فصل: تفسير الآيات رقم (109- 120)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 120‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏109‏)‏ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏110‏)‏ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ‏(‏111‏)‏ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏115‏)‏ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏116‏)‏ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏117‏)‏ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏118‏)‏ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏119‏)‏ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

هذا الدرس بطوله بقية في تصحيح العقيدة؛ وتقويم ما دخل عليها عند النصارى من انحرافات أخرجتها عن أصلها السماوي عند قاعدتها الأساسية‏.‏ إذ أخرجتها من التوحيد المطلق الذي جاء به عيسى- عليه السلام- كما جاء به كل رسول قبله، إلى ألوان من الشرك، لا علاقة لها أصلاً بدين الله‏.‏

ومن ثم فإن هذا الدرس كذلك يستهدف تقرير حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية- كما هي في التصور الإسلامي- تقرير هذه الحقيقة من خلال هذا المشهد العظيم الذي يعرضه؛ والذي يقرر فيه عيسى- عليه السلام- على ملأ من الرسل، ومن البشر جميعاً، أنه لم يقل لقومه شيئا مما زعموه من ألوهيته ومن تأليه أمه؛ وأنه ما كان له أن يقول من هذا الشرك كله شيئاً‏!‏

والسياق القرآني يعرض هذه الحقيقة في مشهد تصويري من «مشاهد القيامة» التي يعرضها القرآن الكريم عرضاً حياً ناطقاً، موحياً مؤثراً، عميق التأثير، يهتز له الكيان البشري وهو يتلقاه كأنما يشهده اللحظة في الواقع المنظور‏.‏ الواقع الذي تراه العين، وتسمعه الأذن‏.‏ وتتجلى فيه الانفعالات والسمات النابضة بالحياة

فها نحن أولاء أمام المشهد العظيم‏:‏

‏{‏يوم يجمع الله الرسل، فيقول ماذا أجبتم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب‏}‏‏:‏ يوم يجمع الله الرسل الذين فرقهم في الزمان فتتابعوا على مداره؛ وفرقهم في المكان فذهب كل إلى قريته؛ وفرقهم في الأجناس فمضى كل إلى قومه‏.‏‏.‏ يدعون كلهم بدعوة واحدة على اختلاف الزمان والمكان والأقوام؛ حتى جاء خاتمهم- صلى الله عليه وسلم- بالدعوة الواحدة لكل زمان ومكان وللناس كافة من جميع الأجناس والألوان‏.‏‏.‏

هؤلاء الرسل إلى شتى الأقوام، في شتى الأمكنة والأزمان‏.‏‏.‏ ها هو ذا مرسلهم فرادى، يجمعهم جميعاً؛ ويجمع فيهم شتى الاستجابات، وشتى الاتجاهات‏.‏ وها هم أولاء‏.‏‏.‏ نقباء البشرية في حياتها الدنيا؛ ومعهم رسالات الله إلى البشرية في شتى أرجائها، ووراءهم استجابات البشرية في شتى أعصارها‏.‏ هؤلاء هم أمام الله‏.‏‏.‏ رب البشرية- سبحانه- في مشهد يوم عظيم‏.‏

وها هو ذا المشهد ينبض بالحياة‏:‏

‏{‏يوم يجمع الله الرسل‏.‏ فيقول‏:‏ ماذا أجبتم‏؟‏‏}‏‏.‏

‏{‏ماذا أجبتم‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ فاليوم تجمع الحصيلة، ويضم الشتات، ويقدم الرسل حساب الرسالات، وتعلن النتائج على رؤوس الأشهاد‏.‏

‏{‏ماذا أجبتم‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ والرسل بشر من البشر؛ لهم علم ما حضر، وليس لديهم علم ما استتر‏.‏

لقد دعوا أقوامهم إلى الهدى؛ فاستجاب منهم من استجاب، وتولى منهم من تولى‏.‏‏.‏ وما يعلم الرسول حقيقة من استجاب إن كان يعرف حقيقة من تولى‏.‏ فإنما له ظاهر الأمر وعلم ما بطن لله وحده‏.‏‏.‏ وهم في حضرة الله الذي يعرفونه خير من يعرف؛ والذي يهابونه أشد من يهاب؛ والذي يستحيون أن يدلوا بحضرته بشيء من العلم وهم يعلمون أنه العليم الخبير‏.‏

إنه الاستجواب المرهوب في يوم الحشر العظيم، على مشهد من الملأ الأعلى، وعلى مشهد من الناس أجمعين‏.‏ الاستجواب الذي يراد به المواجهة‏.‏‏.‏ مواجهة البشرية برسلها؛ ومواجهة المكذبين من هذه البشرية خاصة برسلهم الذين كانوا يكذبونهم‏.‏ ليعلن في موقف الإعلان، أن هؤلاء الرسل الكرام إنما جاءوهم من عند الله بدين الله؛ وها هم أولاء مسؤولون بين يديه- سبحانه- عن رسالاتهم وعن أقوامهم الذين كانوا من قبل يكذبون‏.‏

أما الرسل فهم يعلنون أن العلم الحق لله وحده؛ وأن ما لديهم من علم لا ينبغي أن يدلوا به في حضرة صاحب العلم، تأدباً وحياء، ومعرفة بقدرهم في حضرة الله‏:‏

فأما سائر الرسل- غير عيسى عليه السلام- فقد صدق بهم من صدق، وقد كفر بهم من كفر؛ ولقد انتهى أمرهم بهذا الجواب الكامل الشامل، الذي يدع العلم كله لله، ويدع الأمر كله بين يديه‏.‏ سبحانه‏.‏‏.‏ فما يزيد السياق شيئاً في هذا المشهد عنهم‏.‏‏.‏ إنما يلتفت بالخطاب إلى عيسى بن مريم وحده، لأن عيسى بن مريم هو الذي فتن قومه فيه، وهو الذي غام الجو حوله بالشبهات، وهو الذي خاض ناس في الأوهام والأساطير حول ذاته، وحول صفاته، وحول نشأته ومنتهاه‏.‏

يلتفت الخطاب إلى عيسى بن مريم- على الملأ ممن ألهوه وعبدوه وصاغوا حوله وحول أمه- مريم- التهاويل‏.‏‏.‏ يلتفت إليه يذكره نعمة الله عليه وعلى والدته؛ ويستعرض المعجزات التي آتاها الله إياه ليصدق الناس برسالته، فكذبه من كذبه منهم أشد التكذيب وأقبحه؛ وفتن به وبالآيات التي جاءت معه من فتن؛ وألهوه مع الله من أجل هذه الآيات، وهي كلها من صنع الله الذي خلقه وأرسله وأيده بالمعجزات‏:‏

‏{‏إذ قال الله‏:‏ يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك‏.‏ إذ أيدتك بروح القدس، تكلم الناس في المهد وكهلا‏.‏ وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل‏.‏ وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني، فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني، وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني‏.‏ وإذ تخرج الموتى بإذني‏.‏ وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم‏:‏ إن هذا إلا سحر مبين‏.‏ وإذا أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي، قالوا‏:‏ آمنا واشهد بأننا مسلمون‏}‏‏.‏‏.‏

إنها المواجهة بما كان من نعم الله على عيسى بن مريم وأمه‏.‏‏.‏ من تأييده بروح القدس في مهده، وهو يكلم الناس في غير موعد الكلام؛ يبرئ أمه من الشبهة التي أثارتها ولادته على غير مثال؛ ثم وهو يكلمهم في الكهولة يدعوهم إلى الله‏.‏‏.‏ وروح القدس جبريل- عليه السلام- يؤيده هنا وهناك‏.‏‏.‏ ومن تعليمه الكتاب والحكمة؛ وقد جاء إلى هذه الأرض لا يعلم شيئاً، فعلمه الكتابة وعلمه كيف يحسن تصريف الأمور، كما علّمه التوراة التي جاء فوجدها في بني إسرائيل، والإنجيل الذي آتاه إياه مصدقاً لما بين يديه من التوراة‏.‏

ثم من إيتائه خارق المعجزات التي لا يقدر عليها بشر إلا بإذن الله‏.‏ فإذا هو يصور من الطين كهيئة الطير بإذن الله؛ فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله- لا ندري كيف لأننا لا ندري إلى اليوم كيف خلق الله الحياة، وكيف يبث الحياة في الأحياء- وإذا هو يبرئ المولود أعمى- بإذن الله- حيث لا يعرف الطب كيف يرد إليه البصر- ولكن الله الذي يهب البصر أصلاً قادر على أن يفتح عينيه للنور- ويبرئ الأبرص بإذن الله، لا بدواء- والدواء وسيلة لتحقيق إذن الله في الشفاء، وصاحب الإذن قادر على تغيير الوسيلة، وعلى تحقيق الغاية بلا وسيلة- وإذا هو يحيي الموتى بإذن الله- وواهب الحياة أول مرة قادر على رجعها حين يشاء- ثم يذكره بنعمة الله عليه في حمايته من بني إسرائيل إذ جاءهم بهذه البينات كلها فكذبوه وزعموا أن معجزاته هذه الخارقة سحر مبين‏!‏ ذلك أنهم لم يستطيعوا إنكار وقوعها- وقد شهدتها الألوف- ولم يريدوا التسليم بدلالتها عناداً وكبراً‏.‏‏.‏ حمايته منهم فلم يقتلوه- كما أرادوا ولم يصلبوه‏.‏ بل توفاه الله ورفعه إليه‏.‏‏.‏ كذلك يذكره بنعمة الله عليه في إلهام الحواريين أن يؤمنوا بالله وبرسوله؛ فإذا هم ملبون مستسلمون، يشهدونه على إيمانهم وإسلامهم أنفسهم كاملة لله‏:‏

‏{‏وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي‏.‏ قالوا‏:‏ آمنا واشهد بأننا مسلمون‏}‏‏.‏‏.‏

إنها النعم التي آتاها الله عيسى بن مريم، لتكون له شهادة وبينة‏.‏ فإذا كثرة من أتباعه تتخذ منها مادة للزيغ؛ وتصوغ منها وحولها الأضاليل- فها هو ذا عيسى يواجه بها على مشهد من الملأ الأعلى، ومن الناس جميعاً، ومنهم قومه الغالون فيه‏.‏‏.‏ ها هو ذا يواجه بها ليسمع قومه ويروا؛ وليكون الخزي أوجع وأفضح على مشهد من العالمين‏!‏

ويستطرد السياق في معرض النعم على عيسى بن مريم وأمه، إلى شيء من نعمة الله على قومه، ومن معجزاته التي أيده الله بها وشهدها بها الحواريون‏:‏

‏{‏إذ قال الحواريون‏:‏ يا عيسى ابن مريم، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء‏؟‏ قال‏:‏ اتقوا الله إن كنتم مؤمنين‏.‏ قالوا‏:‏ نريد أن نأكل منها، وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا، ونكون عليها من الشاهدين‏.‏ قال عيسى ابن مريم‏:‏ اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا، وآية منك، وارزقنا وأنت خير الرازقين‏.‏ قال الله‏:‏ إني منزلها عليكم، فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين‏}‏‏.‏

ويكشف لنا هذا الحوار عن طبيعة قوم عيسى‏.‏‏.‏ المستخلصين منهم وهم الحواريون‏.‏‏.‏ فإذا بينهم وبين أصحاب رسولنا- صلى الله عليه وسلم- فرق بعيد‏.‏‏.‏

إنهم الحواريون الذين ألهمهم الله الإيمان به وبرسوله عيسى‏.‏ فآمنوا‏.‏ وأشهدوا عيسى على إسلامهم‏.‏‏.‏ ومع هذا فهم بعدما رأوا من معجزات عيسى ما رأوا، يطلبون خارقة جديدة‏.‏ تطمئن بها نفوسهم‏.‏ ويعلمون منها أنه صدقهم‏.‏ ويشهدون بها له لمن وراءهم‏.‏

فأما أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- فلم يطلبوا منه خارقة واحدة بعد إسلامهم‏.‏‏.‏ لقد آمنت قلوبهم واطمأنت منذ أن خالطتها بشاشة الإيمان‏.‏ ولقد صدقوا رسولهم فلم يعودوا يطلبون على صدقه بعد ذلك البرهان‏.‏ ولقد شهدوا له بلا معجزة إلا هذا القرآن‏.‏‏.‏

هذا هو الفارق الكبير بين حواريي عيسى عليه السلام- وحواريي محمد- صلى الله عليه وسلم- ذلك مستوى، وهذا مستوى‏.‏‏.‏ وهؤلاء مسلمون وأولئك مسلمون‏.‏‏.‏ وهؤلاء مقبولون عند الله وهؤلاء مقبولون‏.‏‏.‏ ولكن تبقى المستويات متباعدة كما أرادها الله‏.‏‏.‏

وقصة المائدة- كما أوردها القرآن الكريم- لم ترد في كتب النصارى‏.‏ ولم تذكر في هذه الأناجيل التي كتبت متأخرة بعد عيسى- عليه السلام- بفترة طويلة، لا يؤمن معها على الحقيقة التي تنزلت من عند الله‏.‏ وهذه الأناجيل ليست إلا رواية بعض القديسين عن قصة عيسى- عليه السلام- وليست هي ما أنزله الله عليه وسماه الإنجيل الذي آتاه‏.‏‏.‏

ولكن ورد في هذه الأناجيل خبر عن المائدة في صورة أخرى‏:‏ فورد في إنجيل متى في نهاية الإصحاح الخامس عشر‏:‏ «وأما يسوع فدعا تلاميذه، وقال‏:‏ إني أشفق على الجميع، لأن لهم الآن ثلاثة أيام يمشون معي، وليس لهم ما يأكلون‏.‏ ولست أريد أن أصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق‏.‏ فقال له تلاميذه‏:‏ من أين لنا في البرية خبز بهذا المقدار حتى يشبع جمعاً هذا عدده‏؟‏ فقال لهم يسوع‏:‏ كم عندكم من الخبز‏؟‏ فقالوا‏:‏ سبعة وقليل من صغار السمك‏.‏ فأمر الجموع أن يتكئوا على الأرض؛ وأخذ السبع خبزات والسمك، وشكر وكسر، وأعطى تلاميذه، والتلاميذ أعطوا الجمع، فأكل الجمع وشبعوا، ثم رفعوا ما فضل من الكسر سبعة سلال مملوءة، والآكلون كانوا أربعة الآف، ما عدا النساء والأولاد»‏.‏‏.‏‏.‏ وورد مثل هذه الرواية في سائر الأناجيل‏.‏‏.‏

وبعض التابعين- رضوان الله عليهم- كمجاهد والحسن- يريان أن المائدة لم تنزل‏.‏ لأن الحواريين حينما سمعوا قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين‏}‏‏.‏‏.‏ خافوا وكفوا عن طلب نزولها‏:‏

قال ابن كثير في التفسير‏:‏ «روى الليث بن أبى سليم عن مجاهد قال‏:‏» هو مثل ضربة الله ولم ينزل شيء «‏(‏رواه ابن أبي حاتم وابن جرير‏)‏‏.‏

ثم قال ابن جرير‏:‏ حدثنا الحارث، حدثنا القاسم- هو ابن سلام- حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال‏:‏ مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن تنزل عليهم‏.‏‏.‏ وقال أيضا؛ حدثناً أبو المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن، أنه قال في المائدة‏:‏ إنها لم تنزل‏.‏‏.‏ وحدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال‏:‏ كان الحسن يقول‏:‏ لما قيل لهم‏:‏ ‏{‏فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين‏}‏ قالوا‏:‏ لا حاجة لنا فيها، فلم تنزل «‏.‏

ولكن أكثر آراء السلف على أنها نزلت‏.‏ لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏إني منزلها عليكم‏}‏‏.‏ ووعد الله حق‏.‏ وما أورده القرآن الكريم عن المائدة هو الذي نعتمده في أمرها دون سواه‏.‏‏.‏

إن الله- سبحانه- يذكر عيسى بن مريم- في مواجهة قومه يوم الحشر وعلى مشهد من العالمين- بفضله عليه‏:‏ ‏{‏إذ قال الحواريون‏:‏ يا عيسى بن مريم، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

لقد كان الحواريون- وهم تلاميذ المسيح وأقرب أصحابه إليه وأعرفهم به- يعرفون أنه بشر‏.‏‏.‏ ابن مريم‏.‏‏.‏ وينادونه بما يعرفونه عنه حق المعرفة‏.‏ وكانوا يعرفون أنه ليس ربا وإنما هو عبد مربوب لله‏.‏ وأنه ليس ابن الله، إنما هو ابن مريم ومن عبيدالله؛ وكانوا يعرفون كذلك أن ربه هو الذي يصنع تلك المعجزات الخوارق على يديه، وليس هو الذي يصنعها من عند نفسه بقدرته الخاصة‏.‏‏.‏ لذلك حين طلبوا إليه، أن تنزل عليهم مائدة من السماء، لم يطلبوها منه، فهم يعرفون أنه بذاته لا يقدر على هذه الخارقة‏.‏ وإنما سألوه‏:‏

‏{‏يا عيسى ابن مريم، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

واختلفت التأويلات في قولهم‏:‏ ‏{‏هل يستطيع ربك‏}‏‏.‏‏.‏ كيف سألوا بهذه الصيغة بعد إيمانهم بالله وإشهاد عيسى- عليه السلام- على إسلامهم له‏.‏ وقيل إن معنى يستطيع ليس ‏(‏يقدر‏)‏ ولكن المقصود هو لازم الاستطاعة وهو أن ينزلها عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن معناها‏:‏ هل يستجيب لك إذا طلبت‏.‏ وقرئت‏:‏ ‏{‏هل تستطيع ربك‏}‏‏.‏ بمعنى هل تملك أنت أن تدعو ربك لينزل علينا مائدة من السماء‏.‏‏.‏

وعلى أية حال فقد رد عليهم عيسى- عليه السلام- محذراً إياهم من طلب هذه الخارقة‏.‏‏.‏ لأن المؤمنين لا يطلبون الخوارق، ولا يقترحون على الله‏.‏

‏{‏قال‏:‏ اتقوا الله إن كنتم مؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

ولكن الحواريين كرروا الطلب، معلنين عن علته وأسبابه وما يرجون من ورائه‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ نريد أن نأكل منها، وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا، ونكون عليها من الشاهدين‏}‏‏.‏

فهم يريدون أن يأكلوا من هذا الطعام الفريد الذي لا نظير له عند أهل الأرض‏.‏ وتطمئن قلوبهم برؤية هذه الخارقة وهي تتحقق أمام أعينهم؛ ويستيقنوا أن عيسى عليه السلام قد صدقهم، ثم يكونوا شهوداً لدى بقية قومهم على وقوع هذه المعجزة‏.‏

وكلها أسباب كما قلنا تصور مستوى معيناً دون مستوى أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- فهؤلاء طراز آخر بالموازنة مع هذا الطراز‏!‏

عندئذ اتجه عيسى- عليه السلام- إلى ربه يدعوه‏:‏

‏{‏قال عيسى ابن مريم‏:‏ اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا، وآية منك، وارزقنا وأنت خير الرازقين‏}‏‏.‏‏.‏

وفي دعاء عيسى- بن مريم- كما يكرر السياق القرآني هذه النسبة- أدب العبد المجتبى مع إلهه ومعرفته بربه‏.‏ فهو يناديه‏:‏ يا الله‏.‏ يا ربنا‏.‏ إنني أدعوك أن تنزل علينا مائدة من السماء، تعمنا بالخير والفرحة كالعيد، فتكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا؛ وأن هذا من رزقك فارزقنا وأنت خير الرازقين‏.‏‏.‏ فهو إذن يعرف أنه عبد؛ وأن الله ربه‏.‏ وهذا الاعتراف يعرض على مشهد من العالمين، في مواجهة قومه، يوم المشهد العظيم‏!‏

واستجاب الله دعاء عبده الصالح عيسى بن مريم؛ ولكن بالجد اللائق بجلاله سبحانه‏.‏‏.‏ لقد طلبوا خارقة‏.‏ واستجاب الله‏.‏ على أن يعذب من يكفر منهم بعد هذه الخارقة عذاباً شديداً بالغاً في شدته لا يعذبه أحداً من العالمين‏:‏

‏{‏قال الله‏:‏ إني منزلها عليكم، فمن يكفر بعد منكم، فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين‏}‏‏.‏‏.‏

فهذا هو الجد اللائق بجلال الله؛ حتى لا يصبح طلب الخوارق تسلية ولهواً‏.‏ وحتى لا يمضي الذين يكفرون بعد البرهان المفحم دون جزاء رادع‏!‏

وقد مضت سنة الله من قبل بهلاك من يكذبون بالرسل بعد المعجزة‏.‏‏.‏ فأما هنا فإن النص يحتمل أن يكون هذا العذاب في الدنيا، أو أن يكون في الآخرة‏.‏

ويسكت السياق بعد وعد الله وتهديده‏.‏‏.‏ ليمضي إلى القضية الأساسية‏.‏‏.‏ قضية الألوهية والربوبية‏.‏‏.‏ وهي القضية الواضحة في الدرس كله‏.‏‏.‏ فلنعد إلى المشهد العظيم فهو ما يزال معروضاً على أنظار العالمين‏.‏ لنعد إليه فنسمع استجواباً مباشراً في هذه المرة في مسألة الألوهية المدعاة لعيسى بن مريم وأمه‏.‏ استجواباً يوجه إلى عيسى- عليه السلام- في مواجهة الذين عبدوه‏.‏ ليسمعوه وهو يتبرأ إلى ربه في دهش وفزع من هذه الكبيرة التي افتروها عليه وهو منها بريء‏:‏

‏{‏وإذا قال الله‏:‏ يا عيسى ابن مريم، أأنت قلت للناس‏:‏ اتخذوني وأمي إلهين من دون الله‏؟‏ قال‏:‏ سبحانك‏:‏ ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق‏.‏ إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، إنك أنت علام الغيوب‏.‏ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به‏:‏ أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد‏.‏

إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏

وإن الله- سبحانه- ليعلم ماذا قال عيسى للناس‏.‏ ولكنه الاستجواب الهائل الرهيب في اليوم العظيم المرهوب‏:‏ الاستجواب الذي يقصد به إلى غير المسؤول؛ ولكن في صورته هذه وفي الإجابة عليه ما يزيد من بشاعة موقف المؤلهين لهذا العبد الصالح الكريم‏.‏‏.‏

إنها الكبيرة التي لا يطيق بشر عادي أن يقذف بها‏.‏‏.‏ أن يدعي الألوهية وهو يعلم أنه عبد‏.‏‏.‏ فكيف برسول من أولي العزم‏؟‏ كيف بعيسى بن مريم؛ وقد أسلف الله له هذه النعم كلها بعد ما اصطفاه بالرسالة وقبل ما اصطفاه‏؟‏ كيف به يواجه استجواباً عن ادعاء الألوهية، وهو العبد الصالح المستقيم‏؟‏

من أجل ذلك كان الجواب الواجف الراجف الخاشع المنيب‏.‏‏.‏ يبدأ بالتسبيح والتنزيه‏:‏

‏{‏قال‏:‏ سبحانك‏!‏‏}‏‏.‏

ويسرع إلى التبرؤ المطلق من أن يكون من شأنه هذا القول أصلاً‏:‏

‏{‏ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق‏}‏‏.‏

ويستشهد بذات الله سبحانه على براءته؛ مع التصاغر أمام الله وبيان خصائص عبوديته وخصائص ألوهية ربه‏:‏

‏{‏إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك‏.‏ إنك أنت علام الغيوب‏}‏‏.‏‏.‏

وعندئذ فقط، وبعد هذه التسبيحة الطويلة يجرؤ على الإثبات والتقرير فيما قاله وفيما لم يقله، فيثبت أنه لم يقل لهم إلا أن يعلن عبوديته وعبوديتهم لله ويدعوهم إلى عبادته‏:‏

‏{‏ما قلت لهم إلا ما أمرتني به‏:‏ أن اعبدوا الله ربي وربكم‏}‏‏.‏

ثم يخلي يده منهم بعد وفاته‏.‏‏.‏ وظاهر النصوص القرآنية يفيد أن الله- سبحانه- قد توفى عيسى بن مريم ثم رفعه إليه‏.‏ وبعض الآثار تفيد أنه حي عند الله‏.‏ وليس هنالك- فيما أرى- أي تعارض يثير أي استشكال بين أن يكون الله قد توفاه من حياة الأرض، وأن يكون حياً عنده‏.‏ فالشهداء كذلك يموتون في الأرض وهم أحياء عند الله‏.‏ أما صورة حياتهم عنده فنحن لا ندري لها كيفاً‏.‏ وكذلك صورة حياة عيسى- عليه السلام- وهو هنا يقول لربه‏:‏ إنني لا أدري ماذا كان منهم بعد وفاتي‏:‏

‏{‏وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد‏}‏‏.‏‏.‏

وينتهي إلى التفويض المطلق في أمرهم؛ مع تقرير عبوديتهم لله وحده‏.‏ وتقرير قوة الله على المغفرة لهم أو عذابهم؛ وحكمته فيما يقسم لهم من جزاء سواء كان هو المغفرة أو العذاب‏:‏

‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏

فيا لله للعبد الصالح في موقفه الرهيب‏!‏

وأين أولئك الذين أطلقوا هذه الفرية الكبيرة؛ التي يتبرأ منها العبد الطاهر البريء ذلك التبرؤ الواجف، ويبتهل من أجلها إلى ربه هذا الابتهال المنيب‏؟‏

أين هم في هذا الموقف، في هذا المشهد‏؟‏‏.‏

‏.‏ إن السياق لا يلقي إليهم التفاته واحدة‏.‏ فلعلهم يتذاوبون خزياً وندماً‏.‏ فلندعهم حيث تركهم السياق‏!‏ لنشهد ختام المشهد العجيب‏:‏

‏{‏قال الله‏:‏ هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم‏.‏ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك الفوز العظيم‏}‏‏.‏‏.‏

‏.‏‏.‏ هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم‏.‏‏.‏ إنه التعقيب المناسب على كذب الكاذبين؛ الذين أطلقوا تلك الفرية الضخمة على ذلك النبي الكريم‏.‏ في أعظم القضايا كافة‏.‏‏.‏ قضية الألوهية والعبودية، التي يقوم على أساس الحق فيها هذا الوجود كله وما فيه ومن فيه‏.‏‏.‏

‏.‏‏.‏ هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم‏.‏‏.‏ إنها كلمة رب العالمين، في ختام الاستجواب الهائل على مشهد من العالمين‏.‏‏.‏ وهي الكلمة الأخيرة في المشهد‏.‏ وهي الكلمة الحاسمة في القضية‏.‏ ومعها ذلك الجزاء الذي يليق بالصدق والصادقين‏:‏

‏{‏لهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏خالدين فيها أبداً‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏رضي الله عنهم‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏ورضوا عنه‏}‏‏.‏‏.‏

درجات بعد درجات‏.‏‏.‏ الجنات والخلود ورضا الله ورضاهم بما لقوا من ربهم من التكريم‏:‏

‏{‏ذلك الفوز العظيم‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد شهدنا المشهد- من خلال العرض القرآني له بطريقة القرآن الفريدة- وسمعنا الكلمة الأخيرة‏.‏‏.‏ شهدنا وسمعنا لأن طريقة التصوير القرآنية لم تدعه وعداً يوعد، ولا مستقبلاً ينتظر؛ ولم تدعه عبارات تسمعها الآذان أو تقرؤها العيون‏.‏ إنما حركت به المشاعر، وجسمته واقعاً اللحظة تسمعه الآذان وتراه العيون‏.‏‏.‏

على أنه إن كان بالقياس إلينا- نحن البشر المحجوبين- مستقبلاً ننتظره يوم الدين، فهو بالقياس إلى علم الله المطلق، واقع حاضر‏.‏ فالزمن وحجابه إنما هما من تصوراتنا نحن البشر الفانين‏.‏‏.‏

وفي نهاية هذا الدرس؛ وفي مواجهة الفرية الكبرى التي لم يفتر أضخم منها قط أتباع رسول‏!‏ في مواجهة الفرية الكبرى التي أطلقها أتباع المسيح عيسى بن مريم- عليه السلام- فرية ألوهيته؛ الفرية التي تبرأ منها هذا التبرؤ، وفوض ربه في أمر قومه بشأنها هذا التفويض‏.‏‏.‏

في مواجهة هذه الفرية، وفي نهاية الدرس الذي عرض ذلك الاستجواب الرهيب عنها، في ذلك المشهد العظيم‏.‏‏.‏ يجيء الإيقاع الأخير في السورة؛ يعلن تفرد الله- سبحانه- بملك السماوات والأرض وما فيهن؛ وقدرته- سبحانه- على كل شيء بلا حدود‏:‏

‏{‏لله ملك السماوات والارض وما فيهن، وهو على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏

ختام يتناسق مع تلك القضية الكبرى التي أطلقت حولها تلك الفرية الضخمة، ومع ذلك المشهد العظيم الذي يتفرد الله فيه بالعلم، ويتفرد بالألوهية، ويتفرد بالقدرة، وينيب إليه الرسل؛ ويفوضون إليه الأمر كله؛ ويفوض فيه عيسى بن مريم أمره وأمر قومه إلى العزيز الحكيم‏.‏ الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن، وهو على كل شيء قدير‏.‏‏.‏

وختام يتناسق مع السورة التي تتحدث عن «الدين» وتعرضه ممثلاً في اتباع شريعة الله وحده، والتلقي منه وحده، والحكم بما أنزله دون سواه‏.‏‏.‏ إنه المالك الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن، والمالك هو الذي يحكم‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ إنها قضية واحدة‏.‏‏.‏ قضية الألوهية‏.‏‏.‏ قضية التوحيد‏.‏‏.‏ وقضية الحكم بما أنزل الله‏.‏‏.‏ لتتوحد الألوهية، ويتحقق التوحيد‏.‏‏.‏

سورة الأنعام

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ‏(‏2‏)‏ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

إنها اللمسات العريضة للحقيقة الكبيرة؛ والإيقاعات المديدة في مطلع السورة‏.‏ وهي ترسم القاعدة الكلية لموضوع السورة ولحقيقة العقيدة‏:‏

‏{‏الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون‏}‏‏.‏‏.‏

إنها اللمسات الأولى‏.‏‏.‏ تبدأ بالحمد لله‏.‏ ثناء عليه، وتسبيحاً له، واعترافاً بأحقيته للحمد والثناء، على ألوهيته المتجلية في الخلق والإنشاء‏.‏‏.‏ بذلك تصل بين الألوهية المحمودة وخصيصتها الأولى‏.‏‏.‏ الخلق‏.‏‏.‏ وتبدأ بالخلق في أضخم مجالي الوجود‏.‏‏.‏ السماوات والأرض‏.‏‏.‏ ثم في أضخم الظواهر الناشئة عن خلق السماوات والأرض وفق تدبير مقصود‏.‏‏.‏ الظلمات والنور‏.‏‏.‏ فهي اللمسة العريضة التي تشمل الأجرام الضخمة في الكون المنظور، والمسافات الهائلة بين تلك الأجرام، والظواهر الشاملة الناشئة عن دورتها في الأفلاك‏.‏‏.‏ لتعجب من قوم يرون صفحة الوجود الضخمة الهائلة الشاملة تنطق بقدرة الخالق العظيم كما تنطق بتدبيره الحكيم، وهم بعد ذلك كله لا يؤمنون ولا يوحدون ولا يحمدون؛ بل يجعلون لله شركاء يعدلونهم به ويساوونه‏:‏

‏{‏ثم الذين كفروا بربهم يعدلون‏}‏‏.‏‏.‏

فيا للمفارقة الهائلة بين الدلائل الناطقة في الكون، وآثارها الضائعة في النفس‏!‏ يا للمفارقة التي تعدل الأجرام الضخمة، والمسافات الشاسعة، والظواهر الشاملة‏.‏‏.‏ بل تزيد‏.‏‏.‏

واللمسة الثانية‏:‏

‏{‏هو الذي خلقكم من طين، ثم قضى أجلاً، وأجل مسمى عنده، ثم أنتم تمترون‏}‏‏:‏

إنها لمسة الوجود الإنساني، التالي في وجوده للوجود الكوني‏.‏ ولظاهرتي الظلمات والنور‏.‏ لمسة الحياة الإنسانية في هذا الكون الخامد‏.‏ لمسة النقلة العجيبة من عتمة الطين المظلم إلى نور الحياة البهيج؛ تتناسق تناسقاً فنياً جميلاً مع ‏{‏الظلمات والنور‏}‏‏.‏‏.‏ وإلى جانبها لمسة أخرى متداخلة‏:‏ لمسة الأجل الأول المقضى للموت، والأجل الثاني المسمى للبعث‏.‏‏.‏ لمستان متقابلتان في الهمود والحركة كتقابل الطين الهامد والخلق الحي في النشأة‏.‏‏.‏ وبين كل متقابلين مسافة هائلة في الكنه والزمن‏.‏‏.‏ وكان من شأن هذا كله أن ينقل إلى القلب البشري اليقين بتدبير الله، واليقين بلقائه‏.‏ ولكن المخاطبين بالسورة يشكون في هذا ولا يستيقنون‏:‏

‏{‏ثم أنتم تمترون‏}‏‏.‏‏.‏

واللمسة الثالثة تضم اللمستين الأوليين في إطار واحد؛ وتقرر ألوهية الله في الكون والحياة الإنسانية سواء‏:‏

‏{‏وهو الله في السماوات وفي الأرض، يعلم سركم وجهركم، ويعلم ما تكسبون‏}‏‏.‏‏.‏

إن الذي خلق السماوات والأرض هو الله في السماوات وفي الأرض‏.‏ هو المتفرد بالألوهية فيهما على السواء‏.‏ وكل مقتضيات الألوهية متحققة عليهما، من خضوع للناموس الذي سنه الله لهما، وائتمار بأمره وحده‏.‏ وكذلك ينبغي أن يكون الشأن في حياة الإنسان‏.‏ فلقد خلقه الله كما خلق السماوات والأرض؛ وهو في تكوينه الأول من طين هذه الأرض؛ وما رزقه من خصائص جعلت منه إنساناً رزقه إياه الله؛ وهو خاضع من ناحية كيانه الجسمي للناموس الذي سنه الله له- رضي أم كره- يعطى وجوده وخلقه ابتداء بمشيئة الله، لا بمشيئته هو ولا بمشيئة أبيه وأمه‏:‏ فهما يلتقيان ولكن لا يملكان أن يعطيا جنيناً وجوده‏!‏ وهو يولد وفق الناموس الذي وضعه الله لمدة الحمل وظروف الولادة‏!‏ وهو يتنفس هذا الهواء الذي أوجده الله بمقاديره هذه؛ ويتنفسه بالقدر وبالكيفية التي أرادها الله له‏.‏

وهو يحس ويتألم، ويجوع ويعطش، ويأكل ويشرب‏.‏‏.‏ وبالجملة يعيش‏.‏‏.‏ وفق ناموس الله، على غير إرادة منه ولا اختيار‏.‏‏.‏ شأنه في هذا شأن السماوات والأرض سواء‏.‏

والله- سبحانه- يعلم سره وجهره‏.‏ ويعلم ما يكسب في حياته في سره وجهره‏.‏

والأليق به أن يتبع- إذن- ناموس الله في حياته الاختيارية- فيما يتخذه من تصورات اعتقادية، وقيم اعتبارية، وأوضاع حيوية- لتستقيم حياته الفطرية المحكومة بناموس الله؛ مع حياته الكسبية حين تحكمها شريعة الله‏.‏ ولكي لا يناقض بعضه بعضاً، ولا يصادم بعضه بعضاً؛ ولا يتمزق مزقاً بين ناموسين وشرعين‏:‏ أحدهما إلهي والأخر بشري وما هما بسواء‏.‏‏.‏

إن هذه الموجة العريضة الشاملة في مطلع السورة، إنما تخاطب القلب البشري والعقل البشري بدليل «الخلق» ودليل «الحياة» ممثلين في الآفاق وفي الأنفس‏.‏‏.‏ ولكنها لا تخاطب بهما الإدراك البشري خطاباً جدلياً لاهوتياً أو فلسفياً‏!‏ ولكن خطاباً موحياً موقظاً للفطرة، حيث يواجهها بحركة الخلق والإحياء؛ وحركة التدبير والهيمنة؛ في صورة التقرير لا في صورة الجدل؛ وبسلطان اليقين المستمد من تقرير الله؛ ومن شهادة الفطرة الداخلية بصدق هذا التقرير فيما تراه‏.‏

ووجود السماوات والأرض، وتدبيرهما وفق هذا النظام الواضح؛ ونشأة الحياة- وحياة الإنسان في قمتها- وسيرها في هذا الخط الذي سارت فيه‏.‏‏.‏ كلاهما يواجه الفطرة البشرية بالحق، ويوقع فيها اليقين بوحدانية الله‏.‏‏.‏ والوحدانية هي القضية التي تستهدف السورة كلها- بل القرآن كله- تقريرها‏.‏ وليست هي قضية «وجود» الله‏.‏ فلقد كانت المشكلة دائماً في تاريخ البشرية هي مشكلة عدم معرفة الإله الحق، بصفاته الحقة؛ ولم تكن هي مشكلة عدم الإيمان بوجود إله‏!‏

ومشركو العرب الذين كانت هذه السورة تواجههم ما كانوا يجحدون الله البتة؛ بل كانوا يقرون بوجوده سبحانه، وبأنه الخالق الرازق، المالك، المحيي المميت‏.‏‏.‏ إلى كثير من الصفات- كما يقرر القرآن ذلك في مواجهتهم، وفي حكاية أقوالهم- ولكن انحرافهم الذي وصمهم بالشرك هو أنهم ما كانوا يعترفون بمقتضى اعترافهم ذاك‏:‏ من تحكيم الله- سبحانه- في أمرهم كله؛ ونفي الشركاء له في تدبير شؤون حياتهم؛ واتخاذ شريعته وحدها قانوناً، ورفض مبدأ تحكيم غير الله في أي شأن من شؤون الحياة‏.‏

هذا هو الذي وصمهم بالشرك وبالكفر؛ مع إقرارهم بوجود الله سبحانه، ووصفه بتلك الصفات، التي من مقتضاها أن يتفرد سبحانه بالحكم في شأنهم كله، بما أنه الخالق الرازق المالك، كما كانوا يعترفون‏.‏

‏.‏ ومواجهتهم في مطلع هذه السورة بصفات الله هذه من الخلق للكون وللإنسان، ومن تدبيره لأمر الكون وأمر الإنسان؛ ومن علمه وإحاطته بسرهم وجهرهم وعملهم وكسبهم‏.‏‏.‏ إنما هو المقدمة التي يرتب عليها ضرورة إفراده سبحانه بالحاكمية والتشريع، كما أوضحنا في التعريف المجمل بخط السورة ومنهجها‏.‏

ودليل الخلق ودليل الحياة كما أنهما صالحان لمواجهة المشركين لتقرير الوحدانية، ولتقرير الحاكمية، هما كذلك صالحان لمواجهة اللوثات الجاهلية الحديثة التافهة في إنكار الله‏.‏‏.‏

والحقيقة أن هناك شكاً كثيراً فيما إذا كان هؤلاء الملحدون يصدقون أنفسهم‏!‏ فأغلب الظن أنها بدأت مناورة في وجه الكنيسة؛ ثم استغلها اليهود لرغبتهم في تدمير قاعدة الحياة البشرية الأساسية، كي لا يبقى على وجه الأرض من يقوم على هذه القاعدة غيرهم- كما يقولون في بروتوكولات حكماء صهيون- ومن ثم تنهار البشرية وتقع تحت سيطرتهم، بما أنهم هم وحدهم الذين سيحافظون على مصدر القوة الحقيقية الذي توفره العقيدة‏!‏

واليهود- مهما بلغ من كيدهم ومكرهم- لا يملكون أن يغلبوا الفطرة البشرية، التي تجد في قرارتها الإيمان بوجود إله- وإن كانت تضل فقط في معرفة الإله الحق بصفاته الحقة؛ كما أنها تنحرف بعدم توحيد سلطانه في حياتها، فتوصم بالشرك والكفر على هذا الأساس- ولكن بعض النفوس تفسد فطرتها، وتتعطل فيها أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية‏.‏ وهذه النفوس وحدها هي التي يمكن أن يفلح معها كيد اليهود الذي يستهدف نفي وجود الله فيها‏.‏ ولكن هذه النفوس المعطلة الفطرة ستظل قليلة وشاذة في مجموع البشر في كل زمان‏.‏‏.‏ والملحدون الحقيقيون على ظهر الأرض اليوم لا يتجاوزون بضعة ملايين في روسيا والصين من بين مئات الملايين الذين يحكمهم الملحدون بالحديد والنار؛ على الرغم من الجهد الناصب خلال أربعين عاماً في نزع الإيمان بكل وسائل التعليم والإعلام‏!‏

إنما يفلح اليهود في حقل آخر‏.‏ وهو تحويل الدين إلى مجرد مشاعر وشعائر‏.‏ وطرده من واقع الحياة‏.‏ وإيهام المعتقدين به أنهم يمكن أن يظلوا مؤمنين بالله؛ مع أن هناك أرباباً أخرى هي التي تشرع لحياتهم من دون الله‏!‏ ويصلون بذلك إلى تدمير البشرية فعلاً، حتى مع وهمها أنها لا تزال تؤمن بالله‏.‏

وهم يستهدفون الإسلام- قبل كل دين آخر- لأنهم يعرفون من تاريخهم كله، أنهم لم يغلبهم إلا هذا الدين يوم كان يحكم الحياة‏.‏ وأنهم غالبو أهله طالما أهله لا يحكمونه في حياتهم؛ مع توهمهم أنهم ما يزالون مسلمين مؤمنين بالله‏!‏ فهذا التخدير بوجود الدين- وهو غير موجود في حياة الناس- ضروري لتنجح المؤامرة‏.‏‏.‏ أو يأذن الله فيصحو الناس‏!‏

وأحسب- والله أعلم- أن اليهود الصهيونيين، والنصارى الصليبيين، كليهما، قد يئسوا من هذا الدين في هذه المنطقة الإسلامية الواسعة في إفريقية وآسيا وأوربا كذلك‏.‏

‏.‏ يئسوا من أن يحولوا الناس فيها إلى الإلحاد- عن طريق المذاهب المادية- كما يئسوا كذلك من تحويلهم إلى ديانات أخرى عن طريق التبشير أو الاستعمار‏.‏‏.‏ ذلك أن الفطرة البشرية بذاتها تنفر من الإلحاد وترفضه حتى بين الوثنيين- فضلاً على المسلمين- وأن الديانات الأخرى لا تجرؤ على اقتحام قلب عرف الإسلام، أو حتى ورث الإسلام‏!‏

وأحسب- والله أعلم- أنه كان من ثمرة اليأس من هذا الدين أن عدل اليهود والصهيونيون والنصارى الصليبيون عن مواجهة الإسلام جهرة عن طريق الشيوعية أو عن طريق التبشير؛ فعدلوا إلى طرائق أخبث، وإلى حبائل أمكر‏.‏‏.‏ لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع في المنطقة كلها تتزيا بزي الإسلام؛ وتتمسح في العقيدة؛ ولا تنكر الدين جملة‏.‏‏.‏ ثم هي تحت هذا الستار الخادع، تنفذ جميع المشروعات التي أشارت بها مؤتمرات التبشير وبروتوكولات صهيون، ثم عجزت عن تنفيذها كلها في المدى الطويل‏!‏

إن هذه الأنظمة والأوضاع ترفع راية الإسلام- أو على الأقل تعلن احترامها للدين- بينما هي تحكم بغير ما أنزل الله؛ وتقصي شريعة الله عن الحياة؛ وتحل ما حرم الله؛ وتنشر تصورات وقيماً مادية عن الحياة والأخلاق تدمر التصورات والقيم الإسلامية؛ وتسلط جميع أجهزة التوجيه والإعلام لتدمير القيم الأخلاقية الإسلامية، وسحق التصورات والاتجاهات الدينية؛ وتنفذ ما نصت عليه مؤتمرات المبشرين وبروتوكولات الصهيونيين، من ضرورة إخراج المرأة المسلمة إلى الشارع، وجعلها فتنة للمجتمع، باسم التطور والتحضر ومصلحة العمل والإنتاج؛ بينما ملايين الأيدي العاملة في هذه البلاد متعطلة لا تجد الكفاف‏!‏ وتيسر وسائل الانحلال وتدفع الجنسين إليها دفعاً بالعمل والتوجيه‏.‏‏.‏ كل ذلك وهي تزعم أنها مسلمة وأنها تحترم العقيدة‏!‏ والناس يتوهمون أنهم يعيشون في مجتمع مسلم، وأنهم هم كذلك مسلمون‏!‏ أليس الطيبون منهم يصلون ويصومون‏؟‏ أما أن تكون الحاكمية لله وحده أو تكون للأرباب المتفرقة، فهذا ما قد خدعتهم عنه الصليبية والصهيونية والتبشير والاستعمار والاستشراق وأجهزة الإعلام الموجهة؛ وأفهمتهم أنه لا علاقة له بالدين‏.‏ وأن المسلمين يمكن أن يكونوا مسلمين؛ وفي دين الله؛ بينما حياتهم كلها تقوم على تصورات وقيم وشرائع وقوانين ليست من هذا الدين‏!‏

وإمعاناً في الخداع والتضليل؛ وإمعاناً من الصهيونية العالمية والصليبية العالمية في التخفي، فإنها تثير حروباً مصطنعة- باردة أو ساخنة- وعداوات مصطنعة في شتى الصور، بينها وبين هذه الأنظمة والأوضاع التي أقامتها والتي تكفلها بالمساعدات المادية والأدبية، وتحرسها بالقوى الظاهرة والخفية، وتجعل أقلام مخابراتها في خدمتها وحراستها المباشرة‏!‏

تثير هذه الحروب المصطنعة والعداوات المصطنعة، لتزيد من عمق الخدعة؛ ولتبعد الشبهة عن العملاء، الذين يقومون لها بما عجزت هي عن إتمامه في خلال ثلاثة قرون أو تزيد؛ من تدمير القيم والأخلاق؛ وسحق العقائد والتصورات؛ وتجريد المسلمين في هذه الرقعة العريضة من مصدر قوتهم الأول‏.‏

‏.‏ وهو قيام حياتهم على أساس دينهم وشريعتهم‏.‏‏.‏ وتنفيذ المخططات الرهيبة التي تضمنتها بروتوكولات الصهيونيين ومؤتمرات المبشرين؛ في غفلة من الرقباء والعيون‏!‏

فإذا بقيت بقية في هذه الرقعة لم تجز عليها الخدعة؛ ولم تستسلم للتخدير باسم الدين المزيف؛ وباسم الأجهزة الدينية المسخرة لتحريف الكلم عن مواضعه؛ ولوصف الكفر بأنه الإسلام؛ والفسق والفجور والانحلال، بأنه تطور وتقدم وتجدد‏.‏‏.‏ إذا بقيت بقية كهذه سلطت عليها الحرب الساحقة الماحقة؛ وصبت عليها التهم الكاذبة الفاجرة وسحقت سحقاً، بينما وكالات الأنباء العالمية وأجهزة الإعلام العالمية خرساء صماء عمياء‏!‏‏!‏‏!‏

ذلك بينما الطيبون السذج من المسلمين يحسبون أنها معركة شخصية، أو طائفية، لا علاقة لها بالمعركة المشبوبة مع هذا الدين؛ ويروحون يشتغلون في سذاجة بلهاء- من تأخذه الحمية للدين منهم وللأخلاق- بالتنبيه إلى مخالفات صغيرة، وإلى منكرات صغيرة، ويحسبون أنهم أدوا واجبهم كاملاً بهذه الصيحات الخافتة‏.‏‏.‏ بينما الدين كله يسحق سحقاً، ويدمر من أساسه؛ وبينما سلطان الله يغتصبه المغتصبون، وبينما الطاغوت- الذي أمروا أن يكفروا به- هو الذي يحكم حياة الناس جملة وتفصيلاً‏!‏

إن اليهود الصهيونيين والنصارى الصليبيين يفركون أيديهم فرحاً بنجاح الخطة وجواز الخدعة؛ بعدما يئسوا من هذا الدين أن يقضوا عليه مواجهة باسم الإلحاد، أو يحولوا الناس عنه باسم التبشير، فترة طويلة من الزمان‏.‏‏.‏

إلا أن الأمل في الله أكبر؛ والثقة في هذا الدين أعمق، وهم يمكرون والله خير الماكرين‏.‏ وهو الذي يقول‏:‏ ‏{‏وقد مكروا مكرهم، وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال‏.‏ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله، إن الله عزيز ذو انتقام‏}‏ أما مواجهة دليل الخلق ودليل الحياة للوثة الإلحاد، فهي مواجهة قوية، لا يجد الملحدون إزاءها إلاّ المماحلة والمغالطة والالتواء‏:‏

إن وجود هذا الكون ابتداء، بهذا النظام الخاص، يستلزم- بمنطق الفطرة البديهي وبمنطق العقل الواعي على السواء- أن يكون وراءه خالق مدبر‏.‏‏.‏

فالمسافة بين الوجود والعدم مسافة لا يملك الإدراك البشري أن يعبرها، إلا بتصور إله ينشئ ويخلق ويوجد هذا الوجود‏.‏

والذين يلحدون يعمدون إلى هذه الفجوة فيريدون ملأها بالمكابرة‏.‏ ويقولون‏:‏ إنه لا داعي لأن نفترض أنه كان هناك عدم قبل الوجود‏!‏‏.‏‏.‏ ومن هؤلاء فيلسوف عرف بأنه فيلسوف «الروحية» المدافع عنها في وجه «المادية»‏.‏ وعلى هذا الأساس ربما أشاد به بعض المخدوعين من «المسلمين» واستأنسوا بأقواله لدينهم كأنما ليؤازروا دين الله بقول عبد من العبيد‏.‏‏.‏ هذا الفيلسوف هو «برجسون»‏.‏‏.‏ اليهودي‏!‏‏!‏‏!‏

إنه يقول‏:‏ إن هذا الوجود الكوني لم يسبقه عدم‏!‏ وإن فرض الوجود بعدم العدم ناشئ من طبيعة العقل البشري الذي لا يستطيع أن يتصور إلا على هذا النحو‏.‏

فإلى أي منطق يا ترى يستند برجسون إذن في إثبات أن الوجود الكوني لم يسبقه عدم‏؟‏

إلى العقل‏؟‏ لا‏.‏ فإن العقل- كما يقرر- لا يمكن أن يتصور إلا وجوداً بعد عدم‏!‏ إلى وحي من الله‏؟‏ إنه لا يدعي هذا‏.‏ وإن كان يقول‏:‏ إن حدس المتصوفة كان دائماً يجد إلهاً ولا بد أن نصدق هذا الحدس المطرد ‏(‏الإله الذي يتحدث عنه برجسون ليس هو الله إنما هو الحياة‏!‏‏)‏‏.‏‏.‏ فأين المصدر الثالث الذي يعتمد عليه ‏(‏برجسون‏)‏ إذن في إثبات أن الوجود الكوني غير مسبوق بعدم‏؟‏ لا ندري‏!‏

إنه لا بد من الالتجاء إلى تصور خالق خلق هذا الكون‏.‏‏.‏ لا بد من الالتجاء إلى هذا التصور لتعليل مجرد وجود الكون‏.‏‏.‏ فكيف إذا كان الحال أنه لم يوجد مجرد وجود‏.‏ ولكنه وجد محكوماً بنواميس لا تتخلف، محسوباً فيها كل شيء بمقاييس، قصارى العقول البشرية أن تدرك أطرافاً منها، بعد التدبر الطويل‏؟‏‏!‏

كذلك نشأة هذه الحياة‏.‏ والمسافة بينها وبين المادة- أياً كان مدلول المادة ولو كان هو الإشعاع- لا يمكن تعليلها إلا بتصور وجود إله خالق مدبر‏.‏ يخلق الكون بحالة تسمح بنشأة الحياة فيه؛ وتسمح بكفالة الحياة أيضاً بعد وجودها‏.‏ والحياة الإنسانية بخصائصها الباهرة درجة فوق مجرد الحياة‏.‏‏.‏ وأصله من طين‏.‏‏.‏ أي من مادة هذه الأرض وجنسها؛ ولا بد من إرادة مدبرة تمنحه الحياة، وتمنحه خصائص الإنسان عن قصد واختيار‏.‏

وكل المحاولات التي بذلها الملحدون لتعليل نشأة الحياة باءت بالفشل- عند العقل البشري ذاته- وآخر ما قرأته في هذا الباب محاولة ‏(‏ديورانت‏)‏ المتفلسف الأمريكي للتقريب بين نوع الحركة الذي في الذرة- وهو يسميه درجة من الحياة- ونوع الحياة المعروف في الأحياء‏.‏ وذلك في جهد مستميت لملء الفجوة بين المادة الهامدة والحياة النابضة‏.‏ بقصد الاستغناء عن الإله الذي ينشئ الحياة في الموات‏!‏

ولكن هذه المحاولة المستميتة لا تنفعه ولا تنفع الماديين في شيء‏.‏‏.‏ ذلك أنه إن كانت الحياة صفة كامنة في المادة، ولم يكن وراء هذه المادة قوة أخرى ذات إرادة، فما الذي يجعل الحياة التي في المادة الكونية تتبدى في درجات بعضها أرقى وأعقد من بعض‏؟‏ فتتبدى في الذرة مجرد حركة آلية غير واعية‏.‏ ثم تتبدى في النبات في صورة عضوية‏.‏ ثم تتبدى في الأحياء المعروفة في صورة عضوية أكثر تركيباً وتعقيداً‏.‏‏.‏

ما الذي جعل المادة- المتضمنة للحياة كما يقال- يأخذ بعضها من عنصر الحياة أكثر مما يأخذ البعض الأخر، بلا إرادة مدبرة‏؟‏ ما الذي جعل الحياة الكامنة في المادة، تختلف في مدارجها المترقية‏؟‏‏!‏

إننا نفهم هذا التفاوت يوم نقدر أن هناك إرادة مدبرة هي التي تصنع ذلك مختارة مريدة‏.‏

فأما حين تكون المادة ‏(‏الحية ولنفرض ذلك‏!‏‏)‏ هي وحدها، فإنه يستحيل على العقل البشري ذاته أن يفهم هذا التفاوت أو يعلله‏!‏

إن التعليل الإسلامي لانبثاق الحياة في درجاتها المتفاوتة هو الحل الوحيد لهذه الظاهرة التي لا تعللها المحاولات المادية البائسة‏!‏

وإذ كنا- في هذه الظلال- لا نخرج عن المنهج القرآني؛ فإننا لا نمضي أكثر من هذا في مواجهة لوثة الإلحاد ببراهين الخلق والتدبير والحياة‏.‏‏.‏ فالقرآن الكريم لم يجعل قضية وجود الله قضيته‏.‏ لعلم الله أن الفطرة ترفض هذه اللوثه‏.‏ إنما القضية هي قضية توحيد الله؛ وتقرير سلطانه في حياة العبد؛ وهي القضية التي تتوخاها السورة في هذه الموجة التي استعرضناها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 11‏]‏

‏{‏وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏4‏)‏ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ‏(‏6‏)‏ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ‏(‏8‏)‏ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

هذه هي الموجة التالية في افتتاح السورة؛ بعد الموجة الأولى ذات اللمسات العريضة‏.‏‏.‏ الموجة التي غمرت الكون كله بحقيقة الوجود الإلهي متجلية في خلق السماوات والأرض، منشئة للظلمات والنور؛ ثم في خلق الإنسان من مادة هذه الأرض؛ وتقدير أجله الذي ينتهي بالموت؛ والاحتفاظ بسر الأجل الآخر المضروب للبعث؛ والإحاطة بسر الناس وجهرهم، وما يكسبون في السر والجهر‏.‏‏.‏

هذا الوجود الإلهي الذي يتجلى في الآفاق والأنفس، هو وجود متفرد متوحد؛ ليس مثله وجود؛ لأنه ما من خالق غير الله؛ كما أنه وجود غامر باهر قاهر يبدو التكذيب في ظله والإعراض عن هذه الآيات الهائلة، منكراً قبيحاً، لا سند له، ولا عذر لصاحبه‏.‏‏.‏

ومن ثم يعرض السياق موقف المشركين الذين يعارضون الدعوة الإسلامية في ظل هذا الوجود الغامر الباهر القاهر؛ فيبدو هذا الموقف منكراً قبيحاً، حتى في حس أصحابه الذين يواجههم هذا القرآن بهذه الحقيقة‏!‏ ويكسب القرآن المعركة في الجولة الأولى‏.‏ يكسبها في أعماق فطرة الناس، على الرغم من مكابرتهم ومن عنادهم الظاهرين‏!‏

وهو يعرض في هذه الموجة صورة العناد والمكابرة؛ ويواجهها بالتهديد مرة؛ وبتوجيه القلوب إلى مصارع المكذبين من قبل مرة؛ ويحشد فيها عدة مؤثرات وموحيات‏.‏ بعد الهزة الأولى التي مضت بها تلك الموجة العريضة‏:‏

‏{‏وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين‏.‏ فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون‏.‏ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين‏}‏‏.‏‏.‏

إنهم يتخذون موقف الإعراض عناداً واصراراً‏.‏ فليس الذي ينقصهم هو الآيات الداعية إلى الإيمان، ولا العلامات الدالة على صدق الدعوة والداعية، ولا البراهين الناطقة بما وراء الدعوة والداعية من ألوهية حقة، هي التي يدعون إلى الإيمان بها والاستسلام لها‏.‏‏.‏ ليس هذا هو الذي ينقصهم، إنما تنقصهم الرغبة في الاستجابة، ويمسك بهم العناد والإصرار، ويقعد بهم الإعراض عن النظر والتدبر‏:‏

‏{‏وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين‏}‏‏.‏‏.‏

وحين يكون الأمر كذلك‏.‏ حين يكون الإعراض متعمدا ومقصوداً- مع توافر الأدلة، وتواتر الآيات ووضوح الحقائق- فإن التهديد بالبطش قد يحدث الهزة التي تفتح نوافذ الفطرة حين تسقط عنها حاجز الكبر والعناد‏:‏

‏{‏فقد كذبوا بالحق لما جاءهم‏.‏ فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون‏}‏‏.‏‏.‏

إنه الحق هذا الذي جاءهم من لدن خالق السماوات والأرض، وجاعل الظلمات والنور، وخالق الإنسان من طين، والإله في السماوات وفي الأرض الذي يعلم سرهم وجهرهم ويعلم ما يكسبون‏.‏

‏.‏ إنه الحق وقد كذبوا به، مصرين على التكذيب، معرضين عن الآيات، مستهزئين بالدعوة إلى الإيمان‏.‏‏.‏ فليرتقبوا إذن أن يأتيهم الخبر اليقين عما كانوا به يستهزئون‏!‏

ويتركهم أمام هذا التهديد المجمل، الذي لا يعرفون نوعه ولا موعده‏.‏‏.‏ يتركهم يتوقعون في كل لحظة أن تأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون‏!‏ حيث يتكشف لهم الحق أمام العذاب المرتقب المجهول‏!‏

وفي موقف التهديد يلفت أعناقهم وأنظارهم وقلوبهم وأعصابهم إلى مصارع المكذبين من قبلهم- وقد كانوا يعرفون بعضها في دور عاد بالأحقاف وثمود بالحجر، وكانت أطلالهم باقية يمر عليها العرب في رحلة الشتاء للجنوب وفي رحلة الصيف للشمال، كما كانوا يمرون بقرى لوط المخسوفة ويعرفون ما يتناقله المحيطون بها من أحاديث- فالسياق يلفتهم إلى هذه المصارع وبعضها منهم قريب‏.‏

‏{‏ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، وأرسلنا السماء عليهم مدراراً، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم‏.‏ فأهلكناهم بذنوبهم، وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين‏}‏‏.‏‏.‏

ألم يروا إلى مصارع الأجيال الغابرة‏.‏ وقد مكنهم الله في الأرض، وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان ما لم يعط مثله للمخاطبين من قريش في الجزيرة؛ وأرسل المطر عليهم متتابعاً ينشئ في حياتهم الخصب والنماء ويفيض عليهم من الأرزاق‏.‏‏.‏ ثم ماذا‏؟‏ ثم عصوا ربهم، فأخذهم الله بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم جيلاً آخر، ورث الأرض من بعدهم؛ ومضوا هم لا تحفل بهم الأرض‏!‏ فقد ورثها قوم آخرون‏!‏ فما أهون المكذبين المعرضين أصحاب القوة والتمكين من البشر‏!‏ ما أهونهم على الله؛ وما أهونهم على هذه الأرض أيضاً‏!‏ لقد أهلكوا وغبروا فما أحست هذه الأرض بالخلاء والخواء؛ إنما عمرها جيل آخر؛ ومضت الأرض في دورتها كأن لم يكن هنا سكان؛ ومضت الحياة في حركتها كأن لم يكن هنا أحياء‏!‏

وهي حقيقة ينساها البشر حين يمكن الله لهم في الأرض‏.‏ ينسون أن هذا التمكين إنما تم بمشيئة الله، ليبلوهم فيه‏:‏ أيقومون عليه بعهد الله وشرطه، من العبودية له وحده، والتلقي منه وحده- بما أنه هو صاحب الملك وهم مستخلفون فيه- أم يجعلون من أنفسهم طواغيت، تدعي حقوق الألوهية وخصائصها؛ ويتصرفون فيما استخلفوا فيه تصرف المالك لا المستخلف‏.‏

إنها حقيقة ينساها البشر- إلا من عصم الله- وعندئذ ينحرفون عن عهد الله وعن شرط الاستخلاف؛ ويمضون على غير سنة الله؛ ولا يتبين لهم في أول الطريق عواقب هذا الانحراف، ويقع الفساد رويداً رويداً وهم ينزلقون ولا يشعرون‏.‏‏.‏ حتى يستوفي الكتاب أجله؛ ويحق وعد الله‏.‏‏.‏ ثم تختلف أشكال النهاية‏:‏ مرة يأخذهم الله بعذاب الاستئصال- بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم كما وقع لكثير من الأقوام- ومرة يأخذهم بالسنين ونقص الأنفس والثمرات كما حدث كذلك لأقوام- ومرة يأخذهم بأن يذيق بعضهم بأس بعض؛ فيعذب بعضهم بعضاً، ويدمر بعضهم بعضاً، ويؤذي بعضهم بعضاً، ولا يعود بعضهم يأمن بعضاً؛ فتضعف شوكتهم في النهاية؛ ويسلط الله عليهم عباداً له- طائعين أو عصاة- يخضدون شوكتهم، ويقتلعونهم مما مكنوا فيه؛ ثم يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم بما مكنهم‏.‏

‏.‏ وهكذا تمضي دورة السنة‏.‏‏.‏ السعيد من وعى أنها السنة، ومن وعى أنه الابتلاء؛ فعمل بعهد الله فيما استخلف فيه‏.‏ والشقي من غفل عن هذه الحقيقة، وظن أنه أوتيها بعلمه، أو أوتيها بحيلته، أو أوتيها جزافاً بلا تدبير‏!‏

وإنه لما يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي، أو المستهتر الفاسد، أو الملحد الكافر، ممكناً له في الأرض، غير مأخوذ من الله‏.‏‏.‏ ولكن الناس إنما يستعجلون‏.‏‏.‏ إنهم يرون أول الطريق أو وسطه؛ ولا يرون نهاية الطريق‏.‏‏.‏ ونهاية الطريق لا ترى إلا بعد أن تجيء‏!‏ لا ترى إلا في مصارع الغابرين بعد أن يصبحوا أحاديث‏.‏‏.‏ والقرآن الكريم يوجه إلى هذه المصارع ليتنبه المخدوعون الذين لا يرون- في حياتهم الفردية القصيرة- نهاية الطريق؛ فيخدعهم ما يرون في حياتهم القصيرة ويحسبونه نهاية الطريق‏!‏

إن هذا النص في القرآن‏:‏ ‏{‏فأهلكناهم بذنوبهم‏}‏‏.‏‏.‏ وما يماثله، وهو يتكرر كثيراً في القرآن الكريم‏.‏‏.‏ إنما يقرر حقيقة، ويقرر سنة، ويقرر طرفاً من التفسير الإسلامي لأحداث التاريخ‏.‏‏.‏

إنه يقرر حقيقة أن الذنوب تهلك أصحابها، وأن الله هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم؛ وأن هذه سنة ماضية- ولو لم يرها فرد في عمره القصير، أو جيل في أجله المحدود- ولكنها سنة تصير إليها الأمم حين تفشو فيها الذنوب؛ وحين تقوم حياتها على الذنوب‏.‏‏.‏ كذلك هي جانب من التفسير الإسلامي للتاريخ‏:‏ فإن هلاك الأجيال واستخلاف الأجيال؛ من عوامله، فعل الذنوب في جسم الأمم؛ وتأثيرها في إنشاء حالة تنتهي إلى الدمار؛ إما بقارعة من الله عاجلة- كما كان يحدث في التاريخ القديم- وإما بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي، الذي يسري في كيان الأمم- مع الزمن- وهي توغل في متاهة الذنوب‏!‏

وأمامنا في التاريخ القريب- نسبياً- الشواهد الكافية على فعل الانحلال الأخلاقي، والدعارة الفاشية، واتخاذ المرأة فتنة وزينة، والترف والرخاوة، والتلهي بالنعيم‏.‏‏.‏ أمامنا الشواهد الكافية من فعل هذا كله في انهيار الإغريق والرومان- وقد أصبحوا أحاديث- وفي الانهيار الذي تتجلى أوائله، وتلوح نهايته في الأفق في أمم معاصرة، كفرنسا وانجلترا كذلك- على الرغم من القوة الظاهرة والثراء العريض‏.‏

إن التفسير المادي للتاريخ يحذف هذا الجانب حذفاً باتاً من تفسيره لأطوار الأمم وأحداث التاريخ، ذلك أن وجهته ابتداء هي استبعاد العنصر الأخلاقي من الحياة، واستبعاد القاعدة الاعتقادية التي يقوم عليها‏.‏‏.‏ ولكن هذا التفسير يضطر إلى مماحكات مضحكة في تفسير أحداث وأطوار في حياة البشرية لا سبيل إلى تفسيرها إلاّ على أساس القاعدة الاعتقادية‏.‏

والتفسير الإسلامي- بشموله وجديته وصدقه وواقعيته- لا يغفل أثر العناصر المادية- التي يجعلها التفسير المادي هي كل شيء- ولكنه يعطيها مكانها الذي تستحقه في رقعة الحياة العريضة؛ ويبرز العناصر الفعالة الأخرى التي لا ينكرها إلاّ أصحاب العناد الصفيق لواقعيات الوجود‏.‏‏.‏ يبرز قدر الله من وراء كل شيء؛ ويبرز التغير الداخلي في الضمائر والمشاعر والعقائد والتصورات؛ ويبرز السلوك الواقعي والعنصر الأخلاقي‏.‏‏.‏ ولا يغفل عاملاً واحداً من العوامل التي تجري بها سنة الله في الحياة‏.‏‏.‏

ثم يمضي السياق يصور طبيعة العناد، التي ينبعث منها ذلك الإعراض؛ فيرسم نموذجاً عجيباً من النفوس البشرية‏.‏‏.‏ ولكنه نموذج مع ذلك مكرور، يجده الإنسان في كل عصر وفي كل بيئة وفي كل جيل‏.‏‏.‏ نموذج النفس المكابرة، التي يخرق الحق عينها ولا تراه‏!‏ والتي تنكر ما لا يُنكر لأنه من الوضوح بحيث يخجل المخالف أن ينكره‏!‏ على الأقل من باب الحياء‏!‏‏.‏‏.‏ والقرآن يرسم هذا النموذج شاخصاً في كلمات قلائل على طريقة التعبير القرآني المبدعة المعجزة في التعبير والتصوير‏:‏

‏{‏ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم، لقال الذين كفروا‏:‏ إن هذا إلا سحر مبين‏}‏‏.‏‏.‏

إنه ليس الذي يجعلهم يعرضون عن أيات الله، أن البرهان على صدقها ضعيف، أو غامض، أو تختلف فيه العقول‏.‏ إنما الذي يجعلهم يقفون هذا الموقف هو المكابرة الغليظة والعناد الصفيق‏!‏ وهو الإصرار مبدئياً على الرفض والإنكار وعدم اعتبار البرهان أو النظر إليه أصلاً‏!‏ ولو أن الله- سبحانه- نزل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذا القرآن، لا عن طريق الوحي الذي لا يرونه؛ ولكن في ورقة منظورة ملموسة محسوسة؛ ثم لمسوا هم هذه الورقة بأيديهم- لا سماعاً عن غيرهم، ولا مجرد رؤية بعيونهم- ما سلموا بهذا الذي يرونه ويلمسونه، ولقالوا جازمين مؤكدين‏:‏

‏{‏إن هذا الا سحر مبين‏}‏‏.‏

وهي صورة صفيقة، منكرة، تثير الاشمئزاز، وتستعدي من يراها عليها‏!‏ صورة تثير النفس لتتقدم فتصفعها‏!‏ حيث لا مجال مع هذه الجبلات لحجة أو جدل أو دليل‏!‏

وتصويرها على هذا النحو- وهي صورة تمثل حقيقة لنماذج مكرورة- يؤدي غرضين أو عدة أغراض‏:‏ إنه يجسم للمعارضين أنفسهم حقيقة موقفهم الشائن الكريه البغيض؛ كالذي يرفع المرآة لصاحب الوجه الشائه والسحنة المنكرة، ليرى نفسه في هذه المرآة، ويخجل منها‏!‏

وهو في الوقت ذاته يستجيش ضمائر المؤمنين تجاه إعراض المشركين وإنكار المنكرين؛ ويثبت قلوبهم على الحق، فلا تتأثر بالجو المحيط من التكذيب والإنكار والفتنة والإيذاء‏.‏

كذلك هو يوحي بحلم الله الذي لا يعجل على هؤلاء المعارضين المكذبين، وهم في مثل هذا العناد المنكر الصفيق‏.‏

وكلها أسلحة وحركة في المعركة التي كانت تخوضها الجماعة المسلمة بهذا القرآن في مواجهة المشركين‏.‏

بعد ذلك يحكي نموذجاً من اقتراحات المشركين، التي يمليها التمحل والعناد، كما يمليها الجهل وسوء التصور‏.‏‏.‏ ذلك إذ يقترحون أن ينزل الله- سبحانه- على الرسول- صلى الله عليه وسلم- ملكاً يصاحبه في تبليغ الدعوة؛ ويصدقه في أنه مرسل من عند الله‏.‏‏.‏ ثم يبين لهم ما في هذا الاقتراح من جهل بطبيعة الملائكة، وبسنة الله في إرسالهم، كما يبين لهم رحمة الله بهم في أن لا يستجيب لهم فيما يقترحون‏:‏

‏{‏وقالوا‏:‏ لولا أنزل عليه ملك‏!‏ ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون‏.‏ ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً، وللبسنا عليهم ما يلبسون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا الاقتراح الذي كان المشركون يقترحونه؛ والذي اقترحه من قبلهم أقوام كثيرون على رسلهم- كما يحكي القرآن الكريم في قصصهم- والرد القرآني عليه في هذا الموضع‏.‏‏.‏ هذا وذاك يثيران جملة حقائق نلم بها هنا بقدر الإمكان‏:‏

الحقيقة الأولى‏:‏ أن أولئك المشركين من العرب لم يكونوا يجحدون الله؛ ولكنهم كانوا يريدون برهاناً على ان الرسول- صلى الله عليه وسلم- مرسل من عنده؛ وأن هذا الكتاب الذي يتلوه عليهم منزل من عند الله حقاً‏.‏ ويقترحون برهاناً معيناً‏:‏ هو أن ينزل الله عليه ملكاً يصاحبه في الدعوة ويصدق دعواه‏.‏‏.‏ ولم يكن هذا إلا اقتراحاً من اقتراحات كثيرة من مثله، ورد ذكرها في القرآن في مواضع منه شتى‏.‏ وذلك كالذي ورد في سورة الإسراء، وهو يتضمن هذا الاقتراح، واقتراحات من نوعه تدل كلها على التعنت الذي وصفته الآية السابقة، كما تدل على الجهل بكثير من الحقائق الكونية وكثير من القيم الحقيقية‏:‏ ‏{‏ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً‏.‏ وقالوا‏:‏ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏.‏ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً‏.‏ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً، أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً، أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه‏.‏ قل‏:‏ سبحان ربي‏!‏ هل كنت إلا بشراً رسولاً‏؟‏ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا‏:‏ أبعث الله بشراً رسولاً‏؟‏ قل‏:‏ لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً‏}‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 89-95‏)‏‏.‏

ومن مثل هذه الاقتراحات يتبين التعنت كما تتبين الجهالة‏.‏‏.‏ وإلا فقد كان لهم من خلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي يعرفونه جيداً بالخبرة الطويلة؛ ما يدلهم على صدقة وأمانته وهم كانوا يلقبونه الأمين، ويودعون لديه أماناتهم حتى وهم معه على أشد الخلاف؛ وقد هاجر- صلى الله عليه وسلم- وترك ابن عمه علياً- رضي الله عنه- يرد إلى قريش ودائعهم التي كانت ما تزال عنده؛ وهم معه على الخلاف الذي يدبرون معه قتله‏!‏ وكذلك كان صدقه عندهم مستيقناً كأمانته؛ فإنه لما دعاهم أول مرة دعوة جماعية جهرية على الصفا- حين أمره ربه بذلك- وسألهم‏:‏ إن كانوا يصدقونه لو أنبأهم بنبأ، أجابوه كلهم بأنه عندهم مصدق‏.‏

‏.‏ فلو كانوا يريدون أن يعلموا صدقه لقد كان لهم في ماضيه برهان، ولقد كانوا يعلمون‏:‏ إنه لصادق‏.‏‏.‏ وسيأتي في سياق السورة خبر الله الصادق لنبيه‏:‏ أنهم لا يكذبونه ‏{‏قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون‏.‏ فإنهم لا يكذبونك‏.‏ ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون‏}‏ فهي الرغبة في الإنكار والإعراض؛ وهو العناد والاستكبار عن الحق‏.‏ وليس أنهم يشكون في صدقه صلى الله عليه وسلم ‏!‏

ثم لقد كان لهم في القرآن ذاته برهان أصدق من هذه البراهين المادية التي يطلبون‏.‏ فإن هذا القرآن شاهد بذاته، بتعبيره ثم بمحتوى هذا التعبير، على أنه من عند الله‏.‏‏.‏ وهم لم يكونوا يجحدون الله‏.‏‏.‏ وهم- على وجه التأكيد- كانوا يحسون ذلك ويعرفونه‏.‏‏.‏ كانوا يعرفون بحسهم اللغوي الأدبي الفني مدى الطاقة البشرية؛ ويعرفون أن هذا القرآن فوق هذا المدى- وهذا الإحساس يعرفه من يمارس فن القول ويتذوقه أكثر مما يعرفه من ليست له هذه الممارسة‏.‏ وكل من مارس فن القول يدرك إدراكاً واضحاً أن هذا القرآن فوق ما يملك البشر أن يبلغوا؛ لا ينكر هذا إلا معاند يجد الحق في نفسه ثم يخفيه‏!‏ كما أن المحتوى القرآني من التصور الاعتقادي والمنهج الذي يتخذه لتقرير هذا الاعتقاد في الإدراك البشري، ونوع المؤثرات واللمسات الموحية‏.‏‏.‏ كلها غير معهود في طبيعة التصورات البشرية والمناهج البشرية، والطرائق البشرية في الأداء النفسي والتعبيري أيضاً‏.‏‏.‏ والعرب لم يكن يخفى عليهم الشعور بهذا في قرارة نفوسهم‏.‏ وأقوالهم ذاتها وأحوالهم تقرر أنهم ما كانوا يشكون في أن هذا القرآن من عند الله‏.‏‏.‏

وهكذا يبدو أن هذه الاقتراحات لم تكن طلبا للبرهان؛ إنما كانت وسيلة من وسائل الإعنات؛ وأسلوباً من أساليب التعنت؛ وخطة للمماحكة والمعاندة؛ وأنهم كانوا كما قال الله سبحانه عنهم في الآية السابقة‏:‏ ‏{‏ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم، لقال الذين كفروا‏:‏ إن هذا إلا سحر مبين‏}‏ ‏!‏

والحقيقة الثانية‏:‏ أن العرب كانوا يعرفون الملائكة؛ وكانوا يطلبون أن ينزل الله على رسوله ملكاً يدعو معه ويصدقه‏.‏‏.‏ ولكنهم لم يكونوا يعرفون طبيعة هذا الخلق التي لا يعلمها إلا الله؛ وكانوا يخبطون في التيه بلا دليل في تصور هذا الخلق؛ وفي نوع علاقته بربه؛ ونوع علاقته بالأرض وأهلها‏.‏‏.‏ وقد حكى القرآن الكريم كثيراً من ضلالات العرب وأساطير الوثنية حول الملائكة؛ وصححها كلها لهم ليستقيم تصور من يهتدي بهذا الدين منهم؛ وتصح معرفتهم لهذا الكون وما يعمره من خلائق‏.‏

وكان الإسلام- من هذا الجانب- منهجاً لتقويم العقل والشعور، كما كان منهجاً لتقويم القلب والضمير، ومنهجاً لتقويم الأوضاع والأحوال سواء‏.‏‏.‏

وحكى القرآن الكريم من أضاليل العرب ومن جهالاتهم في جاهليتهم، أنهم كانوا يظنون أن الملائكة بنات الله‏!‏ سبحانه وتعالى عما يصفون‏!‏ وأنهم- من ثم- لهم شفاعة عند الله لا ترد‏!‏ والراجح أن بعض كبار الأصنام كانت رموزاً للملائكة‏!‏ كما حكى قولهم هذا في طلبهم أن ينزل الله على رسوله ملكاً ليصدقه في دعواه‏.‏‏.‏

وقد صحح لهم القرآن ضلالتهم الأولى في مواضع منه شتى‏.‏ كالذي جاء في سورة النجم‏:‏

‏{‏أفرأيتم اللات والعزى‏؟‏ ومناة الثالثة الأخرى‏؟‏ ألكم الذكر وله الأنثى‏؟‏ تلك إذن قسمة ضيزى‏!‏ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى‏.‏ أم للإنسان ما تمنى‏؟‏ فلله الآخرة والأولى‏.‏ وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى‏.‏ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى‏.‏ وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً‏}‏ كما صحح لهم ضلالتهم الثانية في تصورهم لطبيعة الملائكة في هاتين الآيتين في هذه السورة وفي مواضع أخرى كثيرة‏:‏

‏{‏وقالوا‏:‏ لولا أنزل عليه ملك‏!‏ ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا جانب من التعريف بهذا الخلق من عباد الله‏.‏‏.‏ إنهم يقترحون أن ينزل الله ملكاً، ولكن سنة الله أن ينزل الملائكة- حين ينزلون إلى الأرض على قوم كذبوا برسولهم- أن ينزلوا للتدمير عليهم، وتحقيق أمر الله فيهم بالهلاك والدمار‏.‏ ولو أن الله استجاب للمشركين من العرب فأنزل ملكاً، لقضي الأمر، وتم التدمير، ولم يُنظروا إلى مهلة بعد هذا التنزيل‏!‏ فهل هذا ما يريدون وما يقترحون‏؟‏ وهلا يستشعرون رحمة الله في عدم إجابتهم لما يقترحون لأنفسهم من الهلاك المبين‏؟‏‏!‏‏.‏‏.‏ هكذا يقفهم السياق وجهاً لوجه أمام رحمة الله بهم وحلمه عليهم؛ وأمام جهلهم بمصلحة أنفسهم، وجهلهم بسنة الله في تنزيل الملائكة‏.‏‏.‏ وهم بهذا الجهل الذي يكاد يدمر عليهم حياتهم، يرفضون الهدى ويرفضون الرحمة ويتعنتون في طلب الدليل‏!‏

والجانب الثاني من التعريف بهذا الخلق من عباد الله تتضمنه الآية الثانية‏:‏

‏{‏ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً، وللبسنا عليهم ما يلبسون‏}‏‏.‏‏.‏

إنهم يقترحون أن ينزل الله- سبحانه- ملكاً على رسوله- صلى الله عليه وسلم- يصدقه في دعواه‏.‏‏.‏ ولكن الملائكة خلق آخر غير الخلق الإنساني‏.‏

خلق ذو طبيعة خاصة يعلمها الله‏.‏ وهم- كما يقول الله عنهم، ونحن لا علم لنا بهم إلا مما يقوله عنهم الذي خلقهم- لا يستطيعون أن يمشوا في الأرض بهيئتهم التي خلقهم الله عليها؛ لأنهم ليسوا من سكان هذا الكوكب؛ ولكن لهم- مع ذلك- من الخصائص ما يجعلهم يتخذون هيئة البشر حين يؤدون وظيفة من وظائفهم في حياة البشر؛ كتبليغ الرسالة؛ أو التدمير على من يريد الله أن يدمر عليهم من المكذبين؛ أو تثبيت المؤمنين، أو قتال أعدائهم وقتلهم‏.‏‏.‏ إلى آخر الوظائف التي يقص القرآن الكريم أنهم يكلفون بها من ربهم، فلا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‏.‏

فلو شاء الله أن يرسل ملكاً يصدق رسوله، لتبدى للناس في صورة رجل- لا في صورته الملائكية- وعندئذ يلتبس عليهم الأمر مرة أخرى‏!‏ وإذا كانوا يلبسون على أنفسهم الحقيقة ومحمد- صلى الله عليه وسلم- يقول لهم‏:‏ أنا محمد الذي تعرفونه أرسلني الله إليكم لأنذركم وأبشركم‏.‏‏.‏ فكيف يكون اللبس إذا جاءهم ملك- في صورة رجل لا يعرفونه- يقول لهم‏:‏ أنا ملك أرسلني الله لأصدق رسوله‏.‏‏.‏ بينما هم يرونه رجلاً كأي منهم‏؟‏‏!‏ إنهم يلبسون الحقيقة البسيطة‏.‏ فلو أرسل الله ملكاً لجعله رجلاً وللبس عليهم الحقيقة التي يلبسونها؛ ولما اهتدوا قط إلى يقين‏!‏

وهكذا يكشف الله- سبحانه- جهلهم بطبيعة خلائقه، كما كشف لهم جهلهم في معرفة سنته‏.‏‏.‏ وذلك بالإضافة إلى كشف تعنتهم وعنادهم بلا مبرر، وبلا معرفة، وبلا دليل‏!‏

والحقيقة الثالثة التي يثيرها النص القرآني في الفكر‏:‏ هي طبيعة التصور الإسلامي ومقومات هذا التصور- ومن بينها تلك العوالم الظاهرة والمغيبة التي علم الإسلامُ المسلمَ أن يدركها أولاً، وأن يتعامل معها أخيراً- ومن بين تلك العوالم المغيبة عالم الملائكة‏.‏‏.‏ وقد جعل الإسلام الإيمان بها مقوماً من مقومات الإيمان، لا يتم الإيمان إلا به‏.‏‏.‏ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره‏.‏‏.‏

وقد سبق أن ذكرنا في هذه الظلال ونحن نتحدث عن مطلع سورة البقرة‏:‏ ما ملخصه أن الإيمان بالغيب نقلة في حياة الإنسان ضخمة؛ لأن خروجه من دائرة المحسوس الضيقة إلى إدراك أن هناك غيباً مجهولاً يمكن وجوده ويمكن تصوره، هو- بلا شك- نقلة من دائرة الحس الحيواني إلى مجال الإدراك الإنساني‏.‏ وأن إغلاق هذا المجال دون الإدراك الإنساني نكسة به إلى الوراء؛ وهو ما تحاوله المذاهب المادية الحسية؛ وتدعوه «تقدمية»‏!‏ وسنتحدث- إن شاء الله- بشيء من التفصيل عن «الغيب» عندما نواجه في هذه السورة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو‏}‏ فنقصر الحديث هنا عن الملائكة، من عالم الغيب‏.‏

لقد تضمن التصور الإسلامي عن عالم الغيب، أن هناك خلقاً من عباد الله اسمهم الملائكة‏.‏ وأخبرنا القرآن الكريم عن قدر من صفاتهم، يكفي لهذا التصور ويكفي للتعامل معهم في حدوده‏.‏

فهم خلق من خلق الله، يدين لله بالعبودية، وبالطاعة المطلقة؛ وهم قريبون من الله- لا ندري كيف ولا ندري نوع القرب على وجه التحديد-‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمن ولداً‏.‏ سبحانه‏!‏ بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون‏}‏ ‏{‏ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون‏}‏ وهم يحملون عرش الرحمن، ويحفون به يوم القيامة كذلك- لا ندري كيف فليس لنا من علم إلا بقدر ما كشف الله لنا في هذا الغيب-‏:‏ ‏{‏الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏{‏وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم، وقضي بينهم بالحق وقيل‏:‏ الحمد لله رب العالمين‏}‏ وهم خزنة الجنة وخزنة النار، يستقبلون أهل الجنة بالسلام والدعاء، ويستقبلون أهل النار بالتأنيب والوعيد‏:‏ ‏{‏وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً، حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها، وقال لهم خزنتها‏:‏ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏!‏ ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين‏:‏ قيل‏:‏ ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين‏.‏ وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً، حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها، وقال لهم خزنتها‏:‏ سلام عليكم، طبتم فادخلوها خالدين‏}‏ ‏{‏وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة‏}‏ وهم يتعاملون مع أهل الأرض في صور شتى‏:‏

فهم يقومون عليهم حفظة بأمر الله؛ يتابعونهم ويسجلون عليهم كل ما يصدر عنهم؛ ويتوفونهم إذا جاء أجلهم‏:‏ ‏{‏وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون‏}‏ ‏{‏له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفطونه‏.‏‏.‏ من أمر الله‏.‏‏.‏‏}‏ ‏{‏ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد‏}‏ وهم يبلغون الوحي إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم‏.‏‏.‏ وقد أعلمنا الله- سبحانه- أن جبريل عليه السلام هو الذي يقوم منهم بهذه الوظيفة‏:‏ ‏{‏ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده‏:‏ أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون‏}‏ ‏{‏قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله‏}‏‏.‏ ووصفه- سبحانه بأنه ذو مرة ‏(‏أي قوة‏)‏ وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه على هيئته الملائكية مرتين اثنتين، بينما جاءه في صور شتى في مرات الوحي التالية‏:‏ ‏{‏والنجم إذا هوى‏.‏ ما ضل صاحبكم وما غوى‏.‏ وما ينطق عن الهوى‏.‏ إن هو إلا وحي يوحى‏.‏ علمه شديد القوى‏.‏ ذو مرة فاستوى‏.‏ وهو بالأفق الأعلى‏.‏ ثم دنا فتدلى‏.‏ فكان قاب قوسين أو أدنى‏.‏ فأوحى إلى عبده ما أوحى‏.‏ ما كذب الفؤاد ما رأى‏.‏ أفتمارونه على ما يرى‏.‏ ولقد رآه نزلة أخرى‏.‏ عند سدرة المنتهى‏.‏ عندها جنة المأوى‏.‏ إذ يغشى السدرة ما يغشى‏.‏ ما زاغ البصر وما طغى‏.‏ لقد رأى من آيات ربه الكبرى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

وهم يتنزلون على المؤمنين بالتثبيت والمدد والتأييد في معركتهم الكبرى مع الباطل والطاغوت‏:‏ ‏{‏إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون‏}‏ ‏{‏إذ تقول للمؤمنين‏:‏ ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين‏.‏ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين‏.‏ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم‏.‏‏.‏‏}‏ ‏{‏إذ يوحي ربك إلى الملائكة‏:‏ أني معكم فثبتوا الذين آمنوا، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب، فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان‏}‏ وهم مشغولون بأمر المؤمنين، يسبحون ربهم، ويستغفرون للذين آمنوا من ذنوبهم، ويدعون ربهم لهم دعاء المحب المشفق المشغول بشأن من يحب‏:‏ ‏{‏الذي يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا، ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك، وقهم عذاب الجحيم‏.‏ ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، إنك أنت العزيز الحكيم‏.‏ وقهم السيئات، ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته، وذلك هو الفوز العظيم‏}‏ وهم كذلك يبشرون المؤمنين بالجنة عند قبض أرواحهم، ويستقبلونهم بالبشرى في الآخرة ويسلمون عليهم في الجنة‏:‏ ‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، يقولون‏:‏ سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏}‏ ‏{‏‏.‏‏.‏ جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار‏}‏ وهم يستقبلون الكافرين في جهنم بالتأنيب والوعيد- كما سبق- ويقاتلونهم في معارك الحق كذلك‏.‏ وكذلك هم يستلون أرواحهم في تعذيب وتأنيب ومهانة‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم‏:‏ أخرجوا أنفسكم، اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون‏}‏ ‏{‏فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم‏!‏‏}‏ ولقد كان لهم شأن مع البشر منذ نشأة أبيهم آدم، كما أن هذه الصلة امتدت في طول الحياة وعرضها حتى مجال الحياة الباقية على النحو الذي أشرنا إليه في المقتطفات القرآنية السابقة‏.‏ وشأن الملائكة مع النشأة الإنسانية يرد في مواضع شتى، كالذي جاء في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة‏.‏ قالوا‏:‏ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك‏؟‏ قال‏:‏ إني أعلم ما لا تعلمون‏.‏ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة، فقال‏:‏ أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين‏.‏ قالوا‏:‏ سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم‏.‏ قال‏:‏ يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال‏:‏ ألم أقل لكم‏:‏ إني أعلم غيب السماوات والأرض، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وإذ قلنا للملائكة‏:‏ اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين‏.‏‏.‏‏}‏

فهذا المجال الفسيح الذي تتصل فيه حياة البشر بهذا الملأ الأعلى، هو فسحة في التصور، وفسحة في إدراك حقائق هذا الوجود، وفسحة في الشعور، وفسحة في الحركة النفسية والفكرية، يتيحها التصور الإسلامي للمسلم؛ والقرآن يعرض عليه هذا المجال الفسيح، وعالم الغيب المتصل بما هو فيه من عالم الشهود‏.‏

والذين يريدون أن يغلقوا على «الإنسان» هذا المجال‏.‏‏.‏ ومجال عالم الغيب كله‏.‏‏.‏ إنما يريدون به أقبح الشر‏.‏‏.‏ يريدون أن يغلقوا عالمه على مدى الحس القريب المحدود؛ ويريدون بذلك أن يزجوا به في عالم البهائم؛ وقد كرمه الله بقوة التصور؛ التي يملك بها أن يدرك ما لا تدركه البهائم؛ وأن يعيش في بحبوحة من المعرفة، وبحبوحة من الشعور‏!‏ وأن ينطلق بعقله وقلبه إلى مثل هذا العالم؛ وأن يتطهر وهو يرف بكيانه كله في مثل هذا النور‏!‏

والعرب في جاهليتهم- على كل ما في هذه الجاهلية من خطأ في التصور- كانوا ‏(‏من هذا الجانب‏)‏ أرقى من أهل الجاهلية ‏(‏العلمية‏!‏‏)‏ الحديثة؛ الذين يسخرون من الغيب كله‏!‏ ويعدون الإيمان بمثل هذه العوالم الغيبية سذاجة غيرعلمية‏!‏ ويضعون «الغيبية» في كفة، و«العلمية» في الكفة الأخرى‏!‏ وسنناقش عند مواجهة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو‏}‏ هذه الدعوى التي لا سند لها من العلم، كما أنه لا سند لها من الدين‏.‏ أما هنا فنكتفي بكلمة مختصرة عن شأن الملائكة‏.‏

ونسأل‏:‏ ماذا عند أدعياء العقلية «العلمية»، من علمهم ذاته، يحتم عليهم نفي هذا الخلق المسمى بالملائكة، وإبعاده عن دائرة التصور والتصديق‏؟‏ ماذا لديهم من علم يوجب عليهم ذلك‏؟‏

إن علمهم لا يملك أن ينفي وجود حياة من نوع آخر غير الحياة المعروفة في الأرض في أجرام أخرى، يختلف تركيب جوها وتختلف طبيعتها وظروفها عن جو الأرض وظروفها‏.‏‏.‏ فلماذا يجزمون بنفي هذه العوالم، وهم لا يملكون دليلاً واحداً على نفي وجودها‏؟‏

إننا لا نحاكمهم إلى عقيدتنا، ولا إلى قول الله سبحانه‏!‏ إنما نحاكمهم إلى «علمهم» الذي يتخذونه إلهاً‏.‏‏.‏ فلا نجد إلا أن المكابرة وحدها- من غير أي دليل من هذا العلم- هي التي تقودهم إلى هذا الإنكار «غير العلمي»‏!‏ ألمجرد أن هذه العوالم غيب‏؟‏ لقد نرى حين نناقش هذه القضية أن الغيب الذي ينكرونه هو الحقيقة الوحيدة التي يجزم هذا «العلم» اليوم بوجودها؛ حتى في عالم الشهادة الذي تلمسه الأيدي وتراه العيون‏.‏

وتنتهي هذه الموجة بعرض ما وقع للمستهزئين بالرسل‏.‏ ودعوة المكذبين إلى تدبر مصارع أسلافهم، والسير في الأرض لرؤية هذه المصارع؛ الناطقة بسنة الله في المستهزئين المكذبين‏:‏

‏{‏ولقد استهزئ برسل من قبلك، فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون‏.‏ قل‏:‏ سيروا في الأرض، ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏‏.‏‏.‏

إن هذه اللفتة- بعد ذكر إعراضهم عناداً وتعنتاً؛ وبعد بيان ما في اقتراحاتهم من عنت وجهالة؛ وما في عدم الاستجابة لهذه المقترحات من رحمة من الله وحلم- لترمي إلى غرضين ظاهرين‏:‏

الأول‏:‏ تسلية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والتسرية عنه، مما يلقاه من عناد المعرضين، وعنت المكذبين؛ وتطمين قلبه- صلى الله عليه وسلم- إلى سنة الله سبحانه في أخذ المكذبين المستهزئين بالرسل؛ وتأسيته كذلك بأن هذا الإعراض والتكذيب ليس بدعاً في تاريخ الدعوة إلى الحق‏.‏ فقد لقي مثله الرسل قبله؛ وقد لقي المستهزئون جزاءهم الحق وحاق بهم ما كانوا يستهزئون به من العذاب، ومن غلبة الحق على الباطل في نهاية المطاف‏.‏‏.‏

والثاني‏:‏ لمس قلوب المكذبين المستهزئين من العرب بمصارع أسلافهم من المكذبين المستهزئين‏:‏ وتذكيرهم بهذه المصارع التي تنتظرهم إن هم لجوا في الاستهزاء والسخرية والتكذيب‏.‏ وقد أخذ الله- من قبلهم- قروناً كانت أشد منهم قوة وتمكيناً في الأرض؛ وأكثر منهم ثراء ورخاء، كما قال لهم في مطلع هذه الموجة؛ التي ترج القلوب رجاً بهذه اللفتات الواقعية المخيفة‏.‏

ومما يستدعي الانتباه ذلك التوجيه القرآني‏:‏

‏{‏قل‏:‏ سيروا في الأرض، ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏‏.‏‏.‏

والسير في الأرض للاستطلاع والتدبر والاعتبار؛ ولمعرفة سنن الله مرتسمة في الأحداث، والوقائع؛ مسجلة في الآثار الشاخصة، وفي التاريخ المروي في الأحاديث المتداولة حول هذه الآثار في أرضها وقومها‏.‏‏.‏ السير على هذا النحو، لمثل هذا الهدف، وبمثل هذا الوعي‏.‏‏.‏ أمور كلها كانت جديدة على العرب؛ تصور مدى النقلة التي كان المنهج الإسلامي الرباني ينقلهم إليها من جاهليتهم إلى هذا المستوى من الوعي والفكر والنظر والمعرفة‏.‏

لقد كانوا يسيرون في الأرض، ويتنقلون في أرجائها للتجارة والعيش، وما يتعلق بالعيش من صيد ورعي‏.‏‏.‏ أما أن يسيروا وفق منهج معرفي تربوي‏.‏‏.‏ فهذا كان جديداً عليهم‏.‏ وكان هذا المنهج الجديد يأخذهم به؛ وهو يأخذ بأيديهم من سفح الجاهلية، في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة التي بلغوا إليها في النهاية‏.‏

ولقد كان تفسير التاريخ الإنساني وفق قواعد منهجية كهذة التي كان القرآن يوجه إليها العرب؛ ووفق سنن مطردة تتحقق آثارها كلما تحققت أسبابها- بإذن الله- ويستطيع الناس ملاحظتها؛ وبناء تصوراتهم للمقدمات والنتائج عليها؛ ومعرفة مراحلها وأطوارها‏.‏

‏.‏ كان هذا المنهج برمته في تفسير التاريخ شيئاً جديداً على العقل البشري كله في ذلك الزمان‏.‏ إذ كان قصارى ما يروى من التاريخ وما يدون من الأخبار، مجرد مشاهدات أو روايات عن الأحداث والعادات والناس؛ لا يربط بينها منهج تحليلي أو تكويني يحدد الترابط بين الأحداث، كما يحدد الترابط بين المقدمات والنتائج، وبين المراحل والأطوار‏.‏‏.‏ فجاء المنهج القرآني ينقل البشرية إلى هذا الأفق؛ ويشرع لهم منهج النظر في أحداث التاريخ الإنساني‏.‏ وهذا المنهج ليس مرحلة في طرائق الفكر والمعرفة‏.‏ إنما هو «المنهج»‏.‏‏.‏ هو الذي يملك وحده إعطاء التفسير الصحيح للتاريخ الإنساني‏.‏

والذين يأخذهم الدهش والعجب للنقلة الهائلة التي انتقل إليها العرب في خلال ربع قرن من الزمان على عهد الرسالة المحمدية، وهي فترة لا تكفي إطلاقاً لحدوث تطور فجائي في الأوضاع الاقتصادية، سيرتفع عنهم الدهش ويزول العجب، لو أنهم حولوا انتباههم من البحث في العوامل الاقتصادية؛ ليبحثوا عن السر في هذا المنهج الرباني الجديد، الذي جاءهم به محمد- صلى الله عليه وسلم- من عند الله العليم الخبير‏.‏‏.‏ ففي هذا المنهج تكمن المعجزة، وفي هذا المنهج يكمن السر الذي يبحثون عنه طويلاً عند الإله الزائف الذي أقامته المادية حديثاً‏.‏‏.‏ إله الاقتصاد‏.‏‏.‏

وإلا فأين هو التحول الاقتصادي المفاجئ في الجزيرة العربية؛ الذي ينشئ من التصورات الاعتقادية ونظام الحكم، ومناهج الفكر، وقيم الأخلاق، وآماد المعرفة، وأوضاع المجتمع، كل هذا الذي نشأ في ربع قرن من الزمان‏؟‏‏!‏

إن هذه اللفتة‏:‏

‏{‏قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏‏.‏

إلى جانب اللفتة التي جاءت في صدر هذه الموجة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، وأرسلنا السماء عليهم مدراراً، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم، فأهلكناهم بذنوبهم، وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين‏}‏‏.‏‏.‏

إلى جانب أمثالها في هذه السورة وفي القرآن كله لتؤلف جانباً من منهج جديد جدة كاملة على الفكر البشري‏.‏ وهو منهج باق‏.‏ ومنهج كذلك فريد‏.‏‏.‏