فصل: الجزء الثالث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


الجزء الثالث

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 113‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ‏(‏111‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏112‏)‏ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

الآية الأولى تكملة لفقرة سابقة في السياق- في نهاية الجزء السابع- ومتعلقة بما كان يقترحه مشركو العرب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الخوارق التي يريدون أن يأتي لهم بها فيصدقوه وما كان من حلفهم بالله حلفا مكررا مؤكدا أن لو جاءتهم هذه الآيات التي يطلبون إنهم ليؤمنون‏!‏ مما جعل بعض المسلمين أنفسهم يشتهون أن لو يجيبهم الله إلى ما يطلبون‏!‏ ويقترحون على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يسأل ربه هذه الآيات التي يقترحها المقترحون‏!‏

والفقرة كلها جاءت هكذا‏:‏

‏{‏وأقسموا بالله جهد أَيمانهم‏:‏ لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها‏.‏ قل‏:‏ إنما الآيات عند الله‏.‏ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون‏؟‏ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم- كما لم يؤمنوا به أول مرة- ونذرهم في طغيانهم يعمهون‏.‏‏.‏ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة، وكلمهم الموتى، وحشرنا عليهم كل شيء قبلا، ما كانوا ليؤمنوا- إلا أن يشاء الله- ولكن أكثرهم يجهلون‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد سبق الحديث عن هذه الآيات في نهاية الجزء السابع‏.‏ فالآن نتحدث عن الحقائق العامة التي تتناولها هذه النصوص؛ والتي لم نتعرض لها هناك في تفسيرها‏:‏

والحقيقة الأولى‏:‏ هي أن الإيمان أو الكفر‏.‏ والهدى أو الضلال‏.‏‏.‏‏.‏ لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق‏.‏ فالحق هو برهان ذاته‏.‏ وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله ويطمئن إليه ويرضخ له‏.‏‏.‏ ولكنها المعوقات الأخرى هي التي تحول بين القلب والحق، وهذه المعوقات يقول الله- سبحانه- للمؤمنين بشأنها‏:‏

‏{‏وما يشعركم أنها إذا جاءت ‏(‏أي الآيات والخوارق‏)‏ لا يؤمنون‏؟‏ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ونذرهم في طغيانهم يعمهون‏}‏‏.‏‏.‏

فما وقع لهم في أول مرة ومنعهم من الهدى، يمكن أن يتكرر وقوعه كذلك- بعد نزول الآية- فيمنعهم من الهدى كرة أخرى‏.‏‏.‏

إن موحيات الإيمان كامنة في القلب ذاته؛ وفي الحق كذلك بذاته؛ وليست متعلقة بعوامل خارجية‏.‏‏.‏ فيجب أن تتجه المحاولة إذن إلى ذلك القلب لعلاجه من آفاته ومن معوقاته‏.‏‏.‏

والحقيقة الثانية‏:‏ هي أن مشيئة الله هي المرجع الأخير في أمر الهدى والضلال‏.‏ فقد اقتضت هذه المشيئة أن تبتلي البشر بقدر من حرية الاختيار والتوجه في الابتداء؛ وجعل هذا القدر موضع ابتلاء للبشر وامتحان‏.‏ فمن استخدمه في الاتجاه القلبي إلى الهدى والتطلع إليه والرغبة فيه- وإن كان لا يعلم حينئذ أين هو- فقد اقتضت مشيئة الله أن يأخذ بيده ويعينه ويهديه إلى سبيله‏.‏ ومن استخدمه في الرغبة عن الهدى والصدود عن دلائله وموحياته، فقد اقتضت مشيئة الله أن يضله وأن يبعده عن الطريق وأن يدعه يتخبط في الظلمات‏.‏

‏.‏ وإرادة الله وقدره محيطان بالبشر في كل حالة، ومرد الأمر كله إليه في النهاية‏.‏

وهذه الحقيقة يشير إليها السياق في قوله تعالى‏:‏

‏{‏ونقلب أفئدتهم وأبصارهم- كما لم يؤمنوا به أول مرة- ونذرهم في طغيانهم يعمهون‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى، وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً، ما كانوا ليؤمنوا- إلا أن يشاء الله- ولكن أكثرهم يجهلون‏}‏‏.‏‏.‏

كما يشير إليها في آية سابقة على هذه الفقرة في سياق السورة قوله تعالى‏:‏

‏{‏اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين‏.‏ ولو شاء الله ما أشركوا‏.‏ وما جعلناك عليهم حفيظاً، وما أنت عليهم بوكيل‏}‏ كما تتكرر الإشارة إليها في الآية التالية لهذه الفقرة‏.‏

‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً- ولو شاء ربك ما فعلوه- فذرهم وما يفترون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

فالأمر كله مرهون بمشيئة الله، هو الذي شاء ألا يهديهم لأنهم لم يأخذوا بأسلوب الهدى؛ وهو الذي شاء أن يدع لهم هذا القدر من الاختيار على سبيل الابتلاء؛ وهو الذي يهديهم إذا جاهدوا للهدى؛ وهو الذي يضلهم إذا اختاروا الضلال‏.‏‏.‏ بلا تعارض- في التصور الإسلامي- بين طلاقة المشيئة الإلهية وهذا المجال الذي ترك للبشر لابتلائهم فيه بهذا القدر من الاختيار‏.‏

والحقيقة الثالثة‏:‏ هي أن الطائعين والعصاة في قبضة الله سواء، وتحت قهره وسلطانه سواء‏.‏ فهم لا يملكون جميعاً أن يحدثوا شيئاً إلا بقدر الله وفق مشيئته التي جرت بتلك السنن في تصريف أمر العباد‏.‏‏.‏ ولكن المؤمنين يطابقون- في القدر المتروك لهم للاختيار- بين الخضوع القهري المفروض عليهم لسلطان الله في ذوات أنفسهم وفي حركة خلاياهم وفي طبائع تكوينهم العضوي النفسي؛ وبين الخضوع الاختياري الذي يلتزمونه بأنفسهم بناء على المعرفة والهدى والاختيار‏.‏ وبذلك يعيشون في سلام مع أنفسهم ذاتها، لأن الجانب القهري فيها والجانب الاختياري يتبعان ناموسا واحدا وسلطانا واحدا وحكومة واحدة‏!‏ فأما الآخرون فهم مقهورون على اتباع ناموس الله الفطري الذي يقهرهم ولا يملكون أن يخرجوا منه في تكوينهم الجسمي وحاجاتهم الفطرية، بينما في الجانب الذي ترك لهم الاختيار فيه هم ناشزون على سلطان الله الممثل في منهجه وشرعه‏.‏ أشقياء بهذا الفصام في شخصيتهم‏!‏ وهم بعد هذا كله في قبضة الله لا يعجزونه في شيء، ولا يحدثون شيئاً إلا بقدره‏!‏

وهذه الحقيقة الثالثة ذات أهمية خاصة في القضايا التي يعرضها الشطر الباقي في السورة‏.‏ فهي تتكرر في مواضع متعددة في صور متنوعة، ذلك أن هذا الشطر كله- كما بينا من قبل- يواجه قضية الألوهية وسلطانها في حياة البشر وشريعتهم التي يعيشون بها‏.‏

‏.‏ ومن ثم يتكئ السياق على تقرير أن السلطان كله لله‏.‏ حتى في كيان العصاة الناشزين عن منهج الله وشرعه، وأنهم لا يؤذون أولياء الله إلا بما شاء الله‏.‏ فهم أعجز من أن يكون لهم في ذواتهم سلطان، فكيف يكون لهم على المؤمنين سلطان‏!‏ إنما هي مشيئة الله يكون بها ما يشاء في الطائعين والعصاة سواء‏.‏

قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى‏:‏

‏{‏ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة، وكلمهم الموتى، وحشرنا عليهم كل شيء قبلا، ما كانوا ليؤمنوا- إلا أن يشاء الله- ولكن أكثرهم يجهلون‏}‏‏.‏

‏(‏يقول- تعالى ذكره- لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- يا محمد آيس من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، القائلين لك‏:‏ ‏{‏لئن جئتنا بآية لنؤمنن لك‏}‏ فإننا لو نزلنا إليهم الملائكة حتى يروها عيانا وكلمهم الموتى بإحيائنا إياهم حجة لك، ودلالة على نبوتك، وأخبروهم أنك محق فيما تقول، وأن ما جئتهم به حق من عند الله؛ وحشرنا عليهم كل شيء فجعلناهم لك قبلا‏.‏ ما آمنوا ولا صدقوك ولا اتبعوك- إلا أن يشاء الله ذلك لمن شاء منهم- ‏{‏ولكن أكثرهم يجهلون‏}‏‏.‏‏.‏ يقول‏:‏ ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن ذلك كذلك‏.‏ يحسبون أن الإيمان إليهم، والكفر بأيديهم، متى شاءوا آمنوا، ومتى شاءوا كفروا‏.‏ وليس ذلك كذلك، ذلك بيدي‏.‏ لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته‏)‏‏.‏

وهذا الأصل الذي يقرره ابن جرير هنا هو الصحيح‏.‏ ولكنه يحتاج إلى زيادة الإيضاح- التي أسلفناها- باستلهام مجموعة النصوص القرآنية عن الهدى والضلالة ومشيئة الله وجهد الإنسان‏.‏‏.‏ إن الإيمان حدثٌ والضلال حدث‏.‏ وما يقع في هذا الوجود حدث إلا بقدر من الله ينشئه‏:‏

‏{‏إنا كل شيء خلقناه بقدر‏}‏ فأما السنة التي يجري على أساسها ذلك القدر بوقوع إيمان فلان وضلال فلان، فهي التي تبينها مجموعة النصوص‏.‏ وهي أن الإنسان مبتلى بقدر من الاختيار في الاتجاه‏.‏ فإذا اتجه إلى الهدى وجاهد فيه هداه الله ووقع هداه وتحقق بقدر من الله‏.‏ وإذا اتجه إلى الضلال وكره الهدى أضله الله‏.‏ ووقع ضلاله وتحقق بقدر من الله‏.‏‏.‏ وهو على الحالين في قبضة الله وسلطانه‏.‏ وحياته تجري بقدر الله وفق مشيئته الطليقة، وسنته التي وضعتها مشيئته الطليقة‏.‏

بعد ذلك تجيء آيتان في سياق السورة؛ هما من ناحية تكملة للمعاني والحقائق التي تستهدفها الفقرة السابقة التي انتهينا من الحديث عنها‏.‏ ومن ناحية هما تمهيد للقضايا العقيدية المتعلقة بالسلطان والشريعة والحاكمية‏.‏ وهي القضايا التي تستغرق ما تبقى من السورة‏.‏‏.‏

الآيتان‏:‏

‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً- ولو شاء ربك ما فعلوه- فذرهم وما يفترون‏.‏

ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، وليرضوه، وليقترفوا ما هم مقترفون‏}‏‏.‏

‏.‏‏.‏ كذلك‏.‏‏.‏ كالذي قدرناه من أن أولئك المشركين الذين يعلقون إيمانهم بمجيء الخوارق، ويعرضون عن دلائل الهدى وموحياته في الكون والنفس، لا يقع منهم الإيمان ولو جاءتهم كل آية‏.‏‏.‏

كذلك الذي قدرناه في شأن هؤلاء، قدرنا أن يكون لكل نبي عدوهم شياطين الإنس والجن‏.‏ وقدرنا أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليخدعوهم به ويغروهم بحرب الرسل وحرب الهدى‏.‏ وقدرنا أن تصغي إلى هذا الزخرف أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، ويرضوه، ويقترفوا ما يقترفونه من العداوة للرسل وللحق؛ ومن الضلال والفساد في الأرض‏.‏‏.‏

كل ذلك إنما جرى بقدر الله؛ وفق مشيئته‏.‏ ولو شاء ربك ما فعلوه‏.‏ ولمضت مشيئته بغير هذا كله؛ ولجرى قدره بغير هذا الذي كان‏.‏ فليس شيء من هذا كله بالمصادفة‏.‏ وليس شيء من هذا كله بسلطان من البشر كذلك أو قدرة‏!‏

فإذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض من المعركة الناشبة التي لا تهدأ بين الرسل والحق الذي معهم، وبين شياطين الإنس والجن وباطلهم وزخرفهم وغرورهم‏.‏‏.‏ إذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض إنما يجري بمشيئة الله ويتحقق بقدر الله، فإن المسلم ينبغي أن يتجه إذن إلى تدبر حكمة الله من وراء ما يجري في الأرض، بعد أن يدرك طبيعة هذا الذي يجري والقدرة التي وراءه‏.‏‏.‏

‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا، شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً‏}‏‏.‏‏.‏

بإرادتنا وتقديرنا، جعلنا لكل نبي عدوا‏.‏‏.‏ هذا العدو هو شياطين الإنس والجن‏.‏‏.‏ والشيطنة وهي التمرد والغواية والتمحض للشر صفة تلحق الإنس كما تلحق الجن‏.‏ وكما أن الذي يتمرد من الجن ويتمحض للشر والغواية يسمى شيطاناً؛ فكذلك الذي يتمرد من الإنس ويتمحض للشر والغواية‏.‏‏.‏ وقد يوصف بهذه الصفة الحيوان أيضا إذا شرس وتمرد واستشرى أذاه‏!‏ وقد ورد‏:‏ «الكلب الأسود شيطان»‏.‏

هؤلاء الشياطين- من الإنس والجن- الذين قدر الله أن يكونوا عدوا لكل نبي، يخدع بعضهم بعضا بالقول المزخرف، الذي يوحيه بعضهم إلى بعض- ومن معاني الوحي التأثير الداخلي الذي ينتقل به الأثر من كائن إلى كائن آخر- ويغر بعضهم بعضا، ويحرض بعضهم بعضاً على التمرد والغواية والشر والمعصية‏.‏‏.‏

وشياطين الإنس أمرهم معروف ومشهود لنا في هذه الأرض، ونماذجهم ونماذج عدائهم لكل نبي، وللحق الذي معه، وللمؤمنين به، معروفة يملك أن يراها الناس في كل زمان‏.‏

فأما شياطين الجن- والجن كله- فهم غيب من غيب الله، لا نعرف عنه إلا ما يخبرنا به مَن عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو‏.‏‏.‏ ومن ناحية مبدأ وجود خلائق أخرى في هذا الكون غير الإنسان وغير الأنواع والأجناس المعروفة في الأرض من الأحياء‏.‏

‏.‏ نقول من ناحية المبدأ نحن نؤمن بقول الله عنها، ونصدق بخبره في الحدود التي قررها‏.‏ فأما أولئك الذين يتترسون «بالعلم» لينكروا ما يقرره الله في هذا الشأن، فلا ندري علام يرتكنون‏؟‏ إن علمهم البشري لا يزعم أنه أحاط بكل أجناس الأحياء، في هذا الكوكب الأرضي‏!‏ كما أن علمهم هذا لا «يعلم» ماذا في الأجرام الأخرى‏!‏ وكل ما يمكن أن «يفترضه» أن نوع الحياة الموجود في الأرض يمكن أولا يمكن أن يوجد في بعض الكواكب والنجوم‏.‏‏.‏ وهذا لا يمكن أن ينفي- حتى لو تأكدت الفروض- أن أنواعاً أخرى من الحياة وأجناساً أخرى من الأحياء يمكن أن تعمر جوانب أخرى في الكون لا يعلم هذا «العلم» عنها شيئاً‏!‏ فمن التحكم والتبجح أن ينفي أحد باسم «العلم» وجود هذه العوالم الحية الأخرى‏.‏

وأما من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن؛ والذي يتشيطن بعضه ويتمحض للشر والغواية- كإبليس وذريته- كما يتشيطن بعض الإنس‏.‏‏.‏ من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن، نحن لا نعلم عنه إلا ما جاءنا الخبر الصادق به عن الله- سبحانه- وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ونحن نعرف أن هذا الخلق مخلوق من مارج من نار‏.‏ وأنه مزود بالقدرة على الحياة في الأرض وفي باطن الأرض وفي خارج الأرض أيضاً‏.‏ وأنه يملك الحركة في هذه المجالات بأسرع مما يملك البشر‏.‏ وأن منه الصالحين المؤمنين، ومنه الشياطين المتمردين‏.‏ وأنه يرى بني آدم وبنو آدم لا يرونه- في هيئته الأصلية- وكم من خلائق ترى الإنسان ولا يراها الإنسان‏!‏ وأن الشياطين منه مسلطون على بني الإنسان يغوونهم ويضلونهم، وهم قادرون على الوسوسة لهم والإيحاء بطريقة لا نعلمها‏.‏ وأن هؤلاء الشياطين لا سلطان لهم على المؤمنين الذاكرين‏.‏ وأن الشيطان مع المؤمن إذا ذكر الله خنس وتوارى، وإذا غفل برز فوسوس له‏!‏ وأن المؤمن أقوى بالذكر من كيد الشيطان الضعيف‏.‏ وأن عالم الجن يحشر مع عالم الإنس؛ ويحاسب؛ ويجازى بالجنة وبالنار كالجنس الإنساني‏.‏ وأن الجن حين يقاسون إلى الملائكة يبدون خلقاً ضعيفاً لا حول له ولا قوة‏!‏

وفي هذه الآية نعرف أن الله سبحانه قد جعل لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن‏.‏‏.‏

ولقد كان الله- سبحانه- قادراً- لو شاء- ألا يفعلوا شيئاً من هذا‏.‏‏.‏ ألا يتمردوا؛ وألا يتمحضوا للشر؛ وألا يعادوا الأنبياء؛ وألا يؤذوا المؤمنين؛ وألا يضلوا الناس عن سبيل الله‏.‏‏.‏ كان الله سبحانه قادرا أن يقهرهم قهراً على الهدى؛ أو أن يهديهم لو توجهوا للهدى؛ أو أن يعجزهم عن التصدي للأنبياء والحق والمؤمنين به‏.‏

‏.‏ ولكنه سبحانه ترك لهم هذا القدر من الاختيار‏.‏ وأذن لهم أن تمتد أيديهم بالأذى لأولياء الله- بالقدر الذي تقضي به مشيئته ويجري به قدره- وقدر أن يبتلي أولياءه بأذى أعدائه؛ كما يبتلي أعداءه بهذا القدر من الاختيار والقدرة الذي أعطاهم إياه‏.‏ فما يملك هؤلاء أن يوقعوا بأولياء الله من الأذى إلا ما قدره الله‏:‏

‏{‏ولو شاء الله ما فعلوه‏}‏ فما الذي يخلص لنا من هذه التقريرات‏؟‏

* يخلص لنا ابتداء‏:‏ أن الذين يقفون بالعداوة لكل نبي؛ ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء‏.‏‏.‏ هم «شياطين»‏!‏‏.‏ شياطين من الإنس ومن الجن‏.‏‏.‏ وأنهم يؤدون جميعاً- شياطين الإنس والجن- وظيفة واحدة‏!‏ وأن بعضهم يخدع بعضاً ويضله كذلك مع قيامهم جميعاً بوظيفة التمرد والغواية وعداء أولياء الله‏.‏‏.‏

* ويخلص لنا ثانياً‏:‏ أن هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئاً من هذا كله، ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء وإيذاء أتباعهم بقدرة ذاتية فيهم‏.‏ إنما هم في قبضة الله‏.‏ وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده‏.‏ من تمحيص هؤلاء الأولياء، وتطهير قلوبهم، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء‏.‏ فإذا اجتازوا الامتحان بقوة كف الله عنهم الابتلاء‏.‏ وكف عنهم هؤلاء الأعداء‏.‏ وعجز هؤلاء الأعداء أن يمدوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدر الله‏.‏ وآب أعداء الله بالضعف والخذلان؛ وبأوزارهم كاملة يحملونها على ظهورهم‏:‏

‏{‏ولو شاء الله ما فعلوه‏}‏ * ويخلص لنا ثالثا‏:‏ أن حكمة الله الخالصة هي التي اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا- فهو إنما يبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة- وأن يدعهم يؤذون أولياءه فترة من الزمان- فهو إنما يبتلي أولياءه كذلك لينظروا‏:‏ أيصبرون‏؟‏ أيثبتون على ما معهم من الحق بينما الباطل ينتفش عليهم ويستطيل‏؟‏ أيخلصون من حظ أنفسهم في أنفسهم ويبيعونها بيعة واحدة لله، على السراء وعلى الضراء سواء‏.‏ وفي المنشط والمكره سواء‏؟‏ وإلا فقد كان الله قادراً على ألا يكون شيء من هذا الذي كان‏!‏

* ويخلص لنا رابعا‏:‏ هوان الشياطين من الإنس والجن، وهوان كيدهم وأذاهم‏.‏ فما يستطيلون بقوة ذاتية لهم؛ وما يملكون أن يتجاوزوا ما أذن الله به على أيديهم‏.‏‏.‏ والمؤمن الذي يعلم أن ربه هو الذي يقدر، وهو الذي يأذن، خليق أن يستهين بأعدائه من الشياطين؛ مهما تبلغ قوتهم الظاهرة وسلطانهم المدَّعى‏.‏ ومن هنا هذا التوجيه العلوي لرسول الله الكريم‏:‏

‏{‏فذرهم وما يفترون‏}‏‏.‏‏.‏

دعهم وافتراءهم‏.‏ فأنا من ورائهم قادر على أخذهم، مدخر لهم جزاءهم‏.‏‏.‏

* وهناك حكمة أخرى غير ابتلاء الشياطين، وابتلاء المؤمنين‏.‏‏.‏ لقد قدر الله أن يكون هذا العداء، وأن يكون هذا الإيحاء، وأن يكون هذا الغرور بالقول والخداع‏.‏‏.‏ لحكمة أخرى‏:‏

‏{‏ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، وليرضوه، وليقترفوا ما هم مقترفون‏}‏ أي لتستمع إلى ذلك الخداع والإيحاء قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة‏.‏

‏.‏ فهؤلاء يحصرون همهم كله في الدنيا‏.‏ وهم يرون الشياطين في هذه الدنيا يقفون بالمرصاد لكل نبي‏.‏ وينالون بالأذى أتباع كل نبي، ويزين بعضهم لبعض القول والفعل‏.‏ فيخضعون للشياطين، معجبين بزخرفهم الباطل، معجبين بسلطانهم الخادع‏.‏ ثم يكسبون ما يكسبون من الإثم والشر والمعصية والفساد‏.‏ في ظل ذلك الإيحاء، وبسبب هذا الإصغاء‏.‏‏.‏

وهذا أمر أراده الله كذلك جرى به قدره‏.‏ لما وراءه من التمحيص والتجربة‏.‏ ولما فيه من إعطاء كل أحد فرصته ليعمل لما هو ميسر له؛ ويستحق جزاءه بالعدل والقسطاس‏.‏

ثم لتصلح الحياة بالدفع؛ ويتميز الحق بالمفاصلة؛ ويتمحض الخير بالصبر؛ ويحمل الشياطين أوزارهم كاملة يوم القيامة‏.‏‏.‏ وليجري الأمر كله وفق مشيئة الله‏.‏‏.‏ أمر أعدائه وأمر أوليائه على السواء‏.‏‏.‏ إنها مشيئة الله، والله يفعل ما يشاء‏.‏

والمشهد الذي يرسمه القرآن الكريم للمعركة بين شياطين الإنس والجن من ناحية، وكل نبي وأتباعه من ناحية أخرى؛ ومشيئة الله المهيمنة وقدره النافذ من ناحية ثالثة‏.‏‏.‏ هذا المشهد بكل جوانبه جدير بأن نقف أمامه وقفة قصيرة‏:‏

إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون‏.‏‏.‏ شياطين الإنس والجن‏.‏‏.‏ تتجمع في تعاون وتناسق لإمضاء خطة مقررة‏.‏‏.‏ هي عداء الحق الممثل في رسالات الأنبياء وحربه‏.‏‏.‏ خطة مقررة فيها وسائلها‏.‏‏.‏ ‏{‏يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً‏}‏‏.‏‏.‏ يمد بعضهم بعضاً بوسائل الخداع والغواية؛ وفي الوقت ذاته يغوي بعضهم بعضا‏!‏ وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمع للشر في حرب الحق وأهله‏.‏‏.‏ إن الشياطين يتعاونون فيما بينهم؛ ويعين بعضهم بعضاً على الضلال أيضاً‏!‏ إنهم لا يهدون بعضهم البعض إلى الحق أبداً‏.‏ ولكن يزين بعضهم لبعض عداء الحق وحربه والمضي في المعركة معه طويلاً‏!‏

ولكن هذا الكيد كله ليس طلقياً‏.‏‏.‏ إنه محاط به بمشيئة الله وقدره‏.‏‏.‏ لا يقدر الشياطين على شيء منه إلا بالقدر الذي يشاؤه الله وينفذه بقدره‏.‏ ومن هنا يبدو هذا الكيد- على ضخامته وتجمع قوى الشر العالمية كلها عليه- مقيداً مغلولاً‏!‏ إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط‏.‏ ولا يصيب من يشاء بلا معقب ولا مراجع- كما يحب الطغاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر، ليعلقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم‏.‏‏.‏ كلا‏!‏ إن إرادتهم مقيدة بمشيئة الله‏.‏ وقدرتهم محدودة بقَدر الله‏.‏ وما يضرون أولياء الله بشيء إلا بما أراده الله- في حدود الابتلاء- ومرد الأمر كله إلى الله‏.‏

ومشهد التجمع على خطة مقررة من الشياطين جدير بأن يسترعي وعي أصحاب الحق ليعرفوا طبيعة الخطة ووسائلها‏.‏‏.‏ ومشهد إحاطة مشيئة الله وقدره بخطة الشياطين وتدبيرهم جدير كذلك بأن يملأ قلوب أصحاب الحق بالثقة والطمأنينة واليقين، وأن يعلق قلوبهم وأبصارهم بالقدرة القاهرة والقدر النافذ، وبالسلطان الحق الأصيل في هذا الوجود، وأن يطلق وجدانهم من التعلق بما يريده أو لا يريده الشياطين‏!‏ وأن يمضوا في طريقهم يبنون الحق في واقع الخلق، بعد بنائه في قلوبهم هم وفي حياتهم‏.‏ أما عداوة الشياطين، وكيد الشياطين، فليدعوهما للمشيئة المحيطة والقدر النافذ‏.‏

‏{‏ولو شاء ربك ما فعلوه‏.‏ فذرهم وما يفترون‏}‏‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 127‏]‏

‏{‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏114‏)‏ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏115‏)‏ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏116‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏117‏)‏ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ‏(‏119‏)‏ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ‏(‏120‏)‏ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ‏(‏121‏)‏ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏122‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏123‏)‏ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ‏(‏124‏)‏ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏125‏)‏ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

الآن نجيء إلى القضية التي تعالجها بقية السورة؛ والتي كان التمهيد لها مطرداً في سياق السورة كله؛ وآخر هذا التمهيد ما ساقه من قضايا العقيدة الكبيرة؛ ومن واقع المعركة العقيدية الطويلة في الآيتين السابقتين‏.‏ ومن تقرير سلطان الله المطلق فيما يقع من المعركة بين شياطين الإنس والجن وكل نبي‏.‏ ومن قواعد الهدى والضلال وسنة الله التي يجري وفقها الضلال والهدى‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخر ما استعرضناه في الصفحات السابقة‏.‏

الآن نجيء إلى القضية التي جعلت هذه المقدمات كلها قاعدة لها‏.‏‏.‏ قضية الحل والحرمة فيما ذكر اسم الله عليه وما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح‏.‏‏.‏ وهي تأخذ أهميتها من ناحية تقرير المبدأ الإسلامي الأول‏:‏ مبدأ حق الحاكمية المطلقة لله وحده؛ وتجريد البشر من ادعاء هذا الحق أو مزاولته في أية صورة من الصور‏.‏‏.‏ وحين تكون القضية هي قضية هذا المبدأ فإن الصغيرة تكون كالكبيرة في تحقيق هذا المبدأ أو نقضه‏.‏‏.‏ ولا يهم أن يكون الأمر أمر ذبيحة يؤكل منها أو لا يؤكل؛ أو أن يكون أمر دولة تقام أو نظام مجتمع يوضع‏.‏ فهذه كتلك من ناحية المبدأ‏.‏ وهذه كتلك تعني الاعتراف بألوهية الله وحده؛ أو تعني رفض هذه الألوهية‏.‏

والمنهج القرآني يتكئ كثيرا جدا على هذا المبدأ لتقريره في كل مناسبة‏.‏ ولا يمل تكراره حيثما جاءت مناسبته أمام كل تشريع للصغير وللكبير من الأمور‏.‏‏.‏ ذلك أن هذا المبدأ هو العقيدة، وهو الدين، وهو الإسلام؛ وليس وراءه من هذا الدين كله إلا التطبيقات والتفريعات‏.‏

وسنجد في هذا المقطع من السورة- كما سنجد في بقيتها إلى ختامها- أن تقرير هذا المبدأ يكرر في صور شتى؛ بمناسبة عرض شرائع الجاهلية وتقاليدها؛ ويتضح ارتباط هذه الشرائع والتقاليد بالشرك والاستكبار عن الإسلام؛ وانبثاقها من نقطة إقامة ألوهية أخرى غير ألوهية الله، ومن ثم يسلط عليها القرآن هذه الحملات العنيفة، المنوعة الأساليب، ويربطها هذا الربط بأصل الاعتقاد وأصل الإيمان والإسلام‏.‏

إن السياق يبدأ بتقرير جهة الحاكمية في أمر العباد كله- تمهيدا لتقرير جهة الحاكمية في التحليل والتحريم في الذبائح، الأمر الذي يزاول فيه المشركون حق الحاكمية افتراء على الله واعتداء على سلطانه- ويمهد لهذا الأمر تمهيداً طويلا كما نلحظ من سياق الآيات في هذا الموضع‏:‏

‏{‏أفغير الله أبتغي حكما، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، فلا تكونن من الممترين‏.‏ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته، وهو السميع العليم‏.‏ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون‏.‏

إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين‏}‏‏.‏

هذا التمهيد كله يجيء قبل أن يدخل في الموضوع الواقع الحاضر الذي يمهد له هذا التمهيد، ثم يربطه ربطاً مباشرا بقضية الإيمان أو الكفر‏:‏

‏{‏فكلوا مما ذكر اسم الله عليه‏.‏‏.‏ إن كنتم بآياته مؤمنين‏.‏‏.‏ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وقد فصل لكم ما حرم عليكم- إلا ما اضطررتم إليه‏}‏‏.‏

وقبل أن ينتهي من عرض قضية التحليل والتحريم- بعد ذلك التمهيد كله- يفصل بين فقرتين بتوجيهات وتعقيبات أخرى، تحوي مؤثرات قوية من الأمر والنهي والبيان والوعيد‏:‏

‏{‏وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم‏.‏ إن ربك هو أعلم بالمعتدين‏.‏ وذروا ظاهر الإثم وباطنه‏.‏ إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يستأنف الحديث في قضية التحليل والتحريم؛ فيربطها مباشرة بقضية الإسلام والشرك‏:‏

‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه- وإنه لفسق- وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم‏.‏‏.‏ وإن أطعتموهم إنكم لمشركون‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يمضي بعد ذلك شوطاً آخر في الحديث عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان‏.‏‏.‏ شوطاً كأنه تعقيب على أمر التحليل والتحريم‏.‏

ومن هذا التتابع، وهذا الربط، وهذا التوكيد، تتمثل طبيعة نظرة الإسلام لقضية التشريع والحاكمية، في شؤون الحياة اليومية‏.‏‏.‏

‏{‏أفغير الله ابتغي حكما، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، فلا تكونن من الممترين‏}‏‏.‏‏.‏

إنه سؤال على لسان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للاستنكار‏.‏ استنكار أن يبتغي حكما غير الله في شأن من الشؤون على الإطلاق‏.‏ وتقرير لجهة الحاكمية في الأمر كله، وإفرادها بهذا الحق الذي لا جدال فيه‏.‏ ونفي أن يكون هناك أحد غير الله يجوز أن يتجه إليه طالبا حكمه في أمر الحياة كله‏.‏

‏{‏أفغير الله أبتغي حكما‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ثم‏.‏‏.‏ تفصيل لهذا الإنكار، وللملابسات التي تجعل تحكيم غير الله شيئاً مستنكراً غريباً‏.‏‏.‏ إن الله لم يترك شيئاً غامضاً؛ ولم يجعل العباد محتاجين إلى مصدر آخر، يحكمونه في ما يعرض لهم من مشكلات الحياة‏:‏

‏{‏وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً‏}‏‏.‏‏.‏

لقد نزل هذا الكتاب ليحكم بالعدل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولتتمثل فيه حاكمية الله وألوهيته‏.‏ ثم لقد نزل هذا الكتاب مفصلا، محتويا على المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحياة جملة‏.‏ كما أنه تضمن أحكاماً تفصيلية في المسائل التي يريد الله تثبيتها في المجتمع الإنساني مهما اختلفت مستوياته الاقتصادية والعلمية والواقعية جملة‏.‏‏.‏ وبهذا وذلك كان في هذا الكتاب غناء عن تحكيم غير الله في شأن من شؤون الحياة‏.‏‏.‏ هذا ما يقرره الله- سبحانه- عن كتابه‏.‏ فمن شاء أن يقول‏:‏ إن البشرية في طور من أطوارها لا تجد في هذا الكتاب حاجتها فليقل‏.‏

‏.‏ ولكن ليقل معه‏.‏‏.‏ إنه- والعياذ بالله- كافر بهذا الدين، مكذب بقول رب العالمين‏!‏

ثم إن هناك مِن حولهم ملابسة أخرى تجعل ابتغاء غير الله حكما في شأن من الشؤون أمراً مستنكرا غريبا‏.‏‏.‏ إن الذين أوتوا الكتاب من قبل يعلمون أن هذا الكتاب منزل من عند الله، وهم أعرف بالكتاب لأنهم من أهل الكتاب‏:‏

‏{‏والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد كانت هذه ملابسة حاضرة في مكة وفي الجزيرة، يخاطب الله بها المشركين‏.‏‏.‏ سواء أقر أهل الكتاب بها وجهروا- كما وقع من بعضهم مّمن شرح الله صدره للإسلام- أو كتموها وجحدوها- كما وقع من بعضهم- فالأمر في الحالين واحد؛ وهو إخبار الله سبحانه- وخبره هو الصدق- أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربه بالحق‏.‏‏.‏ فالحق محتواه؛ كما أن الحق متلبس بتنزيله من الله‏.‏‏.‏

وما يزال أهل الكتاب يعلمون أن هذا الكتاب منزل من الله بالحق‏.‏ وما يزالون يعلمون أن قوة هذا الدين إنما تنبثق من هذا الحق الذي يتلبس به، ومن هذا الحق الذي يحتويه‏.‏ وما يزالون- من أجل علمهم بهذا كله- يحاربون هذا الدين، ويحاربون هذا الكتاب، حرباً لا تهدأ‏.‏‏.‏ وأشد هذه الحرب وأنكاها، هو تحويل الحاكمية عن شريعة هذا الكتاب؛ إلى شرائع كتب أخرى من صنع البشر‏.‏ وجعل غير الله حكما، حتى لا تقوم لكتاب الله قائمة، ولا يصبح لدين الله وجود‏.‏ وإقامة ألوهيات أخرى في البلاد التي كانت الألوهية فيها لله وحده؛ يوم كانت تحكمها شريعة الله التي في كتابه؛ ولا تشاركها شريعة أخرى، ولا يوجد إلى جوار كتاب الله كتب أخرى، تستمد منها أوضاع المجتمع، وأصول التشريعات، ويرجع إليها ويستشهد بفقراتها كما يستشهد المسلم بكتاب الله وآياته‏!‏ وأهل الكتاب- من صليبيين وصهيونيين- من وراء هذا كله؛ ومن وراء كل وضع وكل حكم يقام لمثل هذه الأهداف الخبيثة‏!‏

وحين يقرر السياق أن هذا الكتاب أنزله الله مفصلا؛ وأن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من الله بالحق، يلتفت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن وراءه من المؤمنين به؛ يهون عليه وعليهم شأن التكذيب والجدل الذي يجدونه من المشركين؛ وشأن الكتمان والجحود الذي يجدونه من بعض أهل الكتاب‏:‏

‏{‏فلا تكونن من الممترين‏}‏‏.‏

وما شك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا امترى‏.‏ ولقد ورد أنه- صلى الله عليه وسلم- عندما نزل الله عليه‏:‏ ‏{‏فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك‏.‏ لقد جاءك الحق من ربك، فلا تكونن من الممترين‏}‏ قال‏:‏ «لا أشك، ولا أسأل»‏.‏

ولكن هذا التوجيه وأمثاله؛ وهذا التثبيت على الحق ونظائره؛ تدل على ضخامة ما كان يلقاه- صلى الله عليه وسلم- والجماعة المسلمة معه من الكيد والعنت والتكذيب والجحود؛ ورحمة الله- سبحانه- به وبهم بهذا التوجيه والتثبيت‏.‏‏.‏

ويمضي السياق في هذا الاتجاه؛ يقرر أن كلمة الله الفاصلة قد تمت؛ وأنه لا مبدل لها بفعل الخلق، بالغاً ما بلغ كيدهم‏:‏

‏{‏وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا، لا مبدل لكلماته، وهو السميع العليم‏}‏‏.‏‏.‏

لقد تمت كلمة الله- سبحانه- صدقا- فيما قال وقرر- وعدلا- فيما شرع وحكم- فلم يبق بعد ذلك قول لقائل في عقيدة أو تصور أو أصل أو مبدأ أو قيمة أو ميزان‏.‏ ولم يبق بعد ذلك قول لقائل في شريعة أو حكم، أو عادة أو تقليد‏.‏‏.‏ ولا معقب لحكمه ولا مجير عليه‏.‏‏.‏

‏{‏وهو السميع العليم‏}‏‏.‏‏.‏

الذي يسمع ما يقوله عباده، ويعلم ما وراءه، كما يعلم ما يصلح لهم، وما يصلحهم‏.‏

وإلى جانب تقرير أن ‏{‏الحق‏}‏ هو ما تضمنه الكتاب الذي أنزله الله، يقرر أن ما يقرره البشر وما يرونه إن هو إلا اتباع الظن الذي لا يقين فيه؛ واتباعه لا ينتهي إلا إلى الضلال‏.‏ وأن البشر لا يقولون الحق ولا يشيرون به إلا إذا أخذوه من ذلك المصدر الوحيد المستيقن؛ ويحذر الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يطيع الناس في شيء يشيرون به عليه من عند أنفسهم؛ مهما بلغت كثرتهم؛ فالجاهلية هي الجاهلية مهما كثر أتباعها الضالون‏:‏

‏{‏وإِن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله‏.‏ إن يتبعون إلا الظن، وإن هم إلا يخرصون‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد كان أكثر من في الأرض- كما هو الحال اليوم بالضبط- من أهل الجاهلية‏.‏‏.‏ لم يكونوا يجعلون الله هو الحكم في أمرهم كله، ولم يكونوا يجعلون شريعة الله التي في كتابه هي قانونهم كله‏.‏ ولم يكونوا يستمدون تصوراتهم وأفكارهم، ومناهج تفكيرهم ومناهج حياتهم من هدى الله وتوجيهه‏.‏‏.‏ ومن ثم كانوا- كما هو الحال اليوم- في ضلالة الجاهلية؛ لا يملكون أن يشيروا برأي ولا بقول ولا بحكم يستند على الحق ويستمد منه؛ ولا يقودون من يطيعهم ويتبعهم إلا إلى الضلال‏.‏‏.‏ كانوا- كما هم اليوم- يتركون العلم المستيقن ويتبعون الظن والحدس‏.‏‏.‏ والظن والحدس لا ينتهيان إلا إلى الضلال‏.‏‏.‏ وكذلك حذر الله رسوله من طاعتهم واتباعهم كي لا يضلوا عن سبيل الله‏.‏‏.‏ هكذا على وجه الإجمال‏.‏ وإن كانت المناسبة الحاضرة حينذاك كانت هي مناسبة تحريم بعض الذبائح وتحليل بعضها كما سيجيء في السياق‏.‏‏.‏

ثم قرر أن الذي يحكم على العباد بأن هذا مهتد وهذا ضال هو الله وحده‏.‏ لأن الله وحده هو الذي يعلم حقيقة العباد، وهو الذي يقرر ما هو الهدى وما هو الضلال‏:‏

‏{‏إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين‏}‏‏.‏

فلا بد من قاعدة للحكم على عقائد الناس وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم ونشاطهم وأعمالهم‏.‏ لا بد من قاعدة لتقرير ما هو الحق وما هو الباطل في هذا كله- كي لا يكون الأمر في هذه المقومات هو أمر هوى الناس المتقلب واصطلاحهم الذي لا يقوم على علم مستيقن‏.‏‏.‏ ثم لا بد من جهة تضع الموازين لهذه المقومات، ويتلقى منها الناس حكمها على العباد والقيم سواء‏.‏

والله- سبحانه- يقرر هنا أنه هو- وحده- صاحب الحق في وضع هذا الميزان‏.‏ وصاحب الحق في وزن الناس به، وتقرير من هو المهتدي، ومن هو الضال‏.‏

إنه ليس «المجتمع» هو الذي يصدر هذه الأحكام وفق اصطلاحاته المتقلبة‏.‏‏.‏ ليس المجتمع الذي تتغير أشكاله ومقوماته المادية، فتتغير قيمه وأحكامه‏.‏‏.‏ حيث تكون قيم وأخلاق للمجتمع الزراعي، وقيم وأخلاق أخرى للمجتمع الصناعي‏.‏ وحيث تكون هناك قيم وأخلاق للمجتمع الرأسمالي البرجوازي، وقيم وأخلاق أخرى للمجتمع الاشتراكي أو الشيوعي‏.‏‏.‏ ثم تختلف موازين الناس وموازين الأعمال وفق مصطلح هذه المجتمعات‏!‏

الإسلام لا يعرف هذا الأصل ولا يقره‏.‏‏.‏ الإسلام يعين قيماً ذاتية له يقررها الله- سبحانه- وهذه القيم تثبت مع تغير «أشكال» المجتمعات‏.‏‏.‏ والمجتمع الذي يخرج عليها له اسمه في الاصطلاح الإسلامي‏.‏‏.‏ إنه مجتمع غير إسلامي‏.‏‏.‏ مجتمع جاهلي‏.‏‏.‏ مجتمع مشرك بالله، لأنه يدع لغير الله- من البشر- أن يصطلح على غير ما قرره الله من القيم والموازين والتصورات والأخلاق، والأنظمة والأوضاع‏.‏‏.‏ وهذا هو التقسيم الوحيد الذي يعرفه الإسلام للمجتمعات وللقيم وللأخلاق‏.‏‏.‏ إسلامي وغير إسلامي‏.‏‏.‏ إسلامي وجاهلي‏.‏‏.‏ بغض النظر عن الصور والأشكال‏!‏‏!‏

بعد هذا التمهيد التقريري الطويل تجيء قضية الذبائح، مبنية على القاعدة الأساسية التي أقامها ذلك التمهيد التقريري الطويل‏:‏

‏{‏فكلوا مما ذكر اسم الله عليه‏.‏‏.‏ إن كنتم بآياته مؤمنين‏.‏‏.‏ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وقد فصل لكم ما حرم عليكم- إلا ما اضطررتم إليه- وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم، إن ربك هو أعلم بالمعتدين‏.‏ وذروا ظاهر الإثم وباطنه، إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كان يقترفون‏.‏ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه- وإنه لفسق- وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون‏}‏‏.‏‏.‏

وقبل أن ندخل في تفصيل هذه الأحكام من الناحية الفقهية، يهمنا أن نبرز المبادئ الأساسية الاعتقادية التي تقررها‏.‏

إنه يأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه‏.‏ والذكر يقرر الوجهة ويحدد الاتجاه‏.‏ ويعلق إيمان الناس بطاعة هذا الأمر الصادر إليهم من الله‏:‏

‏{‏فكلوا مما ذكر اسم الله عليه‏.‏

‏.‏ إن كنتم بآياته مؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يسألهم‏:‏ وما لهم في الامتناع من الأكل مما ذكر اسم الله عليه، وقد جعله الله لهم حلالا‏؟‏ وقد بين لهم الحرام الذي لا يأكلونه إلا اضطراراً‏؟‏ فانتهى بهذا البيان كل قول في حله وحرمته؛ وفي الأكل منه أو تركه‏؟‏

‏{‏وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ولما كانت هذه النصوص تواجه قضية حاضرة إذ ذاك في البيئة، حيث كان المشركون يمتنعون من ذبائح أحلها الله؛ ويحلون ذبائح حرمها الله- ويزعمون أن هذا هو شرع الله‏!‏- فإن السياق يفصل في أمر هؤلاء المشترعين المفترين على الله، فيقرر أنهم إنما يشرعون بأهوائهم بغير علم ولا اتباع، ويضلون الناس بما يشرعونه لهم من عند أنفسهم، ويعتدون على ألوهية الله وحاكميته بمزاولتهم لخصائص الألوهية وهم عبيد‏:‏

‏{‏وإن كثراً ليضلون بأهوائهم بغير علم‏.‏‏.‏ إن ربك هو أعلم بالمعتدين‏}‏‏.‏‏.‏

ويأمرهم بأن يتركوا الإثم كله- ظاهره وخافيه- ومنه هذا الذي يزاولونه من إضلال الناس بالهوى وبغير علم؛ وحملهم على شرائع ليست من عند الله، وافتراء أنها شريعة الله‏!‏ ويحذرهم مغبة هذا الإثم الذي يقترفونه‏:‏

‏{‏وذروا ظاهر الإثم وباطنه‏.‏ إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون‏}‏‏.‏‏.‏

ثم ينهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح التي كانوا يذكرون عليها أسماء آلهتهم؛ أو ينحرونها للميسر ويستقسمونها بالأزلام؛ أو من الميتة التي كانوا يجادلون المسلمين في تحريمها، يزعمون أن الله ذبحها‏!‏ فكيف يأكل المسلمون مما ذبحوا بأيديهم، ولا يأكلون مما ذبح الله‏؟‏‏!‏ وهو تصور من تصورات الجاهلية التي لا حد لسخفها وتهافتها في جميع الجاهليات‏!‏ وهذا ما كانت الشياطين- من الإنس والجن- توسوس به لأوليائها ليجادلوا المسلمين فيه من أمر هذه الذبائح مما تشير إليه الآيات‏:‏

‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه- وإنه لفسق- وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم‏.‏‏.‏ وإن أطعتموهم إنكم لمشركون‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

وأمام هذا التقرير الأخير نقف، لنتدبر هذا الحسم وهذه الصراحة في شأن الحاكمية والطاعة والاتباع في هذا الدين‏.‏‏.‏

إن النص القرآني لقاطع في أن طاعة المسلم لأحد من البشر في جزئية من جزئيات التشريع التي لا تستمد من شريعة الله، ولا تعتمد على الاعتراف له وحده بالحاكمية‏.‏‏.‏ أن طاعة المسلم في هذه الجزئية تخرجه من الإسلام لله، إلى الشرك بالله‏.‏

وفي هذا يقول ابن كثير‏:‏

«وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أطعتموهم إنكم لمشركون‏}‏‏.‏‏.‏ أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه، إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره‏.‏‏.‏ فهذا هو الشرك‏.‏‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله‏}‏ الآية‏.‏ وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال‏:‏ يا رسول الله ماعبدوهم‏.‏

فقال‏:‏ «بلى‏!‏ إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال‏.‏ فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم»‏.‏

كذلك روى ابن كثير عن السدي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية قوله‏:‏ ‏(‏استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً‏}‏ أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام، وما حلله فهو الحلال، وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ‏)‏‏.‏‏.‏

فهذا قول السدي وذاك قول ابن كثير‏.‏‏.‏ وكلاهما يقرر في حسم وصرامة ووضوح- مستمدة من حسم النص القرآني وصرامته ووضوحه، ومن حسم التفسير النبوي للقرآن، وصرامته ووضوحه كذلك- أن من أطاع بشراً في شريعة من عند نفسه، ولو في جزئية صغيرة، فإنما هو مشرك‏.‏ وإن كان في الأصل مسلما ثم فعلها فإنما خرج بها من الإسلام إلى الشرك أيضاً‏.‏‏.‏ مهما بقي بعد ذلك يقول‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه‏.‏ بينما هو يتلقى من غير الله، ويطيع غير الله‏.‏

وحين ننظر إلى وجه الأرض اليوم- في ضوء هذه التقريرات الحاسمة- فإننا نرى الجاهلية والشرك- ولا شيء غير الجاهلية والشرك- إلا من عصم الله، فأنكر على الأرباب الأرضية ما تدعيه من خصائص الألوهية؛ ولم يقبل منها شرعا ولا حكما‏.‏‏.‏‏.‏ إلا في حدود الإكراه‏.‏‏.‏

فأما الحكم الفقهي المستفاد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق‏.‏‏.‏‏}‏ فيما يتعلق بحل الذبائح وحرمتها عند التسمية وعدم التسمية فقد لخصها ابن كثير في التفسير في هذه الفقرات قال‏:‏

«استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلماً»‏.‏‏.‏

«وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال‏:‏

» فمنهم من قال‏:‏ لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة‏.‏ وسواء متروك التسمية عمدا أو سهوا‏.‏ وهو مروي عن ابن عمر، ونافع مولاه، وعامر الشعبي، ومحمد بن سيرين‏.‏ وهو رواية عن الإمام مالك، ورواية عن أحمد بن حنبل، نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين‏.‏ وهو اختيار أبي ثور، وداود الظاهري‏.‏ واختار ذلك أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي من متأخري الشافعية في كتابه الأربعين، واحتجوا لمذهبهم بهذه الآية، وبقوله في آية الصيد‏:‏ ‏{‏فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه‏}‏ ثم قد أكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وإنه لفسق‏}‏ والضمير قيل‏:‏ عائد على الأكل، وقيل‏:‏ عائد على الذبح لغير الله‏.‏ وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد، كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة‏:‏ «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك»

وهما في الصحيحين‏.‏ وحديث رافع بن خديج‏:‏ «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه» وهو في الصحيحين أيضاً‏.‏‏.‏

«والمذهب الثاني في المسألة‏:‏ أنه لا يشترط التسمية، بل هي مستحبة، فإن تركها عمداً أو نسياناً لا يضر‏.‏ وهذا مذهب الإمام الشافعي، رحمه الله، وجميع أصحابه‏.‏ ورواية عن الإمام أحمد نقلها عنه حنبل‏.‏ وهو رواية عن الإمام مالك، ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه‏.‏ وحكي عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعطاء بن أبي رباح‏.‏ والله أعلم‏.‏ وحمل الشافعي الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق‏}‏ على ما ذبح لغير الله كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو فسقا أهل لغير الله به‏}‏ وقال ابن جريج عن عطاء‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه‏}‏‏.‏‏.‏ قال‏:‏ ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان، وينهى عن ذبائح المجوس‏.‏‏.‏ وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي قوي‏.‏‏.‏

» وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أنبأنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الآية‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه‏}‏ قال‏:‏ هي الميتة‏.‏ وقد استدل لهذا المذهب بما رواه أبو داود في المراسيل من حديث ثور بن يزيد عن الصلت السدوسيّ مولى سويد بن ميمون أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات‏.‏ قال‏:‏ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكر‏.‏ إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله»‏.‏ وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال‏:‏ «إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل‏.‏ فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله»‏.‏

«المذهب الثالث‏:‏ إن ترك البسملة على الذبيحة نسيانا لم يضر، وإن تركها عمدا لم تحل‏.‏‏.‏ هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل، وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه‏.‏ وإسحاق بن راهويه‏.‏ وهو محكي عن علي، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاووس، والحسن البصري، وأبي مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن‏.‏‏.‏‏.‏»

«قال ابن جرير‏:‏ وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية‏:‏ هل نسخ من حكمها شيء أم لا‏؟‏ فقال بعضهم‏:‏ لم ينسخ منها شيء، وهي محكمة فيما عينت به‏.‏ وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم‏.‏ وروي عن الحسن البصري وعكرمة ما حدثنا به ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن عكرمة والحسن البصري، قالا‏:‏ قال الله‏:‏ ‏{‏فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق‏}‏ فنسخ، واستثنى من ذلك فقال‏:‏

‏{‏وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم‏}‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ قرأ عليَّ العباس بن الوليد بن يزيد، حدثنا محمد بن شعيب، أخبرني النعمان- يعني ابن المنذر- عن مكحول قال‏:‏ أنزل الله في القرآن‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه‏}‏‏.‏ ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال‏:‏ ‏{‏اليوم أحل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم‏}‏ فنسخها بذلك، وأحل طعام أهل الكتاب‏.‏ ثم قال ابن جرير‏:‏ والصواب‏:‏ أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه‏.‏‏.‏ وهذا الذي قاله صحيح، ومن أطلق من السلف النسخ هنا، فإنما أراد التخصيص، والله سبحانه وتعالى أعلم «‏.‏‏.‏‏.‏ انتهى‏.‏

بعد ذلك يجيء شوط كامل عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان، وعن قدرة الله في أن يجعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها‏.‏ وعن الكبر الذي يحيك في نفوس هؤلاء المجرمين الأكابر‏.‏ ويمنعهم من الإسلام‏.‏ ويختم الشوط بالتصوير الرائع الصادق لحالة الإيمان التي يشرح الله لها الصدر، وحالة الكفر التي يجعل الصدر فيها ضيقاً حرجا مكروب الأنفاس‏!‏‏.‏‏.‏ فيتصل هذا الشوط كله بموضوع التحريم والتحليل في الذبائح اتصال الأصل القاعدي بالفرع التطبيقي؛ ويدل على عمق هذا الفرع وشدة علاقته بالأصل الكبير‏:‏

‏{‏أو من كان ميتا فأحييناه، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها‏؟‏ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون‏.‏ وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون‏.‏ وإذا جاءتهم آية قالوا‏:‏ لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله‏.‏ الله أعلم حيث يجعل رسالته، سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون‏.‏ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون‏}‏‏.‏

إن هذه الآيات في تصوير طبيعة الهدى وطبيعة الإيمان إنما تعبر تعبيرا حقيقيا واقعيا عن حقيقة واقعية كذلك‏.‏ إن ما يبدو فيها من تشبيه ومجاز إنما هو لتجسيم هذه الحقيقة في الصورة الموحية المؤثرة؛ ولكن العبارة في ذاتها حقيقية‏.‏

إن نوع الحقيقة التي تعبر هذه الآيات عنها هو الذي يقتضي هذه الإيقاعات التصويرية‏.‏ فهي حقيقة، نعم‏.‏ ولكنها حقيقة روحية وفكرية‏.‏ حقيقة تذاق بالتجربة‏.‏ ولا تملك العبارة إلا أن تستحضر مذاق التجربة ولكن لمن ذاقها فعلا‏!‏

إن هذه العقيدة تنشئ في القلب حياة بعد الموت، وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات‏.‏ حياة يعيد بها تذوق كل شيء، وتصور كل شيء، وتقدير كل شيء بحس آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة‏.‏

ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته وفي مجاله جديداً كما لم يبد من قبل قط لذلك القلب الذي نّوره الإيمان‏.‏

هذه التجربة لا تنقلها الألفاظ‏.‏ يعرفها فقط من ذاقها‏.‏‏.‏ والعبارة القرآنية هي أقوى عبارة تحمل حقيقة هذه التجربة‏.‏ لأنها تصورها بألوان من جنسها ومن طبيعتها‏.‏

إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية، التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب‏.‏ فهو موت‏.‏‏.‏ وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله‏.‏‏.‏ فهو موت‏.‏‏.‏ وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية‏.‏‏.‏ فهو موت‏.‏‏.‏

والإيمان اتصال، واستمداد، واستجابة‏.‏‏.‏ فهو حياة‏.‏‏.‏

إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراف والاطلاع‏.‏‏.‏ فهو ظلمة‏.‏‏.‏ وختم على الجوارح والمشاعر‏.‏‏.‏ فهو ظلمة‏.‏‏.‏ وتيه في التيه وضلال‏.‏‏.‏ فهو ظلمة‏.‏‏.‏

وإن الإيمان تفتح ورؤية، وإدراك واستقامة‏.‏‏.‏ فهو نور بكل مقومات النور‏.‏‏.‏

إن الكفر انكماش وتحجر‏.‏‏.‏ فهو ضيق‏.‏‏.‏ وشرود عن الطريق الفطري الميسر‏.‏‏.‏ فهو عسر‏.‏‏.‏ وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن‏.‏‏.‏ فهو قلق‏.‏‏.‏

وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة وظل ممدود‏.‏‏.‏

وما الكافر‏؟‏ إن هو إلا نبته ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور‏.‏‏.‏ إن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود، فهو منقطع الصلة بالوجود‏.‏ لا تربطه به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود‏.‏ في أضيق الحدود‏.‏ في الحدود التي تعيش فيها البهيمة‏.‏ حدود الحس وما يدركه الحس من ظاهر هذا الوجود‏!‏

إن الصلة بالله، والصلة في الله، لتصل الفرد الفاني بالأزل القديم والأبد الخالد‏.‏ ثم تصله بالكون الحادث والحياة الظاهرة‏.‏‏.‏ ثم تصله بموكب الإيمان والأمة الواحدة الضاربة في جذور الزمان‏.‏ الموصولة على مدار الزمان‏.‏‏.‏ فهو في ثراء من الوشائج، وفي ثراء من الروابط‏.‏ وفي ثراء من «الوجود» الزاخر الممتد اللاحب، الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود‏.‏

ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، فتتكشف له حقائق هذا الدين، ومنهجه في العمل والحركة، تكشفا عجيبا‏.‏‏.‏ إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يجده الإنسان في قلبه حين يجد هذا النور‏.‏‏.‏ مشهد التناسق الشامل العجيب في طبيعة هذا الدين وحقائقه‏.‏ ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته‏.‏ إن هذا الدين لا يعود مجموعة معتقدات وعبادات وشرائع وتوجيهات‏.‏‏.‏ إنما يبدو «تصميما» واحدا متداخلا متراكبا متناسقا‏.‏‏.‏ متعاشقا يبدو حيا يتجاوب مع الفطرة وتتجاوب معه في ألفة عميقة وفي صداقة وثيقة، وفي حب ودود‏!‏

ويجد الإنسان في قلبه هذا النور؛ فتتكشف له حقائق الوجود، وحقائق الحياة، وحقائق الناس، وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس‏.‏‏.‏ تتكشف له في مشهد كذلك رائع باهر‏.‏‏.‏ مشهد السُّنَّة الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم ولكنه فطري ميسر‏.‏‏.‏ ومشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل وهي من ورائها محيطة طليقة‏.‏

‏.‏ ومشهد الناس والأحداث وهم في نطاق النواميس وهي في هذا النطاق أيضاً‏.‏

ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل أمر وفي كل حدث‏.‏‏.‏ يجد الوضوح في نفسه وفي نواياه وخواطره وخطته وحركِته‏.‏ ويجد الوضوح فيما يجري حوله سواء من سنة الله النافذة، أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة‏!‏ ويجد تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله، كأنه يقرأ من كتاب‏!‏

ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه‏!‏ ويجد الراحة في باله وحاله ومآله‏!‏ ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها، وفي استقبال الأحداث واستدبارها‏!‏ ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين‏!‏

وهكذا يصور التعبير القرآني الفريد تلك الحقيقة بإيقاعاته الموحية‏:‏

‏{‏أومن كان ميتا فأحييناه، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها‏؟‏‏}‏‏.‏

كذلك كان المسلمون قبل هذا الدين‏.‏ قبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها، ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف‏.‏‏.‏ كانت قلوبهم مواتا‏.‏ وكانت أرواحهم ظلاما‏.‏‏.‏ ثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز، وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء، ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال، وتلتقط الشارد، وتطمئن الخائف، وتحرر المستعبد، وتكشف معالم الطريق للبشر وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد‏.‏ الإنسان المتحرر المستنير؛ الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد‏!‏

أفمن نفخ الله في روحه الحياة، وأفاض على قلبه النور‏.‏‏.‏ كمن حاله أنه في الظلمات، لا مخرج له منها‏؟‏

إنهما عالمان مختلفان شتان بينهما شتان‏!‏ فما الذي يمسك بمن في الظلمات والنور حوله يفيض‏؟‏

‏{‏كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون‏}‏‏.‏‏.‏

هذا هو السر‏.‏‏.‏ إن هناك تزيينا للكفر والظلمة والموت‏!‏ والذي ينشئ هذا التزيين ابتداء هو مشيئة الله التي أودعت فطرة هذا الكائن الإنساني الاستعداد المزدوج لحب النور وحب الظلمة، تبتليه بالاختيار للظلمة أو النور‏.‏ فإذا اختار الظلمة زينت له؛ ولج في الضلال حتى لا يخرج من الظلمة ولا يعود، ثم إن هناك شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً‏.‏، ويزينون للكافرين ما يعملون‏.‏‏.‏ والقلب الذي ينقطع عن الحياة والإيمان والنور، يسمع في الظلمة للوسوسة؛ ولا يرى ولا يحس ولا يميز الهدى من الضلال في ذلك الظلام العميق‏!‏‏.‏‏.‏ وكذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون‏.‏‏.‏

وبنفس الطريقة، ولنفس الأسباب، وعلى هذه القاعدة جعل الله في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها‏.‏‏.‏ ليتم الابتلاء، وينفذ القدر؛ وتتحقق الحكمة؛ ويمضي كل فيما هو ميسر له، وينال كل جزاءه في نهاية المطاف‏:‏

‏{‏وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون‏}‏‏.‏

إنها سنة جارية أن ينتدب في كل قرية- وهي المدينة الكبيرة والعاصمة- نفر من أكابر المجرمين فيها، يقفون موقف العداء من دين الله‏.‏ ذلك أن دين الله يبدأ من نقطة تجريد هؤلاء الأكابر من السلطان الذي يستطيلون به على الناس، ومن الربوبية التي يتعبدون بها الناس، ومن الحاكمية التي يستذلون بها الرقاب، ويرد هذا كله إلى الله وحده‏.‏‏.‏ رب الناس‏.‏‏.‏ ملك الناس‏.‏‏.‏ إله الناس‏.‏

إنها سنة من أصل الفطرة‏.‏‏.‏ أن يرسل الله رسله بالحق‏.‏‏.‏ بهذا الحق الذي يجرد مدعي الألوهية من الألوهية والربوبية والحاكمية‏.‏ فيجهر هؤلاء بالعداوة لدين الله ورسل الله‏.‏ ثم يمكرون مكرهم في القرى، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً‏.‏ ويتعاونون مع شياطين الجن في المعركة مع الحق والهدى، وفي نشر الباطل والضلال، واستخفاف الناس بهذا الكيد الظاهر والخافي‏.‏‏.‏

إنها سنة جارية‏.‏ ومعركة محتومة‏.‏ لأنها تقوم على أساس التناقض الكامل بين القاعدة الأولى في دين الله- وهي رد الحاكمية كلها لله- وبين أطماع المجرمين في القرى‏.‏ بل بين وجودهم أصلا‏.‏‏.‏

معركة لا مفر للنبي أن يخوضها، فهولا يملك أن يتقيها، ولا مفر للمؤمنين بالنبي أن يخوضوها وأن يمضوا إلى النهاية فيها‏.‏‏.‏ والله سبحانه يطمئن أولياءه‏.‏‏.‏ إن كيد أكابر المجرمين- مهما ضخم واستطال- لا يحيق إلا بهم في نهاية المطاف‏.‏ إن المؤمنين لا يخوضون المعركة وحدهم فالله وليهم فيها، وهو حسبهم، وهو يرد على الكائدين كيدهم‏:‏

‏{‏وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون‏}‏‏.‏

فليطمئن المؤمنون‏!‏

ثم يكشف السياق القرآني عن طبيعة الكبر في نفوس أعداء رسل الله ودينه‏.‏‏.‏ الكبر الذي يمنعهم من الإسلام؛ خيفة أن يرجعوا عباداً لله كسائر العباد، فهم يطلبون امتيازاً ذاتيا يحفظ لهم خصوصيتهم بين الأتباع‏.‏ ويكبر عليهم أن يؤمنوا للنبي فيسلموا له، وقد تعودوا أن يكونوا في مقام الربوبية للأتباع، وأن يشرعوا لهم فيقبلوا منهم التشريع، وأن يأمروهم فيجدوا منهم الطاعة والخضوع‏.‏‏.‏ من أجل ذلك يقولون قولتهم المنكرة الغبية كذلك‏:‏ لن نؤمن حتى تؤتى مثلما أوتي رسل الله‏:‏

‏{‏وإذا جاءتهم آية قالوا‏:‏ لن نؤمن حتى نؤتى مثلما أوتي رسل الله‏}‏‏.‏

وقد قال الوليد بن المغيرة‏:‏ لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سنا، وأكثر منك مالا‏!‏ وقال أبو جهل‏:‏ والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه‏!‏

وواضح أن الكبر النفسي، وما اعتاده الأكابر من الخصوصية بين الأتباع، ومظهر هذه الخصوصية الأول هو الأمر منهم والطاعة والاتباع من الأتباع‏!‏‏.‏‏.‏ واضح أن هذا من أسباب تزيين الكفر في نفوسهم، ووقوفهم من الرسل والدين موقف العداء‏.‏

ويرد الله على قولتهم المنكرة الغبية‏.‏

‏.‏ أولا بتقرير أن أمر اختيار الرسل للرسالة موكول إلى علمه المحيط بمن يليق بهذا الأمر الكوني الخطير‏.‏‏.‏ ويرد عليهم ثانيا بالتهديد والتحقير وسوء المصير‏:‏

‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالته‏.‏ سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون‏}‏‏.‏‏.‏

إن الرسالة أمر هائل خطير‏.‏ أمر كوني تتصل فيه الإرادة الأَزلية الأبديه بحركة عبد من العبيد‏.‏ ويتصل فيه الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود‏.‏ وتتصل فيه السماء بالأرض، والدنيا بالآخرة، ويتمثل فيه الحق الكلي، في قلب بشر، وفي واقع ناس، وفي حركة تاريخ‏.‏ وتتجرد فيها كينونة بشرية من حظ ذاتها لتخلص لله كاملة، لا خلوص النية والعمل وحده‏.‏ ولكن كذلك خلوص المحل الذي يملؤه هذا الأمر الخطير‏.‏ فذات الرسول- صلى الله عليه وسلم- تصبح موصولة بهذا الحق ومصدره صلة مباشرة كاملة‏.‏ وهي لا تتصل هذه الصلة إلى أن تكون من ناحية عنصرها الذاتي صالحة للتلقي المباشر الكامل بل عوائق ولا سدود‏.‏‏.‏

والله وحده- سبحانه- هو الذي يعلم أين يضع رسالته، ويختار لها الذات التي تنتدب من بين ألوف الملايين، ويقال لصاحبها‏:‏ أنت منتدب لهذا الأمر الهائل الخطير‏.‏

والذين يتطلعون إلى مقام الرسالة؛ أو يطلبون أن يؤتوا مثل ما أوتي الرسول‏.‏‏.‏ هم أولا من طبيعة لا تصلح أساساً لهذا الأمر‏.‏ فهم يتخذون من ذواتهم محوراً للوجود الكوني‏!‏ والرسل من طبيعة أخرى، طبيعة من يتلقى الرسالة مستسلما، ويهب لها نفسه، وينسى فيها ذاته، ويؤتاها من غير تطلع ولا ارتقاب‏:‏ ‏{‏وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب، إلا رحمة من ربك‏}‏ ثم هم بعد ذلك جهال لا يدركون خطورة هذا الأمر الهائل، ولا يعلمون أن الله وحده هو الذي يقدر بعلمه على اختيار الرجل الصالح‏.‏‏.‏

لذلك يجبههم الرد الحاسم‏:‏

‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالته‏}‏‏.‏‏.‏

وقد جعلها سبحانه حيث علم، واختار لها أكرم خلقه وأخلصهم، وجعل الرسل هم ذلك الرهط الكريم، حتى انتهت إلى محمد خير خلق الله وخاتم النبيين‏.‏

ثم التهديد بالصغار والهوان على الله، وبالعذاب الشديد المهين‏:‏

‏{‏سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون‏}‏‏.‏‏.‏

والصغار عند الله يقابل الاستعلاء عند الأتباع، والاستكبار عن الحق، والتطاول إلى مقام رسل الله‏!‏‏.‏‏.‏ والعذاب الشديد يقابل المكر الشديد، والعداء للرسل، والأذى للمؤمنين‏.‏

ثم تختم الجولة بتصوير حالة الهدى وحالة الإيمان في داخل القلوب والنفوس‏:‏

‏{‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام‏.‏ ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء‏.‏‏.‏ كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

من يقدر الله له الهداية- وفق سنته الجارية من هداية من يرغب في الهدى ويتجه إليه بالقدر المعطى له من الاختيار بقصد الابتلاء- ‏{‏يشرح صدره للإسلام‏}‏؛ فيتسع له؛ ويستقبله في يسر ورغبة، ويتفاعل معه، ويطمئن إليه؛ ويستروح به ويستريح له‏.‏

ومن يقدر له الضلال- وفق سنته الجارية من إضلال من يرغب عن الهدى ويغلق فطرته عنه- ‏{‏يجعل صدره ضيقا حرجاً كأنما يصعد في السماء‏}‏‏.‏‏.‏ فهو مغلق مطموس يجد العسر والمشقة في قبوله، ‏{‏كأنما يصعد في السماء‏}‏‏.‏‏.‏ وهي حالة نفسية تجسم في حالة حسية، من ضيق النفس، وكربة الصدر، والرهق المضني في التصعد إلى السماء‏!‏ وبناء اللفظ ذاته ‏{‏يصعد‏}‏- كما هو في قراءة حفص- فيه هذا العسر والقبض والجهد‏.‏ وجرسه يخيل هذا كله، فيتناسق المشهد الشاخص، مع الحالة الواقعة، مع التعبير اللفظي في إيقاع واحد‏.‏

وينتهي المشهد بهذا التعقيب المناسب‏:‏

‏{‏كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

‏.‏‏.‏ كذلك‏.‏‏.‏ بمثل هذا الذي يجري به قدر الله من شرح صدر الذي يريد الله به الهدى، ومن العسر والجهد والمشقة لمن يريد به الضلال‏.‏‏.‏ كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون‏.‏

ومن معاني الرجس‏:‏ العذاب‏.‏ ومن معانية كذلك‏:‏ الارتكاس- وكلاهما يلون هذا العذاب بمشهد الذي يرتكس في العذاب ويعود إليه ولا يفارقه‏!‏ وهو الظل المقصود‏!‏‏.‏

على أنه تبقى في النفس بقية من الحديث عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام‏.‏ ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء‏.‏ كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

إن تصور الحقيقة التي يقررها هذا النص وأمثاله في القرآن الكريم من النصوص التي تتعلق بالتعامل والارتباط بين مشيئة الله- سبحانه- واتجاهات البشر؛ وما يصيبهم من الهدى والضلال، وما ينالهم بعد ذلك من جزاء وثواب وعقاب‏.‏‏.‏ إن هذا كله يحتاج إلى استخدام منطقة أخرى من مناطق الإدراك البشري وراء منطقة المنطق الذهني‏!‏ وكل ما ثار من الجدل بشأن هذه القضية سواء في تاريخ الفكر الإسلامي، وبخاصة بين المعتزلة وأهل السنة والمرجئة- أو في تاريخ اللاهوت والفلسفة- وكل القضايا والتعبيرات عنها، موسومة بطابع المنطق الذهني‏.‏

إن تصور هذه الحقيقة يحتاج إلى استخدام منطقة أخرى من مناطق الإدراك البشري وراء منطقة المنطق الذهني‏.‏ وكذلك يقتضي التعامل مع «الواقع الفعلي» لا مع «القضايا الذهنية»‏.‏ فالقرآن يصور الحقيقة الفعلية في الكينونة البشرية وفي الوجود الواقع؛ وهذه الحقيقة يتراءى فيها التشابك بين مشيئة الله وقدره وبين إرادة الإنسان وعمله‏.‏ في محيط لا يدركه المنطق الذهني كله‏.‏

فإذا قيل‏:‏ إن إرادة الله تدفع الإنسان دفعا إلى الهدى أو الضلال‏.‏‏.‏ لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية‏.‏ وإذا قيل‏:‏ إن إرادة الإنسان هي التي تقرر مصيره كله‏.‏‏.‏ لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية كذلك‏!‏ إن الحقيقة الفعلية تتألف من نسب دقيقة- وغيبية كذلك- بين طلاقة المشيئة الإلهية وسلطانها الفاعل، وبين اختيار العبد واتجاهه الإرادي‏.‏

بلا تعارض بين هذه وتلك ولا تصادم‏.‏‏.‏

ولكن تصور الحقيقة «الفعلية» كما هي في واقعها هذا لا يمكن أن يتم في حدود المنطق الذهني‏.‏ وفي شكل القضايا الذهنية والعبارة البشرية عنها‏.‏‏.‏ إن نوع الحقيقة هو الذي يحدد منهج تناولها وأسلوب التعبير عنها‏.‏‏.‏ وهذه الحقيقة لا يصلح لها منهج المنطق الذهني ولا القضايا الجدلية‏.‏

كذلك يحتاج تصور هذه الحقيقة كما هي في واقعها الفعلي إلى تذوق كامل في تجربة روحية وعقلية‏.‏‏.‏ إن الذي تتجه فطرته إلى الإسلام يجد في صدره انشراحا له‏.‏‏.‏ هو من صنع الله قطعاً‏.‏‏.‏ فالانشراح حدثٌ لا يقع إلا بقدر من الله يخلقه ويبرزه‏.‏ والذي تتجه فطرته إلى الضلال يجد في صدره ضيقا وتقبضا وعسرا‏.‏‏.‏ هو من صنع الله قطعا‏.‏‏.‏ لأنه حدث لا يتم وقوعه الفعلي إلا بقدر من الله يخلقه ويجري به كذلك‏.‏‏.‏ وكلاهما من إرادة الله بالعبد‏.‏‏.‏ ولكنها ليست إرادة القهر‏.‏ إنما هي الإرادة التي أنشأت السنة الجارية النافذة من أن يبتلى هذا الخلق المسمى بالإنسان بهذا القدر من الإرادة‏.‏ وأن يجري قدر الله بإنشاء ما يترتب على استخدامه لهذا القدر من الإرادة في الاتجاه للهدى أو للضلال‏.‏

وحين توضع قضية ذهنية في مواجهة قضية ذهنية‏.‏ وحين يتم التعامل مع هذه القضايا‏.‏ بدون استصحاب الملامسة الباطنية للحقيقة، والتجربة الواقعية في التعامل معها، فإنه لا يمكن أبداً أن يتم تصور كامل وصحيح لهذه الحقيقة‏.‏‏.‏ وهذا ما وقع في الجدل الإسلامي‏.‏‏.‏ وفي غيره كذلك‏!‏

إنه لا بد من منهج آخر ومن تذوق مباشر للتعامل مع هذه الحقيقة الكبيرة‏.‏‏.‏

ثم نعود إلى السياق القرآني‏:‏

إن هذه الموجة بجملتها تجيء كالتعقيب على قضية الذبائح التي سبق بيانها؛ فترتبط هذه بتلك‏.‏ حزمة واحدة في السياق، وحزمة واحدة في الشعور، وحزمة واحدة في بناء هذا الدين‏.‏ فقضية الذبائح هي قضية التشريع‏.‏ وقضية التشريع هي قضية الحاكمية‏.‏ وقضية الحاكمية هي قضية الإيمان‏.‏‏.‏ ومن هنا يكون الحديث عن الإيمان على هذا النحو في موضعه المطلوب‏.‏

ثم يجيء التعقيب الأخير في هذا المقطع يربط هذه وتلك الرباط الأخير‏.‏‏.‏ فهذه وتلك صراط الله المستقيم‏.‏ والخروج في واحدة منهما هو الخروج عن هذا الصراط المستقيم‏.‏ والاستقامة عليهما معاً‏.‏‏.‏ العقيدة والشريعة‏.‏‏.‏ هي الاستقامة على الصراط المؤدي إلى دار السلام، وولاية الله لعباده الذاكرين‏:‏

‏{‏وهذا صراط ربك مستقيما‏.‏ قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون‏.‏ لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون‏}‏‏.‏‏.‏

هذا هو الصراط‏.‏‏.‏ صراط ربك‏.‏‏.‏ بهذه الإضافة المطمئنة الموحية بالثقة؛ المبشرة بالنهاية‏.‏‏.‏ هذه هي سنته في الهدى والضلال؛ وتلك هي شريعته في الحل والحرمة‏.‏

كلاهما سواء في ميزان الله، وكلاهما لحمة في سياق قرآنه‏.‏

وقد فصل الله آياته وبينها‏.‏ ولكن الذين يتذكرون ولا ينسون ولا يغفلون هم الذين ينتفعون بهذا البيان وهذا التفصيل‏.‏ فالقلب المؤمن قلب ذاكر لا يغفل‏.‏ وقلب منشرح مبسوط مفتوح‏.‏ وقلب حي يستقبل ويستجيب‏.‏

والذين يتذكرون، لهم دار السلام عند ربهم‏.‏‏.‏ دار الطمأنينة والأمان‏.‏‏.‏ مضمونة عند ربهم لا تضيع‏.‏‏.‏ وهو وليهم وناصرهم وراعيهم وكافلهم‏.‏‏.‏ ذلك بما كانوا يعملون‏.‏‏.‏ فهو الجزاء على النجاح في الابتلاء‏.‏

ومرة أخرى نجدنا أمام حقيقة ضخمة من حقائق هذه العقيدة‏.‏ حيث يتمثل صراط الله المستقيم في الحاكمية والشريعة‏.‏ ومن ورائهما يتمثل الإيمان والعقيدة‏.‏‏.‏ إنها طبيعة هذا الدين كما يقررها رب العالمين‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 135‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏128‏)‏ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏129‏)‏ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏130‏)‏ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ‏(‏131‏)‏ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏132‏)‏ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ‏(‏133‏)‏ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏134‏)‏ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏135‏)‏‏}‏

هذا المقطع بجملته ليس منفصلا عن الدرس السابق‏.‏ إنما هو امتداد له‏.‏ من جنس الموجات المتعاقبة التي يتضمنها‏.‏‏.‏ فهو من ناحية استطراد في بيان مصائر شياطين الإنس والجن- بعد ما بين مصير الذين يستقيمون على صراط الله- وهو من ناحية استطراد في قضية الإيمان والكفر التي تذكر في هذا الموضع من السورة بمناسبة قضية الحاكمية والتشريع‏.‏ وربط لهذه القضية الأخيرة بالحقائق الأساسية في العقيدة الإسلامية؛ ومنها حقيقة الجزاء في الآخرة على الكسب في الدنيا- بعد النذارة والبشارة- وحقيقة سلطان الله القادر على الذهاب بالشياطين وأوليائهم وبالناس جميعا واستبدال غيرهم بهم، وحقيقة ضعف البشر جملة أمام بأس الله‏.‏ وكلها حقائق عقيدية تذكر في معرض الحديث عن التحليل والتحريم في الذبائح- قبلها- ثم يجيء بعدها الحديث في الحلقة التالية عن النذور من الثمار والأنعام والأولاد؛ وعن تقاليد الجاهلية وتصوراتها في هذه الشؤون؛ فيلتحم الحديث عن هذه القضايا جميعاً؛ وتبدو في وضعها الطبيعي الذي يضعها فيه هذا الدين‏.‏ وهي أنها كلها مسائل اعتقادية على السواء‏.‏ لا فرق بينها في ميزان الله، كما يقيمه في كتابه الكريم‏.‏

لقد مضى في الحلقة السابقة حديث عن الذين يشرح الله صدورهم للإسلام؛ فتبقى قلوبهم ذاكرة لا تغفل؛ وأنهم ماضون إلى دار السلام، منتهون إلى ولاية ربهم وكفالته‏.‏‏.‏ فالآن يعرض الصفحة المقابلة في المشهد- على طريقة القرآن الغالبة في عرض «مشاهد القيامة»- يعرض شياطين الإنس والجن، الذين قضوا الحياة يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً وخداعاً وإضلالا؛ ويقف بعضهم بمساندة بعض عدوا لكل نبي؛ ويوحي بعضهم إلى بعض ليجادلوا المؤمنين في ما شرعه الله لهم من الحلال والحرام‏.‏‏.‏ يعرضهم في مشهد شاخص حي، حافل بالحوار والاعتراف والتأنيب والحكم والتعقيب، فائض بالحياة التي تزخر بها مشاهد القيامة في القرآن‏.‏

‏{‏ويوم يحشرهم جميعا‏:‏ يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس‏!‏ وقال أولياؤهم من الإنس‏:‏ ربنا استمتع بعضنا ببعض، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا‏!‏ قال‏:‏ النار مثواكم خالدين فيها- إلا ما شاء الله- إن ربك حكيم عليم‏.‏‏.‏ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون‏.‏‏.‏ يا معشر الجن والإنس، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي، وينذرونكم لقاء يومكم هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ شهدنا على أنفسنا‏!‏ وغرتهم الحياة الدنيا، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏}‏‏.‏‏.‏

إن المشهد يبدأ معروضاً في المستقبل، يوم يحشرهم جميعا‏.‏‏.‏ ولكنه يستحيل واقعا للسامع يتراءى له مواجهة‏.‏ وذلك بحذف لفظة واحدة في العبارة‏.‏ فتقدير الكلام، ‏{‏ويوم يحشرهم جميعا‏}‏- فيقول- ‏{‏يا معشر الجن والإنس‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ولكن حذف كلمة- يقول- ينتقل بالتعبير المصور نقلة بعيدة؛ ويحيل السياق من مستقبل ينتظر، إلى واقع ينظر‏!‏ وذلك من خصائص التصوير القرآني العجيب‏.‏

‏.‏‏.‏

فلنتابع المشهد الشاخص المعروض‏:‏

‏{‏يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

استكثرتم من التابعين لكم من الإنس، المستمعين لإيحائكم، المطيعين لوسوستكم، المتبعين لخطواتكم‏.‏‏.‏ وهو إخبار لا يقصد به الإخبار فالجن يعلمون أنهم قد استكثروا من الإنس‏!‏ إنما يقصد به تسجيل الجريمة- جريمة إغواء هذا الحشد الكبير الذي نكاد نلمحه في المشهد المعروض‏!‏- ويقصد به التأنيب على هذه الجريمة التي تتجمع قرائنها الحية في هذا الحشد المحشود‏!‏ لذلك لا يجيب الجن على هذا القول بشيء‏.‏‏.‏ ولكن الأغرار الأغمار من الإنس المستخفين بوسوسة الشياطين يجيبون‏:‏

‏{‏وقال أولياؤهم من الإنس‏:‏ ربنا استمتع بعضنا ببعض، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهو جواب يكشف عن طبيعة الغفلة والخفة في هؤلاء الأتباع؛ كما يكشف عن مدخل الشيطان إلى نفوسهم في دار الخداع‏.‏‏.‏ لقد كانوا يستمتعون بإغواء الجن لهم وتزيينه ما كان يزين لهم من التصورات والأفكار، ومن المكابرة والاستهتار، ومن الإثم ظاهره وباطنه‏!‏ فمن منفذ الاستمتاع دخل إليهم الشيطان‏!‏ وكانت الشياطين تستمتع بهؤلاء الأغرار الأغفال‏.‏‏.‏ كانت تستهويهم وتعبث بهم؛ وتسخرهم لتحقيق هدف إبليس في عالم الإنس‏!‏ وهؤلاء الأغرار المستخفون يحسبون أنه كان استمتاعا متبادلا، وأنهم كانوا يمتعون فيه ويتمتعون‏!‏ ومن ثم يقولون‏:‏

‏{‏ربنا استمتع بعضنا ببعض‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

ودام هذا المتاع طوال فترة الحياة، حتى حان الأجل، الذي يعلمون اليوم فقط أن الله هو الذي أمهلهم إليه؛ وأنهم كانوا في قبضته في أثناء ذلك المتاع‏:‏

‏{‏وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا‏}‏ ‏!‏

عند ذلك يجيء الحكم الفاصل، بالجزاء العادل‏:‏

‏{‏قال‏:‏ النار مثواكم خالدين فيها- إلا ما شاء الله-‏}‏

فالنار مثابة ومأوى‏.‏ والمثوى للإقامة‏.‏ وهي إقامة الدوام‏.‏‏.‏ ‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏ لتبقى صورة المشيئة الطليقة هي المسيطرة على التصور الاعتقادي‏.‏ فطلاقة المشيئة الإلهية قاعدة من قواعد هذا التصور‏.‏ والمشيئة لا تنحبس ولا تتقيد‏.‏ ولا في مقرراتها هي‏.‏

‏{‏إن ربك حكيم عليم‏}‏‏.‏

يمضي قدره بالناس عن حكمة وعن علم؛ ينفرد بهما الحكيم العليم‏.‏‏.‏

وقبل استئناف الحوار لإتمام المشهد، يتحول السياق للتعقيب على شطر المشهد المنتهي‏:‏

‏{‏وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون‏}‏‏.‏‏.‏

بمثل هذا الذي قام بين الجن والإنس من ولاء؛ وبمثل ما انتهى إليه هذا الولاء من مصير‏.‏‏.‏ بمثل ذلك، وعلى قاعدته، نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون‏.‏ نجعل بعضهم أولياء بعض؛ بحكم ما بينهم من تشابه في الطبع والحقيقة؛ وبحكم ما بينهم من اتفاق في الوجهة والهدف‏.‏ وبحكم ما ينتظرهم من وحدة في المصير‏.‏

وهو تقرير عام أبعد مدى من حدود المناسبة التي كانت حاضرة، إنه يتناول طبيعة الولاء بين الشياطين من الإنس والجن عامة‏.‏

فإن الظالمين- وهم الذين يشركون بالله في صورة من الصور- يتجمع بعضهم إلى بعض في مواجهة الحق والهدى؛ ويعين بعضهم بعضا في عداء كل نبي والمؤمنين به‏.‏ إنهم فضلا على أنهم من طينة واحدة- مهما اختلفت الأشكال- هم كذلك أصحاب مصلحة واحدة، تقوم على اغتصاب حق الربوبية على الناس، كما تقوم على الانطلاق مع الهوى بلا قيد من حاكمية الله‏.‏

ونحن نراهم في كل زمان كتلة واحدة يساند بعضهم بعضا- على ما بينهم من خلافات وصراع على المصالح- إذا كانت المعركة مع دين الله ومع أولياء الله‏.‏‏.‏ فبحكم ما بينهم من اتفاق في الطينة، واتفاق في الهدف يقوم ذلك الولاء‏.‏‏.‏ وبحكم ما يكسبون من الشر والإثم تتفق مصائرهم في الآخرة على نحو ما رأينا في المشهد المعروض‏!‏

وإننا لنشهد في هذه الفترة- ومنذ قرون كثيرة- تجمعا ضخما لشياطين الإنس من الصليبيين والصهيونيين والوثنيين والشيوعيين- على اختلاف هذه المعسكرات فيما بينها- ولكنه تجمع موجه إلى الإسلام، وإلى سحق طلائع حركات البعث الإسلامي في الأرض كلها‏.‏

وهو تجمع رهيب فعلا، تجتمع له خبرة عشرات القرون في حرب الإسلام، مع القوى المادية والثقافية، مع الأجهزة المسخرة في المنطقة ذاتها للعمل وفق أهداف ذلك التجمع وخططه الشيطانية الماكرة‏.‏‏.‏ وهو تجمع يتجلى فيه قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون‏}‏‏.‏‏.‏ كما ينطبق عليه تطمين الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون‏}‏ ولكن هذا التطمين يقتضي أن تكون هناك العصبة المؤمنة التي تسير على قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتعلم أنها تقوم مقامه في هذه المعركة المشبوبة على هذا الدين، وعلى المؤمنين‏.‏‏.‏

ثم نعود مع السياق إلى شطر المشهد الأخير‏:‏

‏{‏يا معشر الجن والإنس، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي، وينذرونكم لقاء يومكم هذا‏؟‏ قالوا شهدنا على أنفسنا، وغرتهم الحياة الدنيا، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏}‏‏.‏‏.‏

وهو سؤال للتقرير والتسجيل‏.‏ فالله- سبحانه- يعلم ما كان من أمرهم في الحياة الدنيا‏.‏ والجواب عليه إقرار منهم باستحقاقهم هذا الجزاء في الآخرة‏.‏‏.‏

والخطاب موجه إلى الجن كما هو موجه إلى الإنس‏.‏‏.‏ فهل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم كما أرسل إلى الإنس‏؟‏ الله وحده يعلم شأن هذا الخلق المغيب عن البشر‏.‏ ولكن النص يمكن تأويله بأن الجن كانوا يسمعون ما أنزل على الرسل، وينطلقون إلى قومهم منذرين به‏.‏ كالذي رواه القرآن الكريم من أمر الجن في سورة الأحقاف‏:‏ ‏{‏وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن‏.‏ فلما حضروه قالوا‏:‏ أنصتوا‏.‏ فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين‏.‏ قالوا‏:‏ يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم‏.‏ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به، يغفر لكم من ذنوبكم، ويجركم من عذاب أليم‏.‏ ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض، وليس له من دونه أولياء‏.‏ أولئك في ضلال مبين‏}‏

فجائز أن يكون السؤال والجواب للجن مع الإنس قائمين على هذه القاعدة‏.‏‏.‏ والأمر كله مما اختص الله سبحانه بعلمه؛ والبحث فيما وراء هذا القدر لا طائل وراءه‏!‏

وعلى أية حال فقد أدرك المسؤولون من الجن والإنس، أن السؤال ليس على وجهه‏.‏ إنما هو سؤال للتقرير والتسجيل؛ كما أنه للتأنيب والتوبيخ؛ فأخذوا في الاعتراف الكامل؛ وسجلوا على أنفسهم استحقاقهم لما هم فيه‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ شهدنا على أنفسنا‏}‏‏:‏

وهنا يتدخل المعقب على المشهد ليقول‏:‏

‏{‏وغرتهم الحياة الدنيا؛ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏}‏؛

وهو تعقيب لتقرير حقيقة حالهم في الدنيا‏.‏ فقد غرتهم هذه الحياة؛ وقادهم الغرور إلى الكفر‏.‏ ثم ها هم أولاء يشهدون على أنفسهم به؛ حيث لا تجدي المكابرة والإنكار‏.‏‏.‏ فأي مصير أبأس من أن يجد الإنسان نفسه في هذا المأزق، الذي لا يملك أن يدفع عن نفسه فيه، ولا بكلمة الإنكار‏!‏ ولا بكلمة الدفاع‏!‏

ونقف لحظة أمام الأسلوب القرآني العجيب في رسم المشاهد حاضرة؛ ورد المستقبل المنظور واقعاً مشهوداً؛ وجعل الحاضر القائم ماضياً بعيداً‏!‏

إن هذا القرآن يتلى على الناس في هذه الدنيا الحاضرة؛ وفي هذه الأرض المعهودة‏.‏ ولكنه يعرض مشهد الآخرة كأنه حاضر قريب؛ ومشهد الدنيا كأنها ماض بعيد‏!‏ فننسى أن ذلك مشهد سيكون يوم القيامة؛ ونستشعر أنه أمامنا اللحظة ماثل‏!‏ وأنه يتحدث عن الدنيا التي كانت كما يتحدث عن التاريخ البعيد‏!‏

‏{‏وغرتهم الحياة الدنيا، وشهدوا على أنفسهم أنهم- كانوا- كافرين‏}‏‏.‏‏.‏

وذلك من عجائب التخييل‏!‏

وعلى ختام المشهد يلتفت السياق بالخطاب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن وراءه من المؤمنين؛ وإلى الناس أجمعين، ليعقب على هذا الحكم الصادر بجزاء الشياطين من الإنس والجن؛ وبإحالة هذا الحشد الحاشد إلى النار؛ وعلى إقرارهم بأن الرسل قد جاءت إليهم، تقص عليهم آيات الله، وتنذرهم لقاء يومهم هذا‏.‏‏.‏ ليعقب على هذا المشهد وما كان فيه، بأن عذاب الله لا ينال أحدا إلا بعد الإنذار؛ وأن الله لا يأخذ العباد بظلمهم ‏(‏أي بشركهم‏)‏ إلا بعد أن ينبهوا من غفلتهم؛ وتقص عليهم الآيات، وينذرهم المنذرون‏:‏

‏{‏ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى- بظلم- وأهلها غافلون‏}‏‏.‏‏.‏

لقد اقتضت رحمة الله بالناس ألا يؤاخذهم على الشرك والكفر حتى يرسل إليهم الرسل، على الرغم مما أودعه فطرتهم من الاتجاه إلى ربها- فقد تضل هذه الفطر- وعلى الرغم مما أعطاهم من قوة العقل والإدراك- فالعقل قد يضل تحت ضغط الشهوات- وعلى الرغم مما في كتاب الكون المفتوح من آيات- فقد تتعطل أجهزة الاستقبال كلها في الكيان البشري‏.‏

لقد ناط بالرسل والرسالات مهمة استنقاذ الفطرة من الركام، واستنقاذ العقل من الانحراف، واستنقاذ البصائر والحواس من الانطماس‏.‏ وجعل العذاب مرهونا بالتكذيب والكفر بعد البلاغ والإنذار‏.‏

وهذه الحقيقة كما أنها تصور رحمة الله بهذا الإنسان وفضله، كذلك تصور قيمة المدارك البشرية من فطرة وعقل؛ وتقرر أنها- وحدها- لا تعصم من الضلال، ولا تهدي إلى يقين، ولا تصبر على ضغط الشهوات‏.‏‏.‏ ما لم تساندها العقيدة وما لم يضبطها الدين‏.‏‏.‏

ثم يقرر السياق حقيقة أخرى في شأن الجزاء‏.‏‏.‏ للمؤمنين وللشياطين سواء‏:‏

‏{‏ولكل درجات مما عملوا‏.‏ وما ربك بغافل عما يعملون‏}‏‏.‏‏.‏

فللمؤمنين درجات‏:‏ درجة فوق درجة‏.‏ وللشياطين درجات‏:‏ درجة تحت درجة‏!‏ وفق الأعمال‏.‏ والأعمال مرصودة لا يغيب منها شيء‏:‏

‏{‏وما ربك بغافل عما يعملون‏}‏‏.‏

على أن الله- سبحانه- إنما يرسل رسله رحمة بالعباد، فهو غني عنهم؛ وعن إيمانهم به وعبادتهم له‏.‏ وإذا أحسنوا فإنما يحسنون لأنفسهم في الدنيا والآخرة‏.‏ كذلك تتجلى رحمته في الإبقاء على الجيل العاصي الظالم المشرك، وهو القادر على أن يهلكه، وينشئ جيلا آخر يستخلفه‏:‏

‏{‏وربك الغني ذو الرحمة‏.‏ إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء‏.‏ كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين‏}‏‏.‏

فلا ينس الناس أنهم باقون برحمة الله؛ وأن بقاءهم معلق بمشيئة الله؛ وأن ما في أيديهم من سلطان إنما خولهم الله إياه‏.‏ فليس هو سلطاناً أصيلا؛ ولا وجودا مختارا‏.‏ فما لأحد في نشأته ووجوده من يد؛ وما لأحد فيما أعطيه من السلطان من قدرة‏.‏ وذهابهم واستخلاف غيرهم هين على الله‏.‏ كما أنه أنشأهم من ذرية جيل غبر‏.‏ واستخلفوا هم من بعده بقدر من الله‏.‏

إنها طرقات قوية وإيقاعات عنيفة على قلوب الظالمين من شياطين الإنس والجن الذين يمكرون ويتطاولون، ويحرمون ويحللون، ويجادلون في شرع الله بما يشرعون‏.‏‏.‏ وهم هكذا في قبضة الله يبقيهم كيف شاء، ويذهب بهم أنى شاء، ويستخلف من بعدهم ما يشاء‏.‏‏.‏ كما أنها إيقاعات من التثبيت والطمأنينة والثقة في قلوب العصبة المسلمة، التي تلقى العنت من كيد الشياطين ومكرهم؛ ومن أذى المجرمين وعدائهم‏.‏‏.‏‏.‏ فهؤلاء هم في قبضة الله ضعافا حتى وهم يتجبرون في الأرض ويمكرون‏!‏

ثم إيقاع تهديدي آخر‏:‏

‏{‏إن ما توعدون لآت، وما أنتم بمعجزين‏}‏‏.‏

إنكم في يد الله وقبضته، ورهن مشيئته وقدره‏.‏ فلستم بمفلتين أو مستعصين‏.‏‏.‏ ويوم الحشر الذي شاهدتم منه مشهدا منذ لحظة ينتظركم؛ وأنه لآت لا ريب فيه، ولن تفلتوا يومها، ولن تعجزوا الله القوي المتين‏.‏ وتنتهي التعقيبات بتهديد آخر ملفوف، عميق الإيحاء والتأثير في القلوب‏:‏

‏{‏قل‏:‏ يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار، إنه لا يفلح الظالمون‏}‏‏.‏

إنه تهديد الواثق من الحق الذي معه، والحق الذي وراءه؛ ومن القوة التي في الحق، والقوة التي وراء الحق‏.‏‏.‏ التهديد من الرسول- صلى الله عليه وسلم- بأنه نافض يديه من أمرهم، واثق مما هو عليه من الحق، واثق من منهجه وطريقه، واثق كذلك مما هم عليه من الضلال، وواثق من مصيرهم الذي هم إليه منتهون‏:‏

‏{‏إنه لا يفلح الظالمون‏}‏‏.‏‏.‏

فهذه هي القاعدة التي لا تتخلف‏.‏‏.‏ إنه لا يفلح المشركون، الذين يتخذون من دون الله أولياء‏.‏ وليس من دون الله ولي ولا نصير‏.‏ والذين لا يتبعون هدى الله‏.‏ وليس وراءه إلا الضلال البعيد وإلا الخسران المبين‏.‏‏.‏

وقبل أن نمضي مع سياق السورة حلقة جديدة، نقف وقفة سريعة مع هذه الحلقة الوسيطة بين حديث عن تشريع الذبائح- ما ذكر اسم الله عليه وما لم يذكر اسم الله عليه- وحديث عن النذور من الثمار والأنعام والأولاد‏.‏‏.‏ هذه الحلقة التي تضمنت تلك الحقائق الأساسية من حقائق العقيدة البحتة؛ كما تضمنت مشاهد وصوراً وتقريرات عن طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر؛ وعن المعركة بين الشياطين من الإنس والجن وبين أنبياء الله والمؤمنين بهم؛ كما تضمنت ذلك الحشد من المؤثرات الموحية التي سبقت نظائرها في سياق السورة وهو يواجه ويعرض حقائق العقيدة الكبرى في محيطها الشامل‏.‏‏.‏

نقف هذه الوقفة السريعة مع هذه الحلقة الوسيطة؛ لنرى كم يحفل المنهج القرآن بهذه الواقعيات العملية، وهذه الجزيئات التطبيقية في الحياة البشرية؛ وكم يحفل بانطباقها على شريعة الله؛ وعلى تقرير الأصل الذي يجب أن تستند إليه؛ وهو حاكمية الله‏.‏‏.‏ أو بتعبير آخر ربوبية الله‏.‏

فلماذا يحفل المنهج القرآني هكذا بهذه القضية‏؟‏

يحفل بها لأنها من ناحية المبدأ تلخص قضية «العقيدة» في الإسلام؛ كما تلخص قضية «الدين»‏.‏ فالعقيدة في الإسلام تقوم على أساس شهادة‏:‏ إن لا إله إلا الله‏.‏ وبهذه الشهادة يخلع المسلم من قلبه ألوهية كل أحد من العباد ويجعل الألوهية لله‏.‏ ومن ثم يخلع الحاكمية عن كل أحد ويجعل الحاكمية كلها لله‏.‏‏.‏ والتشريع للصغيرة هو مزاولة لحق الحاكمية كالتشريع للكبيرة‏.‏ فهو من ثَمَّ مزاولة لحق الألوهية‏.‏ يأباه المسلم إلا لله‏.‏‏.‏ والدين في الإسلام هو دينونة العباد في واقعهم العملي- كما هو الأمر في العقيدة القلبية- لألوهية واحدة هي ألوهية الله، ونفض كل دينونة في هذا الواقع لغير الله من العباد المتألهين‏!‏ والتشريع هو مزاولة للألوهية، والخضوع للتشريع هو الدينونة لهذه الألوهية‏.‏‏.‏ ومن ثم يجعل المسلم دينونته في هذا لله وحده؛ ويخلع ويرفض الدينونة لغير الله من العباد المتألهين‏!‏

من هنا ذلك الاحتفال كله في القرآن كله بتقرير هذه الأصول الاعتقادية، والاتكاء عليها على هذا النحو الذي نرى صورة منه في سياق هذه السورة المكية‏.‏‏.‏ والقرآن المكي- كما أسلفنا في التقديم لهذه السورة في الجزء السابع- لم يكن يواجه قضية النظام والشرائع في حياة الجماعة المسلمة؛ ولكنه كان يواجه قضية العقيدة والتصور‏.‏ ومع هذا فإن السورة تحفل هذا الاحتفال بتقرير هذا الأصل الاعتقادي في موضوع الحاكمية‏.‏‏.‏ ولهذا دلالته العميقة الكبيرة‏.‏‏.‏