فصل: تفسير الآيات رقم (171- 175)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏171- 175‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏171‏)‏ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ‏(‏172‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏173‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ‏(‏174‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏175‏)‏‏}‏

هذا الدرس جولة مع النصارى من أهل الكتاب، كما كان الدرس الماضي جولة مع اليهود منهم وهؤلاء وهؤلاء من أهل الكتاب، الموجه إليهم هذا الخطاب‏.‏

وفي الدرس الماضي أنصف القرآن عيسى بن مريم وأمه الطاهرة من افتراءات اليهود، وأنصف العقيدة الصحيحة في حكاية صلب المسيح- عليه السلام- وأنصف الحق نفسه من يهود، وأفاعيل يهود، وعنت يهود‏!‏

وفي هذا الدرس يتجه السياق إلى إنصاف الحق والعقيدة، وإنصاف عيسى بن مريم كذلك من غلو النصارى في شأن المسيح- عليه السلام- ومن الأساطير الوثنية التي تسربت إلى النصرانية السمحة من شتى الأقوام، وشتى الملل، التي احتكت بها النصرانية؛ سواء في ذلك أساطير الإغريق والرومان، وأساطير قدماء المصريين، وأساطير الهنود‏!‏

ولقد تولى القرآن الكريم تصحيح عقائد أهل الكتاب التي جاء فوجدها مليئة بالتحريفات مشحونة بالأساطير؛ كما تولى تصحيح عقائد المشركين، المتخلفة من بقايا الحنيفية دين إبراهيم- عليه السلام- في الجزيرة العربية ومن ركام فوقها من أساطير البشر وترهات الجاهلية‏!‏

لا بل جاء الإسلام ليتولى تصحيح العقيدة في الله للبشر أجمعين؛ وينقذها من كل انحراف وكل اختلال، وكل غلو، وكل تفريط، في تفكير البشر أجمعين‏.‏‏.‏ فصحح- فيما صحح- اختلالات تصور التوحيد في أراء أرسطو في أثينا قبل الميلاد، وأفلوطين في الإسكندرية بعد الميلاد؛ وما بينهما وما تلاهما من شتى التصورات في شتى الفلسفات التي كانت تخبط في التيه، معتمدة على ذبالة العقل البشري، الذي لا بد أن تعينه الرسالة، ليهتدي في هذا التيه‏!‏

والقضية التي يعرض لها السياق في هذه الآيات، هي قضية «التثليث» وما تتضمنه من أسطورة «بنوة المسيح» لتقرير وحدانية الله سبحانه على الوجه المستقيم الصحيح‏.‏

ولقد جاء الإسلام والعقيدة التي يعتنقها النصارى- على اختلاف المذاهب- هي عقيدة أن الإله واحد في أقانيم ثلاثة‏:‏ الآب، والابن، والروح القدس‏.‏ والمسيح هو «الابن»‏.‏‏.‏ ثم تختلف المذاهب بعد ذلك في المسيح‏.‏ هل هو ذو طبيعة لاهوتية وطبيعة ناسوتية‏؟‏ أم هل هو ذو طبيعة واحدة لاهوتية فقط‏.‏ وهل هو ذو مشيئة واحدة مع اختلاف الطبيعتين‏؟‏ وهل هو قديم كالآب أو مخلوق‏.‏‏.‏ إلى آخر ما تفرقت به المذاهب، وقامت عليه الاضطهادات بين الفرق المختلفة‏.‏‏.‏ ‏(‏وسيأتي شيء من تفصيل هذا الإجمال في مناسبته في سياق سورة المائدة‏)‏‏.‏

والثابت من التتبع التاريخي لأطوار العقيدة النصرانية، أن عقيدة التثليث، وكذلك عقيدة بنوة المسيح لله- سبحانه- ‏(‏ومثلها عقيدة ألوهية أمه مريم، ودخولها في التثليثات المتعددة الأشكال‏)‏ كلها لم تصاحب النصرانية الأولى‏.‏ إنما دخلت إليها على فترات متفاوتة التاريخ، مع الوثنيين الذين دخلوا في النصرانية، وهم لم يبرأوا بعد من التصورات الوثنية والآلهة المتعددة‏.‏

‏.‏ والتثليث بالذات يغلب أن يكون مقتبساً من الديانات المصرية القديمة، من تثليث «أوزوريس وإيزيس، وحوريس» والتثليثات المتعددة في هذه الديانة‏.‏‏.‏

وقد ظل النصارى الموحدون يقاومون الاضطهادات التي أنزلها بهم الأباطرة الرومان، والمجامع المقدسة الموالية للدولة ‏(‏الملوكانيون‏)‏ إلى ما بعد القرن السادس الميلادي على الرغم من كل ما لاقوه من اضطهاد وتغرب وتشرد بعيداً عن أيدي السلطات الرومانية‏!‏

وما تزال فكرة «التثليث» تصدم عقول المثقفين من النصارى، فيحاول رجال الكنيسة أن يجعلوها مقبولة لهم بشتى الطرق، ومن بينها الإحالة إلى مجهولات لا ينكشف سرها للبشر إلا يوم ينكشف الحجاب عن كل ما في السماوات وما في الأرض‏!‏

يقول القس بوطر صاحب رسالة‏:‏ «الأصول والفروع» أحد شراح العقيدة النصرانية، في هذه القضية‏:‏ «قد فهمنا ذلك على قدر طاقة عقولنا‏.‏ ونرجو أن نفهمه فهماً أكثر جلاء في المستقبل، حين ينكشف لنا الحجاب عن كل ما في السماوات والأرض»‏.‏

ولا نريد هنا أن ندخل في سرد تاريخي للأطوار وللطريقة التي تسللت بها هذه الفكرة إلى النصرانية‏.‏ وهي إحدى ديانات التوحيد الأساسية‏.‏ فنكتفي باستعراض الآيات القرآنية الورادة في سياق هذه السورة، لتصحيح هذه الفكرة الدخيلة على ديانة التوحيد‏!‏

‏{‏يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق‏.‏ إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه‏.‏ فآمنوا بالله ورسله، ولا تقولوا ثلاثة‏.‏ انتهوا خيراً لكم‏.‏ إنما الله إله واحد‏.‏ سبحانه أن يكون له ولد‏.‏ له ما في السماوات وما في الأرض، وكفى بالله وكيلاً‏}‏‏.‏‏.‏

فهو الغلو إذن وتجاوز الحد والحق، هو ما يدعو أهل الكتاب هؤلاء إلى أن يقولوا على الله غير الحق؛ فيزعموا له ولداً- سبحانه- كما يزعمون أن الله الواحد ثلاثة‏.‏‏.‏

وقد تطورت عندهم فكرة البنوة، وفكرة التثليث، حسب رقي التفكير وانحطاطه‏.‏ ولكنهم قد اضطروا أمام الاشمئزاز الفطري من نسبة الولد لله، والذي تزيده الثقافة العقلية، أن يفسروا البنوة بأنها ليست عن ولادة كولادة البشر‏.‏ ولكن عن «المحبة» بين الآب والابن‏.‏ وأن يفسروا الإله الواحد في ثلاثة‏.‏‏.‏ بأنها «صفات» لله سبحانه في «حالات» مختلفة‏.‏‏.‏ وإن كانوا ما يزالون غير قادرين على إدخال هذه التصورات المتناقضة إلى الإدراك البشري‏.‏ فهم يحيلونها إلى معميات غيبية لا تنكشف إلا بانكشاف حجاب السماوات والأرض‏.‏

والله- سبحانه- تعالى عن الشركة؛ وتعالى عن المشابهة‏.‏ ومقتضى كونه خالقاً يستتبع‏.‏‏.‏ بذاته‏.‏‏.‏ أن يكون غير الخلق‏.‏ وما يملك إدراك أن يتصور إلا هذا التغاير بين الخالق والخلق‏.‏ والمالك والملك‏.‏

‏.‏ وإلى هذا يشير النص القرآني‏:‏

‏{‏إنما الله إله واحد‏.‏ سبحانه‏!‏ أن يكون له ولد‏؟‏ له ما في السماوات وما في الأرض‏.‏‏.‏‏}‏

وإذا كان مولد عيسى- عليه السلام- من غير أب عجيباً في عرف البشر، خارقاً لما ألفوه، فهذا العجب إنما تنشئه مخالفة المألوف‏.‏ والمألوف للبشر ليس هو كل الموجود‏.‏ والقوانين الكونية التي يعرفونها ليست هي كل سنة الله‏.‏ والله يخلق السنة ويجريها، ويصرفها حسب مشيئته‏.‏ ولا حد لمشيئته‏.‏

والله- سبحانه- يقول- وقوله الحق- في المسيح‏:‏

‏{‏إنما المسيح عيسى بن مريم، رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه‏}‏‏.‏‏.‏

فهو على وجه القصد والتحديد‏:‏ ‏{‏رسول الله‏}‏‏.‏‏.‏

شأنه في هذا شأن بقية الرسل‏.‏ شأن نوح وإبراهيم وموسى ومحمد، وبقية الرهط الكريم من عباد الله المختارين للرسالة على مدار الزمان‏.‏‏.‏

‏{‏وكلمته ألقاها إلى مريم‏}‏

وأقرب تفسير لهذه العبارة، أنه سبحانه، خلق عيسى بالأمر الكوني المباشر، الذي يقول عنه في مواضع شتى من القرآن‏:‏ إنه «كن‏.‏‏.‏ فيكون»‏.‏‏.‏ فلقد ألقى هذه الكلمة إلى مريم فخلق عيسى في بطنها من غير نطفة أب- كما هو المألوف في حياة البشر غير آدم- والكلمة التي تخلق كل شيء من العدم، لا عجب في أن تخلق عيسى- عليه السلام- في بطن مريم من النفخة التي يعبر عنها بقوله‏:‏

‏{‏وروح منه‏}‏‏.‏‏.‏

وقد نفخ الله في طينة آدم من قبل من روحه‏.‏ فكان «إنساناً»‏.‏‏.‏ كما يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين‏.‏ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين‏}‏ وكذلك قال في قصة عيسى‏:‏ ‏{‏والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا‏}‏‏.‏ فالأمر له سابقة‏.‏‏.‏ والروح هنا هو الروح هناك‏.‏‏.‏ ولم يقل أحد من أهل الكتاب- وهم يؤمنون بقصة آدم والنفخة فيه من روح الله- إن آدم إله، ولا أقنوم من أقانيم الإله‏.‏ كما قالوا عن عيسى؛ مع تشابه الحال- من حيث قضية الروح والنفخة ومن حيث الخلقة كذلك‏.‏ بل إن آدم خلق من غير أب وأم‏:‏ وعيسى خلق مع وجود أم‏.‏‏.‏ وكذلك قال الله‏:‏ ‏{‏إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون‏}‏ ويعجب الإنسان- وهو يرى وضوح القضية وبساطتها- من فعل الهوى ورواسب الوثنية التي عقدت قضية عيسى عليه السلام هذا التعقيد كله، في أذهان أجيال وأجيال وهي- كما يصورها القرآن- بسيطة بسيطة، وواضحة مكشوفة‏.‏

إن الذي وهب لآدم‏.‏‏.‏ من غير أبوين‏.‏‏.‏ حياة إنسانية متميزة عن حياة سائر الخلائق بنفخة من روحه، لهو الذي وهب عيسى‏.‏‏.‏ من غير أب‏.‏‏.‏ هذه الحياة الإنسانية كذلك‏.‏‏.‏ وهذالكلام البسيط الواضح أولى من تلك الأساطير التي لا تنتهي عن ألوهية المسيح، لمجرد أنه جاء من غير أب‏.‏

وعن ألوهية الأقانيم الثلاثة كذلك‏!‏‏.‏‏.‏ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً‏:‏

‏{‏فآمنوا بالله ورسله‏.‏ ولا تقولوا‏:‏ ثلاثة‏.‏ انتهوا خيراً لكم‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه الدعوة للإيمان بالله ورسله- ومن بينهم عيسى بوصفه رسولاً، ومحمد بوصفه خاتم النبيين- والانتهاء عن تلك الدعاوى والأساطير، تجيء في وقتها المناسب بعد هذا البيان الكاشف والتقرير المريح‏.‏‏.‏

‏{‏إنما الله إله واحد‏}‏‏.‏‏.‏ تشهد بهذا وحدة الناموس‏.‏‏.‏ ووحدة الخلق‏.‏ ووحدة الطريقة‏:‏ كن‏.‏‏.‏ فيكون‏.‏‏.‏ ويشهد بذلك العقل البشري ذاته‏.‏ فالقضية في حدود إدراكه‏.‏ فالعقل لا يتصور خالقاً يشبه مخلوقاته، ولا ثلاثة في واحد‏.‏ ولا واحداً في ثلاثة‏:‏

‏{‏سبحانه أن يكون له ولد‏}‏‏.‏‏.‏

والولادة امتداد للفاني ومحاولة للبقاء في صورة النسل‏.‏‏.‏ والله الباقي غني عن الامتداد في صورة الفانين؛ وكل ما في السماوات وما في الأرض ملك له سبحانه على استواء‏:‏

‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏‏.‏‏.‏

ويكفي البشر أن يرتبطوا كلهم بالله ارتباط العبودية للمعبود؛ وهو يرعاهم أجمعين، ولا حاجة لافتراض قرابة بينهم وبينه عن طريق ابن له منهم‏!‏ فالصلة قائمة بالرعاية والكلاءة‏:‏

‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا لا يكتفي القرآن ببيان الحقية وتقريرها في شأن العقيدة‏.‏ إنما يضيف إليها إراحة شعور الناس من ناحية رعاية الله لهم؛ وقيامه- سبحانه- عليهم وعلى حوائجهم ومصالحهم؛ ليكلوا إليه أمرهم كله في طمأنينة‏.‏‏.‏

ويمضي السياق في البيان؛ لتقرير أكبر قضايا التصور الاعتقادي الصحيح، وهي الحقيقة الاعتقادية التي تنشأ في النفس من تقرير حقيقة الوحدانية‏.‏‏.‏ حقيقة أن ألوهية الخالق تتبعها عبودية الخلائق‏.‏‏.‏ وأن هناك فقط‏:‏ ألوهية وعبودية‏.‏‏.‏ ألوهية واحدة، وعبودية تشمل كل شيء، وكل أحد، في هذا الوجود‏.‏

ويصحح القرآن هنا عقيدة النصارى كما يصحح كل عقيدة تجعل للملائكة بنوة كبنوة عيسى، أو شركاً في الألوهية كشركته في الألوهية‏:‏

‏{‏لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله- ولا الملائكة المقربون- ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً‏.‏ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله؛ وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً، ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً‏}‏‏.‏

لقد عني الإسلام عناية بالغة بتقرير حقيقة وحدانية الله سبحانه؛ وحدانية لا تتبلس بشبهة شرك أو مشابهة في صورة من الصور؛ وعني بتقرير أن الله- سبحانه- ليس كمثله شيء‏.‏ فلا يشترك معه شيء في ماهية ولا صفة ولا خاصية‏.‏ كما عني بتقرير حقيقة الصلة بين الله- سبحانه وكل شيء ‏(‏بما في ذلك كل حي‏)‏ وهي أنها صلة ألوهية وعبودية‏.‏ ألوهية الله، وعبودية كل شيء لله‏.‏‏.‏ والمتتبع للقرآن كله يجد العناية فيه بالغة بتقرير هذه الحقائق- أو هذه الحقيقة الواحدة بجوانبها هذه- بحيث لا تدع في النفس ظلاً من شك أو شبهة أو غموض‏.‏

ولقد عني الإسلام كذلك بأن يقرر أن هذه هي الحقيقة التي جاء بها الرسل أجمعون‏.‏ فقررها في سيرة كل رسول، وفي دعوة كل رسول؛ وجعلها محور الرسالة من عهد نوح عليه السلام، إلى عهد محمد خاتم النبيين- عليه الصلاة والسلام- تتكرر الدعوة بها على لسان كل رسول‏:‏ ‏{‏يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏}‏ وكان من العجيب أن أتباع الديانات السماوية- وهي حاسمة وصارمة في تقرير هذه الحقيقة- يكون منهم من يحرف هذه الحقيقة؛ وينسب لله- سبحانه- البنين والبنات؛ أو ينسب لله- سبحانه- الامتزاج مع أحد من خلقه في صورة الأقانيم؛ اقتباساً من الوثنيات التي عاشت في الجاهليات‏!‏

ألوهية وعبودية‏.‏‏.‏ ولا شيء غير هذه الحقيقة‏.‏ ولا قاعدة إلا هذه القاعدة‏.‏ ولا صلة إلا صلة الألوهية بالعبودية، وصلة العبودية بالألوهية‏.‏‏.‏

ولا تستقيم تصورات الناس- كما لا تستقيم حياتهم- إلا بتمحيص هذه الحقيقة من كل غبش، ومن كل شبهة، ومن كل ظل‏!‏

أجل لا تستقيم تصورات الناس، ولا تستقر مشاعرهم، إلا حين يستيقنون حقيقة الصلة بينهم وبين ربهم‏.‏‏.‏

هو إله لهم وهم عبيده‏.‏‏.‏ هو خالق لهم وهم مخاليق‏.‏‏.‏ هو مالك لهم وهم مماليك‏.‏‏.‏ وهم كلهم سواء في هذه الصلة، لا بنوة لأحد‏.‏ ولا امتزاج بأحد‏.‏‏.‏ ومن ثم لا قربى لأحد إلا بشيء يملكه كل أحد ويوجه إرادته إليه فيبلغه‏:‏ التقوى والعمل الصالح‏.‏‏.‏ وهذا في مستطاع كل أحد أن يحاوله‏.‏ فأما البنوة، وأما الامتزاج فانى بهما لكل أحد‏؟‏‏!‏

ولا تستقيم حياتهم وارتباطاتهم ووظائفهم في الحياة، إلا حين تستقر في أخلادهم تلك الحقيقة‏:‏ أنهم كلهم عبيد لرب واحد‏.‏‏.‏ ومن ثم فموقفهم كلهم تجاه صاحب السلطان واحد‏.‏‏.‏ فأما القربى إليه ففي متناول الجميع‏.‏‏.‏ عندئذ تكون المساواة بين بني الانسان، لأنهم متساوون في موقفهم من صاحب السلطان‏.‏‏.‏ وعندئذ تسقط كل دعوى زائفة في الوساطة بين الله والناس؛ وتسقط معها جميع الحقوق المدعاة لفرد أو لمجموعة أو لسلسلة من النسب لطائفة من الناس‏.‏‏.‏ وبغير هذا لا تكون هناك مساواة أصيلة الجذور في حياة بني الإنسان ومجتمعهم ونظامهم ووضعهم في هذا النظام‏!‏

فالمسألة- على هذا- ليست مسألة عقيدة وجدانية يستقر فيها القلب على هذا الأساس الركين، فحسب، إنما هي كذلك مسألة نظام حياة، وارتباطات مجتمع، وعلاقات أمم وأجيال من بني الإنسان‏.‏

إنه ميلاد جديد للإنسان على يد الإسلام‏.‏‏.‏ ميلاد للإنسان المتحرر من العبودية للعباد، بالعبودية لرب العباد‏.‏‏.‏ ومن ثم لم تقم في تاريخ الإسلام «كنيسة» تستذل رقاب الناس، بوصفها الممثلة لابن الله، أو للأقنوم المتمم للأقانيم الإلهية؛ المستمدة لسلطانها من سلطان الابن أو سلطان الأقنوم‏.‏

ولم تقم كذلك في تاريخ الإسلام سلطة مقدسة تحكم «بالحق الإلهي» زاعمة أن حقها في الحكم والتشريع مستمد من قرابتها أو تفويضها من الله‏!‏

وقد ظلَّ «الحق المقدس» للكنيسة والبابوات في جانب؛ وللأباطرة الذين زعموا لأنفسهم حقاً مقدساً كحق الكنيسة في جانب‏.‏‏.‏ ظل هذا الحق أو ذاك قائماً في أوربا باسم ‏(‏الابن‏)‏ أو مركب الأقانيم‏.‏ حتى جاء «الصليبيون» إلى أرض الإسلام مغيرين‏.‏ فلما ارتدوا أخذوا معهم من أرض الإسلام بذرة الثورة على «الحق المقدس» وكانت فيما بعد ثورات «مارتن لوثر» و«كالفن» و«زنجلي» المسماة بحركة الإصلاح‏.‏‏.‏ على أساس من تأثير الإسلام، ووضوح التصور الإسلامي، ونفي القداسة عن بني الإنسان؛ ونفي التفويض في السلطان‏.‏‏.‏ لأنه ليست هنالك إلا ألوهية وعبودية في عقيدة الإسلام‏.‏‏.‏

وهنا يقول القرآن كلمة الفصل في ألوهية المسيح وبنوته؛ وألوهية روح القدس ‏(‏أحد الأقانيم‏)‏ وفي كل أسطورة عن بنوة أحد لله، أو ألوهية أحد مع الله، في أي شكل من الأشكال‏.‏‏.‏ يقول القرآن كلمة الفصل بتقريره أن عيسى بن مريم عبد لله؛ وأنه لن يستنكف أن يكون عبداً لله‏.‏ وأن الملائكة المقربين عبيد لله؛ وأنهم لن يستنكفوا أن يكونوا عبيداً لله‏.‏ وأن جميع خلائقه ستحشر إليه‏.‏ وأن الذين يستنكفون عن صفة العبودية ينتظرهم العذاب الأليم‏.‏ وأن الذين يقرون بهذه العبودية لهم الثواب العظيم‏:‏

‏{‏لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله- ولا الملائكة المقربون- ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً‏.‏ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله‏.‏ وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً، ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً‏}‏‏.‏

إن المسيح عيسى بن مريم لن يتعالى عن أن يكون عبداً لله‏.‏ لأنه- عليه السلام- وهو نبي الله ورسوله- خير من يعرف حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية؛ وأنهما ماهيتان مختلفتان لا تمتزجان‏.‏ وهو خير من يعرف أنه من خلق الله؛ فلا يكون خلق الله كالله؛ أو بعضاً من الله‏!‏ وهو خير من يعرف أن العبودية لله- فضلاً على أنها الحقيقة المؤكدة الوحيدة- لا تنقص من قدره‏.‏ فالعبودية لله مرتبة لا يأباها إلا كافر بنعمة الخلق والإنشاء‏.‏ وهي المرتبة التي يصف الله بها رسله، وهم في أرقى حالاتهم وأكرمها عنده‏.‏‏.‏ وكذلك الملائكة المقربون- وفيهم روح القدس جبريل- شأنهم شأن عيسى عليه السلام وسائر الأنبياء- فما بال جماعة من أتباع المسيح يأبون له ما يرضاه لنفسه ويعرفه حق المعرفة‏؟‏‏!‏

‏{‏ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً‏}‏‏.‏‏.‏

فاستنكافهم واستكبارهم لا يمنعهم من حشر الله لهم بسلطانه‏.‏

‏.‏ سلطان الألوهية على العباد‏.‏‏.‏ شأنهم في هذا شأن المقرين بالعبودية المستسلمين لله‏.‏‏.‏

فأما الذين عرفوا الحق، فأقروا بعبوديتهم لله؛ وعملوا الصالحات لأن عمل الصالحات هو الثمرة الطبيعية لهذه المعرفة وهذا الإقرار؛ فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله‏.‏

‏{‏وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً‏}‏‏.‏‏.‏

وما يريد الله- سبحانه- من عباده أن يقروا له بالعبودية، وأن يعبدوه وحده، لأنه بحاجة إلى عبوديتهم وعبادتهم، ولا لأنها تزيد في ملكه تعالى أو تنقص من شيء‏.‏ ولكنه يريد لهم أن يعرفوا حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، لتصح تصوراتهم ومشاعرهم، كما تصح حياتهم وأوضاعهم‏.‏ فما يمكن أن تستقر التصورات والمشاعر، ولا أن تستقر الحياة والأوضاع، على أساس سليم قويم، إلا بهذه المعرفة وما يتبعها من إقرار، وما يتبع الإقرار من آثار‏.‏‏.‏

يريد الله- سبحانه- أن تستقر هذه الحقيقة بجوانبها التي بيناها في نفوس الناس وفي حياتهم‏.‏ ليخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده‏.‏ ليعرفوا مَنْ صاحب السلطان في هذا الكون وفي هذه الأرض؛ فلا يخضعوا إلا له، وإلا لمنهجه وشريعته للحياة، وإلا لمن يحكم حياتهم بمنهجه وشرعه دون سواه‏.‏ يريد أن يعرفوا أن العبيد كلهم عبيد؛ ليرفعوا جباههم أمام كل من عداه؛ حين تعنو له وحده الوجوه والجباه‏.‏ يريد أن يستشعروا العزة أمام المتجبرين والطغاة، حين يخرون له راكعين ساجدين يذكرون الله ولا يذكرون أحداً إلا الله‏.‏ يريد أن يعرفوا أن القربى إليه لا تجيء عن صهر ولا نسب‏.‏ ولكن تجيء عن تقوى وعمل صالح؛ فيعمرون الأرض ويعملون الصالحات قربى إلى الله‏.‏ يريد أن تكون لهم معرفة بحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، فتكون لهم غيرة على سلطان الله في الأرض أن يدعيه المدعون باسم الله أو باسم غير الله فيردون الأمر كله لله‏.‏‏.‏ ومن ثم تصلح حياتهم وترقى وتكرم على هذا الأساس‏.‏‏.‏

إن تقدير هذه الحقيقة الكبيرة؛ وتعليق أنظار البشر لله وحده؛ وتعليق قلوبهم برضاه؛ وأعمالهم بتقواه؛ ونظام حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه‏.‏‏.‏ إن هذا كله رصيد من الخير والكرامة والحرية والعدل والاستقامة يضاف إلى حساب البشرية في حياتها الأرضية؛ وزاد من الخير والكرامة والحرية والعدل والاستقامة تستمتع به في الأرض‏.‏‏.‏ في هذه الحياة‏.‏‏.‏ فأما ما يجزي الله به المؤمنين المقرين بالعبودية العاملين للصالحات، في الآخرة، فهو كرم منه وفضل في حقيقة الأمر‏.‏ وفيض من عطاء الله‏.‏

وفي هذا الضوء يجب أن ننظر إلى قضية الإيمان بالله في الصورة الناصعة التي جاء بها الإسلام؛ وقرر أنها قاعدة الرسالة كلها ودعوة الرسل جميعاً؛ قبل أن يحرفها الأتباع، وتشوهها الأجيال‏.‏‏.‏ يجب أن ننظر إليها بوصفها ميلاداً جديداً للإنسان؛ تتوافر له معه الكرامة والحرية، والعدل والصلاح، والخروج من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده في الشعائر وفي نظام الحياة سواء‏.‏

والذين يستنكفون من العبودية لله، يذلون لعبوديات في هذه الأرض لا تنتهي‏.‏‏.‏ يذلون لعبودية الهوى والشهوة‏.‏ أو عبودية الوهم والخرافة‏.‏ ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم، ويحنون لهم الجباه‏.‏ ويحكمون في حياتهم وأنظمتهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم عبيداً مثلهم من البشر هم وهم سواء أمام الله‏.‏‏.‏ ولكنهم يتخذونهم آلهة لهم من دون الله‏.‏‏.‏ هذا في الدنيا‏.‏‏.‏ أما في الآخرة ‏{‏فيعذبهم عذاباً أليماً، ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً‏}‏‏.‏‏.‏

إنها القضية الكبرى في العقيدة السماوية تعرضها هذه الآية في هذا السياق في مواجهة انحراف أهل الكتاب من النصارى في ذلك الزمان‏.‏ وفي مواجهة الانحرافات كلها إلى آخر الزمان‏.‏‏.‏

ومن ثم دعوة إلى الناس كافة- كتلك الدعوة التي أعقبت المواجهة مع أهل الكتاب من اليهود في الدرس الماضي- أن الرسالة الأخيرة تحمل برهانها من الله‏.‏ وهي نور كاشف للظلمات والشبهات‏.‏ فمن اهتدى بها واعتصم بالله فسيجد رحمة الله تؤويه؛ وسيجد فضل الله يشمله؛ وسيجد في ذلك النور والهدى إلى صراط الله المستقيم‏:‏

‏{‏يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم؛ وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً‏.‏ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل، ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا القرآن يحمل برهانه للناس من رب الناس‏.‏

‏{‏يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم‏}‏‏.‏

إن طابع الصنعة الربانية ظاهر فيه؛ يفرقه عن كلام البشر وعن صنع البشر‏.‏‏.‏ في مبناه وفي فحواه سواء‏.‏ وهي قضية واضحة يدركها أحياناً من لا يفهمون من العربية حرفاً واحداً، بصورة تدعو إلى العجب‏.‏

كنا على ظهر الباخرة في عرض الأطلنطي في طريقنا إلى نيويورك، حينما أقمنا صلاة الجمعة على ظهر المركب‏.‏‏.‏ ستة من الركاب المسلمين من بلاد عربية مختلفة وكثير من عمال المركب أهل النوبة‏.‏ وألقيت خطبة الجمعة متضمنة آيات من القرآن في ثناياها‏.‏ وسائر ركاب السفينة من جنسيات شتى متحلقون يشاهدون‏!‏

وبعد انتهاء الصلاة جاءت إلينا- من بين من جاء يعبر لنا عن تأثره العميق بالصلاة الإسلامية- سيدة يوغسلافية فارة من الشيوعية إلى الولايات المتحدة‏!‏ جاءتنا وفي عينيها دموع لا تكاد تمسك بها وفي صوتها رعشة‏.‏ وقالت لنا في انجليزية ضعيفة‏:‏ أنا لا أملك نفسي من الإعجاب البالغ بالخشوع البادي في صلاتكم‏.‏‏.‏ ولكن ليس هذا ما جئت من أجله‏.‏‏.‏ إنني لا أفهم من لغتكم حرفاً واحداً‏.‏ غير أنني أحس أن فيها إيقاعاً موسيقياً لم أعهده في أية لغة‏.‏‏.‏ ثم‏.‏‏.‏ إن هناك فقرات مميزة في خطبة الخطيب‏.‏ هي أشد إيقاعاً‏.‏ ولها سلطان خاص على نفسي‏!‏‏!‏‏!‏

وعرفت طبعاً أنها الآيات القرآنية، المميزة الإيقاع ذات السلطان الخاص‏!‏

لا أقول‏:‏ إن هذه قاعدة عند كل من يسمع ممن لا يعرفون العربية‏.‏

‏.‏ ولكنها ولا شك ظاهرة ذات دلالة‏!‏

فأما الذين لهم ذوق خاص في هذه اللغة، وحس خاص بأساليبها، فقد كان من أمرهم ما كان؛ يوم واجههم محمد- صلى الله عليه وسلم- بهذا القرآن‏.‏‏.‏ وقصة الأخنس بن شريق، وأبي سفيان بن حرب، وأبي جهل وعمرو بن هشام، في الاستماع سراً للقرآن، وهم به مأخوذون، قصة مشهورة‏.‏ وهي إحدى القصص الكثيرة‏.‏‏.‏ والذين لهم ذوق في أي جيل يعرفون ما في القرآن من خصوصية وسلطان وبرهان من هذا الجانب‏.‏‏.‏

فأما فحوى القرآن‏.‏‏.‏ التصور الذي يحمله‏.‏ والمنهج الذي يقرره‏.‏ والنظام الذي يرسمه‏.‏ و«التصميم» الذي يضعه للحياة‏.‏‏.‏ فلا نملك هنا أن نفصله‏.‏‏.‏ ولكن فيه البرهان كل البرهان على المصدر الذي جاء منه؛ وعلى أنه ليس من صنع الإنسان، لأنه يحمل طابع صنعة كاملة ليس هو طابع الإنسان‏.‏

وفي هذا القرآن نور‏:‏

‏{‏وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً‏}‏‏.‏‏.‏

نور تتجلى تحت أشعته الكاشفة حقائق الأشياء واضحة؛ ويبدو مفرق الطريق بين الحق والباطل محدداً مرسوماً‏.‏‏.‏ في داخل النفس وفي واقع الحياة سواء‏.‏‏.‏ حيث تجد النفس من هذا النور ما ينير جوانبها أولاً؛ فترى كل شيء فيها ومن حولها واضحاً‏.‏‏.‏ حيث يتلاشى الغبش وينكشف؛ وحيث تبدو الحقيقة بسيطة كالبديهية، وحيث يعجب الإنسان من نفسه كيف كان لا يرى هذا الحق وهو بهذا الوضوح وبهذه البساطة‏؟‏‏!‏

وحين يعيش الإنسان بروحه في الجو القرآني فترة؛ ويتلقى منه تصوراته وقيمه وموازينه، يحس يسراً وبساطة ووضوحاً في رؤية الأمور‏.‏ ويشعر أن مقررات كثيرة كانت قلقة في حسه قد راحت تأخذ أماكنها في هدوء؛ وتلتزم حقائقها في يسر؛ وتنفي ما علق بها من الزيادات المتطفلة لتبدو في براءتها الفطرية، ونصاعتها كما خرجت من يد الله‏.‏‏.‏

ومهما قلت في هذا التعبير‏:‏ ‏{‏وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً‏}‏‏.‏‏.‏ فإنني لن أصور بألفاظي حقيقته، لمن لم يذق طعمه ولم يجده في نفسه‏!‏ ولا بد من المكابدة في مثل هذه المعاني‏!‏ ولا بد من التذوق الذاتي‏!‏ ولا بد من التجربة المباشرة‏!‏

‏{‏فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل، ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً‏}‏‏.‏‏.‏

والاعتصام بالله ثمرة ملازمة للإيمان به‏.‏‏.‏ متى صح الإيمان، ومتى عرفت النفس حقيقة الله وعرفت حقيقة عبودية الكل له‏.‏ فلا يبقى أمامها إلا أن تعتصم بالله وحده‏.‏ وهو صاحب السلطان والقدرة وحده‏.‏‏.‏ وهؤلاء يدخلهم الله في رحمة منه وفضل‏.‏ رحمة في هذه الحياة الدنيا- قبل الحياة الأخرى- وفضل في هذه العاجلة- قبل الفضل في الآجلة- فالإيمان هو الواحة الندية التي تجد فيها الروح الظلال من هاجرة الضلال في تيه الحيرة والقلق والشرود‏.‏

كما أنه هو القاعدة التي تقوم عليها حياة المجتمع ونظامه؛ في كرامة وحرية ونظافة واستقامة- كما أسلفنا- حيث يعرف كل إنسان مكانه على حقيقته‏.‏ عبد لله وسيد مع كل من عداه‏.‏‏.‏ وليس هذا في أي نظام آخر غير نظام الإيمان- كما جاء به الإسلام- هذا النظام الذي يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده‏.‏ حين يوحد الألوهية؛ ويسوي بين الخلائق جميعاً في العبودية‏.‏ وحيث يجعل السلطان لله وحده والحاكمية لله وحده؛ فلا يخضع بشر لتشريع بشر مثله، فيكون عبداً له مهما تحرر‏!‏

فالذين آمنوا في رحمة من الله وفضل، في حياتهم الحاضرة، وفي حياتهم الآجلة سواء‏.‏‏.‏

‏{‏ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً‏}‏‏.‏‏.‏

وكلمة ‏{‏إليه‏}‏‏.‏‏.‏ تخلع على التعبير حركة مصورة‏.‏ إذ ترسم المؤمنين ويد الله تنقل خطاهم في الطريق إلى الله على استقامة؛ وتقربهم إليه خطوة خطوة‏.‏‏.‏ وهي عبارة يجد مدلولها في نفسه من يؤمن بالله على بصيرة، فيعتصم به على ثقة‏.‏‏.‏ حيث يحس في كل لحظة أنه يهتدي؛ وتتضح أمامه الطريق؛ ويقترب فعلاً من الله كأنما هو يخطو إليه في طريق مستقيم‏.‏

إنه مدلول يذاق‏.‏‏.‏ ولا يعرف حتى يذاق‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏176‏]‏

‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏176‏)‏‏}‏

وهكذا تختم السورة التي بدأت بعلاقات الأسرة، وتكافلها الاجتماعي؛ وتضمنت الكثير من التنظيمات الاجتماعية في ثناياها‏.‏‏.‏ تختم بتكملة أحكام الكلالة- وهي على قول أبي بكر رضي الله عنه وهو قول الجماعة‏:‏ ما ليس فيها ولد ولا والد‏.‏

وقد ورد شطر هذه الأحكام في أول السورة‏.‏ وهو الشطر المتعلق بوراثة الكلالة من جهة الرحم حين لا توجد عصبة‏.‏ وقد كان نصه هناك‏:‏ ‏{‏وإن كان رجل يورث كلالة- أو امرأة- وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس‏.‏ فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث- من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار- وصية من الله، والله عليم حليم‏}‏ فالآن يستكمل الشطر الآخر في وراثة الكلالة‏.‏‏.‏ فإن كانت للمتوفى، الذي لا ولد له ولا والد، أخت شقيقة أو لأب، فلها نصف ما ترك أخوها‏.‏ وهو يرث تركتها- بعد أصحاب الفروض- إن لم يكن لها ولد ولا والد كذلك‏.‏ فإن كانتا أختين شقيقتين أو لأب فلهما الثلثان مما ترك‏.‏ وإن تعدد الإخوة والأخوات فللذكر مثل حظ الأنثيين- حسب القاعدة العامة في الميراث- والإخوة والأخوات الأشقاء يحجبون الإخوة والأخوات لأب حين يجتمعون‏.‏

وتختم آية الميراث، وتختم معها السورة، بذلك التعقيب القرآني الذي يرد الأمور كلها لله، ويربط تنظيم الحقوق والواجبات، والأموال وغير الأموال بشريعة الله‏:‏

‏{‏يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم‏}‏‏.‏‏.‏

صيغة جامعة شاملة ‏{‏بكل شيء‏}‏ من الميراث وغير الميراث‏.‏ من علاقات الأسر وعلاقات الجماعات‏.‏ من الأحكام والتشريعات‏.‏‏.‏ فإما اتباع بيان الله في كل شيء، وإما الضلال‏.‏‏.‏ طريقان اثنان لحياة الناس لا ثالث لهما‏:‏ طريق بيان الله فهو الهدى‏.‏ وطريق من عداه فهو الضلال‏.‏

وصدق الله‏:‏ فماذا بعد الحق إلا الضلال‏؟‏

سورة المائدة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏2‏)‏ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏3‏)‏ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏4‏)‏ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏6‏)‏ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏10‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود‏}‏‏.‏‏.‏

إنه لا بد من ضوابط للحياة‏.‏‏.‏ حياة المرء مع نفسه التي بين جنبيه؛ وحياته مع غيره من الناس ومن الأحياء والأشياء عامة‏.‏‏.‏ الناس من الأقربين والأبعدين، من الأهل والعشيرة، ومن الجماعة والأمة؛ ومن الأصدقاء والأعداء‏.‏‏.‏ والأحياء مما سخر الله للإنسان ومما لم يسخر‏.‏‏.‏ والأشياء مما يحيط بالإنسان في هذا الكون العريض‏.‏‏.‏ ثم‏.‏‏.‏ حياته مع ربه ومولاه وعلاقته به وهي أساس كل حياة‏.‏

والإسلام يقيم هذه الضوابط في حياة الناس‏.‏ يقيمها ويحددها بدقة ووضوح؛ ويربطها كلها بالله سبحانه؛ ويكفل لها الاحترام الواجب، فلا تنتهك، ولا يستهزأ بها؛ ولا يكون الأمر فيها للأهواء والشهوات المتقلبة؛ ولا للمصالح العارضة التي يراها فرد، أو تراها مجموعة أو تراها أمة، أو يراها جيل من الناس فيحطمون في سبيلها تلك الضوابط‏.‏‏.‏ فهذه الضوابط التي أقامها الله وحددها هي «المصلحة» ما دام أن الله هو الذي أقامها للناس‏.‏‏.‏ هي المصلحة ولو رأى فرد، أو رأت مجموعة أو رأت أمة من الناس أو جيل أن المصلحة غيرها‏!‏ فالله يعلم والناس لا يعلمون‏!‏ وما يقرره الله خير لهم مما يقررون‏!‏ وأدنى مراتب الأدب مع الله- سبحانه- أن يتهم الإنسان تقديره الذاتي للمصلحة أمام تقدير الله‏.‏ أما حقيقة الأدب فهي ألا يكون له تقدير إلا ما قدر الله‏.‏ وألا يكون له مع تقدير الله، إلا الطاعة والقبول والاستسلام، مع الرضى والثقة والاطمئنان‏.‏‏.‏

هذه الضوابط يسميها الله «العقود»‏.‏‏.‏ ويأمر الذين آمنوا به أن يوفوا بهذه العقود‏.‏‏.‏

وافتتاح هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود، ثم المضي بعد هذا الافتتاح في بيان الحلال والحرام من الذبائح والمطاعم والمشارب والمناكح‏.‏ وفي بيان الكثير من الأحكام الشرعية والتعبدية‏.‏ وفي بيان حقيقة العقيدة الصحيحة‏.‏ وفي بيان حقيقة العبودية وحقيقة الألوهية‏.‏ وفي بيان علاقات الأمة المؤمنة بشتى الأمم والملل والنحل‏.‏ وفي بيان تكاليف الأمة المؤمنة في القيام لله والشهادة بالقسط والوصاية على البشرية بكتابها المهيمن على كل الكتب قبلها، والحكم فيها بما أنزل الله كله؛ والحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل الله؛ والحذر من عدم العدل تأثراً بالمشاعر الشخصية والمودة والشنآن‏.‏‏.‏

افتتاح السورة على هذا النحو، والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة «العقود» معنى أوسع من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة‏.‏ ويكشف عن أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها الله‏.‏‏.‏ وفي أولها عقد الإيمان بالله؛ ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه، ومقتضى العبودية لألوهيته‏.‏‏.‏ هذا العقد الذي تنبثق منه، وتقوم عليه سائر العقود؛ وسائر الضوابط في الحياة‏.‏

وعقد الإيمان بالله؛ والاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته؛ ومقتضيات هذا الاعتراف من العبودية الكاملة، والالتزام الشامل والطاعة المطلقة والاستسلام العميق‏.‏

‏.‏ هذا العقد أخذه الله ابتداء على آدم- عليه السلام- وهو يسلمه مقاليد الخلافة في الأرض، بشرط وعقد هذا نصه القرآني‏:‏ ‏{‏قلنا‏:‏ اهبطوا منها جميعاً‏.‏ فإما يأتينكم مني هدى، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏.‏ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ فهي خلافة مشروطة باتباع هدى الله الذي ينزله في كتبه على رسله؛ وإلا فهي المخالفة لعقد الخلافة والتمليك‏.‏ المخالفة التي تجعل كل عمل مخالف لما أنزل الله، باطلاً بطلاناً أصلياً، غير قابل للتصحيح المستأنف‏!‏ وتحتم على كل مؤمن بالله، يريد الوفاء بعقد الله، أن يرد هذا الباطل، ولا يعترف به؛ ولا يقبل التعامل على أساسه‏.‏ وإلا فما أوفى بعقد الله‏.‏

ولقد تكرر هذا العقد- أو هذا العهد- مع ذرية آدم‏.‏ وهم بعد في ظهور آبائهم‏.‏ كما ورد في السورة الأخرى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم‏:‏ ألست بربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى شهدنا‏!‏ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين‏.‏ أو تقولوا‏:‏ إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم‏.‏ أفتهلكنا بما فعل المبطلون‏؟‏‏}‏ فهذا عقد آخر مع كل فرد؛ عقد يقرر الله- سبحانه- أنه أخذه على بني آدم كلهم وهم في ظهور آبائهم‏.‏‏.‏ وليس لنا أن نسأل‏:‏ كيف‏؟‏ لأن الله أعلم بخلقه؛ وأعلم كيف يخاطبهم في كل طور من أطوار حياتهم‏.‏ بما يلزمهم الحجة‏.‏ وهو يقول‏:‏ إنه أخذ عليهم هذا العهد، على ربوبيته لهم‏.‏‏.‏ فلا بد أن ذلك كان، كما قال الله سبحانه‏.‏‏.‏ فإذا لم يفوا بتعاقدهم هذا مع ربهم لم يكونوا أوفياء‏!‏

ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل- كما سيجيء في السورة- يوم نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم‏.‏‏.‏ وسنعلم- من السياق- كيف لم يفوا بالميثاق؛ وكيف نالهم من الله ما ينال كل من ينقض الميثاق‏.‏

والذين آمنوا بمحمد- صلى الله عليه وسلم- قد تعاقدوا مع الله- على يديه- تعاقداً عاماً على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله «‏.‏

وبعضهم وقعت له بعد ذلك عقود خاصة قائمة على ذلك التعاقد العام‏.‏‏.‏ ففي بيعة العقبة الثانية التي ترتبت عليها هجرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، كان هناك عقد مع نقباء الأنصار‏.‏‏.‏ وفي الحديبية كان هناك عقد الشجرة وهو» بيعة الرضوان «‏.‏

وعلى عقد الإيمان بالله، والعبودية لله، تقوم سائر العقود‏.‏‏.‏ سواء ما يختص منها بكل أمر وكل نهي في شريعة الله، وما يتعلق بكل المعاملات مع الناس والأحياء والأشياء في هذا الكون في حدود ما شرع الله- فكلها عقود ينادي الله الذين آمنوا، بصفتهم هذه، أن يوفوا بها‏.‏

إذ أن صفة الإيمان ملزمة لهم بهذا الوفاء، مستحثة لهم كذلك على الوفاء‏.‏‏.‏ ومن ثم كان هذا النداء‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يأخذ في تفصيل بعض هذه العقود‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود‏.‏‏.‏ أحلت لكم بهيمة الأنعام- إلا ما يتلى عليكم- غير محلِّي الصيد وأنتم حرم‏.‏ إن الله يحكم ما يريد‏.‏‏.‏ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله، ولا الشهر الحرام، ولا الهدي، ولا القلائد، ولا آمَّين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً‏.‏ وإذا حللتم فاصطادوا، ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا‏.‏ وتعاونوا على البر والتقوى‏.‏ ولا تعانوا على الإثم والعدوان‏.‏ واتقوا الله‏.‏ إن الله شديد العقاب‏.‏ حرمت عليكم الميتة، والدم ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع إلا- ما ذكيتم- وما ذبح على النصب، وأن تستقسموا بالأزلام‏.‏ ذلكم فسق‏.‏‏.‏ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم، فلا تخشوهم واخشون‏.‏‏.‏ اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً‏.‏‏.‏ فمن اضطر في مخمصة- غير متجانف لإثم- فإن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

إن هذا التحريم والتحليل في الذبائح، وفي الأنواع، وفي الأماكن، وفي الأوقات‏.‏‏.‏ إن هذا كله من «العقود»‏.‏‏.‏ وهي عقود قائمة على عقد الإيمان ابتداء‏.‏ فالذين آمنوا يقتضيهم عقد الإيمان أن يتلقوا التحريم والتحليل من الله وحده؛ ولا يتلقوا في هذا شيئاً من غيره‏.‏‏.‏ ومن ثم نودوا هذا النداء، في مطلع هذا البيان‏.‏‏.‏ وأخذ بعده في بيان الحلال والحرام‏:‏

‏{‏أحلت لكم بهيمة الأنعام- إلا ما يتلى عليكم-‏}‏‏.‏‏.‏

وبمقتضي هذا الإحلال من الله؛ وبمقتضى إذنه هذا وشرعه- لا من أي مصدر آخر ولا استمداداً من أي أصل آخر- صار حلالاً لكم ومباحاً أن تأكلوا من كل ما يدخل تحت مدلول ‏{‏بهيمة الأنعام‏}‏ من الذبائح والصيد- إلا ما يتلى عليكم تحريمه منها- وهو الذي سيرد ذكره محرماً‏.‏‏.‏ إما حرمة وقتية أو مكانية؛ وإما حرمة مطلقة في أي مكان وفي أي زمان‏.‏ وبهيمة الأنعام تشمل الإبل والبقر والغنم؛ ويضاف إليها الوحشي منها، كالبقر الوحشي، والحمر الوحشية والظباء‏.‏

ثم يأخذ في الاستثناء من هذا العموم‏.‏‏.‏ وأول المستثنيات الصيد في حال الإحرام‏:‏

‏{‏غير محلِّي الصيد وأنتم حرم‏}‏‏.‏‏.‏

والتحريم هنا ينطبق ابتداء على عملية الصيد ذاتها‏.‏ فالإحرام للحج أو للعمرة، تجرد عن أسباب الحياة العادية وأساليبها المألوفة وتوجه إلى الله في بيته الحرام، الذي جعله الله مثابة الأمان‏.‏

‏.‏ ومن ثم ينبغي عنده الكف عن بسط الأكف إلى أي حي من الأحياء‏.‏‏.‏ وهي فترة نفسية ضرورية للنفس البشرية؛ تستشعر فيها صلة الحياة بين جميع الأحياء في واهب الحياة؛ وتأمن فيها وتؤمن كذلك من كل اعتداء؛ وتتخفف من ضرورات المعاش التي أحل من أجلها صيد الطير والحيوان واكله؛ لترتفع في هذه الفترة على مألوف الحياة وأساليبها، وتتطلع إلى هذا الأفق الرفاف الوضيء‏.‏

وقبل أن يمضي السياق في بيان المستثنيات من حكم الحل العام، يربط هذا العقد بالعقد الأكبر، ويذكر الذين آمنوا بمصدر ذلك الميثاق‏:‏

‏{‏إن الله يحكم ما يريد‏}‏‏.‏‏.‏

طليقة مشيئته، حاكمة إرادته، متفرداً- سبحانه- بالحكم وفق ما يريد‏.‏ ليس هنالك من يريد معه؛ وليس هنالك من يحكم بعده؛ ولا راد لما يحكم به‏.‏‏.‏ وهذا هو حكمه في حل ما يشاء وحرمة ما يشاء‏.‏‏.‏

ثم يستأنف نداء الذين آمنوا لينهاهم عن استحلال حرمات الله‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله‏.‏ ولا الشهر الحرام‏.‏ ولا الهدي‏.‏ ولا القلائد‏.‏ ولا آمِّين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً‏.‏ وإذا حللتم فاصطادوا‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

وأقرب ما يتجه إليه الذهن في معنى ‏{‏شعائر الله‏}‏ في هذا المقام أنها شعائر الحج والعمرة وما تتضمنه من محرمات على المحرم للحج او العمرة حتى ينتهي حجه بنحر الهدي الذي ساقه إلى البيت الحرام؛ فلا يستحلها المحرم في فترة إحرامه؛ لأن استحلالها فيه استهانة بحرمة الله الذي شرع هذه الشعائر‏.‏ وقد نسبها السياق القرآني إلى الله تعظيماً لها، وتحذيراً من استحلالها‏.‏

والشهر الحرام يعني الأشهر الحرم؛ وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم‏.‏ وقد حرم الله فيها القتال- وكانت العرب قبل الإسلام تحرمها- ولكنها تتلاعب فيها وفق الأهواء؛ فينسئونها- أي يؤجلونها- بفتوى بعض الكهان، أو بعض زعماء القبائل القوية‏!‏ من عام إلى عام‏.‏ فلما جاء الإسلام شرع الله حرمتها، وأقام هذه الحرمة على أمر الله، يوم خلق الله السماوات والأرض كما قال في آية التوبة‏:‏ ‏{‏إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم‏.‏ ذلك الدين القيم‏.‏‏.‏‏}‏ وقرر أن النسيء زيادة في الكفر‏.‏ واستقام الأمر فيها على أمر الله‏.‏‏.‏ ما لم يقع الاعتداء فيها على المسلمين، فإن لهم حينئذ ان يردوا الاعتداء؛ وألا يدعوا المعتدين يحتمون بالأشهر الحرم- وهم لا يرعون حرمتها- ويتترسون خلفها للنيل من المسلمين، ثم يذهبون ناجين‏!‏ وبين الله حكم القتال في الأشهر الحرم كما مر بنا في سورة البقرة‏.‏

والهدي وهو الذبيحة التي يسوقها الحاج أو المعتمر؛ وينحرها في آخر أيام الحج أو العمرة، فينهي بها شعائر حجه أو عمرته، وهي نافة أو بقرة أو شاة‏.‏

‏.‏ وعدم حلها معناه ألا ينحرها لأي غرض آخر غير ما سيقت له؛ ولا ينحرها إلا يوم النحر في الحج وعند انتهاء العمرة في العمرة‏.‏ ولا ينتفع من لحومها وجلودها وأشعارها وأوبارها بشيء؛ بل يجعلها كلها للفقراء‏.‏

والقلائد‏.‏ وهي الأنعام المقلدة التي يقلدها أصحابها- أي يضعون في رقبتها قلادة- علامة على نذرها لله؛ ويطلقونها ترعى حتى تنحر في موعد النذر ومكانه- ومنها الهدي الذي يُشعر‏:‏ أي يعلم بعلامة الهدْي ويطلق إلى موعد النحر- فهذه القلائد يحرم احلالها بعد تقليدها؛ فلا تنحر إلا لما جعلت له‏.‏‏.‏ وكذلك قيل‏:‏ إن القلائد هي ما كان يتقلد به من يريدون الأمان من ثأر أو عدو أو غيره؛ فيتخذون من شجر الحرم ما يتقلدون به، وينطلقون في الأرض لا يبسط أحد يده إليهم بعدوان- وأصحاب هذا القول قالوا‏:‏ إن ذلك قد نسخ بقول الله فيما بعد‏:‏ ‏{‏إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم‏}‏ والأظهر القول الأول؛ وهو أن القلائد هي الأنعام المقلدة للنذور لله؛ وقد جاء ذكرها بعد ذكر الهدْي المقلد للنحر للحج أو العمرة، للمناسبة بين هذا وذاك‏.‏

كذلك حرم الله آمّين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً‏.‏‏.‏ وهم الذين يقصدون البيت الحرام للتجارة الحلال وطلب الرضوان من الله‏.‏‏.‏ حجاجاً أو غير حجاج‏.‏‏.‏ وأعطاهم الأمان في حرمة بيته الحرام‏.‏

ثم أحل الصيد متى انتهت فترة الإحرام، في غير البيت الحرام، فلا صيد في البيت الحرام‏:‏

‏{‏وإذا حللتم فاصطادوا‏}‏‏.‏‏.‏

إنها منطقة الأمان يقيمها الله في بيته الحرام؛ كما يقيم فترة الأمان في الأشهر الحرم‏.‏‏.‏ منطقة يأمن فيها الناس والحيوان والطير والشجر أن ينالها الأذى‏.‏ وأن يروعها العدوان‏.‏‏.‏ إنه السلام المطلق يرفرف على هذا البيت؛ استجابة لدعوة إبراهيم- أبي هذه الأمة الكريم- ويرفرف على الأرض كلها أربعة أشهر كاملة في العام في- ظل الإسلام- وهو سلام يتذوق القلب البشري حلاوته وطمأنينته وأمنه؛ ليحرص عليه- بشروطه- وليحفظ عقد الله وميثاقه، وليحاول أن يطبقه في الحياة كلها على مدار العام، وفي كل مكان‏.‏‏.‏

وفي جو الحرمات وفي منطقة الأمان، يدعو الله الذين آمنوا به، وتعاقدوا معه، أن يفوا بعقدهم؛ وأن يرتفعوا إلى مستوى الدور الذي ناطه بهم‏.‏‏.‏‏.‏ دور القوامة على البشرية؛ بلا تأثر بالمشاعر الشخصية، والعواطف الذاتية، والملابسات العارضة في الحياة‏.‏‏.‏ يدعوهم ألا يعتدوا حتى على الذين صدوهم عن المسجد الحرام في عام الحديبية؛ وقبله كذلك؛ وتركوا في نفوس المسلمين جروحاً وندوباً من هذا الصد؛ وخلفوا في قلوبهم الكره والبغض‏.‏ فهذا كله شيء؛ وواجب الأمة المسلمة شيء آخر‏.‏ شيء يناسب دورها العظيم‏:‏

‏{‏ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا‏.‏

وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان‏.‏ واتقوا الله، إن الله شديد العقاب‏}‏‏.‏‏.‏

إنها قمة في ضبط النفس؛ وفي سماحة القلب‏.‏‏.‏ ولكنها هي القمة التي لا بد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء‏.‏

إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس‏.‏‏.‏ التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجاً من السلوك الذي يحققه الإسلام، ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام‏.‏ وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة؛ تجذب الناس إليه وتحببهم فيه‏.‏

وهو تكليف ضخم؛ ولكنه- في صورته هذه- لا يعنت النفس البشرية، ولا يحملها فوق طاقتها‏.‏ فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب، ومن حقها أن تكره‏.‏ ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فورة الغضب ودفعة الشنآن‏.‏‏.‏ ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى؛ لا في الإثم والعدوان؛ ويخوفها عقاب الله، ويأمرها بتقواه، لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط، وعلى التسامي والتسامح، تقوى لله، وطلباً لرضاه‏.‏

ولقد استطاعت التربية الإسلامية، بالمنهج الرباني، أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية، والاعتياد لهذا السلوك الكريم‏.‏‏.‏ وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوى وعن هذا الاتجاه‏.‏‏.‏ كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور‏:‏ «أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»‏.‏‏.‏ كانت حمية الجاهلية، ونعرة العصبية‏.‏ كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى؛ وكان الحلف على النصرة، في الباطل قبل الحق‏.‏ وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق‏.‏ وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله؛ ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله‏.‏‏.‏ يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور‏:‏ «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»‏.‏‏.‏ وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى، وهو يقول‏:‏

وهل أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت، وإن ترشد غزية أرشد‏!‏

ثم جاء الإسلام‏.‏‏.‏ جاء المنهج الرباني للتربية‏.‏‏.‏ جاء ليقول للذين آمنوا‏:‏

‏{‏ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا‏.‏ وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان‏.‏ واتقوا الله، إن الله شديد العقاب‏}‏‏.‏‏.‏

جاء ليربط القلوب بالله؛ وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله‏.‏ جاء ليخرج العرب- ويخرج البشرية كلها- من حمية الجاهلية، ونعرة العصبية، وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والعشائرية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء‏.‏‏.‏

وولد «الإنسان» من جديد في الجزيرة العربية‏.‏‏.‏ ولد الإنسان الذي يتخلق بأخلاق الله‏.‏‏.‏ وكان هذا هو المولد الجديد للعرب؛ كما كان هو المولد الجديد للإنسان في سائر الأرض‏.‏‏.‏ ولم يكن قبل الإسلام في الجزيرة إلا الجاهلية المتعصبة العمياء‏:‏ «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»‏.‏

كذلك لم يكن في الأرض كلها إلا هذه الجاهلية المتعصبة العمياء‏!‏

والمسافة الشاسعة بين درك الجاهلية، وأفق الإسلام؛ هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور‏:‏ «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»‏.‏ وقول الله العظيم‏:‏ ‏{‏ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا‏.‏ وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان‏}‏‏.‏

وشتان شتان‏!‏

ثم يأخذ السياق في تفصيل ما استثناه في الآية الأولى من السورة من حل بهيمة الأنعام‏:‏

‏{‏حرمت عليكم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع- إلا ما ذكيتم- وما ذبح على النصب، وأن تستقسموا بالأزلام‏.‏‏.‏ ذلكم فسق‏.‏‏.‏ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون‏.‏ اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً‏.‏‏.‏ فمن اضطر في مخمصة- غير متجانف لإثم- فإن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏

والميتة والدم ولحم الخنزير، سبق بيان حكمها، وتعليل هذا الحكم في حدود ما يصل إليه العلم البشري بحكمة التشريع الإلهي، عند استعراض آية سورة البقرة الخاصة بهذه المحرمات ‏(‏ص156- ص 157 من الجزء الثاني من الظلال‏)‏ وسواء وصل العلم البشري إلى حكمة هذا التحريم أم لم يصل، فقد قرر العلم الإلهي أن هذه المطاعم ليست طيبة؛ وهذا وحده يكفي‏.‏ فالله لا يحرم إلا الخبائث‏.‏ وإلا ما يؤذي الحياة البشرية في جانب من جوانبها‏.‏ سواء علم الناس بهذا الأذى أو جهلوه‏.‏‏.‏ وهل علم الناس كل ما يؤذي وكل ما يفيد‏؟‏‏!‏

وأما ما أهل لغير الله به، فهو محرم لمناقضته ابتداء للإيمان‏.‏ فالإيمان يوحد الله، ويفرده- سبحانه- بالألوهية ويرتب على هذا التوحيد مقتضياته‏.‏ وأول هذه المقتضيات أن يكون التوجه إلى الله وحده بكل نية وكل عمل؛ وأن يهل باسمه- وحده- في كل عمل وكل حركة؛ وأن تصدر باسمه- وحده- كل حركة وكل عمل‏.‏ فما يهل لغير الله به؛ وما يسمى عليه بغير اسم الله ‏(‏وكذلك ما لا يذكر اسم الله عليه ولا اسم أحد‏)‏ حرام؛ لأنه ينقض الإيمان من أساسه؛ ولا يصدر ابتداء عن إيمان‏.‏‏.‏ فهو خبيث من هذه الناحية؛ يلحق بالخبائث الحسية من الميتة والدم ولحم الخنزير‏.‏

وأما المنخنقة ‏(‏وهي التي تموت خنقاً‏)‏ والموقوذة ‏(‏وهي التي تضرب بعصا أو خشبة أو حجر فتموت‏)‏ والمتردية ‏(‏وهي التي تتردى من سطح أو جبل أو تتردى في بئر فتموت‏)‏ والنطيحة ‏(‏وهي التي تنطحها بهيمة فتموت‏)‏ وما أكل السبع ‏(‏وهي الفريسة لأي من الوحش‏)‏‏.‏‏.‏ فهي كلها أنواع من الميتة إذا لم تدرك بالذبح وفيها الروح‏:‏ ‏{‏إلا ما ذكيتم‏}‏ فحكمها هو حكم الميتة‏.‏

‏.‏ إنما فصل هنا لنفي الشبهة في أن يكون لها حكم مستقل‏.‏‏.‏ على أن هناك تفصيلاً في الأقوال الفقهية واختلافاً في حكم «التذكية»، ومتى تعتبر البهيمة مذكاة؛ فبعض الأقوال يخرج من المذكاة، البهيمة التي يكون ما حل بها من شأنه أن يقتلها سريعاً- أو يقتلها حتماً- فهذه حتى لو أدركت بالذبح لا تكون مذكاة‏.‏ بينما بعض الأقوال يعتبرها مذكاة متى أدركت وفيها الروح، أياً كان نوع الإصابة‏.‏‏.‏ والتفصيل يطلب في كتب الفقة المختصة‏.‏‏.‏

واما ما ذبح على النصب- وهي أصنام كانت في الكعبة وكان المشركون يذبحون عندها وينضحونها بدماء الذبيحة في الجاهلية، ومثلها غيرها في أي مكان- فهو محرم بسبب ذبحه على الأصنام- حتى لو ذكر اسم الله عليه، لما فيه من معنى الشرك بالله‏.‏

ويبقى الاستقسام بالأزلام‏.‏ والأزلام‏:‏ قداح كانوا يستشيرونها في الإقدام على العمل أو تركه‏.‏ وهي ثلاثة في قول، وسبعة في قول‏.‏ وكانت كذلك تستخدم في الميسر المعروف عند العرب؛ فتقسم بواسطتها الجزور- أي الناقة التي يتقامرون عليها- إذ يكون لكل من المتقامرين قدح، ثم تدار، فإذا خرج قدح أحدهم كان له من الجزور بقدر ما خصص لهذا القدح‏.‏‏.‏ فحرم الله الاستقسام بالأزلام- لأنه نوع من الميسر المحرم- وحرم اللحوم التي تقسم عن هذا الطريق‏.‏‏.‏

‏.‏‏.‏‏.‏ ‏{‏فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏

فالمضطر من الجوع- وهو المخمصة- الذي يخشى على حياته التلف، له أن يأكل من هذه المحرمات؛ ما دام أنه لا يتعمد الإثم، ولا يقصد مقارفة الحرام‏.‏ وتختلف آراء الفقهاء في حد هذا الأكل‏:‏ هل هو مجرد ما يحفظ الحياة‏.‏ أو هو ما يحقق الكفاية والشبع‏.‏ أو هو ما يدخر كذلك لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام‏.‏‏.‏ فلا ندخل نحن في هذه التفصيلات‏.‏‏.‏ وحسبنا أن ندرك ما في هذا الدين من يسر، وهو يعطى للضرورات أحكامها بلا عنت ولا حرج‏.‏ مع تعليق الأمر كله بالنية المستكنة؛ والتقوى الموكولة إلى الله‏.‏‏.‏ فمن أقدم مضطراً، لا نية له في مقارفة الحرام ولا قصد، فلا إثم عليه إذن ولا عقاب‏:‏

‏{‏فإن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

وننتهي من بيان المحرم من المطاعم لنقف وقفة خاصة أمام ما تخلل آية التحريم من قوله تعالى‏:‏

‏{‏اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون‏.‏ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً‏}‏‏.‏‏.‏

وهي آخر ما نزل من القرآن الكريم، ليعلن كمال الرسالة، وتمام النعمة، فيحس عمر- رضي الله عنه- ببصيرته النافذة وبقلبه الواصل- أن أيام الرسول- صلى الله عليه وسلم- على الأرض معدودة‏.‏

فقد أدى الأمانة، وبلغ الرسالة؛ ولم يعد إلا لقاء الله‏.‏ فيبكي- رضوان الله عليه- وقد أحس قلبه دنو يوم الفراق‏.‏

هذه الكلمات الهائلة ترد ضمن آية موضوعها التحريم والتحليل لبعض الذبائح؛ وفي سياق السورة التي تضم تلك الأغراض التي أسلفنا بيانها‏.‏‏.‏ ما دلالة هذا‏؟‏ إن بعض دلالته أن شريعة الله كل لا يتجزأ‏.‏ كل متكامل‏.‏ سواء فيه ما يختص بالتصور والاعتقاد؛ وما يختص بالشعائر والعبادات؛ وما يختص بالحلال والحرام؛ ومايختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية‏.‏ وأن هذا في مجموعه هو «الدين» الذي يقول الله عنه في هذه الآية‏:‏ إنه أكمله‏.‏ وهو «النعمة» التي يقول الله للذين آمنوا‏:‏ إنه أتمها عليهم‏.‏ وأنه لا فرق في هذا الدين بين ما يختص بالتصور والاعتقاد؛ وما يختص بالشعائر والعبادات؛ وما يختص بالحلال والحرام؛ وما يختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية‏.‏‏.‏ فكلها في مجموعها تكوّن المنهج الرباني الذي ارتضاه الله للذين آمنوا؛ والخروج عن هذا المنهج في جزئية منه، كالخروج عليه كله، خروج على هذا «الدين» وخروج من هذا الدين بالتبعية‏.‏‏.‏

والأمر في هذا يرجع إلى ما سبق لنا تقريره؛ من أن رفض شيء من هذا المنهج، الذي رضيه الله للمؤمنين، واستبدال غيره به من صنع البشر؛ معناه الصريح هو رفض ألوهية الله- سبحانه- وإعطاء خصائص الألوهية لبعض البشر؛ واعتداء على سلطان الله في الأرض، وادعاء للألوهية بادعاء خصيصتها الكبرى‏.‏‏.‏ الحاكمية‏.‏‏.‏ وهذا معناه الصريح الخروج على هذا الدين؛ والخروج من هذا الدين بالتبعية‏.‏‏.‏

‏{‏اليوم يئس الذين كفروا من دينكم‏}‏‏.‏‏.‏

يئسوا أن يبطلوه، أو ينقصوه، أو يحرفوه، وقد كتب الله له الكمال؛ وسجل له البقاء‏.‏‏.‏ ولقد يغلبون على المسلمين في موقعة، أو في فترة، ولكنهم لا يغلبون على هذا الدين‏.‏ فهو وحده الدين الذي بقي محفوظاً لا يناله الدثور، ولا يناله التحريف أيضاً؛ على كثرة ما أراد أعداؤه أن يحرفوه؛ وعلى شدة ما كادوا له، وعلى عمق جهالة أهله به في بعض العصور‏.‏‏.‏ غير أن الله لا يخلي الأرض من عصبة مؤمنة؛ تعرف هذا الدين؛ وتناضل عنه، ويبقى فيها كاملاً مفهوماً محفوظاً؛ حتى تسلمه الى من يليها‏.‏ وصدق وعد الله في يأس الذين كفروا من هذا الدين‏!‏

‏{‏فلا تخشوهم واخشون‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

فما كان للذين كفروا أن ينالوا من هذا الدين في ذاته أبداً‏.‏ وما كان لهم أن ينالوا من أهله إلا أن ينحرف أهله عنه؛ فلا يكونوا هم الترجمة الحية له؛ ولا ينهضوا بتكاليفه ومقتضياته؛ ولا يحققوا في حياتهم نصوصه وأهدافه‏.‏‏.‏

وهذا التوجيه من الله للجماعة المسلمة في المدينة، لا يقتصر على ذلك الجيل؛ إنما هو خطاب عام للذين آمنوا في كل زمان وفي كل مكان‏.‏‏.‏ نقول‏:‏ للذين آمنوا‏.‏

‏.‏ الذين يرتضون ما رضيه الله لهم من هذا الدين، بمعناه الكامل الشامل؛ الذين يتخذون هذا الدين كله منهجاً للحياة كلها‏.‏‏.‏ وهؤلاء- وحدهم- هم المؤمنون‏.‏‏.‏

‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏.‏ وأتممت عليكم نعمتي‏.‏ ورضيت لكم الإسلام ديناً‏}‏‏.‏‏.‏

اليوم‏.‏‏.‏ الذي نزلت فيه هذه الآية في حجة الوداع‏.‏‏.‏ أكمل الله هذا الدين‏.‏ فما عادت فيه زيادة لمستزيد‏.‏ وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل‏.‏ ورضي لهم ‏{‏الإسلام‏}‏ ديناً؛ فمن لا يرتضيه منهجاً لحياته- إذن- فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين‏.‏

ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة؛ فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة، وتوجيهات عميقة، ومقتضيات وتكاليف‏.‏‏.‏

إن المؤمن يقف أولاً‏:‏ أمام إكمال هذا الدين؛ يستعرض موكب الإيمان، وموكب الرسالات، وموكب الرسل، منذ فجر البشرية، ومنذ أول رسول- آدم عليه السلام- إلى هذه الرسالة الأخيرة‏.‏ رسالة النبي الأمي إلى البشر أجمعين‏.‏‏.‏ فماذا يرى‏؟‏‏.‏‏.‏ يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل‏.‏ موكب الهدى والنور‏.‏ ويرى معالم الطريق، على طول الطريق‏.‏ ولكنه يجد كل رسول- قبل خاتم النبيين- إنما أرسل لقومه‏.‏ ويرى كل رسالة- قبل الرسالة الأخيرة- إنما جاءت لمرحلة من الزمان‏.‏‏.‏ رسالة خاصة، لمجموعة خاصة، في بيئة خاصة‏.‏‏.‏ ومن ثم كانت كل تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه؛ متكيفة بهذه الظروف‏.‏‏.‏ كلها تدعو إلى إله واحد- فهذا هو التوحيد- وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد- فهذا هو الدين- وكلها تدعو إلى التلقي عن هذا الإله الواحد والطاعة لهذا الإله الواحد- فهذا هو الإسلام- ولكن لكل منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف‏.‏‏.‏

حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشر؛ أرسل إلى الناس كافة، رسولاً خاتم النبيين برسالة «للإنسان» لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة، في زمان خاص، في ظروف خاصة‏.‏‏.‏ رسالة تخاطب «الإنسان» من وراء الظروف والبيئات والأزمنة؛ لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغيير‏:‏ ‏{‏فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم‏}‏ وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة «الإنسان» من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها؛ وتضع لها المبادئ الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان؛ وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان‏.‏‏.‏ وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة «الإنسان» منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان؛ من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات، لكي تستمر، وتنمو، وتتطور، وتتجدد؛ حول هذا المحور وداخل هذا الإطار‏.‏

‏.‏ وقال الله- سبحانه- للذين آمنوا‏:‏

‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏.‏ وأتممت عليكم نعمتي‏.‏ ورضيت لكم الإسلام ديناً‏}‏‏.‏‏.‏

فأعلن لهم إكمال العقيدة، وإكمال الشريعة معاً‏.‏‏.‏ فهذا هو الدين‏.‏‏.‏ ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين- بمعناه هذا- نقصاً يستدعي الإكمال‏.‏ ولا قصوراً يستدعي الإضافة‏.‏ ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير‏.‏‏.‏ وإلا فما هو بمؤمن؛ وما هو بمقر بصدق الله؛ وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين‏!‏

إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن، هي شريعة كل زمان، لأنها- بشهادة الله- شريعة الدين الذي جاء «للإنسان» في كل زمان وفي كل مكان؛ لا لجماعة من بني الإنسان، في جيل من الأجيال، في مكان من الأمكنة، كما كانت تجيء الرسل والرسالات‏.‏

الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي‏.‏ والمبادئ الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان؛ دون أن تخرج عليه، إلا أن تخرج من إطار الإيمان‏!‏

والله الذي خلق «الإنسان» ويعلم من خلق؛ هو الذي رضي له هذا الدين؛ المحتوي على هذه الشريعة‏.‏ فلا يقول‏:‏ إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان؛ وبأطوار الإنسان‏!‏

ويقف المؤمن ثانياً‏:‏ أمام إتمام نعمة الله على المؤمنين، بإكمال هذا الدين؛ وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة‏.‏ النعمة التي تمثل مولد «الإنسان» في الحقيقة، كما تمثل نشأته واكتماله‏.‏ «فالإنسان» لا وجود له قبل أن يعرف إلهه كما يعرفه هذا الدين له‏.‏ وقبل أن يعرف الوجود الذي يعيش فيه كما يعرفه له هذا الدين‏.‏ وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود وكرامته على ربه، كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه‏.‏ و«الإنسان» لا وجود له قبل أن يتحرر من عبادة العبيد بعبادة الله وحده؛ وقبل أن ينال المساواة الحقيقية بأن تكون شريعته من صنع الله وبسلطانه لا من صنع أحد ولا بسلطانه‏.‏

إن معرفة «الإنسان» بهذه الحقائق الكبرى كما صورها هذا الدين هي بدء مولد «الإنسان»‏.‏‏.‏ إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوى؛ يمكن أن يكون «حيواناً» أو أن يكون «مشروع إنسان» في طريقه إلى التكوين‏!‏ ولكنه لا يكون «الإنسان» في أكمل صورة للإنسان، إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صورها القرآن‏.‏‏.‏ والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة، وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان‏!‏

وإن تحقيق هذه الصورة في الحياة الإنسانية، لهو الذي يحقق «للإنسان» «إنسانيته» كاملة‏.‏‏.‏ يحققها له وهو يخرجه بالتصور الاعتقادي، في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، من دائرة الحس الحيواني الذي لا يدرك إلا المحسوسات، إلى دائرة «التصور» الإنساني، الذي يدرك المحسوسات وما وراء المحسوسات‏.‏

عالم الشهادة وعالم الغيب‏.‏‏.‏ عالم المادة وعالم ما وراء المادة‏.‏‏.‏ وينقذه من ضيق الحس الحيواني المحدود‏!‏ ويحققها له وهو يخرجه بتوحيد الله، من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده، والتساوي والتحرر والاستعلاء أمام كل من عداه‏.‏ فإلى الله وحده يتجه بالعبادة، ومن الله وحده يتلقى المنهج والشريعة والنظام، وعلى الله وحده يتوكل ومنه وحده يخاف‏.‏‏.‏ ويحققها له، بالمنهج الرباني، حين يرفع اهتماماته ويهذب نوازعه، ويجمع طاقته للخير والبناء والارتقاء، والاستعلاء على نوازع الحيوان، ولذائذ البهيمة وانطلاق الأنعام‏!‏

ولا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين، ولا يقدرها قدرها، من لم يعرف حقيقة الجاهلية ومن لم يذق ويلاتها- والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه الله- فهذا الذي عرف الجاهلية وذاق ويلاتها‏.‏‏.‏ ويلاتها في التصور والاعتقاد، وويلاتها في واقع الحياة‏.‏‏.‏ هو الذي يحس ويشعر، ويرى ويعلم، ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة الله في هذا الدين‏.‏‏.‏

الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى، وويلات الحيرة والتمزق، وويلات الضياع والخواء، في معتقدات الجاهلية وتصوراتها في كل زمان وفي كل مكان‏.‏‏.‏ هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الإيمان؛

والذي يعرف ويعاني ويلات الطغيان والهوى، وويلات التخبط والاضطراب، وويلات التفريط والإفراط في كل أنظمة الحياة الجاهلية، هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الحياة في ظل الإيمان بمنهج الإسلام‏.‏

ولقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة، يعرفون ويدركون ويتذوقون هذه الكلمات‏.‏ لأن مدلولاتها كانت متمثلة في حياتهم، في ذات الجيل الذي خوطب بهذا القرآن‏.‏‏.‏

كانوا قد ذاقوا الجاهلية‏.‏‏.‏ ذاقوا تصوراتها الاعتقادية‏.‏ وذاقوا أوضاعها الاجتماعية‏.‏ وذاقوا أخلاقها الفردية والجماعية وبلوا من هذا كله ما يدركون معه حقيقة نعمة الله عليهم بهذا الدين؛ وحقيقة فضل الله عليهم ومنته بالإسلام‏.‏

كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية؛ وسار بهم في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة- كما فصلنا ذلك في مستهل سورة النساء- فإذا هم على القمة ينظرون من عل إلى سائر أمم الأرض من حولهم؛ نظرتهم إلى ماضيهم في جاهليتهم كذلك‏.‏

كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التصورات الاعتقادية حول ربوبية الأصنام، والملائكة، والجن، والكواكب، والأسلاف؛ وسائر هذه الأساطير الساذجة والخرافات السخيفة؛ لينقلهم إلى أفق التوحيد‏.‏ إلى أفق الإيمان بإله واحد، قادر قاهر، رحيم ودود، سميع بصير، عليم خبير‏.‏ عادل كامل‏.‏ قريب مجيب‏.‏ لا واسطة بينه وبين أحد؛ والكل له عباد، والكل له عبيد‏.‏‏.‏ ومن ثم حررهم من سلطان الكهانة، ومن سلطان الرياسة، يوم حررهم من سلطان الوهم والخرافة‏.‏

وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في الأوضاع الاجتماعية‏.‏ من الفوارق الطبقية؛ ومن العادات الزرية؛ ومن الاستبداد الذي كان يزاوله كل من تهيأ له قدر من السلطان ‏(‏لا كما هو سائد خطأ من أن الحياة العربية كانت تمثل الديمقراطية‏!‏‏)‏‏.‏

«فقد كانت القدرة على الظلم قرينة بمعنى العزة والجاه في عرف السيد والمسود من أمراء الجزيرة من أقصاها في الجنوب إلى أقصاها في الشمال‏.‏ وما كان الشاعر النجاشي إلا قادحاً مبالغاً في القدح حين استضعف مهجوه، لأن‏:‏

قبيلته لا يغدرون بذمة *** ولا يظلمون الناس حبة خردل

» وما كان حجر بن الحارث إلا ملكاً عربياً حين سام بني أسد أن يستعبدهم بالعصا، وتوسل إليه شاعرهم عبيد بن الأبرص حيث يقول‏:‏

أنت المملك فيهم *** وهم العبيد إلى القيامه

ذلوا لسوطك مثلما *** ذل الأشيقر ذو الخزامه

«وكان عمر بن هند ملكاً عربياً حين عود الناس أن يخاطبهم من وراء ستار؛ وحين استكثر على سادة القبائل أن تأنف أمهاتهم من خدمته في داره‏.‏

» وكان النعمان بن المنذر ملكا عربيا حين بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يوماً للرضى يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء؛ ويوماً للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء‏.‏

«وقد قيل عن عزة كليب وائل‏:‏ إنه سمي بذلك لأنه كان يرمي الكليب حيث يعجبه الصيد، فلا يجسر أحد على الدنو من مكان يسمع فيه نباحه‏.‏ وقيل‏:‏» لا حر بوادي عوف «لأنه من عزته كان لا يأوي بواديه من يملك حرية في جواره‏.‏ فكلهم أحرار في حكم العبيد‏.‏‏.‏»‏.‏

وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التقاليد والعادات والأخلاق والصلات الاجتماعية‏.‏‏.‏ كان قد التقطهم من سفح البنت الموءودة، والمرأة المنكودة، والخمر والقمار والعلاقات الجنسية الفوضوية، والتبرج والاختلاط مع احتقار المرأة ومهانتها، والثارات والغارات والنهب والسلب، مع تفرق الكلمة وضعف الحيلة أمام أي هجوم خارجي جدي‏.‏ كالذي حدث في عام الفيل من هجوم الأحباش على الكعبة، وتخاذل وخذلان القبائل كلها، هذه القبائل التي كان بأسها بينها شديداً‏!‏

وكان الإسلام قد أنشأ منهم أمة؛ تطل من القمة السامقة على البشرية كلها في السفح، في كل جانب من جوانب الحياة‏.‏ في جيل واحد‏.‏ عرف السفح وعرف القمة‏.‏ عرف الجاهلية وعرف الإسلام‏.‏ ومن ثم كانوا يتذوقون ويدركون معنى قول الله لهم‏:‏

‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً‏}‏‏.‏‏.‏

ويقف المؤمن ثالثاً‏:‏ أمام ارتضاء الله الإسلام دينا للذين آمنوا‏.‏‏.‏ يقف أمام رعاية الله- سبحانه- وعنايته بهذه الأمة، حتى ليختار لها دينها ويرتضيه‏.‏‏.‏ وهو تعبير يشي بحب الله لهذه الأمة ورضاه عنها، حتى ليختار لها منهج حياتها‏.‏

وإن هذه الكلمات الهائلة لتلقي على عاتق هذه الأمة عبئاً ثقيلاً، يكافئ هذه الرعاية الجليلة‏.‏‏.‏ أستغفر الله‏.‏‏.‏ فما يكافئ هذه الرعاية الجليلة من الملك الجليل شيء تملك هذه الأمة بكل أجيالها أن تقدمه‏.‏‏.‏ وإنما هو جهد الطاقة في شكر النعمة، ومعرفة المنعم‏.‏‏.‏ وإنما هو إدراك الواجب ثم القيام بما يستطاع منه، وطلب المغفرة والتجاوز عن التقصير والقصور فيه‏.‏

إن ارتضاء الله الإسلام ديناً لهذه الأمة، ليقتضي منها ابتداء أن تدرك قيمة هذا الاختيار‏.‏ ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار‏.‏‏.‏ وإلا فما أنكد وما أحمق من يهمل- بله أن يرفض- ما رضيه الله له، ليختار لنفسه غير ما اختاره الله‏!‏‏.‏‏.‏ وإنها- إذن- لجريمة نكدة؛ لا تذهب بغير جزاء، ولا يترك صاحبها يمضي ناجياً أبداً وقد رفض ما ارتضاه له الله‏.‏‏.‏ ولقد يترك الله الذين لم يتخذوا الإسلام ديناً لهم، يرتكبون ما يرتكبون ويمهلهم إلى حين‏.‏‏.‏ فأما الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أو رفضوه‏.‏‏.‏ واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه لهم الله‏.‏‏.‏ فلن يتركهم الله أبداً ولن يمهلهم أبداً، حتى يذوقوا وبال أمرهم وهم مستحقون‏!‏

ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في هذه الوقفات أمام تلك الكلمات الهائلة‏.‏ فالأمر يطول‏.‏ فنقنع بهذه اللمحات، في هذه الظلال، ونمضي مع سياق السورة إلى مقطع جديد‏:‏

‏{‏يسألونك‏:‏ ماذا أحل لهم‏؟‏ قل‏:‏ أحل لكم الطيبات، وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله‏.‏ فكلوا مما أمسكن عليكم، واذكروا اسم الله عليه‏.‏ واتقوا الله، إن الله سريع الحساب‏.‏ اليوم أحل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم- إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان- ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏‏.‏‏.‏

إن هذا السؤال من الذين آمنوا عما أحل لهم؛ يصور حالة نفسية لتلك الجماعة المختارة، التي سعدت بخطاب الله تعالى لها أول مرة؛ ويشي بما خالج تلك النفوس من التحرج والتوقي من كل ما كان في الجاهلية؛ خشية أن يكون الإسلام قد حرمه؛ وبالحاجة إلى السؤال عن كل شيء للتثبت من أن المنهج الجديد يرتضيه ويقره‏.‏

والناظر في تاريخ هذه الفترة يلمس ذلك التغيير العميق الذي أحدثه الإسلام في النفس العربية‏.‏‏.‏ لقد هزها هزاً عنيفاً نفض عنها كل رواسب الجاهلية‏.‏‏.‏ لقد أشعر المسلمين- الذين التقطهم من سفح الجاهلية ليرتفع بهم إلى القمة السامقة- أنهم يولدون من جديد؛ وينشأون من جديد‏.‏ كما جعلهم يحسون إحساساً عميقاً بضخامة النقلة، وعظمة الوثبة، وجلال المرتقى، وجزالة النعمة‏.‏

فأصبح همهم أن يتكيفوا وفق هذا المنهج الرباني الذي لمسوا بركتة عليهم‏.‏ وأن يحذروا عن مخالفته‏.‏‏.‏ وكان التحرج والتوجس من كل ما ألفوه في الجاهلية هو ثمرة هذا الشعور العميق، وثمرة تلك الهزة العنيفة‏.‏

لذلك راحوا يسألون الرسول- صلى الله عليه وسلم- بعد ما سمعوا آيات التحريم‏:‏

‏{‏ماذا أحل لهم‏؟‏‏}‏‏.‏

ليكونوا على يقين من حلة قبل أن يقربوه‏.‏

وجاءهم الجواب

‏{‏قل‏:‏ أحل لكم الطيبات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهو جواب يستحق التأمل‏.‏‏.‏ إنه يلقي في حسهم هذه الحقيقة‏:‏ إنهم لم يحرموا طيباً، ولم يمنعوا عن طيب؛ وإن كل الطيبات لهم حلال، فلم يحرم عليهم إلا الخبائث‏.‏‏.‏ والواقع أن كل ما حرمه الله هو ما تستقذره الفطرة السليمة من الناحية الحسية‏.‏ كالميتة والدم ولحم الخنزير‏.‏ أو ينفر منه القلب المؤمن كالذي أهل لغير الله به أو ما ذبح على النصب، أو كان الاستقسام فيه بالأزلام‏.‏ وهو نوع من الميسر‏.‏

ويضيف إلى الطيبات- وهي عامة- نوعاً منها يدل على طيبته تخصيصه بالذكر بعد التعميم؛ وهو ما تمسكه الجوارح المعلمه المدربة على الصيد كالصقر والبازي، ومثلها كلاب الصيد، أو الفهود والأسود‏.‏ مما علمه أصحابه كيف يكلب الفريسة‏:‏ أي يكبلها ويصطادها‏:‏

‏{‏وما علمتم من الجوارح مكلبين، تعلمونهن مما علمكم الله‏.‏ فكلوا مما أمسكن عليكم، واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله، إن الله سريع الحساب‏}‏‏.‏‏.‏

وشرط الحل فيما تمسكه هذه الجوارح المكلبة المعلمة المدربة، أن تمسك على صاحبها‏:‏ أي أن تحتفظ بما تمسكه من الصيد؛ فلا تأكل منه عند صيده؛ إلا إذا غاب عنها صاحبها، فجاعت‏.‏ فإنها إن أكلت من الفريسة عند إمساكها لها، لا تكون معلمة؛ وتكون قد اصطادت لنفسها لا لصاحبها فلا يحل له صيدها‏.‏ ولو تبقى منها معظم الصيد لم تأكله؛ ولو جاءت به حياً ولكنها كانت أكلت منه؛ فلا يذكى؛ ولو ذبح ما كان حلالاً‏.‏‏.‏

والله يذكر المؤمنين بنعمته عليهم في هذه الجوارح المكلبة فقد علموها مما علمهم الله‏.‏ فالله هو الذي سخر لهم هذه الجوارح؛ وأقدرهم على تعليمها؛ وعلمهم هم كيف يعلمونها‏.‏‏.‏ وهي لفتة قرآنية تصور أسلوب التربية القرآني، وتشي بطبيعة المنهج الحكيم الذي لا يدع لحظة تمر، ولا مناسبة تعرض، حتى يوقظ في القلب البشري الإحساس بهذه الحقيقة الأولى‏:‏ حقيقية أن الله هو الذي أعطى كل شيء‏.‏ هو الذي خلق، وهو الذي علم، وهو الذي سخر؛ وإليه يرجع الفضل كله، في كل حركة وكل كسب وكل إمكان، يصل إليه المخلوق‏.‏‏.‏ فلا ينسى المؤمن لحظة، أن من الله، وإلى الله، كل شيء في كيانه هو نفسه؛ وفيما حوله من الأشياء والأحداث؛ ولا يغفل المؤمن لحظة عن رؤية يد الله وفضله في كل عزمة نفس منه، وكل هزة عصب، وكل حركة جارحة‏.‏

‏.‏ ويكون بهذا كله «ربانياً» على الاعتبار الصحيح‏.‏

والله يعلم المؤمنين أن يذكروا اسم الله على الصيد الذي تمسك به الجوارح‏.‏ ويكون الذكر عند إطلاق الجارح إذ أنه قد يقتل الصيد بنابه أو ظفره ‏;‏ فيكون هذا كالذبح له؛ واسم الله يذكر عند الذبح، فهو يذكر كذلك عند إطلاق الجارح سواء‏.‏

ثم يردهم في نهاية الآية إلى تقوى الله؛ ويخوفهم حسابه السريع‏.‏‏.‏ فيربط أمر الحل والحرمة كله بهذا الشعور الذي هو المحور لكل نية وكل عمل في حياة المؤمن؛ والذي يحول الحياة كلها صلة بالله، وشعوراً بجلاله، ومراقبة له في السر والعلانية‏:‏

‏{‏واتقوا الله إن الله سريع الحساب‏}‏‏.‏‏.‏

ويستطرد في بيان ما أحل لهم من الطعام ويلحق به ما أحل لهم من النكاح‏:‏

‏{‏اليوم أحل لكم الطيبات‏.‏ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم‏.‏ وطعامكم حل لهم‏.‏ والمحصنات من المؤمنات‏.‏ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏.‏ إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا يبدأ ألوان المتاع الحلال مرة أخرى بقوله‏:‏

‏{‏اليوم أحل لكم الطيبات‏}‏‏.‏‏.‏

فيؤكد المعنى الذي أشرنا إليه؛ ويربط بينه وبين الألوان الجديدة من المتاع‏.‏ فهي من الطيبات‏.‏

وهنا نطلع على صفحة من صفحات السماحة الإسلامية؛ في التعامل مع غير المسلمين، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي «في دار الإسلام»، أو تربطهم به روابط الذمة والعهد، من أهل الكتاب‏.‏‏.‏

إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية؛ ثم يعتزلهم، فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين- أو منبوذين- إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية، والمودة، والمجاملة والخلطة‏.‏ فيجعل طعامهم حلا للمسلمين وطعام المسلمين حلاً لهم كذلك‏.‏ ليتم التزاور والتضايف والمؤاكلة والمشاربة، وليظل المجتمع كله في ظل المودة والسماحة‏.‏‏.‏ وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم- وهن المحصنات بمعنى العفيفات الحرائر- طيبات للمسلمين، ويقرن ذكرهن بذكر الحرائر العفيفات من المسلمات‏.‏ وهي سماحة لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام من بين سائر أتباع الديانات والنحل‏.‏ فإن الكاثوليكي المسيحي ليتحرج من نكاح الأرثوذكسية، أو البروتستانتية، أو المارونية المسيحية، ولا يقدم على ذلك إلا المتحللون عندهم من العقيدة‏!‏

وهكذا يبدو أن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يسمح بقيام مجتمع عالمي، لا عزلة فيه بين المسلمين وأصحاب الديانات الكتابية؛ ولا حواجز بين أصحاب العقائد المختلفة، التي تظلها راية المجتمع الإسلامي‏.‏ فيما يختص بالعشرة والسلوك ‏(‏أما الولاء والنصرة فلها حكم آخر سيجيء في سياق السورة‏)‏‏.‏

وشرط حل المحصنات الكتابيات‏.‏ هو شرط حل المحصنات المؤمنات‏:‏

‏{‏إذا آتيتموهن أجورهن محصنين، غير مسافحين، ولا متخذي أخدان‏}‏‏.‏

ذلك أن تؤدى المهور، بقصد النكاح الشرعي، الذي يحصن به الرجل امرأته ويصونها‏.‏ لا أن يكون هذا المال طريقاً إلى السفاح أو المخادنة‏.‏

‏.‏ والسفاح هو أن تكون المرأة لأي رجل؛ والمخادنة أن تكون المرأة لخدين خاص بغير زواج‏.‏‏.‏ وهذا وذلك كانا معروفين في الجاهلية العربية، ومعترفاً بهما من المجتمع الجاهلي‏.‏ قبل أن يطهره الإسلام، ويزكيه، ويرفعه من السفح الهابط إلى القمة السامقة‏.‏‏.‏

ويعقب على هذه الأحكام تعقيباً فيه تشديد، وفيه تهديد‏:‏

‏{‏ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏‏.‏‏.‏

إن هذه التشريعات كلها منوطة بالإيمان؛ وتنفيذها كما هي هو الإيمان؛ أو هو دليل الإيمان‏.‏ فالذي يعدل عنها إنما يكفر بالإيمان ويستره ويغطيه ويجحده‏.‏ والذي يكفر بالإيمان يبطل عمله ويصبح رداً عليه لا يقبل منه، ولا يقر عليه‏.‏‏.‏ والحبوط مأخوذ من انتفاخ الدابة وموتها إذا رعت مرعى ساماً‏.‏‏.‏ وهو تصوير لحقيقة العمل الباطل‏.‏ فهو ينتفخ ثم ينعدم أثره كالدابة التي تتسمم وتنتفخ وتموت‏.‏‏.‏ وفي الآخرة تكون الخسارة فوق حبوط العمل وبطلانه في الدنيا‏.‏‏.‏

وهذا التعقيب الشديد، والتهديد المخيف، يجيء على إثر حكم شرعي يختص بحلال وحرام في المطاعم والمناكح‏.‏‏.‏ فيدل على ترابط جزئيات هذا المنهج؛ وأن كل جزئية فيه هي «الدين» الذي لا هوادة في الخلاف عنه، ولا قبول لما يصدر مخالفاً له في الصغير أو في الكبير‏.‏

وفي ظل الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء يجيء ذكر الصلاة، وأحكام الطهارة للصلاة‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم، وأرجلكم إلى الكعبين‏.‏ وإن كنتم جنباً فاطهروا‏.‏ وإن كنتم مرضى، أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء، فتيمموا صعيداً طيباً، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه‏.‏ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم، وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون‏}‏‏.‏‏.‏

إن الحديث عن الصلاة والطهارة إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء‏.‏ وإن ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام‏.‏‏.‏ إن هذا لا يجيء اتفاقاً ومصادفة لمجرد السرد، ولا يجيء كذلك بعيداً عن جو السياق وأهدافه‏.‏‏.‏ إنما هو يجيء في موضعه من السياق، ولحكمته في نظم القرآن‏.‏‏.‏

إنها- أولاً- لفتة إلى لون آخر من الطيبات‏.‏‏.‏ طيبات الروح الخالصة‏.‏‏.‏ إلى جانب طيبات الطعام والنساء‏.‏‏.‏ لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع‏.‏ إنه متاع اللقاء مع الله، في جو من الطهر والخشوع والنقاء‏.‏‏.‏ فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ارتقى إلى متاع الطهارة والصلاة؛ استكمالاً لألوان المتاع الطيبة في حياة الإنسان‏.‏‏.‏ والتي بها يتكامل وجود «الإنسان»‏.‏

ثم اللفتة الثانية‏.‏‏.‏ إن أحكام الطهارة والصلاة؛ كأحكام الطعام والنكاح؛ كأحكام الصيد في الحل والحرمة؛ كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب‏.‏

‏.‏‏.‏ كبقية الأحكام التالية في السورة‏.‏‏.‏‏.‏ كلها عبادة لله‏.‏ وكلها دين الله‏.‏ فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيراً- في الفقه-على تسميته «بأحكام العبادات»، وما اصطلح على تسميته «بأحكام المعاملات»‏.‏‏.‏

هذه التفرقة- التي اصطنعها «الفقه» حسب مقتضيات «التصنيف» و«التبويب»- لا وجود لها في أصل المنهج الرباني، ولا في أصل الشريعة الإسلامية‏.‏‏.‏ إن هذا المنهج يتألف من هذه وتلك على السواء‏.‏ وحكم هذه كحكم تلك في أنها تؤلف دين الله وشريعته ومنهجه؛ وليست هذه بأولى من تلك في الطاعة والاتباع‏.‏ لا، بل إن أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر‏.‏ والدين لا يستقيم إلا بتحققهما في حياة الجماعة المسلمة على السواء‏.‏

كلها «عقود» من التي أمر الله المؤمنين في شأنها بالوفاء، وكلها «عبادات» يؤديها المسلم بنية القربى إلى الله‏.‏ وكلها «إسلام» وإقرار من المسلم بعبوديته لله‏.‏

ليس هنالك «عبادات» وحدها و«معاملات» وحدها‏.‏‏.‏ إلا في «التصنيف الفقهي»‏.‏‏.‏ وكلتا العبادات والمعاملات بمعناها هذا الاصطلاحي‏.‏‏.‏ كلها «عبادات» و«فرائض» و«عقود» مع الله‏.‏ والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان مع الله‏!‏

وهذه هي اللفتة التي يشير إليها النسق القرآني؛ وهو يوالي عرض هذه الأحكام المتنوعة في السياق‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن الصلاة لقاء مع الله، ووقوف بين يديه- سبحانه- ودعاء مرفوع إليه، ونجوى وإسرار‏.‏ فلا بد لهذا الموقف من استعداد‏.‏ لا بد من تطهر جسدي يصاحبه تهيؤ روحي‏.‏ ومن هنا كان الوضوء- فيما نحسب والعلم لله- وهذه هي فرائضه المنصوص عليها في هذه الآية‏:‏

غسل الوجه‏.‏ وغسل الأيدي إلى المرافق‏.‏ ومسح الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين‏.‏‏.‏ وحول هذه الفرائض خلافات فقهية يسيرة‏.‏‏.‏ أهمها هل هذه الفرائض على الترتيب الذي ذكرت به‏؟‏ أم هي تجزئ على غير ترتيب‏؟‏ قولان‏.‏‏.‏

هذا في الحدث الأصغر‏.‏‏.‏ أما الجنابة- سواء بالمباشرة أو الاحتلام- فتوجب الاغتسال‏.‏‏.‏

ولما فرغ من بيان فرائض الوضوء، والغسل، أخذ في بيان حكم التيمم‏.‏ وذلك في الحالات الآتية‏:‏

حالة عدم وجود الماء للمحدث على الإطلاق‏.‏‏.‏

وحالة المريض المحدث حدثاً أصغر يقتضي الوضوء، أو حدثاً أكبر يقتضي الغسل والماء يؤذيه‏.‏‏.‏

وحالة المسافر المحدث حدثاً أصغر أو أكبر‏.‏‏.‏

وقد عبر عن الحدث الأصغر بقوله‏:‏ ‏{‏أو جاء أحد منكم من الغائط‏}‏‏.‏‏.‏ والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه‏.‏‏.‏ والمجيء من الغائط كناية عن قضاء الحاجة تبولاً أو تبرزاً‏.‏

وعبر عن الحدث الأكبر بقوله‏:‏ ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏‏.‏

‏.‏ لأن هذا التعبير الرقيق يكفي في الكناية عن المباشرة‏.‏‏.‏

ففي هذه الحالات لا يقرب المحدث- حدثاً أصغر أو أكبر- الصلاة، حتى يتيمم‏.‏‏.‏ فيقصد صعيداً طيباً‏.‏‏.‏ أي شيئاً من جنس الأرض طاهراً يعبر عن الطهارة بالطيبة- ولو كان تراباً على ظهر الدابة، أو الحائط‏.‏ فيضرب بكفيه، ثم ينفضهما، ثم يمسح بهما وجهه، ثم يمسح بهما يديه إلى المرفقين‏.‏‏.‏ ضربة للوجة واليدين‏.‏ أو ضربتين‏.‏‏.‏ قولان‏.‏‏.‏

وهناك خلافات فقهية حول المقصود بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏‏.‏‏.‏ أهو مجرد الملامسة‏؟‏ أم هي المباشرة‏؟‏ وهل كل ملامسة بشهوة ولذة أم بغير شهوة ولذة‏؟‏ خلاف‏.‏‏.‏

كذلك هل المرض بإطلاقه يجيز التيمم‏؟‏ أم المرض الذي يؤذيه الماء‏؟‏ خلاف‏.‏‏.‏

ثم‏.‏‏.‏ هل برودة الماء من غير مرض؛ وخوف المرض والأذى يجيز التيمم‏.‏‏.‏ الأرجح نعم‏.‏‏.‏

وفي ختام الآية يجيء هذا التعقيب‏:‏

‏{‏ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج‏.‏ ولكن يريد ليطهركم، وليتم نعمته عليكم، لعلكم تشكرون‏}‏‏.‏‏.‏

والتطهر حالة واجبة للقاء الله- كما أسلفنا- وهو يتم في الوضوء والغسل جسماً وروحاً‏.‏ فأما في التيمم فيتم الشطر الأخير منه؛ ويجزئ في التطهر عند عدم وجود الماء، أو عندما يكون هناك ضرر في استعمال الماء‏.‏ ذلك أن الله- سبحانه- لا يريد أن يعنت الناس، ويحملهم على الحرج والمشقة بالتكاليف‏.‏ إنما يريد أن يطهرهم، وأن ينعم عليهم بهذه الطهارة؛ وأن يقودهم إلى الشكر على النعمة، ليضاعفها لهم ويزيدهم منها‏.‏‏.‏ فهو الرفق والفضل والواقعية في هذا المنهج اليسير القويم‏.‏

وتقودنا حكمة الوضوء والغسل والتيمم التي كشف النص عنها هنا‏:‏

‏{‏ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون‏}‏‏.‏‏.‏

تقودنا إلى تلك الوحدة التي يحققها الإسلام في الشعائر والشرائع على السواء‏.‏ فليس الوضوء والغسل مجرد تنظيف للجسد، ليقول متفلسفة هذه الأيام‏:‏ إننا لسنا في حاجة إلى هذه الإجراءات، كما كان العرب البدائيون‏!‏ لأننا نستحم وننظف أعضاءنا بحكم الحضارة‏!‏ إنما هي محاولة مزدوجة لتوحيد نظافة الجسم وطهارة الروح في عمل واحد؛ وفي عبادة واحدة يتوجه بها المؤمن إلى ربه‏.‏ وجانب التطهر الروحي أقوى‏.‏ لأنه عند تعذر استخدام الماء يستعاض بالتيمم، الذي لا يحقق إلا هذا الشطر الأقوى‏.‏‏.‏ وذلك كله فضلاً على أن هذا الدين منهج عام ليواجه جميع الحالات، وجميع البيئات، وجميع الأطور، بنظام واحد ثابت، فتتحقق حكمته في جميع الحالات والبيئات والأطوار؛ في صورة من الصور، بمعنى من المعاني؛ ولا تبطل هذه الحكمة أو تتخلف في أية حال‏.‏

فلنحاول أن نتفهم أسرار هذه العقيدة قبل أن نفتي فيها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير‏.‏ ولنحاول أن نكون أكثر أدباً مع الله؛ فيما نعلم وفيما لا نعلم على السواء‏.‏

كذلك يقودنا الحديث عن التيمم للصلاة عند تعذر الطهارة بالوضوء أو الغسل أو ضررها إلى لفتة أخرى عن الصلاة ذاتها‏.‏

عن حرص المنهج الإسلامي على إقامة الصلاة؛ وإزالة كل عائق يمنع منها‏.‏‏.‏ فهذا الحكم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى كالصلاة عند الخوف والصلاة في حالة المرض من قعود أو من استلقاء حسب الإمكان‏.‏‏.‏ كل هذه الأحكام تكشف عن الحرص البالغ على إقامة الصلاة؛ وتبين إلى أي حد يعتمد المنهج على هذه العبادة لتحقيق أغراضه التربوية في النفس البشرية‏.‏ إذ يجعل من لقاء الله والوقوف بين يديه وسيلة عميقة الأثر، لا يفرط فيها في أدق الظروف وأحرجها؛ ولا يجعل عقبة من العقبات تحول بين المسلم وبين هذا الوقوف وهذا اللقاء‏.‏‏.‏ لقاء العبد بربه‏.‏‏.‏ وعدم انقطاعه عنه لسبب من الأسباب‏.‏‏.‏ إنها نداوة القلب، واسترواح الظل، وبشاشة اللقاء‏.‏‏.‏

ويعقب على أحكام الطهارة، وعلى ما سبقها من الأحكام بتذكير الذين آمنوا بنعمة الله عليهم بالإيمان، وبميثاق الله معهم على السمع والطاعة، وهو الميثاق الذي دخلوا به في الإسلام- كما تقدم- كما يذكرهم تقوى الله، وعلمه بما تنطوي عليه الصدور‏:‏

‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم، وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم‏:‏ سمعنا وأطعنا، واتقوا الله، إن الله عليم بذات الصدور‏}‏‏.‏‏.‏

وكان المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعرفون- كما قدمنا- قيمة نعمة الله عليهم بهذا الدين‏.‏ إذ كانوا يجدون حقيقتها في كيانهم، وفي حياتهم، وفي مجتمعهم، وفي مكانهم من البشرية كلها من حولهم‏.‏ ومن ثم كانت الإشارة- مجرد الإشارة- إلى هذه النعمة تكفي، إذ كانت توجه القلب والنظر إلى حقيقة ضخمة قائمة في حياتهم ملموسة‏.‏

كذلك كانت الإشارة إلى ميثاق الله الذي واثقهم به على السمع والطاعة، تستحضر لتوها حقيقة مباشرة يعرفونها‏.‏ كما كانت تثير في مشاعرهم الاعتزاز حيث تقفهم من الله ذي الجلال موقف الطرف الآخر في تعاقد مع الله، وهو أمر هائل جليل في حس المؤمن، حين يدرك حقيقته هذه ويتملاها‏.‏‏.‏

ومن ثم يكلهم الله في هذا إلى التقوى‏.‏ إلى إحساس القلب بالله، ومراقبته في خطراته الخافية‏:‏

‏{‏واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور‏}‏‏.‏‏.‏

والتعبير ‏{‏بذات الصدور‏}‏ تعبير مصور معبر موح، نمر به كثيراً في القرآن الكريم‏.‏ فيحسن أن ننبه إلى مافيه من دقة وجمال وإيحاء‏.‏ وذات الصدور‏:‏ أي صاحبة الصدور، الملازمة لها، اللاصقة بها‏.‏ وهي كناية عن المشاعر الخافية، والخواطر الكامنة، والأسرار الدفينة‏.‏ التي لها صفة الملازمة للصدور والمصاحبة‏.‏ وهي على خفائها وكتمانها مكشوفة لعلم الله، المطلع على ذات الصدور‏.‏‏.‏

ومن الميثاق الذي واثق الله به الأمة المسلمة، القوامة على البشرية بالعدل‏.‏‏.‏ العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه مع المودة والشنآن؛ ولا يتأثر بالقرابة أو المصلحة أو الهوى في حال من الأحوال‏.‏ العدل المنبثق من القيام لله وحده بمنجاة من سائر المؤثرات‏.‏

‏.‏ والشعور برقابة الله وعلمه بخفايا الصدور‏.‏‏.‏ ومن ثم فهذا النداء‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا‏.‏ اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون‏}‏‏.‏‏.‏

لقد نهى الله الذين آمنوا من قبل أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن المسجد الحرام، على الاعتداء‏.‏ وكانت هذه قمة في ضبط النفس والسماحة يرفعهم الله إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم‏.‏ فهاهم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن يميلوا عن العدل‏.‏‏.‏ وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق‏.‏ فهي مرحلة وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده؛ تتجاوزه إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره والبغض‏!‏ إن التكليف الأول أيسر لأنه إجراء سلبي ينتهي عند الكف عن الاعتداء‏.‏ فأما التكليف الثاني فأشق لأنه إجراء إيجابي يحمل النفس على مباشرة العدل والقسط مع المبغوضين المشنوئين‏!‏

والمنهج التربوي الحكيم يقدر ما في هذا المرتقى من صعوبة‏.‏ فيقدم له بما يعين عليه‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

ويعقب عليه بما يعين عليه أيضاً‏:‏

‏{‏واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون‏}‏‏.‏‏.‏

إن النفس البشرية لا ترتقي هذا المرتقى قط، إلا حين تتعامل في هذا الأمر مباشرة مع الله‏.‏ حين تقوم لله، متجردة عن كل ما عداه‏.‏ وحين تستشعر تقواه، وتحس أن عينه على خفايا الضمير وذات الصدور‏.‏

وما من اعتبار من اعتبارات الأرض كلها يمكن أن يرفع النفس البشرية إلى هذا الأفق، ويثبتها عليه‏.‏ وما غير القيام لله، والتعامل معه مباشرة، والتجرد من كل اعتبار آخر، يملك أن يستوي بهذه النفس على هذا المرتقى‏.‏

وما من عقيدة أو نظام في هذه الأرض يكفل العدل المطلق للأعداء المشنوئين، كما يكفله لهم هذا الدين؛ حين ينادي المؤمنين به أن يقوموا لله في هذا الأمر؛ وأن يتعاملوا معه، متجردين عن كل اعتبار‏.‏

وبهذه المقوّمات في هذا الدين كان الدين العالمي الإنساني الأخير؛ الذي يتكفل نظامه للناس جميعاً- معتنقيه وغير معتنقيه- أن يتمتعوا في ظله بالعدل؛ وأن يكون هذا العدل فريضة غلى معتنقيه، يتعاملون فيها مع ربهم، مهما لاقوا من الناس من بغض وشنآن‏.‏‏.‏

وإنها لفريضة الأمة القوامة على البشرية‏.‏ مهما يكن فيها من مشقة وجهاد‏.‏

ولقد قامت هذه الأمة بهذه القوامة؛ وأدت تكاليفها هذه؛ يوم استقامت على الإسلام‏.‏ ولم تكن هذه في حياتها مجرد وصايا، ولا مجرد مثل عليا، ولكنها كانت واقعاً من الواقع في حياتها اليومية، واقعاً لم تشهد البشرية مثله من قبل ولا من بعد، ولم تعرفه في هذا المستوى إلا في الحقبة الإسلامية المنيرة‏.‏‏.‏ والأمثلة التي وعاها التاريخ في هذا المجال كثيرة مستفيضة‏.‏ تشهد كلها بأن هذه الوصايا والفرائض الربانية، قد استحالت في حياة هذه الأمة منهجاً في عالم الواقع يؤدى ببساطة، ويتمثل في يوميات الأمة المألوفة‏.‏

‏.‏ إنها لم تكن مثلاً عليا خيالية، ولا نماذج كذلك فردية‏.‏ إنما كانت طابع الحياة الذي لا يرى الناس أن هناك طريقاً آخر سواه‏.‏

وحين نطل من هذه القمة السامقة على الجاهلية في كل أعصارها وكل ديارها- بما فيها جاهلية العصور الحديثة- ندرك المدى المتطاول بين منهج يصنعه الله للبشر، ومناهج يصنعها الناس للناس‏.‏ ونرى المسافة التي لا تعبر بين آثار هذه المناهج وآثار ذلك المنهج الفريد في الضمائر والحياة‏.‏

إن الناس قد يعرفون المبادئ؛ ويهتفون بها‏.‏‏.‏ ولكن هذا شيء، وتحقيقها في عالم الواقع شيء آخر‏.‏‏.‏ وهذه المبادئ التي يهتف بها الناس للناس طبيعي، ألا تتحقق في عالم الواقع‏.‏‏.‏ فليس المهم أن يُدعى الناس إلى المبادئ؛ ولكن المهم هو من يدعوهم إليها‏.‏‏.‏ المهم هو الجهة التي تصدر منها الدعوة‏.‏‏.‏ المهم هو سلطان هذه الدعوة على الضمائر والسرائر‏.‏‏.‏ المهم هو المرجع الذي يرجع إليه الناس بحصيلة كدهم وكدحهم لتحقيق هذه المبادئ‏.‏‏.‏

وقيمة الدعوة الدينية إلى المبادئ التي تدعو إليها، هو سلطان الدين المستمد من سلطان الله، فما يقوله فلان وعلان علام يستند‏؟‏ وأي سلطان له على النفوس والضمائر‏؟‏ وماذا يملك للناس حين يعودون إليه بكدحهم وكدهم في تحقيق هذه المبادئ‏؟‏

يهتف ألف هاتف بالعدل‏.‏ وبالتطهر‏.‏ وبالتحرر‏.‏ وبالتسامي‏.‏ وبالسماحة‏.‏ وبالحب‏.‏ وبالتضحية‏.‏ وبالإيثار‏.‏‏.‏‏.‏ ولكن هتافهم لا يهز ضمائر الناس؛ ولا يفرض نفسه على القلوب‏.‏ لأنه دعاء ما أنزل الله به من سلطان‏!‏

ليس المهم هو الكلام‏.‏‏.‏ ولكن المهم من وراء هذا الكلام‏!‏

ويسمع الناس الهتاف من ناس مثلهم بالمبادئ والمثل والشعارات- مجردة من سلطان الله- ولكن ما أثرها‏؟‏ إن فطرتهم تدرك أنها توجيهات من بشر مثلهم‏.‏ تتسم بكل ما يتسم به البشر من جهل وعجز وهوى وقصور‏.‏ فتتلقاها فطرة الناس على هذا الأساس‏.‏ فلا يكون لها على فطرتهم من سلطان‏!‏ ولا يكون لها في كيانهم من هزة، ولا يكون لها في حياتهم من أثر إلا أضعف الأثر‏!‏

ثم إن قيمة هذه «الوصايا» في الدين، أنها تتكامل مع «الإجراءات» لتكييف الحياة‏.‏ فهو لا يلقيها مجردة في الهواء‏.‏‏.‏ فأما حين يتحول الدين إلى مجرد وصايا؛ وإلى مجرد شعائر؛ فإن وصاياه لا تنفذ ولا تتحقق‏!‏ كما نرى ذلك الآن في كل مكان‏.‏‏.‏

إنه لا بد من نظام للحياة كلها وفق منهج الدين؛ وفي ظل هذا النظام ينفذ الدين وصاياه‏.‏ ينفذها في أوضاع واقعية تتكامل فيها الوصايا والإجراءات‏!‏‏.‏‏.‏ وهذا هو «الدين» في المفهوم الإسلامي دون سواه‏.‏‏.‏ الدين الذي يتمثل في نظام يحكم كل جوانب الحياة‏.‏

وحين تحقق «الدين» بمفهومه هذا في حياة الجماعة المسلمة أطلت على البشرية كلها من تلك القمة السامقة؛ والتي ما تزال سامقة على سفوح الجاهلية الحديثة؛ كما كانت سامقة على سفوح الجاهلية العربية وغيرها على السواء‏.‏

‏.‏ وحين تحول «الدين» إلى وصايا على المنابر؛ وإلى شعائر في المساجد؛ وتخلى عن نظام الحياة‏.‏‏.‏ لم يعد لحقيقة الدين وجود في الحياة‏!‏

ولا بد من جزاء للمؤمنين من الله، الذي يتعاملون معه وحده؛ يشجع ويقوي على النهوض بتكاليف القوامة؛ وعلى الوفاء بالميثاق‏.‏ ولا بد أن يختلف مصير الذين كفروا وكذبوا عن مصير الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند الله‏:‏

‏{‏وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لهم مغفرة وأجر عظيم‏.‏ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم‏}‏‏.‏‏.‏

إنه الجزاء الذي يعوض الخيرين عما يفوتهم من عرض الحياة الدنيا- وهم ينهضون بالتكاليف العليا- والذي تصغر معه تكاليف القوامة على أهواء البشرية وعنادها ولجاجها في هذه الأرض‏.‏‏.‏ ثم هو العدل الإلهي الذي لا يسوي بين جزاء الخيرين وجزاء الأشرار‏!‏

ولا بد من تعليق قلوب المؤمنين وأنظارهم بهذا العدل وبذلك الجزاء‏.‏ لتتعامل مع الله متجردة من كل النوازع المعوقة من ملابسات الحياة‏.‏‏.‏ وبعض القلوب يكفيها أن تشعر برضاء الله؛ وتتذوق حلاوة هذا الرضى؛ كما تتذوق حلاوة الوفاء بالميثاق‏.‏‏.‏ ولكن المنهج يتعامل مع الناس جميعاً‏.‏ مع الطبيعة البشرية والله يعلم من هذه الطبيعة حاجتها إلى هذا الوعد بالمغفرة والأجر العظيم‏.‏ وحاجتها كذلك إلى معرفة جزاء الكافرين المكذبين‏!‏ إن هذا وذلك يرضي هذه الطبيعة‏.‏ يطمئنها على مصيرها وجزائها؛ ويشفي غيظها من أفاعيل الشريرين‏!‏ وبخاصة إذا كانت مأمورة بالعدل مع من تكره من هؤلاء‏!‏ بعد أن تلقى منهم ما تلقى من الكيد والإيذاء‏.‏‏.‏ والمنهج الرباني يأخذ الطبيعة البشرية بما يعلمه الله من أمرها؛ ويهتف لها بما تتفتح له مشاعرها، وتستجيب له كينونتها‏.‏‏.‏ ذلك فوق أن المغفرة والأجر العظيم دليل رضى الله الكريم؛ وفيهما مذاق الرضى فوق مذاق النعيم‏.‏

ويمضي السياق يقوِّي في الجماعة المسلمة روح العدل والقسط والسماحة؛ ويكفكف فيها شعور العدوان والميل والانتقام‏.‏‏.‏ فيذكر المسلمين نعمة الله عليهم في كف المشركين عنهم، حين هموا في عام الحديبية- أو في غيره- أن يبسطوا إليهم أيديهم بالعدوان‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم‏.‏ إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم، فكف أيديهم عنكم‏.‏ واتقوا الله‏.‏ وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

وتختلف الروايات في من تعنيهم هذه الآية‏.‏ ولكن الأرجح أنها إشارة إلى حادثة المجموعة التي همت يوم الحديبية أن تغدر برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبالمسلمين، فتأخذهم على غرة‏.‏ فأوقعهم الله أسارى في أيدي المسلمين ‏(‏كما فصلنا ذلك في تفسير سورة الفتح‏)‏‏.‏

وأياً ما كان الحادث، فإن عبرته في هذا المقام هي المنشودة في المنهج التربوي الفريد، وهي إماتة الغيظ والشنآن لهؤلاء القوم في صدور المسلمين‏.‏

كي يفيئوا إلى الهدوء والطمأنينة وهم يرون أن الله هو راعيهم وكالئهم‏.‏ وفي ظل الهدوء والطمأنينة يصبح ضبط النفس، وسماحة القلب، وإقامة العدل ميسورة‏.‏ ويستحيي المسلمون أن لا يفوا بميثاقهم مع الله؛ وهو يرعاهم ويكلؤهم، ويكف الأيدي المبسوطة إليهم‏.‏

ولا ننس أن نقف وقفة قصيرة أمام التعبير القرآني المصور‏:‏

‏{‏إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم‏}‏‏.‏‏.‏

في مقام‏:‏ إذ همَّ قوم أن يبطشوا بكم ويعتدوا عليكم فحماكم الله منهم‏.‏‏.‏

إن صورة و«حركة» بسط الأيدي وكفها أكثر حيوية من ذلك التعبير المعنوي الآخر‏.‏‏.‏ والتعبير القرآني يتبع طريقة الصورة والحركة‏.‏ لأن هذه الطريقة تطلق الشحنة الكاملة في التعبير؛ كما لو كان هذا التعبير يطلق للمرة الأولى؛ مصاحباً للواقعة الحسية التي يعبر عنها مبرزاً لها في صورتها الحية المتحركة‏.‏‏.‏ وتلك طريقة القرآن‏.‏