فصل: تفسير الآيات رقم (66- 70)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 70‏]‏

‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏66‏)‏ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏67‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏68‏)‏ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏69‏)‏ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

إنها جولة لتقرير المفاصلة التي انتهت بها الموجة السابقة؛ فقوم النبي- صلى الله عليه وسلم- هم الذين كذبوا بما جاءهم به- وهو الحق- ومن ثم انفصل ما بينه وبين قومه وانبتَّ؛ وأُمر أن يفاصلهم فيعلن إليهم أنه ليس عليهم بوكيل، وأنه يتركهم لمصيرهم الذي لا بد آتٍ، وأمر أن يعرض عنهم فلا يجالسهم متى رآهم يخوضون في الدين، ويتخذونه لعباً ولهواً، ولا يوقرونه التوقير الواجب للدين، وأمر- مع ذلك- أن يذكرهم ويحذرهم ويبلغهم وينذرهم، ولكن على أنه وإياهم- وهم قومه- فريقان مختلفان، وأمتان متميزتان‏.‏‏.‏ فلا قوم ولا جنس ولا عشيرة ولا أهل في الإسلام‏.‏‏.‏ إنما هو الدين الذي يربط ما بين الناس أو يفصم‏.‏‏.‏ وإنما هي العقيدة التي تجمع بين الناس أو تفرق‏.‏ وحين يوجد أساس الدين توجد تلك الروابط الأخرى‏.‏ وحين تنفصم هذه العروة تفصم الروابط والصلات‏.‏

وهذه هي الخلاصة المجملة لهذه الموجة من السياق‏.‏

‏{‏وكذب به قومك- وهو الحق- قل‏:‏ لست عليكم بوكيل‏.‏ لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

والخطاب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعطيه، ويعطي المؤمنين من ورائه، الثقة التي تملأ القلب بالطمأنينة‏.‏ الثقة بالحق- ولو كذب به قومه وأصروا على التكذيب- فما هم بالحكم في هذا الأمر، إنما كلمة الفصل فيه لله سبحانه‏.‏ وهو يقرر أنه الحق‏.‏ وأن لا قيمة ولا وزن لتكذيب القوم‏!‏

ثم يأمر الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يبرأ من قومه وينفض منهم يده، وأن يعلنهم بهذه المفاصلة، ويعلمهم أنه لا يملك لهم شيئاً؛ وأنه ليس حارساً عليهم ولا موكلاً بهم بعد البلاغ، ولا مكلفاً أن يهدي قلوبهم- فليس هذا من شأن الرسول- ومتى أبلغهم ما معه من الحق، فقد انتهى بينه وبينهم الأمر؛ وأنه يخلي بينهم وبين المصير الذي لا بد أن ينتهي إليه أمرهم‏.‏ فإن لكل نبأ مستقراً ينتهي إليه ويستقر عنده‏.‏ وعندئذ يعلمون ما سيكون‏!‏

‏{‏لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وفي هذا الإجمال من التهديد ما يزلزل القلوب‏.‏‏.‏

إنها الطمأنينة الواثقة بالحق؛ الواثقة بنهاية الباطل مهما تبجح، الواثقة بأخذ الله للمكذبين في الأجل المرسوم، الواثقة من أن كل نبأ إلى مستقر؛ وكل حاضر إلى مصير‏.‏

وما أحوج أصحاب الدعوة إلى الله- في مواجهة التكذيب من قومهم، والجفوة من عشيرتهم، والغربة في أهلهم، والأذى والشدة والتعب واللأواء‏.‏‏.‏ ما أحوجهم إلى هذه الطمأنينة الواثقة التي يسكبها القرآن الكريم في القلوب‏!‏

فإذا أنهى إليهم هذا البلاغ، وإذا واجه تكذيبهم بهذه المفاصلة‏.‏‏.‏ فإنه- صلى الله عليه وسلم- مأمور بعد ذلك ألا يجالسهم- حتى للبلاغ والتذكير- إذا رآهم يخوضون في آيات الله بغير توقير؛ ويتحدثون عن الدين بغير ما ينبغي للدين من الجد والمهابة؛ ويجعلون الدين موضعاً للعب واللهو؛ بالقول أو بالفعل؛ حتى لا تكون مجالسته لهم- وهم على مثل هذه الحال- موافقة ضمنية على ما هم فيه؛ أو قلة غيرة على الدين الذي لا يغار المسلم على حرمة كما يغار عليه‏.‏

فإذا أنساه الشيطان فجلس معهم، ثم تذكر، قام من فوره وفارق مجلسهم‏:‏

‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره‏.‏ وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد كان هذا الأمر للرسول- صلى الله عليه وسلم- ويمكن في حدود النص أن يكون أمراً لمن وراءه من المسلمين‏.‏‏.‏ كان هذا الأمر في مكة‏.‏ حيث كان عمل الرسول- صلى الله عليه وسلم- يقف عند حدود الدعوة‏.‏ وحيث كان غير مأمور بقتال للحكمة التي أرادها الله في هذه الفترة‏.‏ وحيث كان الاتجاه واضحاً لعدم الاصطدام بالمشركين ما أمكن‏.‏‏.‏ فكان هذا الأمر بألا يجلس النبي- صلى الله عليه وسلم- في مجالس المشركين؛ متى رآهم يخوضون في آيات الله ويذكرون دينه بغير توقير، والمسارعة إلى ترك هذه المجالس- لو أنساه الشيطان- بمجرد أن يتذكر أمر الله ونهيه‏.‏ وكان المسلمون كذلك مأمورين بهذا الأمر كما تقول بعض الروايات‏.‏‏.‏ والقوم الظالمون، المقصود بهم هنا القوم المشركون‏.‏ كما هو التعبير الغالب في القرآن الكريم‏.‏‏.‏

فأما بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة، فكان للنبي- صلى الله عليه وسلم- شأن آخر مع المشركين‏.‏ وكان الجهاد والقتال حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله‏.‏ حيث لا يجترئ أحد على الخوض في آيات الله‏!‏

ثم يكرر السياق المفاصلة بين المؤمنين والمشركين، كما قررها من قبل بين الرسول- صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين‏.‏ ويقرر اختلاف التبعة واختلاف المصير‏:‏

‏{‏وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء، ولكن ذكرى لعلهم يتقون‏}‏‏.‏‏.‏

فليست هنالك تبعة مشتركة بين المتقين والمشركين‏.‏ فهما أمتان مختلفتان- وإن اتحدتا في الجنس والقوم فهذه لا وزن لها في ميزان الله، ولا في اعتبار الإسلام‏.‏‏.‏ إنما المتقون أمة، والظالمون ‏(‏أي المشركون‏)‏ أمة، وليس على المتقين شيء من تبعة الظالمين وحسابهم‏.‏ ولكنهم إنما يقومون بتذكيرهم رجاء أن يتقوا مثلهم، وينضموا إليهم‏.‏‏.‏ وإلا فلا مشاركة في شيء، إذا لم تكن مشاركة في عقيدة‏!‏

هذا دين الله وقوله‏.‏‏.‏ ولمن شاء أن يقول غيره‏.‏ ولكن ليعلم أنه يخرج من دين الله كله إذ يقول ما يقول‏!‏

ويستمر السياق في تقرير هذه المفاصلة؛ وفي بيان الحدود التي تكون فيها المعاملة‏:‏

‏{‏وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرّتهم الحياة الدنيا، وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع، وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها‏.‏

أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا، لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون‏}‏‏.‏‏.‏

ونقف من الآية أمام عدة أمور‏:‏

أولها‏:‏ أن الرسول صلى الله عليه وسلم- وينسحب الأمر على كل مسلم- مأمور أن يهمل شأن الذين يتخذون دينهم لعباً ولهواً‏.‏‏.‏ وهذا يتم بالقول كما يتم بالفعل‏.‏‏.‏ فالذي لا يجعل لدينه وقاره واحترامه باتخاذه قاعدة حياته اعتقاداً وعبادة، وخلقاً وسلوكاً، وشريعة وقانوناً، إنما يتخذ دينه لعباً ولهواً‏.‏‏.‏ والذي يتحدث عن مبادئ هذا الدين وشرائعه فيصفها أوصافاً تدعو إلى اللعب واللهو‏.‏ كالذين يتحدثون عن «الغيب»- وهو أصل من أصول العقيدة- حديث الاستهزاء‏.‏ والذين يتحدثون عن «الزكاة» وهي ركن من أركان الدين حديث الاستصغار‏.‏ والذين يتحدثون عن الحياء والخلق والعفة- وهي من مبادئ هذا الدين- بوصفها من أخلاق المجتمعات الزراعية، أو الإقطاعية، أو «البرجوازية» الزائلة‏!‏ والذين يتحدثون عن قواعد الحياة الزوجية المقررة في الإسلام حديث إنكار أو استنكار‏.‏ والذين يصفون الضمانات التي جعلها الله للمرأة لتحفظ عفتها بأنها «أغلال‏!‏»‏.‏‏.‏ وقبل كل شيء وبعد كل شيء‏.‏‏.‏ الذين ينكرون حاكمية الله المطلقة في حياة الناس الواقعية‏:‏ السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية‏.‏‏.‏ ويقولون‏:‏ إن للبشر أن يزاولوا هذا الاختصاص دون التقيد بشريعة الله‏.‏‏.‏ أولئك جميعاً من المعنيين في هذه الآيات بأنهم يتخذون دينهم لعباً ولهواً‏.‏ وبأن المسلم مأمور بمفاصلتهم ومقاطعتهم إلا للذكرى‏.‏ وبأنهم الظالمون- أي المشركون- والكافرون الذين أبسلوا بما كسبوا، فلهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون‏.‏‏.‏

وثانيها‏:‏ أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- وينسحب الأمر على كل مسلم- مأمور بعد إهمال شأن هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا- أن يقوم بتذكيرهم وتخويفهم من أن ترتهن نفوسهم بما كسبوا، وأن يلاقوا الله ليس لهم من دونه ولي ينصرهم، ولا شفيع يشفع لهم؛ كما أنه لا يقبل منهم فدية لتطلق نفوسهم بعد ارتهانها بما كسبت‏.‏

وللتعبير القرآني جماله وعمقه وهو يقول‏:‏

‏{‏وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع، وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها‏}‏‏.‏‏.‏

فكل نفس على حدة تبسل ‏(‏أي ترتهن وتؤخذ‏)‏ بما كسبت، حالة أن ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع، ولا يقبل منها عدل تفتدى به وتفك الربقة‏!‏

فأما أولئك الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا فهؤلاء قد ارتهنوا بما كسبوا؛ وحق عليهم ما سبق في الآية؛ وكتب عليهم هذا المصير‏:‏

‏{‏أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا، لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون‏}‏‏.‏

لقد أخذوا بما فعلوا؛ وهذا جزاؤهم‏:‏ شراب ساخن يشوي الحلوق والبطون؛ وعذاب أليم بسبب كفرهم، الذي دل عليه استهزاؤهم بدينهم‏.‏‏.‏

وثالثها‏:‏ قول الله تعالى في المشركين‏:‏ ‏{‏الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً‏}‏‏.‏‏.‏

فهل هو دينهم‏؟‏‏.‏‏.‏

إن النص ينطبق على من دخل في الإسلام، ثم اتخذ دينه هذا لعباً ولهواً‏.‏‏.‏ وقد وجد هذا الصنف من الناس وعرف باسم المنافقين‏.‏‏.‏ ولكن هذا كان في المدينة‏.‏‏.‏

فهل هو ينطبق على المشركين الذين لم يدخلوا في الإسلام‏؟‏ إن الإسلام هو الدين‏.‏‏.‏ هو دين البشرية جميعاً‏.‏‏.‏ سواء من آمن به ومن لم يؤمن‏.‏‏.‏ فالذي رفضه إنما رفض دينه‏.‏‏.‏ باعتبار أنه الدين الوحيد الذي يعده الله ديناً ويقبله من الناس بعد بعثة خاتم النبيين‏.‏

ولهذه الإضافة دلالتها في قوله‏:‏

‏{‏وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً‏}‏‏.‏‏.‏

فهي- والله أعلم- إشارة إلى هذا المعنى الذي أسلفناه، من اعتبار الإسلام ديناً للبشرية كافة‏.‏ فمن اتخذه لعباً ولهواً، فإنما يتخذ دينه كذلك‏.‏‏.‏ ولو كان من المشركين‏.‏‏.‏

ولا نزال نجدنا في حاجة إلى تقرير من هم المشركون‏؟‏ إنهم الذين يشركون بالله أحداً في خصائص الألوهية‏.‏ سواء في الاعتقاد بألوهية أحد مع الله‏.‏ أو بتقديم الشعائر التعبدية لأحد مع الله‏.‏ أو بقبول الحاكمية والشريعة من أحد مع الله‏.‏ ومن باب أولى من يدعون لأنفسهم واحدة من هذه، مهما تسمَّوا بأسماء المسلمين‏!‏ فلنكن من أمر ديننا على يقين‏!‏

ورابعها‏:‏ حدود مجالسة الظالمين- أي المشركين- والذين يتخذون دينهم لعباً ولهواً‏.‏‏.‏ وقد سبق القول بأنها لمجرد التذكير والتحذير‏.‏ فليست لشيء وراء ذلك- متى سمع الخوض في آيات الله؛ أو ظهر اتخاذها لعباً ولهواً بالعمل بأية صورة مما ذكرنا أو مثلها‏.‏‏.‏

وقد جاء في قول القرطبي في كتابه‏:‏ الجامع لأحكام القرآن بصدد هذه الآية‏:‏

«في هذه الآية ردٌّ من كتاب الله عز وجل، على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم، لهم أن يخالطوا الفاسقين، ويصوّبوا آراءهم تَقيةً‏.‏‏.‏»

ونحن نقول‏:‏ إن المخالطة بقصد الموعظة والتذكير وتصحيح الفاسد والمنحرف من آراء الفاسقين تبيحها الآية في الحدود التي بينتها‏.‏ أما مخالطة الفاسقين والسكوت عما يبدونه من فاسد القول والفعل من باب التقية فهو المحظور‏.‏ لأنه- في ظاهره- إقرار للباطل، وشهادة ضد الحق‏.‏ وفيه تلبيس على الناس، ومهانة لدين الله وللقائمين على دين الله‏.‏ وفي هذه الحالة يكون النهي والمفارقة‏.‏

كذلك روى القرطبي في كتابه هذه الأقوال‏:‏

«قال ابن خويز منداد‏:‏ من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر- مؤمناً كان أو كافراً- قال‏:‏ وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو، ودخول كنائسهم والبيع، ومجالسة الكفار وأهل البدع؛ وألا تعتقد مودتهم، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم‏.‏

وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي‏:‏ اسمع مني كلمة‏.‏ فأعرض عنه، وقال‏:‏ ولا نصف كلمة‏!‏‏.‏ ومثله عن أيوب السختياني‏.‏ وقال الفضيل بن عياض‏:‏ من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج الإسلام من قلبه، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها؛ ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له‏.‏ وروى أبو عبدالله الحاكم عن عائشة- رضي الله عنها- قالت‏:‏ «قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام»‏.‏

فهذا كله في صاحب البدعة وهو على دين الله‏.‏‏.‏ وكله لا يبلغ مدى من يدعي خصائص الألوهية بمزاولته للحاكمية؛ ومن يقره على هذا الادعاء‏.‏‏.‏ فليس هذا بدعة مبتدع؛ ولكنه كفر كافر، أو شرك مشرك‏.‏ مما لم يتعرض له السلف لأنه لم يكن في زمانهم‏.‏ فمنذ أن قام الإسلام في الأرض لم يبلغ من أحد أن يدعي هذه الدعوى، وهو يزعم الإسلام‏.‏ ولم يقع شيء من ذلك إلا بعد الحملة الفرنسية التي خرج بعدها الناس من إطار الإسلام- إلا من عصم الله- وكذلك لم يعد في قول هؤلاء السلف ما ينطبق على هذا الذي كان‏!‏ فقد تجاوز كل ما تحدثوا عنه بمثل هذه الأحكام‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 73‏]‏

‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

هذا الإيقاع القوي بحقيقة الألوهية وخصائصها؛ وباستنكار الشرك والعودة إليه بعد الهدى؛ وبمشهد الذي يرجع القهقرى مرتداً عن دين الله؛ وحيرته في التيه بلا اتجاه؛ وبتقرير أن هدى الله وحده هو الهدى‏.‏‏.‏ هذا الإيقاع يختم برنة عالية عميقة مدوية‏.‏ عن سلطان الله المطلق، في الأمر والخلق؛ وعن انكشاف هذا السلطان وتفرده بالظهور- حتى للمنكرين المطموسين- ‏{‏يوم ينفخ في الصور‏}‏ ويبعث من في القبور؛ ويستيقن من لم يكن يستيقن أن الملك لله وحده، وأن إليه المصير‏:‏

‏{‏قل‏:‏ أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا، ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، كالذي استهوته الشياطين في الأرض، حيران، له أصحاب يدعونه إلى الهدى‏.‏ ائتنا‏.‏ قل‏:‏ إن هدى الله هو الهدى، وأمرنا لنسلم لرب العالمين‏.‏ وأن أقيموا الصلاة واتقوه‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏قل‏}‏‏.‏‏.‏ الإيقاع القوي المتكرر في السورة؛ الذي يوحي بأن هذا الأمر لله وحده، وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- إنما هو منذر ومبلغ؛ والذي يوحي بجلال هذا الأمر وعلويته ورهبته؛ وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- إنما هو مأمور به من ربه‏.‏

‏{‏قل‏:‏ أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

قل لهم يا محمد ما هم عليه من دعوة غير الله والاستعانة به وإسلام مقادهم لهؤلاء الذين يدعونهم من دونه، وهم لا يملكون نفعاً ولا ضراً‏.‏ سواء كان ما يدعونه وثناً أو صنماً، حجراً أو شجراً، روحاً أم ملكاً، شيطاناً أم إنساناً‏.‏‏.‏‏.‏ فكلهم سواء في أنهم لا ينفعون شيئاً ولا يضرون‏.‏ فهم أعجز من النفع والضر‏.‏ وكل حركة إنما تجري بقدر من الله‏.‏ فما لم يأذن به الله لا يكون، ولا يكون إلا قدره وما جرى به قضاؤه من الأمور‏.‏‏.‏

قل لهم مستنكراً دعوة غير الله، وعبادة غير الله، والاستعانة بغير الله، والخضوع لغير الله‏.‏ وسخف هذا التصرف وهذا الاتجاه‏.‏‏.‏ وسواء كان ذلك رداً على ما كان يقترحه المشركون على النبي- صلى الله عليه وسلم- من مشاركتهم عبادة آلهتهم ليشاركوه عبادة ربه‏!‏ أو كان ذلك استنكاراً مبتدأ لما عليه المشركون، وإعلاناً للمفارقة والمفاصلة فيه من جانب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‏.‏‏.‏ فإن المؤدى في النهاية واحد؛ وهو استنكار هذا السخف الذي يرفضه العقل البشري ذاته متى عرض له في النور؛ بعيداً عن الموروثات الراسبة، وبعيداً كذلك عن العرف السائد في البيئة‏!‏

ولتجسيم السخف وتضخيم الاستنكار يعرض هذه المعتقدات في ضوء ما هدى الله المسلمين إليه من عبادته وحده، واتخاذه وحده إلهاً، والدينونة له وحده بلا شريك‏:‏

‏{‏قل‏:‏ أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا‏؟‏‏}‏‏.‏

فهو ارتداد على الأعقاب؛ ورجوع إلى الوراء؛ بعد التقدم والارتقاء‏.‏‏.‏

ثم هذا المشهد الشاخص المتحرك الموحي المثير‏:‏

‏{‏كالذي استهوته الشياطين في الأرض‏.‏‏.‏ حيران‏.‏‏.‏ له أصحاب يدعونه إلى الهدى‏:‏ ائتنا‏}‏‏.‏‏.‏

إنه مشهد حي شاخص متحرك للضلالة والحيرة التي تنتاب من يشرك بعد التوحيد، ومن يتوزع قلبه بين الإله الواحد، والآلهة المتعددة من العبيد‏!‏ ويتفرق إحساسه بين الهدى والضلال، فيذهب في التيه‏.‏‏.‏ إنه مشهد ذلك المخلوق التعيس‏:‏ ‏{‏الذي استهوته الشياطين في الأرض‏}‏- ولفظ الاستهواء لفظ مصور بذاته لمدلوله- ويا ليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه، فيكون له اتجاه صاحب القصد الموحد- ولو في طريق الضلال‏!‏- ولكن هناك، من الجانب الآخر، أصحاب له مهتدون، يدعونه إلى الهدى، وينادونه ‏{‏ائتنا‏}‏- وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء ‏{‏حيران‏}‏ لا يدري أين يتجه، ولا أي الفريقين يجيب‏!‏

إنه العذاب النفسي يرتسم ويتحرك، حتى ليكاد يحس ويلمس من خلال التعبير‏!‏

ولقد كنت أتصور هذا المشهد وما يفيض به من عذاب الحيرة والتأرجح والقلقلة كلما قرآت هذا النص‏.‏‏.‏ ولكن مجرد تصور‏.‏‏.‏ حتى رأيت حالات حقيقية، يتمثل فيها هذا الموقف، ويفيض منها هذا العذاب‏.‏‏.‏ حالات ناس عرفوا دين الله وذاقوه- أياً كانت درجة هذه المعرفة وهذا التذوق- ثم ارتدوا عنه إلى عبادة الآلهة الزائفة، تحت قهر الخوف والطمع‏.‏‏.‏ ثم إذا هم في مثل هذا البؤس المرير‏.‏‏.‏ وعندئذ عرفت ماذا تعني هذه الحالة، وماذا يعني هذا التعبير‏!‏

وبينما ظل المشهد الحي الشاخص المتحرك الموحي، يغمر النفس بالوجل من هذا المصير التعيس‏.‏‏.‏ يأتي التقرير الحاسم بالاتجاه الثابت المستقيم‏:‏

‏{‏قل‏:‏ إن هدى الله هو الهدى، وأمرنا لنسلم لرب العالمين، وأن أقيموا الصلاة واتقوه‏}‏‏.‏‏.‏

إنه التقرير الحاسم في الظرف النفسي المناسب، فالنفس التي ترتسم لها صورة الحيرة الطاغية، والعذاب المرير من هذه الحيرة التي لا تستقر على قرار، تكون أقرب ما تكون إلى استقبال القرار الحاسم بالراحة والتسليم‏.‏‏.‏

ثم إنه الحق في ذلك التقرير الحاسم‏:‏

‏{‏قل‏:‏ إن هدى الله هو الهدى‏}‏‏.‏‏.‏

هو وحده الهدى- كما يفيد التركيب البياني للجملة- وإنه لكذلك عن يقين‏.‏‏.‏

وإن البشرية لتخبط في التيه، كلما تركت هذا الهدى، أو انحرفت عن شيء منه واستبدلت به شيئاً من تصوراتها هي ومقولاتها، وأنظمتها وأوضاعها، وشرائعها وقوانينها، وقيمها وموازينها، بغير «علم» ولا «هدى» ولا «كتاب منير»‏.‏‏.‏

إن «الإنسان» موهوب من الله القدرة على تعرف بعض نواميس الكون وبعض طاقاته وقواه، للانتفاع بها في الخلافة في الأرض، وترقية هذه الحياة‏.‏‏.‏ ولكن هذا الإنسان ذاته غير موهوب من الله القدرة على استكناه الحقائق المطلقة في هذا الكون، ولا على الإحاطة بأسرار الغيوب التي تلفه من كل جانب، ومنها غيب عقله هو وروحه، بل غيب وظائف جسمه والأسباب الكامنة وراء هذه الوظائف، والتي تدفعها للعمل هكذا، وبهذا الانتظام، وفي هذا الاتجاه‏.‏

ومن ثم يحتاج هذا «الإنسان» إلى هدى الله في كل ما يختص بكينونته وحياته من عقيدة وخلق، وموازين وقيم، وأنظمة وأوضاع، وشرائع وقوانين تحكم هذه الكينونة وتنظم لها واقع الحياة‏.‏‏.‏

وكلما فاء هذا «الإنسان» إلى هدى الله اهتدى‏.‏ لأن هدى الله هو الهدى‏.‏ وكلما بعد كلية عنه، أو انحرف بعض الانحراف واستبدل به شيئاً من عنده ضل‏.‏ لأن ما ليس من هدى الله فهو ضلال‏.‏‏.‏ إذ ليس هنالك نوع ثالث ‏{‏فماذا بعد الحق إلا الضلال‏؟‏‏}‏‏.‏

ولقد ذاقت البشرية من ويلات هذا الضلال- وما تزال كلها تذوق- ما هو «حتمي» في تاريخ البشرية حين تنحرف عن هدى الله‏.‏‏.‏ فهذه هي «الحتمية التاريخية» الوحيدة المستيقنة لأنها من أمر الله، ومن خبر الله، لا تلك الحتميات المدعاة‏!‏ والذي يريد أن يتملى شقاء البشرية في انحرافها عن هدى الله، لا يحتاج أن ينقب، فهو حوله في كل أرض تراه الأعين وتلمسه الأيدي، ويصرخ منه العقلاء في كل مكان‏.‏

ومن ثم يستطرد السياق في الآية ليقرر ضرورة الاستسلام لله وحده، وعبادته وحده، ومخافته وتقواه‏:‏

‏{‏وأمرنا لنسلم لرب العالمين، وأن أقيموا الصلاة واتقوه‏}‏‏.‏‏.‏

قل يا محمد وأعلن أن هدى الله هو الهدى؛ وأننا- من ثم- أمرنا أن نسلم لرب العالمين‏.‏ فهو وحده الذي يستسلم له العالمون‏.‏ فالعوالم كلها مستسلمة له، فماذا الذي يجعل الإنسان وحده- من بين العالمين- يشذ عن الاستسلام لهذه الربوبية الشاملة التي تستسلم لها العوالم في السماوات والأرضين‏؟‏

إن ذكر الربوبية للعالمين هنا له موضعه‏.‏‏.‏ إنه يقرر الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها وهي استسلام الوجود كله، وما فيه من عوالم مشهودة ومغيبة، للنواميس التي وضعها الله لها؛ وهي لا تملك الخروج عليها، والإنسان- من ناحية تركيبه العضوي- يستسلم كذلك لهذه النواميس كرهاً، ولا يملك الخروج عليها‏.‏‏.‏ فلا يبقى إلا أن يستسلم في الجانب الذي ترك له الخيار فيه ليبتلى فيه، وهو جانب الاختيار‏.‏‏.‏ اختيار الهدى أو الضلال‏.‏‏.‏ ولو استسلم فيه استسلام كيانه العضوي، لاستقام أمره، وتناسق تكوينه وسلوكه، وجسمه وروحه، ودنياه وآخرته‏.‏‏.‏

وفي إعلان الرسول- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين معه، أنهم أمروا بالاستسلام فاستسلموا، إيحاء مؤثر لمن يفتح الله قلبه للتلقي والاستجابة على مدى الزمان‏.‏

وبعد إعلان الاستسلام لرب العالمين تجيء التكاليف التعبدية والشعورية‏:‏

‏{‏وأن أقيموا الصلاة واتقوه‏}‏‏.‏

فالأصل هو الاستسلام لربوبية رب العالمين، وسلطانه وتربيته وتقويمه‏.‏ ثم تجيء العبادات الشعائرية؛ وتجيء الرياضات النفسية‏.‏

‏.‏ لتقوم على قاعدة الاستسلام‏.‏‏.‏ فإنها لا تقوم إلا إذا رسخت هذه القاعدة ليقوم عليها البناء‏.‏

وفي الإيقاع الأخير في الفقرة يحشد السياق المؤثرات من الحقائق الأساسية في العقيدة‏:‏ حقيقة الحشر‏.‏ وحقيقة الخلق‏.‏ وحقيقة السلطان‏.‏ وحقيقة العلم بالغيب والشهادة‏.‏ وحقيقة الحكمة والخبرة‏.‏‏.‏ من خصائص الألوهية، التي هي الموضوع الرئيسي في هذه السورة‏:‏

‏{‏وهو الذي إليه تحشرون‏.‏ وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق‏.‏ ويوم يقول‏:‏ كن فيكون‏.‏ قوله الحق، وله الملك يوم ينفخ في الصور، عالم الغيب والشهادة، وهو الحكيم الخبير‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏وهو الذي إليه تحشرون‏}‏‏.‏‏.‏

إن الاستسلام لرب العالمين ضرورة وواجب‏.‏‏.‏ فهو الذي إليه تحشر الخلائق‏.‏‏.‏ فأولى لهم أن يقدموا بين يدي الحشر- الحتمي- ما ينجيهم؛ وأولى لهم أن يستسلموا اليوم له استسلام العالمين؛ قبل أن يقفوا أمامه مسؤولين‏.‏‏.‏ وكذلك يصبح تصور هذه الحقيقة- حقيقة الحشر- موحياً بالاستسلام في المبدأ، ما دام أنه لا مفر من الاستسلام في المصير‏!‏

‏{‏وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه حقيقة أخرى تحشد كمؤثر آخر‏.‏‏.‏ فالله الذي يؤمرون بالاستسلام له هو الذي خلق السماوات والأرض- والذي يخلق يملك ويحكم ويقضي ويتصرف- ولقد خلق السماوات والأرض «بالحق»‏.‏ فالحق قوام هذا الخلق‏.‏‏.‏ وفضلاً عما يقرره هذا النص من نفي الأوهام التي عرفتها الفلسفة عن هذا الكون- وبخاصة الأفلاطونية والمثالية- من أن هذا العالم المحسوس وهم لا وجود له على الحقيقة‏!‏- فضلاً على تصحيح مثل هذه التصورات، فإن النص يوحي بأن الحق أصيل في بنية هذا الكون، وفي مآلاته كذلك‏.‏ فالحق الذي يلوذ به الناس يستند إلى الحق الكامن في فطرة الوجود وطبيعته، فيؤلف قوة هائلة، لا يقف لها الباطل، الذي لا جذور له في بنية الكون، وإنما هو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار‏.‏ وكالزبد يذهب جفاء، إذ لا أصالة له في بناء الكون‏.‏‏.‏ كالحق‏.‏‏.‏‏.‏ وهذه حقيقة ضخمة، ومؤثر كذلك عميق‏.‏‏.‏

إن المؤمن الذي يشعر أن الحق الذي معه- هو شخصياً وفي حدود ذاته- إنما يتصل بالحق الكبير في كيان هذا الوجود‏.‏ وفي الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏ذلك بأن الله هو الحق‏}‏ فيتصل الحق الكبير الذي في الوجود بالحق المطلق في الله سبحانه‏.‏‏.‏ إن المؤمن الذي يشعر بهذه الحقيقة على هذا النحو الهائل، لا يرى في الباطل- مهما تضخم وانتفخ وطغى وتجبر وقدر على الأذى المقدر- إلا فقاعة طارئة على هذا الوجود؛ لا جذور لها ولا مدد؛ تنفثئ من قريب، وتذهب كأن لم تكن في هذا الوجود‏.‏

كما أن غير المؤمن يرتجف حسه أمام تصور هذه الحقيقة‏.‏ وقد يستسلم ويثوب‏!‏

‏{‏ويوم يقول‏:‏ كن فيكون‏}‏‏.‏‏.‏

فهو السلطان القادر، وهي المشيئة الطليقة، في الخلق والإبداع والتغيير والتبديل‏.‏

‏.‏ وعرض هذه الحقيقة- فضلاً على أنه من عمليات البناء للعقيدة في قلوب المؤمنين- هو كذلك مؤثر موح في نفوس الذين يُدعون إلى الاستسلام لله رب العالمين الخالق بالحق‏.‏‏.‏ الذي يقول‏:‏ كن فيكون‏.‏

‏{‏قوله الحق‏}‏‏.‏‏.‏

سواء في القول الذي يكون به الخلق‏:‏ ‏{‏كن فيكون‏}‏‏.‏ أو في القول الذي يأمر به بالاستسلام له وحده‏.‏ أو في القول الذي يشرع به للناس حين يستسلمون‏.‏ أو في القول الذي يخبر به عن الماضي والحاضر والمستقبل‏.‏ وعن الخلق والنشأة والحشر والجزاء‏.‏

قوله الحق في هذا كله‏.‏‏.‏ فأولى أن يستسلم له وحده من يشركون به ما لا ينفع ولا يضر من خلقه‏.‏ ومن يتبعون قول غيره كذلك وتفسيره للوجود وتشريعه للحياة‏.‏ في أي اتجاه‏.‏

‏{‏وله الملك يوم ينفخ في الصور‏}‏‏.‏‏.‏

ففي هذا اليوم يوم الحشر‏.‏‏.‏ يوم ينفخ في الصور ‏(‏هو القرن المجوف كالبوق‏)‏ وهو اليوم الذي يكون فيه البعث والنشر؛ بكيفية غيبية لا يعلمها البشر، فهي من غيب الله الذي احتفظ به‏.‏ والصور كذلك غيب من ناحية ماهيته وحقيقته، ومن ناحية كيفية استجابة الموتى له، والروايات المأثورة؛ تقول‏:‏ هو بوق من نور ينفخ فيه ملك، فيسمع من في القبور، حيث يهبون للنشور- وهذه هي النفخة الثانية- أما الأولى فيصعق لها من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله كما جاء في آية الزمر‏:‏ ‏{‏ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض- إلا من شاء الله- ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون‏}‏ وهذه الأوصاف للصور ولآثار النفخة فيه تعطينا- عن يقين- أنه على غير ما يمكن أن يكون البشر قد عهدوه في هذه الأرض أو تصوروه‏.‏‏.‏ وهو من ثم غيب من غيب الله‏.‏‏.‏ نعلمه بقدر ما أعطانا الله من وصفه وأثره، ولا نتجاوز هذا القدر الذي لا أمان في تجاوزه، ولا يقين‏.‏ إنما هي الظنون‏!‏

في هذا اليوم الذي ينفخ فيه في الصور يبرز- حتى للمنكرين- ويظهر- حتى للمطموسين- أن الملك لله وحده، وأنه لا سلطان إلا سلطانه، ولا إرادة إلا إرادته‏.‏‏.‏ فأولى لمن يأبون الاستسلام له في الدنيا طائعين أن يستسلموا قبل أن يستسلموا لسلطانه المطلق يوم ينفخ في الصور‏.‏

‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏‏.‏‏.‏

الذي يعلم ذلك الغيب المحجوب، كما يعلم هذا الكون المشهود‏.‏ والذي لا تخفى عليه خافية من أمر العباد، ولا يند عنه شأن من شؤونهم‏.‏‏.‏ فأولى لهم أن يسلموا له ويعبدوه ويتقوه‏.‏ وهكذا تذكر هذه الحقيقة لذاتها، وتتخذ مؤثراً موحياً في مواجهة المكذبين والمعارضين‏.‏

‏{‏وهو الحكيم الخبير‏}‏‏.‏‏.‏

يصرف أمور الكون الذي خلقه، وأمور العباد الذين يملكهم في الدنيا والآخرة بالحكمة والخبرة‏.‏‏.‏ فأولى أن يستسلموا لتوجيهه وشرعه، ويسعدوا بآثار حكمته وخبرته‏.‏ ويفيئوا إلى هداه وحده‏.‏ ويخرجوا من التيه، ومن الحيرة، إلى ظلال الحكمة والخبرة، وإلى كنف الهدى والبصيرة‏.‏‏.‏

وهكذا تتخذ هذه الحقيقة مؤثراً موحياً للعقول والقلوب‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 94‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏74‏)‏ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ‏(‏76‏)‏ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ‏(‏77‏)‏ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏78‏)‏ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏79‏)‏ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏80‏)‏ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏81‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏82‏)‏ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏83‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏84‏)‏ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏85‏)‏ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏86‏)‏ وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏87‏)‏ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏88‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏90‏)‏ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏91‏)‏ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏92‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏93‏)‏ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

هذا الدرس بطوله لحمة واحدة؛ يتناول موضوعاً متصل الفقرات‏.‏‏.‏ إنه يعالج الموضوع الأساسي في السورة- وهو بناء العقيدة على قاعدة من التعريف الشامل بحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، وما بينهما من ارتباطات- ولكنه يعالجه في أسلوب آخر غير ما جرى به السياق منذ أول السورة‏.‏‏.‏ يعالجه في أسلوب القصص والتعقيب عليه‏.‏‏.‏ مع استصحاب المؤثرات الموحية التي تزخر بها السورة؛ ومنها مشهد الاحتضار الكامل السمات؛ وذلك كله في نفس طويل رتيب يتوسط الموجات المتلاحقة التي تحدثنا عنها في تقديم السورة‏.‏‏.‏

والدرس- في جملته- يعرض موكب الإيمان الموصول منذ نوح- عليه السلام، إلى محمد- صلى الله عليه وسلم- وفي مطلع هذا الموكب يستعرض حقيقة الألوهية- كما تتجلى في فطرة عبد من عباد الله الصالحين- إبراهيم عليه السلام- ويرسم مشهداً رائعاً حقاً للفطرة السليمة، وهي تبحث عن إلهها الحق، الذي تجده في أعماقها، بينما هي تصطدم في الخارج بانحرافات الجاهلية وتصوراتها‏.‏ إلى أن يخلص لها تصور حق، يطابق ما ارتسم في أعماقها عن إلهها الحق‏.‏ ويقوم على ما تجده في أطوائها من برهان داخلي هو أقوى وأثبت من المشهود المحسوس‏!‏ ذلك حين يحكي السياق عن إبراهيم عليه السلام بعد اهتدائه إلى ربه الحق، واطمئنانه إلى ما وجده في قلبه منه‏:‏ ‏{‏وحاجه قومه‏.‏ قال‏:‏ أتحاجوني في الله وقد هدان‏؟‏ ولا أخاف ما تشركون به، إلا أن يشاء ربي شيئاً، وسع ربي كل شيء علماً، أفلا تتذكرون‏؟‏ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً‏؟‏ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون‏؟‏‏}‏‏.‏

ثم يمضي السياق مع موكب الإيمان الموصول؛ يقوده الرهط الكريم من رسل الله على توالي العصور؛ حيث يبدو شرك المشركين وتكذيب المكذبين لغواً لا وزن له، يتناثر على جانبي الموكب الجليل، الماضي في طريقه الموصول‏.‏ وحيث يلتحم آخره مع أوله؛ فيؤلف الأمة الواحدة، يقتدي آخرها بالهدى الذي اهتدى به أولها، دون اعتبار لزمان أو مكان؛ ودون اعتبار لجنس أو قوم، ودون اعتبار لنسب أو لون‏.‏‏.‏ فالحبل الموصول بين الجميع هو هذا الدين الواحد الذي يحمله ذلك الرهط الكريم‏.‏

إنه مشهد رائع كذلك؛ يبدو من خلال قول الله تعالى لرسوله الكريم بعد استعراض الموكب العظيم‏:‏ ‏{‏ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون‏.‏ أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة‏.‏ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين‏.‏ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده‏.‏ قل‏:‏ لا أسألكم عليه أجراً، إن هو إلا ذكرى للعالمين‏}‏‏.‏

وبعد استعراض هذا الموكب الجليل يجيء التنديد بمن يزعمون أن الله لم يرسل رسلاً، ولم ينزل على بشر كتاباً‏.‏‏.‏ إنهم لم يقدروا الله حق قدره‏.‏ فما قدر الله حق قدره من يقول‏:‏ إنه- سبحانه- تارك الناس لأنفسهم وعقولهم وما يتعاورها من الأهواء والشهوات والضعف والقصور‏.‏ فما يليق هذا بألوهية الله وربوبيته، وعلمه وحكمته وعدله ورحمته‏.‏‏.‏ إنما اقتضت رحمة الله وعلمه ورحمته وعدله أن يرسل إلى عباده رسلاً، وأن ينزل على بعض الرسل كتباً، ليحاولوا جميعاً هداية البشرية إلى بارئها، واستنقاذ فطرتها من الركام الذي يرين عليها، ويغلق منافذها، ويعطل أجهزة الالتقاط والاستجابة فيها‏.‏‏.‏ ويضرب مثلاً الكتاب الذي أنزل على موسى‏.‏ وهذا الكتاب الذي يصدق ما بين يديه من الكتب جميعاً‏.‏‏.‏

وينتهي الدرس الطويل المتلاحم الفقرات باستنكار الافتراء ممن يفتري على الله، وادعاء من يزعم أنه يوحى إليه من الله، وادعاء القدرة على تنزيل مثل ما أنزل الله‏.‏‏.‏ وهي الدعاوى التي كان يدعيها بعض من يواجهون الدعوة الإسلامية، وفيهم من ادعى الوحي وفيهم من ادعى النبوة‏.‏

وفي الختام يجيء مشهد الاحتضار المكروب للمشركين‏:‏

‏{‏ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت، والملائكة باسطو أيديهم‏:‏ أخرجوا أنفسكم، اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون‏.‏ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم، وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء‏!‏ لقد تقطع بينكم، وضل عنكم ما كنتم تزعمون‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهو مشهد كئيب مكروب رعيب؛ يجلله الهوان ويصاحبه التنديد والتأنيب‏.‏ جزاء الاستكبار والإعراض والافتراء والتكذيب‏.‏‏.‏

‏{‏وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر‏:‏ أتتخذ أصناماً آلهة‏؟‏ إني أراك وقومك في ضلال مبين‏.‏‏.‏ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض، وليكون من الموقنين‏.‏‏.‏ فلما جن عليه الليل رأى كوكباً‏.‏ قال‏:‏ هذا ربي، فلما أفل قال‏:‏ لا أحب الآفلين‏.‏ فلما رأى القمر بازغاً قال‏:‏ هذا ربي، فلما أفل قال‏:‏ لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين‏.‏ فلما رأى الشمس بازغة قال‏:‏ هذا ربي، هذا أكبر، فلما أفلت قال‏:‏ يا قوم إني بريء مما تشركون‏.‏ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين‏}‏‏.‏‏.‏

إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يرسمه السياق القرآني في هذه الآيات‏.‏‏.‏ مشهد الفطرة وهي- للوهلة الأولى- تنكر تصورات الجاهلية في الأصنام وتستنكرها‏.‏ وهي تنطلق بعد إذ نفضت عنها هذه الخرافة في شوق عميق دافق تبحث عن إلهها الحق، الذي تجده في ضميرها، ولكنها لا تتبينه في وعيها وإدراكها‏.‏ وهي تتعلق في لهفتها المكنونة بكل ما يلوح أنه يمكن أن يكون هو هذا الإله‏!‏ حتى إذا اختبرته وجدته زائفاً، ولم تجد فيه المطابقة لما هو مكنون فيها من حقيقة الإله وصفته‏.‏

‏.‏ ثم وهي تجد الحقيقة تشرق فيها وتتجلى لها‏.‏ وهي تنطلق بالفرحة الكبرى، والامتلاء الجياش، بهذه الحقيقة، وهي تعلن في جيشان اللقيا عن يقينها الذي وجدته من مطابقة الحقيقة التي انتهت إليها بوعيها للحقيقة التي كانت كامنة من قبل فيها‏!‏‏.‏‏.‏ إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يتجلى في قلب إبراهيم- عليه السلام- والسياق يعرض التجربة الكبرى التي اجتازها في هذه الآيات القصار‏.‏‏.‏ إنها قصة الفطرة مع الحق والباطل‏.‏ وقصة العقيدة كذلك يصدع بها المؤمن ولا يخشى فيها لومة لائم؛ ولا يجامل على حسابها أباً ولا أسرة ولا عشيرة ولا قوماً‏.‏‏.‏ كما وقف إبراهيم من أبيه وقومه هذه الوقفة الصلبة الحاسمة الصريحة‏:‏

‏{‏وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر‏:‏ أتتخذ أصناماً آلهة‏؟‏ أني أراك وقومك في ضلال مبين‏}‏‏.‏‏.‏

إنها الفطرة تنطق على لسان إبراهيم‏.‏ إنه لم يهتد بعد بوعيه وإدراكه- إلى إلهه- ولكن فطرته السليمة تنكر ابتداء أن تكون هذه الأصنام التي يعبدها قومه آلهة- وقوم إبراهيم من الكلدانيين بالعراق كانوا يعبدون الأصنام كما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم- فالإله الذي يعبد، والذي يتوجه إليه العباد في السراء والضراء، والذي خلق الناس والأحياء‏.‏‏.‏ هذا الإله في فطرة إبراهيم لا يمكن أن يكون صنماً من حجر، أو وثناً من خشب‏.‏‏.‏ وإذا لم تكن هذه الأصنام هي التي تخلق وترزق وتسمع وتستجيب- وهذا ظاهر من حالها للعيان- فما هي بالتي تستحق أن تعبد؛ وما هي بالتي تتخذ آلهة حتى على سبيل أن تتخذ واسطة بين الإله الحق والعباد‏!‏

وإذن فهو الضلال البين تحسه فطرة إبراهيم- عليه السلام- للوهلة الأولى‏.‏ وهي النموذج الكامل للفطرة التي فطر الله الناس عليها‏.‏‏.‏ ثم هي النموذج الكامل للفطرة وهي تواجه الضلال البين، فتنكره وتستنكره، وتجهر بكلمة الحق وتصدع، حينما يكون الأمر هو أمر العقيدة‏:‏

‏{‏أتتخذ أصناماً آلهة‏؟‏ إني أراك وقومك في ضلال مبين‏}‏‏.‏‏.‏

كلمة يقولها إبراهيم- عليه السلام- لأبيه‏.‏ وهو الأواه الحليم الرضي الخلق السمح اللين‏.‏ كما ترد أوصافه في القرآن الكريم‏.‏ ولكنها العقيدة هنا‏.‏ والعقيدة فوق روابط الأبوة والبنوة، وفوق مشاعر الحلم والسماحة‏.‏ وإبراهيم هو القدوة التي أمر الله المسلمين من بنيه أن يتأسوا بها‏.‏ والقصة تعرض لتكون أسوة ومثالاً‏.‏‏.‏

وكذلك استحق إبراهيم- عليه السلام- بصفاء فطرته وخلوصها للحق أن يكشف الله لبصيرته عن الأسرار الكامنة في الكون، والدلائل الموحية بالهدى في الوجود‏:‏

‏{‏وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض، وليكون من الموقنين‏}‏‏.‏‏.‏

بمثل هذه الفطرة السليمة، وهذه البصيرة المفتوحة؛ وعلى هذا النحو من الخلوص للحق، ومن إنكار الباطل في قوة‏.‏‏.‏ نري إبراهيم حقيقة هذا الملك‏.‏‏.‏ ملك السماوات والأرض‏.‏‏.‏ ونطلعه على الأسرار المكنونة في صميم الكون، ونكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود، ونصل بين قلبه وفطرته وموحيات الإيمان ودلائل الهدى في هذا الكون العجيب‏.‏

لينتقل من درجة الإنكار على عبادة الآلهة الزائفة، إلى درجة اليقين الواعي بالإله الحق‏.‏‏.‏

وهذا هو طريق الفطرة البديهي العميق‏.‏‏.‏ وعي لا يطمسه الركام‏.‏ وبصر يلحظ ما في الكون من عجائب صنع الله‏.‏ وتدبر يتبع المشاهد حتى تنطق له بسرها المكنون‏.‏‏.‏ وهداية من الله جزاء على الجهاد فيه‏.‏‏.‏

وكذلك سار إبراهيم- عليه السلام- وفي هذا الطريق وجد الله‏.‏‏.‏ وجده في إدراكه ووعيه، بعد أن كان يجده فحسب في فطرته وضميره‏.‏‏.‏ ووجد حقيقة الألوهية في الوعي والإدراك مطابقة لما استكن منها في الفطرة والضمير‏.‏

فلنتابع الرحلة الشائقة مع فطرة إبراهيم الصادقة‏.‏‏.‏ إنها رحلة هائلة وإن كانت تبدو هينة ميسرة‏!‏ رحلة من نقطة الإيمان الفطري إلى نقطة الإيمان الوعي‏!‏ الإيمان الذي يقوم عليه التكليف بالفرائض والشرائع؛ والذي لا يكل الله- سبحانه- جمهرة الناس فيه إلى عقولهم وحدها، فيبينه لهم في رسالات الرسل، ويجعل الرسالة- لا الفطرة ولا العقل البشري- هي حجته عليهم، وهي مناط الحساب والجزاء، عدلاً منه ورحمة، وخبرة بحقيقة الإنسان وعلماً‏.‏‏.‏

فأما إبراهيم- عليه السلام- فهو إبراهيم‏!‏ خليل الرحمن وأبو المسلمين‏.‏‏.‏

‏{‏فلما جن عليه الليل رأى كوكباً‏.‏ قال‏:‏ هذا ربي، فلما أفل قال‏:‏ لا أحب الآفلين‏}‏‏.‏‏.‏

إنها صورة لنفس إبراهيم، وقد ساورها الشك- بل الإنكار الجازم- لما يعبد أبوه وقومه من الأصنام‏.‏ وقد باتت قضية العقيدة هي التي تشغل باله، وتزحم عالمه‏.‏‏.‏ صورة يزيدها التعبير شخوصا بقوله‏:‏ ‏{‏فلما جن عليه الليل‏}‏‏.‏‏.‏ كأنما الليل يحتويه وحده، وكأنما يعزله عن الناس حوله، ليعيش مع نفسه وخواطره وتأملاته، ومع همه الجديد الذي يشغل باله ويزحم خاطره‏:‏

‏{‏فلما جن عليه الليل رأى كوكباً، قال‏:‏ هذا ربي‏}‏‏.‏‏.‏

وكان قومه يعبدون الكواكب والنجوم- كما أسلفنا- فلما أن يئس من أن يكون إلهه الحق- الذي يجده في فطرته في صورة غير مدركة ولا واعية- صنماً من تلك الأصنام، فلعله رجا أن يجده في شيء مما يتوجه إليه قومه بالعبادة‏!‏

وما كانت هذه أول مرة يعرف فيها إبراهيم أن قومه يتجهون بالعبادة إلى الكواكب والنجوم‏.‏ وما كانت هذه أول مرة يرى فيها إبراهيم كوكباً‏.‏‏.‏ ولكن الكوكب- الليلة- ينطق له بما لم ينطق من قبل، ويوحي إلى خاطره بما يتفق مع الهم الذي يشغل باله، ويزحم عليه عالمه‏:‏

‏{‏قال‏:‏ هذا ربي‏}‏‏.‏‏.‏

فهو بنوره وبزوغه وارتفاعه أقرب- من الأصنام- إلى أن يكون رباً‏!‏‏.‏‏.‏ ولكن لا‏!‏ إنه يكذب ظنه‏:‏ ‏{‏فلما أفل قال‏:‏ لا أحب الآفلين‏}‏‏.‏‏.‏

إنه يغيب‏.‏‏.‏ يغيب عن هذه الخلائق‏.‏

فمن ذا يرعاها إذن ومن ذا يدبر أمرها‏.‏‏.‏ إذا كان الرب يغيب‏؟‏‏!‏ لا، إنه ليس رباً، فالرب لا يغيب‏!‏

إنه منطق الفطرة البديهي القريب‏.‏‏.‏ لا يستشير القضايا المنطقية والفروض الجدلية، إنما ينطلق مباشرة في يسر وجزم‏.‏ لأن الكينونة البشرية كلها تنطق به في يقين عميق‏.‏‏.‏

‏{‏لا أحب الآفلين‏}‏‏.‏‏.‏

فالصلة بين الفطرة وإلهها هي صلة الحب؛ والآصرة هي آصرة القلب‏.‏‏.‏ وفطرة إبراهيم «لا تحب» الآفلين، ولا تتخذ منهم إلهاً‏.‏ إن الإله الذي تحبه الفطرة‏.‏‏.‏ لا يغيب‏.‏‏.‏ ‏!‏

‏{‏فلما رأى القمر بازغاً قال‏:‏ هذا ربي‏.‏ فلما أفل قال‏:‏ لئن لم يهدني ربي لآكونن من القوم الضالين‏}‏‏.‏‏.‏

إن التجربة تتكرر‏.‏ وكأن إبراهيم لم ير القمر قط؛ ولم يعرف أن أهله وقومه يعبدونه‏!‏ فهو الليلة في نظره جديد‏:‏

‏{‏قال‏:‏ هذا ربي‏}‏‏.‏‏.‏

بنوره الذي ينسكب في الوجود؛ وتفرده في السماء بنوره الحبيب‏.‏‏.‏ ولكنه يغيب‏!‏‏.‏‏.‏ والرب- كما يعرفه إبراهيم بفطرته وقلبه- لا يغيب‏!‏

هنا يحس إبراهيم أنه في حاجة إلى العون من ربه الحق الذي يجده في ضميره وفطرته، ربه الذي يحبه، ولكنه بعد لم يجده في إدراكه ووعيه‏.‏‏.‏ ويحس أنه ضال مضيع إن لم يدركه ربه بهدايته‏.‏ إن لم يمد إليه يده‏.‏ ويكشف له عن طريقه‏:‏

‏{‏قال‏:‏ لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏فلما رأى الشمس بازغة قال‏:‏ هذا ربي‏.‏ هذا أكبر‏.‏ فلما أفلت قال‏:‏ يا قوم إني بريء مما تشركون‏.‏ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين‏}‏‏.‏

إنها التجربة الثالثة مع أضخم الأجرام المنظورة وأشدها ضوءاً وحرارة‏.‏‏.‏ الشمس‏.‏‏.‏ والشمس تطلع كل يوم وتغيب‏.‏ ولكنها اليوم تبدو لعيني إبراهيم كأنها خلق جديد‏.‏ إنه اليوم يرى الأشياء بكيانه المتطلع إلى إله يطمئن به ويطمئن إليه؛ ويستقر على قرار ثابت بعد الحيرة المقلقة والجهد الطويل‏:‏

‏{‏قال‏:‏ هذا ربي‏.‏ هذا أكبر‏}‏‏.‏

ولكنها كذلك تغيب‏.‏‏.‏

هنا يقع التماس، وتنطلق الشرارة، ويتم الاتصال بين الفطرة الصادقة والله الحق، ويغمر النور القلب ويفيض على الكون الظاهر وعلى العقل والوعي‏.‏‏.‏ هنا يجد إبراهيم إلهه‏.‏‏.‏ يجده في وعيه وإدراكه كما هو في فطرته وضميره‏.‏‏.‏ هنا يقع التطابق بين الإحساس الفطري المكنون والتصور العقلي الواضح‏.‏‏.‏

وهنا يجد إبراهيم إلهه‏.‏ ولكنه لا يجده في كوكب يلمع، ولا في قمر يطلع، ولا في شمس تسطع‏.‏‏.‏ ولا يجده فيما تبصر العين، ولا فيما يحسه الحس‏.‏‏.‏ إنه يجده في قلبه وفطرته، وفي عقله ووعيه، وفي الوجود كله من حوله‏.‏‏.‏ إنه يجده خالقاً لكل ما تراه العين، ويحسه الحس، وتدركه العقول‏.‏

وعندئذ يجد في نفسه المفاصلة الكاملة بينه وبين قومه في كل ما يعبدون من آلهة زائفة؛ ويبرأ في حسم لا مواربة فيه من وجهتهم ومنهجهم وما هم عليه من الشرك- وهم لم يكونوا يجحدون الله البتة، ولكنهم كانوا يشركون هذه الأرباب الزائفة- وإبراهيم يتجه إلى الله وحده بلا شريك‏:‏

‏{‏قال‏:‏ يا قوم إني بريء مما تشركون‏.‏

إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين‏}‏‏.‏‏.‏

فهو الاتجاه إلى فاطر السماوات والأرض‏.‏ الاتجاه الحنيف الذي لا ينحرف إلى الشرك‏.‏ وهي الكلمة الفاصلة، واليقين الجازم، والاتجاه الأخير‏.‏‏.‏ فلا تردد بعد ذلك ولا حيرة فيما تجلى للعقل من تصور مطابق للحقيقة التي في الضمير‏.‏‏.‏

ومرة أخرى نشهد ذلك المشهد الرائع الباهر‏.‏‏.‏ مشهد العقيدة وقد استعلنت في النفس، واستولت على القلب، بعدما وضحت وضوحها الكامل وانجلى عنها الغبش‏.‏‏.‏ نشهدها وقد ملأت الكيان الإنساني، فلم يعد وراءها شيء‏.‏ وقد سكبت فيه الطمأنينة الواثقة بربه الذي وجده في قلبه وعقله وفي الوجود من حوله‏.‏‏.‏ وهو مشهد يتجلى بكل روعته وبهائه في الفقرة التالية في السياق‏.‏

لقد انتهى إبراهيم إلى رؤية الله- سبحانه- في ضميره وعقله وفي الوجود من حوله‏.‏ وقد اطمأن قلبه واستراح باله‏.‏ وقد أحس بيد الله تأخذ بيده وتقود خطاه في الطريق‏.‏‏.‏ والآن يجيء قومه ليجادلوه فيما انتهى إليه من يقين؛ وفيما انشرح له صدره من توحيد؛ وليخوفوه آلهتهم التي تنكر لها أن تنزل به سوءاً‏.‏‏.‏ وهو يواجههم في يقينه الجازم؛ وفي إيمانه الراسخ؛ وفي رؤيته الباطنة والظاهرة لربه الحق الذي هداه‏:‏

‏{‏وحاجه قومه، قال‏:‏ أتحاجوني في الله وقد هدان‏؟‏ ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً، وسع ربي كل شيء علماً‏.‏ أفلا تتذكرون‏؟‏ وكيف أخاف ما أشركتم، ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً‏؟‏ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن الفطرة حين تنحرف تضل؛ ثم تتمادى في ضلالها، وتتسع الزاوية ويبعد الخط عن نقطة الابتداء، حتى ليصعب عليها أن تثوب‏.‏‏.‏ وهؤلاء قوم إبراهيم- عليه السلام- يعبدون أصناماً وكواكب ونجوماً‏.‏ فلا يتفكرون ولا يتدبرون هذه الرحلة الهائلة التي تمت في نفس إبراهيم‏.‏ ولم يكن هذا داعياً لهم لمجرد التفكر والتدبر‏.‏ بل جاءوا يجادلونه ويحاجونه‏.‏ وهم على هذا الوهن الظاهر في تصوراتهم وفي ضلال مبين‏.‏

ولكن إبراهيم المؤمن الذي وجد الله في قلبه وعقله وفي الوجود كله من حوله، يواجههم مستنكراً في طمأنينة ويقين‏:‏

‏{‏قال‏:‏ أتحاجوني في الله وقد هدانِ‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

أتجادلونني في الله وقد وجدته يأخذ بيدي، ويفتح بصيرتي، ويهديني إليه، ويعرفني به‏.‏‏.‏ لقد أخذ بيدي وقادني فهو موجود- وهذا هو في نفسي دليل الوجود- لقد رأيته في ضميري وفي وعيي، كما رأيته في الكون من حولي‏.‏ فما جدالكم في أمر أنا أجده في نفسي ولا أطلب عليه الدليل‏.‏ فهدايته لي إليه هي الدليل‏؟‏‏!‏

‏{‏ولا أخاف ما تشركون به‏}‏‏.‏

وكيف يخاف من وجد الله‏؟‏ وماذا يخاف ومن ذا يخاف‏؟‏ وكل قوة- غير قوة الله- هزيلة وكل سلطان- غير سلطان الله- لا يُخاف‏؟‏‏!‏

ولكن إبراهيم في عمق إيمانه، واستسلام وجدانه، لا يريد أن يجزم بشيء إلا مرتكناً إلى مشيئة الله الطليقة، وإلى علم الله الشامل‏:‏

‏{‏إلا أن يشاء ربي شيئاً‏.‏ وسع ربي كل شيء علماً‏}‏‏.‏

فهو يكل إلى مشيئة الله حمايته ورعايته؛ ويعلن أنه لا يخاف من آلهتهم شيئاً، لأنه يركن إلى حماية الله ورعايته‏.‏ ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما شاءه الله، ووسعه علمه الذي يسع كل شيء‏.‏‏.‏

‏{‏وكيف أخاف ما أشركتم، ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا‏؟‏ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون‏؟‏‏}‏‏.‏

إنه منطق المؤمن الواثق المدرك لحقائق هذا الوجود‏.‏ إنه إن كان أحد قميناً بالخوف فليس هو إبراهيم- وليس هو المؤمن الذي يضع يده في يد الله ويمضي في الطريق- وكيف يخاف آلهة عاجزة- كائنة ما كانت هذه الآلهة، والتي تتبدى أحياناً في صورة جبارين في الأرض بطاشين؛ وهم أمام قدرة الله مهزولون مضعوفون‏!‏- كيف يخاف إبراهيم هذه الآلهة الزائفة العاجزة، ولا يخافون هم أنهم أشركوا بالله ما لم يجعل له سلطاناً ولا قوة من الأشياء والأحياء‏؟‏ وأي الفريقين أحق بالأمن‏؟‏ الذي يؤمن به ويكفر بالشركاء‏؟‏ أم الذي يشرك بالله ما لا سلطان له ولا قوة‏؟‏ أي الفريقين أحق بالأمن، لو كان لهم شيء من العلم والفهم‏؟‏‏!‏

هنا يتنزل الجواب من الملأ الأعلى؛ ويقضي الله بحكمه في هذه القضية‏:‏

‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون‏}‏‏.‏‏.‏

الذين آمنوا وأخلصوا أنفسهم لله، لا يخلطون بهذا الإيمان شركاً في عبادة ولا طاعة ولا اتجاه‏.‏ هؤلاء لهم الأمن، وهؤلاء هم المهتدون‏.‏‏.‏

‏{‏وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه، نرفع درجات من نشاء‏.‏‏.‏‏}‏

ولقد كانت هذه هي الحجة التي ألهمها الله إبراهيم ليدحض بها حجتهم التي جاءوا بها يجادلونه‏.‏ ولقد كشف لهم عن وهن ما هم عليه من تصورهم أن هذه الآلهة تملك أن تسيء إليه‏.‏‏.‏ وواضح أنهم ما كانوا يجحدون وجود الله؛ ولا أنه هو صاحب القوة والسلطان في الكون، ولكنهم كانوا يشركون به هذه الآلهة‏.‏ فلما واجههم إبراهيم، بأن من كان يخلص نفسه لله لا يخاف من دونه، فأما من يشرك بالله فهو أحق بالمخافة‏.‏‏.‏ لما واجههم بهذه الحجة التي آتاها الله له وألهمه إياها، سقطت حجتهم، وعلت حجته، وارتفع إبراهيم على قومه عقيدة وحجة ومنزلة‏.‏‏.‏ وهكذا يرفع الله من يشاء درجات‏.‏ متصرفاً في هذا بحكمته وعلمه‏:‏

‏{‏إن ربك حكيم عليم‏}‏‏.‏‏.‏

وقبل أن نغادر هذه الفقرة نحب أن نستمتع بنفحة من نفحات الحياة في عصر صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهذا القرآن يتنزل عليهم غضاً؛ وتشربه نفوسهم؛ وتعيش به وله؛ وتتعامل به وتتعايش بمدلولاته وإيحاءاته ومقتضياته، في جد وفي وعي وفي التزام عجيب، تأخذنا روعته وتبهرنا جديته؛ وندرك منه كيف كان هذا الرهط الفريد من الناس، وكيف صنع الله بهذا الرهط ما صنع من الخوارق، في ربع قرن من الزمان‏:‏

روى ابن جرير- بإسناده-

«عن عبدالله بن إدريس، قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}‏، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقالوا‏:‏ أينا لم يظلم نفسه‏؟‏ قال‏:‏ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليس كما تظنون‏.‏ وإنما هو ما قال لقمان لابنه‏:‏ ‏{‏لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم»

وروى كذلك- بإسناده- عن ابن المسيب، أن عمر بن الخطاب قرأ‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}‏ فلما قرأها فزع‏.‏ فأتى أبيّ بن كعب‏.‏ فقال‏:‏ يا أبا المنذر، قرأت آية من كتاب الله‏.‏ من يَسلم‏؟‏ فقال‏:‏ ما هي‏؟‏‏.‏‏.‏ فقرأها عليه‏.‏‏.‏ فأينا لا يظلم نفسه‏؟‏ فقال‏:‏ غفر الله لك‏!‏ أما سمعت الله تعالى ذكره يقول‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ إنما هو‏:‏ ولم يلبسوا إيمانهم بشرك‏.‏

وروى- بإسناده- عن أبي الأشعر العبدي عن أبيه، أن زيد بن صوحان سأل سلمان، فقال‏:‏ يا أبا عبدالله، آية من كتاب الله قد بلغت مني كل مبلغ‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}‏ ‏!‏ فقال سلمان‏:‏ هو الشرك بالله تعالى ذكره‏.‏ فقال زيد‏:‏ ما يسرني بها أني لم أسمعها منك، وأن لي مثل كل شيء أمسيت أملكه‏.‏

فهذه الآثار الثلاثة تصور لنا كيف كان حس هذا الرهط الكريم بهذا القرآن الكريم‏.‏ كيف كانت جدية وقعه في نفوسهم‏.‏ كيف كانوا يتلقونه وهم يشعرون أنه أوامر مباشرة للتنفيذ وتقريرات حاسمة للطاعة، وأحكام نهائية للنفاذ‏.‏ وكيف كانوا يفزعون حين يظنون أن هناك مفارقة بين طاقتهم المحدودة ومستوى التكليف المطلوب‏.‏ وكيف كانوا يجزعون أن يؤاخذوا بأي درجة من درجات التقصير، والتفاوت بين عملهم وبين مستوى التكليف‏.‏ حتى يأتيهم من الله ورسوله التيسير‏.‏

إنه مشهد كذلك رائع باهر‏.‏‏.‏ مشهد هذه النفوس التي حملت هذا الدين‏.‏‏.‏ وكانت ستاراً لقدر الله؛ ومنفذاً لمشيئته في واقع الحياة‏.‏‏.‏

بعد ذلك يعرض السياق موكب الإيمان الجليل، يقوده ذلك الرهط الكريم من الرسل‏:‏ من نوح إلى إبراهيم إلى خاتم النبيين- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- يعرض السياق هذا الموكب ممتداً موصولاً- وبخاصة منذ إبراهيم وبنيه من النبيين- ولا يراعي التسلسل التاريخي في هذا العرض- كما يلاحظ في مواضع أخرى- لأن المقصود هنا هو الموكب بجملته، لا تسلسله التاريخي‏:‏

‏{‏ووهبنا له إسحاق ويعقوب- كلاً هدينا- ونوحاً هدينا من قبل- ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون‏.‏

‏.‏ وكذلك نجزى المحسنين‏.‏‏.‏ وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس‏.‏‏.‏ كل من الصالحين‏.‏ وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا‏.‏‏.‏ وكلاً فضلنا على العالمين‏.‏‏.‏ ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم‏.‏‏.‏ واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم‏.‏‏.‏ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون‏.‏ أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة‏.‏ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين‏.‏ أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده، قل‏:‏ لا أسألكم عليه أجراً‏.‏ إن هو إلا ذكرى للعالمين‏}‏‏.‏‏.‏

وفي الآيات ذكر لسبعة عشر نبياً رسولاً- غير نوح وإبراهيم- وإشارة إلى آخرين من ‏{‏آبائهم وذرياتهم وإخوانهم‏}‏‏.‏‏.‏ والتعقيبات على هذا الموكب‏:‏ ‏{‏وكذلك نجزي المحسنين‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وكلاً فضلنا على العالمين‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم‏}‏‏.‏‏.‏ وكلها تعقيبات تقرر إحسان هذا الرهط الكريم واصطفاءه من الله، وهدايته إلى الطريق المستقيم‏.‏

وذكر هذا الرهط على هذا النحو، واستعراض هذا الموكب في هذه الصورة، كله تمهيد للتقريرات التي تليه‏:‏

‏{‏ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا تقرير لينابيع الهدى في هذه الأرض‏.‏ فهدى الله للبشر يتمثل فيما جاءت به الرسل‏.‏ وينحصر المستيقن منه، والذي يجب اتباعه، في هذا المصدر الواحد، الذي يقرر الله- سبحانه- أنه هو هدى الله؛ وأنه هو الذي يهدي إليه من يختار من عباده‏.‏‏.‏ ولو أن هؤلاء العباد المهديين حادوا عن توحيد الله، وتوحيد المصدر الذي يستمدون منه هداه، وأشركوا بالله في الاعتقاد أو العبادة أو التلقي، فإن مصيرهم أن يحبط عنهم عملهم‏:‏ أي ان يذهب ضياعاً، ويهلك كما تهلك الدابة التي ترعى نبتاً مسموماً فتنتفخ ثم تموت‏.‏‏.‏ وهذا هو الأصل اللغوي للحبوط‏!‏

‏{‏أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة‏.‏ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا هو التقرير الثاني‏.‏‏.‏ فقرر في الأول مصدر الهدى، وقصره على هدى الله الذي جاءت به الرسل‏.‏ وقرر في الثاني أن الرسل الذين ذكرهم والذين أشار إليهم، هم الذين آتاهم الله الكتاب والحكمة والسلطان والنبوة- «والحكم» يجيء بمعنى الحكمة كما يجيء بمعنى السلطان كذلك- وكلا المعنيين محتمل في الآية‏.‏ فهؤلاء الرسل أنزل الله على بعضهم الكتاب كالتوراة مع موسى، والزبور مع داود، والإنجيل مع عيسى‏.‏ وبعضهم آتاه الله الحكم كداود وسليمان- وكلهم أوتي السلطان على معنى أن ما معه من الدين هو حكم الله، وأن الدين الذي جاءوا به يحمل سلطان الله على النفوس وعلى الأمور‏.‏

فما أرسل الله الرسل إلا ليطاعوا، وما أنزل الكتاب إلا ليحكم بين الناس بالقسط، كما جاء في الآيات الأخرى‏.‏ وكلهم أوتي الحكمة وأوتي النبوة‏.‏‏.‏ وأولئك هم الذين وكلهم الله بدينه، يحملونه إلى الناس، ويقومون عليه، ويؤمنون به ويحفظونه‏.‏‏.‏ فإذا كفر بالكتاب والحكم والنبوة مشركو العرب‏:‏ ‏{‏هؤلاء‏}‏ فإن دين الله غني عنهم؛ وهؤلاء الرهط الكرام والمؤمنون بهم هم حسب هذا الدين‏!‏‏.‏‏.‏ إنها حقيقة قديمة امتدت شجرتها، وموكب موصول تماسكت حلقاته؛ ودعوة واحدة حملها رسول بعد رسول؛ وآمن بها ويؤمن من يقسم الله له الهداية؛ بما يعلمه من استحقاقه للهداية‏!‏‏.‏‏.‏ وهو تقرير يسكب الطمأنينة في قلب المؤمن، وفي قلوب العصبة المسلمة- أياً كان عددها- إن هذه العصبة ليست وحدها‏.‏ ليست مقطوعة من شجرة‏!‏ إنها فرع منبثق من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وحلقة في موكب جليل موصول، موصولة أسبابه بالله وهداه‏.‏‏.‏ إن المؤمن الفرد، في أي أرض وفي أي جيل، قوي قوي، وكبير كبير، إنه من تلك الشجرة المتينة السامقة الضاربة الجذور في أعماق الفطرة البشرية وفي أعماق التاريخ الإنساني، وعضو من ذلك الموكب الكريم الموصول بالله وهداه منذ أقدم العصور‏.‏

‏{‏أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده‏.‏ قل‏:‏ لا أسألكم عليه أجراً‏.‏ إن هو إلا ذكرى للعالمين‏}‏‏.‏‏.‏

وهو التقرير الثالث‏.‏‏.‏ فهؤلاء الرهط الكرام الذين يقودون موكب الإيمان، هم الذين هداهم الله‏.‏ وهداهم الذي جاءهم من الله فيه القدوة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن آمن به‏.‏ فهذا الهدى وحده هو الذي يسير عليه‏.‏ وهذا الهدى وحده هو الذي يحتكم إليه، وهذا الهدى وحده هو الذي يدعو إليه ويبشر به‏.‏‏.‏ قائلاً لمن يدعوهم‏:‏

‏{‏لا أسألكم عليه أجراً‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏إن هو إلا ذكرى للعالمين‏}‏‏.‏‏.‏ للعالمين‏.‏‏.‏ لا يختص به قوم ولا جنس ولا قريب ولا بعيد‏.‏‏.‏ إنه هدى الله لتذكير البشر كافة‏.‏ ومن ثم فلا أجر عليه يتقاضاه‏.‏ وإنما أجره على الله‏!‏

ثم يمضي السياق يندد بمنكري النبوات والرسالات، ويصمهم بأنهم لا يقدرون الله قدره، ولا يعرفون حكمة الله ورحمته وعدله‏.‏ ويقرر أن الرسالة الأخيرة إنما تجري على سنة الرسالات قبلها؛ وأن الكتاب الأخير مصدق لما بين يديه من الكتب‏.‏‏.‏ مما يتفق مع ظل الموكب الذي سبق عرضه ويتناسق‏:‏

‏{‏وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا‏:‏ ما أنزل الله على بشر من شيء‏.‏ قل‏:‏ من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس- تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً- وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم‏؟‏ قل‏:‏ الله‏.‏ ثم ذرهم في خوضهم يلعبون‏.‏ وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه، ولتنذر أم القرى ومن حولها، والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به، وهم على صلاتهم يحافظون‏}‏‏.‏

لقد كان المشركون في معرض العناد واللجاج يقولون‏:‏ إن الله لم يرسل رسولاً من البشر؛ ولم ينزل كتاباً يوحي به إلى بشر‏.‏ بينما كان إلى جوارهم في الجزيرة أهل الكتاب من اليهود؛ ولم يكونوا ينكرون عليهم أنهم أهل كتاب، ولا أن الله أنزل التوارة على موسى- عليه السلام- إنما هم كانوا يقولون ذلك القول في زحمة العناد واللجاج، ليكذبوا برسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- لذلك يواجههم القرآن الكريم بالتنديد بقولتهم‏:‏ ما أنزل الله على بشر من شيء؛ كما يواجههم بالكتاب الذي جاء به موسى من قبل‏:‏

‏{‏وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا‏:‏ ما أنزل الله على بشر من شيء‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا القول الذي كان يقوله مشركو مكة في جاهليتهم، يقوله أمثالهم في كل زمان؛ ومنهم الذين يقولونه الآن؛ ممن يزعمون أن الأديان من صنع البشر؛ وأنها تطورت وترقت بتطور البشر وترقيهم‏.‏ لا يفرقون في هذا بين ديانات هي من تصورات البشر أنفسهم، كالوثنيات كلها قديماً وحديثاً، ترتقي وتنحط بارتقاء أصحابها وانحطاطهم، ولكنها تظل خارج دين الله كله‏.‏ وبين ديانات جاء بها الرسل من عند الله، وهي ثابتة على أصولها الأولى؛ جاء بها كل رسول؛ فتقبلتها فئة وعتت عنها فئة؛ ثم وقع الانحراف عنها والتحريف فيها، فعاد الناس إلى جاهليتهم في انتظار رسول جديد، بذات الدين الواحد الموصول‏.‏

وهذا القول يقوله- قديماً أو حديثاً- من لا يقدر الله حق قدره؛ ومن لا يعرف كرم الله وفضله، ورحمته وعدله‏.‏‏.‏ إنهم يقولون‏:‏ إن الله لا يرسل من البشر رسولا ولو شاء لأنزل ملائكة‏!‏ كما كان العرب يقولون‏.‏ أو يقولون‏:‏ إن خالق هذا الكون الهائل لا يمكن أن يعني بالإنسان «الضئيل» في هذه الذرة الفلكية التي اسمها الأرض‏!‏ بحيث يرسل له الرسل؛ وينزل على الرسل الكتب لهداية هذا المخلوق الصغير في هذا الكوكب الصغير‏!‏ وذلك كما يقول بعض الفلاسفة في القديم والحديث‏!‏ أو يقولون‏:‏ إنه ليس هناك من إله ولا من وحي ولا من رسل‏.‏‏.‏ إنما هي أوهام الناس أو خداع بعضهم لبعض باسم الدين‏!‏ كما يقول الماديون الملحدون‏!‏

وكله جهل بقدر الله- سبحانه- فالله الكريم العظيم العادل الرحيم، العليم الحكيم‏.‏‏.‏‏.‏ لا يدع هذا الكائن الإنساني وحده، وهو خلقه، وهو يعلم سره وجهره، وطاقاته وقواه، ونقصه وضعفه، وحاجته إلى الموازين القسط التي يرجع إليها بتصوراته وأفكاره، وأقواله وأعماله، وأوضاعه ونظامه، ليرى إن كانت صواباً وصلاحاً، أو كانت خطأ وفساداً‏.‏‏.‏ ويعلم- سبحانه- أن العقل الذي أعطاه له، يتعرض لضغوط كثيرة من شهواته ونزواته ومطامعه ورغباته، فضلاً على أنه موكل بطاقات الأرض التي له عليها سلطان بسبب تسخيرها له من الله، وليس موكلاً بتصور الوجود تصوراً مطلقاً، ولا بصياغة الأسس الثابتة للحياة‏.‏

فهذا مجال العقيدة التي تأتي له من الله؛ فتنشئ له تصوراً سليماً للوجود والحياة‏.‏‏.‏ ومن ثم لا يكله الله إلى هذا العقل وحده، ولا يكله كذلك إلى ما أودع فطرته من معرفة لدنية بربها الحق، وشوق إليه، ولياذ به في الشدائد‏.‏‏.‏ فهذه الفطرة قد تفسد كذلك بسبب ما يقع عليها من ضغوط داخلية وخارجية، وبسبب الإغواء والاستهواء الذي يقوم به شياطين الجن والإنس، بكل ما يملكون من أجهزة التوجيه والتأثير‏.‏‏.‏ إنما يكل الله الناس إلى وحيه ورسله وهداه وكتبه، ليرد فطرتهم إلى استقامتها وصفائها، وليرد عقولهم إلى صحتها وسلامتها، وليجلو عنهم غاشية التضليل من داخل أنفسهم ومن خارجها‏.‏‏.‏ وهذا هو الذي يليق بكرم الله وفضله، ورحمته وعدله، وحكمته وعلمه‏.‏‏.‏ فما كان ليخلق البشر، ثم يتركهم سدى‏.‏‏.‏ ثم يحاسبهم يوم القيامة ولم يبعث فيهم رسولاً‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ فتقدير الله حق قدره يقتضي الاعتقاد بأنه أرسل إلى عباده رسلا يستنقذون فطرتهم من الركام، ويساعدون عقولهم على الخلاص من الضغوط، والانطلاق للنظر الخالص والتدبر العميق‏.‏ وأنه أوحى إلى هؤلاء الرسل منهج الدعوة إلى الله، وأنزل على بعضهم كتباً تبقى بعدهم في قومهم إلى حين- ككتب موسى وداود وعيسى- أو تبقى إلى آخر الزمان كهذا القرآن‏.‏

ولما كانت رسالة موسى معروفة بين العرب في الجزيرة، وكان أهل الكتاب معروفين هناك، فقد أمر الله رسوله أن يواجه المشركين المنكرين لأصل الرسالة والوحي؛ بتلك الحقيقة‏:‏

‏{‏قل‏:‏ من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس- تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً- وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم‏}‏‏.‏‏.‏

وقد عرضنا في تقديم السورة للقول بأن هذه الآية مدنية، وأن المخاطبين بها هم اليهود‏.‏ ثم ذكرنا هناك ما اختاره ابن جرير الطبري من القراءة الأخرى ‏{‏يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً‏}‏‏.‏‏.‏ وأن المخاطبين بها هم المشركون، وهذا خبر عن اليهود بما كان واقعاً منهم من جعل التوراة في صحائف يتلاعبون بها، فيبدون منها للناس ما يتفق مع خطتهم في التضليل والخداع، والتلاعب بالأحكام والفرائض؛ ويخفون ما لا يتفق مع هذه الخطة من صحائف التوراة‏!‏ مما كان العرب يعلمون بعضه وما أخبرهم الله به في هذا القرآن من فعل اليهود‏.‏‏.‏ فهذا خبر عن اليهود معترض في سياق الآية لا خطاباً لهم‏.‏‏.‏ والآية على هذا مكية لا مدنية‏.‏‏.‏ ونحن نختار ما اختاره ابن جرير‏.‏

فقل لهم يا محمد‏:‏ من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس، مما يجعله اليهود صحائف يخفون بعضها ويظهرون بعضها قضاء للباناتهم من وراء هذا التلاعب الكريه‏!‏ كذلك واجههم بأن الله علمهم بما يقص عليهم من الحقائق والأخبار ما لم يكونوا يعلمون؛ فكان حقاً عليهم أن يشكروا فضل الله؛ ولا ينكروا أصله بإنكار أن الله نزل هذا العلم على رسوله وأوحى به إليه‏.‏

ولم يترك لهم أن يجيبوا على ذلك السؤال‏.‏ إنما أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يحسم القول معهم في هذا الشأن؛ وألا يجعله مجالاً لجدل لا يثيره إلا اللجاج‏:‏

‏{‏قل‏:‏ الله‏.‏ ثم ذرهم في خوضهم يلعبون‏}‏‏.‏‏.‏

قل‏:‏ الله أنزله‏.‏‏.‏ ثم لا تحفل جدالهم ولجاجهم ومراءهم، ودعهم يخوضون لاهين لاعبين‏.‏ وفي هذا من التهديد، قدر ما فيه من الاستهانة، قدر ما فيه من الحق والجد؛ فحين يبلغ العبث أن يقول الناس مثل ذلك الكلام، يحسن احترام القول وحسم الجدل وتوفير الكلام‏!‏

ويمضي السياق يحكي شيئاً عن الكتاب الجديد، الذي ينكر الجاحدون أن يكون الله نزله‏.‏ فإذا هو حلقة مسبوقة جاءت قبلها حلقات، فليس بدعاً من الكتب التي ينزلها الله على من يشاء من رسله الكرام‏:‏

‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه، ولتنذر أم القرى ومن حولها‏.‏ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به، وهم على صلاتهم يحافظون‏}‏‏.‏‏.‏

إنها سنة من سنن الله أن يرسل الرسل، وأن ينزل الله عليهم الكتب‏.‏ وهذا الكتاب الجديد، الذي ينكرون تنزيله، هو كتاب مبارك‏.‏‏.‏ وصدق الله‏.‏‏.‏ فإنه والله لمبارك‏.‏‏.‏

مبارك بكل معاني البركة‏.‏‏.‏ إنه مبارك في أصله‏.‏ باركه الله وهو ينزله من عنده‏.‏ ومبارك في محله الذي علم الله أنه له أهل‏.‏‏.‏ قلب محمد الطاهر الكريم الكبير‏.‏‏.‏ ومبارك في حجمه ومحتواه‏.‏ فإن هو إلا صفحات قلائل بالنسبة لضخام الكتب التي يكتبها البشر؛ ولكنه يحوي من المدلولات والإيحاءات والمؤثرات والتوجيهات في كل فقرة منه ما لا تحتويه عشرات من هذه الكتب الضخام، في أضعاف أضعاف حيزه وحجمه‏!‏ وإن الذي مارس فن القول عند نفسه وعند غيره من بني البشر؛ وعالج قضية التعبير بالألفاظ عن المدلولات، ليدرك أكثر مما يدرك الذين لا يزاولون فن القول ولا يعالجون قضايا التعبير، أن هذا النسق القرآني مبارك من هذه الناحية‏.‏ وأن هنالك استحالة في أن يعبر البشر في مثل هذا الحيز- ولا في أضعاف أضعافه- عن كل ما يحمله التعبير القرآني من مدلولات ومفهومات وموحيات ومؤثرات‏!‏ وأن الآية الواحدة تؤدي من المعاني وتقرر من الحقائق ما يجعل الاستشهاد بها على فنون شتى من أوجه التقرير والتوجيه شيئاً متفرداً لا نظير له في كلام البشر‏.‏‏.‏ وإنه لمبارك في أثره‏.‏ وهو يخاطب الفطرة والكينونة البشرية بجملتها خطاباً مباشراً عجيباً لطيف المدخل؛ ويواجهها من كل منفذ وكل درب وكل ركن؛ فيفعل فيها ما لا يفعله قول قائل‏.‏ ذلك أن به من الله سلطاناً‏.‏ وليس في قول القائلين من سلطان‏!‏

ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في تصوير بركة هذا الكتاب‏.‏

وما نحن ببالغين لو مضينا شيئاً أكثر من شهادة الله له بأنه «مبارك» ففيها فصل الخطاب‏!‏

‏{‏مصدق الذي بين يديه‏}‏‏.‏‏.‏

فهو يصدّق ما بين يديه من الكتب التي نزلت من عندالله- في صورتها التي لم تحرف لا فيما حرفته المجامع وقالت‏:‏ إنه من عندالله- هو يصدقها لأنها جاءت بالحق الذي جاء به في أصول العقيدة‏.‏ أما الشرائع فقد جعل لكل أمة شرعة ومنهاجاً، في حدود العقيدة الكبرى في الله‏.‏

والذين يكتبون عن الإسلام فيقولون‏:‏ إنه أول دين جاء بالعقيدة الكاملة في توحيد الله؛ أو جاء بالعقيدة الكاملة في حقيقة الرسالة والرسول؛ أو جاء بالعقيدة الكاملة في الآخرة والحساب والجزاء‏.‏‏.‏ وهم يقصدون الثناء على الإسلام‏!‏‏.‏‏.‏ هؤلاء لا يقرآون القرآن‏!‏ ولو قرأوه لسمعوا الله تعالى يقرر أن جميع رسله- صلوات الله عليهم وسلامه- جاءوا بالتوحيد المطلق الخالص الذي لا ظل فيه للشرك في صورة من صوره‏.‏‏.‏ وأنهم جميعاً أخبروا الناس بحقيقة الرسول، وبشريته وأنه لا يملك لهم ولا لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا يعلم غيباً، ولا يبسط أو يقبض رزقاً‏.‏‏.‏ وأنهم جميعاً أنذروا قومهم بالآخرة وما فيها من حساب وجزاء‏.‏‏.‏ وأن سائر حقائق العقيدة الإسلامية الأساسية جاء بها كل رسول‏.‏‏.‏ وصدق الكتاب الأخير ما جاءت به الكتب قبله‏.‏‏.‏ إنما تلك الأقوال أثر من آثار الثقافة الأوربية‏.‏ التي تزعم أن أصول العقيدة- بما فيها العقائد السماوية- قد تطورت وترقت، بتطور الأقوام وترقيها‏!‏ وما يمكن أن يدافع عن الإسلام بهدم أصوله التي يقررها القرآن‏!‏ فليحذر الكتاب والقارئون هذا المزلق الخطير‏!‏‏!‏‏!‏

فأما حكمة إنزال هذا الكتاب، فلكي ينذر به الرسول- صلى الله عليه وسلم- أهل مكة- أم القرى- وما حولها‏:‏

‏{‏ولتنذر أم القرى ومن حولها‏}‏‏.‏‏.‏

وسميت مكة أم القرى، لأنها تضم بيت الله الذي هو أول بيت وضع للناس ليعبدوا الله فيه وحده بلا شريك؛ وجعله مثابة أمن للناس وللأحياء جميعاً؛ ومنه خرجت الدعوة العامة لأهل الأرض؛ ولم تكن دعوة عامة من قبل؛ وإليه يحج المؤمنون بهذه الدعوة، ليعودوا إلى البيت الذي خرجت منه الدعوة‏!‏

وليس المقصود، كما يتصيد أعداء الإسلام من المستشرقين، أن تقصر الدعوة على أهل مكة ومن حولها‏.‏ فهم يقتطعون هذه الآية من القرآن كله، ليزعموا أن محمداً- صلى الله عليه وسلم- ما كان يقصد في أول الأمر أن يوجه دعوته إلا إلى أهل مكة وبعض المدن حولها‏.‏ وأنه إنما تحول من هذا المجال الضيق الذي ما كان خياله يطمح في أول الأمر إلى أوسع منه؛ فتوسع في الجزيرة كلها، ثم همَّ أن يتخطاها‏.‏‏.‏ لمصادفات لم يكن في أول الأمر على علم بها‏!‏ وذلك بعد هجرته إلى المدينة، وقيام دولته بها‏!‏‏.‏

‏.‏ وكذبوا‏.‏‏.‏ ففي القرآن المكي، وفي أوائل الدعوة، قال الله سبحانه لرسوله- صلى الله عليه وسلم- ‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 28‏]‏ ولعل الدعوة يومذاك كانت محصورة في شعاب مكة يحيط بها الكرب والابتلاء‏!‏

‏{‏والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به، وهم على صلاتهم يحافظون‏}‏‏.‏‏.‏

فالذين يؤمنون بأن هناك آخرة وحساباً وجزاء، يؤمنون بأن الله لا بد مرسل للناس رسولاً يوحي إليه؛ ولا يجدون في نفوسهم مشقة في التصديق به؛ بل إنهم ليجدون داعياً يدعوهم إلى هذا التصديق‏.‏ كما أنهم لإيمانهم بالآخرة وبهذا الكتاب يحافظون على صلاتهم، ليكونوا على صلة دائمة وثيقة بالله؛ وليقوموا بطاعته ممثلة في الصلاة‏.‏‏.‏ فهي طبيعة نفس‏.‏‏.‏ متى صدقت بالآخرة واستيقنتها، صدقت بهذا الكتاب وتنزيله، وحرصت على الصلة بالله وطاعته‏.‏‏.‏ وملاحظة نماذج النفوس البشرية تصدق في الواقع هذا الكلام الصادق بذاته‏.‏

ويختم هذه الجولة المتلاحقة الأشواط بمشهد حي شاخص متحرك مكروب رعيب‏.‏‏.‏ مشهد الظالمين‏.‏‏.‏ ‏(‏أي المشركين‏)‏ الذين يفترون على الله الكذب، أو يدعون أنهم أوحي إليهم ادعاء لا حقيقة له‏.‏ أو يزعمون أنهم مستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن‏.‏‏.‏ مشهد هؤلاء الظالمين- الذين لا يقاس إلى ظلمهم هذا ظلم- وهم في غمرات الموت، والملائكة باسطو أيديهم إليهم بالعذاب، ويطلبون أرواحهم‏.‏ والتأنيب يجبه وجوههم، وقد تركوا كل شيء وراءهم وضل عنهم شركاؤهم‏.‏

‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، أو قال‏:‏ أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء، ومن قال‏:‏ سأنزل مثل ما أنزل الله‏؟‏ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت، والملائكة باسطو أيديهم‏:‏ أخرجوا أنفسكم‏.‏ اليوم تجزون عذاب الهون، بما كنتم تقولون على الله غير الحق، وكنتم عن آياته تستكبرون‏.‏ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة، وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء‏!‏ لقد تقطع بينكم، وضل عنكم ما كنتم تزعمون‏}‏‏.‏‏.‏

وقد ورد عن قتادة وابن عباس- رضي الله عنهم- أن الآية نزلت في مسيلمة الكذاب وسجاح بنت الحارث زوجته والأسود العنسي؛ وهم الذين تنبأوا في حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وادعوا أن الله أوحى إليهم‏.‏ أما الذي قال سأنزل مثلما أنزل الله- أو قال أوحي إلي كذلك- «ففي رواية عن ابن عباس أنه عبدالله بن سعد بن أبي سرح، وكان أسلم وكتب الوحي لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنه لما نزلت الآية التي في» المؤمنون «‏:‏ ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏}‏ دعاه النبي- صلى الله عليه وسلم- فأملاها عليه‏.‏ فلما انتهى إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثم أنشأناه خلقاً آخر‏}‏ عجب عبدالله في تفصيل خلق الإنسان فقال‏:‏» تبارك الله أحسن الخالقين «‏.‏ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏» هكذا أنزلت عليّ «

‏.‏ فشك عبدالله حينئذ وقال‏:‏ لئن كان محمد صادقاً لقد أوحى إلي كما أوحى إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال‏!‏ فارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ومن قال‏:‏ سأنزل مثل ما أنزل الله‏}‏‏.‏‏.‏ ‏(‏رواه الكلبي عن ابن عباس‏)‏‏.‏‏.‏

والمشهد الذي يرسمه السياق في جزاء هؤلاء الظالمين ‏(‏أي المشركين‏)‏ مشهد مفزع مرعب مكروب مرهوب‏.‏ الظالمون في غمرات الموت وسكراته- ولفظ غمرات يلقي ظله المكروب- والملائكة يبسطون إليهم أيديهم بالعذاب، وهم يطلبون أرواحهم للخروج‏!‏ وهم يتابعونهم بالتأنيب‏:‏

‏{‏ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم‏:‏ أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق، وكنتم عن آياته تستكبرون‏}‏‏.‏‏.‏

وجزاء الاستكبار العذاب المهين، وجزاء الكذب على الله هذا التأنيب الفاضح‏.‏‏.‏ وكله مما يضفي على المشهد ظلالاً مكروبة، تأخذ بالخناق من الهول والكآبة والضيق‏!‏

ثم في النهاية، ذلك التوبيخ والتأنيب من الله تعالى، الذي كذبوا عليه، وها هم أولاء بين يديه، يواجههم في موقف الكربة والضيق‏:‏

‏{‏ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة‏}‏ ‏!‏

فما معكم إلا ذواتكم مجردة؛ ومفردة كذلك‏.‏ تلقون ربكم أفراداً لا جماعة‏.‏ كما خلقكم أول مرة أفراداً، ينزل أحدكم من بطن أمه فرداً عريان أجرد غلبان‏!‏

ولقد ند عنكم كل شيء، وتفرق عنكم كل أحد؛ وما عدتم تقدرون على شيء مما ملككم الله إياه؛

‏{‏وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم‏}‏‏.‏‏.‏

تركتم كل شيء من مال وزينة، وأولاد ومتاع، وجاه وسلطان‏.‏‏.‏ كله هناك متروك وراءكم، ليس معكم شيء منه، ولا تقدرون منه على قليل أو كثير‏!‏

‏{‏وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء‏}‏‏.‏‏.‏

هؤلاء الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم في الشدائد، وكنتم تشركونهم في حياتكم وأموالكم، وتقولون‏:‏ إنهم سيكونون عند الله شفعاءكم كالذي كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏!‏‏}‏ سواء كانوا ناساً من البشر كهاناً أو ذوي سلطان؛ أو كانوا تماثيل من الحجر، أو أوثاناً، أو جناً أو ملائكة، أو كواكب أو غيرها مما يرمزون به إلى الآلهة الزائفة، ويجعلون له شركاً في حياتهم وأموالهم وأولادهم كما سيجيء في السورة‏.‏

فأين‏؟‏ أين ذهب الشركاء والشفعاء‏؟‏

‏{‏لقد تقطع بينكم‏}‏‏.‏‏.‏

تقطع كل شيء‏.‏ كل ما كان موصولاً‏.‏ كل سبب وكل حبل‏!‏

‏{‏وضل عنكم ما كنتم تزعمون‏}‏‏.‏‏.‏

وغاب عنكم كل ما كنتم تدّعونه من شتى الدعاوى‏.‏ ومنها أولئك الشركاء، وما لهم من شفاعة عند الله أو تأثير في عالم الأسباب‏!‏

إنه المشهد الذي يهز القلب البشري هزاً عنيفاً‏.‏ وهو يشخص ويتحرك؛ ويلقي ظلاله على النفس، ويسكب إيحاءاته في القلب، ظلاله الرعيبة المكروبة، وإيحاءاته العنيفة المرهوبة‏.‏‏.‏

إنه القرآن‏.‏‏.‏ إنه القرآن‏.‏‏.‏