فصل: تفسير الآيات رقم (35- 53)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 53‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏35‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏36‏)‏ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ‏(‏40‏)‏ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏41‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏42‏)‏ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ‏(‏45‏)‏ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ‏(‏46‏)‏ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏48‏)‏ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏49‏)‏ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏51‏)‏ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

الآن بعد تلك الوقفة الطويلة للتعقيب على قصة النشأة الأولى؛ ومواجهة واقع الجاهلية العربية- وواقع الجاهلية البشرية كلها من ورائها- في شأن ستر الجسم باللباس وستر الروح بالتقوى؛ وعلاقة القضية كلها بقضية العقيدة الكبرى‏.‏‏.‏

الآن يبدأ نداء جديد لبني آدم‏.‏‏.‏ نداء بشأن القضية الكلية التي ربطت بها قضية اللباس في الوقفة السابقة‏.‏‏.‏ قضية التلقي والاتباع في شعائر الدين وفي شرائعه، وفي أمر الحياة كلها وأوضاعها‏.‏ وذلك لتحديد الجهة التي يتلقون منها‏.‏‏.‏ إنها جهة الرسل المبلغين عن ربهم‏.‏ وعلى أساس الاستجابة أو عدم الاستجابة للرسل يكون الحساب والجزاء، في نهاية الرحلة التي يعرضها السياق في هذه الجولة‏:‏

‏{‏يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي‏:‏ فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏.‏ والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏‏.‏

هذا هو عهد الله لآدم وبنيه، وهذا هو شرطه في الخلافة عنه- سبحانه- في أرضه التي خلقها وقدر فيها أقواتها، واستخلف فيها هذا الجنس، ومكنه فيها، ليؤدي دوره وفق هذا الشرط وذلك العهد؛ وإلا فإن عمله ردٌّ في الدنيا لا يقبله ولا يمضيه مسلم لله؛ وهو في الآخرة وزر جزاؤه جهنم لا يقبل الله من أصحابه صرفاً ولا عدلاً‏.‏

‏{‏فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏‏.‏

لأن التقوى تنأى بهم عن الآثام والفواحش- وأفحش الفواحش الشرك بالله واغتصاب سلطانه وادعاء خصائص ألوهيته- وتقودهم إلى الطيبات والطاعات؛ وتنتهي بهم إلى الأمن من الخوف والرضى عن المصير‏.‏

‏{‏والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏‏.‏‏.‏ لأن التكذيب والاستكبار عن الاستسلام لعهد الله وشرطه يلحق المستكبرين بوليهم إبليس في النار؛ حيث يحق وعد الله‏:‏ ‏{‏لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين‏}‏‏.‏‏.‏

ومن هنا يأخذ السياق في عرض مشهد الاحتضار- عند نهاية الأجل المشار إليه في نهاية الجولة الماضية‏:‏ ‏{‏ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏‏.‏‏.‏ ثم مشهد الحشر والحساب‏.‏ ومشهد الفصل والجزاء‏.‏‏.‏ كأنها تفصيل لذلك الإجمال عن شأن المتقين المستكبرين؛ وتصوير لحال المتقين وحال المستكبرين؛ بعد الأجل المعلوم‏.‏ تصوير على طريقة القرآن الفريدة التي تستحضر المشهد حياً متحركاً يراه قارئ القرآن وسامعه؛ ويشهده، بكل كينونته‏.‏

لقد عني المنهج القرآني بمشاهد القيامة‏.‏‏.‏ البعث والحساب، والنعيم والعذاب‏.‏‏.‏ عناية واضحة‏.‏ فلم يعد ذلك العالم الذي وعده الله الناس، بعد هذا العالم الحاضر، موصوفاً فحسب، بل عاد مصوراً محسوساً، وحياً متحركاً، وبارزاً شاخصاً‏.‏‏.‏ وعاش المسلمون في ذلك العالم عيشة كاملة‏.‏ رأوا مشاهده وتأثروا بها، وخفقت قلوبهم تارة، واقشعرت جلودهم تارة، وسرى في نفوسهم الفزع مرة، وعاودهم الاطمئنان أخرى، ولاح لهم من بعيد لفح النار، ورفت إليهم من الجنة أنسام‏!‏ ومن ثم باتوا يعرفون ذلك العالم تمام المعرفة قبل اليوم الموعود‏.‏

‏.‏ والذي يراجع كلماتهم ومشاعرهم عن ذلك العالم يحس أنهم كانوا يعيشون فيه عيشة أعمق وأصدق من حياتهم في هذه الدار الدنيا؛ وكانوا ينتقلون بحسهم كله إليه، كما ينتقل الإنسان من دار إلى دار، ومن أرض إلى أرض، في هذه الحياة المشهودة المحسوسة‏.‏‏.‏ ولم يكن ذلك العالم مستقبلاً موعوداً في حسهم، وإنما كان واقعاً مشهوداً‏.‏‏.‏

وربما كانت هذه المشاهد- المعروضة هنا- أطول مشاهد القيامة في القرآن، وأحفلها بالحركة، وبالمناظر المتتابعة، وبالحوار المتنوع، في حيوية فائضة يعجب الإنسان كيف تنقلها الألفاظ، حيث لا ينقلها للحس هكذا إلا المشاهدة‏!‏

وهي تجيء في السورة- كما أسلفنا- تعقيباً على قصة آدم، وخروجه من الجنة هو وزوجه بإغواء الشيطان لهما، وتحذير الله لبني آدم أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة، وتحذيرهم من اتباع عدوهم القديم فيما يوحي به إليهم ويوسوس، وتهديدهم بتولية الشيطان لهم إن هم اختاروا اتباعه على اتباع ما سيرسل به الرسل إليهم من الهدى والشريعة‏.‏‏.‏ ثم يأخذ في عرض مشهد الاحتضار، ومشاهد القيامة- وكأنها تالية له بلا فاصل من الزمان‏!‏- فإذا الذي يقع فيها مصداق ما ينبئ به هؤلاء الرسل، وإذا الذين يطيعون الشيطان قد حرموا العودة إلى الجنة، وفتنوا عنها كما أخرج أبويهم منها‏.‏ وإذا الذين خالفوا الشيطان فأطاعوا الله، قد ردوا إلى الجنة، ونودوا من الملأ الأعلى‏:‏ ‏{‏أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون‏}‏‏.‏‏.‏ فكأنما هي أوبة المهاجرين، وعودة المغتربين، إلى دار النعيم‏!‏

وفي هذا التناسق بين القصة السابقة والتعقيبات عليها، ومشاهد القيامة اللاحقة من مبدئها إلى منتهاها من الجمال ما فيه‏.‏ فهي قصة تبدأ في الملأ الأعلى، على مشهد من الملائكة- يوم أن خلق الله آدم وزوجه وأسكنهما الجنة، فدلاهما الشيطان عن مرتبة الطاعة والعبودية الكاملة الخالصة، وأخرجهما من الجنة- وتنتهي كذلك في الملأ الأعلى على مشهد من الملائكة‏.‏‏.‏ فيتصل البدء بالنهاية‏.‏ ويضمان بينهما فترة الحياة الدنيا ومشهد الاحتضار في نهايتها‏.‏ وهو يتسق في الوسط مع البدء والنهاية كل الاتساق‏.‏

والآن نأخذ في استعراض هذه المشاهد العجيبة‏.‏

ها نحن أولاء أمام مشهد الاحتضار‏.‏ احتضار الذين افتروا على الله الكذب، فزعموا أن ما ورثوه عن آبائهم من التصورات والشعائر، وما شرعوه هم لأنفسهم من التقاليد والأحكام، أمرهم به الله، والذين كذبوا بآيات الله التي جاءهم بها الرسل- وهي شرع الله المستيقن- وآثروا الظن والخرص على اليقين والعلم‏.‏ وقد نالوا نصيبهم من متاع الدنيا الذي كتب لهم، ومن فترة الابتلاء التي قدرها الله، كما نالوا نصيبهم من آيات الله التي أرسل بها رسله وأبلغهم الرسل نصيبهم من الكتاب‏:‏

‏{‏فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياتنا‏؟‏ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب، حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم، قالوا‏:‏ أين ما كنتم تدعون من دون الله‏؟‏ قالوا‏:‏ ضلوا عنا، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏}‏‏.‏

ها نحن أولاء أمام مشهد هؤلاء الذين افتروا على الله كذباً أو كذبوا بآياته؛ وقد جاءتهم رسل ربهم من الملائكة يتوفونهم، ويقبضون أرواحهم‏.‏ فدار بين هؤلاء وهؤلاء حوار‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ أين ما كنتم تدعون من دون الله‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

أين دعاويكم التي افتريتم على الله‏؟‏ وأين آلهتكم التي توليتم في الدنيا، وفتنتم بها عما جاءكم من الله على لسان الرسل‏؟‏ أين هي الآن في اللحظة الحاسمة التي تسلب منكم فيها الحياة؛ فلا تجدون لكم عاصماً من الموت يؤخركم ساعة عن الميقات الذي أجله الله‏؟‏

ويكون الجواب هو الجواب الوحيد، الذي لا معدى عنه، ولا مغالطة فيه‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ ضلوا عنا‏}‏ ‏!‏

غابوا عنا وتاهوا‏!‏ فلا نحن نعرف لهم مقراً، ولا هم يسلكون إلينا طريقاً‏!‏‏.‏‏.‏ فما أضيع عباداً لا تهتدي إليهم آلهتهم، ولا تسعفهم في مثل هذه اللحظة الحاسمة‏!‏ وما أخيب آلهة لا تهتدي إلى عبادها‏.‏ في مثل هذا الأوان‏!‏

‏{‏وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏}‏‏.‏‏.‏

وكذلك شهدناهم من قبل في سياق السورة عندما جاءهم بأس الله في الدنيا‏:‏ ‏{‏فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا‏:‏ إنا كنا ظالمين‏}‏ فإذا انتهى مشهد الاحتضار، فنحن أمام المشهد التالي، وهؤلاء المحتضرون في النار‏!‏‏.‏‏.‏ ويسكت السياق عما بينهما، ويسقط الفترة بين الموت والبعث والحشر‏.‏ وكأنما يؤخذ هؤلاء المحتضرون من الدار إلى النار‏!‏

‏{‏قال‏:‏ ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار، كلما دخلت أمة لعنت أختها، حتى إذا ادَّاركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم‏:‏ ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار‏.‏ قال‏:‏ لكل ضعف ولكن لا تعلمون‏.‏ وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل، فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون‏}‏‏.‏

‏{‏ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار‏}‏‏.‏

انضموا إلى زملائكم وأوليائكم من الجن والإنس‏.‏‏.‏ هنا في النار‏.‏‏.‏ أليس إبليس هو الذي عصى ربه‏؟‏ وهو الذي أخرج آدم من الجنة وزوجه‏؟‏ وهو الذي أغوى من أغوى من أبنائه‏؟‏ وهو الذي أوعده الله أن يكون هو ومن أغواهم في النار‏؟‏‏.‏‏.‏ فادخلوا إذن جميعاً‏.‏‏.‏ ادخلوا سابقين ولاحقين‏.‏‏.‏ فكلكم أولياء‏.‏‏.‏ وكلكم سواء‏!‏

ولقد كانت هذه الأمم والجماعات والفرق في الدنيا من الولاء بحيث يتبع آخرها أولها؛ ويملي متبوعها لتابعها‏.‏‏.‏ فلننظر اليوم كيف تكون الأحقاد بينها، وكيف يكون التنابز فيها‏:‏

‏{‏كلما دخلت أمة لعنت أختها‏}‏ ‏!‏

فما أبأسها نهاية تلك التي يلعن فيها الابن أباه؛ ويتنكر فيها الولي لمولاه‏!‏

‏{‏حتى إذا اداركوا فيها جميعاً‏}‏‏.‏

وتلاحق آخرهم وأولهم، واجتمع قاصيهم بدانيهم، بدأ الخصام والجدال‏:‏

‏{‏قالت أخراهم لأولاهم‏:‏ ربنا هؤلاء أضلونا، فآتهم عذاباً ضعفاً من النار‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا تبدأ مهزلتهم أو مأساتهم‏!‏ ويكشف المشهد عن الأصفياء والأولياء، وهم متناكرون أعداء؛ يتهم بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، ويطلب له من ‏{‏ربنا‏}‏ شر الجزاء‏.‏‏.‏ من ‏{‏ربنا‏}‏ الذين كانوا يفترون عليه ويكذبون بآياته؛ وهم اليوم ينيبون إليه وحده ويتوجهون إليه بالدعاء‏!‏ فيكون الجواب استجابة للدعاء‏.‏ ولكن أية استجابة‏؟‏‏!‏

‏{‏قال‏:‏ لكل ضعف، ولكن لا تعلمون‏}‏‏.‏

لكم ولهم جميعاً ما طلبتم من مضاعفة العذاب‏!‏

وكأنما شمت المدعو عليهم بالداعين، حينما سمعوا جواب الدعاء، فإذا هم يتوجهون إليهم بالشماتة‏.‏‏.‏ كلنا سواء‏.‏‏.‏ في هذا الجزاء‏:‏

‏{‏وقالت أولاهم لأخراهم‏:‏ فما كان لكم علينا من فضل‏.‏ فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون‏}‏ ‏!‏

وبهذا ينتهي ذلك المشهد الساخر الأليم، ليتبعه تقرير وتوكيد لهذا المصير الذي لن يتبدل- وذلك قبل عرض المشهد المقابل للمؤمنين في دار النعيم-‏:‏

‏{‏إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وكذلك نجزي المجرمين‏.‏ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش، وكذلك نجزي الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

ودونك فقف بتصورك ما تشاء أمام هذا المشهد العجيب‏.‏‏.‏ مشهد الجمل تجاه ثقب الإبرة‏.‏ فحين يفتح ذلك الثقب الصغير لمرور الجمل الكبير، فانتظر حينئذ- وحينئذ فقط- أن تفتح أبواب السماء لهؤلاء المكذبين، فتقبل دعاءهم أو توبتهم- وقد فات الأوان- وأن يدخلوا إلى جنات النعيم‏!‏ أما الآن، وإلى أن يلج الجمل في سم الخياط، فهم هنا في النار، التي تداركوا فيها جميعاً وتلاحقوا؛ وتلاوموا فيها وتلاعنوا، وطلب بعضهم لبعض سوء الجزاء، ونالوا جميعاً ما طلبه الأولياء للأولياء‏!‏

‏{‏وكذلك نجزي المجرمين‏}‏‏.‏‏.‏

ثم إليك هيئتهم في النار‏:‏

‏{‏لهم من جهنم مهادٌ، ومن فوقهم غواشٍ‏}‏‏.‏‏.‏

فلهم من نار جهنم من تحتهم فراش، يدعوه- للسخرية- مهاداً، وما هو مهد ولا لين ولا مريح‏!‏- ولهم من نار جهنم أغطية تغشاهم من فوقهم‏!‏

‏{‏وكذلك نجزي الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

والظالمون هم المجرمون‏.‏ والظالمون هم المشركون المكذبون بآيات الله، المفترون الكذب على الله‏.‏‏.‏ كلها أوصاف مترادفة في تعبير القرآن‏.‏

والآن فلننظرإلى المشهد المقابل‏:‏

‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات- لا نكلف نفساً إلا وسعها- أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون‏.‏ ونزعنا ما في صدورهم من غل، تجري من تحتهم الأنهار، وقالوا‏:‏ الحمد لله الذي هدانا لهذا- وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله- لقد جاءت رسل ربنا بالحق‏.‏ ونودوا‏:‏ أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون‏}‏‏.‏‏.‏

هؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات قدر استطاعتهم، لا يكلفون إلا طاقتهم‏.‏

‏.‏ هؤلاء هم يعودون إلى جنتهم‏!‏ إنهم أصحابها- بإذن الله وفضله- ورثها لهم- برحمته- بعملهم الصالح مع الإيمان‏.‏‏.‏ جزاء ما اتبعوا رسل الله وعصوا الشيطان‏.‏ وجزاء ما أطاعوا أمر الله العظيم الرحيم، وعصوا وسوسة العدو اللئيم القديم‏!‏ ولولا رحمة الله ما كفى عملهم- في حدود طاقتهم- وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله» قالوا‏:‏ ولا أنت يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» وليس هنالك تناقض ولا اختلاف بين قول الله سبحانه في هذا الشأن، وقول رسوله- صلى الله عليه وسلم- وهو لا ينطق عن الهوى‏.‏‏.‏ وكل ما ثار من الجدل حول هذه القضية بين الفرق الإسلامية لم يقم على الفهم الصحيح لهذا الدين، إنما ثار عن الهوى‏!‏ فلقد علم الله من بني آدم ضعفهم وعجزهم وقصورهم عن أن تفي أعمالهم بحق الجنة‏.‏ ولا بحق نعمة واحدة من نعمه عليهم في الدنيا‏.‏ فكتب على نفسه الرحمة؛ وقبل منهم جهد المقل القاصر الضعيف؛ وكتب لهم به الجنة، فضلاً منه ورحمة، فاستحقوها بعملهم ولكن بهذه الرحمة‏.‏‏.‏

وبعد، فإذا كان أولئك المفترون المكذبون المجرمون الظالمون الكافرون المشركون يتلاعنون في النار ويتخاصمون، وتغلي صدورهم بالسخائم والأحقاد، بعد أن كانوا أصفياء أولياء‏.‏‏.‏ فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة إخوان متحابون متصافون متوادون، يرف عليهم السلام والولاء‏:‏

‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل‏}‏‏.‏‏.‏

فهم بشر‏.‏ وهم عاشوا بشراً‏.‏ وقد يثور بينهم في الحياة الدنيا غيظ يكظمونه، وغل يغالبونه ويغلبونه‏.‏‏.‏ ولكن تبقى في القلب منه آثار‏.‏

قال القرطبي في تفسيره المسمى أحكام القرآن‏:‏ ‏(‏قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الغل على أبواب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين»‏.‏‏.‏ وروي عن علي- رضي الله عنه- أنه قال‏:‏ أرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل‏}‏‏.‏‏.‏

وإذا كان أهل النار يصطلون النار من تحتهم ومن فوقهم‏.‏ فأهل الجنة تجري من تحتهم الأنهار؛ فترف على الجو كله أنسام‏:‏

‏{‏تجري من تحتهم الأنهار‏}‏‏.‏‏.‏

وإذا كان أولئك يشتغلون بالتنابز والخصام، فهؤلاء يشتغلون بالحمد والاعتراف‏:‏

‏{‏وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق‏}‏‏.‏‏.‏

وإذا كان أولئك ينادون بالتحقير والتأنيب‏:‏ ‏{‏ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار‏}‏‏.‏‏.‏ فإن هؤلاء ينادون بالتأهيل والتكريم‏:‏

‏{‏ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون‏}‏‏.‏‏.‏

إنه التقابل التام بين أصحاب الجنة وأصحاب النار‏.‏

ثم يستمر العرض، فإذا نحن أمام مشهد لاحق للمشهد السابق‏.‏ لقد اطمأن أصحاب الجنة إلى دارهم؛ واستيقن أصحاب النار من مصيرهم‏.‏ وإذا الألولون ينادون الآخرين، يسألونهم عما وجدوه من وعد الله القديم‏:‏

‏{‏ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار‏:‏ أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏!‏ فأذن مؤذن بينهم‏:‏ أن لعنة الله على الظالمين‏.‏ الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة كافرون‏}‏‏.‏‏.‏

وفي هذا السؤال من السخرية المرة ما فيه‏.‏‏.‏ إن المؤمنين على ثقة من تحقق وعيد الله كثقتهم من تحقق وعده‏.‏ ولكنهم يسألون‏.‏

ويجيء الجواب في كلمة واحدة‏.‏‏.‏ نعم‏.‏‏.‏ ‏!‏

وعندئذ ينتهي الجواب، ويقطع الحوار‏:‏

‏{‏فأذن مؤذن بينهم‏:‏ أن لعنة الله على الظالمين‏.‏ الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، وهم بالآخرة كافرون‏}‏‏.‏‏.‏

فيتحدد معنى ‏{‏الظالمين‏}‏ المقصود‏.‏ وهو مرادف لمعنى ‏{‏الكافرين‏}‏‏.‏ فهم الذين يصدون عن سبيل الله، ويريدون الطريق عوجاً لا استقامة فيه، وهم بالآخرة كافرون‏.‏

وفي هذا الوصف‏:‏ ‏{‏ويبغونها عوجاً‏}‏‏.‏‏.‏ إيحاء بحقيقة ما يريده الذين يصدون عن سبيل الله‏.‏ إنهم يريدون الطريق العوجاء؛ ولا يريدون الطريق المستقيم‏.‏ يريدون العوج ولا يريدون الاستقامة‏.‏ فالاستقامة لها صورة واحدة‏:‏ صورة المضي على طريق الله ونهجه وشرعه‏.‏ وكل ما عداه فهو أعوج؛ وهو إرادة للعوج‏.‏ وهذه الإرادة تلتقي مع الكفر بالآخرة‏.‏ فما يؤمن بالآخرة أحد، ويستيقن أنه راجع إلى ربه؛ ثم يصد عن سبيل الله، ويحيد عن نهجه وشرعه‏.‏‏.‏ وهذا هو التصوير الحقيقي لطبيعة النفوس التي تتبع شرعاً غير شرع الله‏.‏ التصوير الذي يجلو حقيقة هذه النفوس ويصفها الوصف الداخلي الصحيح‏.‏

ثم يتوجه النظر إلى المشهد من ظاهره‏.‏ فإذا هنالك حاجز يفصل بين الجنة والنار؛ عليها رجال يعرفون أصحاب الجنة وأصحاب النار بسيماهم وعلاماتهم‏.‏‏.‏ فلننظر من هؤلاء، وما شأنهم مع أصحاب الجنة وأصحاب النار‏؟‏

‏{‏وبينهما حجاب، وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم‏.‏ ونادوا أصحاب الجنة‏:‏ أن سلام عليكم‏.‏‏.‏ لم يدخلوها وهم يطمعون‏.‏ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا‏:‏ ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين‏.‏ ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم، قالوا‏:‏ ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون‏.‏ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة‏؟‏ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون‏}‏‏.‏‏.‏

روي أن هؤلاء الرجال الذين يقفون على الأعراف- الحجاب الحاجز بين الجنة والنار- جماعة من البشر، تعادلت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تصل بهم تلك إلى الجنة مع أصحاب الجنة، ولم تؤد بهم هذه إلى النار مع أصحاب النار‏.‏‏.‏ وهم بين بين، ينتظرون فضل الله ويرجون رحمته‏.‏‏.‏ وهم يعرفون أهل الجنة بسيماهم- ربما ببياض الوجوه ونضرتها أو بالنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم- ويعرفون أهل النار بسيماهم- ربما بسواد الوجوه وقترتها، أو بالوسم الذي على أنوفهم التي كانوا يشمخون بها في الدنيا، كالذي جاء في سورة القلم‏:‏

‏{‏سنسمه على الخرطوم‏}‏ ‏!‏ وها هم أولاء يتوجهون إلى أهل الجنة بالسلام‏.‏‏.‏ يقولونها وهم يطمعون أن يدخلهم الله الجنة معهم‏!‏‏.‏‏.‏ فإذا وقعت أبصارهم على أصحاب النار- وكأنما يصرفون إليهم صرفاً لا عن إرادة منهم- استعاذوا بالله أن يكون مصيرهم معهم‏!‏

‏{‏وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم‏.‏ ونادوا أصحاب الجنة‏:‏ أن سلام عليكم‏.‏‏.‏ لم يدخلوها وهم يطمعون‏.‏‏.‏ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يبصرون برجال من كبار المجرمين معروفين لهم بسيماهم‏.‏ فيتجهون إليهم بالتبكيت والتأنيب‏:‏

‏{‏ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم، قالوا‏:‏ ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون‏}‏ ‏!‏

فها أنتم هؤلاء في النار، لا جمعكم نفعكم، ولا استكباركم أغنى عنكم‏!‏

ثم يذكرونهم بما كانوا يقولونه عن المؤمنين في الدنيا من أنهم ضالون، لا ينالهم الله برحمة‏:‏

‏{‏أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة‏!‏‏}‏ ‏!‏

انظروا الآن أين هم‏؟‏ وماذا قيل لهم‏:‏

‏{‏ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون‏}‏‏.‏‏.‏

وأخيراً‏.‏ ها نحن أولاء نسمع صوتاً آتياً من قبل النار، ملؤه الرجاء والاستجداء‏:‏

‏{‏ونادى أصحابُ النار أصحابَ الجنة‏:‏ أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله‏}‏ ‏!‏

وها نحن أولاء نلتفت إلى الجانب الآخر نسمع الجواب ملؤه التذكير الأليم المرير‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ إن الله حرمهما على الكافرين‏.‏ الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا‏}‏‏.‏‏.‏

ثم إذا صوت البشر عامة يتوارى، لينطق رب العزة والجلالة، وصاحب الملك والحكم‏:‏

‏{‏فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا‏.‏ وما كانوا بآياتنا يجحدون‏.‏ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم، هدى ورحمة لقوم يؤمنون‏.‏ هل ينظرون إلا تأويله‏؟‏ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل‏:‏ قد جاءت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا، أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل‏.‏ قد خسروا أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا تتوالى صفحات المشهد جيئة وذهوباً‏.‏‏.‏ لمحة في الآخرة ولمحة في الدنيا‏.‏ لمحة مع المعذبين في النار، المنسيين كما نسوا لقاء يومهم هذا وكما جحدوا بآيات الله، وقد جاءهم بها كتاب مفصل مبين‏.‏ فصله الله- سبحانه- على علم- فتركوه واتبعوا الأهواء والأوهام والظنون‏.‏‏.‏ ولمحة معهم- وهم بعد في الدنيا- ينتظرون مآل هذا الكتاب وعاقبة ما جاءهم فيه من النذير؛ وهم يُحذّرون أن يجيئهم هذا المآل‏.‏ فالمآل هو ما يرون في هذا المشهد من واقع الحال‏!‏

إنها خفقات عجيبة في صفحات المشهد المعروض؛ لا يجليها هكذا إلا هذا الكتاب العجيب‏!‏

وهكذا ينتهي ذلك الاستعراض الكبير؛ ويجيء التعقيب عليه متناسقاً مع الابتداء‏.‏ تذكيراً بهذا اليوم ومشاهده، وتحذيراً من التكذيب بآيات الله ورسله، ومن انتظار تأويل هذا الكتاب فهذا هو تأويله، حيث لا فسحة لتوبة، ولا شفاعة في الشدة، ولا رجعة للعمل مرة أخرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 58‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏54‏)‏ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏55‏)‏ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

بعد تلك الرحلة الواسعة الآماد، من المنشأ إلى المعاد، يأخذ السياق بأيدي البشر إلى رحلة أخرى في ضمير الكون، وفي صفحته المعروضة للأنظار‏.‏ فيعرض قصة خلق السماوات والأرض بعد قصة خلق الإنسان‏.‏ ويوجه الأبصار والبصائر إلى مكنونات هذا الكون وأسراره، وإلى ظواهره وأحواله- إلى الليل الذي يطلب النهار في ذلك الفلك الدوار‏.‏ وإلى الشمس والقمر والنجوم وهن مسخرات بأمر الله‏.‏ وإلى الرياح الدائرة في الجواء، تقل السحاب إلى البلد الميت- بإذن الله- فإذا هو حي، وإذا الموات يؤتي من كل الثمرات‏.‏

هذه السبحات في ملكوت الله، يرتادها السياق بعد قصة النشأة الإنسانية؛ وبعد تصوير طرفي الرحلة؛ وبعد الحديث عن اتباع الشيطان والاستكبار عن اتباع رسل الله؛ وبعد عرض التصورات الجاهلية والتقاليد التي يشرعها البشر لأنفسهم بلا إذن من الله ولا شرع‏.‏‏.‏ يرتاد السياق هذه السبحات ليرد البشر إلى ربهم، الذي خلق هذا الوجود وسخره، والذي يحكمه وبنواميسه ويصرفه بقدره، والذي له الخلق والأمر وحده‏.‏‏.‏

إنه الإيقاع القوي العميق بعبودية الوجود كلها لبارئه، والذي يبدو استكبار الإنسان فيه عن هذه العبودية نشازاً في الوجود، يجعل الناشز غريباً شائهاً في الوجود‏.‏

وفي ظل تلك المشاهد؛ وفي مواجهة هذا الإيقاع يدعوهم‏:‏

‏{‏ادعوا ربكم تضرعاً وخفية، إنه لا يحب المعتدين، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، وادعوه خوفاً وطمعاً، إن رحمة الله قريب من المحسنين‏}‏‏.‏‏.‏

إن إخلاص الدين لله، وتقرير عبودية البشر له، إن هي إلا فرع من إسلام الوجود كله، وعبودية الوجود كله لسلطانه‏.‏‏.‏ وهذا هو الإيحاء الذي يستهدف المنهج القرآني تقريره وتعميقه في القلب البشري‏.‏‏.‏ وأيما قلب أو عقل يتجه بوعي ويقظة إلى هذا الكون ونواميسه المستسرة، وظواهره الناطقة بتلك النواميس المستسرة‏.‏‏.‏ لا بد يستشعر تأثيراً لا يرد سلطانه؛ ولا بد يهتز من أعماقه بالشعور القاهر بوجود المدبر المقدر صاحب الخلق والأمر‏.‏‏.‏ وهذه هي الخطوة الأولى لدفع هذا القلب إلى الاستجابة لداعي الله؛ والاستسلام لسلطانه الذي يستسلم له هذا الوجود كله ولا يتخطاه‏.‏

ومن ثم يتخذ المنهج القرآني من هذا الوجود مجاله الأول لتجلية حقيقة الألوهية؛ وتعبيد البشر لربهم وحده، وإشعار قلوبهم وكيانهم كله حقيقة العبودية، وتذوق طعمها الحقيقي في استسلام الواثق المطمئن؛ الذي يستشعر أن كل ما حوله وكل من حوله من خلق الله، يتجاوب وإياه‏!‏

إنه ليس البرهان العقلي وحده هو الذي يستهدفه المنهج القرآني باستعراض عبودية الوجود لله، وتسخيره بأمره، واستسلام هذا الوجود في طواعية ويسر ودقة وعمق لأمره وحكمه‏.‏‏.‏ إنما هو مذاق آخر- وراء البرهان العقلي ومع هذا البرهان العقلي- مذاق المشاركة مع الوجود والتجاوب‏.‏ ومذاق الطمأنينة واليسر؛ والانسياق مع موكب الإيمان الشامل‏.‏

إنه مذاق العبودية الراضية، التي لا يسوقها القسر، ولا يحركها القهر‏.‏‏.‏ إنما تحركها- قبل الأمر والتكليف- عاطفة الود والطمأنينة والتناسق مع الوجود كله‏.‏‏.‏ فلا تفكر في التهرب من الأمر، ولا التفلت من القهر؛ لأنها إنما تلبي حاجتها الفطرية في الاستسلام الجميل المريح‏.‏‏.‏ الاستسلام لله الذي يرفع الجباه عن الدينونة لغيره أو العبودية لسواه‏.‏ الاستسلام الرفيع الكريم لرب العالمين‏.‏‏.‏

هذا الاستسلام هو الذي يمثل معنى الإيمان، ويعطيه طعمه ومذاقه‏.‏‏.‏ وهذه العبودية هي التي تحقق معنى الإسلام، وتعطيه حيويته وروحه‏.‏‏.‏ وهي هي القاعدة التي لا بد أن تقام وتستقر، قبل التكليف والأمر؛ وقبل الشعائر والشرائع‏.‏‏.‏ ومن ثم هذه العناية الكبرى بإنشائها وتقريرها وتعميقها وتثبيتها في المنهج القرآني الحكيم‏.‏‏.‏

‏{‏إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره‏.‏ ألا له الخلق والأمر‏.‏ تبارك الله رب العالمين‏}‏‏.‏‏.‏

إن عقيدة التوحيد الإسلامية، لا تدع مجالاً لأي تصور بشري عن ذات الله سبحانه؛ ولا عن كيفيات أفعاله‏.‏‏.‏ فالله سبحانه ليس كمثله شيء‏.‏‏.‏ ومن ثم لا مجال للتصور البشري لينشئ صورة عن ذات الله‏.‏ فكل التصورات البشرية إنما تنشأ في حدود المحيط الذي يستخلصه العقل البشري مما حوله من أشياء‏.‏ فإذا كان الله- سبحانه- ليس كمثله شيء، توقف التصور البشري إطلاقاً عن إنشاء صورة معينة لذاته تعالى‏.‏ ومتى توقف عن إنشاء صورة معينة لذاته العلية فإنه يتوقف تبعاً لذلك عن تصور كيفيات أفعاله جميعاً‏.‏ ولم يبق أمامه إلا مجال تدبر آثار هذه الأفعال في الوجود من حوله‏.‏‏.‏ وهذا هو مجاله‏.‏‏.‏

ومن ثم تصبح أسئلة كهذه‏:‏ كيف خلق الله السماوات والأرض‏؟‏ كيف استوى على العرش‏؟‏ كيف هذا العرش الذي استوى عليه الله سبحانه‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏ تصبح هذه الأسئلة وأمثالها لغوا يخالف توجيهها قاعدة الاعتقاد الإسلامي‏.‏ أما الإجابة عليها فهي اللغو الأشد الذي لا يزاوله من يدرك تلك القاعدة ابتداء‏!‏ ولقد خاضت الطوائف- مع الأسف- في هذه المسائل خوضاً شديداً في تاريخ الفكر الإسلامي، بالعدوى الوافدة على هذا الفكر من الفلسفة الإغريقية‏!‏

فأما الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، فهي كذلك غيب لم يشهده أحد من البشر ولا من خلق الله جميعاً‏:‏ ‏{‏ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم‏}‏ وكل ما يقال عنها لا يستند إلى أصل مستيقن‏.‏

إنها قد تكون ست مراحل‏.‏ وقد تكون ستة أطوار‏.‏ وقد تكون ستة أيام من أيام الله التي لا تقاس بمقاييس زماننا الناشئ من قياس حركة الأجرام- إذ لم تكن قبل الخلق هذه الأجرام التي نقيس نحن بحركتها الزمان‏!‏‏.‏‏.‏ وقد تكون شيئاً آخر‏.‏‏.‏ فلا يجزم أحد ماذا يعني هذا العدد على وجه التحديد‏.‏

‏.‏ وكل حمل لهذا النص ومثله على «تخمينات» البشرية التي لا تتجاوز مرتبة الفرض والظن- باسم «العلم‏!‏»- هو محاولة تحكمية، منشؤها الهزيمة الروحية أمام «العلم» الذي لا يتجاوز في هذا المجال درجة الظنون والفروض‏!‏

ونخلص نحن من هذه المباحث التي لا تضيف شيئاً إلى هدف النص ووجهته‏.‏ لنرتاد مع النصوص الجميلة تلك الرحلة الموحية في أقطار الكون المنظور، وفي أسراره المكنونة‏:‏

‏{‏إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره‏.‏ ألا له الخلق والأمر‏.‏ تبارك الله رب العالمين‏}‏‏.‏‏.‏

إن الله الذي خلق هذا الكون المشهود في ضخامته وفخامته‏.‏ والذي استعلى على هذا الكون يدبره بأمره ويصرفه بقدره‏.‏ يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً‏.‏‏.‏ في هذه الدورة الدائبة‏:‏ دورة الليل يطلب النهار في هذا الفلك الدوار‏.‏ والذي جعل الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره‏.‏‏.‏ إن الله الخالق المهيمن المصرف المدبر، هو ‏{‏ربكم‏}‏‏.‏‏.‏ هو الذي يستحق أن يكون رباً لكم‏.‏ يربيكم بمنهجه، ويجمعكم بنظامه، ويشرع لكم بإذنه، ويقضي بينكم بحكمه‏.‏‏.‏ إنه هو صاحب الخلق والأمر‏.‏‏.‏ وكما أنه لا خالق معه‏.‏ فكذلك لا آمر معه‏.‏‏.‏ هذه هي القضية التي يستهدفها هذا الاستعراض‏.‏‏.‏ قضية الألوهية والربوبية والحاكمية، وإفراد الله سبحانه بها‏.‏‏.‏ وهي قضية العبودية من البشر في شريعة حياتهم‏.‏ فهذا هو الموضوع الذي يواجهه سياق السورة ممثلاً في مسائل اللباس والطعام‏.‏ كما كان سياق سورة الأنعام يواجهه كذلك في مسائل الأنعام والزروع والشعائر والنذور‏.‏

ولا ينسينا الهدف العظيم الذي يستهدفه السياق القرآني بهذا الاستعراض، أن نقف لحظات أمام روعة المشاهد وحيويتها وحركتها وإيحاءاتها العجيبة‏.‏ فهي من هذه الوجهة كفء للهدف العظيم الذي تتوخاه‏.‏‏.‏

إن دورة التصور والشعور مع دورة الليل والنهار في هذا الفلك الدوار، والليل يطلب النهار حثيثاً، ويريده مجتهداً‏!‏ لهي دورة لا يملك الوجدان ألا يتابعها؛ وألا يدور معها‏!‏ وألا يرقب هذا السباق الجبار بين الليل والنهار، بقلب مرتعش ونفس لاهث‏!‏ وكله حركة وتوفز، وكله تطلع وانتظار‏!‏

إن جمال الحركة وحيويتها و«تشخيص» الليل والنهار في سمت الشخص الواعي ذي الإرادة والقصد‏.‏‏.‏ إن هذا كله مستوى من جمال التصوير والتعبير لا يرقى إليه فنّ بشري على الإطلاق‏!‏

إن الألفة التي تقتل الكون ومشاهده في الحس؛ وتطبع النظر إليه بطابع البلادة والغفلة‏.‏‏.‏ إن هذه الألفة لتتوارى، ليحل محلها وقع المشهد الجديد الرائع الذي يطالع الفطرة كأنما لأول وهلة‏!‏‏.‏‏.‏ إن الليل والنهار في هذا التعبير ليسا مجرد ظاهرتين طبيعيتين مكرورتين‏.‏ وإنما هما حيان ذوا حس وروح وقصد واتجاه‏.‏ يعاطفان البشر ويشاركانهم حركة الحياة؛ وحركة الصراع والمنافسة والسباق التي تطبع الحياة‏!‏

كذلك هذه الشمس والقمر والنجوم‏.‏

‏.‏ إنها كائنات حية ذات روح‏!‏ إنها تتلقى أمر الله وتنفذه، وتخضع له وتسير وفقه‏.‏ إنها مسخرة، تتلقى وتستجيب، وتمضي حيث أمرت كما يمضي الأحياء في طاعة الله‏!‏

ومن هنا يهتز الضمير البشري؛ وينساق للاستجابة، في موكب الأحياء المستجيبة‏.‏ ومن هنا هذا السلطان للقرآن الذي ليس لكلام البشر‏.‏‏.‏ إنه يخاطب فطرة الإنسان بهذا السلطان المستمد من قائله- سبحانه- الخبير بمداخل القلوب وأسرار الفطر‏.‏‏.‏

وعندما يصل السياق إلى هذا المقطع، وقد ارتعش الوجدان البشري لمشاهد الكون الحية، التي كان يمر عليها في بلادة وغفلة‏.‏ وقد تجلى له خضوع هذه الخلائق الهائلة وعبوديتها لسلطان الخالق وأمره‏.‏‏.‏ عندئذ يوجه البشرَ إلى ربهم- الذي لا رب غيره- ليدعوه في إنابة وخشوع؛ وليلتزموا بربوبيته لهم، فيلتزموا حدود عبوديتهم له؛ لا يعتدون على سلطانه؛ ولا يفسدون في الأرض بترك شرعه إلى هواهم، بعد أن أصلحها الله بمنهجه‏:‏

‏{‏ادعوا ربكم تضرعاً وخفية، إنه لا يحب المعتدين، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها‏.‏ وادعوه خوفاً وطمعاً، إن رحمة الله قريب من المحسنين‏}‏‏.‏

إنه التوجيه في أنسب حالة نفسية صالحة، إلى الدعاء والإنابة‏.‏‏.‏ تضرعاَ وتذللاً؛ وخفية لا صياحاً وتصدية‏!‏ فالتضرع الخفي أنسب وأليق بجلال الله وبقرب الصلة بين العبد ومولاه‏.‏

أخرج مسلم- بإسناده عن أبي موسى- قال‏:‏ كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في سفر- وفي رواية غزاة- فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «أيها الناس أربعوا ‏(‏أي ارفقوا وهونوا‏)‏ على أنفسكم‏.‏ إنكم لستم تدعون أصم ولا غائباً‏.‏ إنكم تدعون سميعاً قريباً‏.‏ وهو معكم»‏.‏

فهذا الحس الإيماني بجلال الله وقربه معاً، هو الذي يؤكده المنهج القرآني هنا ويقرره في صورته الحركية الواقعية عند الدعاء‏.‏ ذلك أن الذي يستشعر جلاله فعلاً يستحيي من الصياح في دعائه؛ والذي يستشعر قرب الله حقاً لا يجد ما يدعو إلى هذا الصياح‏!‏

وفي ظل مشهد التضرع في الدعاء، وهيئة الخشوع والانكسار فيه لله، ينهى عن الاعتداء على سلطان الله، فيما يدعونه لأنفسهم- في الجاهلية- من الحاكمية التي لا تكون إلا لله‏.‏ كما ينهى عن الفساد في الأرض بالهوى، وقد أصلحها الله بالشريعة‏.‏‏.‏ والنفس التي تتضرع وتخشع خفية للقريب المجيب، لا تعتدي كذلك ولا تفسد في الأرض بعد إصلاحها‏.‏‏.‏ فبين الانفعالين اتصال داخلي وثيق في تكوين النفس والمشاعر‏.‏ والمنهج القرآني يتبع خلجات القلوب وانفعالات النفوس‏.‏ وهو منهج من خلق الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير‏.‏

‏{‏وادعوه خوفاً وطمعاً‏}‏‏.‏‏.‏

خوفاً من غضبه وعقابه‏.‏ وطمعاً في رضوانه وثوابه‏.‏

‏{‏إن رحمة الله قريب من المحسنين‏}‏‏.‏

الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فهو يراهم‏.‏‏.‏ كما جاء في الوصف النبوي للإحسان‏.‏

ومرة أخرى يفتح السياق للقلب البشري صفحة من صفحات الكون المعروضة للأنظار؛ ولكن القلوب تمر بها غافلة بليدة؛ لا تسمع نطقها، ولا تستشعر إيقاعها‏.‏‏.‏ إنها صفحة يفتحها على ذكر رحمة الله في الآية السابقة؛ نموذجاً لرحمة الله في صورة الماء الهاطل، والزرع النامي، والحياة النابضة بعد الموت والخمود‏:‏

‏{‏وهو الذي يرسل الرياح، بشراً بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت، فأنزلنا به الماء، فأخرجنا به من كل الثمرات‏.‏‏.‏ كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون‏}‏‏.‏‏.‏

إنها آثار الربوبية في الكون‏.‏ آثار الفاعلية والسلطان والتدبير والتقدير‏.‏ وكلها من صنع الله؛ الذي لا ينبغي أَن يكون للناس رب سواه‏.‏ وهو الخالق الرازق بهذه الأسباب التي ينشئها برحمته للعباد‏.‏

وفي كل لحظة تهب ريح‏.‏ وفي كل وقت تحمل الريح سحاباً‏.‏ وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء‏.‏

ولكن ربط هذا كله بفعل الله- كما هو في الحقيقة- هو الجديد الذي يعرضه القرآن هذا العرض المرتسم في المشاهد المتحركة، كأن العين تراه‏.‏

إنه هو الذي يرسل الرياح مبشرات برحمته‏.‏ والرياح تهب وفق النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون- فما كان الكون لينشئ نفسه، ثم يضع لنفسه هذه النواميس التي تحكمه‏!‏- ولكن التصور الإسلامي يقوم على اعتقاد أن كل حدث يجري في الكون- ولو أنه يجري وفق الناموس الذي قدره الله- إنما يقع ويتحقق- وفق الناموس- بقدر خاص ينشئه ويبرزه في عالم الواقع‏.‏ وأن الأمر القديم بجريان السنة، لا يتعارض مع تعلق قدر الله بكل حادث فردي من الأحداث التي تجري وفق هذه السنة‏.‏ فإرسال الرياح- وفق النواميس الإلهية في الكون- حدث من الأحداث، يقع بمفرده وفق قدر خاص‏.‏

وحمل الرياح للسحاب يجري وفق نواميس الله في الكون أيضاً‏.‏ ولكنه يقع بقدر خاص‏.‏ ثم يسوق الله السحاب- بقدر خاص منه- إلى ‏{‏بلد ميت‏}‏‏.‏‏.‏ صحراء أو جدباء‏.‏‏.‏ فينزل منه الماء- بقدر كذلك خاص- فيخرج من كل الثمرات- بقدر منه خاص- يجري كل أولئك وفق النواميس التي أودعها طبيعة الكون وطبيعة الحياة‏.‏

إن التصور الإسلامي في هذا الجانب ينفي العفوية والمصادفة في كل ما يجري في الكون‏.‏ ابتداء من نشأته وبروزه، إلى كل حركة فيه وكل تغيير وكل تعديل‏.‏ كما ينفي الجبرية الآلية، التي تتصور الكون كأنه آلة، فرغ صانعها منها، وأودعها القوانين التي تتحرك بها، ثم تركها تتحرك حركة آلية جبرية حتمية وفق هذه القوانين التي تصبح بذلك عمياء‏!‏

إنه يثبت الخلق بمشيئة وقدر‏.‏ ثم يثبت الناموس الثابت والسنة الجارية‏.‏

ولكنه يجعل معها القدر المصاحب لكل حركة من حركات الناموس ولكل مرة تتحقق فيها السنة‏.‏ القدر الذي ينشئ الحركة ويحقق السنة، وفق المشيئة الطليقة من وراء السنن والنواميس الثابتة‏.‏

إنه تصور حي‏.‏ ينفي عن القلب البلادة‏.‏ بلادة الآلية والجبرية‏.‏ ويدعها أبداً في يقظة وفي رقابة‏.‏‏.‏ كلما حدث حدثٌ وفق سنة الله‏.‏ وكلما تمت حركة وفق ناموس الله‏.‏ انتفض هذا القلب، يرى قدر الله المنفذ، ويرى يد الله الفاعلة، ويسبح لله ويذكره ويراقبه، ولا يغفل عنه بالآلية الجبرية ولا ينساه‏!‏

هذا تصور يستحيي القلوب، ويستجيش العقول، ويعلقها جميعاً بفاعلية الخالق المتجددة؛ وبتسبيح البارئ الحاضر في كل لحظة وفي كل حركة وفي كل حدث آناءالليل وأطراف النهار‏.‏

كذلك يربط السياق القرآني بين حقيقة الحياة الناشئة بإرادة الله وقدره في هذه الأرض، وبين النشأة الآخرة، التي تتحقق كذلك بمشيئة الله وقدره؛ على المنهج الذي يراه الأحياء في نشأة هذه الحياة‏:‏

‏{‏كذلك نخرج الموتى، لعلكم تذكرون‏}‏‏.‏‏.‏

إن معجزة الحياة ذات طبيعة واحدة، من وراء أشكالها وصورها وملابساتها‏.‏‏.‏ هذا ما يوحي به هذا التعقيب‏.‏‏.‏ وكما يخرج الله الحياة من الموات في هذه الأرض، فكذلك يخرج الحياة من الموتى في نهاية المطاف‏.‏‏.‏ إن المشيئة التي تبث الحياة في صور الحياة وأشكالها في هذه الأرض، هي المشيئة التي ترد الحياة في الأموات‏.‏ وإن القدر الذي يجري بإخراج الحياة من الموات في الدنيا، لهو ذاته القدر الذي يجري بجريان الحياة في الموتى مرة أخرى‏.‏

‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏‏.‏‏.‏

فالناس ينسون هذه الحقيقة المنظورة؛ ويغرقون في الضلالات والأوهام‏!‏

ويختم السياق هذه الرحلة في أقطار الكون وأسرار الوجود، بمثل يضربه للطيب وللخبيث من القلوب، ينتزعه من جو المشهد المعروض، مراعاة للتناسق في المرائي والمشاهد، وفي الطبائع والحقائق‏:‏

‏{‏والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً‏.‏ كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون‏}‏‏.‏‏.‏

والقلب الطيب يشبه في القرآن الكريم وفي حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالأرض الطيبة، وبالتربة الطيبة، والقلب الخبيث يشبه بالأرض الخبيثة وبالتربة الخبيثة‏.‏ فكلاهما‏.‏‏.‏ القلب والتربة‏.‏‏.‏ منبت زرع، ومأتى ثمر‏.‏ القلب ينبت نوايا ومشاعر، وانفعالات واستجابات، واتجاهات وعزائم، وأعمالاً بعد ذلك وآثاراً في واقع الحياة‏.‏ والأرض تنبت زرعاً وثمراً مختلفاً أكله وألوانه ومذاقاته وأنواعه‏.‏‏.‏

‏{‏والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه‏}‏‏.‏‏.‏

طيباً خيراً، سهلاً ميسراً‏.‏

‏{‏والذي خبث لا يخرج إلا نكداً‏}‏‏.‏‏.‏

في إيذاء وجفوة، وفي عسر ومشقة‏.‏‏.‏

والهدى والآيات والموعظة والنصيحة تنزل على القلب كما ينزل الماء على التربة‏.‏ فإن كان القلب طيباً كالبلد الطيب، تفتح واستقبل، وزكا وفاض بالخير‏.‏ وإن كان فاسداً شريراً- كالذي خبث من البلاد والأماكن- استغلق وقسا، وفاض بالشر والنكر والفساد والضر‏.‏ وأخرج الشوك والأذى، كما تخرج الأرض النكدة‏!‏

‏{‏كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون‏}‏‏.‏‏.‏

والشكر ينبع من القلب الطيب، ويدل على الاستقبال الطيب، والانفعال الطيب‏.‏ ولهؤلاء الشاكرين الذين يحسنون التلقي والاستجابة تصرف الآيات‏.‏ فهم الذين ينتفعون بها، ويصلحون لها، ويصلحون بها‏.‏‏.‏

والشكر هو لازمة هذه السورة التي يتكرر ذكرها فيها‏.‏‏.‏ كالإنذار والتذكير‏.‏ وقد صادفنا هذا التعبير فيما مضى من السياق، وسنصادفه فيما هو آت‏.‏‏.‏ فهو من ملامح السورة المميزة في التعبير، كالإنذار والتذكير‏.‏‏.‏