فصل: تفسير الآيات رقم (87- 108)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 108‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏87‏)‏ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏89‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏90‏)‏ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ‏(‏91‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏92‏)‏ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏93‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏94‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏95‏)‏ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏96‏)‏ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏97‏)‏ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏98‏)‏ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏99‏)‏ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏100‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ‏(‏102‏)‏ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏103‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏104‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ ‏(‏106‏)‏ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏107‏)‏ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

هذا القطاع بجملته يتناول قضية واحدة- على تعدد الموضوعات التي يتعرض لها- ويدور كله حول محور واحد‏.‏‏.‏ إنه يتناول قضية التشريع فيجعلها هي قضية الألوهية‏.‏‏.‏ الله هو الذي يحرم ويحلل‏.‏‏.‏ والله هو الذي يحظر ويبيح‏.‏‏.‏ والله هو الذي ينهى ويأمر‏.‏‏.‏ ثم تتساوى المسائل كلها عند هذه القاعدة‏.‏ كبيرها وصغيرها‏.‏ فشئون الحياة الإنسانية بجملتها يجب أن ترد إلى هذه القاعدة دون سواها‏.‏

والذي يدعي حق التشريع أو يزاوله، فإنما يدعي حق الألوهية أو يزاوله‏.‏‏.‏ وليس هذا الحق لأحد إلا لله‏.‏‏.‏ وإلا فهو الاعتداء على حق الله وسلطانه وألوهيته‏.‏‏.‏ والله لا يحب المعتدين‏.‏‏.‏ والذي يستمد في شيء من هذا كله من عرف الناس ومقولاتهم ومصطلحاتهم، فإنما يعدل عما أنزل الله إلى الرسول‏.‏‏.‏ ويخرج بهذا العدول عن الإيمان بالله ويخرج من هذا الدين‏.‏

وتبدأ كل فقرة من فقرات هذا القطاع بنداء واحد مكرر‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏يا أيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

ولهذا النداء على هذا النحو مكانه ودلالته في سياق هذا القطاع الذي يعالج قضية التشريع فيجعلها هي قضية الألوهية وقضية الإيمان، وقضية الدين‏.‏‏.‏ إنه النداء بصفة الإيمان الذي معناه ومقتضاه الاعتراف بألوهية الله وحده، والاعتراف له سبحانه بالحاكمية‏.‏‏.‏ فهو نداء التذكير والتقرير لأصل الإيمان وقاعدته؛ بهذه المناسبة الحاضرة في السياق‏.‏ ومعه الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول؛ والتحذير من التولي والإعراض؛ والتهديد بعقاب الله الشديد، والإطماع في مغفرته ورحمته لمن أناب‏.‏

ثم‏.‏‏.‏ بعد ذلك‏.‏‏.‏ المفاصلة بين الذين آمنوا ومن يضل عن طريقهم، ولا يتبع منهجهم هذا في ترك قضية التشريع لله في الصغيرة والكبيرة؛ والتخلي عن الاعتداء على حق الله وسلطانه وألوهيته‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إلى الله مرجعكم جميعاً، فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏‏.‏‏.‏

فهم أمة واحدة لها دينها، ولها نهجها، ولها شرعها، ولها مصدر هذا الشرع الذي لا تستمد من غيره‏.‏ ولا على هذه الأمة- حين تبين للناس منهجها هذا ثم تفاصلهم عليه- من ضلال الناس، ومضيهم في جاهليتهم‏.‏

ومرجعهم بعد ذلك إلى الله‏.‏

هذا هو المحور العام الذي يقوم عليه القطاع بجملته‏.‏ أما الموضوعات الداخلة في إطاره فقد أشرنا إليها في التقديم لهذا الجزء إشارة مجملة‏.‏ والآن نواجهها تفصيلاً في حدود هذا الإطار العام‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين‏.‏ وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون‏.‏‏.‏ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‏.‏ ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان‏.‏ فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم، واحفظوا أيمانكم، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون‏}‏‏.‏‏.‏

يا أيها الذين آمنوا‏.‏‏.‏ إن مقتضى إيمانكم ألا تزاولوا أنتم- وأنتم بشر عبيد لله- خصائص الألوهية التي يتفرد بها الله‏.‏ فليس لكم أن تحرموا ما أحل الله من الطيبات؛ وليس لكم أن تمتنعوا- على وجه التحريم- عن الأكل مما رزقكم الله حلالاً طيباً‏.‏‏.‏ فالله هو الذي رزقكم بهذا الحلال الطيب‏.‏ والذي يملك أن يقول‏:‏ هذا حرام وهذا حلال‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا‏.‏ إن الله لا يحب المعتدين‏.‏ وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً؛ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

إن قضية التشريع بجملتها مرتبطة بقضية الألوهية‏.‏ والحق الذي ترتكن إليه الألوهية في الاختصاص بتنظيم حياة البشر، هو أن الله هو خالق هؤلاء البشر ورازقهم‏.‏ فهو وحده صاحب الحق إذن في أن يحل لهم ما يشاء من رزقه وأن يحرم عليهم ما يشاء‏.‏‏.‏ وهو منطق يعترف به البشر أنفسهم‏.‏ فصاحب الملك هو صاحب الحق في التصرف فيه‏.‏ والخارج على هذا المبدأ البديهي معتد لا شك في اعتدائه‏!‏ والذين آمنوا لا يعتدون بطبيعة الحال على الله الذي هم به مؤمنون‏.‏ ولا يجتمع الاعتداء على الله والايمان به في قلب واحد على الإطلاق‏!‏

هذه هي القضية التي تعرضها هاتان الآيتان في وضوح منطقي لا يجادل فيه إلا معتد‏.‏‏.‏ والله لا يحب المعتدين‏.‏‏.‏ وهي قضية عامة تقرر مبدأ عاماً يتعلق بحق الألوهية في رقاب العباد؛ ويتعلق بمقتضى الإيمان بالله في سلوك المؤمنين في هذه القضية‏.‏‏.‏ وتذكر بعض الروايات أن هاتين الآيتين والآية التي بعدهما- الخاصة بحكم الأيمان- قد نزلت في حادث خاص في حياة المسلمين على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولكن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب‏.‏ وإن كان السبب يزيد المعنى وضوحاً ودقة‏:‏

روى ابن جرير‏.‏‏.‏ «أنه- صلى الله عليه وسلم- جلس يوماً فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التخويف‏.‏ فقال ناس من أصحابه‏:‏ ما حقنا إن لم نحدث عملاً، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم‏!‏ فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والورك، وأن يأكل بالنهار؛ وحرم بعضهم النساء‏.‏‏.‏ فبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏» ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم‏؟‏ ألا إني أنام وأقوم، وأفطر وأصوم، وأنكح النساء فمن رغب عني فليس مني «‏.‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏}‏»

وفي الصحيحين من رواية أنس- رضي الله عنه- شاهد بهذا الذي رواه ابن جرير‏:‏

قال‏:‏ «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته‏.‏ فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها‏.‏ قالوا‏:‏ أين نحن من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‏؟‏ قال أحدهم‏:‏ أما أنا فأصلي الليل أبداً‏.‏ وقال الآخر‏:‏ وأنا أصوم الدهر ولا أفطر‏.‏ وقال آخر‏:‏ وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً‏.‏ فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليهم، فقال‏:‏ أنتم الذين قلتم كذا وكذا‏.‏ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له‏.‏ ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»

وأخرج الترمذي- بإسناده- عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن رجلاً أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي، فحرمت عليَّ اللحم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏}‏‏.‏‏.‏

فأما الآية الخاصة بالحلف والأيمان والتي جاءت تالية في السياق‏:‏

‏{‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام‏.‏ ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم‏.‏ واحفظوا أيمانكم‏.‏ كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون‏}‏‏.‏‏.‏

فالظاهر أنها نزلت لمواجهة هذه الحالة- وأمثالها- من الحلف على الامتناع عن المباح الذي آلى أولئك النفر على أنفسهم أن يمتنعوا عنه، فردهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الامتناع عنه، وردهم القرآن الكريم عن مزاولة التحريم والتحليل بأنفسهم، فهذا ليس لهم إنما هو لله الذي آمنوا به‏.‏ كما أنها تواجه كل حلف على الامتناع عن خير أو الإقدام على شر‏.‏ فكل يمين يرى صاحبها أن هناك ما هو أبّر، فعليه أن يفعل ما هو أبّر، ويكفر عن يمينه بالكفارات المحددة في هذه الآية‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ سبب نزولها‏:‏ القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم‏.‏

حلفوا على ذلك فلما نزلت ‏{‏لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏}‏ قالوا‏:‏ كيف نصنع بأيماننا «فنزلت هذه الآية»‏.‏

وقد تضمن الحكم أن الله- سبحانه- لا يؤاخذ المسلمين بأيمان اللغو، التي ينطق بها اللسان دون أن يعقد لها القلب بالنية والقصد مع الحض على عدم ابتذال الأيمان بالإكثار من اللغو بها إذ أنه ينبغي أن تكون لليمين بالله حرمتها ووقارها، فلا تنطق هكذا لغواً‏.‏‏.‏

فأما اليمين المعقودة، التي وراءها قصد ونية، فإن الحنث بها يقتضي كفارة تبينها هذه الآية‏:‏

‏{‏فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام‏.‏ ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم‏}‏‏.‏

وطعام المساكين العشرة من «أوسط» الطعام الذي يقوم به الحالف لأهله‏.‏‏.‏ و«أوسط» تحتمل أن تكون من «أحسن» أو من «متوسط» فكلاهما من معاني اللفظ‏.‏ وإن كان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد لأن «المتوسط» هو «الأحسن» فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام‏.‏‏.‏ أو «كسوتهم» الأقرب أن تكون كذلك من «أوسط» الكسوة‏.‏‏.‏ أو «تحرير رقبة» لا ينص هنا على أنها مؤمنة‏.‏‏.‏ ومن ثم يرد بشأنها خلاف فقهي ليس هذا مكانه‏.‏‏.‏ ‏{‏فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام‏}‏‏.‏‏.‏ وهي الكفارة التي يعاد إليها في اليمين المعقودة عند عدم استطاعة الكفارات الأخرى‏.‏‏.‏ وكون هذه الأيام الثلاثة متتابعة أو غير متتابعة فيه كذلك خلاف فقهي بسبب عدم النص هنا على تتابعها‏.‏ والخلافات الفقهية في هذه الفرعيات ليست من منهجنا في هذه الظلال‏.‏ فمن أرادها فليطلبها في مواضعها في كتب الفقه‏.‏ إذ أنها كلها تتفق على الأصل الذي يعنينا وهو أن الكفارة رد لاعتبار العقد المنقوض، وحفظ للأيمان من الاستهانة بها؛ وهي «عقود» وقد أمر الله- سبحانه- بالوفاء بالعقود‏.‏ فإذا عقد الإنسان يمينه وكان هناك ما هو أبّر فعل الأبر وكفر عن اليمين‏.‏ وإذا عقدها على غير ما هو من حقه كالتحريم والتحليل، نقضها وعليه التكفير‏.‏

ونعود بعد ذلك إلى الموضوع الأصيل الذي نزلت الآيات بسببه‏.‏‏.‏ فأما من ناحية «خصوص السبب» فإن الله يبين أن ما أحله الله فهو الطيب، وما حرمه فهو الخبيث‏.‏ وأن ليس للإنسان أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له‏.‏ من وجهين‏:‏ الوجه الأول أن التحريم والتحليل من خصائص الله الرازق بما يجري فيه التحليل والتحريم من الرزق، وإلا فهو الاعتداء الذي لا يحبه الله، ولايستقيم معه إيمان‏.‏‏.‏ والوجه الثاني أن الله يحل الطيبات، فلا يحرم أحد على نفسه تلك الطيبات، التي بها صلاحه وصلاح الحياة؛ فإن بصره بنفسه وبالحياة لن يبلغ بصر الحكيم الخبير الذي أحل هذه الطيبات‏.‏

ولو كان الله يعلم فيها شراً أو أذى لوقاه عباده‏.‏ ولو كان يعلم في الحرمان منها خيراً ما جعلها حلالاً‏.‏‏.‏ ولقد جاء هذا الدين ليحقق الخير والصلاح، والتوازن المطلق، والتناسق الكامل، بين طاقات الحياة البشرية جميعاً، فهو لا يغفل حاجة من حاجات الفطرة البشرية؛ ولا يكبت كذلك طاقة بناءة من طاقات الإنسان، تعمل عملاً سوياً، ولا تخرج عن الجادة‏.‏ ومن ثم حارب الرهبانية، لأنها كبت للفطرة، وتعطيل للطاقة وتعويق عن إنماء الحياة التي أراد الله لها النماء، كما نهى عن تحريم الطيبات كلها لأنها من عوامل بناء الحياة ونموها وتجددها‏.‏‏.‏ لقد خلق الله هذه الحياة لتنمو وتتجدد، وترتقي عن طريق النمو والتجدد المحكومين بمنهج الله‏.‏ والرهبانية وتحريم الطيبات الأخرى تصطدم مع منهج الله للحياة‏.‏ لأنها تقف بها عند نقطة معينة بحجة التسامي والارتفاع‏.‏ والتسامي والارتفاع داخلان في منهج الله للحياة، وفق المنهج الميسر المطابق للفطرة كما يعلمها الله‏.‏

وخصوص السبب- بعد هذا- لا يقيد عموم النص‏.‏ وهذا العموم يتعلق بقضية الألوهية والتشريع- كما أسلفنا- وهي قضية لا تقتصر على الحلال والحرام في المآكل والمشارب والمناكح‏.‏ إنما هو أمر حق التشريع لأي شأن من شئون الحياة‏.‏‏.‏

ونحن نكرر هذا المعنى ونؤكده؛ لأن طول عزلة الإسلام عن أن يحكم الحياة- كما هو شأنه وحقيقته- قد جعل معاني العبارة تتقلص ظلالها عن مدى الحقيقة التي تعنيها في القرآن الكريم وفي هذا الدين‏.‏ ولقد جعلت كلمة «الحلال» وكلمة «الحرام» يتقلص ظلهما في حس الناس، حتى عاد لا يتجاوز ذبيحة تذبح، أو طعاماً يؤكل، أو شراباً يشرب، أو لباساً يلبس، أو نكاحاً يعقد‏.‏‏.‏ فهذه هي الشئون التي عاد الناس يستفتون فيها الإسلام ليروا‏:‏ حلال هي أم حرام‏!‏ فأما الأمور العامة والشئون الكبيرة فهم يستفتون في شأنها النظريات والدساتير والقوانين التي استبدلت بشريعة الله‏!‏ فالنظام الاجتماعي بجملته، والنظام السياسي بجملته، والنظام الدولي بجملته؛ وكافة اختصاصات الله في الأرض وفي حياة الناس، لم تعد مما يستفتى فيه الإسلام‏!‏

والإسلام منهج للحياة كلها‏.‏ من اتبعه كله فهو مؤمن وفي دين الله‏.‏ ومن اتبع غيره ولو في حكم واحد فقد رفض الإيمان واعتدى على ألوهية الله، وخرج من دين الله‏.‏ مهما أعلن أنه يحترم العقيدة وأنه مسلم‏.‏ فاتباعه شريعة غير شريعة الله، يكذب زعمه ويدمغه بالخروج من دين الله‏.‏

وهذه هي القضية الكلية التي تعنيها هذه النصوص القرآنية، وتجعلها قضية الإيمان بالله، أو الاعتداء على الله‏.‏‏.‏ وهذا هو مدى النصوص القرآنية‏.‏ وهو المدى اللائق بجدية هذا الدين وجدية هذا القرآن، وجدية معنى الألوهية ومعنى الإيمان‏.‏

وفي سياق قضية التشريع بالتحريم والتحليل، وفي خط التربية للأمة المسلمة في المدينة، وتخليصها من جو الجاهلية ورواسبها وتقاليدها الشخصية والاجتماعية، يجيء النص القاطع الأخير في تحريم الخمر والميسر مقرونين إلى تحريم الأنصاب والأزلام‏.‏ أي إلى الشرك بالله‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون‏.‏ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون‏؟‏ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين‏.‏ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، والله يحب المحسنين‏}‏‏.‏‏.‏

لقد كانت الخمر والميسر والأنصاب والأزلام من معالم الحياة الجاهلية، ومن التقاليد المتغلغلة في المجتمع الجاهلي‏.‏ وكانت كلها حزمة واحدة ذات ارتباط عميق في مزاولتها، وفي كونها من سمات ذلك المجتمع وتقاليده‏.‏‏.‏ فلقد كانوا يشربون الخمر في إسراف، ويجعلونها من المفاخر التي يتسابقون في مجالسها ويتكاثرون؛ ويديرون عليها فخرهم في الشعر ومدحهم كذلك‏!‏ وكان يصاحب مجالس الشراب نحر الذبائح واتخاذ الشواء منها للشاربين وللسقاة ولأحلاس هذه المجالس ومن يلوذون بها ويلتفون حولها‏!‏ وكانت هذه الذبائح تنحر على الأنصاب وهي أصنام لهم كانوا يذبحون عليها ذبائحهم وينضحونها بدمها ‏(‏كما كانت تذبح عليها الذبائح التي تقدم للآلهة أي لكهنتها‏!‏‏)‏‏.‏‏.‏ وفي ذبائح مجالس الخمر وغيرها من المناسبات الاجتماعية التي تشبهها كان يجري الميسر عن طريق الأزلام‏.‏ وهي قداح كانوا يستقسمون بها الذبيحة، فيأخذ كل منهم نصيبه منها بحسب قدحه‏.‏ فالذي قدحه ‏(‏المعلى‏)‏ يأخذ النصيب الأوفر، وهكذا حتى يكون من لا نصيب لقدحه‏.‏ وقد يكون هو صاحب الذبيحة فيخسرها كلها‏!‏

وهكذا يبدو تشابك العادات والتقاليد الاجتماعية؛ ويبدو جريانها كذلك وفق حال الجاهلية وتصوراتها الاعتقادية‏.‏

ولم يبدأ المنهج الإسلامي في معالجة هذه التقاليد في أول الأمر، لأنها إنما تقوم على جذور اعتقادية فاسدة؛ فعلاجها من فوق السطح قبل علاج جذورها الغائرة جهد ضائع‏.‏ حاشا للمنهج الرباني أن يفعله‏!‏ إنما بدأ الإسلام من عقدة النفس البشرية الأولى‏.‏ عقدة العقيدة‏.‏ بدأ باجتثاث التصور الجاهلي الاعتقادي جملة من جذوره؛ وإقامة التصور الإسلامي الصحيح‏.‏ إقامته من أعماق القاعدة المرتكزة إلى الفطرة‏.‏‏.‏ بيّن للناس فساد تصوراتهم عن الألوهية وهداهم إلى الإله الحق‏.‏ وحين عرفوا إلهم الحق بدأت نفوسهم تستمع إلى ما يحبه منهم هذا الإله الحق وما يكرهه‏.‏ وما كانوا قبل ذلك ليسمعوا‏!‏ أو يطيعوا أمراً ولا نهياً؛ وما كانوا ليقلعوا عن مألوفاتهم الجاهلية مهما تكرر لهم النهي وبذلت لهم النصيحة‏.‏‏.‏ إن عقدة الفطرة البشرية هي عقدة العقيدة؛ وما لم تنعقد هذه العقدة أولاً فلن يثبت فيها شيء من خلق أو تهذيب أو إصلاح اجتماعي‏.‏

‏.‏ إن مفتاح الفطرة البشرية ها هنا‏.‏ وما لم تفتح بمفتاحها فستظل سراديبها مغلقة ودروبها ملتوية، وكما كشف منها زقاق انبهمت أزقة؛ وكلما ضاء منها جانب أظلمت جوانب، وكلما حلت منها عقدة تعقدت عقد، وكلما فتح منها درب سدت دروب ومسالك‏.‏‏.‏ إلى ما لا نهاية‏.‏‏.‏

لذلك لم يبدأ المنهج الإسلامي في علاج رذائل الجاهلية وانحرافاتها، من هذه الرذائل والانحرافات‏.‏‏.‏ إنما بدأ من العقيدة‏.‏‏.‏ بدأ من شهادة أن لاإله إلا الله‏.‏‏.‏ وطالت فترة إنشاء لا إله إلا الله هذه في الزمن حتى بلغت نحو ثلاثة عشر عاماً، لم يكن فيها غاية إلا هذه الغاية‏!‏ تعريف الناس بإلههم الحق وتعبيدهم له وتطويعهم لسلطانه‏.‏‏.‏ حتى إذا خلصت نفوسهم لله؛ وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله‏.‏‏.‏ عندئذ بدأت التكاليف- بما فيها الشعائر التعبدية- وعندئذ بدأت عملية تنقية رواسب الجاهلية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأخلاقية والسلوكية‏.‏‏.‏ بدأت في الوقت الذي يأمر الله فيطيع العباد بلا جدال‏.‏ لأنهم لا يعلمون لهم خيرة فيما يأمر الله به أو ينهى عنه أياً كان‏!‏

أو بتعبير آخر‏:‏ لقد بدأت الأوامر والنواهي بعد «الإسلام»‏.‏‏.‏ بعد الاستسلام‏.‏‏.‏ بعد أن لم يعد للمسلم في نفسه شيء‏.‏‏.‏ بعد أن لم يعد يفكر في أن يكون له إلى جانب أمر الله رأي أو اختيار‏.‏‏.‏ أو كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه‏:‏ «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» تحت عنوان‏:‏ «انحلت العقدة الكبرى»‏:‏

«‏.‏‏.‏ انحلت العقدة الكبرى‏.‏‏.‏ عقدة الشرك والكفر‏.‏‏.‏ فانحلت العقد كلها؛ وجاهدهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جهاده الأول، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي؛ وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى، فكان النصر حليفه في كل معركة‏.‏ وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى؛ ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى؛ ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى‏.‏ حدثوا الرسول عما اختانوا أنفسهم؛ وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد‏.‏‏.‏ نزل تحريم الخمر والكؤوس المتدفقة على راحاتهم؛ فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة؛ وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة»‏.‏

ومع هذا فلم يكن تحريم الخمر وما يتصل بها من الميسر أمراً مفاجئاً‏.‏‏.‏ فلقد سبقت هذا التحريم القاطع مراحل وخطوات في علاج هذه التقاليد الاجتماعية المتغلغلة، المتلبسة بعادات النفوس ومألوفاتها، والمتلبسة كذلك ببعض الجوانب الاقتصادية وملابساتها‏.‏

لقد كانت هذه هي المرحلة الثالثة أو الرابعة في علاج مشكلة الخمر في المنهج الإسلامي‏:‏

كانت المرحلة الأولى مرحلة إطلاق سهم في الاتجاه حين قال الله سبحانه في سورة النحل المكية‏:‏

‏{‏ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فكانت أول ما يطرق حس المسلم من وضع السكر ‏(‏وهو المخمر‏)‏ في مقابل الرزق الحسن‏.‏‏.‏ فكأنما هو شيء والرزق الحسن شيء آخر‏.‏

ثم كانت الثانية بتحريك الوجدان الديني عن طريق المنطق التشريعي في نفوس المسلمين حين نزلت التي في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر‏.‏ قل‏:‏ فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما‏}‏ وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ما دام الإثم أكبر من النفع‏.‏ إذ أنه قلما يخلو شيء من نفع؛ ولكن حله أو حرمته إنما ترتكز على غلبة الضر أو النفع‏.‏

ثم كانت الثالثة بكسر عادة الشراب، وإيقاع التنافر بينها وبين فريضة الصلاة حين نزلت التي في النساء‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون‏}‏ والصلاة في خمسة أوقات معظمها متقارب؛ ولا يكفي ما بينها للسكر ثم الإفاقة‏.‏ وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشراب- وخاصة عادة الصبوح في الصباح والغبوق بعد العصر أو المغرب كما كانت عادة الجاهليين- وفيه كسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي‏.‏ وفيه- وهو أمر له وزنه في نفس المسلم- ذلك التناقض بين الوفاء بفريضة الصلاة في مواعيدها والوفاء بعادة الشراب في مواعيدها‏!‏

ثم كانت هذة الرابعة الحاسمة والأخيرة، وقد تهيأت النفوس لها تهيؤاً كاملاً فلم يكن إلا النهي حتى تتبعه الطاعة الفورية والإذعان‏:‏

عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه قال‏:‏ اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاء‏.‏ فنزلت التي في البقرة‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر، قل‏:‏ فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما‏}‏ فدعي عمر- رضي الله عنه- فقرئت عليه، فقال‏:‏ اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء‏.‏ فنزلت التي في النساء‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏‏.‏ فدعي عمر- رضي الله عنه- فقرئت عليه، فقال‏:‏ اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء‏.‏ فنزلت التي في المائدة‏:‏ ‏{‏إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر؛ ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون‏؟‏‏}‏ فدعي عمر فقرئت عليه، فقال‏:‏ «انتهينا‏.‏ انتهينا»‏.‏‏.‏ ‏(‏أخرجه أصحاب السنن‏)‏‏.‏

ولما نزلت آيات التحريم هذه، في سنة ثلاث بعد وقعة أحد، لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة‏:‏ «ألا أيها القوم‏.‏ إن الخمر قد حرمت»‏.‏‏.‏ فمن كان في يده كأس حطمها ومن كان في فمه جرعة مجها، وشقت زقاق الخمر وكسرت قنانيه‏.‏‏.‏ وانتهى الأمر كأن لم يكن سكر ولا خمر‏!‏

والآن ننظر في صياغة النص القرآني؛ والمنهج الذي يتجلى فيه منهج التربية والتوجيه‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون‏.‏

إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون‏؟‏ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين‏}‏‏.‏

إنه يبدأ بالنداء المألوف في هذا القطاع‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏‏.‏‏.‏

لاستجاشة قلوب المؤمنين من جهة؛ ولتذكيرهم بمقتضى هذا الإيمان من الالتزام والطاعة من جهة أخرى‏.‏‏.‏ يلي هذا النداء الموحي تقرير حاسم على سبيل القصر والحصر‏:‏

‏{‏إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان‏}‏‏.‏‏.‏

فهي دنسة لا ينطبق عليها وصف «الطيبات» التي أحلها الله‏.‏ وهي من عمل الشيطان‏.‏ والشيطان عدو الإنسان القديم؛ ويكفي أن يعلم المؤمن أن شيئاً ما من عمل الشيطان لينفر منه حسه، وتشمئز منه نفسه، ويجفل منه كيانه، ويبعد عنه من خوف ويتقيه‏!‏

وفي هذه اللحظة يصدر النهي مصحوباً كذلك بالإطماع في الفلاح- وهي لمسة أخرى من لمسات الإيحاء النفسي العميق‏:‏

‏{‏فاجتنبوه لعلكم تفلحون‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يستمر السياق في كشف خطة الشيطان من وراء هذا الرجس‏:‏

‏{‏إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

بهذا ينكشف لضمير المسلم هدف الشيطان، وغاية كيده، وثمرة رجسه‏.‏‏.‏ إنها إيقاع العداوة والبغضاء في الصف المسلم- في الخمر والميسر- كما أنها هي صد ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ عن ذكر الله وعن الصلاة‏.‏‏.‏ ويالها إذن من مكيدة‏!‏

وهذه الأهداف التي يريدها الشيطان أمور واقعة يستطيع المسلمون أن يروها في عالم الواقع بعد تصديقها من خلال القول الإلهي الصادق بذاته‏.‏ فما يحتاج الإنسان إلى طول بحث حتى يرى أن الشيطان يوقع العداوة والبغضاء- في الخمر والميسر- بين الناس‏.‏ فالخمر بما تفقد من الوعي وبما تثير من عرامة اللحم والدم، وبما تهيج من نزوات ودفعات‏.‏ والميسر الذي يصحابها وتصاحبه بما يتركه في النفوس من خسارات وأحقاد؛ إذا المقمور لابد أن يحقد على قامره الذي يستولي على ماله أمام عينيه، ويذهب به غانماً وصاحبه مقمور مقهور‏.‏‏.‏ إن من طبيعة هذه الأمور أن تثير العداوة والبغضاء، مهما جمعت بين القرناء في مجالات من العربدة والانطلاق اللذين يخيل للنظرة السطحية أنهما أنس وسعادة‏!‏

وأما الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فلا يحتاجان إلى نظر‏.‏‏.‏ فالخمر تنسي، والميسر يلهي، وغيبوبة الميسر لا تقل عن غيبوبة الخمر عند المقامرين؛ وعالم المقامر كعالم السكير لا يتعدى الموائد والأقداح والقداح‏!‏

وهكذا عندما تبلغ هذه الإشارة إلى هدف الشيطان من هذا الرجس غايتها من إيقاظ قلوب ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ وتحفزها، يجيء السؤال الذي لا جواب له عندئذ إلا جواب عمر رضي الله عنه وهو يسمع‏:‏

‏{‏فهل انتم منتهون‏}‏‏؟‏

فيجيب لتوه‏:‏ «انتهينا‏.‏

انتهينا «‏.‏‏.‏

ولكن السياق يمضي بعد ذلك يوقع إيقاعه الكبير‏:‏

‏{‏وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا‏.‏ فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين‏}‏‏.‏‏.‏

إنها القاعدة التي يرجع إليها الأمر كله‏:‏ طاعة الله وطاعة الرسول‏.‏‏.‏ الإسلام‏.‏‏.‏ الذي لا تبقى معه إلا الطاعة المطلقة لله وللرسول‏.‏‏.‏ والحذر من المخالفة، والتهديد الملفوف‏:‏

‏{‏فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين‏}‏‏.‏‏.‏

وقد بلّغ وبيّن، فتحددت التبعة على المخالفين، بعد البلاغ المبين‏.‏‏.‏

إنه التهديد القاصم، في هذا الأسلوب الملفوف، الذي ترتعد له فرائص المؤمنين‏!‏‏.‏‏.‏ إنهم حين يعصون ولا يطيعون لا يضرون أحداً إلا أنفسهم‏.‏ لقد بلغ الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأدى؛ ولقد نفض يديه من أمرهم إذن فما هو بمسؤول عنهم، وما هو بدافع عنهم عذاباً- وقد عصوه ولم يطيعوه- ولقد صار أمرهم كله إلى الله سبحانه‏.‏ وهو القادر على مجازاة العصاة المتولين‏!‏

إنه المنهج الرباني يطرق القلوب، فتنفتح له مغاليقها، وتتكشف له فيها المسالك والدروب‏.‏‏.‏

ولعله يحسن هنا أن نبين ما هي الخمر التي نزل فيها هذا النهي‏:‏

أخرج أبو داود بسنده عن ابن عباس- رضي الله عنهما-‏:‏» كل مخمر خمر‏.‏ وكل مسكر حرام «‏.‏

وخطب عمر- رضي الله عنه- على منبر النبي- صلى الله عليه وسلم- بمحضر جماعة من الصحابة فقال‏:‏» يا أيها الناس قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة‏:‏ من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير‏.‏ والخمر ما خامر العقل «‏.‏‏.‏ ‏(‏ذكره القرطبي في تفسيره‏)‏‏.‏

فدل هذا وذلك على أن الخمر تشمل كل مخمر يحدث السكر‏.‏‏.‏ وأنه ليس مقصوراً على نوع بعينه‏.‏ وأن كل ما أسكر فهو حرام‏.‏

إن غيبوبه السكر- بأي مسكر- تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم ليكون موصولاً بالله في كل لحظة، مراقباً لله في كل خطرة‏.‏ ثم ليكون بهذه اليقظة عاملاً إيجابياً في نماء الحياة وتجددها، وفي صيانتها من الضعف والفساد، وفي حماية نفسه وماله وعرضه، وحماية أمن الجماعة المسلمة وشريعتها ونظامها من كل اعتداء‏.‏ والفرد المسلم ليس متروكاً لذاته وللذاته؛ فعليه في كل لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة‏.‏ تكاليف لربه، وتكاليف لنفسه، وتكاليف لأهله، وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها، وتكاليف للإنسانية كلها ليدعوها ويهديها‏.‏ وهو مطالب باليقظة الدائمة لينهض بهذه التكاليف‏.‏ وحتى حين يستمتع بالطيبات فإن الإسلام يحتم عليه أن يكون يقظاً لهذا المتاع، فلا يصبح عبداً لشهوة أو لذة‏.‏ إنما يسيطر دائماً على رغباته فيلبيها تلبية المالك لأمره‏.‏

‏.‏ وغيبوبة السكر لا تتفق في شيء مع هذا الاتجاه‏.‏

ثم إن هذه الغيبوبة في حقيقتها إن هي إلا هروب من واقع الحياة في فترة من الفترات؛ وجنوح إلى التصورات التي تثيرها النشوة أو الخمار‏.‏ والإسلام ينكر على الإنسان هذا الطريق ويريد من الناس أن يروا الحقائق، وأن يواجهوها، ويعيشوا فيها، ويصرفوا حياتهم وفقها، ولا يقيموا هذه الحياة على تصورات وأوهام‏.‏‏.‏ إن مواجهة الحقائق هي محك العزيمة والإرادة؛ أما الهروب منها إلى تصورات وأوهام فهو طريق التحلل، ووهن العزيمة، وتذاوب الإرادة‏.‏ والإسلام يجعل في حسابه دائماً تربية الإرادة، وإطلاقها من قيود العادة القاهرة‏.‏‏.‏ الإدمان‏.‏‏.‏ وهذا الاعتبار كاف وحده من وجهة النظر الإسلامية لتحريم الخمر وتحريم سائر المخدرات‏.‏‏.‏ وهي رجس من عمل الشيطان‏.‏‏.‏ مفسد لحياة الإنسان‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في اعتبار ذات الخمر نجسة كبقية النجاسات الحسية‏.‏ أو في اعتبار شربها هو المحرم‏.‏ والأول قول الجمهور والثاني قول ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي وبعض المتأخرين من البغداديين‏.‏‏.‏ وحسبنا هذا القدر في سياق الظلال‏.‏

وقد حدث أنه لما نزلت هذه الآيات، وذكر فيها تحريم الخمر، ووصفت بأنها رجس من عمل الشيطان أن انطلقت في المجتمع المسلم صيحتان متحدتان في الصيغة، مختلفتان في الباعث والهدف‏.‏

قال بعض المتحرجين من الصحابة‏:‏ كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر‏.‏‏.‏ أو قالوا‏:‏ فما بال قوم قتلوا في أحد وهي في بطونهم ‏(‏أي قبل تحريمها‏)‏‏.‏

وقال بعض المشككين الذين يهدفون إلى البلبلة والحيرة‏.‏‏.‏ هذا القول أو ما يشبهه؛ يريدون أن ينشروا في النفوس قلة الثقة في أسباب التشريع، أو الشعور بضياع إيمان من ماتوا والخمر لم تحرم؛ وهي رجس من عمل الشيطان، ماتوا والرجس في بطونهم‏!‏

عنذئذ نزلت هذه الآية‏:‏

‏{‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات‏.‏ ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، والله يحب المحسنين‏}‏‏.‏‏.‏

نزلت لتقرر أولاً أن ما لم يحرَّم لا يحرم؛ وأن التحريم يبدأ من النص لا قبله؛ وأنه لا يحرم بأثر رجعي؛ فلا عقوبة إلا بنص؛ سواء في الدنيا أو فى الآخرة؛ لأن النص هو الذي ينشى ء الحكم‏.‏‏.‏ والذين ماتوا والخمر في بطونهم، وهي لم تحرم بعد، ليس عليهم جناح؛ فإنهم لم يتناولوا محرماً؛ ولم يرتكبوا معصية‏.‏‏.‏ لقد كانوا يخافون الله ويعملون الصالحات ويراقبون الله ويعلمون أنه مطلع على نواياهم وأعمالهم‏.‏‏.‏ ومن كانت هذه حاله لا يتناول محرماً ولا يرتكب معصية‏.‏

ولا نريد أن ندخل بهذه المناسبة في الجدل الذي أثاره المعتزلة حول الحكم بأن الخمر رجس‏:‏ هل هو ناشئ عن أمر الشارع- سبحانه- بتحريمها، أم إنه ناشئ عن صفة ملازمة للخمر في ذاتها‏.‏

وهل المحرمات محرمات لصفة ملازمة لها، أم إن هذه الصفة تلزمها من التحريم‏.‏‏.‏ فهو جدل عقيم في نظرنا وغريب على الحس الإسلامي‏!‏‏.‏‏.‏ والله حين يحرم شيئاً يعلم- سبحانه- لم حرمه‏.‏ سواء ذكر سبب التحريم أو لم يذكر‏.‏ وسواء كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم، أو لعلة تتعلق بمن يتناوله من ناحية ذاته، أو من ناحية مصلحة الجماعة‏.‏‏.‏ فالله سبحانه هو الذي يعلم الأمر كله؛ والطاعة لأمره واجبة، والجدل بعد ذلك لا يمثل حاجة واقعية‏.‏ والواقعية هي طابع هذا المنهج الرباني‏.‏‏.‏ ولا يقولن أحد‏:‏ إذا كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم فكيف أبيح إذن قبل تحريمه‏!‏‏!‏ فلا بد أن لله- سبحانه- حكمة في تركه فترة بلا تحريم‏.‏ ومرد الأمر كله إلى الله‏.‏ وهذا مقتضى ألوهيته- سبحانه- واستحسان الإنسان أو استقباحه ليس هو الحكم في الأمر؛ وما يراه علة قد لا يكون هو العلة‏.‏ والأدب مع الله يقتضي تلقي أحكامه بالقبول والتنفيذ، سواء عرفت حكمتها أو علتها أم ظلت خافية‏.‏‏.‏ والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏.‏

إن العمل بشريعة الله يجب أن يقوم ابتداء على العبودية‏.‏‏.‏ على الطاعة لله إظهاراً للعبودية له سبحانه‏.‏‏.‏ فهذا هو الإسلام- بمعنى الاستسلام‏.‏‏.‏ وبعد الطاعة يجوز للعقل البشري أن يتلمس حكمة الله- بقدر ما يستطيع- فيما أمر الله به أو نهى عنه- سواء بين الله حكمته أم لم يبينها، وسواء أدركها العقل البشري أم لم يدركها- فالحكم في استحسان شريعة الله في أمر من الأمور ليس هو الإنسان‏!‏ إنما الحكم هو الله‏.‏ فإذا أمر الله أو نهى فقد انتهى الجدل ولزم الأمر أو النهي‏.‏‏.‏ فأما إذا ترك الحكم للعقل البشري فمعنى ذلك أن الناس هم المرجع الأخير في شرع الله‏.‏‏.‏ فأين مكان الألوهية إذن وأين مكان العبودية‏؟‏

ونخلص من هذا إلى تركيب الآية ودلالة هذا التركيب‏:‏

‏{‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا، إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات‏.‏ ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين‏}‏‏.‏‏.‏

ولم أجد في أقوال المفسرين ما تستريح إليه النفس في صياغة العبارة القرآنية على النحو وتكرار التقوى مرة مع الإيمان والعمل الصالح، ومرة مع الإيمان، ومرة مع الإحسان‏.‏‏.‏ كذلك لم أجد في تفسيري لهذا التكرار في الطبعة الأولى من هذه الظلال ما تستريح إليه نفسي الأن‏.‏‏.‏ وأحسن ما قرأت- وإن كان لا يبلغ من حسي مبلغ الارتياح- هو ما قاله ابن جرير الطبري‏:‏ «الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل‏.‏ والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق والثالث الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل»‏.‏‏.‏

وكان الذي ذكرته في الطبعة الأولى في هذا الموضع هو‏:‏ «إنه توكيد عن طريق التفصيل بعد الإجمال‏.‏

فقد أجمل التقوى والإيمان والعمل الصالح في الأولى‏.‏ ثم جعل التقوى مرة مع الإيمان في الثانية، ومرة مع الإحسان- وهو العمل الصالح- في الثالثة‏.‏‏.‏ ذلك التوكيد مقصود هنا للاتكاء على هذا المعنى‏.‏ ولإبراز ذلك القانون الثابت في تقدير الأعمال بما يصاحبها من شعور باطني‏.‏ فالتقوى‏.‏‏.‏ تلك الحساسية المرهفة برقابة الله، والاتصال به في كل لحظة‏.‏ والإيمان بالله والتصديق بأوامره ونواهيه، والعمل الصالح الذي هو الترجمة الظاهرة للعقيدة المستكنة‏.‏ والترابط بين العقيدة الباطنة والعمل المعبر عنها‏.‏‏.‏ هذه هي مناط الحكم، لا الظواهر والأشكال‏.‏‏.‏ وهذه القاعدة تحتاج إلى التوكيد والتكرار والبيان «‏.‏

وأنا، اللحظة لا أجد في هذا القول ما يريح أيضاً‏.‏‏.‏ ولكنه لم يفتح عليَّ بشيء آخر‏.‏‏.‏ والله المستعان‏.‏

ثم يمضي السياق في مجال التحريم والتحليل، يتحدث عن الصيد في حالة الإحرام، وكفارة قتله، وعن حكمة الله في تحريم البيت والأشهر الحرم والهدي والقلائد، التي نهى عن المساس بها في مطالع السورة‏.‏‏.‏ ثم يختم هذه الفقرة بوضع ميزان القيم للنفس المسلمة وللمجتمع المسلم‏.‏‏.‏ الميزان الذي يرجح فيه الطيب وإن قل، على الكثير والخبيث‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم؛ ليعلم الله من يخافه بالغيب؛ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم‏.‏ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم؛ ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم، يحكم به ذوا عدل منكم؛ هدياً بالغ الكعبة، أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياماً، ليذوق وبال أمره، عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه؛ والله عزيز ذو انتقام‏.‏ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً، واتقوا الله الذي إلية تحشرون‏.‏ جعل الله الكعبة البيت الحرام، قياماً للناس، والشهر الحرام والهدي والقلائد‏.‏ ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأن الله بكل شيء عليم‏.‏ اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم‏.‏ ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون‏.‏ قل‏:‏ لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون‏}‏‏.‏‏.‏

لقد قال تعالى للذين آمنوا في أول هذه السورة‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود، أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم، غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد‏.‏ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً‏.‏ وإذا حللتم فاصطادوا‏.‏‏.‏‏}‏ وكان هذا النهي عن إحلال الصيد وهم حرم؛ وعن إحلال شعائر الله، أو الشهر الحرام أو الهدي والقلائد، أو قاصدي البيت الحرام، لا يرتب عقوبة في الدنيا على المخالف، إنما يلحقه الإثم‏.‏

‏.‏ فالآن يبين العقوبة وهي الكفارة ‏{‏ليذوق وبال أمره‏}‏ ويعلن العفو عما سلف من إحلال هذه المحارم؛ ويهدد بانتقام الله ممن يعود بعد هذا البيان‏.‏

وتبدأ هذه الفقرة كما تبدأ كل فقرات هذا القطاع بالنداء المألوف‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏‏.‏‏.‏ ثم يخبرهم أنهم مقدمون على امتحان من الله وابتلاء؛ في أمر الصيد الذي نهوا عنه وهم محرمون‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم، ليعلم الله من يخافه بالغيب، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

إنه صيد سهل، يسوقه الله إليهم‏.‏ صيد تناله أيديهم من قريب، وتناله رماحهم بلا مشقة‏.‏ ولقد حكي أن الله ساق لهم هذا الصيد حتى لكان يطوف بخيامهم ومنازلهم من قريب‏!‏‏.‏‏.‏ إنه الإغراء الذي يكون فيه الابتلاء‏.‏‏.‏ إنه ذات الإغراء الذي عجزت بنو إسرائيل من قبل عن الصمود له، حين ألحوا على نبيهم موسى- عليه السلام- أن يجعل الله لهم يوماً للراحة والصلاة لا يشتغلون فيه بشيء من شئون المعاش‏.‏ فجعل لهم السبت‏.‏ ثم ساق إليهم صيد البحر يجيئهم قاصداً الشاطئ متعرضاً لأنظارهم في يوم السبت‏.‏ فإذا لم يكن السبت اختفى، شأن السمك في الماء‏.‏ فلم يطيقوا الوفاء بعهودهم مع الله؛ وراحوا- في جبلة اليهود المعروفة- يحتالون على الله فيحوّطون على السمك يوم السبت ولا يصيدونه؛ حتى إذا كان الصباح التالي عادوا فأمسكوه من التحويطة‏!‏ وذلك الذي وجه الله- سبحانه- رسوله- صلى الله عليه وسلم- لأن يواجههم ويفضحهم به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر، إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم‏.‏ كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون‏}‏ هذا الابتلاء بعينه ابتلى به الله الأمة المسلمة، فنجحت حيث أخفقت يهود‏.‏‏.‏ وكان هذا مصداق قول الله سبحانه في هذه الأمة‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله‏.‏ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم‏.‏ منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون‏}‏ ولقد نجحت هذه الأمة في مواطن كثيرة حيث أخفق بنو إسرائيل‏.‏ ومن ثم نزع الله الخلافة في الأرض من بني إسرائيل وائتمن عليها هذه الأمة‏.‏ ومكن لها في الأرض ما لم يمكن لأمة قبلها‏.‏ إذ أن منهج الله لم يتمثل تمثلاً كاملاً في نظام واقعي يحكم الحياة كلها كما تمثل في خلافة الأمة المسلمة‏.‏‏.‏ ذلك يوم أن كانت مسلمة‏.‏ يوم أن كانت تعلم أن الإسلام هو أن يتمثل دين الله وشريعته في حياة البشر‏.‏ وتعلم أنها هي المؤتمنة على هذه الأمانة الضخمة؛ وأنها هي الوصية على البشرية لتقيم فيها منهج الله، وتقوم عليه بأمانة الله‏.‏

ولقد كان هذا الاختبار بالصيد السهل في أثناء فترة الإحرام أحد الاختبارات التي اجتازتها هذه الأمة بنجاح‏.‏ وكانت عناية الله- سبحانه- بتربية هذه الأمة بمثل هذه الاختبارات من مظاهر رعايته واصطفائه‏.‏

ولقد كشف الله للذين آمنوا في هذا الحادث عن حكمة الابتلاء‏:‏

‏{‏ليعلم الله من يخافه بالغيب‏}‏‏.‏‏.‏

إن مخافة الله بالغيب هي قاعدة هذه العقيدة في ضمير المسلم‏.‏ القاعدة الصلبة التي يقوم عليها بناء العقيدة، وبناء السلوك، وتناط بها أمانة الخلافة في الأرض بمنهج الله القويم‏.‏‏.‏

إن الناس لا يرون الله؛ ولكنهم يجدونه في نفوسهم حين يؤمنون‏.‏‏.‏ إنه تعالى بالنسبة لهم غيب، ولكن قلوبهم تعرفه بالغيب وتخافه‏.‏ إن استقرار هذه الحقيقة الهائلة- حقيقة الإيمان بالله بالغيب ومخافته- والاستغناء عن رؤية الحس والمشاهدة؛ والشعور بهذا الغيب شعوراً يوازي- بل يرجح- الشهادة؛ حتى ليؤدي المؤمن شهادة‏:‏ بأن لا إله إلا الله‏.‏ وهو لم ير الله‏.‏‏.‏ إن استقرار هذه الحقيقة على هذا النحو يعبر عن نقلة ضخمة في ارتقاء الكائن البشري، وانطلاق طاقاته الفطرية، واستخدام أجهزته المركوزة في تكوينه الفطري على الوجه الأكمل؛ وابتعاده- بمقدار هذا الارتقاء- عن عالم البهيمة التي لا تعرف الغيب- بالمستوى الذي تهيأ له الإنسان- بينما يعبر انغلاق روحه عن رؤية ما وراء الحس، وانكماش إحساسه في دائرة المحسوس، عن تعطل أجهزة الالتقاط والاتصال الراقية فيه، وانتكاسه إلى المستوى الحيواني في الحس «المادي»‏!‏

ومن ثم يجعلها الله سبحانه حكمة لهذا الابتلاء؛ ويكشف للذين آمنوا عن هذه الحكمة كي تحتشد نفوسهم لتحقيقها‏.‏‏.‏

والله سبحانه يعلم علماً لَدُنِّياًّ من يخافه بالغيب‏.‏ ولكنه- سبحانه- لا يحاسب الناس على ما يعلمه عنهم علماً لدنيا‏.‏ إنما يحاسبهم على ما يقع منهم فيعلمه الله- سبحانه- علم وقوع‏.‏‏.‏

‏{‏فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

فقد أخبر بالابتلاء، وعرف حكمة تعرضه له، وحذر من الوقوع فيه؛ وبذلت له كل أسباب النجاح فيه‏.‏‏.‏ فإذا هو اعتدى- بعد ذلك- كان العذاب الأليم جزاء حقاً وعدلاً؛ وقد اختار بنفسه هذا الجزاء واستحقه فعلاً‏.‏

بعد هذا يجيء تفصيل كفارة المخالفة مبدوءاً بالنهي مختوماً بالتهديد مرة أخرى‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏.‏ ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة، أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياماً، ليذوق وبال أمره، عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه، والله عزيز ذو انتقام‏}‏‏.‏‏.‏

إن النهي ينصب على قتل المحرم للصيد عمداً‏.‏

فأما إذا قتله خطأ فلا إثم عليه ولا كفارة‏.‏‏.‏ فإذا كان القتل عمداً فكفارته أن يذبح بهيمة من الأنعام من مستوى الصيد الذي قتله‏.‏ فالغزالة مثلاً تجزئ فيها نعجة أو عنزة‏.‏ والأيِّل تجزئ فيه بقرة‏.‏ والنعامة والزرافة وما إليها تجزئ فيها بدنة‏.‏‏.‏ والأرنب والقط وأمثالهما يجزئ فيه أرنب‏.‏ وما لا مقابل له من البهيمة يجزئ عنه ما يوازي قيمته‏.‏‏.‏

ويتولى الحكم في هذه الكفارة اثنان من المسلمين ذوا عدل‏.‏ فإذا حكما بذبح بهيمة أطلقت هدياً حتى تبلغ الكعبة، تذبح هناك وتطعم للمساكين‏.‏ أما إذا لم توجد بهيمة فللحكمين أن يحكما بكفارة طعام مساكين؛ بما يساوي ثمن البهيمة أو ثمن الصيد ‏(‏خلاف فقهي‏)‏‏.‏ فإذا لم يجد صاحب الكفارة صام ما يعادل هذه الكفارة‏.‏ مقدراً ثمن الصيد أو البهيمة، ومجزأ على عدد المساكين الذين يطعمهم هذا الثمن؛ وصيام يوم مقابل إطعام كل مسكين‏.‏‏.‏ أما كم يبلغ ثمن إطعام مسكين فهو موضع خلاف فقهي‏.‏ ولكنه يتبع الأمكنة والأزمنة والأحوال‏.‏

وينص السياق القرآني على حكمة هذه الكفارة‏:‏

‏{‏ليذوق وبال أمره‏}‏‏.‏‏.‏

ففي الكفارة معنى العقوبة، لأن الذنب هنا مخل بحرمة يشدد فيها الإسلام تشديداً كبيراً‏:‏ لذلك يعقب عليها بالعفو عما سلف والتهديد بانتقام الله ممن لا يكف‏:‏

‏{‏عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه، والله عزيز ذو انتقام‏}‏‏.‏

فإذا اعتز قاتل الصيد بقوته وقدرته على نيل هذا الصيد، الذي أراد الله له الأمان في مثابة الأمان، فالله هو العزيز القوي القادر على الانتقام‏!‏

ذلك شأن صيد البر‏.‏ فأما صيد البحر فهو حلال في الحل والإحرام‏:‏

‏{‏أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة‏}‏‏.‏‏.‏

فحيوان البحر حلال صيده وحلال أكله للمحرم ولغير المحرم سواء‏.‏‏.‏ ولما ذكر حل صيد البحر وطعامه، عاد فذكر حرمة صيد البر للمحرم‏:‏

‏{‏وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً‏}‏‏.‏‏.‏

والذي عليه الإجماع هو حرمة صيد البر للمحرم‏.‏ ولكن هناك خلاف حول تناول المحرم له إذا صاده غير المحرم‏.‏ كما أن هناك خلافاً حول المعنّى بالصيد‏.‏ وهل هو خاص بالحيوان الذي يصاد عادة‏.‏ أم النهي شامل لكل حيوان، ولو لم يكن مما يصاد ومما لا يطلق عليه لفظ الصيد‏.‏

ويختم هذا التحليل وهذا التحريم باستجاشة مشاعر التقوى في الضمير؛ والتذكير بالحشر إلى الله والحساب‏:‏

‏{‏واتقوا الله الذي إليه تحشرون‏}‏‏.‏‏.‏ وبعد‏.‏ ففيم هذه الحرمات‏؟‏

إنها منطقة الأمان يقيمها الله للبشر في زحمة الصراع‏.‏‏.‏ إنها الكعبة الحرام، والأشهر الحرام، تقدم في وسط المعركة المستعرة بين المتخاصمين والمتحاربين والمتصارعين والمتزاحمين على الحياة بين الأحياء من جميع الأنواع والأجناس‏.‏‏.‏ بين الرغائب والمطامع والشهوات والضرورات‏.‏‏.‏ فتحل الطمأنينة محل الخوف، ويحل السلام محل الخصام، وترف أجنحة من الحب والإخاء والأمن والسلام‏.‏ وتدرب النفس البشرية في واقعها العملي- لا في عالم المثل والنظريات- على هذه المشاعر وهذه المعاني؛ فلا تبقى مجرد كلمات مجنحة ورؤى حالمة، تعز على التحقيق في واقع الحياة‏:‏

‏{‏جعل الله الكعبة البيت الحرام، قياماً للناس، والشهر الحرام، والهدي والقلائد‏.‏

ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في والأرض وأن الله بكل شيء عليم‏.‏ اعلموا أن الله شديد العقاب، وأن الله غفور رحيم، ما على الرسول إلا البلاغ؛ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون‏}‏‏.‏‏.‏

لقد جعل الله هذه الحرمات تشمل الإنسان والطير والحيوان والحشرات بالأمن في البيت الحرام‏.‏ وفي فترة الإحرام بالنسبة للمحرم حتى وهو لم يبلغ الحرم‏.‏ كما جعل الأشهر الحرم الأربعة التي لا يجوز فيها القتل ولا القتال وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثم رجب‏.‏‏.‏ ولقد ألقى الله في قلوب العرب- حتى في جاهليتهم- حرمة هذه الأشهر‏.‏ فكانوا لا يروعون فيها نفساً، ولا يطلبون فيها دماً، ولا يتوقعون فيها ثأراً، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه، فكانت مجالاً آمناً للسياحة والضرب في الأرض وابتغاء الرزق‏.‏‏.‏ جعلها الله كذلك لأنه أراد للكعبة- بيت الله الحرام- أن تكون مثابة أمن وسلام‏.‏ تقيم الناس وتقيهم الخوف والفزع‏.‏ كذلك جعل الأشهر الحرم لتكون منظقة أمن في الزمان كالكعبة منطقة أمن في المكان‏.‏ ثم مد رواق الأمن خارج منطقة الزمان والمكان، فجعله حقاً للهدي- وهو النعم- الذي يطلق ليبلغ الكعبة في الحج والعمرة؛ فلا يمسه أحد في الطريق بسوء‏.‏ كما جعله لمن يتقلد من شجر الحرم، معلناً احتماءه بالبيت العتيق‏.‏

لقد جعل الله هذه الحرمات منذ بناء هذا البيت على أيدي إبراهيم وإسماعيل؛ وجعله مثابة للناس وأمناً، حتى لقد امتن الله به على المشركين أنفسهم؛ إذ كان بيت الله بينهم مثابة لهم وأمناً، والناس من حولهم يُتخطفون، وهم فيه وبه آمنون، ثم هم- بعد ذلك- لا يشكرون الله؛ ولا يفردونه بالعبادة في بيت التوحيد؛ ويقولون للرسول- صلى الله عليه وسلم- إذ يدعوهم إلى التوحيد‏:‏ إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا‏.‏ فحكى الله قولهم هذا وجبههم بحقيقة الأمن والمخافة‏:‏ ‏{‏وقالوا‏:‏ إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا‏.‏ أو لم نمكن لهم حرماً آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا‏؟‏ ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ وفي الصحيحين عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة‏:‏ إن هذا البلد حرام، لا يعضد شجرة، ولا يُختلى خَلاه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرّف»‏.‏

ولم يستثن من الأحياء مما يجوز قتله في الحرم وللمحرم إلا الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور لحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين‏:‏

«أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقتل خمس فواسق في الحل والحرم‏:‏ الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور»‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- زيادة الحية‏.‏

كذلك حرمت المدينة لحديث علي- رضي الله عنه- قال‏:‏ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور»‏.‏ وفي الصحيحين من حديث عباد بن تميم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة»‏.‏

وبعد، فإنها ليست منطقة الأمان في الزمان والمكان وحدهما‏.‏ وليس رواق الأمن الذي يشمل الحيوان والإنسان وحدهما‏.‏‏.‏ إنما هي كذلك منطقة الأمان في الضمير البشري‏.‏‏.‏ ذلك المصطرع المترامي الأطراف في أغوار النفس البشرية‏.‏‏.‏ هذا المصطرع الذي يثور ويفور فيطغى بشواظه وبدخانه على المكان والزمان، وعلى الإنسان والحيوان‏!‏‏.‏‏.‏ إنها منطقة السلام والسماحة في ذلك المصطرع، حتى ليتحرج المحرم أن يمد يده إلى الطير والحيوان‏.‏ وهما- في غير هذه المنطقة- حل للإنسان‏.‏ ولكنهما هنا في المثابة الآمنة‏.‏ في الفترة الآمنة‏.‏ في النفس الآمنة‏.‏‏.‏ إنها منطقة المرانة والتدريب للنفس البشرية لتصفو وترق وترف فتتصل بالملأ الأعلى؛ وتتهيأ للتعامل مع الملأ الأعلى‏.‏‏.‏

ألا ما أحوج البشرية المفزَّعة الوجلة، المتطاحنة المتصارعة‏.‏‏.‏ إلى منطقة الأمان، التي جعلها الله للناس في هذا الدين، وبينها للناس في هذا القرآن‏!‏

‏{‏ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأن الله بكل شيء عليم‏}‏‏.‏‏.‏

تعقيب عجيب في هذا الموضع؛ ولكنه مفهوم‏!‏ إن الله يشرع هذه الشريعة، ويقيم هذه المثابة، ليعلم الناس أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم‏.‏‏.‏ ليعلموا أنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم وهتاف أرواحهم‏.‏ وأنه يقرر شرائعه لتلبية الطبائع والحاجات، والاستجابة للأشواق والمكنونات‏.‏‏.‏ فإذا أحست قلوب الناس رحمة الله في شريعته؛ وتذوقت جمال هذا التطابق بينها وبين فطرتهم العميقة علموا أن الله يعلم ما في السماوات والأرض وأن الله بكل شيء عليم‏.‏

إن هذا الدين عجيب في توافيه الكامل مع ضرورات الفطرة البشرية وأشواقها جميعاً؛ وفي تلبيته لحاجات الحياة البشرية جميعاً‏.‏‏.‏ إن تصميمه يطابق تصميمها؛ وتكوينه يطابق تكوينها‏.‏ وحين ينشرح صدر لهذا الدين فإنه يجد فيه من الجمال والتجاوب والأنس والراحة ما لا يعرفه إلا من ذاق‏!‏

وينتهي الحديث عن الحلال والحرام في الحل والإحرام بالتحذير صراحة من العقاب مع الإطماع في المغفرة والرحمة‏:‏

‏{‏اعلموا أن الله شديد العقاب، وأن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏

ومع التحذير إيحاء وإلقاء للتبعة على المخالف الذي لا يثوب‏:‏

‏{‏ما على الرسول إلا البلاغ، والله يعلم ما تبدون وما تكتمون‏}‏‏.‏‏.‏

ثم تختم الفقرة بميزان يقيمه الله للقيم، ليزن به المسلم ويحكم‏.‏ ميزان يرجح فيه الطيب ويشيل الخبيث‏.‏ كي لا يخدع الخبيث المسلم بكثرته في أي وقت وفي أي حال‏!‏

‏{‏قل‏:‏ لا يستوي الخبيث والطيب؛ ولو أعجبك كثرة الخبيث، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون‏}‏‏.‏‏.‏

إن المناسبة الحاضرة لذكر الخبيث والطيب في هذا السياق، هي مناسبة تفصيل الحرام والحلال في الصيد والطعام‏.‏ والحرام خبيث، والحلال طيب‏.‏‏.‏ ولا يستوي الخبيث والطيب ولو كانت كثرة الخبيث تغر وتعجب‏.‏ ففي الطيب متاع بلا معقبات من ندم أو تلف، وبلا عقابيل من ألم أو مرض‏.‏‏.‏ وما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيب مثلها على اعتدال وأمن من العاقبة في الدنيا والآخرة‏.‏‏.‏ والعقل حين يتخلص من الهوى بمخالطة التقوى له ورقابة القلب له، يختار الطيب على الخبيث؛ فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون‏}‏‏.‏‏.‏

هذه هي المناسبة الحاضرة‏.‏‏.‏ ولكن النص- بعد ذلك- أفسح مدى وأبعد أفقاً‏.‏ وهو يشمل الحياة جمعياً، ويصدق في مواضع شتى‏:‏

لقد كان الله الذي أخرج هذه الأمة، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، يعدها لأمر عظيم هائل‏.‏‏.‏ كان يعدها لحمل أمانة منهجه في الأرض، لتستقيم عليه كما لم تستقم أمة قط، ولتقيمه في حياة الناس كما لم يقم كذلك قط‏.‏ ولم يكن بد أن تراض هذه الأمة رياضة طويلة‏.‏ رياضة تخلعها أولاًَ من جاهليتها؛ وترفعها من سفح الجاهلية الهابطة وتمضي بها صعداً في المرتقى الصاعد إلى قمة الإسلام الشامخة ثم تعكف بعد ذلك على تنقية تصوراتها وعاداتها ومشاعرها من رواسب الجاهلية؛ وتربية إرادتها على حمل الحق وتبعاته‏.‏ ثم تنتهي بها إلى تقييم الحياة جملة وتفصيلاً وفق قيم الإسلام في ميزان الله‏.‏‏.‏ حتى تكون ربانية حقاً‏.‏‏.‏ وحتى ترتفع بشريتها إلى أحسن تقويم‏.‏‏.‏ وعندئذ لا يستوي في ميزانها الخبيث والطيب؛ ولو أعجبها كثرة الخبيث‏!‏ والكثرة تأخذ العين وتهول الحس‏.‏ ولكن تمييز الخبيث من الطيب، وارتفاع النفس حتى تزنه بميزان الله، يجعل كفة الخبيث تشيل مع كثرته، وكفة الطيب ترجح على قلته‏.‏‏.‏ وعندئذ تصبح هذه الأمة أمينة ومؤتمنة على القوامة‏.‏‏.‏ القوامة على البشرية‏.‏‏.‏ تزن لها بميزان الله؛ وتقدر لها بقدر الله؛ وتختار لها الطيب، ولا تأخذ عينها ولا نفسها كثرة الخبيث‏!‏

وموقف آخر ينفع فيه هذا الميزان‏.‏‏.‏ ذلك حين ينتفش الباطل؛ فتراه النفوس رابياً؛ وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته‏.‏‏.‏ ثم ينظر المؤمن الذي يزن بميزان الله إلى هذا الباطل المنتفش، فلا تضطرب يده، ولا يزوغ بصره، ولا يختل ميزانه؛ ويختار عليه الحق الذي لا رغوة له ولا زبد؛ ولا عدة حوله ولا عدد‏.‏

‏.‏ إنما هو الحق‏.‏‏.‏ الحق المجرد إلا من صفته وذاته؛ وإلا من ثقله في ميزان الله وثباته؛ وإلا من جماله الذاتي وسلطانه‏!‏

لقد ربى الله هذه الأمة بمنهج القرآن، وقوامة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى علم- سبحانه- أنها وصلت إلى المستوى الذي تؤتمن فيه على دين الله‏.‏‏.‏ لا في نفوسها وضمائرها فحسب، ولكن في حياتها ومعاشها في هذه الأرض، بكل ما يضطرب في الحياة من رغبات ومطامع، وأهواء ومشارب، وتصادم بين المصالح، وغلاب بين الأفراد والجماعات‏.‏ ثم بعد ذلك في قوامتها على البشرية بكل ما لها من تبعات جسام في خضم الحياة العام‏.‏

لقد رباها بشتى التوجيهات، وشتى المؤثرات، وشتى الابتلاءات، وشتى التشريعات؛ وجعلها كلها حزمة واحدة تؤدي دوراً في النهاية واحداً، هو إعداد هذه الأمة بعقيدتها وتصوراتها، وبمشاعرها واستجاباتها، وبسلوكها وأخلاقها، وبشريعتها ونظامها، لأن تقوم على دين الله في الأرض، ولأن تتولى القوامة على البشر‏.‏‏.‏ وحقق الله ما يريده بهذه الأمة‏.‏‏.‏ والله غالب على أمره‏.‏‏.‏ وقامت في واقع الحياة الأرضية تلك الصورة الوضيئة من دين الله‏.‏‏.‏ حلماً يتمثل في واقع‏.‏‏.‏ وتملك البشرية أن تترسمه في كل وقت حين تجاهد لبلوغه فيعينها الله‏.‏‏.‏

بعد ذلك يتجه السياق إلى شيء من تربية الجماعة المسلمة وتوجيهها إلى الأدب الواجب مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعدم سؤاله عما لم يخبرها به؛ مما لو ظهر لساء السائل وأحرجه أو ترتب عليه تكاليف لا يطيقها، أو ضيق عليه في أشياء وسع الله فيها، أو تركها بلا تحديد رحمة بعباده‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏.‏ وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم‏.‏ عفا الله عنها والله غفور حليم‏.‏ قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين‏}‏‏.‏‏.‏

كان بعضهم يكثر على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من السؤال عن أشياء لم يتنزل فيها أمر أو نهي‏.‏ أو يلحف في طلب تفصيل أمور أجملها القرآن، وجعل الله في إجمالها سعة للناس‏.‏ أو في الاستفسار عن أمور لا ضرورة لكشفها فإن كشفها قد يؤذي السائل عنها أو يؤذي غيره من المسلمين‏.‏

وروي أنه لما نزلت آية الحج سأل سائل‏:‏ أفي كل عام‏؟‏ فكره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذا السؤال لأن النص على الحج جاء مجملاً‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً‏}‏ والحج مرة يجزي‏.‏ فأما السؤال عنه أفي كل عام فهو تفسير له بالصعب الذي لم يفرضه الله‏.‏

وفي حديث مرسل رواه الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ «لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً‏}‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله أفي كل عام‏؟‏ فسكت‏.‏ فقالوا‏:‏ أفي كل عام‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ ولو قلت نعم لوجبت»

فأنزل الله‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏}‏‏.‏‏.‏ الخ الآية‏.‏

وأخرجه الدارقطني أيضاً عن أبي عياض عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «يا أيها الناس كتب عليكم الحج‏.‏ فقام رجل فقال‏:‏ أفي كل عام يا رسول الله‏؟‏ فأعرض عنه، ثم عاد فقال‏:‏ أفي كل عام يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏» ومن القائل‏؟‏ «قالوا‏:‏ فلان‏.‏ قال‏:‏ والذي نفسي بيده لو قلت‏:‏ نعم‏.‏ لوجبت‏.‏ ولو وجبت ما أطقتموها‏.‏ ولو لم تطيقوها لكفرتم» فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏}‏‏.‏‏.‏

وفي حديث أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه، عن النبي- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «‏.‏‏.‏‏.‏ فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا فقام إليه رجل فقال‏:‏ أين مدخلي يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏» النار «فقام عبدالله بن حذافة فقال‏:‏» من أبي يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ أبوك حذافة «‏.‏ قال ابن عبد البر‏:‏ عبدالله بن حذافة أسلم قديماً، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدراً، وكانت فيه دعابة‏!‏ وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أرسله إلى كسرى بكتاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولما قال‏:‏ من أبي يا رسول الله‏؟‏ قال» أبوك حذافة «قالت أمه‏:‏ ما سمعت بابن أعق منك‏.‏ أأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به‏.‏‏.‏

وفي رواية لابن جرير- بسنده-» عن أبي هريرة قال‏:‏ خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر‏.‏ فقام إليه رجل فقال‏:‏ أين أنا‏؟‏ قال‏:‏ «في النار» فقام آخر فقال‏:‏ من أبي‏؟‏ فقال‏:‏ «أبوك حذافة» فقام عمر بن الخطاب، فقال‏:‏ رضينا بالله ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد- صلى الله عليه وسلم- نبياً وبالقرآن إماماً‏.‏ إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك، والله أعلمُ من آباؤنا‏.‏ قال‏:‏ فسكن غضبه «ونزلت هذه الآية ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏}‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏

وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام‏.‏ وهو قول سعيد بن جبير‏.‏

وقال‏:‏ ألا ترى أن بعده‏:‏ ‏{‏ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام‏}‏‏؟‏

ومجموعة هذه الروايات وغيرها تعطي صورة عن نوع هذه الأسئلة التي نهى الله الذين آمنوا أن يسألوها‏.‏‏.‏

لقد جاء هذا القرآن لا ليقرر عقيدة فحسب، ولا ليشرع شريعة فحسب‏.‏ ولكن كذلك ليربي أمة، وينشئ مجتمعاً، وليكوّن الأفراد وينشئهم على منهج عقلي وخلقي من صنعه‏.‏‏.‏ وهو هنا يعلمهم أدب السؤال، وحدود البحث، ومنهج المعرفة‏.‏‏.‏ وما دام الله- سبحانه- هو الذي ينزل هذه الشريعة، ويخبر بالغيب، فمن الأدب أن يترك العبيد لحكمته تفصيل تلك الشريعة أو إجمالها؛ وأن يتركوا له كذلك كشف هذا الغيب أو ستره‏.‏ وأن يقفوا هم في هذه الأمور عند الحدود التي أرادها العليم الخبير‏.‏ لا ليشددوا على أنفسهم بتنصيص النصوص، والجري وراء الاحتمالات والفروض، كذلك لا يجرون وراء الغيب يحاولون الكشف عما لم يكشف الله منه وما هم ببالغيه‏.‏ والله أعلم بطاقة البشر واحتمالهم، فهو يشرع لهم في حدود طاقتهم، ويكشف لهم من الغيب ما تدركه طبيعتهم‏.‏ وهناك أمور تركها الله مجملة أو مجهلة؛ ولا ضير على الناس في تركها هكذا كما أرادها الله‏.‏ ولكن السؤال- في عهد النبوة وفترة تنزل القرآن- قد يجعل الإجابة عنها متعينة فتسوء بعضهم، وتشق عليهم كلهم وعلى من يجيء بعدهم‏.‏

لذلك نهى الله الذين آمنوا أن يسألوا عن أشياء يسوؤهم الكشف عنها؛ وأنذرهم بأنهم سيجابون عنها إذا سألوا في فترة الوحي في حياة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وستترتب عليهم تكاليف عفا الله عنها فتركها ولم يفرضها‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏.‏ وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم‏.‏‏.‏ عفا الله عنها‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

أي لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها وترك فرضها أو تفصيلها ليكون في الإجمال سعة‏.‏‏.‏ كأمره بالحج مثلاً‏.‏‏.‏ أو تركه ذكرها أصلاً‏.‏‏.‏

ثم ضرب لهم المثل بمن كانوا قبلهم- من أهل الكتاب- ممن كانوا يشددون على أنفسهم بالسؤال عن التكاليف والأحكام‏.‏ فلما كتبها الله عليهم كفروا بها ولم يؤدوها‏.‏ ولو سكتوا وأخذوا الأمور باليسر الذي شاءه الله لعبادة ما شدد عليهم، وما احتملوا تبعة التقصير والكفران‏.‏

ولقد رأينا في سورة البقرة كيف أن بني إسرائيل حينما أمرهم الله أن يذبحوا بقرة، بلا شروط ولا قيود، كانت تجزيهم فيها بقرة أية بقرة‏.‏‏.‏ أخذوا يسألون عن أوصافها ويدققون في تفصيلات هذه الأوصاف‏.‏ وفي كل مرة كان يشدد عليهم‏.‏ ولو تركوا السؤال ليسروا على أنفسهم‏.‏

وكذلك كان شأنهم في السبت الذي طلبوه ثم لم يطيقوه‏!‏‏.‏‏.‏

ولقد كان هذا شأنهم دائماً حتى حرم الله عليهم أشياء كثيرة تربية لهم وعقوبة‏!‏

وفي الصحيح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏

«ذروني ما تركتكم‏.‏ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم»‏.‏

وفي الصحيح أيضاً‏:‏ «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها‏.‏ وسكت عن أشياء رحمة بكم- غير نسيان- فلا تسألوا عنها»‏.‏

وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً، من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته»‏.‏

ولعل مجموعة هذه الأحاديث- إلى جانب النصوص القرآنية- ترسم منهج الإسلام في المعرفة‏.‏‏.‏

إن المعرفة في الإسلام إنما تطلب لمواجهة حاجة واقعة وفي حدود هذه الحاجة الواقعة‏.‏‏.‏ فالغيب وما وراءه تصان الطاقة البشرية أن تنفق في استجلائه واستكناهه، لأن معرفته لا تواجه حاجة واقعية في حياة البشرية‏.‏ وحسب القلب البشري أن يؤمن بهذا الغيب كما وصفه العليم به‏.‏ فأما حين يتجاوز الإيمان به إلى البحث عن كنهه؛ فإنه لا يصل إلى شيء أبداً، لأنه ليس مزوداً بالمقدرة على استكناهه إلا في الحدود التي كشف الله عنها‏.‏‏.‏ فهو جهد ضائع‏.‏ فوق أنه ضرب في التيه بلا دليل، يؤدي إلى الضلال البعيد‏.‏

وأما الأحكام الشرعية فتطلب ويسأل عنها عند وقوع الأقضية التي تتطلب هذه الأحكام‏.‏‏.‏ وهذا هو منهج الإسلام‏.‏‏.‏

ففي طوال العهد المكي لم يتنزل حكم شرعي تنفيذي- وإن تنزلت الأوامر والنواهي عن أشياء وأعمال- ولكن الأحكام التنفيذية كالحدود والتعازير الكفارات لم تتنزل إلا بعد قيام الدولة المسلمة التي تتولى تنفيذ هذه الأحكام‏.‏

ووعى الصدر الأول هذا المنهج واتجاهه؛ فلم يكونوا يفتون في مسألة إلا إذا كانت قد وقعت بالفعل؛ وفي حدود القضية المعروضة دون تفصيص للنصوص، ليكون للسؤال والفتوى جديتهما وتمشيهما كذلك مع ذلك المنهج التربوي الرباني‏:‏

كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يلعن من سأل عما لم يكن‏.‏‏.‏ ذكره الدارميّ في مسنده‏.‏‏.‏ وذكر عن الزهري قال‏:‏ بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر‏:‏ أكان هذا‏؟‏ فإن قالوا‏:‏ نعم قد كان، حدث فيه بالذي يعلم‏.‏ وإن قالوا‏:‏ لم يكن، قال‏:‏ فذروه حتى يكون‏.‏ وأسند عن عمار ابن ياسر- وقد سئل عن مسألة- فقال‏:‏ هل كان هذا بعد‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏.‏ دعونا حتى يكون، فإذا كان تجشمناها لكم‏.‏

وقال الدراميّ‏:‏ حدثنا عبدالله بن محمد بن أبي شيبة، قال‏:‏ حدثنا ابن فضيل، عن عطاء، عن ابن عباس، قال‏:‏ ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن‏:‏

‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام‏}‏ ‏{‏ويسألونك عن المحيض‏}‏ وشبهه‏.‏‏.‏ ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم‏.‏

وقال مالك‏:‏ أدركت هذا البلد ‏(‏يعني المدينة‏)‏ وما عندهم علم غير الكتاب والسنة‏.‏ فإذا نزلت نازلة، جمع الأمير لها من حضر من العلماء، فما اتفقوا عليه أنفذه‏.‏ وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله- صلى الله عليه وسلم ‏!‏

وقال القرطبي في سياق تفسيره للآية‏:‏ روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات‏.‏ وكره لكم ثلاثاً‏:‏ قيل وقال؛ وكثرة السؤال، وإضاعة المال»‏.‏ قال كثير من العلماء‏:‏ المراد بقوله‏:‏ «وكثرة السؤال»‏:‏ التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعاً، وتكلفاً فيما لم ينزل، والأغلوطات، وتشقيق المولدات‏.‏ وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف‏.‏ ويقولون‏:‏ إذا نزلت النازلة وفق المسؤول لها‏.‏‏.‏

إنه منهج واقعي جاد‏.‏ يواجه وقائع الحياة بالأحكام، المشتقة لها من أصول شريعة الله، مواجهة عملية واقعية‏.‏‏.‏ مواجهة تقدر المشكلة بحجمها وشكلها وظروفها كاملة وملابساتها، ثم تقضي فيها بالحكم الذي يقابلها ويغطيها ويشملها وينطبق عليها انطباقاً كاملاً دقيقاً‏.‏‏.‏

فأما الاستفتاء عن مسائل لم تقع، فهو استفتاء عن فرض غير محدد‏.‏ وما دام غير واقع فإن تحديده غير مستطاع‏.‏ والفتوى عليه حينئذ لا تطابقه لأنه فرض غيرمحدد‏.‏ والسؤال والجواب عندئذ يحملان معنى الاستهتار بجدية الشريعة؛ كما يحملان مخالفة للمنهج الإسلامي القويم‏.‏

ومثله الاستفتاء عن أحكام شريعة الله في أرض لا تقام فيها شريعة الله، والفتوى على هذا الأساس‏!‏‏.‏‏.‏ إن شريعة الله لا تستفتى إلا ليطبق حكمها وينفذ‏.‏‏.‏ فإذا كان المستفتي والمفتي كلاهما يعلمان أنهما في أرض لا تقيم شريعة الله؛ ولا تعترف بسلطان الله في الأرض وفي نظام المجتمع وفي حياة الناس‏.‏‏.‏ أي لا تعترف بألوهية الله في هذه الأرض ولا تخضع لحكمه ولا تدين لسلطانه‏.‏‏.‏ فما استفتاء المستفتي‏؟‏ وما فتوى المفتي‏؟‏ إنهما- كليهما- يرخصان شريعة الله، ويستهتران بها شاعرين أو غير شاعرين سواء‏!‏

ومثله تلك الدراسات النظرية المجردة لفقه الفروع وأحكامه في الجوانب غير المطبقة‏.‏‏.‏ إنها دراسة للتلهية‏!‏ لمجرد الإيهام بأن لهذا الفقه مكاناً في هذه الأرض التي تدرسه في معاهدها ولا تطبقه في محاكمها‏!‏ وهو إيهام يبوء بالإثم من يشارك فيه، ليخدر مشاعر الناس بهذا الإيهام‏!‏

إن هذا الدين جد‏.‏ وقد جاء ليحكم الحياة‏.‏ جاء ليعبد الناسَ لله وحده، وينتزع من المغتصبين لسلطان الله هذا السلطان، فيرد الأمر كله إلى شريعة الله، لا إلى شرع أحد سواه‏.‏‏.‏ وجاءت هذه الشريعة لتحكم الحياة كلها؛ ولتواجه بأحكام الله حاجات الحياة الواقعية وقضاياها، ولتدلي بحكم الله في الواقعة حين تقع بقدر حجمها وشكلها وملابساتها‏.‏

ولم يجئ هذا الدين ليكون مجرد شارة أو شعار‏.‏ ولا لتكون شريعته موضوع دراسة نظرية لا علاقة لها بواقع الحياة‏.‏ ولا لتعيش مع الفروض التي لم تقع، وتضع لهذه الفروض الطائرة أحكاماً فقهية في الهواء‏!‏

هذا هو جد الإسلام‏.‏ وهذا هو منهج الإسلام‏.‏ فمن شاء من «علماء» هذا الدين أن يتبع منهجه بهذا الجد فليطلب تحكيم شريعة الله في واقع الحياة‏.‏ أو على الأقل فليسكت عن الفتوى والقذف بالأحكام في الهواء‏!‏

ويبدو- بالاستناد إلى رواية مجاهد عن ابن عباس- رضي الله عنه- ومن قول سعيد بن جبير كذلك في أسباب نزول الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ أن من بين ما كانوا يسألون عنه أشياء كانت في الجاهلية‏.‏ ولم نقف على معين للسؤال ماذا كان‏.‏ ولكن مجيء الحديث في السياق عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي بعد آية النهي عن السؤال يوحي بأن هناك اتصالاً ما‏.‏‏.‏ فنكتفي بهذا لنواجه النص القرآني عن هذه العادات الجاهلية‏:‏

‏{‏ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام‏.‏ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، وأكثرهم لا يعقلون‏.‏ وإذا قيل لهم‏:‏ تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، قالوا‏:‏ حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا‏.‏ أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن القلب البشري إما أن يستقيم على فطرته التي فطره الله عليها؛ فيعرف إلهه الواحد، ويتخذه رباً، ويعترف له وحده بالعبودية ويستسلم لشرعه وحده؛ ويرفض ربوبية من عداه فيرفض إذن أن يتلقى شريعة من سواه‏.‏‏.‏ إما أن يستقيم القلب البشري على فطرته هذه فيجد اليسر في الاتصال بربه، ويجد البساطة في عبادته، ويجد الوضوح في علاقاته به‏.‏‏.‏ وإما أن يتيه في دروب الجاهلية والوثنية ومنعرجاتها، تتلقاه في كل درب ظلمة، ويصادفه في كل ثنية وهم‏.‏ تطلب إليه طواغيت الجاهلية والوثنية شتى الطقوس لعبادتها، وشتى التضحيات لإرضائها؛ ثم تتعدد الطقوس في العبادات والتضحيات، حتى ينسى الوثني أصولها، ويؤديها وهو لا يعرف حكمتها، ويعاني من العبودية لشتى الأرباب ما يقضي على كرامة الإنسان التي منحها الله للإنسان‏.‏

ولقد جاء الإسلام بالتوحيد ليوحد السلطة التي تدين العباد؛ ثم ليحرر الناس بذلك من العبودية بعضهم لبعض؛ ومن عبوديتهم لشتى الآلهة والأرباب‏.‏‏.‏ وجاء ليحرر الضمير البشري من أوهام الوثنية وأوهاقها؛ وليرد إلى العقل البشري كرامته ويطلقه من ربقة الآلهة وطقوسها‏.‏ ومن ثم حارب الوثنية في كل صورها وأشكالها؛ وتتبعها في دروبها ومنحنياتها‏.‏ سواء في أعماق الضمير، أم في شعائر العبادة، أم في أوضاع الحياة وشرائع الحكم والنظام‏.‏

وهذا منعرج من منعرجات الوثنية في الجاهلية العربية، يعالجه ليقومه ويسلط عليه النور ليبطل ما حوله من أساطير‏.‏ ويقرر أصول التفكير والنظر؛ وأصول الشرع والنظام في آن‏:‏

‏{‏ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام‏.‏ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، وأكثرهم لا يعقلون‏}‏‏.‏‏.‏

هذه الصنوف من الأنعام التي كانوا يطلقونها لآلهتهم بشروط خاصة، منتزعة من الأوهام المتراكمة في ظلمات العقل والضمير‏.‏ البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي‏!‏‏!‏‏!‏

هذه الصنوف من الأنعام ما هي‏؟‏ ومن الذي شرع لهم هذه الأحكام فيها‏؟‏

لقد تشعبت الروايات في تعريفها، فنعرض نحن طرفاً من هذه التعريفات‏:‏

«روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ البحيرة من الإبل يمنع درها للطواغيب ‏(‏أي يحجز لبنها ويخصص للآلهة فلا يطعمها الناس وكهنة الآلهة هم الذين يأخذونه طبعاً‏!‏‏)‏ والسائبة من الإبل كانوا يسيبونها لطواغيتهم‏.‏ والوصيلة كانت الناقة تبكر بالأنثى، ثم تثني بالأنثى فيسمونها الوصيلة، يقولون‏:‏ وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر، فكانوا يذبحونها لطواغيتهم‏.‏ والحامي الفحل من الإبل كان يضرب الضراب المعدود ‏(‏أي يقوم بتلقيح عدد من النوق‏)‏ فإذا بلغ ذلك يقال‏:‏ حمي ظهره، فيترك، فيسمونه الحامي‏.‏

» وقال أهل اللغة‏:‏ البحيرة الناقة التي تشق أذنها، يقال‏:‏ بحرت أذن الناقة أبحرها بحراً، والناقة مبحورة وبحيرة، إذا شققتها واسعا‏.‏ ومنه البحر لسعته‏.‏ وكان أهل الجاهلية يحرمون البحيرة، وهي أن تنتج خمسة أبطن يكون آخرها ذكراً، بحروا أذنها وحرموها وامتنعوا من ركوبها ونحرها، ولم تطرد عن ماء، ولم تمنع عن مرعى، وإذا لقيها المعيي لم يركبها‏.‏ قالوا‏:‏ والسائبة المخلاة وهي المسيبة، وكانوا في الجاهلية إذا نذر الرجل لقدوم من سفر، أو برء من مرض، أو ما أشبه ذلك، قال‏:‏ ناقتي سائبة، فكانت كالبحيرة في التحريم والتخلية‏.‏‏.‏ فأما الوصيلة فإن بعض أهل اللغة ذكر أنها الأنثى من الغنم إذا ولدت مع ذكر، قالوا‏:‏ وصلت أخاها فلم يذبحوها‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكراً ذبحوه لآلهتهم في زعمهم‏.‏ وإذا ولدت ذكراً وأنثى قالوا‏:‏ وصلت أخاها فلم يذبحوه لآلهتهم‏.‏ وقالوا‏:‏ الحامي الفحل من الإبل إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن، قالوا‏:‏ حمي ظهره فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى «‏.‏

وهناك روايات أخرى عن تعريف هذه الأنواع من الطقوس لا ترتفع على هذا المستوى من التصور، ولا تزيد الأسباب فيها معقولية على هذه الأسباب‏.‏‏.‏ وهي كما ترى أوهام من ظلام الوثنية المخيم‏.‏ وحين تكون الأوهام والأهواء هي الحكم، لا يكون هناك حد ولا فاصل، ولا ميزان ولا منطق‏.‏ وسرعان ما تتفرع الطقوس ويضاف إليها وينقص منها بلا ضابط‏.‏ وهذا هو الذي كان في جاهلية العرب، والذي يمكن أن يحدث في كل مكان وفي كل زمان، حين ينحرف الضمير البشري عن التوحيد المطلق، الذي لا منعرجات فيه ولا ظلام‏.‏

وقد تتغير الأشكال الخارجية ولكن لباب الجاهلية يبقى، وهو التلقي من غير الله في أي شأن من شؤون الحياة‏!‏

إن الجاهلية ليست فترة من الزمان؛ ولكنها حالة ووضع يتكرر- في ِأشكال شتى- على مدار الزمان‏.‏ فإما ألوهية واحدة تقابلها عبودية شاملة؛ وتتجمع فيها كل ألوان السلطة، وتتجه إليها المشاعر والأفكار، والنوايا والأعمال، والتنظيمات والأوضاع، وتتلقى منها القيم والموازين، والشرائع والقوانين، والتصورات والتوجيهات‏.‏‏.‏ وإما جاهلية- في صورة من الصور- تتمثل فيها عبودية البشر للبشرأو لغيرهم من خلق الله‏.‏‏.‏ لا ضابط لها ولا حدود‏.‏ لأن العقل البشري لا يصلح وحده أن يكون ضابطاً موزوناً ما لم ينضبط هو على ميزان العقيدة الصحيحة‏.‏ فالعقل يتأثر بالهوى كما نشهد في كل حين؛ ويفقد قدرته على المقاومة في وجه الضغوط المختلفة ما لم يقم إلى جانبة ذلك الضابط الموزون‏.‏

وإننا لنشهد اليوم- بعد أربعة عشر قرناً من نزول هذا القرآن بهذا البيان- أنه حيثما انفك رباط القلب البشري بالإله الواحد، تاه في منحنيات ودروب لا عداد لها، وخضع لربوبيات شتى، وفقد حريته وكرامته ومقاومته‏.‏‏.‏ ولقد شهدت في هذا الجانب الخرافي وحده في صعيد مصر وريفها عشرات من الأوهام تطلق لها بعض صنوف الحيوان، للأولياء والقديسين، في ذات الصورة التي كانت تطلق بها للآلهة في الزمان القديم‏!‏

على أن المسألة في تلك الطقوس الجاهلية- وفي كل جاهلية- هي القاعدة الكلية‏.‏ هي نقطة الانطلاق في طريق الإسلام أو في طريق الجاهلية‏.‏ هي‏.‏‏.‏ لمن الحكم في حياة الناس‏.‏‏.‏ لله وحده كما قرر في شريعته‏؟‏ أم لغير الله فيما يقرره البشر لأنفسهم من أحكام وأوضاع وشرائع وطقوس وقيم وموازين‏؟‏ أو بتعبير آخر‏:‏ لمن الألوهية على الناس‏؟‏ لله أم لخلق من خلقه‏؟‏ أياً كان هذا الخلق الذي يزاول حقوق الألوهية على الناس‏!‏

ومن ثم يبدأ النص القرآني بتقرير أن الله لم يشرع هذه الطقوس‏.‏ لم يشرع البحيرة ولا السائبة ولا الوصيلة ولا الحامي‏.‏‏.‏ فمن ذا الذي شرعها إذن لهؤلاء الكفار‏؟‏‏!‏

‏{‏ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام‏}‏‏.‏‏.‏

والذين يتبعون ما شرعه غير الله هم كفار‏.‏ كفار يفترون على الله الكذب‏.‏ مرة يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون‏:‏ شريعة الله‏.‏‏.‏ ومرة يقولون‏:‏ إننا نشرع لأنفسنا ولا ندخل شريعة الله في أوضاعنا‏.‏‏.‏ ونحن مع هذا لا نعصي الله‏.‏‏.‏ وكله كذب على الله‏:‏

‏{‏ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون‏}‏‏.‏‏.‏

ومشركو العرب كانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم الذي جاء به من عند الله‏.‏ فهم لم يكونوا يجحدون الله البتة‏.‏

بل كانوا يعترفون بوجوده وبقدرته وبتصريفه للكون كله‏.‏ ولكنهم مع ذلك كانوا يشرعون لأنفسهم من عند أنفسهم ثم يزعمون أن هذا شرع الله‏!‏ وهم بهذا كانوا كفاراً‏.‏ ومثلهم كل أهل جاهلية في أي زمان وفي أي مكان يشرعون لأنفسهم من عند أنفسهم ثم يزعمون- أو لا يزعمون- أن هذا شرع الله‏!‏

إن شرع الله هو الذي قرره في كتابه، وهو الذي بينه رسوله- صلى الله عليه وسلم- وهو ليس مبهماً ولا غامضاً ولا قابلاً لأن يفتري عليه أحد من عنده ما يفتري، ويزعم أنه منه، كما يتصور أهل الجاهلية في أي زمان وفي أي مكان‏!‏

ولذلك يصم الله الذين ادعوا هذا الادعاء بالكفر‏.‏ ثم يصمهم كذلك بأنهم لا يعقلون‏!‏ ولو كانوا يعقلون ما افتروا على الله‏.‏ ولو كانوا يعقلون ما حسبوا أن يمر هذا الافتراء‏!‏

ثم يزيد هذه المفارقة في قولهم وفعلهم إيضاحاً‏:‏

‏{‏وإذا قيل لهم‏:‏ تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، قالوا حسبنا‏:‏ ما وجدنا عليه آباءنا‏.‏ أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن ما شرعه الله بيّن‏.‏ وهو محدد فيما أنزل الله ومبين بما سنه رسوله‏.‏‏.‏ وهذا هو المحك‏.‏ وهذه هي النقطة التي يفترق فيها طريق الجاهلية وطريق الإسلام‏.‏ طريق الكفر وطريق الإيمان‏.‏‏.‏ فإما أن يدعى الناس إلى ما أنزل الله بنصه وإلى الرسول ببيانه فيلبوا‏.‏‏.‏ فهم إذن مسلمون‏.‏ وإما أن يدعوا إلى الله والرسول فيأبوا‏.‏‏.‏ فهم إذن كفار‏.‏‏.‏ ولا خيار‏.‏‏.‏

وهؤلاء كانوا إذا قيل لهم‏:‏ تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، قالوا‏:‏ حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا‏!‏ فاتبعوا ما شرعه العبيد، وتركوا ما شرعه رب العبيد‏.‏ ورفضوا نداء التحرر من عبودية العباد للعباد، واختاروا عبودية العقل والضمير، للآباء والأجداد‏.‏

ثم يعقب السياق القرآني على موقفهم ذاك تعقيب التعجيب والتأنيب‏:‏

‏{‏أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وليس معنى هذا الاستنكار لاتباعهم لآبائهم ولو كانوا لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون، أن لو كان يعلمون شيئاً لجاز لهم اتباعهم وترك ما أنزل الله وترك بيان الرسول‏!‏ إنما هذا تقرير لواقعهم وواقع آبائهم من قبلهم‏.‏ فآباؤهم كذلك كانوا يتبعون ما شرعه لهم آباؤهم أو ما شرعوه هم لأنفسهم‏.‏ ولا يركن أحد إلى شرع نفسه أو شرع أبيه، وبين يديه شرع الله وسنة رسوله، إلا وهو لا يعلم شيئاً ولا يهتدي‏!‏ وليقل عن نفسه أو ليقل عنه غيره ما يشاء‏:‏ إنه يعلم وإنه يهتدي‏.‏ فالله- سبحانه- أصدق وواقع الأمر يشهد‏.‏‏.‏ وما يعدل عن شرع الله إلى شرع الناس إلا ضال جهول‏!‏ فوق أنه مفتر كفور‏!‏

فإذا انتهى من تقرير حال الذين كفروا وقولهم التفت إلى ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ يقرر لهم انفصالهم وتميزهم؛ ويبين لهم تكاليفهم وواجبهم؛ ويحدد لهم موقفهم ممن سواهم؛ ويكلهم إلى حساب الله وجزائه لا إلى أي مغنم في هذه الأرض أو مأرب‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إلى الله مرجعكم جميعاً، فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏‏.‏‏.‏

إنه التميز والمفاصلة بينهم وبين من عداهم‏.‏ ثم إنه التضامن والتواصي فيما بينهم بوصفهم أمة واحدة‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم‏}‏‏.‏‏.‏

أنتم وحدة منفصلون عمن سواكم، متضامنون متكافلون فيما بينكم‏.‏ فعليكم أنفسكم‏.‏‏.‏ عليكم أنفسكم فزكوها وطهروها؛ وعليكم جماعتكم فالتزموها وراعوها؛ ولا عليكم أن يضل غيركم إذا أنتم اهتديتم‏.‏ فأنتم وحدة منفصلة عمن عداكم؛ وأنتم أمة متضامنة فيما بينها بعضكم أولياء بعض، ولا ولاء لكم ولا ارتباط بسواكم‏.‏

إن هذه الآية الواحدة تقرر مبادئ أساسية في طبيعة الأمة المسلمة، وفي طبيعة علاقاتها بالأمم الأخرى‏.‏

إن الأمة المسلمة هي حزب الله‏.‏ ومن عداها من الأمم فهم حزب الشيطان‏.‏ ومن ثم لا يقوم بينها وبين الأمم الأخرى ولاء ولا تضامن، لأنه لا اشتراك في عقيدة؛ ومن ثم لا اشتراك في هدف أو وسيلة؛ ولا اشتراك في تبعة أو جزاء‏.‏

وعلى الأمة المسلمة أن تتضامن فيما بينها؛ وأن تتناصح وتتواصى، وأن تهتدي بهدي الله الذي جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن الأمم غيرها‏.‏‏.‏ ثم لا يضيرها بعد ذلك شيئاً أن يضل الناس حولها ما دامت هي قائمة على الهدى‏.‏

ولكن ليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى‏.‏ والهدى هو دينها هي وشريعتها ونظامها‏.‏ فإذا هي أقامت نظامها في الأرض بقي عليها أن تدعو الناس كافة، وأن تحاول هدايتهم، وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة لتقيم العدل بينهم؛ ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم‏.‏‏.‏

إن كون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله لا يضيرها من ضل إذا اهتدت، لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولاً، ثم في الأرض جميعاً، وأول المعروف الإسلام لله وتحكيم شريعته؛ وأول المنكر الجاهلية والاعتداء على سلطان الله وشريعته‏.‏ وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت، والطاغوت هو كل سلطان غير سلطان الله وحكمه‏.‏‏.‏ والأمة المسلمة قوامة على نفسها أولاً؛ وعلى البشرية كلها أخيراً‏.‏

وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الآية كما فهم بعضهم قديماً- وكما يمكن أن يفهم بعضهم حديثاً- أن المؤمن الفرد غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- إذا اهتدى هو بذاته- ولا أن الأمة المسلمة غير مكلفة إقامة شريعة الله في الأرض- إذا هي اهتدت بذاتها- وضل الناس من حولها‏.‏

إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر، ومقاومة الضلال ومحاربة الطغيان- وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله واغتصاب سلطانه وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته، وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي وهذا المنكر قائم‏.‏

ولقد روى أصحاب السنن أن أبا بكر- رضي الله عنه- قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا علكيم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم‏}‏‏.‏‏.‏ وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ «إن الناس إذا رأوا المنكر، ولا يغيرونه، يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه»‏.‏

وهكذا صحح الخليفة الأول- رضوان الله عليه- ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة‏.‏ ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح، لأن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق‏.‏ فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الآية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه، ويريحهم من عنت الجهاد وبلائه‏!‏

وكلا والله‏!‏ إن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد‏.‏ ولا يصلح إلا بعمل وكفاح‏.‏ ولا بد لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إليه، ولإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ولتقرير ألوهية الله في الأرض، ولرد المغتصبين لسلطان الله عما اغتصبوه من هذا السلطان، ولإقامة شريعة الله في حياة الناس، وإقامة الناس عليها‏.‏‏.‏ لا بد من جهد‏.‏ بالحسنى حين يكون الضالون أفراداً ضالين، يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة‏.‏ وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى؛ وتعطل دين الله أن يوجد، وتعوق شريعة الله أن تقوم‏.‏

وبعد ذلك- لا قبله- تسقط التبعة عن الذين آمنوا‏.‏ وينال الضالون جزاءهم من الله حين يرجع هؤلاء وهؤلاء إليه‏:‏

‏{‏إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏‏.‏

والآن يجيء الحكم الأخير من الأحكام الشرعية التي تتضمنها السورة، في بيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع المسلم، وهو الخاص بتشريع الإشهاد على الوصية في حالة الضرب في الأرض، والبعد عن المجتمع‏.‏ والضمانات التي تقيمها الشريعة ليصل الحق إلى أهله‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت- حين الوصية- اثنان ذوا عدل منكم، أو آخران من غيركم، إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت، تحبسونهما من بعد الصلاة، فيقسمان بالله- إن ارتبتم- لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله، إنا إذن لمن الآثمين‏.‏ فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم‏.‏

‏.‏ الأوليان‏.‏‏.‏ فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، وما اعتدينا، إنا إذن لمن الظالمين‏.‏ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم؛ واتقوا الله واسمعوا، والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏‏.‏‏.‏

وبيان هذا الحكم الذي تضمنته الآيات الثلاث‏:‏ أن على من يحس بدنو أجله، ويريد أن يوصي لأهله بما يحضره من المال، أن يستحضر شاهدين عدلين من المسلمين إن كان في الحضر، ويسلمهما ما يريد أن يسلمه لأهله غير الحاضرين‏.‏ فأما إذا كان ضارباً في الأرض، ولم يجد مسلمين يشهدهما ويسلمهما ما معه، فيجوز أن يكون الشاهدان من غير المسلمين‏.‏

فإن ارتاب المسلمون- أو ارتاب أهل الميت- في صدق ما يبلغه الشاهدان وفي أمانتهما في أداء ما استحفظا عليه، فإنهم يوقفونهما بعد أدائهما للصلاة- حسب عقيدتهما- ليحلفا بالله، أنهما لا يتوخيان بالحلف مصلحة لهما ولا لأحد آخر، ولو كان ذا قربى، ولا يكتمان شيئاً مما استحفظا عليه‏.‏‏.‏ وإلا كانا من الآثمين‏.‏‏.‏ وبذلك تنفذ شهادتهما‏.‏

فإذا ظهر بعد ذلك أنهما ارتكبا إثم الشهادة الكاذبة واليمين الكاذبة والخيانة للأمانة‏.‏ قام أولى اثنين من أهل الميت بوراثته، من الذين وقع عليهم هذا الإثم، بالحلف بالله أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين‏.‏ وأنهما لم يعتديا بتقريرهما هذه الحقيقة‏.‏ وبذلك تبطل شهادة الأولين، وتنفذ الشهادة الثانية‏.‏

ثم يقول النص‏:‏ إن هذه الإجراءات أضمن في أداء الشهادة بالحق؛ أو الخوف من رد أيمان الشاهدين الأولين، مما يحملهما على تحري الحق‏.‏

‏{‏ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم‏}‏‏.‏

وينتهي إلى دعوة الجميع إلى تقوى الله، ومراقبته وخشيته، والطاعة لأوامره، لأن الله لا يهدي من يفسقون عن طريقه، إلى خير ولا إلى هدى‏:‏

‏{‏واتقوا الله واسمعوا‏.‏ والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏‏.‏‏.‏

قال القرطبي في تفسيره عن سبب نزول هذه الآيات الثلاث‏:‏

«‏.‏‏.‏‏.‏ ولا أعلم خلافاً أن هذه الآيات الثلاث نزلت بسبب تميم الداري، وعدي بن بدّاء روي البخاري والدارقُطني وغيرهما عن ابن عباس قال‏:‏» كان تميم الداري وعدي بن بداء، يختلفان إلى مكة؛ فخرج معهما فتى من بني سهم، فتوفي بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما، فدفعا تركته إلى أهله، وحبسا جاماً من فضة مخوصاً بالذهب‏.‏ فاستحلفهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «ما كتمتما ولا اطلعتما»‏.‏ ثم وجد الجام بمكة‏.‏ فقالوا‏:‏ اشتريناه من عدي وتميم‏.‏ فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا‏.‏ قال فأخذ الجام‏.‏ وفيهم نزلت هذه الآية‏.‏‏.‏‏.‏ «‏(‏لفظ الدارقطني‏)‏‏.‏»

وواضح أن لطبيعة المجتمع الذي نزلت هذه الأحكام لتنظيمه دخلا في شكل الإجراءات‏.‏

وربما في طبيعة هذه الإجراءات‏.‏ فالإشهاد والائتمان على هذا النحو‏.‏ ثم الحلف بالله في مجتمع بعد الصلاة‏.‏ لاستجاشة الوجدان الديني، والتحرج كذلك من الفضيحة في المجتمع عند ظهور الكذب والخيانة‏.‏‏.‏ كلها تشي بسمات مجتمع خاص‏.‏ تفي بحاجاته وملابساته هذه الإجراءات‏.‏

ولقد تملك المجتمعات اليوم وسائل أخرى للإثبات، وأشكالاً أخرى من الإجراءات، كالكتابة والتسجيل والإيداع في المصارف‏.‏‏.‏ وما إليها‏.‏‏.‏

ولكن‏.‏ أو فَقدَ هذا النص قدرته على العمل في المجتمعات البشرية‏؟‏

إننا كثيراً ما نخدع ببيئة معينة، فنظن أن بعض التشريعات وبعض الإجراءات قد فقدت فاعليتها، ولم تعد لها ضرورة، وأنها من مخلفات مجتمعات مضى زمنها‏!‏ لأن البشرية استجدّت وسائل أخرى‏!‏

أجل كثيراً ما نخدع فننسى أن هذا الدين جاء للبشرية جميعاً، في كل أقطارها، وفي كل أعصارها‏.‏ وأن كثرة ضخمة من هذه البشرية اليوم ما تزال بدائية أو متدرجة من البداوة‏.‏ وأنها في حاجة إلى أحكام وإجراءات تواكب حاجاتها في جميع أشكالها وأطوارها، وأنها تجد في هذا الدين ما يلبي هذه الحاجات في كل حالة‏.‏ وأنها حين ترتقي من طور إلى طور تجد في هذا الدين كفايتها كذلك بنفس النسبة؛ وتجد في شريعته ما يلبي حاجاتها الحاضرة، ثم يرتقي بها إلى تلبية حاجاتها المتطورة‏.‏‏.‏ وأن هذه معجزة هذا الدين ومعجزة شريعته؛ وآية أنه من عند الله، وأنها من اختياره سبحانه‏.‏

على أننا نخدع كذلك مرة أخرى حين ننسى الضرورات التي يقع فيها الأفراد من البيئات التي تجاوزت هذه الأطوار؛ والتي يسعفهم فيها يسر هذه الشريعة وشمولها، ووسائل هذا الدين المعدة للعمل في كل بيئة وفي كل حالة‏.‏ في البدو والحضر‏.‏ في الصحراء والغابة‏.‏ لأنه دين البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها‏.‏‏.‏ وتلك أيضاً إحدى معجزاته الكبرى‏.‏

إننا نخدع حين نتصور أننا- نحن البشر- أبصر بالخلق من رب الخلق‏.‏‏.‏ فتردنا الوقائع إلى التواضع‏!‏ وما أولانا أن نتذكر قبل أن تصدمنا الأحداث‏.‏ وأن نعرف أدب البشر في حق خالق البشر‏.‏‏.‏ أدب العبيد في حق رب العبيد‏.‏‏.‏ لو كنا نتذكر ونعرف، ونثوب‏.‏‏.‏