏‏.‏‏.‏

وحين يرتسم المشهد على هذا النحو، والعدو القديم يفتل الحبال‏.‏ ويضع الفخ، ويستدرج الفريسة، لا تبقى إلا الجبلات الموكوسة المطموسة هي التي تظل سادرة لا تستيقظ، ولا تتلفت ولا تحاول أن تعرف إلى أي طريق تساق، وإلى أية هوة تُستهوى‏!‏

وبينما هذه اللمسة الموقظة تفعل فعلها في النفوس، وتصور حقيقة المعركة، وحقيقة الموقف، يجيء التعقيب ببيان العاقبة في نهاية المطاف‏:‏ عاقبة من يستهويهم الشيطان، ويصدق عليهم ظنه‏.‏

وينفذ فيهم ما صرح به من نيته الشريرة‏.‏‏.‏ وعاقبة من يفتلون من حبالته، لأنهم آمنوا بالله حقاً‏.‏ والمؤمنون بالله حقاً في نجوة من هذا الشيطان لأنه- لعنة الله عليه- وهو يستأذن في إغواء الضالين، لم يؤذن له في المساس بعباد الله المخلصين‏.‏ فهو إزاءهم ضعيف ضعيف؛ كلما اشتدت قبضتهم على حبل الله المتين‏:‏

‏{‏ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً‏.‏ يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلاّ غروراً‏.‏ أولئك مأواهم جهنم، ولا يجدون عنها محيصاً‏.‏ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبداً، وعد الله حقاً، ومن أصدق من الله قيلاً‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

فهي جهنم ولا محيص عنها لأولياء الشيطان‏.‏‏.‏ وهي جنات الخلد لا خروج منها لأولياء الله‏.‏‏.‏ وعد الله‏:‏ ‏{‏ومن أصدق من الله قيلا‏}‏‏؟‏

والصدق المطلق في قول الله هنا؛ يقابل الغرور الخادع، والأماني الكاذبة في قول الشيطان هناك‏!‏ وشتان بين من يثق بوعد الله، ومن يثق بتغرير الشيطان‏!‏

ثم يعقب السياق بقاعدة الإسلام الكبرى في العمل والجزاء‏.‏‏.‏ إن ميزان الثواب والعقاب ليس موكولاً إلى الأماني‏.‏ إنه يرجع إلى أصل ثابت، وسنة لا تتخلف، وقانون لا يحابي‏.‏ قانون تستوي أمامه الأمم- فليس أحد يمت إلى الله سبحانه بنسب ولا صهر- وليس أحد تخرق له القاعدة، وتخالف من أجله السنة، ويعطل لحسابه القانون‏.‏‏.‏ إن صاحب السوء مجزى بالسوء؛ وصاحب الحسنة مجزى بالحسنة‏.‏ ولا محاباة في هذا ولا مماراة‏:‏

‏{‏ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب‏.‏ من يعمل سوءاً يجز به، ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً‏.‏‏.‏ ومن يعمل من الصالحات- من ذكر أو أنثى وهو مؤمن- فأولئك يدخلون الجنة، ولا يظلمون نقيراً ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله- وهو محسن- واتبع ملة إبراهيم حنيفاً، واتخذ الله إبراهيم خليلاً‏}‏‏.‏

ولقد كان اليهود والنصارى يقولون‏:‏ ‏{‏نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏ وكانوا يقولون‏:‏ ‏{‏لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة‏}‏ وكان اليهود ولا يزالون يقولون‏:‏ إنهم شعب الله المختار‏!‏

ولعل بعض المسلمين كانت تراود نفوسهم كذلك فكرة أنهم خير أمة أخرجت للناس‏.‏ وأن الله متجاوز عما يقع منهم‏.‏‏.‏ بما أنهم المسلمون‏.‏‏.‏

فجاء هذا النص يرد هؤلاء وهؤلاء إلى العمل، والعمل وحده‏.‏ ويرد الناس كلهم إلى ميزان واحد‏.‏ هو إسلام الوجه لله- مع الإحسان- واتباع ملة إبراهيم وهي الإسلام‏.‏ إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً‏.‏‏.‏

فأحسن الدين هو هذا الإسلام- ملة إبراهيم- وأحسن العمل هو «الإحسان»‏.‏‏.‏ والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏.‏ وقد كتب الإحسان في كل شيء حتى في إراحة الذبيحة عند ذبحها، وحد الشفرة؛ حتى لا تعذب وهي تذبح‏!‏

وفي النص تلك التسوية بين شقي النفس الواحدة؛ في موقفهما من العمل والجزاء؛ كما أن فيه شرط الإيمان لقبول العمل، وهو الإيمان بالله‏:‏

‏{‏ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى- وهو مؤمن- فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً‏}‏‏.‏

وهو نص صريح على وحدة القاعدة في معاملة شقي النفس الواحدة- من ذكر أو أنثى‏.‏ كما هو نص صريح في اشتراط الإيمان لقبول العمل‏.‏ وأنه لا قيمة عند الله لعمل لا يصدر عن الإيمان‏.‏ ولا يصاحبه الإيمان‏.‏ وذلك طبيعي ومنطقي‏.‏ لأن الإيمان بالله هو الذي يجعل العمل الصالح يصدر عن تصور معين وقصد معلوم؛ كما يجعله حركة طبيعية مطردة، لا استجابة لهوى شخصي، ولا فلتة عابرة لا تقوم على قاعدة‏.‏‏.‏

وهذه الألفاظ الصريحة تخالف ما ذهب إليه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في تفسير جزء «عم» عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره‏}‏ إذ رأى النص لعمومه هذا يشمل المسلم وغير المسلم‏.‏ بينما النصوص الصريحة الأخرى تنفي هذا تماماً‏.‏ وكذلك ما رآه الأستاذ الشيخ المراغي- رحمه الله‏.‏ وقد أشرنا إلى هذه القصة في جزء عم ‏(‏الجزء الثلاثين من الظلال‏)‏‏.‏

ولقد شق على المسلمين قول الله لهم‏:‏

‏{‏ومن يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً‏}‏‏.‏‏.‏

فقد كانوا يعرفون طبيعة النفس البشرية؛ ويعرفون أنها لا بد أن تعمل سوءاً‏.‏ مهما صلحت، ومهما عملت من حسنات‏.‏

كانوا يعرفون النفس البشرية- كما هي في حقيقتها- وكانوا من ثم يعرفون أنفسهم‏.‏‏.‏ لم يخدعوا أنفسهم عن حقيقتها؛ ولم يخفوا عن أنفسهم سيئاتها؛ ولم يتجاهلوا ما يعتور نفوسهم من ضعف أحياناً، ولم ينكروا أو يغطوا هذا الضعف الذي يجدونه‏.‏ ومن ثم ارتجفت نفوسهم، وهم يواجهون بأن كل سوء يعملونه يجزون به‏.‏ ارتجفت نفوسهم كالذي يواجه العاقبة فعلاً ويلامسها، وهذه كانت ميزتهم‏.‏ أن يحسوا الآخرة على هذا النحو، ويعيشوا فيها فعلاً بمشاعرهم كأنهم فيها‏.‏ لا كأنها آتية لا ريب فيها فحسب‏!‏ ومن ثم كانت رجفتهم المزلزلة لهذا الوعيد الأكيد‏!‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبدالله بن نمير، حدثنا إسماعيل، «عن أبي بكر بن أبي زهير، قال‏:‏» أخبرت أن أبا بكر- رضي الله عنه- قال‏:‏ «يا رسول، الله كيف الفلاح بعد هذه الآية‏؟‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به‏}‏‏.‏‏.‏ فكل سوء عملناه جزينا به‏.‏‏.‏ فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-» غفر الله لك يا أبا بكر‏.‏ ألست تمرض‏؟‏ ألست تنصب‏؟‏ ألست تحزن‏؟‏ ألست تصيبك اللأواء‏؟‏ «قال بلى‏!‏ قال‏:‏ فهو مما تجزون به»‏.‏ ورواه الحاكم عن طريق سفيان الثوري عن إسماعيل‏.‏

وروى أبو بكر بن مردويه- بإسناده- إلى «ابن عمر، يحدث عن أبي بكر الصديق‏.‏ قال‏:‏ كنت عند النبي- صلى الله عليه وسلم- فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به، ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً‏}‏ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏» يا أبا بكر، ألا أقرئك آية نزلت علي‏؟‏ «قال‏:‏ قلت يا رسول الله فأقرأنيها‏.‏‏.‏ فلا أعلم أني قد وجدت انفصاماً في ظهري، حتى تمطيت لها‏!‏ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏» مالك يأ أبا بكر «فقلت‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول الله‏!‏ وأينا لم يعمل السوء، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه‏!‏ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏.‏ أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا، حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب‏.‏ وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة» ‏(‏وكذا رواه الترمذي‏)‏‏.‏

وروى ابن أبى حاتم- بإسناده- «عن عائشة قالت‏:‏ قلت يا رسول الله إني لأعلم أشد آية في القرآن‏.‏ فقال‏:‏» ما هي يا عائشة‏؟‏ «قلت‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ فقال‏.‏ ما يصيب العبد المؤمن، حتى النكبة ينكبها» ‏(‏ورواه ابن جرير‏)‏‏.‏

وروى مسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة- بإسناده- «عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة‏.‏ حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها»‏.‏

على أية حال لقد كانت هذه حلقة في إنشاء التصور الإيماني الصحيح عن العمل والجزاء‏.‏ ذات أهمية كبرى في استقامة التصور من ناحية، واستقامة الواقع العملي من ناحية أخرى‏.‏ ولقد هزت هذه الآية كيانهم، ورجفت لها نفوسهم، لأنهم كانوا يأخذون الأمر جداً‏.‏ ويعرفون صدق وعد الله حقاً‏.‏ ويعيشون هذا الوعد ويعيشون الآخرة وهم بعد في الدنيا‏.‏

وفي الختام يجيء التعقيب على قضية العمل والجزاء، وقضية الشرك قبلها والإيمان، برد كل ما في السماوات والأرض لله، وإحاطة الله بكل شيء في الحياة وما بعد الحياة‏:‏

‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض، وكان الله بكل شيء محيطاً‏}‏‏.‏

وإفراد الله سبحانه بالألوهية يصاحبه في القرآن كثيراً إفراده سبحانه بالملك والهيمنة- والسلطان والقهر، فالتوحيد الإسلامي ليس مجرد توحيد ذات الله‏.‏ وإنما هو توحيد إيجابي‏.‏ توحيد الفاعلية والتأثير في الكون، وتوحيد السلطان والهيمنة أيضاً‏.‏

ومتى شعرت النفس أن لله ما في السموات وما في الأرض‏.‏

وأنه بكل شيء محيط، لا يند شيء عن علمه ولا عن سلطانه‏.‏‏.‏ كان هذا باعثها القوي إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والعبادة؛ وإلى محاولة إرضائه باتباع منهجه وطاعة أمره‏.‏‏.‏ وكل شيء ملكه‏.‏ وكل شيء في قبضته‏.‏ وهو بكل شيء محيط‏.‏

وبعض الفلسفات تقرر وحدانية الله‏.‏ ولكن بعضها ينفي عنه الإرداة‏.‏ وبعضها ينفي عنه العلم‏.‏ وبعضها ينفي عنه السلطان‏.‏ وبعضها ينفي عنه الملك‏.‏‏.‏ إلى آخر هذا الركام الذي يسمى «فلسفات‏!‏»‏.‏‏.‏ ومن ثم يصبح هذا التصور سلبياً لا فاعلية له في حياة الناس، ولا أثر له في سلوكهم وأخلاقهم؛ ولا قيمة له في مشاعرهم وواقعهم‏.‏‏.‏ كلام‏!‏ مجرد كلام‏!‏

إن الله في الإسلام، له ما في السموات وما في الأرض‏.‏ فهو مالك كل شيء‏.‏‏.‏ وهو بكل شيء محيط‏.‏ فهو مهيمن على كل شيء‏.‏‏.‏ وفي ظل هذا التصور يصلح الضمير‏.‏ ويصلح السلوك‏.‏ وتصلح الحياة‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏127- 134‏]‏

‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ‏(‏127‏)‏ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏128‏)‏ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏129‏)‏ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ‏(‏130‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ‏(‏131‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏132‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ‏(‏133‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏134‏)‏‏}‏

هذا الدرس تكملة لما بدأت به السورة من علاج رواسب المجتمع الجاهلي، فيما يختص بالمرأة والأسرة؛ وفيما يختص بمعاملة الضعاف في المجتمع كاليتامى والأطفال‏.‏ وتنقية المجتمع المسلم من هذه الرواسب؛ وإقامة البيت فيه على أساس من كرامة شطري النفس الواحدة؛ ورعاية مصالحهما معاً، وتقوية روابط الأسرة وإصلاح ما يشجر في جوها من خلاف، قبل أن يستفحل، فيؤدي إلى تقطيع هذه الروابط، وتحطيم البيوت على من فيها، وبخاصة على الذرية الضعيفة الناشئة في المحاضن‏.‏‏.‏ وإقامة المجتمع كذلك على أساس من رعاية الضعاف فيه؛ كي لا يكون الأمر للأغلب؛ وتكون شريعة الغاب هي التي تتحكم‏!‏

وهذا الدرس يعالج بعض هذه الشؤون، ويربطها بنظام الكون كله‏.‏‏.‏ مما يشعر معه المخاطب بهذه الآيات، أن أمر النساء والبيوت والأسرة والضعاف في المجتمع، هو أمر خطير كبير‏.‏‏.‏ وهو في حقيقته أمر خطير كبير‏.‏‏.‏ وقد تحدثنا في ثنايا هذا الجزء، وفي مقدمات السورة في الجزء الرابع، بما فيه الكفاية عن نظرة الإسلام إلى الأسرة؛ وعن الجهد المبذول في هذا المنهج لتخليص المجتمع المسلم من رواسب الجاهلية، ومن رفع مستواه النفسي والاجتماعي والخلقي، بما يكفل تفوقه على المجتمعات كلها من حوله، وعلى كل مجتمع آخر لا يدين بهذا الدين، ولا يتربى بهذا المنهج، ولا يخضع لنظامه الفريد‏.‏

والآن نواجه نصوص هذا الدرس بالتفصيل‏:‏

‏{‏ويستفتونك في النساء‏.‏ قل‏:‏ الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنحكوهن، والمستضعفين من الولدان؛ وأن تقوموا لليتامى بالقسط‏.‏ وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليماً‏}‏‏.‏‏.‏

لقد أثارت الآيات التي نزلت في أوائل السورة عن النساء أسئلة واستفتاءات في بعض شأنهن‏.‏‏.‏ وظاهرة سؤال المسلمين واستفتائهم في بعض الأحكام، ظاهرة لها دلالتها في المجتمع المسلم الناشئ؛ وفي رغبة المسلمين في معرفة أحكام دينهم في شؤون حياتهم‏.‏ فقد كانت الهزة التي أحدثتها النقلة من الجاهلية إلى الإسلام في نفوسهم هزة عميقة، بحيث أصبحوا يشكون ويشفقون من كل أمر كانوا يأتونه في الجاهلية، مخافة أن يكون الإسلام قد نسخه، أو عدله‏.‏ ويتطلبون أن يعرفوا حكم الإسلام في كل ما يعرض لهم في حياتهم اليومية من الشؤون‏.‏ وهذه اليقظة وهذه الرغبة في مطابقة أحوالهم لأحكام الإسلام، هي العنصر البارز في هذه الفترة- على الرغم من بقاء بعض رواسب الجاهلية في حياتهم- فالمهم هو رغبتهم الحقيقية القوية في مطابقة أحوالهم لأحكام الإسلام؛ والاستفسار عن بعض الأحكام بهذه الروح‏.‏ لا لمجرد الاستفتاء ولا لمجرد العلم والمعرفة والثقافة‏!‏ كمعظم ما يوجه إلى المفتين في هذه الأيام من استفتاءات‏!‏

لقد كانت بالقوم حاجة إلى معرفة أحكام دينهم، لأنها هي التي تكوّن نظام حياتهم الجديدة‏.‏

وكانت بهم حرارة لهذه المعرفة، لأن الغرض منها هو إيجاد التطابق بين واقع حياتهم وأحكام دينهم‏.‏ وكان بهم انخلاع من الجاهلية، وإشفاق من كل ما كان فيها من تقاليد وعادات وأوضاع وأحكام‏.‏ مع شدة إحساسهم بقيمة هذا التغيير الكامل الذي أنشأه الإسلام في حياتهم‏.‏ أو بتعبير أدق بقيمة هذا الميلاد الجديد الذي ولدوه على يدي الإسلام‏.‏

وهنا نجد جزاء تطلعهم لله، وجزاء حرارتهم، وصدق عزيمتهم على الاتباع‏.‏‏.‏ نجد جزاء هذا كله عناية من الله ورعاية‏.‏‏.‏ بأنه سبحانه- بذاته العلية- يتولى إفتاءهم فيما يستفتون فيه‏:‏

‏{‏ويستفتونك في النساء‏.‏ قل الله يفتيكم فيهن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

فهم كانوا يستفتون الرسول- صلى الله عليه وسلم- والله- سبحانه- يتفضل فيقول للنبي- صلى الله عليه وسلم- قل‏:‏ إن الله يفتيكم فيهن وفي بقية الشؤون التي جاء ذكرها في الآية، وهي لفتة لها قيمتها التي لا تقدر، في عطف الله سبحانه، وتكريمه للجماعة المسلمة؛ وهو يخاطبها بذاته؛ ويرعاها بعينه؛ ويفتيها فيما تستفتي، وفيما تحتاج إليه حياتها الجديدة‏.‏

وقد تناولت الفتوى هنا تصوير الواقع المترسب في المجتمع المسلم من الجاهلية التي التقطه المنهج الرباني منها‏.‏ كما تناولت التوجيه المطلوب، لرفع حياة المجتمع المسلم وتطهيرها من الرواسب‏:‏

‏{‏قل الله يفتيكم فيهن؛ وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن، وترغبون أن تنكحوهن‏.‏ والمستضعفين من الولدان‏.‏ وأن تقوموا لليتامى بالقسط‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية‏:‏ كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه‏.‏ فإذا فعل ذلك فلم يقدر أحد أن يتزوجها أبداً‏.‏ وإن كانت جميلة وهويها تزوجها، وأكل مالها‏.‏ وإن كانت دميمة منعها الرجال أبداً حتى تموت‏.‏ فإذا ماتت ورثها‏.‏ فحرم الله ذلك ونهى عنه‏.‏‏.‏ وقال في قوله‏:‏ ‏{‏والمستضعفين من الولدان‏}‏ كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات‏.‏ وذلك قوله‏:‏ ‏{‏ولا تؤتونهن ما كتب لهن‏}‏‏.‏‏.‏ فنهى الله عن ذلك؛ وبين لكل ذي سهم سهمه فقال‏:‏ للذكر مثل حظ الأنثيين، صغيراً أو كبيراً‏.‏‏.‏

وقال سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏وأن تقوموا لليتامى بالقسط‏}‏‏.‏‏.‏ كما إذا كانت ذات جمال وقال نكحتها واستأثرت بها، كذلك وإذا لم تكن ذات مال ولا جمال فأنكحها واستأثر بها‏.‏

وعن عائشة- رضي الله عنها-‏:‏ ويستفتونك في النساء‏.‏ قل‏:‏ الله يفتيكم فيهن‏.‏- إلى قوله‏:‏ ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ قالت عائشة‏:‏ هو الرجل تكون عنده اليتيمة، هو وليها ووارثها، فأشركته في ماله، حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته، فيعضلها فنزلت الآية ‏(‏أخرجه البخاري ومسلم‏)‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ قرأت مع محمد بن عبدالله بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير قالت عائشة‏:‏ «ثم إن الناس استفتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الآية فيهن‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ويستفتونك في النساء قل‏:‏ الله يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏‏.‏‏.‏ قالت‏.‏ والذي ذكر الله أنه يتلى في الكتاب‏:‏ الآية الأولى التي قال الله‏:‏ ‏{‏وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وبهذا الإسناد عن عائشة قالت‏:‏» وقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏‏.‏‏.‏ رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال‏.‏ فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء- إلا بالقسط- من أجل رغبتهم هن «‏.‏

وظاهر من هذه النصوص، ومن النص القرآني‏.‏ ما كان عليه الحال في الجاهلية؛ فيما يختص بالفتيات اليتيمات‏.‏ فقد كانت اليتيمة تلقى من وليها الطمع والغبن‏:‏ الطمع في مالها، والغبن في مهرها- إن هو تزوجها- فيأكل مهرها ويأكل مالها‏.‏ والغبن إن لم يتزوجها كراهية لها لأنها دميمة‏.‏ ومنعها أن تتزوج حتى لا يشاركه زوجها فيما تحت يده من مالها‏!‏

كذلك كان الحال في الولدان الصغار والنساء، إذ كانوا يحرمونهم من الميراث لأنهم لا يملكون القوة التي يدفعون بها عن ميراثهم؛ أو أنهم غير محاربين، فلا حق لهم في الميراث، تحت تأثير الشعور القبلي، الذي يجعل للمحاربين في القبيلة كل شيء‏.‏ ولا شيء للضعاف‏!‏

وهذه التقاليد الشائهة البدائية، هي التي أخذ الإسلام يبدلها، وينشئ مكانها تقاليد إنسانية راقية لا تعد- كما قلنا- مجرد وثبة، أو نهضة، في المجتمع العربي‏.‏ إنما هي في حقيقتها نشأة أخرى، وميلاد جديد، وحقيقة أخرى لهذه الأمة غير حقيقتها الجاهلية‏!‏

والمهم الذي يجب أن نسجله‏:‏ هو أن هذه النشأة الجديدة، لم تكن تطوراً مسبوقاً بأية خطوات تمهيدية له؛ أو أنه انبثق من واقع مادي تغير فجأة في حياة هذا الشعب‏!‏

فالنقلة من إقامة حقوق الإرث والملك على أساس حق المحارب إلى إقامتها على أساس الحق الإنساني، وإعطاء الطفل واليتيمة والمرأة حقوقهم بصفتهم الإنسانية، لا بصفتهم محاربين‏!‏ هذه النقلة لم تنشأ لأن المجتمع قد انتقل إلى أوضاع مستقرة لا قيمة فيها للمحاربين‏.‏ ومن ثم قضى على الحقوق المكتسبة للمحاربين، لأنه لم يعد في حاجة إلى تمييزهم‏!‏

كلا‏!‏ فقد كان للمحاربين في العهد الجديد قيمتهم كلها؛ وكانت الحاجة إليهم ماسة‏!‏ ولكن كان هناك‏.‏‏.‏ الإسلام‏.‏‏.‏ كان هناك هذا الميلاد الجديد للإنسان‏.‏ الميلاد الذي انبثق من خلال كتاب؛ ومن خلال منهج؛ فأقام مجتمعاً جديداً وليداً‏.‏ على نفس الأرض‏.‏

وفي ذات الظروف‏.‏ وبدون حدوث انقلاب لا في الإنتاج وأدواته‏!‏ ولا في المادة وخواصها‏!‏ وإنما مجرد انقلاب في التصور هو الذي انبثق منه الميلاد الجديد‏.‏

وحقيقة أن المنهج القرآني قد كافح‏.‏ وكافح طويلاً‏.‏ لطمس ومحو معالم الجاهلية في النفوس والأوضاع، وتخطيط وتثبيت المعالم الإسلامية في النفوس والأوضاع‏.‏‏.‏ وحقيقة كذلك أن رواسب الجاهلية ظلت تقاوم؛ وظلت تعاود الظهور في بعض الحالات الفردية؛ أو تحاول أن تعبر عن نفسها في صور شتى‏.‏‏.‏

ولكن المهم هنا‏:‏ هو أن المنهج المتنزل من السماء، والتصور الذي أنشأه هذا المنهج كذلك، هو الذي كان يكافح «الواقع المادي» ويعدله ويبدله‏.‏‏.‏ ولم يكن قط أن الواقع المادي أو «النقيض» الكامن فيه؛ أو تبدل وسائل الإنتاج‏.‏‏.‏ أو شيء من هذا «الهوس الماركسي»‏!‏ هو الذي اقتضى تغيير التصورات ومناهج الحياة، وأوضاعها، لتلائم هذا التبدل الذي تفرضه وسائل الإنتاج‏!‏

كان هناك فقط شيء جديد واحد في حياة هذا الشعب‏.‏‏.‏ شيء هبط عليه من الملأ الأعلى‏.‏‏.‏ فاستجابت له نفوس، لأنه يخاطب فيها رصيد الفطرة، الذي أودعه الله فيها‏.‏‏.‏ ومن ثم وقع هذا التغيير‏.‏ بل تم هذا الميلاد الجديد للإنسان‏.‏ الميلاد الذي تغيرت فيه ملامح الحياة كلها‏.‏‏.‏ في كل جانب من جوانبها‏.‏‏.‏ عن الملامح المعهودة في الجاهلية‏!‏‏!‏‏!‏

ومهما يكن هناك من صراع قد وقع بين الملامح الجديدة والملامح القديمة‏.‏ ومهما يكن هناك من آلام للمخاض وتضحيات‏.‏‏.‏ فقد تم هذا كله‏.‏ لأن هناك رسالة علوية؛ وتصوراً اعتقادياً؛ هو الذي كان له الأثر الأول والأثر الأخير في هذا الميلاد الجديد‏.‏ الذي لم تقتصر موجته على المجتمع الإسلامي؛ ولكن تعدته كذلك إلى المجتمع الإنساني كله‏.‏

ومن ثم ينتهي هذا النص القرآني الذي يفتي فيه الله المؤمنين، فيما يستفتون فيه الرسول- صلى الله عليه وسلم- في أمر النساء، ويقص عليهم حقوق اليتيمات، وحقوق الولدان الضعاف‏.‏‏.‏ ينتهي بربط هذه الحقوق وهذه التوجيهات كلها، بالمصدر الذي جاء من عنده هذا المنهج‏:‏

‏{‏وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليماً‏}‏‏.‏‏.‏

فهو غير مجهول، وهو غير ضائع‏.‏‏.‏ وهو مسجل عندالله‏.‏ ولن يضيع خير سجل عند الله‏.‏

وهذا هو المرجع الأخير الذي يعود إليه المؤمن بعمله، والجهة الوحيدة التي يتعامل معها في نيته وجهده‏.‏ وقوة هذا المرجع، وسلطانه، هي التي تجعل لهذه التوجيهات ولهذا المنهج قوته وسلطانه في النفوس، وفي الأوضاع وفي الحياة‏.‏

إنه ليس المهم أن تقال توجيهات؛ وأن تبتدع مناهج؛ وأن تقام أنظمة‏.‏‏.‏ إنما المهم هو السلطان الذي ترتكن إليه تلك التوجيهات والمناهج والأنظمة‏.‏ السلطان الذي تستمد منه قوتها ونفاذها وفاعليتها في نفوس البشر‏.‏‏.‏ وشتان بين توجيهات ومناهج ونظم يتلقاها البشر من الله ذي الجلال والسلطان، وتوجيهات ومناهج ونظم يتلقونها من العبيد أمثالهم من البشر‏!‏ ذلك على فرض تساوي هذه وتلك في كل صفة أخرى وفي كل سمة؛ وبلوغهما معاً أوجاً واحداً- وهو فرض ظاهر الاستحالة‏.‏

ألا إنه ليكفي أن أشعر ممن صدرت هذه الكلمة، لأعطيها في نفسي ما تستحقه من مكان‏.‏‏.‏ ولتفعل في نفسي ما تفعله كلمة الله العلي الأعلى‏.‏ أو كلمة الإنسان ابن الإنسان‏!‏

ثم نمضي خطوة أخرى مع التنظيم الاجتماعي- في محيط الأسرة- في هذا المجتمع الذي كان الإسلام ينشئه، بمنهج الله المتنزل من الملأ الأعلى، لا بعوامل التغير الأرضية في عالم المادة أو دنيا الإنتاج‏:‏

‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً، فلا جناج عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً‏.‏ والصلح خير‏.‏ وأحضرت الأنفس الشح‏.‏ وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً‏.‏ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء- ولو حرصتم- فلا تميلوا كل الميل، فتذروها كالمعلقة‏.‏ وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً‏.‏ وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته‏.‏ وكان الله واسعاً حكيماً‏}‏‏.‏

لقد نظم المنهج- من قبل- حالة النشوز من ناحية الزوجة؛ والإجراءات التي تتخذ للمحافظة على كيان الأسرة ‏(‏وذلك في أوائل هذا الجزء‏)‏ فالآن ينظم حالة النشوز والإعراض حين يخشى وقوعها من ناحية الزوج، فتهدد أمن المرآة وكرامتها، وأمن الأسرة كلها كذلك‏.‏ إن القلوب تتقلب، وإن المشاعر تتغير‏.‏ والإسلام منهج حياة يعالج كل جزئية فيها، ويتعرض لكل ما يعرض لها؛ في نطاق مبادئه واتجاهاته؛ وتصميم المجتمع الذي يرسمه وينشئه وفق هذا التصميم‏.‏

فإذا خشيت المرأة أن تصبح مجفوة؛ وأن تؤدي هذه الجفوة إلى الطلاق- وهو أبغض الحلال إلى الله- أو إلى الإعراض، الذي يتركها كالمعلقة‏.‏ لا هي زوجة ولا هي مطلقة، فليس هنالك حرج عليها ولا على زوجها، أن تتنازل له عن شيء من فرائضها المالية أو فرائضها الحيوية‏.‏ كأن تترك له جزءاً أو كلاً من نفقتها الواجبة عليه، أو أن تترك له قسمتها وليلتها، إن كانت له زوجة أخرى يؤثرها، وكانت هي قد فقدت حيويتها للعشرة الزوجية أو جاذبيتها‏.‏‏.‏ هذا كله إذا رأت هي- بكامل اختيارها وتقديرها لجميع ظروفها- أن ذلك خير لها وأكرم من طلاقها‏:‏

‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً‏}‏‏.‏‏.‏ هو هذا الصلح الذي أشرنا إليه‏.‏‏.‏

ثم يعقب على الحكم بأن الصلح إطلاقاً خير من الشقاق والجفوة والنشوز والطلاق‏:‏

‏{‏والصلح خير‏}‏‏.‏‏.‏

فينسم على القلوب التي دبت فيها الجفوة والجفاف، نسمة من الندى والإيناس، والرغبة في إبقاء الصلة الزوجية، والرابطة العائلية‏.‏

إن الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بواقعها كله‏.‏ فهو يحاول- بكل وسائله المؤثرة- أن يرفع هذه النفس إلى أعلى مستوى تهيئها له طبيعتها وفطرتها‏.‏

‏.‏ ولكنه في الوقت ذاته لا يتجاهل حدود هذه الطبيعة والفطرة؛ ولا يحاول أن يقسرها على ما ليس في طاقتها؛ ولا يقول للناس‏:‏ اضربوا رؤوسكم في الحائط فأنا أريد منكم كذا والسلام‏!‏ سواء كنتم تستطيعونه أو لا تستطيعونه‏!‏

إنه لا يهتف للنفس البشرية لتبقى على ضعفها وقصورها؛ ولا ينشد لها أناشيد التمجيد وهي تتلبط في الوحل، وتتمرغ في الطين- بحجة أن هذا واقع هذه النفس‏!‏ ولكنه كذلك لا يعلقها من رقبتها في حبل بالملأ الأعلى، ويدعها تتأرجح في الهواء؛ لأن قدميها غير مستقرتين على الأرض‏.‏ بحجة الرفعة والتسامي‏!‏

إنه الوسط‏.‏‏.‏ إنه الفطرة‏.‏‏.‏ إنه المثالية الواقعية‏.‏ أو الواقعية المثالية‏.‏‏.‏ إنه يتعامل مع الإنسان، بما هو إنسان‏.‏ والإنسان مخلوق عجيب‏.‏ هو وحده الذي يضع قدميه على الأرض؛ وينطلق بروحه إلى السماء‏.‏ في لحظة واحدة لا تفارق فيها روحه جسده؛ ولا ينفصل إلى جسد على الأرض وروح في السماء‏!‏

وهو هنا- في هذا الحكم- يتعامل مع هذا الإنسان‏.‏ وينص على خصيصة من خصائصه في هذا المجال‏:‏

‏{‏وأحضرت الأنفس الشح‏}‏‏.‏

أي أن الشح حاضر دائماً في الأنفس‏.‏ وهو دائماً قائم فيها‏.‏ الشح بأنواعه‏.‏ الشح بالمال‏.‏ والشح بالمشاعر‏.‏ وقد تترسب في حياة الزوجين- أو تعرض- أسباب تستثير هذا الشح في نفس الزوج تجاه زوجته‏.‏ فيكون تنازلها له عن شيء من مؤخر صداقها أو من نفقتها- إرضاء لهذا الشح بالمال، تستبقي معه عقدة النكاح‏!‏ وقد يكون تنازلها عن ليلتها- إن كانت له زوجة أخرى أثيرة لديه- والأولى لم تعد فيها حيوية أو جاذبية إرضاء لهذا الشح بالمشاعر، تستبقي معه عقدة النكاح‏!‏ والأمر على كل حال متروك في هذا للزوجة وتقديرها لما تراه مصلحة لها‏.‏‏.‏ لا يلزمها المنهج الرباني بشيء؛ ولكنه فقط يجيز لها التصرف، ويمنحها حرية النظر والتدبر في أمرها وفق ما تراه‏.‏

وفي الوقت الذي يتعامل المنهج الإسلامي مع طبيعة الشح هذه، لا يقف عندها باعتبارها كل جوانب النفس البشرية‏.‏ بل هو يهتف لها هتافاً آخر، ويعزف لها نغمة أخرى‏:‏

‏{‏وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏‏.‏

فالإحسان والتقوى هما مناط الأمر في النهاية‏.‏ ولن يضيع منهما شيء على صاحبه، فإن الله خبير بما تعمله كل نفس؛ خبير ببواعثه وكوامنه‏.‏‏.‏ والهتاف للنفس المؤمنة بالإحسان والتقوى، والنداء لها باسم الله الخبير بما تعمل، هتاف مؤثر، ونداء مستجاب‏.‏‏.‏ بل هو وحده الهتاف المؤثر والنداء المستجاب‏.‏

ومرة أخرى نجدنا أمام المنهج الفريد، وهو يواجه واقع النفس البشرية وملابسات الحياة البشرية، بالواقعية المثالية، أو المثالية الواقعية، ويعترف بما هو كامن في تركيبها من ازدواج عجيب فريد‏:‏

‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء- ولو حرصتم- فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة‏.‏

وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً‏.‏ وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته وكان الله واسعاً حكيماً‏}‏‏.‏

إن الله الذي فطر النفس البشرية، يعلم من فطرتها أنها ذات ميول لا تملكها‏.‏ ومن ثم أعطاها لهذه الميول خطاماً‏.‏ خطاماً لينظم حركتها فقط، لا ليعدمها ويقتلها‏!‏

من هذه الميول أن يميل القلب البشري إلى إحدى الزوجات ويؤثرها على الأخريات‏.‏ فيكون ميله إليها أكثر من الأخرى أو الأخريات‏.‏ وهذا ميل لا حيلة له فيه؛ ولا يملك محوه أو قتله‏.‏‏.‏ فماذا‏؟‏ إن الإسلام لا يحاسبه على أمر لا يملكه ‏;‏ ولا يجعل هذا إثماً يعاقبه عليه ‏;‏ فيدعه موزعاً بين ميل لا يملكه وأمر لا يطيقه‏!‏ بل إنه يصارح الناس بأنهم لن يستطيعوا أن يعدلوا بين النساء- ولو حرصوا- لأن الأمر خارج عن إرادتهم‏.‏‏.‏ ولكن هنالك ما هو داخل في إرادتهم‏.‏ هناك العدل في المعاملة‏.‏ العدل في القسمة‏.‏ العدل في النفقة‏.‏ العدل في الحقوق الزوجية كلها، حتى الابتسامة في الوجه، والكلمة الطيبة باللسان‏.‏‏.‏ وهذا ما هم مطالبون به‏.‏ هذا هو الخطام الذي يقود ذلك الميل‏.‏ لينظمه لا ليقتله‏!‏

‏{‏فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة‏}‏‏.‏‏.‏

فهذا هو المنهي عنه‏.‏ الميل في المعاملة الظاهرة، والميل الذي يحرم الأخرى حقوقها فلا تكون زوجة ولا تكون مطلقة‏.‏‏.‏ ومعه الهتاف المؤثر العميق في النفوس المؤمنة؛ والتجاوز عما ليس في طاقة الإنسان‏.‏

‏{‏وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً‏}‏‏.‏

ولأن الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بجملة ما فيها من مزاج فريد مؤلف من القبضة من الطين والنفخة من روح الله‏.‏ وبجملة ما فيها من استعدادات وطاقات‏.‏ وبواقعيتها المثالية، أو مثاليتها الواقعية، التي تضع قدميها على الأرض، وترف بروحها إلى السماء، دون تناقض ودون انفصام‏.‏

لأن الإسلام كذلك‏.‏‏.‏ كان نبي الإسلام- صلى الله عليه وسلم- هو الصورة الكاملة للإنسانية حين تبلغ أوجها من الكمال؛ فتنمو فيها جميع الخصائص والطاقات نمواً متوازناً متكاملاً في حدود فطرة الإنسان‏.‏

وكان هذا الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو يقسم بين نسائه فيما يملك، ويعدل في هذه القسمة، لا ينكر أنه يؤثر بعضهن على بعض‏.‏ وأن هذا خارج عما يملك‏.‏ فكان يقول‏:‏ «اللهم هذا قسمي فيما أملك‏.‏ فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني القلب ‏(‏أخرجه أبو داود‏)‏‏.‏‏.‏

فأما حين تجف القلوب، فلا تطيق هذه الصلة؛ ولا يبقى في نفوس الزوجين ما تستقيم معه الحياة، فالتفرق إذن خير‏.‏ لأن الإسلام لا يمسك الأزواج بالسلاسل والحبال، ولا بالقيود والأغلال؛ إنما يمسكهم بالمودة والرحمة؛ أو بالواجب والتجمل‏.‏ فإذا بلغ الحال أن لا تبلغ هذه الوسائل كلها علاج القلوب المتنافرة، فإنه لا يحكم عليها أن تقيم في سجن من الكراهية والنفرة؛ أو في رباط ظاهري وانفصام حقيقي‏!‏

‏{‏وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته‏.‏

وكان الله واسعاً حكيماً‏}‏‏.‏‏.‏

فالله يعد كلاً منهما أن يغنيه من فضله هو، ومما عنده هو؛ وهو- سبحانه- يسع عباده ويوسع عليهم بما يشاء في حدود حكمته وعلمه بما يصلح لكل حال‏.‏

إن دراسة هذا المنهج، وهو يعالج مشاعر النفوس، وكوامن الطباع، وأوضاع الحياة في واقعيتها الكلية‏.‏‏.‏ تكشف عن عجب لا ينقضي، من تنكر الناس لهذا المنهج‏.‏‏.‏ هذا المنهج الميسر، الموضوع للبشر، الذي يقود خطاهم من السفح الهابط، في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة؛ وفق فطرتهم واستعدادتهم؛ ولا يفرض عليهم أمراً من الارتفاع والتسامي، إلا وله وتر في فطرتهم يوقع عليه؛ وله استعداد في طبيعتهم يستجيشه؛ وله جذر في تكوينهم يستنبته‏.‏‏.‏ ثم هو يبلغ بهم- بعد هذا كله- إلى ما لا يبلغه بهم منهج آخر‏.‏‏.‏ في واقعية مثالية‏.‏ أو مثالية واقعية‏.‏‏.‏ هي صورة طبق الأصل من تكوين هذا الكائن الفريد‏.‏

ولأن هذه الأحكام الخاصة بتنظيم الحياة الزوجية، قطاع من المنهج الرباني لتنظيم الحياة كلها؛ ولأن هذا المنهج بجملته قطاع من الناموس الكوني، الذي أراده الله للكون كله، فهو يتوافق مع فطرة الله للكون، وفطرة الله للإنسان، الذي يعيش في هذا الكون‏.‏‏.‏ لأن هذه هي الحقيقة العميقة في هذا المنهج الشامل الكبير، يجيء في سياق السورة بعد الأحكام الخاصة بتنظيم الأسرة، ما يربطها بالنظام الكوني كله؛ وسلطان الله في الكون كله، وملكية الله للكون كله‏.‏ ووحدة الوصية التي وصى الله بها الناس في كتبه كلها؛ وثواب الدنيا وثواب الآخرة‏.‏‏.‏ وهي القواعد التي يقوم عليها المنهج كله‏.‏ قواعد الحق والعدل والتقوى‏:‏

‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض‏.‏ ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم‏:‏ أن اتقوا الله‏.‏ وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنياً حميداً، ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً‏.‏ إن يشأ يذهبكم- أيها الناس- ويأت بآخرين‏.‏ وكان الله على ذلك قديراً‏.‏ من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة‏.‏ وكان الله سميعاً بصيراً‏}‏‏.‏

ويكثر في القرآن التعقيب على الأحكام، وعلى الأوامر والنواهي بأن لله ما في السماوات وما في الأرض؛ أو بأن لله ملك السماوات والأرض‏.‏ فالأمران متلازمان في الحقيقة‏.‏ فالمالك هو صاحب السلطان في ملكه؛ وهو صاحب حق التشريع لمن يحتويهم هذا الملك‏.‏ والله وحده هو المالك، ومن ثم فهو وحده صاحب السلطان الذي يشرع به للناس‏.‏ فالأمران متلازمان‏.‏

كذلك يبرز هنا من وصية الله- سبحانه- لكل من أنزل عليهم كتاباً‏.‏

‏.‏ الوصية بالتقوى، وذلك بعد تعيين من له ملكية السماوات والأرض، ومن له حق الوصية في ملكه‏:‏

‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله‏}‏‏.‏

فصاحب السلطان الحقيقي هو الذي يُخشى ويُخاف‏.‏ وتقوى الله هي الكفيلة بصلاح القلوب، وحرصها على منهجه في كل جزئياته‏.‏

كذلك يبين لمن يكفرون ضآلة شأنهم في ملك الله؛ وهو أن أمرهم عليه سبحانه؛ وقدرته على الذهاب بهم والمجيء بغيرهم‏:‏

‏{‏وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض، وكان الله غنياً حميداً‏.‏ ولله ما في السماوات وما في الأرض، وكفى بالله وكيلاً‏.‏ إن يشأ يذهبكم- أيها الناس- ويأت بآخرين‏.‏ وكان الله على ذلك قديراً‏}‏‏.‏‏.‏

فهو- سبحانه- إذ يوصيهم بتقواه، لا يعنيه في شيء ولا يضره في شيء ألا يسمعوا الوصية، وأن يكفروا‏.‏ فإن كفرهم لن ينقص من ملكه شيئاً‏.‏‏.‏ ‏{‏فإن لله ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ وهو قادر على أن يذهب بهم ويستبدل قوماً غيرهم، إنما هو يوصيهم بالتقوى لصلاحهم هم، ولصلاح حالهم‏.‏

وبقدر ما يقرر الإسلام كرامة الإنسان على الله؛ وتكريمه على كل ما في الأرض، وكل من في الكون‏.‏‏.‏ بقدر ما يقرر هو أنه على الله حين يكفر به، ويعتو وتجبر، ويدعي خصائص الألوهية بغير حق‏.‏‏.‏ فهذه كفاء تلك في التصور الإسلامي، وفي حقيقة الأمر والواقع كذلك‏.‏‏.‏

ويختم هذا التعقيب بتوجيه القلوب الطامعة في الدنيا وحدها، إلى أن فضل الله أوسع‏.‏‏.‏ فعنده ثواب الدنيا والآخرة‏.‏‏.‏ وفي استطاعة الذين يقصرون همهم على الدنيا، أن يتطلعوا بأنظارهم وراءها؛ وأن يأملوا في خير الدنيا وخير الآخرة‏.‏

‏{‏من كان يريد ثواب الدنيا، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة‏.‏‏.‏ وكان الله سميعاً بصيراً‏}‏‏.‏‏.‏

وإنه ليكون من الحمق، كما يكون من سقوط الهمة، أن يملك الإنسان التطلع إلى الدنيا والآخرة معاً؛ وإلى ثواب الدنيا وثواب الآخرة جميعاً- وهذا ما يكفله المنهج الإسلامي المتكامل الواقعي المثالي- ثم يكتفي بطلب الدنيا، ويضع فيها همه؛ ويعيش كالحيوان والدواب والهوام؛ بينما هو يملك أن يعيش كالإنسان‏!‏ قدم تدب على الأرض وروح ترف في السماء‏.‏ وكيان يتحرك وفق قوانين هذه الأرض؛ ويملك في الوقت ذاته أن يعيش مع الملأ الأعلى‏!‏

وأخيراً فإن هذه التعقيبات المتنوعة- كما تدل على الصلة الوثيقة بين الأحكام الجزئية في شريعة الله والمنهج الكلي للحياة- تدل في الوقت ذاته على خطورة شأن الأسرة في حساب الإسلام‏.‏ حتى ليربطها بهذه الشؤون الكبرى؛ ويعقب عليها بوصية التقوى الشاملة للأديان جميعاً؛ وإلا فالله قادر على أن يذهب بالناس ويأتي بغيرهم يتبعون وصيته؛ ويقيمون شريعته‏.‏‏.‏ وهو تعقيب خطير‏.‏ يدل على أن أمر الأسرة كذلك خطير في حساب الله‏.‏ وفي منهجه للحياة‏.‏‏.‏