فصل: تفسير الآيات رقم (51- 66)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 66‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏51‏)‏ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ‏(‏52‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ‏(‏53‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏54‏)‏ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ‏(‏55‏)‏ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏56‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏58‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏59‏)‏ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏60‏)‏ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏62‏)‏ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏63‏)‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏64‏)‏ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏65‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

نصوص هذا الدرس كله تؤيد ما ذهبنا إليه في تقديم السورة، من أن هذه السورة لم تنزل كلها بعد سورة الفتح التي نزلت في الحديبية في العام السادس الهجري؛ وأن مقاطع كثيرة فيها يرجح أن تكون قد نزلت قبل ذلك؛ وقبل إجلاء بني قريظة في العام الرابع- عام الأحزاب- على الأقل، إن لم يكن قبل هذا التاريخ أيضاً‏.‏‏.‏ قبل إجلاء بني النضير بعد أحد، وبني قينقاع بعد بدر‏.‏‏.‏

فهذه النصوص تشير إلى أحداث، وإلى حالات واقعة في الجماعة المسلمة بالمدينة، وإلى ملابسات ومواقف لليهود وللمنافقين، لا تكون أبداً بعد كسر شوكة اليهود؛ وآخرها كان في وقعة بني قريظة‏.‏

فهذا النص عن إتخاذ اليهود والنصارى أولياء‏.‏ وهذا التحذير- بل التهديد- بأن من يتولهم فهو منهم‏.‏ وهذه الإشارة إلى أن الذين في قلوبهم مرض يوالونهم، ويحتجون بأنهم يخشون الدوائر‏.‏ وتنفير المسلمين من الولاء لمن يتخذون دينهم هزواً ولعباً والإشارة إلى أن هؤلاء يتخذون صلاة المسلمين- إذا قام المسلمون إلى الصلاة- هزواً ولعباً‏.‏‏.‏‏.‏ كل أولئك لا يكون إلا ولليهود في المدينة من القوة والنفوذ والتمكن، ما يجعل من الممكن أن تقوم هذه الملابسات، وأن تقع هذه الحوادث؛ وأن يحتاج الأمر إلى هذا التحذير المشدد، وإلى هذا التهديد المكرر؛ ثم إلى بيان حقيقة اليهود؛ والتشهير بهم والتنديد؛ وإلى كشف كيدهم ومناوراتهم ومداوراتهم على هذا النحو، المنوع الأساليب‏.‏

وقد ذكرت بعض الروايات أسباباً لنزول آيات في هذا الدرس؛ يرجع بعضها إلى حادث بني قينقاع بعد غزورة بدر‏.‏ وموقف عبدالله بن أبى بن سلول‏.‏ وقوله في ولائه لليهود وولاء اليهود له‏:‏ إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي‏!‏

وحتى بدون هذه الروايات، فإن الدراسة الموضوعية لطبيعة النصوص وجّوها، ومراجعتها على أحداث السيرة ومراحلها وأطوارها في المدينة، تكفي لترجيح ما ذهبنا إليه في تقديم السورة عن الفترة التي نزلت فيها‏.‏‏.‏

وتشير نصوص هذا الدرس إلى طريقة المنهج القرآني في تربية الجماعة المسلمة وإعدادها لدورها الذي قدره الله لها؛ كما تشير إلى مقّومات هذا المنهج والمبادئ التي يريد تقريرها في النفس المسلمة وفي الجماعة المسلمة في كل حين‏.‏ وهي مقومات ومبادئ ثابته، ليست خاصة بجيل من هذه الأمة دون جيل‏.‏ إنما هي أساس النشأة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة في كل جيل‏.‏‏.‏

إن هذا القرآن يربي الفرد المسلم على أساس إخلاص ولائه لربه ورسوله وعقيدته وجماعته المسلمة، وعلى ضرورة المفاصلة الكاملة بين الصف الذي يقف فيه وكل صف آخر لا يرفع راية الله، ولا يتبع قيادة رسول الله؛ ولا ينضم إلى الجماعة التي تمثل حزب الله‏.‏

وإشعاره أنه موضع اختيار الله، ليكون ستاراً لقدرته، وأداة لتحقيق قدره في حياة البشر وفي وقائع التاريخ‏.‏ وأن هذا الاختيار- بكل تكاليفه- فضل من الله يؤتيه من يشاء‏.‏ وأن موالاة غير الجماعة المسلمة معناه الارتداد عن دين الله، والنكول عن هذا الاختيار العظيم، والتخلي عن هذا التفضل الجميل‏.‏‏.‏

وهذا التوجه واضح في النصوص الكثيرة في هذا الدرس‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏.‏‏.‏ بعضهم أولياء بعض‏.‏‏.‏ ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏.‏‏.‏ إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه‏.‏ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين‏.‏ يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم‏.‏‏.‏ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء‏.‏ والله واسع عليم‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون‏.‏‏.‏ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يربي القرآن وعي المسلم بحقيقة أعدائه، وحقيقة المعركة التي يخوضها معهم ويخوضونها معه‏.‏ إنها معركة العقيدة‏.‏ فالعقيدة هي القضية القائمة بين المسلم وكل أعدائه‏.‏‏.‏ وهم يعادونه لعقيدته ودينه، قبل أي شيء آخر، وهم يعادونه هذا العداء الذي لا يهدأ لأنهم هم فاسقون عن دين الله، ومن ثم يكرهون كل من يستقيم على دين الله‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون‏}‏ فهذه هي العقدة؛ وهذه هي الدوافع الأصيلة‏!‏

وقيمة هذا المنهج، وقيمة هذه التوجيهات الأساسية فيه، عظيمة‏.‏ فإخلاص الولاء لله ورسوله ودينه وللجماعة المسلمة القائمة على هذا الأساس، ومعرفة طبيعة المعركة وطبيعة الأعداء فيها‏.‏‏.‏ أمران مهمان سواء في تحقيق شرائط الإيمان أو في التربية الشخصية للمسلم، أو في التنظيم الحركي للجماعة المسلمة‏.‏‏.‏ فالذين يحملون راية هذه العقيدة لا يكونون مؤمنين بها أصلاً، ولا يكونون في ذواتهم شيئاً، ولا يحققون في واقع الأرض أمراً ما لم تتم في نفوسهم المفاصلة الكاملة بينهم وبين سائر المعسكرات التي لا ترفع رايتهم، وما لم يتمحض ولاؤهم لله ورسوله ولقيادتهم الخاصة المؤمنة به، وما لم يعرفوا طبيعة أعدائهم وبواعثهم وطبيعة المعركة التي يخوضونها معهم، وما لم يستيقنوا أنهم جميعاً إلب عليهم، وأن بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة والعقيدة الإسلامية على السواء‏.‏

والنصوص في هذا الدرس لا تقف عند كشف بواعث المعركة في نفوس أعداء الجماعة المسلمة‏.‏ بل تكشف كذلك طبيعة هؤلاء الأعداء ومدى فسقهم وانحرافهم، ليتبين المسلم حقيقة من يحاربه، وليطمئن ضميره إلى المعركة التي يخوضها، وليقتنع وجدانه بضرورة هذه المعركة، وأنه لا مفر منها‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏.‏

‏.‏ بعضهم أولياء بعض‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً- من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار- أولياء‏.‏ واتقوا الله إن كنتم مؤمنين‏.‏ وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏وإذا جاءوكم قالوا‏:‏ آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به، والله أعلم بما كانوا يكتمون‏.‏ وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان، وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وقالت اليهود‏:‏ يد الله مغلولة، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا‏.‏ بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء‏.‏ وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً‏}‏‏.‏‏.‏ ومن هذه صفاتهم، ومواقفهم من الجماعة المسلمة، وتألبهم عليها، واستهزاؤهم بدينها وصلاتها، لا مناص للمسلم من دفعهم وهو مطمئن الضمير‏.‏‏.‏

كذلك تقرر النصوص نهاية المعركة ونتيجتها، وقيمة الإيمان في مصائر الجماعات في هذه الحياة الدنيا قبل الجزاء في الحياة الآخرة‏:‏ ‏{‏ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم‏.‏ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل، وما أنزل إليهم من ربهم، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏‏.‏‏.‏

كما تقرر صفة المسلم الذي يختاره الله لدينه، ويمنحه هذا الفصل العظيم في اختياره لهذا الدور الكبير‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم‏.‏‏.‏ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم‏}‏‏.‏‏.‏

وكل هذه التقريرات خطوات في المنهج، وفي صياغة الفرد المسلم، والجماعة المسلمة على الأساس المتين‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏.‏ بعضهم أولياء بعض‏.‏ ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏.‏ إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏.‏ فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم، يقولون‏:‏ نخشى أن تصيبنا دائرة‏.‏ فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين‏:‏ ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم‏؟‏ حبطت أعمالهم، فأصبحوا خاسرين‏}‏‏.‏‏.‏

ويحسن أن نبين أولاً معنى الولاية التي ينهى الله الذين آمنوا أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى‏.‏‏.‏

إنها تعني التناصر والتحالف معهم‏.‏ ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم‏.‏ فبعيد جداً أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين‏.‏ إنما هو ولاء التحالف والتناصر، الذي كان يلتبس على المسلمين أمره، فيحسبون أنه جائز لهم، بحكم ما كان واقعاً من تشابك المصالح والأواصر، ومن قيام هذا الولاء بينهم وبين جماعات من اليهود قبل الإسلام، وفي أوائل العهد بقيام الإسلام في المدينة، حتى نهاهم الله عنه وأمر بإبطاله‏.‏

بعد ما تبين عدم إمكان قيام الولاء والتحالف والتناصر بين المسلمين واليهود في المدينة‏.‏‏.‏

وهذا المعنى معروف محدد في التعبيرات القرآنية‏.‏ وقد جاء في صدد الكلام عن العلاقة بين المسلمين في المدينة والمسلمين الذين لم يهاجروا إلى دار الإسلام‏.‏ فقال الله سبحانه‏:‏ ‏{‏ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا‏}‏‏.‏ وطبيعي أن المقصود هنا ليس الولاية في الدين‏.‏ فالمسلم ولي المسلم في الدين على كل حال‏.‏ إنما المقصود هو ولاية التناصر والتعاون‏.‏ فهي التي لا تقوم بين المسلمين في دار الإسلام والمسلمين الذين لم يهاجروا إليهم‏.‏‏.‏ وهذا اللون من الولاية هو الذي تمنع هذه الآيات أن يقوم بين الذين آمنوا وبين اليهود والنصارى بحال، بعد ما كان قائماًَ بينهم أول العهد في المدينة‏.‏

إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء، واتخاذهم أولياء شيء آخر، ولكنهما يختلطان على بعض المسلمين، الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤية الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته، بوصفه حركة منهجية واقعية، تتجه إلى إنشاء واقع في الأرض، وفق التصور الإسلامي الذي يختلف في طبيعته عن سائر التصورات التي تعرفها البشرية؛ وتصطدم- من ثم- بالتصورات والأوضاع المخالفة، كما تصطدم بشهوات الناس وانحرافهم وفسوقهم عن منهج الله، وتدخل في معركة لا حيلة فيها، ولا بد منها، لإنشاء ذلك الواقع الجديد الذي تريده، وتتحرك إليه حركة إيجابية فاعلة منشئة‏.‏‏.‏

وهؤلاء الذين تختلط عليهم تلك الحقيقة ينقصهم الحس النقي بحقيقة العقيدة، كما ينقصهم الوعي الذكي لطبيعة المعركة وطبيعة موقف أهل الكتاب فيها؛ ويغفلون عن التوجيهات القرآنية الواضحة الصريحة فيها، فيخلطون بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه مكفولي الحقوق، وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللجماعة المسلمة‏.‏ ناسين ما يقرره القرآن الكريم من أن أهل الكتاب‏.‏‏.‏ بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة‏.‏‏.‏ وأن هذا شأن ثابت لهم، وأنهم ينقمون من المسلم إسلامه، وأنهم لن يرضوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم‏.‏ وأنهم مصرون على الحرب للإسلام وللجماعة المسلمة‏.‏ وأنهم قد بدت البغضاء من أفواهم وما تخفي صدورهم أكبر‏.‏‏.‏ إلى آخر هذه التقريرات الحاسمة‏.‏

إن المسلم مطالب بالسماحة مع أهل الكتاب، ولكنه منهي عن الولاء لهم بمعنى التناصر والتحالف معهم‏.‏ وإن طريقه لتمكين دينه وتحقيق نظامه المتفرد لا يمكن أن يلتقي مع طريق أهل الكتاب، ومهما أبدى لهم من السماحة والمودة فإن هذا لن يبلغ أن يرضوا له البقاء على دينه وتحقيق نظامه، ولن يكفهم عن موالاة بعضهم لبعض في حربه والكيد له‏.‏‏.‏

وسذاجة أية سذاجة وغفلة أية غفلة، أن نظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين‏!‏ أمام الكفار والملحدين‏!‏ فهم مع الكفار والملحدين، إذا كانت المعركة مع المسلمين‏!‏‏!‏‏!‏

وهذه الحقائق الواعية يغفل عنها السذج منا في هذا الزمان وفي كل زمان؛ حين يفهمون أننا نستطيع أن نضع أيدينا في أيدي أهل الكتاب في الأرض للوقوف في وجه المادية والإلحاد- بوصفنا جميعاً أهل دين‏!‏- ناسين تعليم القرآن كله؛ وناسين تعليم التاريخ كله‏.‏

فأهل الكتاب هؤلاء هم الذين كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين‏:‏ ‏{‏هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً‏}‏‏.‏ وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين ألبوا المشركين على الجماعة المسلمة في المدينة، وكانوا لهم درعاً وردءاً‏.‏ وأهل الكتاب هم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس، وهم الذي شردوا العرب المسلمين في فلسطين، وأحلوا اليهود محلهم، متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية‏!‏ وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين يشردون المسلمين في كل مكان‏.‏‏.‏ في الحبشة والصومال واريتريا والجزائر، ويتعاونون في هذا التشريد مع الإلحاد والمادية والوثنية، في يوغسلافيا والصين والتركستان والهند، وفي كل مكان‏!‏

ثم يظهر بيننا من يظن- في بعد كامل عن تقريرات القرآن الجازمة- أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر‏.‏ ندفع به المادية الإلحادية عن الدين‏!‏

إن هؤلاء لا يقرأون القرآن‏.‏ وإذا قرأوه اختلطت عليهم دعوة السماحة التي هي طابع الإسلام؛ فظنوها دعوة الولاء الذي يحذر منه القرآن‏.‏

إن هؤلاء لا يعيش الإسلام في حسهم، لا بوصفه عقيدة لا يقبل الله من الناس غيرها، ولا بوصفه حركة إيجابية تستهدف إنشاء واقع جديد في الأرض؛ تقف في وجه عداوات أهل الكتاب اليوم، كما وقفت له بالأمس‏.‏ الموقف الذي لا يمكن تبديله‏.‏ لأنه الموقف الطبيعي الوحيد‏!‏

وندع هؤلاء في إغفالهم أو غفلتهم عن التوجيه القرآني، لنعي نحن هذا التوجيه القرآني الصريح‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏.‏‏.‏ بعضهم أولياء بعض‏.‏‏.‏ ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏.‏ إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

هذا النداء موجه إلى الجماعة المسلمة في المدينة- ولكنه في الوقت ذاته موجه لكل جماعة مسلمة تقوم في أي ركن من أركان الأرض إلى يوم القيامة‏.‏‏.‏ موجه لكل من ينطبق عليه ذات يوم صفة‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد كانت المناسبة الحاضرة إذ ذاك لتوجيه هذا النداء للذين آمنوا، أن المفاصلة لم تكن كاملة ولا حاسمة بين بعض المسلمين في المدينه وبعض أهل الكتاب- وبخاصه اليهود- فقد كانت هناك علاقات ولاء وحلف، وعلاقات اقتصاد وتعامل، وعلاقات جيره وصحبه‏.‏‏.‏ وكان هذا كله طبيعياً مع الوضع التاريخي والاقتصادي والاجتماعي في المدينة قبل الإسلام، بين أهل المدينة من العرب وبين اليهود بصفة خاصة‏.‏‏.‏ وكان هذا الوضع يتيح لليهود أن يقوموا بدورهم في الكيد لهذا الدين وأهله؛ بكل صنوف الكيد التي عددتها وكشفتها النصوص القرآنية الكثيرة؛ والتي سبق استعراض بعضها في الأجزاء الخمسة الماضية من هذه الظلال؛ والتي يتولى هذا الدرس وصف بعضها كذلك في هذه النصوص‏.‏

ونزل القرآن ليبث الوعي اللازم للمسلم في المعركة التي يخوضها بعقيدته، لتحقيق منهجه الجديد في واقع الحياة‏.‏ ولينشئ في ضمير المسلم تلك المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من لا ينتمي إلى الجماعة المسلمة ولا يقف تحت رايتها الخاصة‏.‏ المفاصلة التي لا تنهي السماحة الخلقية‏.‏ فهذه صفة المسلم دائماً‏.‏ ولكنها تنهي الولاء الذي لا يكون في قلب المسلم إلا لله ورسوله والذين آمنوا‏.‏‏.‏ الوعي والمفاصلة اللذان لا بد منهما للمسلم في كل أرض وفي كل جيل‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏.‏‏.‏ بعضهم أولياء بعض‏.‏ ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏.‏ إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏‏.‏

بعضهم أولياء بعض‏.‏‏.‏ إنها حقيقة لا علاقة لها بالزمن‏.‏‏.‏ لأنها حقيقة نابعة من طبيعة الأشياء‏.‏‏.‏ إنهم لن يكونوا أولياء للجماعة المسلمة في أي أرض ولا في أي تاريخ‏.‏‏.‏ وقد مضت القرون تلو القرون ترسم مصداق هذه القولة الصادقة‏.‏‏.‏ لقد ولي بعضهم بعضاً في حرب محمد- صلى الله عليه وسلم- والجماعة المسلمة في المدينة‏.‏ وولي بعضهم بعضاً في كل فجاج الأرض، على مدار التاريخ‏.‏‏.‏ ولم تختل هذه القاعدة مرة واحدة؛ ولم يقع في هذه الأرض إلا ما قرره القرآن الكريم، في صيغة الوصف الدائم، لا الحادث المفرد‏.‏‏.‏ واختيار الجملة الأسمية على هذا النحو‏.‏‏.‏ بعضهم أولياء بعض‏.‏‏.‏ ليست مجرد تعبير‏!‏ إنما هي اختيار مقصود للدلالة على الوصف الدائم الأصيل‏!‏

ثم رتب على هذه الحقيقة الأساسية نتائجها‏.‏‏.‏ فإنه إذا كان اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض فإنه لا يتولاهم إلا من هو منهم‏.‏ والفرد الذي يتولاهم من الصف المسلم، يخلع نفسه من الصف ويخلع عن نفسه صفة هذا الصف «الإسلام» وينضم إلى الصف الآخر‏.‏ لأن هذه هي النتيجة الطبيعية الواقعية‏:‏

‏{‏ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏}‏‏.‏‏.‏

وكان ظالماً لنفسه ولدين الله وللجماعة المسلمة‏.‏‏.‏ وبسبب من ظلمه هذا يدخله الله في زمرة اليهود والنصارى الذين أعطاهم ولاءه‏.‏ ولا يهديه إلى الحق ولا يرده إلى الصف المسلم‏:‏

‏{‏إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

لقد كان هذا تحذيراً عنيفاً للجماعة المسلمة في المدينة‏.‏ ولكنه تحذير ليس مبالغاً فيه‏.‏ فهو عنيف‏.‏ نعم؛ ولكنه يمثل الحقيقة الواقعة‏.‏ فما يمكن أن يمنح المسلم ولاءه لليهود والنصارى- وبعضهم أولياء بعض- ثم يبقى له إسلامه وإيمانه، وتبقى له عضويته في الصف المسلم، الذين يتولى الله ورسوله والذين آمنوا‏.‏‏.‏ فهذا مفرق الطريق‏.‏‏.‏

وما يمكن أن يتميع حسم المسلم في المفاصلة الكاملة بينة وبين كل من ينهج غير منهج الإسلام؛ وبينه وبين كل من يرفع راية غير راية الإسلام؛ ثم يكون في وسعه بعد ذلك أن يعمل عملاً ذا قيمة في الحركة الإسلامية الضخمة التي تستهدف- أول ما تستهدف- إقامة نظام واقعي في الأرض فريد؛ يختلف عن كل الأنظمة الأخرى؛ ويعتمد على تصور متفرد كذلك من كل التصورات الأخرى‏.‏

إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم الذي لا أرجحة فيه ولا تردد بأن دينه هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس بعد رسالة محمد ص وبأن منهجه الذي كلفه الله أن يقيم الحياة عليه منهج متفرد ‏;‏ لا نظير له بين سائر المناهج ‏;‏ ولا يمكن الاستغناء عنه بمنهج آخر ‏;‏ ولا يمكن أن يقوم مقامه منهج آخر ‏;‏ ولا تصلح الحياة البشرية ولا تستقيم إلا أن تقوم على هذا المنهج وحده دون سواه ‏;‏ ولا يعفيه الله ولا يغفر له ولا يقبله إلا إذا هو بذل جهد طاقته في إقامة هذا المنهج بكل جوانبه الاعتقادية والاجتماعية ‏;‏ لم يأل في ذلك جهدا ولم يقبل من منهجه بديلا ولا في جزء منه صغير ولم يخلط بينه وبين أي منهج آخر في تصور اعتقادي ولا في نظام اجتماعي ولا في أحكام تشريعية إلا ما استبقاه الله في هذا المنهج من شرائع من قبلنا من أهل الكتاب إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم بهذا كله هو وحده الذي يدفعه للاضطلاع بعبء النهوض بتحقيق منهج الله الذي رضيه للناس ‏;‏ في وجه العقبات الشاقة والتكاليف المضنية والمقاومة العنيدة والكيد الناصب والألم الذي يكاد يجاوز الطاقة في كثير من الأحيان وإلا فما العناء في أمر يغني عنه غيره مما هو قائم في الأرض من جاهلية سواء كانت هذه الجاهلية ممثلة في وثنية الشرك أو في انحراف أهل الكتاب أو في الإلحاد السافر بل ما العناء في إقامة المنهج الإسلامي إذا كانت الفوارق بينه وبين مناهج أهل الكتاب أو غيرهم قليلة ‏;‏ يمكن الالتقاء عليها بالمصالحة والمهادنة إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية يخطئون فهم معنى الأديان كما يخطئون فهم معنى التسامح فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله والتسامح يكون في المعاملات الشخصية لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي إنهم يحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم بأن الله لا يقبل دينا إلا الإسلام وبأن عليه أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام ولا يقبل دونه بديلا ‏;‏ ولا يقبل فيه تعديلا ولو طفيفا هذا اليقين الذي ينشئه القرآن الكريم وهو يقرر إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم وفي القرآن كلمة الفصل ولا على المسلم من تميع المتميعين وتمييعهم لهذا اليقين ويصور السياق القرآني تلك الحالة التي كانت واقعة ‏;‏ والتي ينزل القرآن من أجلها بهذا التحذير فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة روى ابن جرير قال حدثنا أبو كريب حدثنا إدريس قال سمعت أبي عن عطية بن سعد قال جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم ‏;‏ وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي رأس النفاق إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي فقال رسول الله ص لعبد الله بن أبي «يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة ابن الصامت فهو لك دونه» قال قد قبلت فأنزل الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء وقال ابن جرير حدثنا هناد حدثنا يونس بن بكير حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري قال لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر فقال مالك بن الصيف أغركم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال أما لو أصررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا فقال عبادة بن الصامت يا رسول الله إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم كثيرا سلاحهم شديدة شوكتهم وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ولا مولى لي إلا الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي لكني لا أبرأ من ولاية يهود إني رجل لا بد لي منهم فقال رسول الله ص «يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة ابن الصامت فهو لك دونه» فقال إذن أقبل قال محمد بن إسحق فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله ص بنو قينقاع فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال فحاصرهم رسول الله ص حتى نزلوا على حكمه فقام إليه عبدالله بن أبي بن سلول حين أمكنة الله منهم فقال يا محمد أحسن في موالي وكانوا حلفاء الخزرج قال فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال يا محمد أحسن في موالي قال فأعرض عنه قال فأدخل يده في جيب درع رسول الله ص فقال له رسول الله ص «أرسلني» وغضب رسول الله ص حتى رأوا لوجهه ظللا ثم قال «ويحك أرسلني» قال لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر وثلاثمائه دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة إني امرؤ أخشى الدوائر قال فقال رسول الله ص «هم لك» قال محمد بن إسحق فحدثني أبي إسحق بن يسار عن عبادة عن الوليد بن عبادة بن الصامت قال لما حاربت بنو قينقاع رسول الله ص تشبث بأمرهم عبدالله بن أبى وقام دونهم ‏;‏ ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله ص وكان أحد بني عوف بن الخزرج له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي فجعلهم إلى رسول الله ص وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم وقال يا رسول الله أبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم وأتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم ففيه وفي عبدالله بن أبي نزلت الآية في المائدة يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض إلى قوله ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون وقال الإمام أحمد حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبى زيادة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عودة عن أسامة بن زيد قال دخلت مع رسول الله ص على عبدالله بن أبى نعوده فقال له النبي ص «قد كنت أنهاك عن حب يهود» فقال عبدالله فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات وأخرجه أبو داود من حديث محمد بن إسحق فهذه الأخبار في مجموعها تشير إلى تلك الحالة التي كانت واقعة في المجتمع المسلم ‏;‏ والمتخلفة عن الأوضاع التي كانت قائمة في المدينة قبل الإسلام ‏;‏ وكذلك عن التصورات التي لم تكن قد حسمت في قضية العلاقات التي يمكن أن تقوم بين الجماعة المسلمة واليهود والتي لا يمكن أن تقوم غير أن الذي يلفت النظر أنها كلها تتحدث عن اليهود ولم يجى ء ذكر في الوقائع للنصارى ولكن النص يجمل اليهود والنصارى ذلك أنه بصدد إقامة تصور دائم وعلاقة دائمة وأوضاع دائمة بين الجماعة المسلمة وسائر الجماعات الأخرى سواء من أهل الكتاب أو من المشركين كما سيجيء في سياق هذا الدرس ومع اختلاف مواقف اليهود من المسلمين عن مواقف النصارى في جملتها في العهد النبوي ومع إشارة القرآن الكريم في موضع آخر من السورة إلى هذا الاختلاف في قوله تعالى لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى الخ مع هذا الاختلاف الذي كان يومذاك فإن النص هنا يسوي بين اليهود والنصارى كما يسوي النص القادم بينهم جميعا وبين الكفار فيما يختص بقضية المحالفة والولاء ذلك أن هذه القضية ترتكز على قاعدة أخرى ثابتة هي أن ليس للمسلم ولاء ولا حلف إلا مع المسلم ‏;‏ وليس للمسلم ولاء إلا لله ولرسوله وللجماعة المسلمة ويستوي بعد ذلك كل الفرق في هذا الأمر مهما اختلفت مواقفهم من المسلمين في بعض الظروف على أن الله سبحانه وهو يضع للجماعة المسلمة هذه القاعدة العامة الحازمة الصارمة كان علمه يتناول الزمان كله لا تلك الفترة الخاصة من حياة رسول الله ص وملابساتها الموقوتة وقد أظهر التاريخ الواقع فيما بعد أن عداء النصارى لهذا الدين وللجماعة المسلمة في معظم بقاع الأرض لم يكن أقل من عداء اليهود وإذا نحن استثنينا موقف نصارى العرب ونصارى مصر في حسن استقبال الإسلام فإننا نجد الرقعة النصرانية في الغرب قد حملت للإسلام في تاريخها كله منذ أن احتكت به من العداوة والضغن وشنت عليه من الحرب والكيد ما لا يفترق عن حرب اليهود وكيدهم في أي زمان حتى الحبشة التي أحسن عاهلها استقبال المهاجرين المسلمين واستقبال الإسلام عادت فإذا هي أشد حربا على الإسلام والمسلمين من كل أحد ‏;‏ لا يجاريها في هذا إلا اليهود وكان الله سبحانه يعلم الأمر كله فوضع للمسلم هذه القاعدة العامة بغض النظر عن واقع الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها وملابساتها الموقوتة وبغض النظر عما يقع مثلها في بعض الأحيان هنا وهناك إلى آخر الزمان وما يزال الإسلام والذين يتصفون به ولو أنهم ليسوا من الإسلام في شيء يلقون من عنت الحرب المشبوبة عليهم وعلى عقيدتهم من اليهود والنصارى في كل مكان على سطح الأرض ما يصدق قول الله تعالى بعضهم أولياء بعض وما يحتم أن يتدرع المسلمون الواعون بنصيحة ربهم لهم بل بأمره الجازم ونهيه القاطع ‏;‏ وقضائه الحاسم في المفاصلة الكاملة بين أولياء الله ورسوله وكل معسكر آخر لا يرفع راية الله ورسوله إن الإسلام يكلف المسلم أن يقيم علاقاته بالناس جميعا على أساس العقيدة فالولاء والعداء لا يكونان في تصور المسلم وفي حركته على السواء إلا في العقيدة ومن ثم لا يمكن أن يقوم الولاء وهو التناصر بين المسلم وغير المسلم ‏;‏ إذ أنهما لا يمكن أن يتناصرا في مجال العقيدة ولا حتى أمام الإلحاد مثلا كما يتصور بعض السذج منا وبعض من لا يقرأون القرآن وكيف يتناصران وليس بينهما أساس مشترك يتناصران عليه إن بعض من لا يقرأون القرآن ولا يعرفون حقيقة الإسلام ‏;‏ وبعض المخدوعين أيضا يتصورون أن الدين كله دين كما أن الإلحاد كله إلحاد وأنه يمكن إذن أن يقف التدين بجملته في وجه الإلحاد لأن الإلحاد ينكر الدين كله ويحارب التدين على الإطلاق ولكن الأمر ليس كذلك في التصور الإسلامي ‏;‏ ولا في حس المسلم الذي يتذوق الإسلام ولا يتذوق الإسلام إلا من يأخذه عقيدة وحركة بهذه العقيدة لإقامة النظام الإسلامي إن الأمر في التصور الإسلامي وفي حس المسلم واضح محدد الدين هو الإسلام وليس هناك دين غيره يعترف به الإسلام لأن الله سبحانه يقول هذا يقول إن الدين عند الله الإسلام ويقول ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وبعد رسالة محمد ص لم يعد هناك دين يرضاه الله ويقبله من أحد إلا هذا الإسلام في صورته التي جاء بها محمد ص وما كان يقبل قبل بعثة محمد من النصارى لم يعد الآن يقبل كما أن ما كان يقبل من اليهود قبل بعثة عيسى عليه السلام لم يعد يقبل منهم بعد بعثته ووجود يهود ونصارى من أهل الكتاب بعد بعثه محمد ص ليس معناه أن الله يقبل منهم ما هم عليه ‏;‏ أو يعترف لهم بأنهم على دين إلهي لقد كان ذلك قبل بعثة الرسول الأخير أما بعد بعثته فلا دين في التصور الإسلامي وفي حس المسلم إلا الإسلام وهذا ما ينص عليه القرآن نصا غير قابل للتأويل إن الإسلام لا يكرههم على ترك معتقداتهم واعتناق الإسلام لأنه لا إكراه في الدين ولكن هذا ليس معناه أنه يعترف بما هم عليه ديناً ويراهم على دين ومن ثم فليس هناك جبهه تدين يقف معها الإسلام في وجه الإلحاد هناك دين هو الإسلام وهناك لا دين هو غير الإسلام ثم يكون هذا اللادين عقيدة أصلها سماوي ولكنها محرفه أو عقيده أصلها وثني باقيه على وثنيتها أو إلحاداً ينكر الأديان تختلف فيما بينها كلها ولكنها تختلف كلها مع الإسلام ولا حلف بينها وبين الإسلام ولا ولاء والمسلم يتعامل مع أهل الكتاب هؤلاء ‏;‏ وهو مطالب بإحسان معاملتهم كما سبق ما لم يؤذوه في الدين ‏;‏ ويباح له أن يتزوج المحصنات منهن على خلاف فقهي فيمن تعتقد بألوهية المسيح أو بنوته وفيمن تعتقد التثليث أهي كتابيه تحل أم مشركة تحرم وحتى مع الأخذ بمبدأ تحليل النكاح عامه فإن حسن المعامله وجواز النكاح ليس معناها الولاء والتناصر في الدين ‏;‏ وليس معناها اعتراف المسلم بأن دين أهل الكتاب بعد بعثة محمد ص هو دين يقبله الله ‏;‏ ويستطيع الإسلام أن يقف معه في جبهه واحدة لمقاومة الإلحاد إن الإسلام قد جاء ليصحح اعتقادات أهل الكتاب ‏;‏ كما جاء ليصحح اعتقادات المشركين والوثنيين سواء ودعاهم إلى الإسلام جميعاً لأن هذا هو الدين الذي لا يقبل الله غيره من الناس جميعاً ولما فهم اليهود أنهم غير مدعوين إلى الإسلام وكبر عليهم أن يدعوا إليه جابههم القرآن الكريم بأن الله يدعوهم إلى الإسلام فإن تولوا عنه فهم كافرون والمسلم مكلف أن يدعوا أهل الكتاب إلى الإسلام كما يدعو الملحدين والوثنيين سواء وهو غير مأذون في أن يكره أحداً من هؤلاء ولا هؤلاء على الإسلام لأن العقائد لا تنشأ في الضمائر بالإكراه فالإكراه في الدين فوق أنه منهي عنه هو كذلك لا ثمره له ولا يستقيم أن يعترف المسلم بأن ما عليه أهل الكتاب بعد بعثة محمد ص هو دين يقبله الله ثم يدعوهم مع ذلك إلى الإسلام إنه لا يكون مكلفاً بدعوتهم إلى الإسلام إلا على أساس واحد ‏;‏ هو أنه لا يعترف بأن ما هم عليه دين وأنه يدعوهم إلى الدين وإذا تقررت هذه البديهيه فإنه لا يكون منطقياً مع عقيدته إذا دخل في ولاء أو تناصر للتمكين للدين في الأرض مع من لا يدين بالإسلام إن هذه القضيه في الإسلام قضيه اعتقاديه إيمانيه كما أنها قضيه تنظيميه حركيه من ناحيه أنها قضيه إيمانيه اعتقاديه نحسب أن الأمر قد صار واضحاً بهذا البيان اذي أسلفناه وبالرجوع إلى النصوص القرآنيه القاطعه بعدم قيام ولاء بين المسلمين وأهل الكتاب ومن ناحية أنها قضية تنظيمية حركية الأمر واضح كذلك فإذا كان سعي المؤمن كله ينبغي أن يتجه إلى إقامة منهج الله في الحياة وهو المنهج الذي ينص عليه الإسلام كما جاء به محمد ص بكل تفصيلات وجوانب هذا المنهج وهي تشمل كل نشاط الإنسان في الحياة فكيف يمكن إذن أن يتعاون المسلم في هذا السعي مع من لا يؤمن بالإسلام دينا ومنهجا ونظاما وشريعة ‏;‏ ومن يتجه في سعيه إلى أهداف أخرى إن لم تكن معادية للإسلام وأهدافه فهي على الأقل ليست أهداف الإسلام إذ الإسلام لا يعترف بهدف ولا عمل لا يقوم على أساس العقيدة مهما بدا في ذاته صالحا والذين كفروا أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف والإسلام يكلف المسلم أن يخلص سعيه كله للإسلام ولا يتصور إمكان انفصال أية جزئية في السعي اليومي في حياة المسلم عن الإسلام لا يتصور إمكان هذا إلا من لا يعرف طبيعة الإسلام وطبيعة المنهج الإسلامي ولا يتصور أن هناك جوانب في الحياة خارجة عن هذا المنهج يمكن التعاون فيها مع من يعادي الإسلام أو لا يرضى من المسلم إلا أن يترك إسلامه كما نص الله في كتابه على ما يطلبه اليهود والنصارى من المسلم ليرضوا عنه إن هناك استحالة اعتقادية كما أن هناك استحالة عملية على السواء ولقد كان اعتذار عبدالله بن أبي بن سلول وهو من الذين في قلوبهم مرض عن مسارعته واجتهاده في الولاء ليهود والاستمساك بحلفه معها هي قوله إنني رجل أخشى الدوائر إني أخشى أن تدور علينا الدوائر وأن تصيبنا الشدة وأن تنزل بنا الضائقة وهذه الحجة هي علامة مرض القلب وضعف الإيمان فالولي هو الله ‏;‏ والناصر هو الله ‏;‏ والاستنصار بغيره ضلالة كما أنه عبث لا ثمرة له ولكن حجة ابن سلول هي حجة كل بن سلول على مدار الزمان ‏;‏ وتصوره هو تصور كل منافق مريض القلب لا يدرك حقيقة الإيمان وكذلك نفر قلب عبادة بن الصامت من ولاء يهود بعد ما بدا منهم ما بدا لأنه قلب مؤمن فخلع ولاء اليهود وقذف به حيث تلقاه وضم عليه صدره وعض عليه بالنواجذ عبدالله بن أبى بن سلول إنهما نهجان مختلفان ناشئان عن تصورين مختلفين وعن شعورين متباينين ومثل هذا الاختلاف قائم على مدار الزمان بين قلب مؤمن وقلب لا يعرف الإيمان ويهدد القرآن المستنصرين بأعداء دينهم المتألبين عليهم المنافقين الذين لا يخلصون لله اعتقادهم ولا ولاءهم ولا اعتمادهم يهددهم برجاء الفتح أو أمر الله الذي يفصل في الموقف ‏;‏ أو يكشف المستور من النفاق فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين وعندئذ عند الفتح سواء كان هو فتح مكة أو كان الفتح بمعنى الفصل أو عند مجيء أمر الله يندم أولئك الذين في قلوبهم مرض على المسارعة والاجتهاد في ولاء اليهود والنصارى وعلى النفاق الذي انكشف أمره وعندئذ يعجب الذين آمنوا من حال المنافقين ويستنكرون ما كانوا فيه من النفاق وما صاروا إليه من الخسران

ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ولقد جاء الله بالفتح يوما وتكشفت نوايا وحبطت أعمال وخسرت فئات ونحن على وعد من الله قائم بأن يجيء الفتح كلما استمسكنا بعروة الله وحده ‏;‏ وكلما أخلصنا الولاء لله وحده وكلما وعينا منهج الله وأقمنا عليه تصوراتنا وأوضاعنا وكلما تحركنا في المعركة على هدى الله وتوجيهه فلم نتخذ لنا وليا إلا الله ورسوله والذين آمنوا الدرس الثاني صفات الذين ينصرون دين الله الجديرين بالولاية وإذ ينتهي السياق من النداء الأول للذين آمنوا أن ينتهوا عن موالاة اليهود والنصارى وأن يحذروا أن يصيروا منهم بالولاء لهم وأن يرتدوا بذلك عن الإسلام وهم لا يشعرون أو لا يقصدون يرسل بالنداء الثاني يهدد من يرتد منهم عن دينه بهذا الولاء أو بسواه من الأسباب بأنه ليس عند الله بشيء وليس بمعجز الله ولا ضار بدينه وأن لدين الله أولياء وناصرين مدخرين في علم الله إن ينصرف هؤلاء يجيء بهؤلاء ويصور ملامح هذه العصبة المختارة المدخرة في علم الله لدينه وهي ملامح محببة جميلة وضيئة ويبين جهة الولاء الوحيدة التي يتجه إليها المسلم بولائه ويختم هذا النداء بتقرير النهاية المحتومة للمعركة التي يخوضها حزب الله مع الأحزاب والتي يتمتع بها من يخلصون ولاءهم لله ولرسوله وللمؤمنين يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون إن تهديد من يرتد عن دينه من الذين آمنوا على هذه الصورة وفي هذا المقام ينصرف ابتداء إلى الربط بين موالاة اليهود والنصارى وبين الارتداد عن الإسلام وبخاصة بعد ما سبق من اعتبار من يتولاهم واحدًا منهم منسلخا من الجماعة المسلمة منضما إليهم ومن يتولهم منكم فإنه منهم وعلى هذا الاعتبار يكون هذا النداء الثاني في السياق توكيدا وتقريرا للنداء الأول يدل على هذا كذلك النداء الثالث الذي يلي هذا النداء والسياق وهو منصب على النهي عن موالاة أهل الكتاب والكفار يجمع بينهم على هذا النحو الذي يفيد أن موالاتهم كموالاة الكفار سواء وأن تفرقة الإسلام في المعاملة بين أهل الكتاب والكفار لا تتعلق بقضية الولاء إنما هي في شئون أخرى لا يدخل فيها الولاء يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إن اختيار الله للعصبة المؤمنة لتكون أداة القدر الإلهي في إقرار دين الله في الأرض وتمكين سلطانه في حياة البشر وتحكيم منهجه في أوضاعهم وأنظمتهم وتنفيذ شريعته في أقضيتهم وأحوالهم وتحقيق الصلاح والخير والطهارة والنماء في الأرض بذلك المنهج وبهذه الشريعة إن هذا الاختيار للنهوض بهذا الأمر هو مجرد فضل الله ومنته فمن شاء أن يرفض هذا الفضل وأن يحرم نفسه هذه المنة فهو وذاك والله غنى عنه وعن العالمين والله يختار من عباده من يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم والصورة التي يرسمها للعصبة المختارة هنا صورة واضحة السمات قوية الملامح وضيئة جذابة حبيبة للقلوب فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه فالحب والرضى المتبادل هو الصلة بينهم وبين ربهم الحب هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق الرائق البشوش هو الذي يربط القوم بربهم الودود وحب الله لعبد من عبيده أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله سبحانه بصفاته كما وصف نفسه وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها أجل لا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي الذي يعرف من هو الله من هو صانع هذا الكون الهائل وصانع الإنسان الذي يلخص الكون وهو جرم صغير من هو في عظمته ومن هو في قدرته ومن هو في تفرده ومن هو في ملكوته من هو ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب والعبد من صنع يديه سبحانه وهو الجليل العظيم الحي الدائم الأزلى الأبدي الأول والآخر والظاهر والباطن وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما وفضلا غامرا جزيلا فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد الذي الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه هو إنعام هائل عظيم وفضل غامر جزيل وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا فوق التعبير أن يصفه فإن حب العبد لربه أمر قلما استطاعت العبارة أن تصوره إلا في فلتات قليلة من كلام المحبين وهذا هو الباب الذي تفوق فيه الواصلون من رجال التصوف الصادقين وهم قليل من بين ذلك الحشد الذي يلبس مسوح التصوف ويعرف في سجلهم الطويل ولا زالت أبيات رابعة العدوية تنقل إلى حسي مذاقها الصادق لهذا الحب الفريد وهي تقول فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب وهذا الحب من الجليل للعبد من العبيد والحب من العبد للمنعم المتفضل يشيع في هذا الوجود ويسري في هذا الكون العريض وينطبع في كل حي وفي كل شيء فإذا هو جو وظل يغمران هذا الوجود ويغمران الوجود الإنساني كله ممثلا في ذلك العبد المحب المحبوب والتصور الإسلامي يربط بين المؤمن وربه بهذا الرباط العجيب الحبيب وليست مرة واحدة ولا فلتة عابرة إنما هو أصل وحقيقة وعنصر في هذا التصور أصيل إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا إن ربي رحيم ودود وهو الغفور الودود وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان والذين آمنوا أشد حبا لله قل إن كنم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وغيرها كثير وعجبا لقوم يمرون على هذا كله ليقولوا إن التصور الإسلامي تصور جاف عنيف يصور العلاقة بين الله والإنسان علاقة قهر وقسر وعذاب وعقاب وجفوة وانقطاع لا كالتصور الذي يجعل المسيح ابن الله وأقنوم الإله فيربط بين الله والناس في هذا الازدواج إن نصاعة التصور الإسلامي في الفصل بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية لا تجفف ذلك الندى الحبيب بين الله والعبيد فهي علاقة الرحمة كما أنها علاقة العدل وهي علاقة الود كما أنها علاقة التجريد وهي علاقة الحب كما أنها علاقة التنزية إنه التصور الكامل الشامل لكل حاجات الكينونة البشرية في علاقتها برب العالمين وهنا في صفة العصبة المؤمنة المختارة لهذا الدين يرد ذلك النص العجيب يحبهم ويحبونه ويطلق شحنته كلها في هذا الجو الذي يحتاج إليه القلب المؤمن وهو يضطلع بهذا العبء الشاق شاعرا أنه الاختيار والتفضل والقربى من المنعم الجليل ثم يمضي السياق يعرض بقية السمات أذلة على المؤمنين وهي صفة مأخوذة من الطواعية واليسر واللين فالمؤمن ذلول للمؤمن غير عصي عليه ولا صعب هين لين ميسر مستجيب سمح ودود وهذه هي الذلة للمؤمنين وما في الذلة للمؤمنين من مذلة ولا مهانة إنما هي الأخوة ترفع الحواجز وتزيل التكلف وتخلط النفس بالنفس فلا يبقى فيها ما يستعصي وما يحتجز دون الآخرين إن حساسية الفرد بذاته متحوصلة متحيزة هي التي تجعله شموسا عصيا شحيحا على أخيه فأما حين يخلط نفسه بنفوس العصبة المؤمنة معه فلن يجد فيها ما يمنعه وما يستعصي به وماذا يبقى له في نفسه دونهم وقد اجتمعوا في الله إخوانا ‏;‏ يحبهم ويحبونه ويشيع هذا الحب العلوي بينهم ويتقاسمونه أعزة على الكافرين فيهم على الكافرين شماس وإباء واستعلاء ولهذه الخصائص هنا موضع إنها ليست العزة للذات ولا الاستعلاء للنفس إنما هي العزة للعقيدة والاستعلاء للراية التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم لا أن يطوعوا الآخرين لأنفسهم ولا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين وما عند الآخرين ثم هي الثقة بغلبة دين الله على دين الهوى ‏;‏ وبغلبة قوة الله على تلك القوى ‏;‏ وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية فهم الأعلون حتى وهم ينهزمون في بعض المعارك في أثناء الطريق الطويل يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم فالجهاد في سبيل الله لإقرار منهج الله في الأرض وإعلان سلطانه على البشر وتحكيم شريعته في الحياة لتحقيق الخير والصلاح والنماء للناس هي صفة العصبة المؤمنة التي يختارها الله ليصنع بها في الأرض ما يريد وهم يجاهدون في سبيل الله ‏;‏ لا في سبيل أنفسهم ‏;‏ ولا في سبيل قومهم ‏;‏ ولا في سبيل وطنهم ‏;‏ ولا في سبيل جنسهم في سبيل الله لتحقيق منهج الله وتقرير سلطانه وتنفيذ شريعته وتحقيق الخير للبشر عامة عن هذا الطريق وليس لهم في هذا الأمر شيء وليس لأنفسهم من هذا حظ إنما هو لله وفي سبيل الله بلا شريك وهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم وفيم الخوف من لوم الناس وهم قد ضمنوا حب رب الناس وفيم الوقوف عند مألوف الناس وعرف الجيل ومتعارف الجاهلية وهم يتبعون سنة الله ويعرضون منهج الله للحياة إنما يخشى لوم الناس من يستمد مقاييسه وأحكامه من أهواء الناس ‏;‏ ومن يستمد عونه ومدده من عندالناس ‏;‏ أما من يرجع إلى موازين الله ومقاييسه وقيمه ليجعلها تسيطر على أهواء الناس وشهواتهم وقيمهم ‏;‏ وأما من يستمد قوته وعزته من قوة الله وعزته فما يبالي ما يقول الناس وما يفعلون كائنا هؤلاء الناس ما كانوا ‏;‏ وكائنا واقع هؤلاء الناس ما كان وكائنة حضارة هؤلاء الناس وعلمهم وثقافتهم ما تكون إننا نحسب حسابا لما يقول الناس ‏;‏ ولما يفعل الناس ‏;‏ ولما يملك الناس ‏;‏ ولما يصطلح عليه الناس ‏;‏ ولما يتخذه الناس في واقع حياتهم من قيم واعتبارات وموازين لأننا نغفل أو نسهو عن الأصل الذي يجب أن نرجع إليه في الوزن والقياس والتقويم إنه منهج الله وشريعته وحكمه فهو وحده الحق وكل ما خالفة فهو باطل ‏;‏ ولو كان عرف ملايين الملايين ولو أقرته الأجيال في عشرات القرون إنه ليست قيمة أي وضع أو أي عرف أو أي تقليد أو أية قيمة أنه موجود ‏;‏ وأنه واقع ‏;‏ وأن ملايين البشر يعتنقونه ويعيشون به ويتخذونه قاعدة حياتهم فهذا ميزان لا يعترف به التصور الإسلامي إنما قيمة أي وضع وأي عرف وأي تقليد وأية قيمة أن يكون لها أصل في منهج الله الذي منه وحده تستمد القيم والموازين ومن هنا تجاهد العصبة المؤمنة في سبيل الله ولا تخاف لومة لائم فهذه سمة المؤمنين المختارين ثم إن ذلك الاختيار من الله وذلك الحب المتبادل بينه وبين المختارين وتلك السمات التي يجعلها طابعهم وعنوانهم وهذا الاطمئنان إلى الله في نفوسهم والسير على هداه في جهادهم ذلك كله من فضل الله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يعطي عن سعة ويعطي عن علم وما أوسع هذا العطاء ‏;‏ الذي يختار الله له من يشاء عن علم وعن تقدير ويحدد الله للذين آمنوا جهة الولاء الوحيدة التي تتفق مع صفة الإيمان ‏;‏ ويبين لهم من يتولون إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون هكذا على وجه القصر الذي لا يدع مجالا للتمحل أو التأول ‏;‏ ولا يترك فرصة لتمييع الحركة الإسلامية أو تمييع التصور ولم يكن بد أن يكون الأمر كذلك لأن المسألة في صميمها كما قلنا هي مسألة العقيدة ومسألة الحركة بهذه العقيدة وليكون الولاء لله خالصا والثقة به مطلقة وليكون الإسلام هو الدين وليكون الأمر أمر مفاصلة بين الصف المسلم وسائر الصفوف التي لا تتخذ الإسلام دينا ولا تجعل الإسلام منهجا للحياة ولتكون للحركة الإسلامية جديتها ونظامها ‏;‏ فلا يكون الولاء فيها لغير قيادة واحدة وراية واحدة ولا يكون التناصر إلا بين العصبة المؤمنة ‏;‏ لأنه تناصر في المنهج المستمد من العقيدة ولكن حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان أو مجرد راية وشعار أو مجرد كلمة تقال باللسان أو مجرد نسب ينتقل بالوراثة أو مجرد وصف يلحق القاطنين في مكان فإن السياق يذكر بعض السمات الرئيسية للذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون فمن صفتهم إقامة الصلاة لا مجرد أداء الصلاة وإقامة الصلاة تعني أداءها أداء كاملا تنشأ عنه آثارها التي يقررها قوله تعالى إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر والذي لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يقم الصلاة ‏;‏ فلو أقامها لنهته كما يقول الله ومن صفتهم إيتاء الزكاة أي أداء حق المال طاعة لله وقربى عن رضى نفس ورغبة فليست الزكاة مجرد ضريبة مالية إنما هي كذلك عبادة أو هي عبادة مالية وهذه هي ميزة المنهج الإسلامي الذي يحقق أهدافا شتى بالفريضة الواحدة وليس كذلك الأنظمة الأرضية التي تحقق هدفا وتفرط في أهداف إنه لا يغني في إصلاح حال المجتمع أن يأخذ المجتمع المال ضريبة مدنية أو أن يأخذ المال من الأغنياء للفقراء باسم الدولة أو باسم الشعب أو باسم جهة أرضية ما فهي في صورتها هذه قد تحقق هدفا واحدا ‏;‏ وهو إيصال المال للمحتاجين فأما الزكاة فتعني اسمها ومدلولها إنها قبل كل شيء طهارة ونماء إنها زكاة للضمير بكونها عبادة لله وبالشعور الطيب المصاحب لها تجاه الإخوان الفقراء بما أنها عبادة لله يرجو عليها فاعلها حسن الجزاء في الآخرة كما يرجو منها نماء المال في الحياة الدنيا بالبركة وبالنظام الاقتصادي المبارك ثم بالشعور الطيب في نفوس الفقراء الآخذين أنفسهم ‏;‏ إذ يشعرون أنها فضل الله عليهم إذ قررها لهم في أموال الأغنياء ‏;‏ ولا يشعرون معها بالحقد والتشفي من إخوانهم الأغنياء مع تذكر أن الأغنياء في النظام الإسلامي لا يكسبون إلا من حلال ولا يجورون على حق أحد وهم يجمعون نصيبهم من المال وفي النهاية تحقق هدف الضريبة المالية في هذا الجو الراضي الخير الطيب جو الزكاة والطهارة والنماء وأداء الزكاة سمة من سمات الذين آمنوا تقرر أنهم يتبعون شريعة الله في شئون الحياة ‏;‏ فهي إقرار منهم بسلطان الله في أمرهم كله وهذا هو الإسلام وهم راكعون ذلك شأنهم كأنه الحالة الأصلية لهم ومن ثم لم يقف عند قوله يقيمون الصلاة فهذه السمة الجديدة أعم وأشمل إذ أنها ترسمهم للخاطر كأن هذا هو شأنهم الدائم فأبرز سمة لهم هي هذه السمة وبها يعرفون وما أعمق إيحاءات التعبيرات القرآنية في مثل هذه المناسبات والله يعد الذين آمنوا في مقابل الثقة به والالتجاء إليه والولاء له وحده ولرسوله وللمؤمنين بالتبعية ومقابل المفاصلة الكاملة بينهم وبين جميع الصفوف إلا الصف الذي يتمحض لله يعدهم النصر والغلبة ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون وقد جاء هذا الوعد بالغلب بعد بيان قاعدة الإيمان في ذاتها وأنها هي الولاء لله ورسوله وللمؤمنين ‏;‏ وبعد التحذير من الولاء لليهود والنصارى واعتباره خروجا من الصف المسلم إلى صف اليهود والنصارى وارتدادا عن الدين وهنا لفتة قرآنية مطردة فالله سبحانه يريد من المسلم أن يسلم لمجرد أن الإسلام خير لا لأنه سيغلب أو سيمكن له في الأرض ‏;‏ فهذه ثمرات تأتي في حينها ‏;‏ وتأتي لتحقيق قدر الله في التمكين لهذا الدين ‏;‏ لا لتكون هي بذاتها الإغراء على الدخول في هذا الدين والغلب للمسلمين لا شيء منه لهم لا شيء لذواتهم وأشخاصهم وإنما هو قدر الله يجريه على أيديهم ويرزقهم إياه لحساب عقيدتهم لا لحسابهم فيكون لهم ثواب الجهد فيه ‏;‏ وثواب النتائج التي تترتب عليه من التمكين لدين الله في الأرض وصلاح الأرض بهذا التمكين كذلك قد يعد الله المسلمين الغلب لتثبيت قلوبهم ‏;‏ وإطلاقها من عوائق الواقع الحاضر أمامهم وهي عوائق ساحقة في أحيان كثيرة فإذا استيقنوا العاقبة قويت قلوبهم على اجتياز المحنة ‏;‏ وتخطي العقبة والطمع في أن يتحقق على أيديهم وعد الله للأمة المسلمة فيكون لهم ثواب الجهاد وثواب التمكين لدين الله وثواب النتائج المترتبة على هذا التمكين كذلك يشي ورود هذا النص في هذا المجال بحالة الجماعة المسلمة يومذاك وحاجتها إلى هذه البشريات بذكر هذه القاعدة من غلبة حزب الله مما يرجح ما ذهبنا إليه من تاريخ نزول هذا القطاع من السورة ثم تخلص لنا هذه القاعدة ‏;‏ التي لا تتعلق بزمان ولا مكان فنطمئن إليها بوصفها سنة من سنن الله التي لا تتخلف وإن خسرت العصبة المؤمنة بعض المعارك والمواقف فالسنة التي لا تنقض هي أن حزب الله هم الغالبون ووعد الله القاطع أصدق من ظواهر الأمور في بعض مراحل الطريق وأن الولاء لله ورسوله والذين آمنوا هو الطريق المؤدي لتحقق وعد الله في نهاية الطريق الدرس الثالث دعوة المسلمين لعدم موالاة الكافرين وبعد فلقد سلك المنهج القرآني في هذا السياق طرقا منوعة لنهي الذين آمنوا عن تولي المخالفين لهم في عقيدتهم من أهل الكتاب والمشركين ولتقرير هذه القاعدة الإيمانية في ضمائرهم وإحساسهم وعقولهم مما يدل على أهمية هذه القاعدة في التصور الإسلامي ‏;‏ وفي الحركة الإسلامية على السواء وقد رأينا من قبل أنه سلك في النداء الأول طريق النهي المباشر وطريق التخويف من أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فينكشف ستر المنافقين وسلك في النداء الثاني طريق التحذير من الردة بموالاة أعداء الله ورسوله والمؤمنين ‏;‏ وطريق التحبيب في أن يكونوا من العصبة المختارة ممن يحبهم الله ويحبونه ‏;‏ وطريق الوعد بالنصر لحزب الله الغالب فالآن نجده في النداء الثالث في هذا الدرس للذين آمنوا يثير في نفوسهم الحمية لدينهم ولعبادتهم ولصلاتهم التي يتخذها أعداؤهم هزوا ولعبا ونجده يسوي في النهي عن الموالاة بين أهل الكتاب والكفار وينوط هذا النهي بتقوى الله ‏;‏ ويعلق على الاستماع إليه صفة الإيمان ‏;‏ ويقبح فعلة الكفار وأهل الكتاب ويصفهم بأنهم لا يعقلون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون وهي ملابسة مثيرة لكل من له حمية المؤمن ‏;‏ الذي لا يرى لنفسه كرامة إذا أهين دينه وأهينت عبادته وأهينت صلاته واتخذ موقفه بين يدي ربه مادة للهزء واللعب فكيف يقوم ولاء بين الذين آمنوا وبين أحد من هؤلاء الذين يرتكبون هذه الفعلة ‏;‏ ويرتكبونها لنقص في عقولهم فما يستهزى ء بدين الله وعبادة المؤمنين به إنسان سوي العقل ‏;‏ فالعقل حين يصح ويستقيم يرى في كل شيء من حوله موحيات الإيمان بالله وحين يختل وينحرف لا يرى هذه الموحيات لأنه حينئذ تفسد العلاقات بينه وبين هذا الوجود كله فالوجود كله يوحي بأن له إلها يستحق العبادة والتعظيم والعقل حين يصح ويستقيم يستشعر جمال العبادة لإله الكون وجلالها كذلك فلا يتخذها هزوا ولعبا وهو صحيح مستقيم ولقد كان هذا الاستهزاء واللعب يقع من الكفار كما كان يقع من اليهود خاصة من أهل الكتاب في الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها على قلب رسول الله ص للجماعة المسلمة في ذلك الحين ولم نعرف من السيرة أن هذا كان يقع من النصارى ولكن الله سبحانه كان يضع للجماعة المسلمة قاعدة تصورها ومنهجها وحياتها الدائمة وكان الله سبحانه يعلم ما سيكون على مدار الزمان مع أجيال المسلمين وها نحن أولاء رأينا ونرى أن أعداء هذا الدين وأعداء الجماعة المسلمة على مدار التاريخ أمس واليوم من الذين قالوا إنهم نصارى كانوا أكثر عددا من اليهود ومن الكفار مجتمعين فهؤلاء كهؤلاء قد ناصبوا الإسلام العداء وترصدوه القرون تلو القرون وحاربوه حربا لا هوادة فيها منذ أن اصطدم الإسلام بالدولة الرومانية على عهد أبى بكر وعمر رضي الله عنهما حتى كانت الحروب الصليبية ‏;‏ ثم كانت المسألة الشرقية التي تكتلت فيها الدول الصليبية في أرجاء الأرض للإجهاز على الخلافة ‏;‏ ثم كان الاستعمار الذي يخفي الصليبية بين أضلاعه فتبدو في فلتات لسانه ‏;‏ ثم كان التبشير الذي مهد للاستعمار وسانده ‏;‏ ثم كانت وما تزال تلك الحرب المشبوبة على كل طلائع البعث الإسلامي في أي مكان في الأرض وكلها حملات يشترك فيها اليهود والنصارى والكفار والوثنيون وهذا القرآن جاء ليكون كتاب الأمة المسلمة في حياتها إلى يوم القيامة الكتاب الذي يبني تصورها الاعتقادي كما يبني نظامها الاجتماعي كما يبني خطتها الحركية سواء وها هو ذا يعلمها ألا يكون ولاؤها إلا لله ولرسوله وللمؤمنين ‏;‏ وينهاها أن يكون ولاؤها لليهود والنصارى والكافرين ويجزم ذلك الجزم الحاسم في هذه القضية ويعرضها هذا العرض المنوع الأساليب إن هذا الدين يأمر أهله بالسماحة وبحسن معاملة أهل الكتاب ‏;‏ والذين قالوا إنهم نصارى منهم خاصة ولكنه ينهاهم عن الولاء لهؤلاء جميعا لأن السماحة وحسن المعاملة مسألة خلق وسلوك أما الولاء فمسألة عقيدة ومسألة تنظيم إن الولاء هو النصرة هو التناصر بين فريق وفريق ‏;‏ ولا تناصر بين المسلمين وأهل الكتاب كما هو الشأن في الكفار لأن التناصر في حياة المسلم هو كما أسلفنا تناصر في الدين ‏;‏ وفي الجهاد لإقامة منهجه ونظامه في حياة الناس ‏;‏ ففيم يكون التناصر في هذا بين المسلم وغير المسلم وكيف يكون إنها قضية جازمة حاسمة لا تقبل التميع ولا يقبل الله فيها إلا الجد الصارم ‏;‏ الجد الذي يليق بالمسلم في شأن الدين الدرس الرابع بيان حقيقة كفر أهل الكتاب ونقمتهم على المسلمين وحين تتم النداءات الثلاثة للذين آمنوا يتوجه الخطاب إلى الرسول ص ليواجه أهل الكتاب فيسألهم ماذا ينقمون من الجماعة المسلمة وهل ينقمون منها إلا الإيمان بالله وما أنزل إلى أهل الكتاب ‏;‏ وما أنزله الله للمسلمين بعد أهل الكتاب هل ينقمون إلا أن المسلمين يؤمنون وأنهم هم أهل الكتاب أكثرهم فاسقون وهي مواجهة مخجلة ولكنها كذلك كاشفة وحاسمة ومحددة لأصل العداوة ومفرق الطريق قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل إن هذا السؤال الذي وجه الله رسوله إلى توجيهه لأهل الكتاب هو من ناحية سؤال تقريري لإثبات ما هو واقع بالفعل منهم ‏;‏ وكشف حقيقة البواعث التي تدفع بهم إلى موقفهم من الجماعة المسلمة ودينها وصلاتها وهو من ناحية سؤال استنكاري لاستنكار هذا الواقع منهم واستنكار البواعث الدافعة عليه وهو في الوقت ذاته توعية للمسلمين وتنفير لهم من موالاة القوم وتقرير لما سبق في النداءات الثلاثة من نهي عن هذه الموالاة وتحذير إن أهل الكتاب لم يكونوا ينقمون على المسلمين في عهد الرسول ص وهم لا ينقمون اليوم على طلائع البعث الإسلامي إلا أن هؤلاء المسلمين يؤمنون بالله ‏;‏ وما أنزله الله إليهم من قرآن ‏;‏ وما صدق عليه قرآنهم مما أنزله الله من قبل من كتب أهل الكتاب إنهم يعادون المسلمين لأنهم مسلمون لأنهم ليسوا يهودا ولا نصارى ولأن أهل الكتاب فاسقون منحرفون عما أنزله الله إليهم ‏;‏ وآية فسقهم وانحرافهم أنهم لا يؤمنون بالرسالة الأخيرة وهي مصدقة لما بين أيديهم لا ما ابتدعوه وحرفوه ولا يؤمنون بالرسول الأخير وهو مصدق لما بين يديه ‏;‏ معظم لرسل الله أجمعين إنهم يحاربون المسلمين هذه الحرب الشعواء ‏;‏ التي لم تضع أوزارها قط ولم يخب أوارها طوال ألف وأربعمائة عام ‏;‏ منذ أن قام للمسلمين كيان في المدينة ‏;‏ وتميزت لهم شخصية ‏;‏ وأصبح لهم وجود مستقل ‏;‏ ناشى ء من دينهم المستقل وتصورهم المستقل ونظامهم المستقل في ظل منهج الله الفريد إنهم يشنون على المسلمين هذه الحرب المشبوبة لأنهم قبل كل شيء مسلمون ولا يمكن أن يطفئوا هذه الحرب المشبوبة إلا أن يردوا المسلمين عن دينهم ‏;‏ فيصبحوا غير مسلمين ذلك أن أهل الكتاب أكثرهم فاسقون ‏;‏ ومن ثم لا يحبون المستقيمين الملتزمين من المسلمين والله سبحانه يقرر هذه الحقيقة في صورة قاطعة وهو يقول لرسوله ص في السورة الأخرى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ويقول له في هذه السورة أن يواجه أهل الكتاب بحقيقة بواعثهم وركيزة موقفهم قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ‏;‏ وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون وهذه الحقيقة التي يقررها الله سبحانه في مواضع كثيرة من كلامه الصادق المبين هي التي يريد تمييعها وتلبيسها وتغطيتها وإنكارها اليوم كثيرون من أهل الكتاب وكثيرون ممن يسمون أنفسهم مسلمين باسم تعاون المتدينين في وجه المادية والإلحاد كما يقولون أهل الكتاب يريدون اليوم تمييع هذه الحقيقة بل طمسها وتغطيتها لأنهم يريدون خداع سكان الوطن الإسلامي أو الذي كان إسلاميا بتعبير أصح وتخدير الوعي الذي كان قد بثه فيهم الإسلام بمنهجه الرباني القويم ذلك أنه حين كان هذا الوعي سليما لم يستطع الاستعمار الصليبي أن يقف للمد الإسلامي فضلا على أن يستعمر الوطن الإسلامي ولم يكن بد لهؤلاء بعد فشلهم في الحروب الصليبية السافرة وفي حرب التبشير السافرة كذلك أن يسلكوا طريق الخداع والتخدير فيتظاهروا ويشيعوا بين ورثة المسلمين أن قضية الدين والحرب الدينية قد انتهت وأنها كانت مجرد فترة تاريخية مظلمة عاشتها الأمم جميعا ثم تنور العالم وتقدم فلم يعد من الجائز ولا اللائق ولا المستساغ أن يقوم الصراع على أساس العقيدة وأنما الصراع اليوم على المادة على الموارد والأسواق والاستغلالات فحسب وإذن فما يجوز للمسلمين أو ورثة المسلمين أن يفكروا في الدين ولا في صراع الدين وحين يطمئن أهل الكتاب وهم الذين يستعمرون أوطان المسلمين إلى استنامة هؤلاء لهذا التخدير ‏;‏ وحين تتميع القضية في ضمائرهم ‏;‏ فإن المستعمرين يأمنون غضبة المسلمين لله ‏;‏ وللعقيدة الغضبة التي لم يقفوا لها يوما ويصبح الأمر سهلا بعد التنويم والتخدير ولا يكسبون معركة العقيدة وحدها بل يكسبون معها ما وراءها من الأسلاب والمغانم والاستثمارات والخامات ‏;‏ ويغلبون في معركة المادة بعدما يغلبون في معركة العقيدة فهما قريب من قريب وعملاء أهل الكتاب في الوطن الإسلامي ممن يقيمهم الاستعمار هنا وهناك علانية أو في خفية يقولون القول نفسه لأنهم عملاء يؤدون الدور من داخل الحدود وهؤلاء يقولون عن الحروب الصليبية ذاتها إنها لم تكن صليبية ويقولون عن المسلمين الذين خاضوها تحت راية العقيدة إنهم لم يكونوا مسلمين وإنما هم كانوا قوميين وفريق ثالث مستغفل مخدوع ‏;‏ يناديه أحفاد الصليبين في الغرب المستعمر أن تعالوا إلينا تعالوا نجتمع في ولاء ‏;‏ لندفع عن الدين غائلة الملحدين فيستجيب هذا الفريق المستغفل المخدوع ‏;‏ ناسيا أن أحفاد الصلييبين هؤلاء وقفوا في كل مرة مع الملحدين ‏;‏ صفا واحدا حينما كانت المواجهة للمسلمين على مدار القرون وما يزالون وأنهم لا يعنيهم حرب المادية الالحادية قدر ما تعنيهم حرب الإسلام ذلك أنهم يعرفون جيدا أن الإلحادية المادية عرض طارى ء وعدو موقوت ‏;‏ وأن الإسلام أصل ثابت وعدو مقيم وإنما هذه الدعوة المموهة لتمييع اليقظة البادئة عند طلائع البعث الإسلامي ‏;‏ وللانتفاع بجهد المستغفلين المخدوعين في الوقت ذاته ليكونوا وقود المعركة مع الملحدين لأنهم أعداء الاستعمار السياسيون وهؤلاء كهؤلاء حرب على الإسلام والمسلمين حرب لا عدة فيها للمسلم إلا ذلك الوعي الذي يربيه عليه المنهج الرباني القويم إن هؤلاء الذين تخدعهم اللعبة أو يتظاهرون بالتصديق فيحسبون أهل الكتاب جادين إذ يدعونهم للتضامن والولاء في دفع الإلحاد عن الدين إنما ينسون واقع التاريخ في أربعة عشر قرنا لا استثناء فيها كما ينسون تعليم ربهم لهم في هذا الأمر بالذات وهو تعليم لا مواربة فيه ولا مجال للحيدة عنه وفي النفس ثقة بالله ويقين بجدية ما يقول إن هؤلاء يجتزئون فيما يقولون ويكتبون بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تأمر المسلمين أن يحسنوا معاملة أهل الكتاب ‏;‏ وأن يتسامحوا معهم في المعيشة والسلوك ويغفلون التحذيرات الحاسمة عن موالاتهم ‏;‏ والتقريرات الواعية عن بواعثهم والتعليمات الصريحة عن خطة الحركة الإسلامية وخطة التنظيم التي تحرم التناصر والموالاة لأن التناصر والموالاة لا يكونان عند المسلم إلا في شأن الدين وإقامة منهجه ونظامه في الحياة الواقعية وليست هناك قاعدة مشتركة يلتقي عليها المسلم مع أهل الكتاب في شأن دينه مهما يكن هناك من تلاق في أصول هذه الأديان مع دينه قبل تحريفها إذ هم لا ينقمون منه إلا هذا الدين ولا يرضون عنه إلا بترك هذا الدين كما يقول رب العالمين إن هؤلاء ممن يجعلون القرآن عضين ‏;‏ يجزئونه ويمزقونه فيأخذون منه ما يشاءون مما يوافق دعوتهم الغافلة الساذجة على فرض براءتها ويدعون منه ما لا يتفق مع اتجاههم الغافل أو المريب ونحن نؤثر أن نسمع كلام الله في هذه القضية على أن نسمع كلام المخدوعين أو الخادعين وكلام الله سبحانه في هذه القضية حاسم واضح صريح مبين ونقف وقفة قصيرة في هذا الموضع عند قوله تعالى بعد تقرير أن سبب النقمة هو الإيمان بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل أن بقية السبب وأن أكثركم فاسقون فهذا الفسق هو شطر الباعث فالفسق يحمل صاحبه على النقمة من المستقيم وهي قاعدة نفسية واقعية ‏;‏ تثبتها هذه اللفتة القرآنية العجيبة إن الذي يفسق عن الطريق وينحرف لا يطيق أن يرى المستقيم على النهج الملتزم إن وجوده يشعره دائما بفسقه وانحرافه إنه يتمثل له شاهدا قائما على فسقه هو وانحرافه ومن ثم يكرهه وينقم عليه يكره استقامته وينقم منه التزامه ‏;‏ ويسعى جاهدا لجره إلى طريقه ‏;‏ أو للقضاء عليه إذا استعصى قياده إنها قاعدة مطردة تتجاوز موقف أهل الكتاب من الجماعة المسلمة في المدينة إلى موقف أهل الكتاب عامة من المسلمين عامة إلى موقف كل فاسق منحرف من كل عصبة ملتزمة مستقيمة والحرب المشبوبة دائما على الخيرين في مجتمع الأشرار وعلى المستقيمين في مجتمع الفاسقين وعلى الملتزمين في مجتمع المنحرفين هذه الحرب أمر طبيعي يستند إلى هذه القاعدة التي يصورها النص القرآني العجيب ولقد علم الله سبحانه أن الخير لا بد أن يلقى النقمة من الشر وأن الحق لا بد أن يواجه العداء من الباطل وأن الاستقامة لا بد أن تثير غيظ الفساق وأن الالتزام لا بد أن يجر حقد المنحرفين وعلم الله سبحانه أن لا بد للخير والحق والاستقامة والالتزام أن تدفع عن نفسها وأن تخوض المعركة الحتمية مع الشر والباطل والفسق والانحراف وأنها معركة لا خيار فيها ولا يملك الحق ألا يخوضها في وجه الباطل لأن الباطل سيهاجمه ولا يملك الخير أن يتجنبها لأن الشر لا بد سيحاول سحقه وغفلة أي غفلة أن يظن أصحاب الحق والخير والاستقامة والالتزام أنهم متروكون من الباطل والشر والفسق والانحراف ‏;‏ وأنهم يملكون تجنب المعركة ‏;‏ وأنه يمكن أن تقوم هناك مصالحة أو مهادنة وخير لهم أن يستعدوا للمعركة المحتومة بالوعي والعدة ‏;‏ من أن يستسلموا للوهم والخديعة وهم يومئذ مأكولون مأكولون ثم نمضي مع السياق القرآني في توجيه الله سبحانه لرسوله ص لمواجهة أهل الكتاب بعد تقرير بواعثهم واستنكار هذه البواعث في النقمة على المسلمين فإذا هو يجبههم بتاريخ لهم قديم وشأن لهم مع ربهم وعقاب أليم قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل وهنا تطالعنا سحنة يهود وتاريخ يهود إنهم هم الذين لعنهم الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير إنهم هم الذين عبدوا الطاغوت وقصة لعنة الله لهم وغضبه عليهم واردة في مواضع شتى من القرآن الكريم ‏;‏ وكذلك قصة جعله منهم القردة والخنازير فأما قضية عبادتهم للطاغوت فتحتاج إلى بيان هنا لأنها لفتة ذات دلالة خاصة في سياق هذه السورة إن الطاغوت هو كل سلطان لا يستمد من سلطان الله وكل حكم لا يقوم على شريعة الله وكل عدوان يتجاوز الحق والعدوان على سلطان الله وألوهيته وحاكميته هو أشنع العدوان وأشده طغيانا وأدخله في معنى الطاغوت لفظا ومعنى وأهل الكتاب لم يعبدوا الأحبار والرهبان ‏;‏ ولكن اتبعوا شرعهم وتركوا شريعة الله فسماهم الله عبادا لهم ‏;‏ وسماهم مشركين وهذه اللفتة هنا ملحوظ فيها ذلك المعنى الدقيق فهم عبدوا الطاغوت أي السلطات الطاغية المتجاوزة لحقها وهم لم يعبدوها بمعنى السجود لها والركوع ولكنهم عبدوها بمعنى الاتباع والطاعة وهي عبادة تخرج صاحبها من عبادة الله ومن دين الله والله سبحانه يوجه رسوله ص لمجابهة أهل الكتاب بهذا التاريخ وبذلك الجزاء الذي استحقوه من الله على هذا التاريخ كأنما هم جيل واحد بما أنهم جبلة واحدة يوجهه ليقول لهم إن هذا شر عاقبة قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله أي شر من نقمة أهل الكتاب على المسلمين وما يكيدون لهم وما يؤذونهم بسبب إيمانهم وأين نقمة البشر الضعاف من نقمة الله وعذابه وحكمه على أهل الكتاب بالشر والضلال عن سواء السبيل أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل الدرس الخامس نماذج من كفريات وتلاعب اليهود ويمضي السياق في التنفير من موالاتهم بعرض صفاتهم وسماتهم بعد عرض تاريخهم وجزائهم ويجيء التحذير والتوعي ة منهم بكشف ما يبيتون ويبرز اليهود كذلك في الصورة لأن الحديث عن وقائع جارية ومعظم الشر كان يجيء من قبل يهود وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ‏;‏ بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين إنها عبارات تنشى ء صورا متحركة مشاهد حية على طريقة التعبير القرآنية الفريدة ومن وراء القرون يملك قارى ء هذه الآيات أن يشهد بعين التصور هؤلاء القوم الذين يتحدث عنهم القرآن من يهود على الأرجح فالسياق يتحدث عنهم وإن كان من الجائز أنه يعني كذلك بعض المنافقين في المدينة يشهدهم يجيئون للمسلمين فيقولون آمنا ويشهد في جعبتهم الكفر وهم يدخلون به ويخرجون ‏;‏ بينما ألسنتهم تقول غير ما في الجعبة من كفر يحملونه داخلين خارجين ولعلهم من يهود أولئك الذين كانوا يبيتون البلبلة وهم يقولون بعضهم لبعض آمنوا بهذا القرآن وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون أي لعل المسلمين يرجعون عن دينهم بسبب هذه البلبلة والتشكيك الخبيث اللئيم والله أعلم بما كانوا يكتمون

يقولها الله سبحانه لأنها الحقيقة ‏;‏ ثم لكي يطمئن المؤمنون إلى كلاءة ربهم لهم وحفظهم من كيد عدوهم ‏;‏ وإحاطته علما بهذا الكيد المكتوم ثم ليهدد أصحاب هذا الكيد لعلهم ينتهون ويمضي السياق يرسم حركاتهم كأنها منظورة تشهد وتلحظ من خلال التعبير وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون والمسارعة مفاعلة تصور القوم كأنما يتسابقون تسابقا في الإثم والعدوان وأكل الحرام وهي صورة ترسم للتبشيع والتشنيع ولكنها تصور حالة من حالات النفوس والجماعات حين يستشري فيها الفساد ‏;‏ وتسقط القيم ‏;‏ ويسيطر الشر وإن الإنسان لينظر إلى المجتمعات التي انتهت إلى مثل هذه الحال فيرى كأنما كل من فيها يتسابقون إلى الشر إلى الإثم والعدوان قويهم وضعيفهم سواء فالإثم والعدوان في المجتمعات الهابطة الفاسدة لا يقتصران على الأقوياء ‏;‏ بل يرتكبهما كذلك الضعفاء فحتى هؤلاء ينساقون في تيار الإثم وحتى هؤلاء يملكون الاعتداء ‏;‏ إنهم لا يملكون الاعتداء على الأقوياء طبعا ولكن يعتدي بعضهم على بعض ويعتدون على حرمات الله لأنها هي التي تكون في المجتمعات الفاسدة الحمى المستباح الذي لا حارس له من حاكم ولا محكوم ‏;‏ فالإثم والعدوان طابع المجتمع حين يفسد ‏;‏ والمسارعة فيهما عمل هذه المجتمعات وكذلك كان مجتمع يهود في تلك الأيام وكذلك أكلهم للحرام فأكل الحرام كذلك سمة يهود في كل آن لبئس ما كانوا يعملون ويشير السياق إلى سمة أخرى من سمات المجتمعات الفاسدة ‏;‏ وهو يستنكر سكوت الربانيين القائمين على الشريعة والأحبار القائمين على أمر العلم الديني سكوتهم على مسارعة القوم في الإثم والعدوان وأكل السحت ‏;‏ وعدم نهيهم عن هذا الشر الذي يتسابقون فيه لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون فهذه السمة سمة سكوت القائمين على أمر الشريعة والعلم الديني عما يقع في المجتمع من إثم وعدوان هي سمة المجتمعات التي فسدت وآذنت بالانهيار وبنو إسرائيل كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه كما حكى عنهم القرآن الكريم إن سمة المجتمع الخير الفاضل الحي القوي المتماسك أن يسود فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يوجد فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ‏;‏ وأن يوجد فيه من يستمع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‏;‏ وأن يكون عرف المجتمع من القوة بحيث لا يجرؤ المنحرفون فيه على التنكر لهذا الأمر والنهي ولا على إيذاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر وهكذا وصف الله الأمة المسلمة فقال كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ووصف بني إسرائيل فقال كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه فكان ذلك فيصلا بين المجتمعين وبين الجماعتين أما هنا فينحي باللائمة على الربانيين والأحبار الساكتين على المسارعة في الإثم والعدوان وأكل السحت ‏;‏ الذين لا يقومون بحق ما استحفظوا عليه من كتاب الله وإنه لصوت النذير لكل أهل دين فصلاح المجتمع أو فساده رهن بقيام الحفظة على الشريعة والعلم فيه بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‏;‏ والأمر كما قلنا من قبل في الظلال يقتضي سلطة تأمر وتنهى والأمر والنهي أمر غير الدعوة فالدعوة بيان والأمر والنهي سلطان وكذلك ينبغي أن يحصل الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر على السلطان الذي يجعل لأمرهم ونهيهم قيمته في المجتمع ‏;‏ فلا يكون مطلق كلام وكنموذج من قولهم الإثم في أبشع صوره يحكي القرآن الكريم قول اليهود الغبي اللئيم وقالت اليهود يد الله مغلوله غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وذلك من سوء تصور يهود لله سبحانه فقد حكى القرآن الكريم الكثير من سوء تصورهم ذاك وقد قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء عندما سئلوا النفقة وقالوا يد الله مغلولة يعللون بذلك بخلهم ‏;‏ فالله بزعمهم لا يعطي الناس ولا يعطيهم إلا القليل فكيف ينفقون وقد بلغ من غلظ حسهم وجلافة قلوبهم ألا يعبروا عن المعنى الفاسد الكاذب الذي أرادوه وهو البخل بلفظه المباشر ‏;‏ فاختاروا لفظا أشد وقاحة وتهجما وكفرا فقالوا يد الله مغلولة ويجيء الرد عليهم بإحقاق هذه الصفة عليهم ولعنهم وطردهم من رحمة الله جزاء على قولهم غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا وكذلك كانوا فهم أبخل خلق الله بمال ثم يصحح هذا التصور الفاسد السقيم ‏;‏ ويصف الله سبحانه بوصفه الكريم وهو يفيض على عباده من فضله بلا حساب بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وعطاياه التي لا تكف ولا تنفد لكل مخلوق ظاهرة للعيان شاهدة باليد المبسوطة والفضل الغامر والعطاء الجزيل ناطقة بكل لسان ولكن يهود لا تراها ‏;‏ لأنها مشغولة عنها باللم والضم وبالكنود وبالجحود وبالبذاءة حتى في حق الله ويحدث الله رسوله ص عما سيبدو من القوم وعما سيحل بهم بسبب حقدهم وغيظهم من اصطفاء الله له بالرسالة ‏;‏ وبسبب ما تكشفه هذه الرسالة من أمرهم في القديم والحديث وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرًا فبسبب من الحقد والحسد وبسبب من افتضاح أمرهم فيما أنزل الله إلى رسوله سيزيد الكثيرون منهم طغيانا وكفرا لأنهم وقد أبوا الإيمان لا بد أن يشتطوا في الجانب المقابل ‏;‏ ولا بد أن يزيدوا تبجحا ونكرا وطغيانا وكفرا فيكون الرسول ص رحمة للمؤمنين ووبالا عن المنكرين ثم يحدثه عما قدر الله لهم من التعادي والتباغض فيما بينهم ‏;‏ ومن إبطال كيدهم وهو في أشد سعيره تلهبا ‏;‏ ومن عودتهم بالخيبة فيما يشنونه من حرب على الجماعة المسلمة وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفاها الله وما تزال طوائف اليهود متعادية وإن بدا في هذه الفترة أن اليهودية العالمية تتساند ‏;‏ وتوقد نار الحرب على البلاد الإسلامية وتفلح ولكن ينبغي ألا ننظر إلى فترة قصيرة من الزمان ولا إلى مظهر لا يشتمل على الحقيقة كاملة ففي خلال ألف وثلاثمائة عام بل من قبل الإسلام واليهود في شحناء وفي ذل كذلك وتشرد ومصيرهم إلى مثل ما كانوا فيه مهما تقم حولهم الأسناد ولكن مفتاح الموقف كله في وجود العصبة المؤمنة التي يتحقق لها وعد الله فأين هي العصبة المؤمنة اليوم التي تتلقى وعد الله وتقف ستارا لقدر الله ويحقق الله بها في الأرض ما يشاء ويوم تفيء الأمة المسلمة إلى الإسلام تؤمن به على حقيقته ‏;‏ وتقيم حياتها كلها على منهجه وشريعته يومئذ يحق وعد الله على شر خلق الله واليهود يعرفون هذا ومن ثم يسلطون كل ما في جعبتهم من شر وكيد ‏;‏ ويصبون كل ما في أيديهم من بطش وفتك على طلائع البعث الإسلامي في كل شبر من الأرض ويضربون لا بأيديهم ولكن بأيدي عملائهم ضربات وحشية منكرة ‏;‏ لا ترعى في العصبة المؤمنة إلا ولا ذمة ولكن الله غالب على أمره ووعد الله لا بد أن يتحقق وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله إن هذا الشر والفساد الذي تمثله يهود لا بد أن يبعث الله عليه من يوقفه ويحطمه ‏;‏ فالله لا يحب الفساد في الأرض ‏;‏ وما لا يحبه الله لا بد أن يبعث عليه من عباده من يزيله ويعفي عليه ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين الدرس السادس أثر الإيمان وتطبيق شرع الله في الرخاء المعيشي وفي نهاية الدرس تجيء القاعدة الإيمانية الكبرى قاعدة أن إقامة دين الله في الأرض معناها الصلاح والكسب والفلاح في حياة المؤمنين في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء لا افتراق بين دين ودنيا ولا افتراق بين دنيا وآخرة فهو منهج واحد للدنيا وللآخرة ‏;‏ للدنيا وللدين تجيء هذه القاعدة الإيمانية الكبيرة بمناسبة الحديث عن انحراف أهل الكتاب عن دين الله ‏;‏ وأكلهم السحت ‏;‏ وتحريفهم الكلم من بعد مواضعه لينالوا عرضا من أعراض هذه الأرض واتباع دين الله كان أجدى عليهم في الأرض والسماء وفي الدنيا والآخرة لو أنهم اختاروا الطريق ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ‏;‏ ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون إن هاتين الآيتين تقرران أصلا كبيرا من أصول التصور الإسلامي ومن ثم فهما تمثلان حقيقة ضخمة في الحياة الإنسانية ولعل الحاجة إلى جلاء ذلك الأصل وإلى بيان هذه الحقيقة لم تكن ماسة كما هي اليوم ‏;‏ والعقل البشري والموازين البشرية والأوضاع البشرية تتأرجح وتضطرب وتتوه بين ضباب التصورات وضلال المناهج بإزاء هذا الأمر الخطير إن الله سبحانه يقول لأهل الكتاب ويصدق القول وينطبق على كل أهل كتاب إنهم لو كانوا آمنوا واتقوا لكفر عنهم سيئاتهم ولأدخلهم جنات النعيم وهذا جزاء الآخرة وإنهم لو كانوا حققوا في حياتهم الدنيا منهج الله الممثل في التوراة والإنجيل وما أنزله الله إليهم من التعاليم كما أنزلها الله بدون تحريف ولا تبديل لصلحت حياتهم الدنيا ونمت وفاضت عليهم الأزراق ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق ووفرة النتاج وحسن التوزيع وصلاح أمر الحياة ولكنهم لا يؤمنون ولا يتقون ولا يقيمون منهج الله إلا قلة منهم في تاريخهم الطويل مقتصدة غير مسرفة على نفسها وكثير منهم ساء ما يعملون وهكذا يبدو من خلال الآيتين أن الإيمان والتقوى وتحقيق منهج الله في واقع الحياة البشرية في هذه الحياة الدنيا لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده وإن كان هو المقدم وهو الأدوم ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة وفرة ونماء وحسن توزيع وكفاية يرسمها في صورة حسية تجسم معنى الوفرة والفيض في قوله لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم وهكذا يتبين أن ليس هنالك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة ‏;‏ وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا إنما هو طريق واحد تصلح به الدنيا والآخرة فإذا تنكب هذا الطريق فسدت الدنيا وخسرت الآخرة هذا الطريق الواحد هو الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الإلهي في الحياة الدنيا وهذا المنهج ليس منهج اعتقاد وإيمان وشعور قلبي وتقوى فحسب ولكنه كذلك وتبعا لذلك منهج حياة أنسانية واقعية يقام وتقام عليه الحياة وإقامته مع الإيمان والتقوى هي التي تكفل صلاح الحياة الأرضية وفيض الرزق ووفرة النتاج وحسن التوزيع حتى يأكل الناس جمعيا في ظل هذا المنهج من فوقهم ومن تحت أرجلهم إن المنهج الإيماني للحياة لا يجعل الدين بديلا من الدنيا ‏;‏ ولا يجعل سعادة الآخرة بديلا من سعادة الدنيا ولا يجعل طريق الآخرة غير طريق الدنيا وهذه هي الحقيقة الغائمة اليوم في أفكار الناس وعقولهم وضمائرهم وأوضاعهم الواقعية لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير الناس وضميرهم وواقعهم بحيث أصبح الفرد العادي وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة لا يرى أن هنالك سبيلا للالتقاء بين الطريقين ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه ‏;‏ وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه ‏;‏ ولا سبيل إلى الجمع بينهما في تصور ولا واقع لأن واقع الأرض والناس وأوضاعهم في هذه الفترة من الزمان توحي بهذا حقيقة إن أوضاع الحياة الجاهلية الضالة البعيدة عن الله وعن منهجه للحياة اليوم تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة وتحتم على الذين يريدون البروز في المجتمع والكسب في مضمار المنافع الدنيوية أن يتخلوا عن طريق الآخرة ‏;‏ وأن يضحوا بالتوجيهات الدينية والمثل الخلقية ‏;‏ والتصورات الرفيعة والسلوك النظيف الذي يحض عليه الدين كما تحتم على الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع والكسب في مضمار المنافع لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للدين والخلق ولا مرضية لله سبحانه ولكن تراها ضربة لازب ترى أنه لا مفر من هذا الحال التعيس ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا وطريق الآخرة كلا إنها ليست ضربة لازب فالعداء بين الدنيا والآخرة ‏;‏ والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ليس هو الحقيقة النهائية التي لا تقبل التبديل بل إنها ليست من طبيعة هذه الحياة أصلا إنما هي عارض ناشى ء من انحراف طارى ء إن الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة ‏;‏ وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا ‏;‏ وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة والخلافة عمل وإنتاج ووفرة ونماء وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من فوقهم ومن تحت أرجلهم كما يقول الله في كتابه الكريم إن التصور الإسلامي يجعل وظيفة الإنسان في الأرض هي الخلافة عن الله بإذن الله وفق شرط الله ومن ثم يجعل العمل المنتج المثمر وتوفير الرخاء باستخدام كل مقدرات الأرض وخاماتها ومواردها بل الخامات والموارد الكونية كذلك هو الوفاء بوظيفة الخلافة ويعتبر قيام الإنسان بهذه الوظيفة وفق منهج الله وشريعته حسب شرط الاستخلاف طاعة لله ينال عليها العبد ثواب الآخرة ‏;‏ بينما هو بقيامه بهذه الوظيفة على هذا النحو يظفر بخيرات الأرض التي سخرها الله له ‏;‏ ويفيض عليه الرزق من فوقه ومن تحت رجليه كما يصور التعبير القرآني الجميل ووفق التصور الإسلامي يعتبر الإنسان الذي لا يفجر ينابيع الأرض ولا يستغل طاقات الكون المسخرة له عاصيا لله ناكلا عن القيام بالوظيفة التي خلقه الله لها وهو يقول للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة وهو يقول كذلك للناس وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ومعطلا لرزق الله الموهوب للعباد وهكذا يخسر الآخرة لأنه خسر الدنيا والمنهج الإسلامي بهذا يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق فلا يفوت على الإنسان دنياه لينال آخرته ولا يفوت عليه آخرته لينال دنياه فهما ليسا نقيضين ولا بديلين في التصور الإسلامي هذا بالقياس إلى جنس الإنسان عامة وبالقياس إلى الجماعات الإنسانية التي تقوم في الأرض على منهج الله فأما بالقياس إلى الأفراد فإن الأمر لا يختلف إذ أن طريق الفرد وطريق الجماعة في المنهج الإسلامي لا يختلفان ولا يتصادمان ولا يتعارضان فالمنهج يحتم على الفرد أن يبذل أقصى طاقته الجسمية والعقلية في العمل والإنتاج ‏;‏ وأن يبتغي في العمل والإنتاج وجه الله فلا يظلم ولا يغدر ولا يغش ولا يخون ولا يأكل من سحت ولا يحتجز دون أخيه المحتاج في الجماعة شيئا يملكه مع الاعتراف الكامل له بملكيته الفردية لثمرة عمله والاعتراف للجماعة بحقها في ماله في حدود ما فرض الله وما شرع والمنهج يسجل للفرد عمله في هذه الحدود ووفق هذه الاعتبارات عبادة لله يجزيه عليها بالبركة في الدنيا وبالجنة في الآخرة ويربط المنهج بين الفرد وربه رباطا أقوى بالشعائر التعبدية التي يفرضها عليه ‏;‏ ليستوثق بهذا الرباط من تجدد صلته بالله في اليوم الواحد خمس مرات بالصلاة وفي العام الواحد ثلاثين يوما بصوم رمضان وفي العمر كله بحج بيت الله وفي كل موسم أو في كل عام بإخراج الزكاة ومن هنا قيمة هذه الفرائض التعبدية في المنهج الإسلامي إنها تجديد للعهد مع الله على الارتباط بمنهجه الكلي للحياة وهي قربى لله يتجدد معها العزم على النهوض بتكاليف هذا المنهج الذي ينظم أمر الحياة كلها ويتولى شئون العمل والإنتاج والتوزيع والحكم بين الناس في علاقاتهم وفي خلافاتهم ويتجدد معها الشعور بعون الله ومدده على حمل التكاليف التي يتطلبها النهوض بهذا المنهج الكلي المتكامل والتغلب على شهوات الناس وعنادهم وانحرافهم وأهوائهم حين تقف في الطريق وليست هذه الشعائر التعبدية أمورا منفصلة عن شئون العمل والإنتاج والتوزيع والحكم والقضاء والجهاد لإقرار منهج الله في الأرض وتقرير سلطانه في حياة الناس إنما الإيمان والتقوى والشعائر التعبدية شطر المنهج المعين على أداء شطره الآخر وهكذا يكون الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله في الحياة العملية سبيلا للوفرة والفيض كما بعد الله الناس في هاتين الآيتين الكريمتين إن التصور الإسلامي وكذلك المنهج الإسلامي المنبثق منه لا يقدم الحياة الآخرة بديلا من الحياة الدنيا ولا العكس إنما يقدمهما معا في طريق واحد وبجهد واحد ولكنهما لا يجتمعان كذلك في حياة الإنسان إلا إذا اتبع منهج الله وحده في الحياة دون أن يدخل عليه تعديلات مأخوذة من أوضاع أخرى لم تنبثق من منهج الله أو مأخوذة من تصوراته الذاتية التي لم تضبط بهذا المنهج ففي هذا المنهج وحده يتم ذلك التناسق الكامل والتصور الإسلامي وكذلك المنهج الإسلامي المنبثق منه لا يقدم الإيمان والعبادة والصلاح والتقوى بديلا من العمل والإنتاج والتنمية والتحسين في واقع الحياة المادية وليس هو المنهج الذي يعد الناس فردوس الآخرة ويرسم لهم طريقه ‏;‏ بينما يدع الناس أن يرسموا لأنفسهم الطريق المؤدي إلى فردوس الدنيا كما يتصور بعض السطحيين في هذا الزمان فالعمل والإنتاج والتنمية والتحسين في واقع الحياة الدنيا تمثل في التصور الإسلامي والمنهج الإسلامي فريضة الخلافة في الأرض والإيمان والعبادة والصلاح والتقوى تمثل الارتباطات والضوابط والدوافع والحوافز لتحقيق المنهج في حياة الناس وهذه وتلك معا هي مؤهلات الفردوس الأرضي والفردوس الأخروي معا ‏;‏ والطريق هو الطريق ولا فصام بين الدين والحياة الواقعية المادية كما هو واقع في الأوضاع الجاهلية القائمة في الأرض كلها اليوم والتي منها يقوم في أوهام الواهمين أنه لا مفر من أن يختار الناس الدنيا أو يختاروا الآخرة ولا يجمعوا بينهما في تصور أو في واقع لأنهما لا تجتمعان إن هذا الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة في حياة الناس وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة وبين العبادة الروحية والإبداع المادي وبين النجاح في الحياة الدنيا والنجاح في الحياة الأخرى إن هذا الفصام النكد ليس ضريبة مفروضة على البشرية بحكم من أحكام القدر الحتمية إنما هو ضريبة بائسه فرضتها البشرية على نفسها وهي تشرد عن منهج الله وتتخذ لنفسها مناهج أخرى من عند أنفسها معادية لمنهج الله في الأساس والاتجاه وهي ضريبة يؤديها الناس من دمائهم وأعصابهم في الحياة الدنيا فوق ما يؤدونه منها في الآخرة وهو أشد وأنكى إنهم يؤدونها قلقا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر من جراء خواء قلوبهم من طمأنينة الإيمان وبشاشته وزاده وريه إذا هم آثروا اطراح الدين كله على زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والإنتاج والعلم والتجربة والنجاح الفردي والجماعي في المعترك العالمي ذلك أنهم في هذه الحالة يصارعون فطرتهم يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تملأ القلب ولا تطيق الفراغ والخواء وهي جوعة لا تملؤها مذاهب اجتماعية أو فلسفية أو فنية على الإطلاق لأنها جوعة النزعة إلى إله وهم يؤدونها كذلك قلقا وحيدة وشقاء قلب وبلبلة خاطر إذا هم حاولوا الاحتفاظ بعقيدة في الله وحاولوا معها مزاولة الحياة في هذا المجتمع العالمي الذي يقوم نظامه كله وتقوم أوضاعة وتقوم تصوراته وتقوم وسائل الكسب فيه ووسائل النجاح على غير منهج الله وتتصادم فيه العقيدة الدينية والخلق الديني والسلوك الديني مع الأوضاع والقوانين والقيم والموازين السائدة في هذا المجتمع المنكود وتعاني البشرية كلها ذلك الشقاء سواء اتبعت المذاهب المادية الإلحادية أو المذاهب المادية التي تحاول استبقاء الدين عقيدة بعيدة عن نطام الحياة العملية وتتصور أو يصور لها أعداء البشرية أن الدين لله وأن الحياة للناس وأن الدين عقيدة وشعور وعبادة وخلق والحياة نظام وقانون وإنتاج وعمل وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة ضريبة الشقاء والقلق والحيرة والخواء لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع ‏;‏ ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة بل ينسق ولا يجوز أن تخدعنا ظواهر كاذبة في فترة موقوتة إذ نرى أمما لا تؤمن ولا تتقي ولا تقيم منهج الله في حياتها وهي موفورة الخيرات كثيرة الإنتاج عظيمة الرخاء إنه رخاء موقوت حتى تفعل السنن الثابتة فعلها الثابت وحتى تظهر كل آثار الفصام النكد بين الإبداع المادي والمنهج الرباني والآن تظهر بعض هذه الآثار في صور شتى تظهر في سوء التوزيع في هذه الأمم مما يجعل المجتمع حافلا بالشقاء وحافلا بالأحقاد وحافلا بالمخاوف من الانقلابات المتوقعة نتيجة هذه الأحقاد الكظيمة وهو بلاء على رغم الرخاء وتظهر في الكبت والقمع والخوف في الأمم التي أرادت أن تضمن نوعا من عدالة التوزيع واتخذت طريق التحطيم والقمع والإرهاب ونشر الخوف والذعر لإقرار الإجراءات التي تأخذ بها لإعادة التوزيع وهو بلاء لا يأمن الإنسان فيه على نفسه ولا يطمئن ولا يبيت ليلة في سلام وتظهر في الانحلال النفسي والخلقي الذي يؤدي بدوره إن عاجلا أو آجلا إلى تدمير الحياة المادية ذاتها فالعمل والإنتاج والتوزيع كلها في حاجة إلى ضمانة الأخلاق والقانون الأرضي وحده عاجز كل العجز عن تقديم الضمانات لسير العمل كما نرى في كل مكان وتظهر في القلق العصبي والأمراض المنوعة التي تجتاح أمم العالم وبخاصة أشدها رخاء ماديا مما يهبط بمستوى الذكاء والاحتمال ويهبط بعد ذلك بمستوى العمل والإنتاج وينتهي إلى تدمير الاقتصاد المادي والرخاء وهذه الدلائل اليوم واضحة وضوحا كافيا يلفت الأنظار وتظهر في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع في كل لحظة ‏;‏ في هذا العالم المضطرب ‏;‏ الذي تحوم حوله نذر الحرب المدمرة وهو خوف يضغط على أعصاب الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون ‏;‏ فيصيبهم بشتى الأمراض العصبية ولم ينتشر الموت بالسكتة وانفجار المخ والانتحار كما انتشر في أمم الرخاء وتظهر هذه الآثار كلها بصورة متقدمة واضحة في ميل بعض الشعوب إلى الاندثار والدمار وأظهر الأمثلة الحاضرة تتجلى في الشعب الفرنسي وليس هذا إلا مثلا للآخرين في فعل الافتراق بين النشاط المادي والمنهج الرباني ‏;‏ وافتراق الدنيا والآخرة وافتراق الدين والحياة ‏;‏ أو اتخاذ منهج للآخرة من عند الله واتخاذ منهج للدنيا من عند الناس ‏;‏ وإيقاع هذا الفصام النكد بين منهج الله وحياة الناس وقبل أن ننهي هذا التعليق على التقرير القرآني لتلك الحقيقة الكبيرة نحب أن نؤكد أهمية التناسق في منهج الله بين الإيمان والتقوى وإقامة المنهج في الحياة الواقعية للناس وبين العمل والإنتاج والنهوض بالخلافة في الأرض فهذا التناسق هو الذي يحقق شرط الله لأهل الكتاب ولكل جماعة من الناس أن يأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا وأن تكفر عنهم سيئاتهم ويدخلوا جنات النعيم في الآخرة ‏;‏ وأن يجتمع لهم الفردوس الأرضي بالوفرة والكفاية مع السلام والطمأنينة وفردوس الآخرة بما فيه من نعيم ورضوان ولكننا مع هذا التوكيد لا نحب أن ننسى أن القاعدة الأولى والركيزة الأساسية هي الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الرباني في الحياة الواقعية فهذا يتضمن في ثناياه العمل والإنتاج والترقية والتطوير للحياة فضلا على أن للصلة بالله مذاقها الذي يغير كل طعوم الحياة ‏;‏ ويرفع كل قيم الحياة ‏;‏ ويقوم كل موازين الحياة فهذا هو الأصل في التصور الإسلامي وفي المنهج الإسلامي وكل شيء فيه يجيء تبعا له ومنبثقا منه ومعتمدا عليه ثم يتم تمام الأمر كله في الدنيا والآخرة في تناسق واتساق وينبغي أن نذكر أن الإيمان والتقوى والعبادة والصلة بالله وإقامة شريعة الله في الحياة كل أولئك ثمرته للإنسان وللحياة الإنسانية فالله سبحانه غني عن العالمين وإذا شدد المنهج الإسلامي في هذه الأسس وجعلها مناط العمل والنشاط ‏;‏ ورد كل عمل وكل نشاط لا يقوم عليها وعده باطلا لا يقبل وحابطا لا يعيش وذاهبا مع الريح فليس هذا لأن الله سبحانه يناله شيء من إيمان العباد وتقواهم وعبادتهم له وتحقيق منهجه للحياة ولكن لأنه سبحانه يعلم أن لا صلاح لهم ولا فلاح إلا بهذا المنهاج في الحديث القدسي عن أبى ذر رضي الله عنه عن النبي ص فيما روى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ‏;‏ ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» رواه مسلم وعلى هذا الأساس ينبغي أن ندرك وظيفة الإيمان والتقوى والعبادة وإقامة منهج الله في الحياة والحكم بشريعة الله فهي كلها لحسابنا نحن لحساب هذه البشرية في الدنيا والآخرة جميعا وهي كلها ضروريات لصلاح هذه البشرية في الدنيا والآخرة جميعا ونحسب أننا لسنا في حاجة لأن نقول إن هذا الشرط الإلهي لأهل الكتاب غير خاص بأهل الكتاب فالشرط لأهل الكتاب يتضمن الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله المتمثل في ما أنزل إليهم في التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم وذلك بطبيعة الحال قبل البعثة الأخيرة فأولى بالشرط الذين أنزل إليهم القرآن أولى بالشرط الذين يقولون إنهم مسلمون فهؤلاء هم الذين يتضمن دينهم بالنص الإيمان بما أنزل إليهم وما أنزل من قبل والعمل بكل ما أنزل إليهم وما استبقاه الله في شرعهم من شرع من قبلهم وهم أصحاب الدين الذي لا يقبل الله غيره من أحد وقد انتهى إليه كل دين قبله ‏;‏ ولم يعد هناك دين يقبله الله غيره أو يقبل من أحد غيره فهؤلاء أولى أن يكون شرط الله وعهده لهم وهؤلاء أولى أن يرتضوا ما ارتضاه الله منهم وأن يستمتعوا بما يشرطه الله لهم من تكفير السيئات ودخول الجنة في الآخرة ‏;‏ ومن الأكل من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا إنهم أولى أن يستمتعوا بما يشرطه الله لهم بدلا من الجوع والمرض والخوف والشظف الذي يعيشون فيه في كل أرجاء الوطن الإسلامي أو الذي كان إسلاميا بتعبير أصح وشرط الله قائم ‏;‏ والطريق إليه معروف لو كانوا يعقلون الوحدة السادسة الموضوع بيان كفر وانحراف وإفساد أهل الكتاب مقدمة الوحدة تقرير نوع العلاقة بين الجماعة المسلمة وأهل الكتاب يمضي هذا الدرس في بيان حال أهل الكتاب من اليهود والنصارى وكشف الانحراف فيما يعتقدون وكشف السوء فيما يصنعون ‏;‏ في تاريخهم كله وبخاصة اليهود كما يمضي في تقرير نوع العلاقة بنيهم وبين الرسول ص والجماعة المسلمة ‏;‏ وواجب الرسول ص في تعامله معهم وواجب المسلمين ذلك إلى تقرير حقائق أساسية ضخمة في أصول التصور الاعتقادي ‏;‏ وفي أصول النشاط الحركي للجماعة المسلمة تجاه المعتقدات المنحرفة وتجاه المنحرفين لقد نادى الله سبحانه الرسول ص وكلفه تبليغ ما أنزل إليه من ربه كل ما أنزل إليه لا يستبقي منه شيئا ولا يؤخر منه شيئا مراعاة للظروف والملابسات أو تجنبا للاصطدام بأهواء الناس وواقع المجتمع وإن لم يفعل فما يكون قد بلغ ومن هذا الذي كلف الرسول ص تبليغه أن يجابه أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم هكذا قاطعة جازمة صريحة جاهرة وأن يعلن كذلك كفر اليهود بنقضهم الميثاق وقتلهم الأنبياء وكفر النصارى بقولهم إن الله هو المسيح عيسى بن مريم وقولهم إن الله ثالث ثلاثة كما يعلن أن المسيح عليه السلام أنذر بني إسرائيل عاقبة الشرك وتحريم الله الجنة على المشركين وأن بني إسرائيل لعنوا على لسان داود وعيسى بن مريم بعصيانهم وعدوانهم وينتهي الدرس بكشف موقف أهل الكتاب من مظاهرة المشركين على المسلمين وإعلان أن هذا ناشيء من عدم إيمانهم بالله والنبي وأنهم مدعوون إلى الإيمان بما جاء به محمد ص وإلا فما هم بالمؤمنين ونأخذ بعد هذا الإجمال في مواجهة النصوص بالتفصيل الدرس الأول وجوب التبليغ وبيان المؤمن من الكافر يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏.‏