فصل: تفسير الآيات رقم (94- 102)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 102‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ‏(‏94‏)‏ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏95‏)‏ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏96‏)‏ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏97‏)‏ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏98‏)‏ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏99‏)‏ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏100‏)‏ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ‏(‏101‏)‏ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

هذه وقفة في سياق السورة للتعقيب على ما مضى من قصص قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب‏.‏‏.‏ وقفة لبيان سنة الله التي جرت بها مشيئته وحققها قدره بالمكذبين في كل قرية- والقرية هي المدينة الكبيرة أو الحاضرة المركزية- وهي سنة واحدة يأخذ الله بها المكذبين؛ ويتشكل بها تاريخ الإنسان في جانب منه أصيل‏.‏‏.‏ أن يأخذ الله المكذبين بالبأساء والضراء؛ لعل قلوبهم ترق وتلين وتتجه إلى الله، وتعرف حقيقة ألوهيته وحقيقة عبودية البشر لهذه الألوهية القاهرة‏.‏ فإذا لم يستجيبوا أخذهم بالنعماء والسراء، وفتح عليهم الأبواب، وتركهم ينمون ويكثرون ويستمتعون‏.‏‏.‏ كل ذلك للابتلاء‏.‏‏.‏ حتى إذا انتهى بهم اليسر والعافية إلى الاستهتار والترخص، وإلى الغفلة وقلة المبالاة، وحسبوا أن الأمور تمضي جزافاً بلا قصد ولا غاية، وأن السراء تعقب الضراء من غير حكمة ولا ابتلاء، وأنه إنما أصابهم ما أصاب آباءهم من قبل لأن الأمور تمضي هكذا بلا تدبير‏:‏ ‏{‏وقالوا‏:‏ قد مس آباءنا الضراء والسراء‏}‏ ‏!‏ أخذهم الله بغتة، وهم سادرون في هذه الغفلة‏.‏ لم يدركوا حكمة الله في الابتلاء بالضراء والسراء، ولم يتدبروا حكمته في تقلب الأمور بالعباد، ولم يتقوا غضبه على المستهترين الغافلين، وعاشوا كالأنعام بل أضل حتى جاءهم بأس الله‏.‏‏.‏ ولو أنهم آمنوا بالله واتقوه لتبدلت الحال، ولحلت عليهم البركات، ولأفاض الله عليهم من رزقه في السماء والأرض، ولأنعم عليهم نعيمه المبارك الذي تطمئن به الحياة، ولا يعقبه النكال والبوار‏.‏‏.‏

ثم يحذر الله الذين يرثون الأرض من بعد أهلها‏.‏‏.‏ يحذرهم الغفلة والغرة، ويدعوهم إلى اليقظة والتقوى، ويلفتهم إلى العبرة في مصارع الغابرين الذين ورثوا هم الأرض من بعدهم، فإنما تنتظرهم سنة الله التي لا تتبدل، والتي يتكيف بها تاريخ البشر على مدارج القرون‏.‏

وتنتهي الوقفة بتوجيه الخطاب إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏{‏تلك القرى نقص عليك من أنبائها‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ لإظهاره على سنة الله فيها، وعلى حقيقة هذه القرى وأهلها‏:‏ ‏{‏وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين‏}‏‏.‏‏.‏ فهذا الرسول الأخير وأمته هم الوارثون لحصيلة رسالة الله كلها، وهم الذين يفيدون من أنبائها وعظاتها‏.‏‏.‏

‏{‏وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون‏.‏ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا‏:‏ قد مس آباءنا الضراء والسراء‏.‏ فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون‏.‏ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض؛ ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون‏}‏‏.‏‏.‏

إن السياق القرآني هنا لا يروي حادثة، إنما يكشف عن سنة‏.‏ ولا يعرض سيرة قوم إنما يعلن عن خطوات قدر‏.‏‏.‏ ومن ثم يتكشف أن هناك ناموساً تجري عليه الأمور؛ وتتم وفقه الأحداث؛ ويتحرك به تاريخ «الإنسان» في هذه الأرض‏.‏

وأن الرسالة ذاتها- على عظم قدرها- هي وسيلة من وسائل تحقيق الناموس- وهو أكبر من الرسالة وأشمل- وأن الأمور لا تمضي جزافاً؛ وأن الإنسان لا يقوم وحده في هذه الأرض- كما يزعم الملحدون بالله في هذا الزمان‏!‏- وأن كل ما يقع في هذا الكون إنما يقع عن تدبير، ويصدر عن حكمة، ويتجه إلى غاية‏.‏ وأن هنالك في النهاية سنة ماضية وفق المشيئة الطليقة؛ التي وضعت السنة، وارتضت الناموس‏.‏‏.‏

ووفقاً لسنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة كان من أمر تلك القرى ما كان، مما حكاه السياق‏.‏ ويكون من أمر غيرها ما يكون‏!‏

إن إرادة الإنسان وحركته- في التصور الإسلامي- عامل مهم في حركة تاريخه وفي تفسير هذا التاريخ أيضاً‏.‏ ولكن إرادة الإنسان وحركته إنما يقعان في إطار من مشيئة الله الطليقة وقدره الفاعل‏.‏‏.‏ والله بكل شيء محيط‏.‏‏.‏ وإرادة الإنسان وحركته- في إطار المشيئة الطليقة والقدر الفاعل- يتعاملان مع الوجود كله؛ ويتأثران ويؤثران في هذا الوجود أيضاً‏.‏‏.‏ فهناك زحمة من العوامل والعوالم المحركة للتاريخ الإنساني؛ وهناك سعة وعمق في مجال هذه الحركة؛ مما يبدو إلى جانبه «التفسير الاقتصادي للتاريخ»، و«التفسير البيولوجي للتاريخ»، و«التفسير الجغرافي للتاريخ»‏.‏‏.‏‏.‏ بقعاً صغيرة في الرقعة الكبيرة‏.‏ وعبثاً صغيراً من عبث الإنسان الصغير‏!‏‏.‏

‏{‏وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون‏}‏‏.‏‏.‏

فليس للعبث- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- يأخذ الله عباده بالشدة في أنفسهم وأبدانهم وأرزاقهم وأموالهم‏.‏ وليس لإرواء غلة ولا شفاء إحنة- كما كانت أساطير الوثنيات تقول عن آلهتها العابثة الحاقدة‏!‏ إنما يأخذ الله المكذبين برسله بالبأساء والضراء، لأن من طبيعة الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى؛ وأن يرقق القلوب التي طال عليها الأمد متى كانت فيها بقية؛ وأن يتجه بالبشر الضعاف إلى خالقهم القهار؛ يتضرعون إليه؛ ويطلبون رحمته وعفوه؛ ويعلنون بهذا التضرع عن عبوديتهم له- والعبودية لله غاية الوجود الإنساني- وما بالله سبحانه من حاجة إلى تضرع العباد وإعلان العبودية‏:‏ ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏.‏ ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون‏.‏ إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين‏}‏ ولو اجتمع الإنس والجن- على قلب رجل واحد- على طاعة الله ما زاد هذا في ملكه شيئاً‏.‏ ولو اجتمع الإنس والجن- على قلب رجل واحد- على معصيته- سبحانه- ما نقصوا في ملكه شيئاً ‏(‏كما جاء في الحديث القدسي‏)‏‏.‏

‏.‏ ولكن تضرع العباد وإعلان عبوديتهم لله إنما يصلحهم هم؛ ويصلح حياتهم ومعاشهم كذلك‏.‏‏.‏ فمتى أعلن الناس عبوديتهم لله تحرروا من العبودية لسواه‏.‏‏.‏ تحرروا من العبودية للشيطان الذي يريد ليغويهم- كما جاء في أوائل السورة- وتحرروا من شهواتهم وأهوائهم‏.‏ وتحرروا من العبودية للعبيد من أمثالهم؛ واستحيوا أن يتبعوا خطوات الشيطان؛ واستحيوا أن يغضبوا الله بعمل أو نية يتجهون إليه في الشدة ويتضرعون، واستقاموا على الطريقة التي تحررهم وتطهرهم وتزكيهم، وترفعهم من العبودية للهوى والعبودية للعبيد‏!‏

لذلك اقتضت مشيئة الله أن يأخذ أهل كل قرية يرسل إليها نبياً فتكذبه، بالبأساء في أنفسهم وأرواحهم، وبالضراء في أبدانهم وأموالهم‏.‏ استحياء لقلوبهم بالألم‏.‏ والألم خير مهذب، وخير مفجر لينابيع الخير المستكنة، وخير مرهف للحساسية في الضمائر الحية، وخير موجه إلى ظلال الرحمة التي تنسم على الضعاف المكروبين نسمات الراحة والعافية في ساعات العسرة والضيق‏.‏‏.‏ ‏{‏لعلهم يضرعون‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة‏}‏‏.‏‏.‏

فإذا الرخاء مكان الشدة، واليسر مكان العسر، والنعمة مكان الشظف، والعافية مكان الضر، والذرية مكان العقر، والكثرة مكان القلة، والأمن مكان الخوف‏.‏ وإذا هو متاع ورخاء، وهينة ونعماء، وكثرة وامتلاء‏.‏‏.‏ وإنما هو في الحقيقة اختبار وابتلاء‏.‏‏.‏

والابتلاء بالشدة قد يصبر عليه الكثيرون، ويحتمل مشقاته الكثيرون‏.‏ فالشدة تستثير عناصر المقاومة‏.‏ وقد تذكر صاحبها بالله- إن كان فيه خير- فيتجه إليه ويتضرع بين يديه، ويجد في ظله طمأنينة، وفي رحابه فسحه، وفي فرَجه أملاً، وفي وعده بشرى‏.‏‏.‏ فأما الابتلاء بالرخاء فالذين يصبرون عليه قليلون‏.‏ فالرخاء ينسي، والمتاع يلهي، والثراء يطغي‏.‏ فلا يصبر عليه إلا الأقلون من عباد الله‏.‏

‏{‏ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا‏:‏ قد مس آباءنا الضراء والسراء‏}‏‏.‏‏.‏

أي حتى كثروا وانتشروا، واستسهلوا العيش، واستيسروا الحياة‏:‏ ولم يعودوا يجدون في أنفسهم تحرجاً من شيء يعملونه، ولا تخوفاً من أمر يصنعونه‏.‏‏.‏ والتعبير‏:‏ ‏{‏عفوا‏}‏- إلى جانب دلالته على الكثرة- يوحي بحالة نفسية خاصة‏:‏ حالة قلة المبالاة‏.‏ حالة الاستخفاف والاستهتار‏.‏ حالة استسهال كل أمر، واتباع عفو الخاطر في الشعور والسلوك سواء‏.‏‏.‏ وهي حالة مشاهدة في أهل الرخاء واليسار والنعمة، حين يطول بهم العهد في اليسار والنعمة والرخاء- أفراداً وأمماً- كأن حساسية نفوسهم قد ترهلت فلم تعد تحفل شيئاً، أو تحسب حساباً لشيء‏.‏ فهم ينفقون في يسر ويلتذون في يسر، ويلهون في يسر، ويبطشون كذلك في استهتار‏!‏ ويقترفون كل كبيرة تقشعر لها الأبدان ويرتعش لها الوجدان، في يسر واطمئنان‏!‏ وهم لا يتقون غضب الله، ولا لوم الناس، فكل شيء يصدر منهم عفواً بلا تحرج ولا مبالاة‏.‏ وهم لا يفطنون لسنة الله في الكون، ولا يتدبرون اختباراته وابتلاءاته للناس‏.‏ ومن ثم يحسبونها تمضي هكذا جزافاً، بلا سبب معلوم، وبلا قصد مرسوم‏:‏

‏{‏وقالوا‏:‏ قد مس آباءنا الضراء والسراء‏}‏‏.‏

وقد أخذ دورنا في الضراء وجاء دورنا في السراء‏!‏ وها هي ذي ماضية بلا عاقبة، فهي تمضي هكذا خبط عشواء‏!‏

عندئذ‏.‏‏.‏ وفي ساعة الغفلة السادرة، وثمرة للنسيان واللهو والطغيان، تجيء العاقبة وفق السنة الجارية‏:‏

‏{‏فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون‏}‏‏.‏‏.‏

جزاء بما نسوا واغتروا وبعدوا عن الله؛ وأطلقوا لشهواتهم العنان، فما عادوا يتحرجون من فعل، وما عادت التقوى تخطر لهم ببال‏!‏

هكذا تمضي سنة الله أبداً‏.‏ وفق مشيئته في عباده‏.‏ وهكذا يتحرك التاريخ الإنساني بإرادة الإنسان وعمله- في إطار سنة الله ومشيئته- وها هو ذا القرآن الكريم يكشف للناس عن السنة؛ ويحذرهم الفتنة‏.‏‏.‏ فتنة الاختبار والابتلاء بالضراء والسراء‏.‏‏.‏ وينبه فيهم دواعي الحرص واليقظة، واتقاء العاقبة التي لا تتخلف، جزاء وفاقاً على اتجاههم وكسبهم‏.‏ فمن لم يتيقظ، ومن لم يتحرج، ومن لم يتق، فهو الذي يظلم نفسه، ويعرضها لبأس الله الذي لا يرد‏.‏ ولن تظلم نفس شيئاً‏.‏

‏{‏ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون‏}‏‏.‏‏.‏

فذلك هو الطرف الآخر لسنة الله الجارية‏.‏ فلو أن أهل القرى آمنوا بدل التكذيب، واتقوا بدل الاستهتار؛ لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض‏.‏‏.‏ هكذا‏.‏‏.‏ ‏{‏بركات من السماء والأرض‏}‏ مفتوحة بلا حساب‏.‏ من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏.‏ والتعبير القرآني بعمومه وشموله يلقي ظلال الفيض الغامر، الذي لا يتخصص بما يعهده البشر من الأرزاق والأقوات‏.‏‏.‏

وأمام هذا النص- والنص الذي قبله- نقف أمام حقيقة من حقائق العقيدة وحقائق الحياة البشرية والكونية سواء‏.‏ وأمام عامل من العوامل المؤثرة في تاريخ الإنسان، تغفل عنه المذاهب الوضعية وتغفله كل الإغفال‏.‏ بل تنكره كل الإنكار‏!‏‏.‏‏.‏

إن العقيدة الإيمانية في الله، وتقواه، ليست مسألة منعزلة عن واقع الحياة، وعن خط تاريخ الإنسان‏.‏ إن الإيمان بالله، وتقواه، ليؤهلان لفيض من بركات السماء والأرض‏.‏ وعدا من الله‏.‏ ومن أوفى بعهده من الله‏؟‏

ونحن- المؤمنين بالله- نتلقى هذا الوعد بقلب المؤمن، فنصدقه ابتداء، لا نسأل عن علله وأسبابه؛ ولا نتردد لحظة في توقع مدلوله‏.‏‏.‏ نحن نؤمن بالله- بالغيب- ونصدق بوعده بمقتضى هذا الإيمان‏.‏‏.‏

ثم ننظر إلى وعد الله نظرة التدبر- كما يأمرنا إيماننا كذلك- فنجد علته وسببه‏!‏

إن الإيمان بالله دليل على حيوية في الفطرة؛ وسلامة في أجهزة الاستقبال الفطرية؛ وصدق في الإدراك الإنساني، وحيوية في البنية البشرية، ورحابة في مجال الإحساس بحقائق الوجود‏.‏‏.‏ وهذه كلها من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية‏.‏

والإيمان بالله قوة دافعة دافقة، تجمع جوانب الكينونة البشرية كلها، وتتجه بها إلى وجهة واحدة، وتطلقها تستمد من قوة الله، وتعمل لتحقيق مشيئته في خلافة الأرض وعمارتها، وفي دفع الفساد والفتنة عنها، وفي ترقية الحياة ونمائها‏.‏

‏.‏ وهذه كذلك من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية‏.‏

والإيمان بالله تحرر من العبودية للهوى ومن العبودية للعبيد‏.‏ وما من شك أن الإنسان المتحرر بالعبودية لله، أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة صاعدة‏.‏ من العبيد للهوى ولبعضهم بعضاً‏!‏

وتقوى الله يقظة واعية تصون من الاندفاع والتهور والشطط والغرور، في دفعة الحركة ودفعة الحياة‏.‏‏.‏ وتوجه الجهد البشري في حذر وتحرج، فلا يعتدي، ولا يتهور، ولا يتجاوز حدود النشاط الصالح‏.‏

وحين تسير الحياة متناسقة بين الدوافع والكوابح، عاملة في الأرض، متطلعة إلى السماء، متحررة من الهوى والطغيان البشري، عابدة خاشعة لله‏.‏‏.‏ تسير سيرة صالحة منتجة تستحق مدد الله بعد رضاه، فلا جرم تحفها البركة، ويعمها الخير، ويظلها الفلاح‏.‏‏.‏ والمسألة- من هذا الجانب- مسألة واقع منظور- إلى جانب لطف الله المستور- واقع له علله وأسبابه الظاهرة، إلى جانب قدر الله الغيبي الموعود‏.‏‏.‏

والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون، في توكيد ويقين، ألوان شتى لا يفصلها النص ولا يحددها وإيحاء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان، النابع من كل مكان، بلا تحديد ولا تفصيل ولا بيان‏.‏ فهي البركات بكل أنواعها وألوانها، وبكل صورها وأشكالها، ما يعهده الناس وما يتخيلونه، وما لم يتهيأ لهم في واقع ولا خيال‏!‏

والذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة، لا صلة لها بواقع الناس في الأرض، لا يعرفون الإيمان ولا يعرفون الحياة‏!‏ وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمة يشهد بها الله- سبحانه- وكفى بالله شهيداً‏.‏ ويحققها النظر بأسبابها التي يعرفها الناس‏:‏

‏{‏ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض‏.‏ ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد ينظر بعض الناس فيرى أمماً- يقولون‏:‏ إنهم مسلمون- مضيقاً عليهم في الرزق، لا يجدون إلا الجدب والمحق‏!‏‏.‏‏.‏ ويرى أمماً لا يؤمنون ولا يتقون، مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفوذ‏.‏‏.‏ فيتساءل‏:‏ وأين إذن هي السنة التي لا تتخلف‏؟‏

ولكن هذا وذلك وهم تخيله ظواهر الأحوال‏!‏

إن أولئك الذين يقولون‏:‏ إنهم مسلمون‏.‏‏.‏ لا مؤمنون ولا متقون‏!‏ إنهم لا يخلصون عبوديتهم لله، ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله‏!‏ إنهم يسلمون رقابهم لعبيد منهم، يتألهون عليهم، ويشرعون لهم- سواء القوانين أو القيم والتقاليد- وما أولئك بالمؤمنين‏.‏ فالمؤمن لا يدع عبداً من العبيد يتأله عليه، ولا يجعل عبداً من العبيد ربه الذي يصرف حياته بشرعه وأمره‏.‏‏.‏ ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مسلمين حقاً‏.‏ دانت لهم الدنيا، وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض، وتحقق لهم وعد الله‏.‏

فأما أولئك المفتوح عليهم في الرزق‏.‏

‏.‏ فهذه هي السنة‏:‏ ‏{‏ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء‏}‏ ‏!‏ فهو الابتلاء بالنعمة الذي مر ذكره‏.‏ وهو أخطر من الابتلاء بالشدة‏.‏‏.‏ وفرق بينه وبين البركات التي يعدها الله من يؤمنون ويتقون‏.‏ فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به، وكان معه الصلاح والأمن والرضى والارتياح‏.‏‏.‏ وكم من أمة غنية قوية ولكنها تعيش في شقوة، مهددة في أمنها، مقطعة الأواصر بينها، يسود الناس فيها القلق وينتظرها الانحلال‏.‏ فهي قوة بلا أمن‏.‏ وهو متاع بلا رضى‏.‏ وهي وفرة بلا صلاح‏.‏ وهو حاضر زاهٍ يترقبه مستقبل نكد‏.‏ وهو الابتلاء الذي يعقبه النكال‏.‏‏.‏

إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى، بركات في الأشياء، وبركات في النفوس، وبركات في المشاعر، وبركات في طيبات الحياة‏.‏‏.‏ بركات تنمي الحياة وترفعها في آن‏.‏ وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردي والانحلال‏.‏

وبعد أن يقرر السياق القرآني تلك السنة الجارية‏.‏ التي يشهد بها تاريخ القرى الخالية‏.‏ وفي اللحظة التي تنتفض فيها المشاعر، ويرتعش فيها الوجدان، على مصارع المكذبين الذين لم يؤمنوا ولم يتقوا؛ وغرهم ما كانوا فيه من رخاء ونعماء، فغفلوا عن حكمة الله في الابتلاء‏.‏‏.‏ في هذه اللحظة يتجه إلى الغافلين السادرين، يوقظ فيهم مشاعر الترقب أن يأتيهم بأس الله في أية لحظة من ليل أو نهار، وهم سادرون في النوم واللهو والمتاع‏:‏

‏{‏أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون‏؟‏ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون‏؟‏ أفأمنوا مكر الله‏؟‏ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون‏.‏ أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون‏}‏‏.‏‏.‏

أفأمن أهل القرى- وتلك سنة الله في الابتلاء بالضراء والسراء، والبأساء والنعماء، وتلك مصارع المكذبين السادرين، الذين كانوا قبلهم يعمرون هذه القرى ثم تركوها فخلفوهم فيها- أفأمنوا أن يأتيهم بأس الله في غفلة من غفلاتهم، وغرة من غراتهم‏؟‏ أفأمنوا أن يأتيهم بأس الله بالهلاك والدمار‏.‏‏.‏ بياتاً وهم نائمون‏.‏‏.‏ والإنسان في نومه مسلوب الإرادة، مسلوب القوة، لا يملك أن يحتاط ولا يملك أن يدفع عادية من حشرة صغيرة‏.‏‏.‏ فكيف ببأس الله الجبار‏؟‏ الذي لا يقف له الإنسان في أشد ساعات صحوه واحتياطه وقوته‏؟‏

أفأمنوا أن يأتيهم بأس الله‏.‏‏.‏ ضحى وهم يلعبون‏.‏‏.‏ واللعب يستغرق اليقظة والتحفز، ويلهي عن الأهبة والاحتياط‏.‏ فلا يملك الإنسان، وهو غارٌّ في لعبه، أن يدفع عن نفسه مغيراً‏.‏ فكيف بغارة الله التي لا يقف لها الإنسان وهو في أشد ساعات جده وتأهبه للدفاع‏؟‏

وإن بأس الله لأشد من أن يقفوا له نائمين أم صاحين‏.‏ لاعبين أم جادين‏.‏ ولكن السياق القرآني يعرض لحظات الضعف الإنساني، ليلمس الوجدان البشري بقوة، ويثير حذره وانتباهه، حين يترقب الغارة الطامة الغامرة، في لحظة من لحظات الضعف والغرة والفجاءة‏.‏

وما هو بناج في يقظة أو غرة‏.‏ فهذه كتلك أمام بأس الله سواء‏!‏

‏{‏أفأمنوا مكر الله‏؟‏‏}‏‏.‏

وتدبيره الخفي المغيب على البشر‏.‏‏.‏ ليتقوه ويحذروه‏.‏

‏{‏فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون‏}‏‏.‏‏.‏

فما وراء الأمن والغفلة والاستهتار إلا الخسار‏.‏ وما يغفل عن مكر الله هكذا إلا الذين يستحقون هذا الخسار‏!‏ أفأمنوا مكر الله؛ وهم يرثون الأرض من بعد أهلها الذاهبين، الذين هلكوا بذنوبهم، وجنت عليهم غفلتهم‏؟‏ أما كانت مصارع الغابرين تهديهم وتنير لهم طريقهم‏؟‏

‏{‏أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون‏}‏‏.‏‏.‏

إن سنة الله لا تتخلف؛ ومشيئة الله لا تتوقف‏.‏ فما الذي يؤمنهم أن يأخذهم الله بذنوبهم كما أخذ من قبلهم‏؟‏ وأن يطبع على قلوبهم فلا يهتدوا بعد ذلك، بل لا يستمعوا إلى دلائل الهدى، ثم ينالهم جزاء الضلال في الدنيا والآخرة‏.‏‏.‏ ألا إن مصارع الخالين قبلهم، ووراثتهم لهم، وسنة الله الجارية‏.‏‏.‏ كل أولئك كان نذيراً لهم أن يتقوا ويحذروا؛ وأن يطرحوا عنهم الأمن الكاذب، والاستهتار السادر، والغفلة المردية؛ وأن يعتبروا بما كان في الذين خلوا من قبلهم‏.‏ عسى ألا يكون فيهم‏.‏ لو كانوا يسمعون‏!‏

وما يريد الله للناس بهذا التحذير في القرآن أن يعيشوا مفزعين قلقين؛ يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار‏.‏ فالفزع الدائم من المجهول، والقلق الدائم من المستقبل، وتوقع الدمار في كل لحظة‏.‏‏.‏ قد تشل طاقة البشر وتشتتها؛ وقد تنتهي بهم إلى اليأس من العمل والنتاج وتنمية الحياة وعمارة الأرض‏.‏‏.‏ إنما يريد الله منهم اليقظة والحساسية والتقوى، ومراقبة النفس، والعظة بتجارب البشر، ورؤية محركات التاريخ الإنساني، وإدامة الاتصال بالله، وعدم الاغترار بطراءة العيش ورخاء الحياة‏.‏

والله يعد الناس الأمن والطمأنينة والرضوان والفلاح في الدنيا والآخرة، إذا هم أرهفوا حساسيتهم به، وإذا هم أخلصوا العبودية له؛ وإذا هم اتقوه فاتقوا كل ما يلوث الحياة‏.‏ فهو يدعوهم إلى الأمن في جوار الله لا في جوار النعيم المادي المغري‏.‏ وإلى الثقة بقوة الله لا بقوتهم المادية الزائلة‏.‏ وإلى الركون إلى ما عند الله لا إلى ما يملكون من عرض الحياة‏.‏

ولقد سلف من المؤمنين بالله المتقين لله سلف ما كان يأمن مكر الله‏.‏ وما كان يركن إلى سواه‏.‏ وكان بهذا وذاك عامر القلب بالإيمان، مطمئناً بذكر الله، قوياً على الشيطان وعلى هواه، مصلحاً في الأرض بهدى الله، لا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه‏.‏

وهكذا ينبغي أن نفهم ذلك التخويف الدائم من بأس الله الذي لا يدفع، ومن مكر الله الذي لا يدرك‏.‏ لندرك أنه لا يدعو إلى القلق إنما يدعو إلى اليقظة، ولا يؤدي إلى الفزع إنما يؤدي إلى الحساسية، ولا يعطل الحياة إنما يحرسها من الاستهتار والطغيان‏.‏

والمنهج القرآني- مع ذلك- إنما يعالج أطوار النفوس والقلوب المتقلبة، وأطوار الأمم والجماعات المتنوعة، ويطب لكل منها بالطب المناسب في الوقت الملائم‏.‏ فيعطيها جرعة من الأمن والثقة والطمأنينة إلى جوار الله، حين تخشى قوى الأرض وملابسات الحياة‏.‏ ويعطيها جرعة من الخوف والحذر والترقب لبأس الله، حين تركن إلى قوى الأرض ومغريات الحياة‏.‏ وربك أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير‏.‏‏.‏

والآن- وقد انتهى السياق من بيان السنة الجارية، ولمس بها الوجدان البشري تلك اللمسات الموحية- يتجه بالخطاب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطلعه على العاقبة الشاملة لابتلاء تلك القرى، وما تكشف عنه من حقائق عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان، ثم عن طبيعة البشر الغالبة كما تجلت في هذه الأقوام‏:‏

‏{‏تلك القرى نقص عليك من أنبائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل‏.‏ كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين‏.‏ وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين‏}‏‏.‏‏.‏

فهو قصص من عند الله، ما كان للرسول- صلى الله عليه وسلم- به من علم، إنما هو وحي الله وتعليمه‏.‏

‏{‏ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات‏}‏‏.‏‏.‏

فلم تنفعهم البينات‏.‏ وظلوا يكذبون بعدها، كما كذبوا قبلها‏.‏ ولم يؤمنوا بما كانوا قد كذبوا به من قبل أن تأتيهم البينة عليه‏.‏ فالبينات لا تؤدي بالمكذبين إلى الإيمان‏.‏ وليست البينة هي ما كان ينقصهم ليؤمنوا‏.‏ إنما كان ينقصهم القلب المفتوح، والحس المرهف والتوجه إلى الهدى‏.‏ كان ينقصهم الفطرة الحية التي تستقبل وتنفعل وتستجيب‏.‏ فلما لم يوجهوا قلوبهم إلى موحيات الهدى ودلائل الإيمان طبع الله على قلوبهم وأغلقها‏.‏ فما عادت تتلقى ولا تنفعل ولا تستجيب‏:‏

‏{‏كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد تكشفت تلك التجارب عن طبيعة غالبة‏:‏

‏{‏وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين‏}‏‏.‏‏.‏

والعهد الذي يشار إليه هنا قد يكون هو عهد الله على فطرة البشر، الذي ورد ذكره في أواخر السورة‏:‏

‏{‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم‏:‏ ألست بربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى شهدنا‏}‏‏.‏‏.‏

وقد يكون هو عهد الإيمان الذي أعطاه أسلافهم الذين آمنوا بالرسل‏.‏ ثم انحرفت الخلائف‏.‏ كما يقع في كل جاهلية‏.‏ إذا تظل الأجيال تنحرف شيئاً فشيئاً حتى تخرج من عهد الإيمان، وترتد إلى الجاهلية‏.‏

وإياً كان العهد فقد تبين أن أهل هذه القرى لا عهد لأكثرهم يستمسكون به، ويثبتون عليه‏.‏ إنما هو الهوى المتقلب، والطبيعة التي لا تصبر على تكاليف العهد ولا تستقيم‏.‏

‏{‏وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين‏}‏‏.‏‏.‏

منحرفين عن دين الله وعهده القديم‏.‏‏.‏ وهذه ثمرة التقلب، ونقض العهد، واتباع الهوى‏.‏‏.‏ ومن لم يمسك نفسه على عهده مع الله، مستقيماً على طريقته، مسترشداً بهداه‏.‏ فلا بد أن تتفرق به السبل، ولا بد أن ينحرف، ولا بد أن يفسق‏.‏‏.‏ وكذلك كان أهل تلك القرى‏.‏ وكذلك انتهى بهم المطاف‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 137‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏103‏)‏ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏105‏)‏ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏106‏)‏ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ‏(‏107‏)‏ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏108‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏109‏)‏ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏110‏)‏ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏111‏)‏ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏112‏)‏ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ‏(‏115‏)‏ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ‏(‏116‏)‏ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏117‏)‏ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏118‏)‏ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ‏(‏119‏)‏ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏120‏)‏ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏121‏)‏ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏122‏)‏ قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏123‏)‏ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏124‏)‏ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏125‏)‏ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ‏(‏126‏)‏ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ‏(‏127‏)‏ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏128‏)‏ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏129‏)‏ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏130‏)‏ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏131‏)‏ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏133‏)‏ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏134‏)‏ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ‏(‏135‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏136‏)‏ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ‏(‏137‏)‏‏}‏

يتضمن هذا الدرس قصة موسى- عليه السلام- مع فرعون وملئه‏.‏ من حلقة مواجهتهم بربوبية الله للعالمين، إلى حلقة إغراقهم أجمعين‏.‏ وما بين هذه وتلك من المباراة مع السحرة‏.‏ وغلبة الحق على الباطل‏.‏ وإيمان السحرة برب العالمين رب موسى وهارون‏.‏ وتوعد فرعون لهم بالعذاب والتقتيل والتنكيل‏.‏ واستعلان الحق في نفوسهم على هذا التوعد وانتصار العقيدة في قلوبهم على حب الحياة‏.‏ ثم ماتلا ذلك من التنكيل ببني إسرائيل‏.‏ وأخذ الله لفرعون وملئه بالسنين ونقص من الثمرات‏.‏ ثم أخذهم بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم‏.‏ وهم يستغيثون بموسى في كل مرة أن يدعو ربه ليرفع عنهم العذاب‏.‏ حتى إذا رفع عنهم عادوا لما كانوا فيه؛ وأعلنوا أنهم لن يؤمنوا مهما جاءهم من الآيات‏.‏ حتى حقت عليهم كلمة الله في النهاية فأغرقوا في اليم بتكذيبهم بآيات الله وغفلتهم عن حكمة ابتلائه- وفق السنة الجارية في أخذ المكذبين بالضراء والسراء قبل أخذهم بالدمار والهلاك- ثم إعطاء الخلافة في الأرض لقوم موسى جزاء على صبرهم واجتيازهم ابتلاء الشدة‏.‏‏.‏ لتعقبها فتنة الرخاء‏.‏‏.‏

وقد اخترنا أن نجعل هذا القطاع من القصة درساً؛ ونجعل القطاع الآخر الخاص بقصة موسى- عليه السلام- مع قومه بعد ذلك درساً يليه لاختلاف طبيعة القطاعين، واختلاف مجالهما كذلك‏.‏‏.‏

والقصة تبدأ هنا بمجمل عن بدئها ونهايتها، يوحي بالغرض الذي جاءت من أجله في سياق هذه السورة‏:‏

‏{‏ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه، فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‏}‏‏.‏‏.‏

فيصرح النص بالغرض من سياقة القصة في هذا الموضع‏.‏‏.‏ إنه النظر إلى عاقبة المفسدين‏.‏‏.‏ وبعد ذلك الإجمال الموحي بالغاية، تعرض الحلقات التي تفي بهذه الغاية، وتصورها تفصيلاً‏.‏

والقصة تقطع إلى مشاهد حية، تموج بالحركة وبالحوار، وتزخر بالانفعالات والسمات، وتتخللها التوجيهات إلى مواضع العبرة في السياق، وتكشف عن طبيعة المعركة بين الدعوة إلى «رب العالمين» وبين الطواغيت المتسلطة على عباد الله، المدعية للربوبية من دون الله، كما تتجلى روعة العقيدة حين تستعلن، فلا تخشى سلطان الطواغيت، ولا تحفل التهديد والوعيد الشديد‏.‏‏.‏

‏{‏ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه، فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‏}‏‏.‏‏.‏

بعد تلك القرى وما حل بها وبالمكذبين من أهلها، كانت بعثة موسى‏.‏‏.‏ والسياق يعرض القصة من حلقة مواجهة فرعون وملئه بالرسالة، ثم يعجل بالكشف عن خلاصة استقبالهم لها‏.‏ كما يعجل بالإشارة إلى العاقبة التي انتهوا إليها‏.‏ لقد ظلموا بهذه الآيات- أي كفروا وجحدوا- والتعبير القرآني يكثر من ذكر كلمة «الظلم» وكلمة «الفسق» في موضع كلمة «الكفر» أو كلمة «الشرك»‏.‏

وهذه من تلك المواضع التي يكثر ورودها في التعبير القرآني‏.‏ ذلك أن الشرك أو الكفر هو أقبح الظلم، كما أنه كذلك هو أشنع الفسق‏.‏‏.‏ والذين يكفرون أو يشركون يظلمون الحقيقة الكبرى- حقيقة الألوهية وحقيقة التوحيد- ويظلمون أنفسهم بإيرادها موارد الهلكة في الدنيا والآخرة‏.‏ ويظلمون الناس بإخراجهم من العبودية لله الواحد إلى العبودية للطواغيت المتعددة والأرباب المتفرقة‏.‏‏.‏ وليس بعد ذلك ظلم‏.‏‏.‏ ومن ثم فالكفر هو الظلم «والكافرون هم الظالمون» كما يقول التعبير القرآني الكريم‏.‏‏.‏ وكذلك الذي يكفر أو يشرك إنما يفسق ويخرج عن طريق الله وصراطه المستقيم إلى السبل التي لا تؤدي إليه- سبحانه- إنما تؤدي إلى الجحيم‏!‏

ولقد ظلم فرعون وملؤه بآيات الله‏:‏ أي كفروا بها وجحدوا‏.‏

‏{‏فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه العاقبة ستجيء في السياق عن قريب‏.‏‏.‏ أما الآن فننظر كذلك في مدلول كلمة‏:‏ ‏{‏المفسدين‏}‏ وهي مرادف لكلمة «الكافرين» أو «الظالمين» في هذا الموضع‏.‏‏.‏ إنهم ظلموا بآيات الله‏:‏ أي كفروا بها وجحدوا فانظر كيف كان عاقبة ‏{‏المفسدين‏}‏ هؤلاء‏.‏

إنهم مفسدون لأنهم «ظلموا»- أي «كفروا وجحدوا»‏.‏‏.‏ ذلك أن الكفر هو أشنع الفساد‏.‏ وأشنع الإفساد‏.‏‏.‏ إن الحياة لا تستقيم ولا تصلح إلا على أساس الإيمان بالله الواحد، والعبودية لإله واحد‏.‏‏.‏ وإن الأرض لتفسد حين لا تتمحض العبودية لله في حياة الناس‏.‏‏.‏ إن العبودية لله وحده معناها أن يكون للناس سيد واحد، يتوجهون إليه بالعبادة وبالعبودية كذلك، ويخضعون لشريعته وحدها فتخلص حياتهم من الخضوع لأهواء البشر المتقلبة، وشهوات البشر الصغيرة‏!‏‏.‏‏.‏ إن الفساد يصيب تصورات الناس كما يصيب حياتهم الاجتماعية حين يكون هناك أرباب متفرقون يتحكمون في رقاب العباد- من دون الله- وما صلحت الأرض قط ولا استقامت حياة الناس إلا أيام أن كانت عبوديتهم لله وحده- عقيدة وعبادة وشريعة- وما تحرر «الإنسان» قط إلا في ظلال الربوبية الواحدة‏.‏‏.‏ ومن ثم يقول الله سبحانه عن فرعون وملئه‏:‏

‏{‏فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‏}‏‏.‏‏.‏

وكل طاغوت يُخضع العباد لشريعة من عنده، وينبذ شريعة الله، هو من ‏{‏المفسدين‏}‏ الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون‏!‏

وافتتاح القصة على ذلك النحو هو طريقة من طرق العرض القرآنية للقصص‏.‏ وهذه الطريقة هي المناسبة هنا لسياق السورة، وللمحور الذي تدور حوله‏.‏ لأنها تعجل بالعاقبة منذ اللحظة الأولى- تحقيقاً للهدف من سياقتها- ثم تأخذ في التفصيل بعد الإجمال، فنرى كيف سارت الأحداث إلى نهايتها‏.‏

فما الذي كان بين موسى وفرعون وملئه‏؟‏

هنا يبدأ المشهد الأول بينهما‏:‏

‏{‏وقال موسى‏:‏ يا فرعون إني رسول من رب العالمين‏.‏ حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق‏.‏

قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل‏.‏ قال‏:‏ إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين‏.‏ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين‏.‏ ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين‏.‏ قال الملأ من قوم فرعون‏:‏ إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم، فماذا تأمرون‏؟‏ قالوا‏:‏ أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين‏.‏ يأتوك بكل ساحر عليم‏}‏‏.‏‏.‏

إنه مشهد اللقاء الأول بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر‏.‏‏.‏ مشهد اللقاء الأول بين الدعوة إلى ‏{‏رب العالمين‏}‏ وبين الطاغوت الذي يدعي ويزاول الربوبية من دون رب العالمين‏!‏

‏{‏وقال موسى‏:‏ يا فرعون، إني رسول من رب العالمين‏.‏ حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق‏.‏ قد جئتكم ببينة من ربكم، فأرسل معي بني إسرائيل‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏يا فرعون‏}‏‏.‏‏.‏ لم يقل له‏:‏ يا مولاي‏!‏ كما يقول الذين لا يعرفون من هو المولى الحق‏!‏ ولكن ناداه بلقبه في أدب واعتزاز‏.‏ ناداه ليقرر له حقيقة أمره، كما يقرر له أضخم حقائق الوجود‏:‏

‏{‏إني رسول من رب العالمين‏}‏‏.‏‏.‏

لقد جاء موسى- عليه السلام- بهذه الحقيقة التي جاء بها كل رسول قبله‏.‏ حقيقة ربوبية الله الواحد للعالمين جميعاً‏.‏‏.‏ ألوهية واحدة وعبودية شاملة‏.‏‏.‏ لا كما يقول الخابطون في الظلام من «علماء الأديان» ومن يتبعهم في زعمهم عن «تطور العقيدة» إطلاقاً، وبدون استثناء لما جاء به الرسل من ربهم أجمعين‏!‏‏.‏‏.‏ إن العقيدة التي جاء بها الرسل جميعاً عقيدة واحدة ثابتة؛ تقرر ألوهية واحدة للعوالم جميعها‏.‏ ولا تتطور من الآلهة المتعددة، إلى التثنية، إلى الوحدانية في نهاية المطاف‏.‏‏.‏ فأما جاهليات البشر- حين ينحرفون عن العقيدة الربانية- فلا حد لتخبطها بين الطواطم والأرواح والآلهة المتعددة والعبادات الشمسية والتثنية والتوحيد المشوب برواسب الوثنية‏.‏‏.‏ وسائر أنواع العقائد الجاهلية‏.‏‏.‏ ولا يجوز الخلط بين العقائد السماوية التي جاءت كلها بالتوحيد الصحيح، الذي يقرر إلهاً واحداً للعالمين؛ وتلك التخبطات المنحرفة عن دين الله الصحيح‏.‏

ولقد واجه موسى- عليه السلام- فرعون وملأه بهذه الحقيقة الواحدة، التي واجه بها كل نبي- قبله أو بعده- عقائد الجاهلية الفاسدة‏.‏‏.‏ واجهه بها وهو يعلم أنها تعني الثورة على فرعون وملئه ودولته ونظام حكمه‏.‏‏.‏ إن ربوبية الله للعالمين تعني- أول ما تعني- إبطال شرعية كل حكم يزاول السلطان على الناس بغير شريعة الله وأمره؛ وتنحية كل طاغوت عن تعبيد الناس له- من دون الله- بإخضاعهم لشرعه هو وأمره‏.‏‏.‏ واجهه بهذه الحقيقة الهائلة بوصفه رسولاً من رب العالمين‏.‏‏.‏ ملزماً ومأخوذاً بقول الحق على ربه الذي أرسله‏.‏

‏{‏حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق‏}‏‏.‏‏.‏

فما كان الرسول الذي يعلم حقيقة الله، ليقول عليه إلا الحق، وهو يعلم قدره؛ ويجد حقيقته- سبحانه- في نفسه‏.‏

‏{‏قد جئتكم ببينة من ربكم‏}‏‏.‏‏.‏

تدلكم على صدق قولي‏:‏ إني رسول من رب العالمين‏.‏

وباسم تلك الحقيقة الكبيرة‏.‏‏.‏ حقيقة الربوبية الشاملة للعالمين‏.‏‏.‏ طلب موسى من فرعون أن يطلق معه بني إسرائيل‏.‏‏.‏

إن بني إسرائيل عبيد لله وحده؛ فما ينبغي أن يعبدهم فرعون لنفسه‏!‏ إن الإنسان لا يخدم سيدين، ولا يعبد إلهين‏.‏ فمن كان عبداً لله، فما يمكن أن يكون عبداً لسواه‏.‏ وإذ كان فرعون إنما يعبد بني إسرائيل لهواه؛ فقد أعلن له موسى أن رب العالمين هو الله‏.‏ وإعلان هذه الحقيقة ينهي شرعية ما يزاوله فرعون من تعبيد بني إسرائيل‏!‏

إن إعلان ربوبية الله للعالمين هي بذاتها إعلان تحرير الإنسان‏.‏ تحريره من الخضوع والطاعة والتبعية والعبودية لغير الله‏.‏ تحريره من شرع البشر، ومن هوى البشر، ومن تقاليد البشر، ومن حكم البشر‏.‏

وإعلان ربوبية الله للعالمين لا يجتمع مع خضوع أحد من العالمين لغير الله؛ ولا يجتمع مع حاكمية أحد بشريعة من عنده للناس‏.‏‏.‏ والذين يظنون أنهم مسلمون بينما هم خاضعون لشريعة من صنع البشر- أي لربوبية غير ربوبية الله- واهمون إذا ظنوا لحظة واحدة أنهم مسلمون‏!‏ إنهم لا يكونون في دين الله لحظة واحدة وحاكمهم غير الله، وقانونهم غير شريعة الله‏.‏ إنما هم في دين حاكمهم ذاك‏.‏ في دين الملك لا في دين الله‏!‏

وعلى هذه الحقيقة أُمر موسى- عليه السلام- أن يبني طلبه من فرعون إطلاق بني إسرائيل‏:‏

‏{‏يا فرعون إني رسول من رب العالمين‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏{‏فأرسل معي بني إسرائيل‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

مقدمة ونتيجة‏.‏‏.‏ تتلازمان ولا تفترقان‏.‏‏.‏

ولم تغب على فرعون وملئه دلالة هذا الإعلان‏.‏ إعلان ربوبية الله للعالمين‏.‏‏.‏ لم يغب عنهم أن هذا الإعلان يحمل في طياته هدم ملك فرعون‏.‏ وقلب نظام حكمه، وإنكار شرعيته، وكشف عدوانه وطغيانه‏.‏‏.‏ ولكن كان أمام فرعون وملئه فرصة أن يظهروا موسى بمظهر الكاذب الذي يزعم أنه رسول من رب العالمين بلا بينة ولا دليل‏:‏

‏{‏قال‏:‏ إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك أنه إذا اتضح أن هذا الداعية إلى ربوبية رب العالمين كاذب في دعواه؛ سقطت دعوته، وهان أمره؛ ولم يعد لهذه الدعوة الخطيرة من خطر- وصاحبها دعيّ لا بينة عنده ولا دليل‏!‏

ولكن موسى يجيب‏:‏

‏{‏فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين‏.‏ ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين‏}‏‏.‏‏.‏

إنها المفاجأة‏!‏ إن العصا تنقلب ثعباناً لا شك في ثعبانيته‏.‏‏.‏ ‏{‏مبين‏}‏‏.‏‏.‏ وكما قيل في سورة أخرى‏:‏ ‏{‏فإذا هي حية تسعى‏}‏ ثم إن يده السمراء- وقد كان موسى عليه السلام «آدم» أي مائلاً إلى السمرة- يخرجها من جيبه فإذا هي بيضاء من غير سوء، بيضاء ليست عن مرض، ولكنها المعجزة، فإذا أعادها إلى جيبه عادت سمراء‏!‏

هذه هي البينة والآية على الدعوى التي جاء بها موسى‏.‏

‏.‏ إني رسول من رب العالمين‏.‏

ولكن هل يستسلم فرعون وملؤه لهذه الدعوى الخطيرة‏؟‏ هل يستسلمون لربوبية رب العالمين‏؟‏ وعلام إذن يقوم عرش فرعون وتاجه وملكه وحكمه‏؟‏ وعلام يقوم الملأ من قومه ومراكزهم التي هي من عطاء فرعون ورسمه وحكمه‏؟‏

علام يقوم هذا كله إن كان الله هو ‏{‏رب العالمين‏}‏‏؟‏

إنه إن كان الله هو ‏{‏رب العالمين‏}‏ فلا حكم إلا لشريعة الله، ولا طاعة إلا لأمر الله‏.‏‏.‏ فأين يذهب شرع فرعون وأمره إذن، وهو لا يقوم على شريعة الله ولا يرتكن إلى أمره‏؟‏‏.‏‏.‏ إن الناس لا يكون لهم ‏{‏رب‏}‏ آخر يعبدهم لحكمه وشرعه وأمره، إن كان الله هو ربهم‏.‏‏.‏ إنما يخضع الناس لشرع فرعون وأمره حين يكون ربهم هو فرعون‏.‏ فالحاكم- بأمره وشرعه- هو رب الناس‏.‏ وهم في دينه أياً كان‏!‏

كلا‏!‏ إن الطاغوت لا يستسلم هكذا من قريب‏.‏ ولا يسلم ببطلان حكمه وعدم شرعية سلطانه بمثل هذه السهولة‏!‏

وفرعون وملؤه لا يخطئون فهم مدلول هذه الحقيقة الهائلة التي يعلنها موسى‏.‏ بل إنهم ليعلنونها صريحة‏.‏ ولكن مع تحويل الأنظار عن دلالتها الخطيرة، باتهام موسى بأنه ساحر عليم‏:‏

‏{‏قال الملأ من قوم فرعون‏:‏ إن هذا لساحر عليم‏.‏ يريد أن يخرجكم من أرضكم‏.‏ فماذا تأمرون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إنهم يصرحون بالنتيجة الهائلة التي تتقرر من إعلان تلك الحقيقة‏.‏ إنها الخروج من الأرض‏.‏‏.‏ إنها ذهاب السلطان‏.‏‏.‏ إنها إبطال شرعية الحكم‏.‏‏.‏ أو‏.‏‏.‏ محاولة قلب نظام الحكم‏!‏‏.‏‏.‏ بالتعبير العصري الحديث‏!‏

إن الأرض لله‏.‏ والعباد لله‏.‏ فإذا ردت الحاكمية في أرض لله، فقد خرج منها الطغاة، الحاكمون بغير شرع الله‏!‏ أو خرج منها الأرباب المتألهون الذين يزاولون خصائص الألوهية بتعبيد الناس لشريعتهم وأمرهم‏.‏ وخرج منها الملأ الذين يوليهم الأرباب المناصب والوظائف الكبرى، فيعبدون الناس لهذه الأرباب‏!‏

هكذا أدرك فرعون وملؤه خطورة هذه الدعوة‏.‏‏.‏ وكذلك يدركها الطواغيت في كل مرة‏.‏‏.‏ لقد قال الرجل العربي- بفطرته وسليقته- حين سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله‏:‏ «هذا أمر تكرهه الملوك‏!‏»‏.‏ وقال له رجل آخر من العرب بفطرته وسليقته‏:‏ «إذن تحاربك العرب والعجم»‏.‏‏.‏ لقد كان هذا العربي وذاك يفهم مدلولات لغته‏.‏ كان يفهم أن شهادة أن لا إله إلا الله ثورة على الحاكمين بغير شرع الله عرباً كانوا أم عجماً‏!‏ كانت لشهادة أن لا إله إلا الله جديتها في حسن هؤلاء العرب، لأنهم كانوا يفهمون مدلول لغتهم جيداً‏.‏ فما كان أحد منهم يفهم أنه يمكن أن تجتمع في قلب واحد، ولا في أرض واحدة، شهادة أن لا إله إلا الله، مع الحكم بغير شرع الله‏!‏ فيكون هناك آلهة مع الله‏!‏ ما كان أحد منهم يفهم شهادة أن لا إله إلا الله كما يفهمها اليوم من يدعون أنفسهم «مسلمين»‏.‏

‏.‏ ذلك الفهم الباهت التافه الهزيل‏!‏

وهكذا قال الملأ من قوم فرعون، يتشاورون مع فرعون‏:‏

‏{‏إن هذا لساحرعليم‏.‏ يريد أن يخرجكم من أرضكم‏.‏ فماذا تأمرون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

واستقر رأيهم على أمر‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ أرجه وأخاه، وأرسل في المدائن حاشرين، يأتوك بكل ساحر عليم‏}‏‏.‏‏.‏

وكانت أرض مصر تموج بالكهنة في شتى المعابد‏.‏ وكان الكهنة هم الذين يزاولون أعمال السحر‏.‏ ففي الوثنيات كلها تقريباً يقترن الدين بالسحر؛ ويزاول السحر كهنة الديانات وسدنة الآلهة‏!‏ وهذه الظاهرة هي التي يلتقطها «علماء الأديان‏!‏» فيتحدث بعضهم عن السحر كمرحلة من مراحل تطور العقيدة‏!‏ ويقول الملحدون منهم‏:‏ إن الدين سيبطل كما بطل السحر‏!‏ وإن العلم سينهي عهد الدين كما أنهى عهد السحر‏!‏‏.‏‏.‏ إلى آخر هذا الخبط الذي يسمونه‏:‏ «العلم»‏!‏

وقد استقر رأي الملأ من قوم فرعون، على أن يرجئ فرعون موسى إلى موعد‏.‏ وأن يرسل في أنحاء البلاد من يجمع له كبار السحرة‏.‏ ذلك ليواجهوا «سحر موسى»- بزعمهم- بسحر مثله‏.‏

وعلى كل ما عرف من طغيان فرعون، فقد كان في تصرفه هذا أقل طغياناً من طواغيت كثيرة في القرن العشرين؛ في مواجهة دعوة الدعاة إلى ربوبية رب العالمين‏!‏ وتهديد السلطان الباطل بهذه الدعوة الخطيرة‏!‏

ويطوي السياق القرآني إجراء فرعون وملئه في جمع السحرة من المدائن؛ ويسدل الستار على المشهد الأول، ليرفعه على المشهد التالي‏.‏‏.‏ وذلك من بدائع العرض القرآني للقصص، كأنه واقع منظور، لا حكاية تروى‏!‏

‏{‏وجاء السحرة فرعون، قالوا‏:‏ إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وإنكم لمن المقربين‏}‏‏.‏‏.‏

إنهم محترفون‏.‏‏.‏‏.‏ يحترفون السحر كما يحترفون الكهانة‏!‏ والأجر هو هدف الاحتراف في هذا وذاك‏!‏ وخدمة السلطان الباطل والطاغوت الغالب هي وظيفة المحترفين من رجال الدين‏!‏ وكلما انحرفت الأوضاع عن إخلاص العبودية لله، وإفراده- سبحانه- بالحاكمية؛ وقام سلطان الطاغوت مقام شريعة الله، احتاج الطاغوت إلى هؤلاء المحترفين، وكافأهم على الاحتراف، وتبادل وإياهم الصفقة‏:‏ هم يقرون سلطانه باسم الدين‏!‏ وهو يعطيهم المال ويجعلهم من المقربين‏!‏

ولقد أكد لهم فرعون أنهم مأجورون على حرفتهم، ووعدهم مع الأجر القربى منه، زيادة في الإغراء، وتشجيعاً على بذل غاية الجهد‏.‏‏.‏ وهو وهم لا يعلمون أن الموقف ليس موقف الاحتراف والبراعة والتضليل؛ إنما هو موقف المعجزة والرسالة والاتصال بالقوة القاهرة، التي لا يقف لها الساحرون ولا المتجبرون‏!‏

ولقد اطمأن السحرة على الأجر، واشرأبت أعناقهم إلى القربى من فرعون، واستعدوا للحلبة‏.‏‏.‏ ثم ها هم أولاء يتوجهون إلى موسى- عليه السلام- بالتحدي‏.‏

‏.‏ ثم يكون من أمرهم ما قسم الله لهم من الخير الذي لم يكونوا يحتسبون، ومن الأجر الذي لم يكونوا يتوقعون‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ يا موسى، إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين‏.‏‏.‏ قال‏:‏ ألقوا‏}‏‏.‏‏.‏

ويبدو التحدي واضحاً في تخييرهم لموسى‏.‏ وتبدو كذلك ثقتهم بسحرهم وقدرتهم على الغلبة‏.‏‏.‏ وفي الجانب الآخر تتجلى ثقة موسى- عليه السلام- واستهانته بالتحدي‏:‏ ‏{‏قال ألقوا‏}‏‏.‏‏.‏ فهذه الكلمة الواحدة تبدو فيها قلة المبالاة، وتلقي ظل الثقة الكامنة وراءها في نفس موسى‏.‏ على طريقة القرآن الكريم في إلقاء الظلال، بالكلمة المفردة في كثير من الأحايين‏.‏

ولكن السياق يفاجئنا بما فوجئ به موسى- عليه السلام- وبينما نحن في ظلال الاستهانة وعدم المبالاة، إذا بنا أمام مظهر السحر البارع، الذي يرهب ويخيف‏:‏

‏{‏فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم، وجاءوا بسحر عظيم‏}‏‏.‏‏.‏

وحسبنا أن يقرر القرآن أنه سحر عظيم، لندرك أي سحر كان‏.‏ وحسبنا أن نعلم أنهم سحروا ‏{‏أعين الناس‏}‏ وأثاروا الرهبة في قلوبهم‏:‏ ‏{‏واسترهبوهم‏}‏ لنتصور أي سحر كان‏.‏ ولفظ «استرهب» ذاته لفظ مصور‏.‏ فهم استجاشوا إحساس الرهبة في الناس وقسروهم عليه قسراً‏.‏ ثم حسبنا أن نعلم من النص القرآني الآخر في سورة طه، أن موسى عليه السلام قد أوجس في نفسه خيفة لنتصور حقيقة ما كان‏!‏

ولكن مفاجأة أخرى تطالع فرعون وملأه، وتطالع السحرة الكهنة، وتطالع جماهير الناس في الساحة الكبرى التي شهدت ذلك السحر العظيم‏:‏

‏{‏وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك، فإذا هي تلقف ما يأفكون‏.‏ فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون‏.‏ فغلبوا هنالك، وانقلبوا صاغرين‏}‏‏.‏‏.‏

إنه الباطل ينتفش، ويسحر العيون، ويسترهب القلوب، ويخيل إلى الكثيرين أنه غالب، وأنه جارف، وأنه مُحيق‏!‏ وما هو إلا أن يواجه الحق الهادئ الواثق حتى ينفثئ كالفقاعة، وينكمش كالقنفذ، وينطفئ كشعلة الهشيم‏!‏ وإذا الحق راجح الوزن، ثابت القواعد، عميق الجذور‏.‏‏.‏ والتعبير القرآني هنا يلقي هذه الظلال، وهو يصور الحق واقعاً ذا ثقل‏:‏ ‏{‏فوقع الحق‏}‏‏.‏‏.‏ وثبت، واستقر‏.‏‏.‏ وذهب ما عداه فلم يعد له وجود‏:‏ ‏{‏وبطل ما كانوا يعملون‏}‏‏.‏‏.‏ وغلب الباطل والمبطلون وذلوا وصغروا وانكمشوا بعد الزهو الذي كان يبهر العيون‏:‏

‏{‏فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين‏}‏‏.‏‏.‏

ولكن المفاجأة لم تختم بعد‏.‏ والمشهد ما يزال يحمل مفاجأة أخرى‏.‏‏.‏ مفاجأة كبرى‏.‏‏.‏

‏{‏وألقي السحرة ساجدين‏.‏ قالوا‏:‏ آمنا برب العالمين‏.‏ رب موسى وهارون‏}‏‏.‏‏.‏

إنها صولة الحق في الضمائر‏.‏ ونور الحق في المشاعر، ولمسة الحق للقلوب المهيأة لتلقي الحق والنور واليقين‏.‏‏.‏ إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنهم، ومدى ما يمكن أن يبلغ إليه‏.‏ وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى إن كان من السحر والبشر، أم من القدرة التي وراء مقدور البشر والسحر‏.‏ والعالم في فنه هو أكثر الناس استعداداً للتسليم بالحقيقة فيه حين تتكشف له، لأنه أقرب إدراكاً لهذه الحقيقة، ممن لا يعرفون في هذا الفن إلا القشور‏.‏

‏.‏ ومن هنا تحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق، الذي يجدون برهانه في أنفسهم عن يقين‏.‏‏.‏

ولكن الطواغيت المتجبرين لا يدركون كيف يتسرب النور إلى قلوب البشر؛ ولا كيف تمازجها بشاشة الإيمان؛ ولا كيف تلمسها حرارة اليقين‏.‏ فهم لطول ما استعبدوا الناس يحسبون أنهم يملكون تصريف الأرواح وتقليب القلوب- وهي بين إصبعين من أصابع الرحمن يقبلها كيف يشاء-‏.‏‏.‏ ومن ثم فوجئ فرعون بهذا الإيمان المفاجئ الذي لم يدرك دبيبه في القلوب ولم يتابع خطاه في النفوس؛ ولم يفطن إلى مداخله في شعاب الضمائر‏.‏‏.‏ ثم هزته المفاجأة الخطيرة التي تزلزل العرش من تحته‏:‏ مفاجأة استسلام السحرة- وهم من كهنة المعابد- لرب العالمين‏.‏ رب موسى وهارون‏.‏ بعد أن كانوا مجموعين لإبطال دعوة موسى وهارون إلى رب العالمين‏!‏‏.‏‏.‏ والعرش والسلطان هما كل شيء في حياة الطواغيت‏.‏‏.‏ وكل جريمة يمكن أن يرتكبوها بلا تحرج في سبيل المحافظة على الطاغوت‏:‏

‏{‏قال فرعون‏:‏ آمنتم به قبل أن آذن لكم‏!‏ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها‏.‏ فسوف تعلمون‏.‏ لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ثم لأصلبنكم أجمعين‏}‏‏.‏‏.‏

هكذا‏.‏‏.‏ ‏{‏آمنتم به قبل أن آذن لكم‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏ كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن تنتفض قلوبهم للحق- وهم أنفسهم لا سلطان لهم عليها- أو يستأذنوه في أن ترتعش وجداناتهم- وهم أنفسهم لا يملكون من أمرها شيئاً- أو يستأذنوه في أن تشرق أرواحهم- وهم أنفسهم لا يمسكون مداخلها‏.‏ أو كأنما كان عليهم أن يدفعوا اليقين وهو ينبت من الأعماق‏.‏ أو أن يطمسوا الإيمان وهو يترقرق من الأغوار‏.‏ أو أن يحجبوا النور وهو ينبعث من شعاب اليقين‏!‏

ولكن الطاغوت جاهل غبي مطموس؛ وهو في الوقت ذاته متعجرف متكبر مغرور‏!‏

ثم إنه الفزع على العرش المهدد والسلطان المهزوز‏:‏

‏{‏إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها‏}‏‏.‏‏.‏

وفي نص آخر‏:‏ ‏{‏إنه لكبيركم الذي علمكم السحر‏}‏ والمسألة واضحة المعالم‏.‏‏.‏ إنها دعوة موسى إلى «رب العالمين»‏.‏‏.‏ هي التي تزعج وتخيف‏.‏‏.‏ إنه لا بقاء ولا قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين‏.‏ وهم إنما يقوم ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته‏.‏ وإقامة أنفسهم أرباباً من دون الله يشرعون للناس ما يشاءون، ويعبدون الناس لما يشرعون‏!‏‏.‏‏.‏ إنهما منهجان لا يجتمعان‏.‏‏.‏ أو هما دينان لا يجتمعان‏.‏‏.‏ أو هما ربان لا يجتمعان‏.‏‏.‏ وفرعون كان يعرف وملؤه كانوا يعرفون‏.‏‏.‏ ولقد فزعوا للدعوة من موسى وهارون إلى رب العالمين‏.‏ فأولى أن يفزعوا الآن وقد ألقي السحرة ساجدين‏.‏ قالوا‏:‏ آمنا برب العالمين‏.‏ رب موسى وهارونَ والسحرة من كهنة الديانة الوثنية التي تؤله فرعون، وتمكنه من رقاب الناس باسم الدين‏!‏

وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع‏:‏

‏{‏فسوف تعلمون‏.‏

لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ثم لأصلبنكم أجمعين‏}‏‏.‏‏.‏

إنه التعذيب والتشويه والتنكيل‏.‏‏.‏ وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق، الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان‏.‏‏.‏ وعدة الباطل في وجه الحق الصريح‏.‏‏.‏

ولكن النفس البشرية حين تستعلن فيها حقيقة الإيمان؛ تستعلي على قوة الأرض، وتستهين ببأس الطغاة؛ وتنتصر فيها العقيدة على الحياة، وتحتقر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم‏.‏ إنها لا تقف لتسأل‏:‏ ماذا ستأخذ وماذا ستدع‏؟‏ ماذا ستقبض وماذا ستدفع‏؟‏ ماذا ستخسر وماذا ستكسب‏؟‏ وماذا ستلقى في الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات‏؟‏‏.‏‏.‏ لأن الأفق المشرق الوضيء أمامها هناك، فهي لا تنظر إلى شيء في الطريق‏.‏‏.‏

‏{‏قالوا‏:‏ إنا إلى ربنا منقلبون‏.‏ وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا، ربنا أفرغ علينا صبراً، وتوفنا مسلمين‏}‏‏.‏‏.‏

إنه الإيمان الذي لا يفزع ولا يتزعزع‏.‏ كما أنه لا يخضع أو يخنع‏.‏ الإيمان الذي يطمئن إلى النهاية فيرضاها، ويستيقن من الرجعة إلى ربه فيطمئن إلى جواره‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ إنا إلى ربنا منقلبون‏}‏‏.‏‏.‏

والذي يدرك طبيعة المعركة بينه وبين الطاغوت‏.‏‏.‏ وأنها معركة العقيدة في الصميم‏.‏‏.‏ لا يداهن ولا يناور‏.‏‏.‏ ولا يرجو الصفح والعفو من عدو لن يقبل منه إلا ترك العقيدة، لأنه إنما يحاربه ويطارده على العقيدة‏:‏

‏{‏وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا‏}‏‏.‏‏.‏

والذي يعرف أين يتجه في المعركة، وإلى من يتجه؛ لا يطلب من خصمه السلامة والعافية، إنما يطلب من ربه الصبر على الفتنة والوفاة على الإسلام‏:‏

‏{‏ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين‏}‏‏.‏‏.‏

ويقف الطغيان عاجزاً أمام الإيمان، وأمام الوعي، وأمام الاطمئنان‏.‏‏.‏ يقف الطغيان عاجزاً أمام القلوب التي خيل إليه أنه يملك الولاية عليها كما يملك الولاية على الرقاب‏!‏ ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام‏.‏ فإذا هي مستعصية عليه، لأنها من أمر الله، لا يملك أمرها إلا الله‏.‏‏.‏ وماذا يملك الطغيان إذا رغبت القلوب في جوار الله‏؟‏ وماذا يملك الجبروت إذا اعتصمت القلوب بالله‏؟‏ وماذا يملك السلطان إذا رغبت القلوب عما يملك السلطان‏!‏

إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية‏.‏ هذا الذي كان بين فرعون وملئه، والمؤمنين من السحرة‏.‏‏.‏ السابقين‏.‏‏.‏

إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية‏.‏ بانتصار العقيدة على الحياة‏.‏ وانتصار العزيمة على الألم‏.‏ وانتصار «الإنسان» على «الشيطان»‏!‏

إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية‏.‏ بإعلان ميلاد الحرية الحقيقية‏.‏ فما الحرية إلا الاستعلاء بالعقيدة على جبروت المتجبرين وطغيان الطغاة‏.‏ والاستهانة بالقوة المادية التي تملك أن تتسلط على الأجسام والرقاب وتعجز عن استذلال القلوب والأرواح‏.‏ ومتى عجزت القوة المادية عن استذلال القلوب فقد ولدت الحرية الحقيقية في هذه القلوب‏.‏

إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية بإعلان إفلاس المادية‏!‏ فهذه القلة التي كانت منذ لحظة تسأل فرعون الأجر على الفوز، وتمنى بالقرب من السلطان‏.‏‏.‏ هي ذاتها التي تستعلي على فرعون؛ وتستهين بالتهديد والوعيد، وتُقبل صابرة محتسبة على التنكيل والتصليب‏.‏ وما تغير في حياتها شيء، ولا تغير من حولها شيء- في عالم المادة- إنما وقعت اللمسة الخفية التي تسلك الكوكب المفرد في الدورة الكبرى‏.‏ وتجمع الذرة التائهة إلى المحور الثابت، وتصل الفرد الفاني بقوة الأزل والأبد‏.‏‏.‏ وقعت اللمسة التي تحوّل الإبرة، فيلتقط القلب إيقاعات القدرة، ويتسمع الضمير أصداء الهداية، وتتلقى البصيرة إشراقات النور‏.‏‏.‏ وقعت اللمسة التي لا تنتظر أي تغيير في الواقع المادي؛ ولكنها هي تغير الواقع المادي؛ وترفع «الإنسان» في عالم الواقع إلى الآفاق التي لم يكن يطمح إليها الخيال‏!‏

ويذهب التهديد‏.‏‏.‏ ويتلاشى الوعيد‏.‏‏.‏ ويمضي الإيمان في طريقه‏.‏ لا يتلفت، ولا يتردد، ولا يحيد‏!‏

ويسدل السياق القرآني الستار على المشهد عند هذا الحد ولا يزيد‏.‏‏.‏ إن روعة الموقف تبلغ ذروتها؛ وتنتهي إلى غايتها‏.‏ وعندئذ يتلاقى الجمال الفني في العرض؛ مع الهدف النفسي للقصة، على طريقة القرآن في مخاطبة الوجدان الإيماني بلغة الجمال الفني، في تناسق لا يبلغه إلا القرآن‏.‏

ولكننا نحن في هذه الظلال ينبغي أن نقف وقفة قصيرة أمام هذا المشهد الباهر الأخاذ‏.‏‏.‏‏.‏

* نقف ابتداء أمام إدراك فرعون وملئه أن إيمان السحرة برب العالمين، رب موسى وهارون، يمثل خطراً على نظام ملكهم وحكمهم؛ لتعارض القاعدة التي يقوم عليها هذا الإيمان، مع القاعدة التي يقوم عليها ذلك السلطان‏.‏‏.‏ وقد عرضنا لهذا الأمر من قبل‏.‏‏.‏ ونريد أن نقرر هذه الحقيقة ونؤكدها‏.‏‏.‏ إنه لا يجتمع في قلب واحد، ولا في بلد واحد، ولا في نظام حكم واحد، أن يكون الله رب العالمين، وأن يكون السلطان في حياة الناس لعبد من العبيد، يباشره بتشريع من عنده وقوانين‏.‏‏.‏ فهذا دين وذلك دين‏.‏‏.‏

* ونقف بعد ذلك أمام إدراك السحرة- بعد أن أشرق نور الإيمان في قلوبهم، وجعل لهم فرقاناً في تصورهم- أن المعركة بينهم وبين فرعون وملئه هي معركة العقيدة؛ وأنه لا ينقم منهم إلا إيمانهم برب العالمين‏.‏

فهذا الإيمان على هذا النحو يهدد عرش فرعون وملكه وسلطانه؛ ويهدد مراكز الملأ من قومه وسلطانهم المستمد من سلطان فرعون‏.‏‏.‏ أو بتعبير آخر مرادف‏:‏ من ربوبية فرعون، ويهدد القيم التي يقوم عليها المجتمع الوثني كله‏.‏‏.‏ وهذا الإدراك لطبيعة المعركة ضروري لكل من يتصدى للدعوة إلى ربوبية الله وحده‏.‏ فهو وحده الذي أهل هؤلاء المؤمنين للاستهانة بما يلقونه في سبيله‏.‏‏.‏ إنهم يقدمون على الموت مستهينين ليقينهم بأنهم هم المؤمنون برب العالمين؛ وأن عدوهم على دين غير دينهم؛ لأنه بمزاولته للسلطان وتعبيد الناس لأمره ينكر ربوبية رب العالمين‏.‏

‏.‏ فهو إذن من الكافرين‏.‏‏.‏ وما يمكن أن يمضي المؤمنون في طريق الدعوة إلى رب العالمين- على ما ينتظرهم فيها من التعذيب والتنكيل- إلا بمثل هذا اليقين بشقيه‏:‏ أنهم هم المؤمنون، وأن أعداءهم هم الكافرون، وأنهم إنما يحاربونهم على الدين، ولا ينقمون منهم إلا الدين‏.‏

*ونقف بعد ذلك أمام الروعة الباهرة لانتصار العقيدة على الحياة‏.‏ وانتصار العزيمة على الألم‏.‏ وانتصار «الإنسان» على الشيطان‏.‏ وهو مشهد بالغ الروعة‏.‏‏.‏ نعترف أننا نعجز عن القول فيه‏.‏ فندعه كما صوره النص القرآني الكريم‏!‏

ثم نعود إلى سياق القصة القرآني‏.‏‏.‏ حيث يرفع الستار عن مشهد رابع جديد‏.‏‏.‏ إنه مشهد التآمر والتناجي بالإثم والتحريض‏.‏ بعد الهزيمة والخذلان في معركة الإيمان والطغيان‏.‏ مشهد الملأ من قوم فرعون يكبر عليهم أن يذهب موسى ناجياً والذين آمنوا معه- وما آمن له إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم‏.‏ كما جاء في موضع آخر من القرآن- فإذا الملأ يتناجون بالشر والإثم، وهم يهيجون فرعون على موسى ومن معه؛ ويخوفونه عاقبة التهاون في أمرهم؛ من ضياع الهيبة والسلطان؛ باستشراء العقيدة الجديدة، في ربوبية الله للعالمين‏.‏ فإذا هو هائج مائج، مهدد متوعد، مستعز بالقوة الغاشمة التي بين يديه، وبالسلطان المادي الذي يرتكن إليه‏!‏

‏{‏وقال الملأ من قوم فرعون‏:‏ أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك‏؟‏ قال‏:‏ سنقتل أبناءهم، ونستحيي نساءهم، وإنا فوقهم قاهرون‏}‏‏.‏‏.‏

إن فرعون لم يكن يدعي الألوهية بمعنى أنه هو خالق هذا الكون ومدبره؛ أو أن له سلطاناً في عالم الأسباب الكونية‏.‏ إنما كان يدعي الألوهية على شعبه المستذل‏!‏ بمعنى أنه هو حاكم هذا الشعب بشريعته وقانونه؛ وأنه بإرادته وأمره تمضي الشؤون وتقضى الأمور‏.‏ وهذا ما يدعيه كل حاكم يحكم بشريعته وقانونه، وتمضي الشؤون وتقضى الأمور بإرادته وأمره- وهذه هي الربوبية بمعناها اللغوي والواقعي- كذلك لم يكن الناس في مصر يعبدون فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له- فقد كانت لهم آلهتهم وكان لفرعون آلهته التي يعبدها كذلك، كما هو ظاهر من قول الملأ له‏:‏ ‏{‏ويذرك وآلهتك‏}‏ وكما يثبت المعروف من تاريخ مصر الفرعونية‏.‏ إنما هم كانوا يعبدونه بمعنى أنهم خاضعون لما يريده بهم، لا يعصون له أمراً، ولا ينقضون له شرعاً‏.‏‏.‏ وهذا هو المعنى اللغوي والواقعي والاصطلاحي للعبادة‏.‏‏.‏ فأيما ناس تلقوا التشريع من بشر وأطاعوه فقد عبدوه، وذلك هو تفسير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لقوله تعالى عن اليهود والنصارى‏:‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏}‏ عندما سمعها منه عدي بن حاتم- وكان نصرانياً جاء ليسلم- فقال‏:‏ يا رسول الله ما عبدوهم‏.‏

فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال؛ فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم»‏.‏‏.‏ ‏(‏أخرجه الترمذي‏)‏‏.‏

أما قول فرعون لقومه‏:‏ ‏{‏ما علمت لكم من إله غيري‏}‏ فيفسره قوله الذي حكاه القرآن عنه‏:‏ ‏{‏اليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي، أفلا تبصرون‏؟‏ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين‏.‏ ولا يكاد يبين‏؟‏ فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين‏؟‏‏}‏ وظاهر أنه كان يوازي بين ما هو فيه من ملك ومن أسورة الذهب التي يحلى بها الملوك، وبين ما فيه موسى من تجرد من السلطان والزينة‏!‏‏.‏ وما قصد بقوله‏:‏ ‏{‏ما علمت لكم من إله غيري‏}‏ إلا أنه هو الحاكم المسيطر الذي يسيرهم كما يشاء؛ والذي يتبعون كلمته بلا معارض‏!‏ والحاكمية على هذا النحو ألوهية كما يفيد المدلول اللغوي‏!‏ وهي في الواقع ألوهية‏.‏ فالإله هو الذي يشرع للناس وينفذ حكمه فيهم‏!‏ سواء قالها أم لم يقلها‏!‏ وعلى ضوء هذا البيان نملك أن نفهم مدلول قول ملأ فرعون‏:‏

‏{‏أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، ويذرك وآلهتك‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

فالإفساد في الأرض- من وجهة نظرهم- هو الدعوة إلى ربوبية الله وحده؛ حيث يترتب عليها تلقائياً بطلان شرعية حكم فرعون ونظامه كله‏.‏ إذ أن هذا النظام قائم على أساس حاكمية فرعون بأمره- أو بتعبير مرادف على أساس ربوبية فرعون لقومه- وإذن فهو- بزعمهم- الإفساد في الأرض، بقلب نظام الحكم، وتغيير الأوضاع القائمة على ربوبية البشر للبشر، وإنشاء وضع آخر مخالف تماماً لهذه الأوضاع، الربوبية فيه لله لا للبشر‏.‏ ومن ثم قرنوا الإفساد في الأرض بترك موسى وقومه لفرعون ولآلهته التي يعبدها هو وقومه‏.‏‏.‏

ولقد كان فرعون إنما يستمد هيبته وسلطانه من الديانة التي تعبد فيها هذه الآلهة‏.‏‏.‏ بزعم أنه الابن الحبيب لهذه الآلهة‏!‏ وهي بنوة ليست حسية‏!‏ فلقد كان الناس يعرفون جيداً أن الفرعون مولود من أب وأم بشريين‏.‏ إنما كانت بنوة رمزية يستمد منها سلطانه وحاكميته‏.‏ فإذا عبد موسى وقومه رب العالمين، وتركوا هذه الآلهة التي يعبدها المصريون، فمعنى هذا هو تحطيم الأساس الذي يستمد منه فرعون سلطانه الروحي على شعبه المستخف؛ الذي إنما يطيعه لأنه هو كذلك فاسق عن دين الله الصحيح‏.‏‏.‏ وذلك كما يقول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏فاستخف قومه فأطاعوه‏.‏‏.‏ إنهم كانوا قوماً فاسقين‏}‏ فهذا هو التفسير الصحيح للتاريخ‏.‏‏.‏ وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه، لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله‏.‏‏.‏ فالمؤمن بالله لا يستخفه الطاغوت، ولا يمكن أن يطيع له أمراً، وهو يعلم أن هذا الأمر ليس من شرع الله‏.‏‏.‏ ومن هنا كان يجيء التهديد لنظام حكم فرعون كله بدعوة موسى- عليه السلام- إلى «رب العالمين» وإيمان السحرة بهذا الدين، وإيمان طائفة من قوم موسى كذلك وعبادتهم لرب العالمين‏.‏

‏.‏ ومن هنا يجيء التهديد لكل وضع يقوم على ربوبية البشر للبشر من الدعوة إلى ربوبية الله وحده‏.‏‏.‏ أو من شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏‏.‏ حين تؤخذ بمدلولها الجدي الذي كان الناس يدخلون به في الإسلام‏.‏ لا بمدلولها الباهت الهزيل الذي صار لها في هذه الأيام‏!‏

ومن هنا كذلك استثارت هذه الكلمات فرعون، وأشعرته بالخطر الحقيقي على نظامه كله فانطلق يعلن عزمه الوحشي البشع‏:‏

‏{‏قال‏:‏ سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون‏}‏‏:‏

وكان بنو إسرائيل قد عانوا من قبل- في إبان مولد موسى- مثل هذا التنكيل الوحشي من فرعون وملئه كما يقول الله تعالى في سورة القصص‏:‏ ‏{‏إن فرعون علا في الأرض، وجعل أهلها شيعاً، يستضعف طائفة منهم، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين‏}‏ إنه الطغيان في كل مكان وفي كل زمان‏.‏ لا فرق بين وسائله اليوم ووسائله قبل عشرات القرون والأعوام‏.‏‏.‏ ‏!‏

ويدع السياق فرعون وملأه يتآمرون، ويسدل الستار على مشهد التآمر والوعيد، ليرفعه على مشهد خامس من مشاهد القصة ندرك منه أن فرعون قد مضى ينفذ الوعيد‏.‏‏.‏ إنه مشهد النبي موسى- عليه السلام- مع قومه، يحدثهم بقلب النبي ولغته، ومعرفته بحقيقة ربه؛ وبسنته وقدره، فيوصيهم باحتمال الفتنة، والصبر على البلية، والاستعانة بالله عليها‏.‏ ويعرفهم بحقيقة الواقع الكوني‏.‏ فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده‏.‏ والعاقبة لمن يتقون الله ولا يخشون أحداً سواه‏.‏‏.‏ فإذا شكوا إليه أن هذا العذاب الذي يحل بهم قد حل بهم من قبل أن يأتيهم، وهو يحل بهم كذلك بعدما جاءهم، حيث لا تبدو له نهاية، ولا يلوح له آخر‏!‏ أعلن لهم رجاءه في ربه أن يهلك عدوهم، ويستخلفهم في الأرض ليبتليهم في أمانة الخلافة‏:‏

‏{‏قال موسى لقومه‏:‏ استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين‏.‏ قالوا‏:‏ أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا‏.‏ قال‏:‏ عسى ربكم أن يهلك عدوكم، ويستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تعملون‏}‏‏.‏

إنها رؤية «النبي» لحقيقة الألوهية وإشراقها في قلبه‏.‏ ولحقيقة الواقع الكوني والقوى التي تعمل فيه‏.‏ ولحقيقة السنة الإلهية وما يرجوه منها الصابرون‏.‏‏.‏

إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد، وهو الملاذ الحصين الأمين‏.‏ وإلا ولي واحد وهو الولي القوي المتين‏.‏ وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه‏.‏ وألا يعجلوا، فهم لا يطلعون الغيب، ولا يعلمون الخير‏.‏‏.‏‏.‏

وإن الأرض لله‏.‏ وما فرعون وقومه إلا نزلاء فيها‏.‏ والله يورثها من يشاء من عباده- وفق سنته وحكمته- فلا ينظر الداعون إلى رب العالمين، إلى شيء من ظواهر الأمور التي تخيل للناظرين أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها‏.‏

فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم منها‏!‏

وإن العاقبة للمتقين‏.‏‏.‏ طال الزمن أم قصر‏.‏‏.‏ فلا يخالج قلوب الداعين إلى رب العالمين قلق على المصير‏.‏ ولا يخايل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد، فيحسبونهم باقين‏.‏‏.‏

إنها رؤية «النبي» لحقائق الوجود الكبير‏.‏‏.‏

ولكن إسرائيل هي إسرائيل‏!‏

‏{‏قالوا‏:‏ أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا‏}‏‏:‏

إنها كلمات ذات ظل‏!‏ وإنها لتشي بما وراءها من تبرم‏!‏ أوذينا قبل مجيئك وما تغير شيء بمجيئك‏.‏ وطال هذا الأذى حتى ما تبدو له نهاية‏!‏

ويمضي النبي الكريم على نهجه‏.‏ يذكرهم بالله، ويعلق رجاءهم به، ويلوح لهم بالأمل في هلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض‏.‏ مع التحذير من فتنة الاستخلاف‏.‏

‏{‏قال‏:‏ عسى ربكم أن يهلك عدوكم، ويستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تعملون‏}‏‏.‏

إنه ينظر بقلب النبي فيرى سنة الله، تجري وفق وعده، للصابرين، وللجاحدين‏!‏ ويرى من خلال سنة الله هلاك الطاغوت وأهله، واستخلاف الصابرين المستعينين بالله وحده‏.‏ فيدفع قومه دفعاً إلى الطريق لتجري بهم سنة الله إلى ما يريد‏.‏‏.‏ وهو يعلمهم- منذ البدء- أن استخلاف الله لهم إنما هو ابتلاء لهم‏.‏ ليس أنهم أبناء الله وأحباؤه- كما زعموا- فلا يعذبهم بذنوبهم‏!‏ وليس جزافاً بلا غاية‏.‏ وليس خلوداً بلا توقيت‏.‏ إنه استخلاف للامتحان‏:‏ ‏{‏فينظر كيف تعملون‏}‏‏.‏‏.‏ وهو سبحانه يعلم ماذا سيكون قبل أن يكون‏.‏ ولكنها سنة الله وعدله ألا يحاسب البشر حتى يقع منهم في العيان، ما هو مكشوف من الغيب لعلمه القديم‏.‏

ويدع السياق موسى وقومه؛ ويسدل عليهم الستار، ليرفعه من الجانب الآخر على مشهد سادس‏:‏ مشهد فرعون وآله، يأخذهم الله بعاقبة الظلم والطغيان؛ ويحقق وعد موسى لقومه، ورجاءه في ربه؛ ويصدق النذير الذي يظلل جو السورة، وتساق القصة كلها لتصديقه‏.‏

ويبدأ المشهد هوناً؛ ولكن العاصفة تتمشى فيه شيئاً فشيئاً، فإذا كان قبيل إسدال الستار دمدمت العاصفة، فدمرت كل شيء، وعصفت بكل شيء، وخلا وجه الأرض من الطاغية وذيول الطاغية، وعلمنا أن بني إسرائيل قد صبروا فلقوا جزاء صبرهم الحسنى، وأن فرعون وآله فجروا فلقوا جزاء فجورهم الدمار وصدق وعد الله ووعيده؛ وجرت سنة الله في أخذ المكذبين بالهلاك بعد أخذهم بالضراء والسراء‏:‏

‏{‏ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون‏.‏ فإذا جاءتهم الحسنة قالوا‏:‏ لنا هذه‏!‏ وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه‏.‏ ألا إنما طائرهم عند الله، ولكن أكثرهم لا يعلمون‏.‏ وقالوا‏:‏ مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين‏.‏ فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم‏.‏

‏.‏ آيات مفصلات‏.‏‏.‏ فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين‏.‏ ولما وقع عليهم الرجز قالوا‏:‏ يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل‏.‏ فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون‏.‏ فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‏.‏ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها؛ وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل؛ بما صبروا‏.‏‏.‏ ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون‏}‏‏.‏‏.‏

لقد مضى فرعون وملؤه إذن في جبروتهم؛ ونفذ فرعون وعيده وتهديده، فقتل الرجال واستحيا النساء‏.‏ ولقد مضى موسى وقومه يحتملون العذاب، ويرجون فرج الله، ويصبرون على الابتلاء‏.‏‏.‏ وعندئذ‏.‏‏.‏ عندما نمحص الموقف‏:‏ إيمان يقابله الكفر‏.‏ وطغيان يقابله الصبر‏.‏ وقوة أرضية تتحدى الله‏.‏‏.‏ عندئذ أخذت القوة الكبرى تتدخل سافرة بين المتجبرين والصابرين‏:‏

‏{‏ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون‏}‏‏.‏‏.‏

إنها إشارة التحذير الأولى‏.‏‏.‏ الجدب ونقص الثمرات‏.‏‏.‏ و«السنين» تطلق في اللغة على سني الجدب والشدة والقحط‏.‏ وهي في أرض مصر، المخصبة المثمرة المعطاء، تبدو ظاهرة تلفت النظر، وتهز القلب، وتثير القلق، وتدعو إلى اليقظة والتفكر؛ لولا أن الطاغوت والذين يستخفهم الطاغوت- بفسقهم عن دين الله- فيطيعونه، لا يريدون أن يتدبروا ولا أن يتفكروا؛ ولا يريدون أن يروا يد الله في جدب الأرض ونقص الثمرات؛ ولا يريدون أن يتذكروا سنن الله ووعده ووعيده؛ ولا يريدون أن يعترفوا بأن هناك علاقة وثيقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة العملية‏.‏‏.‏ لأن هذه العلاقة من عالم الغيب‏.‏‏.‏ وهم أغلظ حساً وأجهل قلباً من أن يروا وراء الواقع المحسوس- الذي تراه البهائم وتحسه ولا ترى غيره ولا تحسه- شيئاً‏!‏ وإذا رأوا شيئاً من عالم الغيب لم يتفطنوا إلى سنة الله الجارية وفق المشيئة الطليقة؛ وإنما نسبوه إلى المصادفات العابرة، التي لا علاقة لها بنواميس الوجود الدائرة‏.‏

وكذلك لم ينتبه آل فرعون إلى اللمسة الموقظة الدالة على رحمة الله بعباده- حتى وهم يكفرون ويفجرون‏.‏ كانت الوثنية وخرافاتها قد أفسدت فطرتهم؛ وقطعت ما بينهم وبين إدراك النواميس الدقيقة الصحيحة التي تصرف هذا الكون، كما تصرف حياة الناس؛ والتي لا يراها ولا يدركها على حقيقتها إلا المؤمنون بالله إيماناً صحيحاً‏.‏‏.‏ الذين يدركون أن هذا الوجود لم يخلق سدى، ولا يمضي عبثاً، إنما تحكمه قوانين صارمة صادقة‏.‏‏.‏ وهذه هي «العقلية العلمية» الحقيقية‏.‏ وهي عقلية لا تنكر «غيب الله» لأنه لا تعارض بين «العلمية» الحقيقية و«الغيبية»؛ ولا تنكر العلاقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة، لأن وراءها الله الفعال لما يريد؛ الذي يريد من عباده الإيمان وهو يريد منهم الخلافة في الأرض، والذي يسن لهم من شريعته ما يتناسق مع القوانين الكونية ليقع التناسق بين حركة قلوبهم وحركتهم في الأرض‏.‏

لم ينتبه آل فرعون إلى العلاقة بين كفرهم وفسقهم عن دين الله، وبغيهم وظلمهم لعباد الله‏.‏‏.‏ وبين أخذهم بالجدب ونقص الثمرات‏.‏‏.‏ في مصر التي تفيض بالخصب والعطاء، ولا تنقص غلتها عن إعالة أهلها إلا لفسوق أهلها وأخذهم بالابتلاء لعلهم يتذكرون‏!‏

لم ينتبهوا لهذه الظاهرة التي شاءت رحمة الله بعباده أن تبرزها لأعينهم‏.‏ ولكنهم كانوا إذا أصابتهم الحسنة والرخاء حسبوها حقاً طبيعياً لهم‏!‏ وإذا أصابتهم السيئة والجدب نسبوا هذا إلى شؤم موسى ومن معه عليهم‏.‏

‏{‏فإذا جاءتهم الحسنة قالوا‏:‏ لنا هذه‏!‏ وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه‏}‏‏.‏‏.‏

وحين تنحرف الفطرة عن الإيمان بالله، فإنها لا ترى يده- سبحانه- في تصريف هذا الوجود؛ ولا ترى قدره الذي تنشأ به الأشياء والأحداث‏.‏ وعندئذ تفقد إدراكها وحساسيتها بالنواميس الكونية الثابتة النافذة‏.‏ فتفسر الحوادث تفسيرات منفصلة منعزلة‏.‏ لا صلة بينها ولا قاعدة ولا ترابط؛ وتهيم مع الخرافة في دروب ملتوية متفرقة؛ لا تلتقي عند قاعدة، ولا تجتمع وفق نظام- وذلك كالذي قاله خروشوف صاحب الاشتراكية «العلمية‏!‏» عن معاكسة «الطبيعة‏!‏» لهم في تعليل نقص الثمرات والغلات‏!‏ وكما يقول الذين يمضون مع هذه «العلمية» المدعاة في تعليل هذه الأحداث‏.‏‏.‏ وهم ينكرون قدر الله‏.‏‏.‏ وفيهم من يدعي بعد استنكار غيب الله وقدر الله أنه «مسلم» وهو ينكر أصول الإيمان بالله‏!‏

وهكذا مضى فرعون وآله يعللون الأحداث‏.‏ الحسنة التي تصيبهم هي من حسن حظهم وهم يستحقونها‏.‏ والسيئة التي تصيبهم هي بشؤم موسى ومن معه عليهم، ومن تحت رأسهم‏!‏

وأصل «التطير» في لغة العرب ما كان الجاهليون في وثنيتهم وشركهم وبعدهم عن إدراك سنن الله وقدره يزاولونه‏.‏‏.‏ فقد كان الرجل منهم إذ اراد أمراً، جاء إلى عش طائر فهيجه عنه، فإذا طار عن يمينه- وهو السانح- استبشر بذلك ومضى في الأمر الذي يريده‏.‏ وإذا طار الطائر عن شماله- وهو البارح- تشاءم به ورجع عما عزم عليه‏!‏ فأبطل الإسلام هذا التفكير الخرافي؛ وأحل محله التفكير «العلمي»- العلمي الصحيح- وأرجع الأمور إلى سنن الله الثابتة في الوجود؛ وإلى قدر الله الذي يحقق هذه السنن في كل مرة تتحقق فيها؛ وأقام الأمور على أسس «علمية» يحسب فيها نية الإنسان وعمله وحركته وجهده؛ وتوضع في موضعها الصحيح، في إطار المشيئة الإلهية الطليقة، وقدره النافذ المحيط‏:‏

‏{‏ألا إنما طائرهم عند الله؛ ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

إن ما يقع لهم مصدره كله واحد‏.‏‏.‏ إنه من أمر الله‏.‏

‏.‏ ومن هذا المصدر تصيبهم الحسنة للابتلاء‏.‏‏.‏ وتصيبهم السيئة للابتلاء‏:‏ ‏{‏ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون‏}‏ ويصيبهم النكال للجزاء‏.‏‏.‏ ولكن أكثرهم لا يعلمون‏.‏‏.‏ كالذين ينكرون غيب الله وقدره في هذه الأيام باسم «العقلية العلمية»‏!‏ وكالذين ينسبون إلى الطبيعة المعاكسة باسم «الاشتراكية العلمية» كذلك‏!‏‏!‏‏!‏ وكلهم جهال‏.‏‏.‏ وكلهم لا يعلمون‏!‏

ويمضى آل فرعون في عتوهم، تأخذهم العزة بالإثم؛ ويزيدهم الابتلاء شماساً وعناداً‏:‏

‏{‏وقالوا‏:‏ مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

فهو الجموح الذي لا تروضه تذكرة؛ ولا يرده برهان؛ ولا يريد أن ينظر ولا أن يتدبر، لأنه يعلن الإصرار على التكذيب قبل أن يواجه البرهان- قطعاً للطريق على البرهان‏!‏- وهي حالة نفسية تصيب المتجبرين حين يدمغهم الحق؛ وتجبههم البينة، ويطاردهم الدليل‏.‏‏.‏ بينما هواهم ومصلحتهم وملكهم وسلطانهم‏.‏‏.‏ كله في جانب آخر غير جانب الحق والبينة والدليل‏!‏

عندئذ تتدخل القوة الكبرى سافرة بوسائلها الجبارة‏:‏

‏{‏فأرسلنا عليهم الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع والدم‏.‏‏.‏ آيات مفصلات‏.‏‏.‏‏}‏

للإنذار والابتلاء‏.‏‏.‏ آيات مفصلات‏.‏‏.‏ واضحة الدلالة، منسقة الخطوات، تتبع الواحدة منها الأخرى، وتصدق اللاحقة منها السابقة‏.‏

ولقد جمع السياق هنا تلك الآيات المفصلة، التي جاءتهم مفرقة‏.‏ واحدة واحدة‏.‏ وهم في كل مرة يطلبون إلى موسى تحت ضغط البلية أن يدعو لهم ربه لينقذهم منها؛ ويعدونه أن يرسلوا معه بني إسرائيل إذا أنجاهم منها، وإذا رفع عنهم هذا «الرجز»، أي العذاب، الذي لا قبل لهم بدفعه‏:‏

‏{‏ولما وقع عليهم الرجز قالوا‏:‏ يا موسى ادع لنا ربك- بما عهد عندك- لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل‏}‏‏.‏‏.‏

وفي كل مرة ينقضون عهدهم، ويعودون إلى ما كانوا فيه قبل رفع العذاب عنهم وفق قدر الله في تأجيلهم إلى أجلهم المقدور لهم‏:‏

‏{‏فلما كشفنا عنهم الرجز- إلى أجل هم بالغوه- إذا هم ينكثون‏}‏‏.‏‏.‏

جمع السياق الآيات كلها، كأنما جاءتهم مرة واحدة‏.‏ وكأنما وقع النكث منهم مرة واحدة‏.‏ ذلك أن التجارب كلها كانت واحدة، وكانت نهايتها واحدة كذلك‏.‏ وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصص يجمع فيها البدايات لتماثلها؛ ويجمع فيه النهايات لتماثلها كذلك‏.‏‏.‏ ذلك أن القلب المغلق المطموس يتلقى التجارب المنوعة وكأنها واحدة؛ لا يفيد منها شيئاً، ولا يجد فيها عبرة‏.‏‏.‏

فأما كيف وقعت هذه الآيات، فليس لنا وراء النص القرآني شيء‏.‏ ولم نجد في الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنها شيئاً‏.‏ ونحن على طريقتنا في هذه «الظلال» نقف عند حدود النص القرآني في مثل هذه المواضع‏.‏ لا سبيل لنا إلى شيء منها إلا من طريق الكتاب أو السنة الصحيحة‏.‏ وذلك تحرزاً من الإسرائيليات والأقوال والروايات التي لا أصل لها؛ والتي تسربت- مع الأسف- إلى التفاسير القديمة كلها، حتى ما ينجو منها تفسير واحد من هذه التفاسير؛ وحتى إن تفسير الإمام ابن جرير الطبري- على نفاسة قيمته- وتفسير ابن كثير كذلك- على عظيم قدره- لم ينجوا من هذه الظاهرة الخطيرة‏.‏

وقد وردت روايات شتى في شأن هذه الآيات عن ابن عباس، وعن سعيد بن جبير، وعن قتادة، وعن ابن إسحاق‏.‏‏.‏ رواها أبو جعفر ابن جرير الطبري في تاريخه وفي تفسيره‏.‏ وهذه واحدة منها‏:‏

«حدثنا ابن حميد، قال‏:‏ حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن المغيرة، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ لما أتى موسى فرعون قال له‏:‏ أرسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه، فأرسل الله عليهم الطوفان- وهو المطر- فصب عليهم منه شيئاً، فخافوا أن يكون عذاباً، فقالوا لموسى‏:‏ ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل‏!‏ فدعا ربه، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل؛ فأنبت لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ‏.‏ فقالوا‏:‏ هذا ما كنا نتمنى‏!‏ فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلأ، فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع‏.‏ فقالوا‏:‏ يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل‏!‏ فدعا ربه، فكشف عنهم الجراد، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل‏!‏ فداسوا وأحرزوا في البيوت؛ فقالوا‏:‏ قد أحرزنا‏!‏ فأرسل الله عليهم القمل- وهو السوس الذي يخرج منه- فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة‏.‏ فقالوا‏:‏ يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل‏!‏ فدعا ربه فكشف عنهم، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل‏.‏ فبينا هو جالس عند فرعون، إذ سمع نقيق ضفدع، فقال لفرعون‏:‏ ما تلقى أنت وقومك من هذا‏!‏ فقال‏:‏ وما عسى أن يكون كيد هذا‏؟‏‏!‏ فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، ويهم أن يتكلم فتثب الضفادع في فيه‏.‏ فقالوا لموسى‏:‏ ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل‏!‏ فكشف عنهم فلم يؤمنوا‏.‏ فأرسل الله عليهم الدم، فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار، أو ما كان في أوعيتهم، وجدوه دماً عبيطاً‏.‏ فشكوا إلى فرعون فقالوا‏:‏ إنا قد ابتلينا بالدم، وليس لنا شراب‏!‏ فقال‏:‏ إنه قد سحركم‏!‏ فقالوا‏:‏ من أين سحرنا، ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا وجدناه دماً عبيطاً‏؟‏ فأتوه فقالوا‏:‏ يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل‏!‏ فدعا ربه، فكشف عنهم، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل»‏.‏

والله أعلم أي ذلك كان‏.‏‏.‏ والصورة التي جاءت بها هذه الآيات لا يؤثر اختلافها في طبيعة هذه الآيات‏.‏ فالله- سبحانه- أرسلها بقدره، في وقت معين، ابتلاء لقوم معينين؛ وفق سنته في أخذ المكذبين بالضراء لعلهم يتضرعون‏.‏

ولقد كان قوم فرعون على وثنيتهم وجاهليتهم؛ وعلى استخفاف فرعون بهم لفسقهم، يلجأون إلى موسى- عليه السلام- ليدعو ربه بما عهد عنده، ليكشف عنهم البلاء‏.‏‏.‏ وإن كانت السلطات الحاكمة بعد ذلك تنكث ولا تستجيب‏.‏ لأنها تقوم على ربوبية فرعون للبشر؛ وتفزع من ربوبية الله لهم‏.‏ إذ أن ذلك معناه هدم نظام الحكم الذي يقوم على حاكمية فرعون لا حاكمية الله؛‏.‏‏.‏ أما أهل الجاهلية الحديثة فإن الله يسلط الآفات على زروعهم، فلا يريدون أن يرجعوا إلى الله أَلبتة‏!‏ وإذا أحس أصحاب الزروع من الفلاحين بيد الله في هذه الآفات،- وهو الشعور الفطري حتى في النفوس الكافرة في ساعات الخطر والشدة‏!‏- واتجهوا إلى الله بالدعاء أن يكشف عنهم البلاء، قال لهم أصحاب «العلمية‏!‏» الكاذبة‏:‏ هذا الاتجاه خرافة «غيبية‏!‏» وتندروا عليهم وسخروا منهم‏!‏ ليردوهم إلى كفر أشد وأشنع من كفر الوثنيين‏!‏

ثم تجيء الخاتمة- وفق سنة الله في أخذ المكذبين بعد الابتلاء بالضراء والسراء- وتقع الواقعة‏.‏ ويدمر الله على فرعون وملئه- بعد إذ أمهلهم وأجلهم إلى أجل هم بالغوه- ويحقق وعده للمستضعفين الصابرين، بعد إهلاك الطغاة المتجبرين‏:‏

‏{‏فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم، بأنهم كذبوا بآياتنا، وكانوا عنها غافلين‏.‏ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه، وما كانوا يعرشون‏}‏‏.‏‏.‏

والسياق يختصر هنا في حادث الإغراق، ولا يفصل أحداثه كما يفصلها في مواضع أخرى من السور‏.‏ ذلك أن الجو هنا هو جو الأخذ الحاسم بعد الإمهال الطويل؛ فلا يعرض لشيء من التفصيل‏.‏‏.‏ إن الحسم السريع هنا أوقع في النفس وأرهب للحس‏!‏

‏{‏فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم‏}‏‏.‏‏.‏

ضربة واحدة، فإذا هم هالكون‏.‏ ومن التعالي والتطاول والاستكبار، إلى الهويّ في الأعماق والأغوار، جزاء وفاقاً‏:‏

‏{‏بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‏}‏‏.‏‏.‏

فيربط بين التكذيب بالآيات والغفلة عنها، وبين هذا المصير المقدور‏.‏ ويقرر أن الأحداث لا تجري مصادفة، ولا تمضي فلتات عابرة، كما يظن الغافلون‏!‏

وتنسيقاً للجو الحاسم يعجل السياق كذلك بعرض الصفحة الأخرى- صفحة استخلاف المستضعفين- ذلك أن استخلاف بني إسرائيل- في الفترة التي كانوا أقرب ما يكونون فيها إلى الصلاح وقبل أن يزيغوا فيكتب عليهم الذل والتشرد- لم يكن في مصر، ولم يكن في مكان فرعون وآله‏.‏

إنما كان في أرض الشام، وبعد عشرات السنوات من حادث إغراق فرعون- بعد وفاة موسى عليه السلام وبعد التيه أربعين سنة كما جاء في السورة الأخرى- ولكن السياق يطوي الزمان والأحداث، ويعجل بعرض الاستخلاف هنا تنسيقاً لصفحتي المشهد المتقابلتين‏:‏

‏{‏وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه، وما كانوا يعرشون‏}‏‏.‏‏.‏

على أننا نحن البشر- الفانين المقيدين بالزمان- إنما نقول «قبل» و«بعد» لأننا نؤرخ للأحداث بوقت مرورها بنا وإدراكنا لها‏!‏ لذلك نقول‏:‏ إن استخلاف القوم الذين كانوا يستضعفون، كان متأخراً عن حادث الإغراق‏.‏‏.‏ ذلك إدراكنا البشري‏.‏‏.‏ فأما الوجود المطلق والعلم المطلق فما «قبل» عنده وما «بعد‏؟‏‏!‏

والصفحة كلها معروضة له سواء، مكشوفة لا يحجبها زمان ولا مكان‏.‏‏.‏ ولله المثل الأعلى‏.‏ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏.‏‏.‏

وهكذا يسدل الستار على مشهد الهلاك والدمار في جانب؛ وعلى مشهد الاستخلاف والعمار في الجانب الآخر‏.‏‏.‏ وإذا فرعون الطاغية المتجبر وقومه مغرقون، وإذا كل ما كانوا يصنعون للحياة، وما كانوا يقيمون من عمائر فخمة قائمة على عمد وأركان، وما كانوا يعرشون من كروم وثمار‏.‏‏.‏ وإذا هذا كله حطام، في ومضة عين، أو في بضع كلمات قصار‏!‏

مثل يضربه الله للقلة المؤمنة في مكة، المطاردة من الشرك وأهله؛ ورؤيا في الأفق لكل عصبة مسلمة تلقى من مثل فرعون وطاغوته، ما لقيه الذين كانوا يستضعفون في الأرض، فأورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها المباركة- بما صبروا- لينظر كيف يعملون‏!‏