فصل: تفسير الآيات رقم (138- 171)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏138- 171‏]‏

‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏138‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏139‏)‏ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏140‏)‏ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏141‏)‏ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏142‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏143‏)‏ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏145‏)‏ سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏146‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏147‏)‏ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏148‏)‏ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏150‏)‏ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏151‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ‏(‏152‏)‏ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏153‏)‏ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ‏(‏154‏)‏ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ‏(‏155‏)‏ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏156‏)‏ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏157‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏158‏)‏ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏159‏)‏ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏160‏)‏ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏161‏)‏ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏162‏)‏ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏163‏)‏ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏164‏)‏ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏165‏)‏ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏166‏)‏ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏167‏)‏ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏168‏)‏ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏169‏)‏ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏170‏)‏ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

في هذا الدرس تمضي قصة موسى- عليه السلام- في حلقة أخرى‏.‏‏.‏ مع قومه بني إسرائيل؛ بعد إذ أنجاهم الله من عدوهم؛ وأغرق فرعون وملأه؛ ودمر ما كانوا يصنعون وما كانوا يعرشون‏.‏‏.‏ إن موسى- عليه السلام- لا يواجه اليوم طاغوت فرعون وملئه؛ فقد انتهت المعركة مع الطاغوت‏.‏‏.‏ ولكنه يواجه معركة أخرى- لعلها أشد وأقسى وأطول أمداً- إنه يواجه المعركة مع «النفس البشرية‏!‏» يواجهها مع رواسب الجاهلية في هذه النفس؛ ويواجهها مع رواسب الذل الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل؛ وملأها بالالتواء من ناحية؛ وبالقسوة من ناحية؛ وبالجبن من ناحية؛ وبالضعف عن حمل التبعات من ناحية‏.‏ وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعاً‏.‏‏.‏ فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلاً؛ ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء لتفادي الأخطار والعذاب، والحركة في الظلام، مع الذعر الدائم والتوقع الدائم للبلاء‏!‏

ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلاً؛ عاشوا في ظل الإرهاب؛ وفي ظل الوثنية الفرعونية كذلك‏.‏ عاشوا يقتل فرعون أبناءهم ويستحيي نسائهم‏.‏ فإذا فتر هذا النوع البشع من الإرهاب الوحشي، عاشوا حياة الذل والسخرة والمطاردة على كل حال‏.‏

وفسدت نفوسهم؛ وفسدت طبيعتهم؛ والتوت فطرتهم؛ وانحرفت تصوراتهم؛ وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب، وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر‏.‏‏.‏ وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية حيثما تعرضت طويلاً للإرهاب والطغيان‏.‏

لقد كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ينظر بنور الله، فيرى حقيقة تركيب النفس البشرية وطبيعتها؛ وهو يقول لعماله على الأمصار موصياً لهم بالناس‏:‏ «ولا تضربوا أبشارهم فتذلوهم»‏.‏‏.‏ كان يعلم أن ضرب البشرة يذل الناس‏.‏ وكان الإسلام في قلبه يريد منه ألا يذل الناس في حكومة الإسلام وفي مملكة الله‏.‏ فالناس في مملكة الله أعزاء، ويجب أن يكونوا أعزاء؛ وألا يضربهم الحكام فيذلوهم، لأنهم ليسوا عبيداً للحكام‏.‏‏.‏ إنما هم عبيد لله أعزاء على غير الله‏.‏‏.‏

ولقد ضربت أبشار بني إسرائل في طاغوت الفرعونية حتى ذلوا‏.‏ بل كان ضرب الأبشار هو أخف ما يتعرضون له من الأذى في فترات الرخاء‏!‏ ولقد ضربت أبشار المصريين كذلك حتى ذلوا هم الآخرون واستخفهم فرعون‏!‏ ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الفرعوني؛ ثم ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الروماني‏.‏‏.‏ ولم يستنقذهم من هذا الذل إلا الإسلام، يوم جاءهم بالحرية فأطلقهم من العبودية للبشر بالعبودية لرب البشر‏.‏‏.‏ فلما أن ضرب ابن عمرو بن العاص- فاتح مصر وحاكمها المسلم- ظهر ابن قبطي من أهل مصر- لعل سياط الرومان كانت آثارها على ظهره ما تزال- غضب القبطي لسوط واحد يصيب ابنه- من ابن فاتح مصر وحاكمها- وسافر شهراً على ظهر ناقة، ليشكو إلى عمر بن الخطاب- الخليفة المسلم- هذا السوط الواحد الذي نال ابنه‏!‏- وكان هو يصبر على السياط منذ سنوات قلائل في عهد الرومان- وكانت هذه هي معجزة البعث الإسلامي لنفوس الأقباط في مصر، وللنفوس في كل مكان- حتى لمن لم يعتنقوا الإسلام- كانت هذه هي معجزة هذا البعث الذي يستنقذ الأرواح من ركام آلاف السنين من الذل القديم، فتنتفض هكذا انتفاضة الكرامة التي أطلقها الإسلام في أرواحهم؛ وما كان غير الإسلام ليطلقها في مثل هذه الأرواح‏.‏

عملية استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذل الطاغوت الفرعوني هي التي سيواجهها موسى عليه السلام في هذه الحلقة- بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر وتجاوزه بهم البحر- وسنرى من خلال القصص القرآني هذه النفوس، وهي تواجه الحرية بكل رواسب الذل؛ وتواجه الرسالة بكل رواسب الجاهلية؛ وتواجه موسى- عليه السلام- بكل الالتواءات والانحرافات والانحلالات والجهالات التي ترسبت فيها على الزمن الطويل‏!‏

وسنرى متاعب موسى- عليه السلام- في المحاولة الضخمة التي يحاولها؛ وثقلة الجبلات التي أخلدت إلى الأرض طويلاً، حتى ما تريد أن تنهض من الوحل الذي تمرغت فيه طويلاً، وقد حسبته الأمر العادي الذي ليس غيره‏!‏

وسنرى من خلال متاعب موسى- عليه السلام- متاعب كل صاحب دعوة، يواجه نفوساً طال عليها الأمد، وهي تستمرئ حياة الذل تحت قهر الطاغوت- وبخاصة إذا كانت هذه النفوس قد عرفت العقيدة التي يدعوها إليها، ثم طال عليها الأمد، فبهتت صورتها، وعادت شكلاً لا روح فيه‏؟‏

إن جهد صاحب الدعوة- في مثل هذه الحال- لهو جهد مضاعف‏.‏ ومن ثم يجب أن يكون صبره مضاعفاً كذلك‏.‏‏.‏ يجب أن يصبر على الالتواءات والانحرافات، وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات؛ ويجب أن يصبر على الانتكاس الذي يفاجئه في هذه النفوس بعد كل مرحلة، والاندفاع إلى الجاهلية عند أول بادرة‏!‏

ولعل هذا جانب من حكمة الله في عرض قصة بني إسرائيل على الأمة المسلمة، في هذه الصورة المفصلة المكررة‏.‏ لترى فيها هذه التجربة‏.‏ كما قلنا من قبل‏.‏ ولعل فيها زاداً لأصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل‏.‏

‏{‏وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم‏.‏ قالوا‏:‏ يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة‏.‏ قال‏:‏ إنكم قوم تجهلون‏.‏ إن هؤلاء مُتَبَّرٌما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون‏.‏ قال‏:‏ أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين‏؟‏ وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب‏:‏ يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم‏}‏‏.‏‏.‏

إنه المشهد السابع في القصة- مشهد بني إسرائيل بعد تجاوز البحر- ونحن فيه وجهاً لوجه أمام طبيعة القوم المنحرفة المستعصية على التقويم؛ بما ترسب فيها من ذلك التاريخ القديم‏.‏

‏.‏ إن العهد لم يطل بهم منذ أن كانوا يسامون الخسف في ظل الوثنية الجاهلية عند فرعون وملئه؛ ومنذ أن أنقذهم نبيهم وزعيمهم موسى- عليه السلام- باسم الله الواحد- رب العالمين- الذي أهلك عدوهم؛ وشق لهم البحر؛ وأنجاهم من العذاب الوحشي الفظيع الذي كانوا يسامون‏.‏‏.‏ إنهم خارجون للتو واللحظة من مصر ووثنيتها؛ ولكن ها هم أولاء ما إن يجاوزوا البحر حتى تقع أبصارهم على قوم وثنيين، عاكفين على أصنام لهم، مستغرقين في طقوسهم الوثنية؛ وإذا هم يطلبون إلى موسى- رسول رب العالمين- الذي أخرجهم من مصر باسم الإسلام والتوحيد، أن يتخذ لهم وثناً يعبدونه من جديد‏!‏

‏{‏وجاوزنا ببني إسرائيل البحر، فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا‏:‏ يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة‏}‏ ‏!‏

إنها العدوى تصيب الأرواح كما تصيب الأجسام‏!‏ ولكنها لا تصيبها حتى يكون لديها الاستعداد والتهيؤ والقابلية‏.‏ وطبيعة بني إسرائيل- كما عرضها القرآن الكريم عرضاً صادقاً دقيقاً أميناً في شتى المناسبات- طبيعة مخلخلة العزيمة، ضعيفة الروح، ما تكاد تهتدي حتى تضل، وما تكاد ترتفع حتى تنحط، وما تكاد تمضي في الطريق المستقيم حتى ترتكس وتنتكس‏.‏‏.‏ ذلك إلى غلظ في الكبد، وتصلب عن الحق، وقساوة في الحس والشعور‏!‏ وها هم أولاء على طبيعتهم تلك، ها هم أولاء ما يكادون يمرون بقوم يعكفون على أصنام لهم حتى ينسوا تعليم أكثر من عشرين عاماً منذ أن جاءهم موسى- عليه السلام- بالتوحيد- فقد ذكرت بعض الروايات أنه أمضى في مصر ثلاثة وعشرين عاماً منذ أن واجه فرعون وملأه برسالته إلى يوم الخروج من مصر مجتازاً ببني إسرائيل البحر- بل حتى ينسوا معجزة اللحظة التي أنقذتهم من فرعون وملئه وأهلكت هؤلاء أجمعين‏!‏ وهؤلاء كانوا وثنيين، وباسم هذه الوثنية استذلوهم- حتى إن الملأ من قوم فرعون ليهيجونه على موسى ومن معه بقولهم‏:‏ ‏{‏أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ ينسون هذا كله ليطلبوا إلى نبيهم‏:‏ رسول رب العالمين أن يتخذ لهم بنفسه‏.‏‏.‏ آلهة‏؟‏ ولو أنهم هم اتخذوا لهم آلهة لكان الأمر أقل غرابة من أن يطلبوا إلى رسول رب العالمين أن يتخذ لهم آلهة‏.‏‏.‏ ولكنما هي إسرائيل‏!‏‏.‏‏.‏

ويغضب موسى- عليه السلام- غضبة رسول رب العالمين، لرب العالمين- يغضب لربه- سبحانه- ويغار على ألوهيته أن يشرك بها قومه‏!‏ فيقول قولته التي تليق بهذا الطلب العجيب‏:‏

‏{‏قال‏:‏ إنكم قوم تجهلون‏}‏‏.‏‏.‏

ولم يقل تجهلون ماذا‏؟‏ ليكون في إطلاق اللفظ ما يعني الجهل الكامل الشامل‏.‏

‏.‏ الجهل من الجهالة ضد المعرفة، والجهل من الحماقة ضد العقل‏!‏ فما ينبعث مثل هذا القول إلا من الجهالة والحمق إلى أبعد الحدود‏!‏ ثم ليشير إلى أن الانحراف عن التوحيد إلى الشرك إنما ينشأ من الجهل والحماقة؛ وأن العلم والتعقل يقود كلاهما إلى الله الواحد؛ وأنه ما من علم ولا عقل يقود إلى غير هذا الطريق‏.‏‏.‏

إن العلم والعقل يواجهان هذا الكون بنواميسه التي تشهد بوجود الخالق المدبر؛ وبوحدانية هذا الخالق المدبر‏.‏ فعنصر التقدير والتدبير بارز في هذه النواميس، وطابع الوحدة ظاهر كذلك فيها وفي آثارها التي يكشفها النظر والتدبر- وفق المنهج الصحيح- وما يغفل عن ذلك كله، أو يعرض عن ذلك كله، إلا الحمقى والجهال‏.‏ ولو ادعوا «العلم» كما يدعيه الكثيرون‏!‏

ويمضي موسى- عليه السلام- يكشف لقومه عن سوء المغبة فيما يطلبون، بالكشف عن سوء عقبى القوم الذين رأوهم يعكفون على أصنام لهم، فأرادوا أن يقلدوهم‏:‏

‏{‏إن هؤلاء متبر ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعملون‏}‏‏.‏‏.‏

إن ما هم فيه من شرك، وعكوف على الآلهة، وحياة تقوم على هذا الشرك، وتتعدد فيها الأرباب، ومن يقوم وراء الأرباب من السدنة والكهنة، ومن حكام يستمدون سلطانهم من هذا الخليط‏.‏‏.‏ إلى آخر ما يتبع الانحراف عن الألوهية الواحدة من فساد في التصورات وفساد في الحياة‏.‏‏.‏ إن هذا كله هالك باطل؛ ينتظره ما ينتظر كل باطل من الهلاك والدمار في نهاية المطاف‏!‏

ثم ترتفع نغمة الغيرة في كلمات موسى- عليه السلام- على ربه والغضب له- سبحانه- والتعجب من نسيان قومه لنعمة الله عليهم- وهي حاضرة ظاهرة-‏:‏

‏{‏قال‏:‏ أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

والتفضيل على العالمين- في زمانهم يتجلى في اختيارهم لرسالة التوحيد من بين المشركين‏.‏ وليس وراء ذلك فضل ولا منة‏.‏ فهذا ما لا يعدله فضل ولا منة‏.‏ كما أنه اختارهم ليورثهم الأرض المقدسة- التي كانت إذا ذاك في أيد مشركة- فكيف بعد هذا كله يطلبون إلى نبيهم أن يطلب لهم إلهاً غير الله؛ وهم في نعمته وفضله يتقلبون‏؟‏‏!‏

وعلى طريقة القرآن الكريم في وصل ما يحكيه عن أولياء الله بما يحكيه عن الله- سبحانه- يستطرد السياق بخطاب من الله تعالى موصول بكلام موسى- عليه السلام- موجه كذلك لقومه‏:‏

‏{‏وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم‏.‏ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم‏}‏‏.‏‏.‏

وفي مثل هذا الوصل في القرآن الكريم، بين كلام الله- سبحانه- وما يحكيه من كلام أوليائه، تكريم أي تكريم لهؤلاء الأولياء لا ريب فيه‏!‏

وهذه المنة التي يمتنها الله على بني إسرائيل- في هذا الموضع- كانت حاضرة في أذهانهم وأعصابهم‏.‏

ولقد كانت هذه المنة وحدها كفيلة بأن تذكر وتشكر‏.‏‏.‏ والله سبحانه وتعالى يوجه قلوبهم لما في ذلك الابتلاء من عبرة‏.‏‏.‏ ابتلاء العذاب وابتلاء النجاة‏.‏ الابتلاء بالشدة والابتلاء بالرخاء‏.‏‏.‏

‏{‏وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم‏}‏‏.‏‏.‏

فما كان شيء في ذلك كله جزافاً بلا تقدير‏.‏ ولكنه الابتلاء للموعظة وللتذكير‏.‏ وللتمحيص والتدريب‏.‏ وللإعذار قبل الأخذ الشديد‏.‏ إن لم يفلح الابتلاء في استصلاح القلوب‏!‏

وينتهي هذا المشهد بين موسى وقومه، ليبدأ المشهد الثامن الذي يليه‏.‏‏.‏ مشهد تهيؤ موسى- عليه السلام- للقاء ربه العظيم؛ واستعداده للموقف الهائل بين يديه في هذه الحياة الدنيا؛ ووصيته لأخيه هارون- عليه السلام- قبل ذهابه لهذا اللقاء العظيم‏:‏

‏{‏وواعدنا موسى ثلاثين ليلة، وأتممناها بعشر، فتم ميقات ربه أربعين ليلة‏.‏‏.‏ وقال موسى لأخيه هارون‏:‏ اخلفني في قومي، وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين‏}‏‏.‏‏.‏

لقد انتهت المرحلة الأولى من مهمة موسى التي أرسل لها‏.‏ انتهت مرحلة تخليص بني إسرائيل من حياة الذل والهوان والنكال والتعذيب بين فرعون وملئه؛ وإنقاذهم من أرض الذل والقهر إلى الصحراء الطليقة، وفي طريقهم إلى الأرض المقدسة‏.‏‏.‏ ولكن القوم لم يكونوا بعد على استعداد لهذه المهمة الكبرى‏.‏‏.‏ مهمة الخلافة في الأرض بدين الله‏.‏‏.‏ ولقد رأينا كيف اشرأبت نفوسهم إلى الوثنية والشرك بمجرد أن رأوا قوماً يعكفون على أصنام لهم؛ وتخلخلت عقيدة التوحيد التي جاءهم بها موسى- عليه السلام- ولم يمض إلا القليل‏!‏ فلم يكن بد من رسالة مفصلة لتربية هؤلاء القوم؛ وإعدادهم لما هم مقبلون عليه من الأمر العظيم‏.‏‏.‏ ومن أجل هذه الرسالة المفصلة كانت مواعدة الله لعبده موسى ليلقاه ويتلقى عنه‏.‏ وكانت هذه المواعدة إعداداً لموسى لنفسه، كي يتهيأ في هذه الليالي للموقف الهائل العظيم، ويستعد لتلقيه‏.‏

وكانت فترة الإعداد ثلاثين ليلة، أضيفت إليها عشر، فبلغت عدتها أربعين ليلة، يروض موسى فيها نفسه على اللقاء الموعود؛ وينعزل فيها عن شواغل الأرض ليستغرق في هواتف السماء؛ ويعتكف فيها عن الخلق ليستغرق فيها في الخالق الجليل؛ وتصفو روحه وتشف وتستضيء؛ وتتقوى عزيمته على مواجهة الموقف المرتقب وحمل الرسالة الموعودة‏.‏‏.‏

وألقى موسى إلى أخيه هارون- قبل مغادرته لقومه واعتزاله واعتكافه- بوصيته تلك‏:‏

‏{‏وقال موسى لأخيه هارون‏:‏ اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك وموسى يعلم أن هارون نبي مرسل من ربه معه‏.‏ ولكن المسلم للمسلم ناصح‏.‏ والنصيحة حق وواجب للمسلم على المسلم‏.‏‏.‏ ثم إن موسى يقدر ثقل التبعة، وهو يعرف طبيعة قومه بني إسرائيل‏!‏‏.‏‏.‏ وقد تلقى هارون النصيحة‏.‏ لم تثقل على نفسه‏!‏ فالنصحية إنما تثقل على نفوس الأشرار لأنها تقيدهم بما يريدون أن ينطلقوا منه؛ وتثقل على نفوس المتكبرين الصغار، الذين يحسون في النصيحة تنقصاً لأقدارهم‏!‏‏.‏

‏.‏ إن الصغير هو الذي يبعد عنه يدك التي تمتد لتسانده؛ ليظهر أنه كبير‏!‏‏!‏‏!‏

فأما قصة الليالي الثلاثين وإتمامها بالعشر الليالي فقال عنها ابن كثير في التفسير‏:‏ «فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة؛ قال المفسرون‏:‏ فصامها موسى- عليه السلام- وطواها، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل العشرة أربعين»‏.‏‏.‏

ثم يأتي السياق للمشهد التاسع‏.‏ المشهد الفذ الذي اختص الله به نبيه موسى- عليه السلام- مشهد الخطاب المباشر بين الجليل- سبحانه- وعبد من عباده‏.‏ المشهد الذي تتصل فيه الذرة المحدودة الفانية بالوجود الأزلي الأبدي بلا وساطة؛ ويطيق الكائن البشري أن يتلقى عن الخالق الأبدي، وهو بعد على هذه الأرض‏.‏‏.‏ ولا ندري نحن كيف‏.‏‏.‏ لا ندري كيف كان كلام الله- سبحانه- لعبده موسى‏.‏ ولا ندري بأية حاسة أو جارحة أو أداة تلقى موسى كلمات الله‏.‏ فتصوير هذا على وجه الحقيقة متعذر علينا نحن البشر المحكومين في تصوراتنا بنصيبنا المحدود من الطاقة المدركة؛ وبرصيدنا المحدود من التجارب الواقعة‏.‏ ولكننا نملك بالسر اللطيف المستمد من روح الله الذي في كياننا أن نستروح وأن نستشرف هذا الأفق السامق الوضيء‏.‏ ثم نقف عند هذا الاستشراف لا نحاول أن نفسده بسؤالنا عن الكيفية، نريد أَن نتصورها بإدراكنا القريب المحدود‏!‏

‏{‏ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه، قال‏:‏ رب أرني أنظر إليك، قال‏:‏ لن تراني، ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني‏.‏ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً، وخر موسى صعقاً‏.‏ فلما أفاق قال‏:‏ سبحانك‏!‏ تبت إليك وأنا أول المؤمنين‏.‏ قال‏:‏ يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي‏.‏ فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين‏.‏ وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء، فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها‏.‏ سأريكم دار الفاسقين‏.‏ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‏.‏ والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم‏.‏ هل يجزون إلا ما كانوا يعملون‏؟‏‏}‏‏.‏

إننا لفي حاجة إلى اسحضار ذلك الموقف الفريد في خيالنا وفي أعصابنا وفي كياننا كله‏.‏‏.‏ في حاجة إلى استحضاره لنستشرف ونحاول الاقتراب من تصوره؛ ولنشعر بشيء من مشاعر موسى عليه السلام فيه‏.‏‏.‏

‏{‏ولما جاء موسى لميقاتنا، وكلمه ربه، قال‏:‏ رب أرني أنظر إليك‏}‏‏.‏‏.‏

إنها الوهلة المذهلة وموسى يتلقى كلمات ربه؛ وروحه تتشوف وتستشرف وتشتاق إلى ما يشوق‏!‏ فينسى من هو، وينسى ما هو، ويطلب ما لا يكون لبشر في هذه الأرض، وما لا يطيقه بشر في هذه الأرض‏.‏

‏.‏ يطلب الرؤية الكبرى وهو مدفوع في زحمة الشوق ودفعة الرجاء ولهفة الحب ورغبة الشهود‏.‏‏.‏ حتى تنبهه الكلمة الحاسمة الجازمة‏:‏

‏{‏قال‏:‏ لن تراني‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يترفق به الرب العظيم الجليل، فيعلمه لماذا لن يراه‏.‏‏.‏ إنه لا يطيق‏.‏‏.‏

‏{‏ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني‏}‏‏.‏‏.‏

والجبل أمكن وأثبت‏.‏ والجبل مع تمكنه وثباته أقل تأثراً واستجابة من الكيان البشري‏.‏‏.‏ ومع ذلك فماذا‏؟‏

‏{‏فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً‏}‏‏.‏‏.‏

فكيف كان هذا التجلي‏؟‏ نحن لا نملك أن نصفه، ولا نملك أن ندركه‏.‏‏.‏ ولا نملك أن نستشرفه إلا بتلك اللطيفة التي تصلنا بالله، حين تشف أرواحنا وتصفو، وتتجه بكليتها إلى مصدرها‏.‏ فأما الألفاظ المجردة فلا تملك أن تنقل شيئاً‏.‏‏.‏ لذلك لا نحاول بالألفاظ أن نصور هذا التجلي‏.‏‏.‏ ونحن أميل إلى اطراح كل الروايات التي وردت في تفسيره؛ وليس منها رواية عن المعصوم- صلى الله عليه وسلم- والقرآن الكريم لم يقل عن ذلك شيئاً‏.‏

‏{‏فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً‏}‏‏.‏‏.‏

وقد ساخت نتوءاته فبدا مسوًّى بالأرض مدكوكاً‏.‏‏.‏ وأدركت موسى رهبة الموقف، وسرت في كيانه البشري الضعيف‏:‏

‏{‏وخر موسى صعقاً‏}‏‏.‏

مغشياً عليه، غائباً عن وعيه‏.‏

‏{‏فلما أفاق‏}‏‏.‏‏.‏

وثاب إلى نفسه، وأدرك مدى طاقته، واستشعر أنه تجاوز المدى في سؤاله‏:‏

‏{‏قال‏:‏ سبحانك‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

تنزهت وتعاليت عن أن ترى بالأبصار وتدرك‏.‏

‏{‏تبت إليك‏}‏‏.‏‏.‏

عن تجاوزي للمدى في سؤالك‏!‏

‏{‏وأنا أول المؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

والرسل دائماً هم أول المؤمنين بعظمة ربهم وجلاله، وبما ينزله عليهم من كلماته‏.‏‏.‏ وربهم يأمرهم أن يعلنوا هذا، والقرآن الكريم يحكي عنهم هذا الإعلان في مواضع منه شتى‏.‏

وأدركت موسى رحمة الله مرة أخرى؛ فإذا هو يتلقى منه البشرى‏.‏‏.‏ بشرى الاصطفاء، مع التوجيه له بالرسالة إلى قومه بعد الخلاص‏.‏‏.‏ وكانت رسالته إلى فرعون وملئه من أجل هذا الخلاص‏:‏

‏{‏قال‏:‏ يا موسى، إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين‏}‏‏.‏‏.‏

ونفهم من قول الله سبحانه لموسى- عليه السلام- ‏{‏اني اصطفيتك على الناس برسالاتي‏}‏‏.‏‏.‏ أن المقصود بالناس الذين اصطفاه عليهم هم أهل زمانه- فالرسل كانوا قبل موسى وبعده- فهو الاصطفاء على جيل من الناس بحكم هذه القرينة‏.‏ أما الكلام فهو الذي تفرد به موسى- عليه السلام- أما أمر الله تعالى لموسى بأخذ ما آتاه، والشكر على الاصطفاء والعطاء، فهو أمر التعليم والتوجيه لما ينبغي أن تقابل به نعمة الله‏.‏ والرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- قدوة للناس؛ وللناس فيهم أسوة؛ وعلى الناس أن يأخذوا ما آتاهم الله بالقبول والشكر استزادة من النعمة؛ وإصلاحاً للقلب؛ وتحرزاً من البطر؛ واتصالاً بالله‏.‏‏.‏

ثم يبين السياق ماذا كان مضمون الرسالة، وكيف أوتيها موسى‏:‏

‏{‏وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء‏}‏‏.‏

وتختلف الروايات والمفسرون في شأن هذه الألواح؛ ويصفها بعضهم أوصافاً مفصلة- نحسب أنها منقولة عن الإسرائيليات التي تسربت إلى التفسير- ولا نجد في هذا كله شيئاً عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنكتفي بالوقوف عند النص القرآني الصادق لا نتعداه‏.‏ وما تزيد تلك الأوصاف شيئاً أو تنقص من حقيقة هذه الألواح‏.‏ أما ما هي وكيف كتبت فلا يعنينا هذا في شيء بما أنه لم يرد عنها من النصوص الصحيحة شيء‏.‏ والمهم هو ما في هذه الألواح‏.‏ إن فيها من كل شيء يختص بموضوع الرسالة وغايتها من بيان الله وشريعته والتوجيهات المطلوبة لإصلاح حال هذه الأمة وطبيعتها التي أفسدها الذل وطول الأمد سواء‏!‏

‏{‏فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها‏}‏‏.‏‏.‏

والأمر الإلهي الجليل لموسى- عليه السلام- أن يأخذ الألواح بقوة وعزم، وأن يأمر قومه أن يأخذوا بما فيها من التكاليف الشاقة بوصفه الأحسن لهم والأصلح لحالهم‏.‏‏.‏ هذا الأمر على هذا النحو فضلاً على أنه يشي بضرورة هذا الأسلوب في أخذ هذه الطبيعة الإسرائيلية، التي أفسدها الذل وطول الأمد، بالعزم والجد، لتحمل تكاليف الرسالة والخلافة، فإنه- كذلك- يوحي بالمنهج الواجب في أخذ كل أمة لكل عقيدة تأتيها‏.‏‏.‏

إن العقيدة أمر هائل عند الله- سبحانه- وأمر هائل في حساب هذا الكون، وقدر الله الذي يصرفه، وأمر هائل في تاريخ «الإنسان» وحياته في هذه الأرض وفي الدار الآخرة كذلك‏.‏‏.‏ والمنهج الذي تشرعه العقيدة في وحدانية الله- سبحانه- وعبودية البشر لربوبيته وحده، منهج يغير أسلوب الحياة البشرية بجملتها، ويقيم هذه الحياة على أسلوب آخر غير الذي تجري عليه في الجاهلية، حيث تقوم ربوبية غير ربوبية الله سبحانه، ذات منهج للحياة كلها غير منهج الله الذي ينبثق من تلك العقيدة‏.‏‏.‏

وأمر له هذه الخطورة عند الله، وفي حساب الكون، وفي طبيعة الحياة وفي تاريخ «الإنسان»‏.‏‏.‏ يجب أن يؤخذ بقوة، وأن تكون له جديته في النفس، وصراحته وحسمه‏.‏ ولا ينبغي أن يؤخذ في رخاوة، ولا في تميع، ولا في ترخص، ذلك أنه أمر هائل في ذاته، فضلاً على أن تكاليفه باهظة لا يصبر عليها من طبيعته الرخاوة والتميع والترخص، أو من يأخذ الأمر بمثل هذه المشاعر‏.‏‏.‏

وليس معنى هذا- بطبيعة الحال- هو التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض‏!‏ فهذا ليس من طبيعة دين الله‏.‏‏.‏ ولكن معناه الجد والهمة والحسم والصراحة‏.‏‏.‏ وهي صفات أخرى ومشاعر أخرى غير مشاعر التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض‏!‏

ولقد كانت طبيعة بني إسرائيل- بصفة خاصة- بعدما أفسدها طول الذل والعبودية في مصر‏.‏ تحتاج إلى هذا التوجيه‏.‏ لذلك نلحظ أن كل الأوامر لبني إسرائيل كانت مصحوبة بمثل هذا التشديد وهذا التوكيد، تربية لهذه الطبيعة الرخوة الملتوية المنحرفة الخاوية، على الاستقامة والجد والوضوح والصراحة‏.‏

ومثل طبيعة بني إسرائيل كل طبيعة تعرضت لمثل ما تعرضوا له من طول العبودية والذل، والخضوع للإرهاب والتعبد للطواغيت، فبدت عليها أعراض الالتواء والاحتيال، والأخذ بالأسهل تجنباً للمشقة‏.‏‏.‏ كما هو الملحوظ في واقع كثير من الجماعات البشرية التي نطالعها في زماننا هذا، والتي تهرب من العقيدة لتهرب من تكاليفها، وتسير مع القطيع؛ لأن السير مع القطيع لا يكلفها شيئاً‏!‏

وفي مقابل أخذ هذا الأمر بقوة يعد الله موسى وقومه أن يمكن لهم في الأرض، ويورثهم دار الفاسقين عن دينه‏:‏

‏{‏سأريكم دار الفاسقين‏}‏‏.‏‏.‏

والأقرب أنها إشارة إلى الأرض المقدسة التي كانت- في ذلك الزمان- في قبضة الوثنيين، وأنها بشارة لهم بدخولها‏.‏‏.‏ وإن كان بنو إسرائيل لم يدخلوها في عهد موسى- عليه السلام- لأن تربيتهم لم تكن قد استكملت، وطبيعتهم تلك لم تكن قد قوّمت، فوقفوا أمام الأرض المقدسة يقولون لنبيهم‏:‏ ‏{‏يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏ ثم لما ألح عليهم الرجلان المؤمنان فيهم اللذان يخافان الله، في الدخول والاقتحام‏!‏ أجابوا موسى بتوقح الجبان- كالدابة التي ترفس سائقها‏!‏-‏:‏ قالوا ‏{‏إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏ مما يصور تلك الطبيعة الخائرة المفككة الملتوية التي كانت تعالجها العقيدة والشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام، وأمر هذا الأمر الألهي الجليل أن يأخذها بقوة، وأن يأمر قومه بحمل تكاليفها الشاقة‏.‏‏.‏

وفي نهاية المشهد والتكليم يجيء بيان لعاقبة الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، ويعرضون عن آيات الله وتوجيهاته، يتضمن تصويراً دقيقاً لطبيعة هذا الصنف من الناس، في نصاعة وجمال التصوير القرآني الفريد لأنماط الطبائع ونماذج النفوس‏:‏

‏{‏سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً‏.‏ ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‏.‏ والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم‏.‏ هل يجزون إلا ما كانوا يعملون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن الله تعالى يعلن عن مشيئته في شأن أولئك الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً‏.‏‏.‏ إنه سيصرفهم عن آياته فلا ينتفعون بها ولا يستجيبون لها‏.‏‏.‏ آياته في كتاب الكون المنظور، وآياته في كتبه المنزلة على رسله‏.‏‏.‏ ذلك بسبب أنهم كذبوا بآياته سبحانه وكانوا عنها غافلين‏.‏

وإن هذا النموذج من الناس ليرتسم من خلال الكلمات القرآنية، كأنما نراه بسماته وحركاته‏!‏

‏{‏الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق‏}‏‏.‏

وما يتكبر عبد من عبيد الله في أرضه بالحق أبداً‏.‏ فالكبرياء صفة الله وحده‏.‏ لا يقبل فيها شريكاً‏.‏ وحيثما تكبر إنسان في الأرض كان ذلك تكبراً بغير الحق‏!‏ وشر التكبر ادعاء حق الربوبية في الأرض على عباد الله، ومزاولة هذا الحق بالتشريع لهم من دون الله؛ وتعبيدهم لهذا التشريع الباطل، ومن هذا التكبر تنشأ سائر ألوان التكبر‏.‏ فهو أساس الشر كله ومنه ينبعث‏.‏ ومن ثم تجيء بقية الملامح‏:‏

‏{‏وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً‏}‏‏.‏‏.‏

فهي جبلة تجنح عن سبيل الرشد حيثما رأته، وتجنح إلى سبيل الغي حيثما لاح لها؛ كأَنما بآلية في تركيبها لا تتخلف‏!‏ وهذه هي السمة التي يرسمها التعبير، ويطبع بها هذا النموذج المتكبر، الذي قضت مشيئة الله أن يجازيه على التكذيب بآيات الله والغفلة عنها بصرفه عن هذه الآيات أبداً‏!‏

وإن الإنسان ليصادف هذا الصنف من الخلق بوصفه هذا وسمته وملامحه، فيرى كأنما يتجنب الرشد ويتبع الغي دون جهد منه، ودون تفكير ولا تدبير‏!‏ فهو يعمى عن طريق الرشد ويتجنبه، وينشرح لطريق الغي ويتبعه‏!‏ وهو في الوقت ذاته مصروف عن آيات الله لا يراها ولا يتدبرها ولا تلتقط أجهزته إيحاءاتها وإيقاعاتها‏!‏

وسبحان الله‏!‏ فمن خلال اللمسات السريعة في العبارة القرآنية العجيبة ينتفض هذا النموذج من الخلق شاخصاً بارزاً حتى ليكاد القارئ يصيح لتوه‏:‏ نعم‏.‏ نعم‏.‏ أعرف هذا الصنف من الخلق‏.‏‏.‏ إنه فلان‏!‏‏!‏‏!‏ وإنه للمعنيّ الموصوف بهذه الكلمات‏!‏‏!‏‏!‏

وما يظلم الله هذا الصنف من الخلق بهذا الجزاء المردي المؤدي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة‏.‏‏.‏ إنما هو الجزاء الحق لمن يكذب بآيات الله ويغفل عنها، ويتكبر في الأرض بغير الحق، ويتجنب سبيل الرشد حيثما رآه، ويهرع إلى سبيل الغي حيثما لاح له‏!‏ فإنما بعمله جوزي؛ وبسلوكه أورد موارد الهلاك‏.‏

‏{‏ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم‏.‏ هل يجزون إلا ما كانوا يعملون‏}‏‏.‏‏.‏

وحبوط الأعمال مأخوذ من قولهم‏:‏ حبطت الناقة‏.‏‏.‏ إذا رعت نباتاً ساماً، فانتفخ بطنها ثم نفقت‏.‏‏.‏ وهو وصف ملحوظ فيه طبيعة الباطل الذي يصدر من المكذبين بآيات الله ولقاء الآخرة‏.‏ فهو ينتفخ حتى يظنه الناس من عظمة وقوةَ‏!‏ ثم ينفق كما تنفق الناقة التي رعت ذلك النبات السام‏!‏

وإنه لجزاء كذلك حق أن تحبط وتهلك أعمال الذين كذبوا بآيات الله ولقاء الآخرة‏.‏‏.‏ ولكن كيف تحبط هذه الأعمال‏؟‏

من ناحية الاعتقاد‏.‏‏.‏ نحن نؤمن بصدق وعيد الله لا محالة؛ أياً كانت الظواهر التي تخالف هذه العاقبة المحتومة‏.‏ فحيثما كذب أحد بآيات الله ولقائه في الآخرة حبط عمله وبطل، وهلك في النهاية وذهب كأن لم يكن‏.‏

ومن ناحية النظر‏.‏‏.‏ نحن نجد السبب واضحاً في حياة البشر‏.‏‏.‏ إن الذي يكذب بآيات الله المبثوثة في صفحات هذا الكون المنشور، أو آياته المصاحبة للرسالات، أو التي يحملها الرسل؛ ويكذب تبعاً لهذا بلقاء الله في اليوم الآخر‏.‏‏.‏ إن هذا الكائن المسيخ روح ضالة شاردة عن طبيعة هذا الكون المؤمن المسلم ونواميسه‏.‏‏.‏ لا تربطه بهذا الكون رابطة‏.‏ وهو منقطع عن دوافع الحركة الصادقة الموصولة بغاية الوجود واتجاهه‏.‏ وكل عمل يصدر عن مثل هذا المسخ المقطوع هو عمل حابط ضائع، ولو بدا أنه قائم وناجح‏.‏ لأنه لا ينبعث عن البواعث الأصيلة العميقة في بنية هذا الوجود؛ ولا يتجه إلى الغاية الكبيرة التي يتجه إليها الكون كله‏.‏ شأنه شأن الجدول الذي ينقطع عن النبع الأول؛ فمآله إلى الجفاف والضياع في يوم قريب أو بعيد‏!‏

والذين لا يرون العلاقة الوثيقة بين تلك القيم الإيمانية وحركة التاريخ الإنساني؛ والذين يغفلون عن قدر الله الذي يجري بعاقبة الذين يتنكرون لهذه القيم‏.‏‏.‏ هؤلاء إنما هم الغافلون الذين أعلن الله- سبحانه- عن مشيئته في أمرهم، بصرفهم عن رؤية آياته، وتدبر سننه‏.‏‏.‏ وقدر الله يتربص بهم وهم عنه غافلون‏.‏‏.‏

والذين يخدعهم ما يرونه في الأمد القصير المحدود، من فلاح بعض الذين يغفلون عن تلك القيم الإيمانية ونجاحهم؛ إنما يخدعهم الانتفاخ الذي يصيب الدابة وقد رعت النبت السام؛ فيحسبونه شحماً وسمنة وعافية وصحة‏.‏‏.‏ والهلاك يترصدها بعد الانتفاخ والحبوط‏!‏

والأمم التي خلت شاهد واقع‏.‏ ولكن الذين سكنوا مساكنهم من بعدهم، لا يأخذون منهم عبرة، ولا يرون سنة الله التي تعمل ولا تتخلف؛ وقدر الله الذي يجري ولا يتوقف‏.‏‏.‏ والله من ورائهم محيط‏.‏‏.‏

وبينما كان موسى- عليه السلام- في حضرة ربه، في ذلك الموقف الفريد، الذي تستشرفه البصائر وتقصر عنه الأبصار؛ وتدركه الأرواح وتحار فيه الأفكار‏.‏‏.‏ كان قوم موسى من بعده يرتكسون وينتكسون، ويتخذون لهم عجلاً جسداً له خوار- لا حياة فيه- يعبدونه من دون الله‏!‏

ويفاجئنا السياق القرآني بنقلة بعيدة من المشهد التاسع إلى المشهد العاشر‏.‏ نقلة هائلة من الجو العلوي السامق المشرق بسبحاته وأشواقه وابتهالاته وكلماته إلى الجو الهابط المتردي بانحرافاته وخرافاته وارتكاساته وانتكاساته‏:‏

‏{‏واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسدا له خوار‏.‏ ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً‏؟‏ اتخذوه وكانوا ظالمين‏.‏ ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا‏:‏ لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين‏}‏‏.‏‏.‏

إنها طبيعة إسرائيل التي ما تكاد تستقيم خطوة حتى تلتوي عن الطريق؛ والتي ما تكاد ترتفع عن مدى الرؤية الحسية في التصور والاعتقاد؛ والتي يسهل انتكاسها كلما فتر عنها التوجيه والتسديد‏.‏

ولقد راودوا نبيهم من قبل أن يجعل لهم إلهاً يعكفون عليه بمجرد رؤيتهم لقوم وثنيين يعكفون على أصنام لهم‏!‏ فصدهم نبيهم عن ذلك الخاطر وردهم رداً شديداً‏.‏

فلما خلوا إلى أنفسهم، ورأوا عجلاً جسدا من الذهب- لا حياة فيه كما تفيد كلمة جسد- صنعه لهم السامري- رجل من السامرة كما يجيء تفصيل قصته في سورة طه- واستطاع أن يجعله بهيئة بحيث يخرج صوتاً كصوت خوار الثيران‏.‏‏.‏ لما رأوا ذلك العجل الجسد طاروا إليه، وتهافتوا عليه حين قال لهم السامري‏:‏ ‏{‏هذا إلهكم وإله موسى‏}‏ الذي خرج موسى لميقاته معه؛ فنسي موسى موعده معه- ربما لزيادة الليالي العشر الأخيرة في الميقات التي لم يكن القوم يعلمونها، فلما زاد عن الثلاثين ولم يرجع قال لهم السامري‏:‏ لقد نسي موسى موعده مع إلهه فهذا إلهه‏!‏- ولم يتذكروا وصية نبيهم لهم من قبل بعبادة ربهم الذي لا تراه الأبصار- رب العالمين- ولم يتدبروا حقيقة هذا العجل الذي صنعه لهم واحد منهم‏!‏‏.‏‏.‏ وإنها لصورة زرية للبشرية تلك التي كان يمثلها القوم‏.‏ صورة يعجب منها القرآن الكريم؛ وهو يعرضها على المشركين في مكة وهم يعبدون الأصنام‏!‏

‏{‏ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً‏؟‏ اتخذوه وكانوا ظالمين‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهل أظلم ممن يعبد خلقاً من صنع أيدي البشر‏.‏ والله خلقهم وما يصنعون‏؟‏‏!‏

وكان فيهم هارون- عليه السلام- فلم يملك لهم رداً عن هذا الضلال السخيف‏.‏ وكان فيهم بعض عقلائهم فلم يملكوا زمام الجماهير الضالة المتدافعة على العجل الجسد- وبخاصة أنه من الذهب معبود إسرائيل الأصيل‏!‏

وأخيراً هدأت الهيجة، وانكشفت الحقيقة، وتبين السخف، ووضح الضلال، وجاءت نوبة الندم والإقرار‏:‏

‏{‏ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا، قالوا‏:‏ لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين‏}‏‏.‏‏.‏

يقال‏:‏ سقط في يده إذا عدم الحيلة في دفع ما هو بصدده من أمر‏.‏‏.‏ ولما رأى بنو إسرائيل أنهم صاروا- بهذه النكسة- إلى موقف لا يملكون دفعه فقد وقع منهم وانتهىّ‏!‏ قالوا قولتهم هذه‏:‏

‏{‏لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه القولة تدل على أنه كان فيهم- إلى ذلك الحين- بقية من استعداد صالح‏.‏ فلم تكن قلوبهم قد قست كما قست من بعد- فهي كالحجارة أو أشد قسوة كما يصفهم من هو أعلم بهم‏!‏- فلما أن تبين لهم ضلالهم ندموا وعرفوا أنه لا ينقذهم من عاقبة ما أتوا إلا أن تدركهم رحمة ربهم ومغفرته‏.‏‏.‏ وهذه علامة طيبة على بقية من استعداد في الفطرة للصلاح‏.‏

كل ذلك وموسى- عليه السلام- بين يدي ربه، في مناجاة وكلام، لا يدري ما أحدث القوم بعده‏.‏‏.‏ إلا أن ينبئه ربه‏.‏‏.‏ وهنا يرفع الستار عن المشهد الحادي عشر‏.‏

‏{‏ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً‏.‏ قال‏:‏ بئسما خلفتموني من بعدي‏!‏ أعجلتم أمر ربكم‏؟‏ وألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجره إليه‏.‏ قال‏:‏ ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني‏.‏ فلا تشمت بي الأعداء، ولا تجعلني مع القوم الظالمين‏.‏ قال‏:‏ رب اغفر لي ولأخي، وأدخلنا في رحمتك، وأنت أرحم الراحمين‏}‏‏.‏‏.‏

لقد عاد موسى إلى قومه غضبان أشد الغضب‏.‏ يبدو انفعال الغضب في قوله وفعله‏.‏‏.‏ يبدو في قوله لقومه‏:‏

‏{‏بئسما خلفتموني من بعدي‏!‏ أعجلتم أمر ربكم‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ويبدو في فعله إذا يأخذ برأس أخيه يجره إليه ويعنفه‏.‏

‏{‏وأخذ برأس أخيه يجره إليه‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

وحق لموسى عليه السلام أن يغضب فالمفاجأة قاسية‏.‏ والنقلة بعيدة‏:‏

‏{‏بئسما خلفتموني من بعدي‏}‏‏.‏‏.‏

تركتكم على الهدى فخلفتموني بالضلال، وتركتكم على عبادة الله فخلفتموني بعبادة عجل جسد له خوار‏!‏

‏{‏أعجلتم أمر ربكم‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

أي استعجلتم قضاءه وعقابه‏!‏ أو ربما كان يعني‏:‏ استعجلتم موعده وميقاته‏!‏

‏{‏وألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجره إليه‏}‏‏.‏‏.‏

وهي حركة تدل على شدة الانفعال‏.‏‏.‏ فهذه الألوح هي التي كانت تحمل كلمات ربه‏.‏ وهو لا يلقيها إلا وقد أفقده الغضب زمام نفسه‏.‏ وكذلك أخذه برأس أخيه يجره إليه‏.‏ وأخوه هو هارون العبد الصالح الطيب‏!‏

فأما هارون فيستجيش في نفس موسى عاطفة الأخوة الرحيمة، ليسكن من غضبه، ويكشف له عن طبيعة موقفه، وأنه لم يقصر في نصح القوم ومحاولة هدايتهم‏:‏

‏{‏قال‏:‏ ابن أم، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهنا ندرك كيف كان القوم في هياجهم واندفاعهم إلى العجل الذهب؛ حتى لهموا بهارون إذ حاول ردهم عن التردي والانتكاس‏:‏

‏{‏ابن أم‏}‏‏.‏‏.‏ بهذا النداء الرقيق وبهذه الوشيجة الرحيمة‏.‏

‏{‏إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني‏}‏‏.‏‏.‏ بهذا البيان المصور لحقيقة موقفه‏.‏

‏{‏فلا تشمت بي الأعداء‏}‏‏.‏‏.‏ وهذه أخرى يستجيش بها هارون وجدان الأخوة الناصرة المعينة، حين يكون هناك الأعداء الذين يشمتون‏!‏

‏{‏ولا تجعلني مع القوم الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

القوم الذين ضلوا وكفروا بربهم الحق؛ فأنا لم أضل ولم أكفر معهم، وأنا بريء منهم‏!‏

عندئذ تهدأ ثائرة موسى أمام هذه الوداعة وأمام هذا البيان‏.‏ وعندئذ يتوجه إلى ربه، يطلب المغفرة له ولأخيه، ويطلب الرحمة من أرحم الراحمين‏:‏

‏{‏قال‏:‏ رب اغفر لي ولأخي، وأدخلنا في رحمتك، وأنت أرحم الراحمين‏}‏‏.‏‏.‏

وهنا يجيء الحكم الفاصل ممن يملكه سبحانه‏!‏ّ ويتصل كلام الله سبحانه بما يحكيه القرآن الكريم من كلام عبده موسى، على النسق الذي يتكرر في السياق القرآني‏:‏

‏{‏إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا‏.‏ وكذلك نجزي المفترين‏.‏ والذين عملوا السيئات، ثم تابوا من بعدها وآمنوا، إن ربك من بعدها لغفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

إنه حكم ووعد‏.‏‏.‏ إن القوم الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا‏.‏‏.‏ ذلك مع قيام القاعدة الدائمة‏:‏ إن الذين يعملون السيئات ثم يتوبون يغفر الله لهم برحمته‏.‏

‏.‏ وإذن فقد علم الله أن الذين اتخذوا العجل لن يتوبوا توبة موصولة؛ وأنهم سيرتكبون ما يخرجهم من تلك القاعدة‏.‏‏.‏ وهكذا كان‏.‏ فقد ظل بنو إسرائيل يرتكبون الخطيئة بعد الخطيئة؛ ويسامحهم الله المرة بعد المرة‏.‏ حتى انتهوا إلى الغضب الدائم واللعنة الأخيرة‏:‏

‏{‏وكذلك نجزي المفترين‏}‏‏.‏‏.‏

كل المفترين إلى يوم الدين‏.‏‏.‏ فهو جزاء متكرر كلما تكررت جريمة الافتراء على الله، من بني إسرائيل، ومن غير بني إسرائيل‏.‏‏.‏

ووعد الله صادق لا محالة‏.‏ وقد كتب على الذين اتخذوا العجل الغضب والذلة‏.‏ وكان آخر ما كتب الله عليهم أن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب‏.‏ فإذا بدا في فترة من فترات التاريخ أنهم يطغون في الأرض؛ ويستعلون بنفوذهم على الأمميين- أو كما يقولون عنهم في التلمود‏:‏ «الجوييم»‏!‏- وأنهم يملكون سلطان المال، وسلطان أجهزة الإعلام؛ وأنهم يقيمون الأوضاع الحاكمة التي تنفذ لهم ما يريدون؛ وأنهم يستذلون بعض عباد الله ويطردونهم من أرضهم وديارهم في وحشية؛ والدول الضالة تساندهم وتؤيدهم‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخر ما نراه في هذا الزمان‏.‏‏.‏ فليس هذا بناقض لوعيد الله لهم، ولا لما كتبه عليهم‏.‏‏.‏ فهم بصفاتهم هذه وأفعالهم يختزنون النقمة في قلوب البشر؛ ويهيئون الرصيد الذي يدمرهم من السخط والغضب‏.‏‏.‏ إنما هم يستطيلون على الناس في فلسطين مثلاً لأن الناس لم يعد لهم دين‏!‏ ولم يعودوا مسلمين‏!‏‏.‏‏.‏ إنهم يتفرقون ويتجمعون تحت رايات قومية جنسية؛ ولا يتجمعون تحت راية العقيدة الإسلامية‏!‏ وهم من ثم يخيبون ويفشلون؛ وتأكلهم إسرائيل‏!‏ غير أن هذه حال لن تدوم‏!‏ إنها فترة الغيبوبة عن السلاح الوحيد، والمنهج الوحيد، والراية الوحيدة، التي غلبوا بها ألف عام، والتي بها يَغلبون، وبغيرها يُغلبون‏!‏ إنها فترة الغيبوبة بحكم السموم التي بثتها اليهودية والصليبية في كيان الأمة «الإسلامية»‏!‏ والتي تحرسها بالأوضاع التي تقيمها في هذه الأرض «الإسلامية»‏.‏‏.‏ ولكن هذا كله لن يدوم‏.‏‏.‏ ستجيء الصحوة من هذه الغيبوبة‏.‏‏.‏ وسيفيء أخلاف المسلمين إلى سلاح أسلافهم المسلمين‏.‏‏.‏ ومن يدري فقد تصحو البشرية كلها يوماً على طغيان اليهود‏!‏ لتحقق وعيد الله لهم، وتردهم إلى الذلة التي كتبها الله عليهم‏.‏‏.‏ فإن لم تصح البشرية فسيصحوا أخلاف المسلمين‏.‏‏.‏ هذا عندنا يقين‏.‏‏.‏

وكانت هذه وقفة للتعقيب على مصير الذين اتخذوا العجل وافتروا على الله، تتوسط المشهد ثم يمضي السياق يكمل المشهد‏:‏

‏{‏ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح، وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون‏}‏‏.‏‏.‏

والتعبير القرآني يشخص الغضب‏.‏ فكأنما هو حي‏.‏ وكأنما هو مسلط على موسى، يدفعه ويحركه‏.‏‏.‏ حتى إذا ‏{‏سكت‏}‏ عنه، وتركه لشأنه‏!‏ عاد موسى إلى نفسه، فأخذ الألواح التي كان قد ألقاها بسبب دفع الغضب له وسيطرته عليه‏.‏

‏.‏ ثم يقرر السياق مرة أخرى أن في هذه الألواح هدى، وأن فيها رحمة، لمن يخشون ربهم ويرهبونه؛ فتتفتح قلوبهم للهدى، وينالون به الرحمة‏.‏‏.‏ والهدى ذاته رحمة‏.‏ فليس أشقى من القلب الضال، الذي لا يجد النور‏.‏ وليس أشقى من الروح الشارد الحائر الذي لا يجد الهدى ولا يجد اليقين‏.‏‏.‏ ورهبة الله وخشيته هي التي تفتح القلوب للهدى؛ وتوقظها من الغفلة، وتهيئها للاستجابة والاستقامة‏.‏‏.‏ إن الله خالق هذه القلوب هو الذي يقرر هذه الحقيقة‏.‏ ومن أعلم بالقلوب من رب القلوب‏؟‏

ويمضي السياق بالقصة، فإذا نحن أمام مشهد جديد‏.‏ المشهد الثاني عشر‏.‏ مشهد موسى وسبعين من قومه مختارين للقاء ربه‏:‏

‏{‏واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا‏.‏ فلما أخذتهم الرجفة قال‏:‏ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي‏.‏ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا‏؟‏ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء‏.‏ أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين‏.‏ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة، إنا هدنا إليك‏.‏ قال‏:‏ عذابي أصيب به من أشاء، ورحمتي وسعت كل شيء، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون‏.‏ الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم‏.‏ فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون‏}‏‏.‏‏.‏

وتختلف الروايات في سبب هذا الميقات‏.‏ وربما كان لإعلان التوبة، وطلب المغفرة لبني إسرائيل مما وقعوا فيه من الكفر والخطيئة- وفي سورة البقرة أن التكفير الذي فرض على بني إسرائيل هو‏:‏ أن يقتلوا أنفسهم، فيقتل المطيع منهم من عصى؛ وقد فعلوا حتى أذن لهم الله بالكف عن ذلك، وقبل كفارتهم- وهؤلاء السبعون كانوا من شيوخهم ومن خيرتهم‏.‏ أو كانوا هم خلاصتهم التي تمثلهم، فصيغة العبارة‏:‏ ‏{‏واختار موسى قومه سبعين رجلاً‏.‏‏.‏ لميقاتنا‏}‏ تجعلهم بدلاً من القوم جميعاً في الاختيار‏.‏‏.‏

ومع هذا فما الذي كان من هؤلاء المختارين‏؟‏ لقد أخذتهم الرجفة فصعقوا‏.‏ ذلك أنهم- كما ورد في السورة الأخرى طلبوا إلى موسى أن يروا الله جهرة، ليصدقوه فيما جاءهم به من الفرائض في الألواح‏.‏‏.‏ وهي شاهدة بطبيعة بني إسرائيل، التي تشمل خيارهم وشرارهم، ولا يتفاوتون فيها إلا بمقدار، وأعجب شيء أن يقولوها وهم في مقام التوبة والاستغفار‏!‏

فأما موسى- عليه السلام- فقد توجه إلى ربه، يتوسل إليه، ويطلب المغفرة والرحمة، ويعلن الخضوع والاعتراف بالقدرة‏:‏

‏{‏فلما أخذتهم الرجفة قال‏:‏ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي‏}‏‏.‏‏.‏

فهو التسليم المطلق للقدرة المطلقة من قبل ومن بعد، يقدمه موسى بين يدي دعائه لربه أن يكشف عن القوم غضبه؛ وأن يرد عنهم فتنته، وألا يهلكهم بفعلة السفهاء منهم‏.‏

‏{‏أتهلكنا بما فعل السفهاء منا‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وقد جاء الرجاء بصيغة الاستفهام‏.‏ زيادة في طلب استبعاد الهلاك‏.‏‏.‏ أي‏:‏ رب إنه لمستبعد على رحمتك أن تهلكنا بما فعل السفهاء منا‏.‏

‏{‏إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء‏}‏‏.‏‏.‏

يعلن موسى- عليه السلام- إدراكه لطبيعة ما يقع؛ ومعرفته أنها الفتنة والابتلاء؛ فما هو بغافل عن مشيئة ربه وفعله كالغافلين‏!‏‏.‏ وهذا هو الشأن في كل فتنة‏:‏ أن يهدي الله بها من يدركون طبيعتها ويأخذونها على أنها ابتلاء من ربهم وامتحان يجتازونه صاحين عارفين‏.‏ وأن يضل بها من لا يدركون هذه الحقيقة ومن يمرون بها غافلين، ويخرجون منها ضالين‏.‏‏.‏ وموسى- عليه السلام- يقرر هذا الأصل تمهيداً لطلب العون من الله على اجتياز الابتلاء‏:‏

‏{‏أنت ولينا‏}‏‏.‏‏.‏

فامنحنا عونك ومددك لاجتياز فتنتك، ونيل مغفرتك ورحمتك‏:‏

‏{‏فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة، إنا هدنا إليك‏}‏‏.‏‏.‏

رجعنا إليك، والتجأنا إلى حماك، وطلبنا نصرتك‏.‏

وهكذا قدم موسى- عليه السلام- لطلب المغفرة والرحمة، بالتسليم لله والاعتراف بحكمة ابتلائه، وختمه بإعلان الرجعة إلى الله والالتجاء إلى رحابه‏.‏ فكان دعاؤه نموذجاً لأدب العبد الصالح في حق الرب الكريم؛ ونموذجاً لأدب الدعاء في البدء والختام‏.‏

ثم يجيئه الجواب‏:‏

‏{‏قال‏:‏ عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء‏}‏‏.‏‏.‏

تقريراً لطلاقة المشيئة، التي تضع الناموس اختياراً، وتجريه اختياراً‏:‏ وإن كانت لا تجريه إلا بالعدل والحق على سبيل الاختيار أيضاً، لأن العدل صفة من صفاته تعالى لا تتخلف في كل ما تجري به مشيئته، لأنه هكذا أراد‏.‏‏.‏ فالعذاب يصيب به من يستحق عنده العذاب‏.‏‏.‏ وبذلك تجري مشيئته‏.‏‏.‏ أما رحمته فقد وسعت كل شيء؛ وهي تنال من يستحقها عنده كذلك‏:‏ وبذلك تجري مشيئته، ولا تجري مشيئته- سبحانه- بالعذاب أو بالرحمة جزافاً أو مصادفة‏.‏ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً‏.‏

وبعد تقرير القاعدة يطلع الله نبيه موسى على طرف من الغيب المقبل، إذا يطلعه على نبأ الملة الأخيرة التي سيكتب الله لها رحمته التي وسعت كل شيء‏.‏‏.‏ بهذا التعبير الذي يجعل رحمة الله أوسع من ذلك الكون الهائل الذي خلقه، والذي لا يدرك البشر مداه‏.‏‏.‏ فيالها من رحمة لا يدرك مداها إلا الله‏!‏

‏{‏فسأكتبها للذين يتقون، ويؤتون الزكاة، والذين هم بآياتنا يؤمنون‏.‏ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل؛ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم‏.‏ فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون‏}‏‏.‏

وإنه لنبأ عظيم، يشهد بأن بني إسرائيل قد جاءهم الخبر اليقين بالنبي الأمي، على يدي نبيهم موسى ونبيهم عيسى- عليهما السلام- منذ أمد بعيد‏.‏

جاءهم الخبر اليقين ببعثه، وبصفاته، وبمنهج رسالته، وبخصائص ملته‏.‏ فهو «النبي الأمي»، وهو يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وهو يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، وهو يضع عمن يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم، فيرفعها عنهم النبي الأمي حين يؤمنون به‏.‏ وأتباع هذا النبي يتقون ربهم، ويخرجون زكاة أموالهم، ويؤمنون بآيات الله‏.‏‏.‏ وجاءهم الخبر اليقين بأن الذين يؤمنون بهذا النبي الأمي؛ ويعظمونه ويوقرونه، وينصرونه ويؤيدونه، ويتبعون النور الهادي الذي معه ‏{‏أولئك هم المفلحون‏}‏‏.‏‏.‏

وبذلك البلاغ المبكر لبني إسرائيل- على يد نبيهم موسى عليه السلام- كشف الله سبحانه عن مستقبل دينه، وعن حامل رايته، وعن طريق أتباعه، وعن مستقر رحمته‏.‏‏.‏ فلم يبق عذر لأتباع سائر الديانات السابقة، بعد ذلك البلاغ المبكر بالخبر اليقين‏.‏

وهذا الخبر اليقين من رب العالمين لموسى عليه السلام- وهو والسبعون المختارون من قومه في ميقات ربه- يكشف كذلك عن مدى جريمة بني إسرائيل في استقبالهم لهذا النبي الأمي وللدين الذي جاء به‏.‏ وفيه التخفيف عنهم والتيسير، إلى جانب ما فيه من البشارة بالفلاح للمؤمنين‏!‏

إنها الجريمة عن علم وعن بينة‏!‏ والجريمة التي لم يألوا فيها جهداً‏.‏‏.‏ فقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل كانوا هم ألأم خلق وقف لهذا النبي وللدين الذي جاء به‏.‏‏.‏ اليهود أولاً والصليبيون أخيراً‏.‏‏.‏ وأن الحرب التي شنوها على هذا النبي ودينه وأهل دينه كانت حرباً خبيثة ماكرة لئيمة قاسية؛ وأنهم أصروا عليها ودأبوا؛ وما يزالون يصرون ويدأبون‏!‏

والذي يراجع- فقط- ما حكاه القرآن الكريم من حرب أهل الكتاب للإسلام والمسلمين- وقد سبق منه في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة ما سبق- يطلع على المدى الواسع المتطاول الذي أداروا فيه المعركة مع هذا الدين في عناد لئيم‏!‏

والذي يراجع التاريخ بعد ذلك- منذ اليوم الذي استعلن فيه الإسلام بالمدينة، وقامت له دولة- إلى اللحظة الحاضرة، يدرك كذلك مدى الإصرار العنيد على الوقوف لهذا الدين وإرادة محوه من الوجود‏!‏

ولقد استخدمت الصهيونية والصليبية في العصر الحديث من ألوان الحرب، والكيد والمكر أضعاف ما استخدمته طوال القرون الماضية‏.‏‏.‏ وهي في هذه الفترة بالذات تعالج إزالة هذا الدين بجملته؛ وتحسب أنها تدخل معه في المعركة الأخيرة الفاصلة‏.‏‏.‏ لذلك تستخدم جميع الأساليب التي جربتها في القرون الماضية كلها- بالإضافة إلى ما استحدثته منها- جملة واحدة‏!‏

ذلك في الوقت الذي يقوم ممن ينتسبون إلى الإسلام ناس يدعون في غرارة ساذجة إلى التعاون بين أهل الإسلام وأهل بقية الأديان للوقوف في وجه تيار المادية والإلحاد‏!‏ أهل بقية الأديان الذين يذبحون من ينتسبون إلى الإسلام في كل مكان؛ ويشنون عليهم حرباً تتسم بكل بشاعة الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في الأندلس- سواء عن طريق أجهزتهم المباشرة في المستعمرات في آسيا وإفريقية أو عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويسندونها في البلاد ‏(‏المستقلة‏!‏‏)‏ لتحل محل الإسلام عقائد ومذاهب علمانية‏!‏ تنكر «الغيبية» لأنها «علمية»‏!‏ و«تطوّر» الأخلاق لتصبح هي أخلاق البهائم التي ينزو بعضها على بعض في «حرية‏!‏»، و«تطوّر» كذلك الفقه الإسلامي، وتقيم له مؤتمرات المستشرقين لتطويره‏.‏

كيما يحل الربا والاختلاط الجنسي وسائر المحرمات الإسلامية‏!‏‏!‏

إنها المعركة الوحشية الضارية يخوضها أهل الكتاب مع هذا الدين، الذي بشروا به وبنبيه منذ ذلك الأمد البعيد‏.‏ ولكنهم تلقوه هذا التلقي اللئيم الخبيث العنيد‏!‏

وقبل أن يمضى السياق إلى مشهد جديد من مشاهد القصة، يقف عند هذا البلاغ المبكر، يوجه الخطاب إلى النبي الأمي- صلى الله عليه وسلم- يأمره بإعلان الدعوة إلى الناس جميعاً، تصديقاً لوعد الله القديم‏:‏

‏{‏قل‏:‏ يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً، الذي له ملك السماوات والأرض، لا إله إلا هو يحيي ويميت‏.‏ فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، واتبعوه لعلكم تهتدون‏}‏‏.‏‏.‏

إنها الرسالة الأخيرة، فهي الرسالة الشاملة، التي لا تختص بقوم ولا أرض ولا جيل‏.‏‏.‏ ولقد كانت الرسالات قبلها رسالات محلية قومية محدودة بفترة من الزمان- ما بين عهدي رسولين- وكانت البشرية تخطو على هدى هذه الرسالات خطوات محدودة، تأهيلاً لها للرسالة الأخيرة‏.‏ وكانت كل رسالة تتضمن تعديلاً وتحويراً في الشريعة يناسب تدرج البشرية‏.‏ حتى إذا جاءت الرسالة الأخيرة جاءت كاملة في أصولها، قابلة للتطبيق المتجدد في فروعها، وجاءت للبشر جميعاً، لأنه ليست هنالك رسالات بعدها للأقوام والأجيال في كل مكان‏.‏ وجاءت وفق الفطرة الإنسانية التي يلتقي عندها الناس جميعاً‏.‏ ومن ثم حملها النبي الأمي الذي لم يدخل على فطرته الصافية- كما خرجت من يد الله- إلا تعليم الله‏.‏ فلم تشب هذه الفطرة شائبة من تعليم الأرض ومن أفكار الناس‏!‏ ليحمل رسالة الفطرة إلى فطرة الناس جميعاً‏:‏

‏{‏قل‏:‏ يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه الآية التي يؤمر فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يواجه برسالته الناس جميعاً، هي آية مكية في سورة مكية‏.‏‏.‏ وهي تجبه المزورين من أهل الكتاب، الذين يزعمون أن محمداً- صلى الله عليه وسلم- لم يكن يدور في خلده وهو في مكة أن يمد بصره برسالته إلى غير أهلها، وأنه إنما بدأ يفكر في أن يتجاوز بها قريشاً، ثم يجاوز بها العرب إلى دعوة أهل الكتاب‏.‏

ثم يجاوز بها الجزيرة العربية إلى ما وراءها‏.‏‏.‏ كل أولئك بعد أن أغراه النجاح الذي ساقته إليه الظروف‏!‏ وإن هي إلا فرية من ذيول الحرب التي شنوها قديماً على هذا الدين وأهله‏.‏ وما يزالون ماضين فيها‏!‏

وليست البلية في أن يرصد أهل الكتاب كيدهم كله لهذا الدين وأهله‏.‏ وأن يكون «المستشرقون» الذين يكتبون مثل هذا الكذب هم طليعة الهجوم على هذا الدين وأهله‏.‏‏.‏ إنما البلية الكبرى أن كثيراً من السذج الأغرار ممن يسمون أنفسهم بالمسلمين يتخذون من هؤلاء المزوّرين على نبيهم ودينهم‏.‏ المحاربين لهم ولعقيدتهم، أساتذة لهم، يتلقون عنهم في هذا الدين نفسه، ويستشهدون بما يكتبونه عن تاريخ هذا الدين وحقائقه، ثم يزعم هؤلاء السذج الأغرار لأنفسهم أنهم «مثقفون‏!‏»‏.‏‏.‏

ونعود إلى السياق القرآني بعد تكليف الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يعلن رسالته للناس جميعاً‏.‏ فنجد بقية التكليف هي تعريف الناس جميعاً بربهم الحق سبحانه‏:‏

‏{‏الذي له ملك السماوات والأرض، لا إله إلا هو، يحيي ويميت‏}‏‏.‏‏.‏

إنه- صلى الله عليه وسلم- رسول للناس جميعاً من ربهم الذي يملك هذا الوجود كله- وهم من هذا الوجود- والذي يتفرد بالألوهية وحده، فالكل له عبيد‏.‏ والذي تتجلى قدرته وألوهيته في أنه الذي يحيي ويميت‏.‏‏.‏

والذي يملك الوجود كله، والذي له الألوهية على الخلائق وحده، والذي يملك الحياة والموت للناس جميعاً‏.‏ هو الذي يستحق أن يدين الناس بدينه، الذي يبلغه إليهم رسوله‏.‏‏.‏ فهو تعريف للناس بحقيقة ربهم، لتقوم على هذا التعريف عبوديتهم له، وطاعتهم لرسوله‏:‏

‏{‏فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، واتبعوه لعلكم تهتدون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا النداء الأخير في هذا التعقيب يتضمن لفتات دقيقة ينبغي أن نقف أمامها لحظات‏:‏

* إنه يتضمن ابتداء ذلك الأمر بالإيمان بالله ورسوله‏.‏‏.‏ وهو ما تتضمنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، في صورة أخرى من صور هذا المضمون الذي لا يقوم بدونه إيمان ولا إسلام‏.‏‏.‏ ذلك أن هذا الأمر بالإيمان بالله سبقه في الآية التعريف بصفاته تعالى‏:‏ ‏{‏الذي له ملك السماوات والأرض، لا إله إلا هو، يحيي ويميت‏}‏‏.‏‏.‏ فالأمر بالإيمان هو أمر بالإيمان بالله الذي هذه صفاته الحقة‏.‏ كما سبقه التعريف برسالة النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى الناس جميعاً‏.‏

* ثم يتضمن ثانية أن النبي الأمي- صلوات الله وسلامه عليه- يؤمن بالله وكلماته‏.‏‏.‏ ومع أن هذه بديهية، إلا أن هذه اللفتة لها مكانها ولها قيمتها‏.‏ فالدعوة لا بد أن يسبقها إيمان الداعي بحقيقة ما يدعو إليه، ووضوحه في نفسه، ويقينه منه‏.‏ لذلك يجيء وصف النبي المرسل إلى الناس جميعاً بأنه ‏{‏الذي يؤمن بالله وكلماته‏}‏‏.‏

‏.‏ وهو نفس ما يدعو الناس إليه ونصه‏.‏‏.‏

* ثم يتضمن أخيراً لفتة إلى مقتضى هذا الإيمان الذي يدعوهم إليه‏.‏ وهو اتباعه فيما يأمر به ويشرعه، واتباعه كذلك في سنته وعمله‏.‏ وهو ما يقرره قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏واتبعوه لعلكم تهتدون‏}‏‏.‏‏.‏ فليس هناك رجاء في أن يهتدي الناس بما يدعوهم إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا باتباعه فيه‏.‏ ولا يكفي أن يؤمنوا به في قلوبهم ما لم يتبع الإيمان الاتباع العملي‏.‏‏.‏ وهو الإسلام‏.‏‏.‏

إن هذا الدين يعلن عن طبيعته وعن حقيقته في كل مناسبة‏.‏‏.‏ إنه ليس مجرد عقيدة تستكن في الضمير‏.‏‏.‏ كما أنه كذلك ليس مجرد شعائر تؤدى وطقوس‏.‏‏.‏ إنما هو الاتباع الكامل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما يبلغه عن ربه، وفيما يشرعه ويسنه‏.‏‏.‏ والرسول لم يأمر الناس بالإيمان بالله ورسوله فحسب‏.‏ ولم يأمرهم كذلك بالشعائر التعبدية فحسب ولكنه أبلغهم شريعة الله في قوله وفعله‏.‏ ولا رجاء في أن يهتدي الناس إلا إذا اتبعوه في هذا كله‏.‏‏.‏ فهذا هو دين الله‏.‏‏.‏ وليس لهذا الدين من صورة أخرى إلا هذه الصورة التي تشير إليها هذه اللفتة‏:‏ ‏{‏واتبعوه لعلكم تهتدون‏}‏ بعد الأمر بالإيمان بالله ورسوله‏.‏‏.‏ ولو كان الأمر في هذا الدين أمر اعتقاد وكفى، لكان في قوله‏:‏ ‏{‏فآمنوا بالله ورسوله‏}‏ الكفاية‏!‏

ثم تمضي القصة في سياقها بعد الرجفة التي أخذت رجالات بني إسرائيل‏.‏‏.‏ ولا يذكر السياق هنا ماذا كان من أمرهم بعد دعوات موسى- عليه السلام- وابتهالاته‏.‏ ولكنا نعرف من سياق القصة في سور أخرى أن الله أحياهم بعد الرجفة، فعادوا إلى قومهم مؤمنين‏.‏

وقبل أن يمضي السياق هنا في حلقة جديدة، يقرر حقيقة عن قوم موسى‏.‏‏.‏ أنهم لم يكونوا جميعاً ضالين‏:‏

‏{‏ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون‏}‏‏.‏‏.‏

هكذا كانوا على عهد موسى؛ وهكذا كانت منهم طائفة تهدي بالحق وتحكم بالعدل من بعد موسى‏.‏‏.‏ ومن هؤلاء من استقبلوا رسالة النبي الأمي في آخر الزمان بالقبول والاستسلام، لما يعرفونه عنها في التوراة التي كانت بين أيديهم على مبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي أولهم الصحابي الجليل‏:‏ عبد الله بن سلام رضي الله عنه‏.‏ الذي كان يواجه يهود زمانه بما عندهم في التوراة عن النبي الأمي، وما عندهم كذلك من شرائع تصدقها شرائع الإسلام‏.‏

وبعد تقرير تلك الحقيقة تمضي القصة في أحداثها بعد الرجفة‏:‏

‏{‏وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً؛ وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه‏:‏ أن اضرب بعصاك الحجر، فانبجست منه اثنتا عشر عيناً‏.‏ قد علم كل أناس مشربهم‏.‏ وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى‏.‏ كلوا من طيبات ما رزقناكم‏.‏

وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

إنها رعاية الله ما زالت تظلل موسى وقومه- بعد أن كفروا فعبدوا العجل، ثم كفروا عن الخطيئة كما أمرهم الله، فتاب عليهم‏.‏ وبعد أن طلبوا رؤية الله جهرة، فأَخذتهم الرجفة، ثم استجاب الله لدعاء موسى فأحياهم‏.‏‏.‏ تتجلى هذه الرعاية في تنظيمهم حسب فروعهم في اثنتي عشرة أمة- أي جماعة كبيرة- ترجع كل جماعة منها إلى حفيد من حفداء جدهم يعقوب- وهو إسرائيل- وقد كانوا محتفظين بأنسابهم على الطريقة القبلية‏:‏

‏{‏وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً‏}‏‏.‏‏.‏

وتبدو في تخصيص عين تشرب منها كل جماعة وتعيينها لهم، فلا يعتدي بعضهم على بعض‏.‏

‏{‏وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه‏:‏ أن اضرب بعصاك الحجر، فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً‏.‏ قد علم كل أناس مشربهم‏.‏‏.‏‏}‏

وتبدو في تظليل الغمام لهم من شمس هذه الصحراء المحرقة، وإنزال المن- وهو نوع من العسل البري- والسلوى، وهو طائر السماني، وتيسيره لهم ضماناً لطعامهم بعد ضمان شرابهم‏:‏

‏{‏وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى‏}‏‏.‏‏.‏

وتبدو في إباحة كل هذه الطيبات لهم، حيث لم يكن قد حرم عليهم بعد شيء بسبب عصيانهم‏:‏

‏{‏كلوا من طيبات ما رزقناكم‏}‏‏.‏‏.‏

والرعاية واضحة في هذا كله؛ ولكن هذه الجبلة ما تزال بعد عصية على الهدى والاستقامة كما يبدو من ختام هذه الآية التي تذكر كل هذه النعم وكل هذه الخوارق‏:‏ من تفجير العيون لهم من الصخر بضربة من عصا موسى‏.‏ ومن تظليل الغمام لهم في الصحراء الجافة‏.‏ ومن تيسير الطعام الفاخر من المن والسلوى‏:‏

‏{‏وما ظلمونا، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وسيعرض السياق نماذج من ظلمهم لأنفسهم؛ بالمعصية عن أمر الله والالتواء عن طريقه‏.‏‏.‏ وما يبلغون بهذا الالتواء وتلك المعصية أن يظلموا الله- سبحانه- فالله غني عنهم وعن العالمين أجمعين‏.‏ وما ينقص من ملكه أن يجتمعوا هم والعالمون على معصيته؛ وما يزيد في ملكه أن يجتمعوا هم والعالمون على طاعته‏.‏ إنما هم يؤذون أنفسهم ويظلمونها بالمعصية والالتواء، في الدنيا وفي الآخرة سواء‏.‏

والآن فلننظر كيف تلقى بنو إسرائيل رعاية الله لهم؛ وكيف سارت خطواتهم الملتوية على طول الطريق‏:‏

‏{‏وإذ قيل لهم‏:‏ اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا‏:‏ حطة، وادخلوا الباب سجداً، نغفر لكم خطيئاتكم، سنزيد المحسنين‏.‏ فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم، فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

لقد عفا الله عنهم بعد اتخاذهم العجل؛ وعفا عنهم بعد الرجفة على الجبل‏.‏ ولقد أنعم عليهم بكل تلك النعم‏.‏‏.‏ ثم ها هم أولاء تلتوي بهم طبيعتهم عن استقامة الطريق‏!‏ ها هم أولاء يعصون الأمر، ويبدلون القول‏!‏ ها هم أولاء يؤمرون بدخول قرية بعينها- أي مدينة كبيرة- لا يعين القرآن اسمها- لأنه لا يزيد في مغزى القصة شيئاً- وتباح لهم خيراتها جميعاً، على أن يقولوا دعاء بعينه وهم يدخلونها؛ وعلى أن يدخلوا بابها سجداً، إعلان للخضوع لله في ساعة النصر والاستعلاء- وذلك كما دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة في عام الفتح ساجداً على ظهر دابته- وفي مقابل طاعة الأمر يعدهم الله أن يغفر لهم خطيئاتهم وأن يزيد للمحسنين في حسناتهم‏.‏

‏.‏ فإذا فريق منهم يبدلون صيغة الدعاء التي أمروا بها، ويبدلون الهيئة التي كلفوا أن يدخلوا عليها‏.‏‏.‏ لماذا‏؟‏ تلبية للانحراف الذي يلوي نفوسهم عن الاستقامة‏:‏

‏{‏فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم‏}‏‏.‏‏.‏

عندئذ يرسل الله عليهم من السماء عذاباً‏.‏‏.‏ السماء التي تنزل عليهم منها المن والسلوى وظللهم فيها الغمام‏!‏‏.‏‏.‏

‏{‏فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا كان ظلم فريق منهم- أي كفرهم- ظلماً لأنفسهم بما أصابهم من عذاب الله‏.‏‏.‏

ولا يفصل القرآن نوع العذاب الذي أصابهم في هذه المرة‏.‏ لأن غرض القصة يتم بدون تعيينه‏.‏ فالغرض هو بيان عاقبة المعصية عن أمر الله، وتحقيق النذر، ووقوع الجزاء العادل الذي لا يفلت منه العصاة‏.‏

ومرة أخرى يقع القوم في المعصية والخطيئة‏.‏‏.‏ وهم في هذه المرة لا يخالفون الأمر جهرة ولكنهم يحتالون على النصوص ليفلتوا منها‏!‏ ويأتيهم الابتلاء فلا يصبرون عليه، لأن الصبر على الابتلاء يحتاج إلى طبيعة متماسكة في تملك الارتفاع عن الأهواء والأطماع‏:‏

‏{‏واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر، إذ يعدون في السبت، إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرّعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم‏.‏ كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون‏.‏ وإذ قالت أمة منهم‏:‏ لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً‏؟‏ قالوا‏:‏ معذرة إلى ربكم، ولعلهم يتقون‏.‏ فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون‏.‏ فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم‏:‏ كونوا قردة خاسئين‏.‏ وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

يعدل السياق هنا عن أسلوب الحكاية عن ماضي بني إسرائيل، إلى أسلوب المواجهة لذراريهم التي كانت تواجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في المدينة‏.‏‏.‏ والآيات من هنا إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة‏}‏ آيات مدنية‏.‏ نزلت في المدينة لمواجهة اليهود فيها؛ وضمت إلى هذه السورة المكية في هذا الموضع، تكملة للحديث عما ورد فيها من قصة بني إسرائيل مع نبيهم موسى‏.‏

يأمر الله سبحانه رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يسأل اليهود عن هذه الواقعة المعلومة لهم في تاريخ أسلافهم‏.‏

وهو يواجههم بهذا التاريخ بوصفهم أمة متصلة الأجيال؛ ويذكرهم بعصيانهم القديم، وما جره على فريق منهم من المسخ في الدنيا؛ وما جره عليهم جميعاً من كتابة الذل عليهم والغضب أبداً‏.‏‏.‏ اللهم إلا الذين يتبعون الرسول النبي، فيرفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم‏.‏

ولا يذكر اسم القرية التي كانت حاضرة البحر؛ فهي معروفة للمخاطبين‏!‏ فأما الواقعة ذاتها فقد كان أبطالها جماعة من بني إسرائيل يسكنون مدينة ساحلية‏.‏‏.‏ وكان بنو إسرائيل قد طلبوا أن يجعل لهم يوم راحة يتخذونه عيداً للعبادة؛ ولا يشتغلون فيه بشؤون المعاش، فجعل لهم السبت‏.‏‏.‏ ثم كان الابتلاء ليربيهم الله ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم على المغريات والأطماع؛ وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم بهذه المغريات والأطماع‏.‏‏.‏ وكان ذلك ضرورياً لبني إسرائيل الذين تخلخلت شخصياتهم وطباعهم بسبب الذل الذي عاشوا فيه طويلاً؛ ولا بد من تحرير الإرادة بعد الذل والعبودية، لتعتاد الصمود والثبات‏.‏ فضلاً على أن هذا ضروري لكل من يحملون دعوة الله؛ ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض‏.‏‏.‏ وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختبار وجه من قبل إلى آدم وحواء‏.‏‏.‏ فلم يصمدا له واستمعا لإغراء الشيطان بشجرة الخلد وملك لا يبلى‏!‏ ثم ظل هو الاختبار الذي لا بد أن تجتازه كل جماعة قبل أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف في الأرض‏.‏‏.‏ إنما يختلف شكل الابتلاء، ولا تتغير فحواه‏!‏

ولم يصمد فريق من بني إسرائيل- في هذه المرة- للابتلاء الذي كتبه الله عليهم بسبب ما تكرر قبل ذلك من فسوقهم وانحرافهم‏.‏‏.‏ لقد جعلت الحيتان في يوم السبت تتراءى لهم على الساحل، قريبة المأخذ، سهلة الصيد‏.‏ فتفوتهم وتفلت من أيديهم بسبب حرمة السبت التي قطعوها على أنفسهم‏!‏ فإذا مضى السبت، وجاءتهم أيام الحل‏.‏ لم يجدوا الحيتان قريبة ظاهرة‏.‏ كما كانوا يجدونها يوم الحرم‏!‏‏.‏‏.‏ وهذا ما أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يذكرهم به؛ ويذكرهم ماذا فعلوا وماذا لاقوا‏:‏

‏{‏واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر‏.‏ إذ يعدون في السبت‏.‏ إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرّعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم‏.‏ كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون‏}‏‏.‏

فأما كيف وقع لهم هذا، وكيف جعلت الأسماك تحاورهم هذه المحاورة، وتداورهم هذه المداورة‏.‏‏.‏ فهي الخارقة التي تقع بإذن الله عندما يشاء الله‏.‏‏.‏ والذين لا يعلمون ينكرون أن تجري مشيئة الله بغير ما يسمونه هم «قوانين الطبيعة»‏!‏ والأمر في التصور الإسلامي- وفي الواقع- ليس على هذا النحو‏.‏‏.‏ إن الله سبحانه هو الذي خلق هذا الكون، وأودعه القوانين التي يسيرعليها بمشيئته الطليقة‏.‏ ولكن هذه المشيئة لم تعد حبيسة هذه القوانين لا تملك أن تجري إلا بها‏.‏ لقد ظلت طليقة بعد هذه القوانين كما كانت طليقة‏.‏

‏.‏ وهذا ما يغفل عنه الذين لا يعلمون‏.‏‏.‏ وإذا كانت حكمة الله ورحمته بعباده المخاليق قد اقتضت ثبات هذه القوانين؛ فإنه لم يكن معنى هذا تقيد هذه المشيئة وانحباسها داخل هذه القوانين‏.‏‏.‏ فحيثما اقتضت الحكمة جريان أمر من الأمور مخالفاً لهذه القوانين الثابتة جرت المشيئة طليقة بهذا الأمر‏.‏‏.‏ ثم إن جريان هذه القوانين الثابتة في كل مرة تجري فيها إنما يقع بقدر من الله خاص بهذه المرة‏.‏ فهي لا تجري جرياناً آلياً لا تدخل لقدر الله فيه‏.‏‏.‏ وهذا مع ثباتها في طريقها ما لم يشأ الله أن تجري بغير ذلك‏.‏‏.‏ وعلى أساس أن كل ما يقع- سواء من جريان القوانين الثابتة أو جريان غيرها- إنما يقع بقدر من الله خاص، فإنه تستوي الخارقة والقانون الثابت في جريانه بهذا القدر‏.‏‏.‏ ولا آلية في نظام الكون في مرة واحدة- كما يظن الذين لا يعلمون‏!‏- ولقد بدأوا يدركون هذا في ربع القرن الأخير‏!‏

على أية حال، لقد وقع ذلك لأهل القرية التي كانت حاضرة البحر من بني إسرائيل‏.‏‏.‏ فإذا جماعة منهم تهيج مطامعهم أمام هذا الإغراء، فتتهاوى عزائمهم، وينسون عهدهم مع ربهم وميثاقهم، فيحتالون الحيل- على طريقة اليهود- للصيد في يوم السبت‏!‏ وما أكثر الحيل عندما يلتوي القلب، وتقل التقوى، ويصبح التعامل مع مجرد النصوص، ويراد التفلت من ظاهر النصوص‏!‏‏.‏‏.‏ إن القانون لا تحرسه نصوصه، ولا يحميه حراسه‏.‏ إنما تحرسه القلوب التقية التي تستقر تقوى الله فيها وخشيته، فتحرس هي القانون وتحميه‏.‏ وما من قانون تمكن حمايته أن يحتال الناس عليه‏!‏ ما من قانون تحرسه القوة المادية والحراسة الظاهرية‏!‏ ولن تستطيع الدولة- كائناً ما كان الإرهاب فيها- أن تضع على رأس كل فرد حارساً يلاحقه لتنفيذ القانون وصيانته؛ ما لم تكن خشية الله في قلوب الناس، ومراقبتهم له في السر والعلن‏.‏‏.‏

من أجل ذلك تفشل الأنظمة والأوضاع التي لا تقوم على حراسة القلوب التقية‏.‏ وتفشل النظريات والمذاهب التي يضعها البشر للبشر ولا سلطان فيها من الله‏.‏‏.‏ ومن أجل ذلك تعجز الأجهزة البشرية التي تقيمها الدول لحراسة القوانين وتنفيذها‏.‏ وتعجز الملاحقة والمراقبة التي تتابع الأمور من سطوحها‏!‏

وهكذا راح فريق من سكان القرية التي كانت حاضرة البحر يحتالون على السبت، الذي حرم عليهم الصيد فيه‏.‏‏.‏ وروي أنهم كانوا يقيمون الحواجيز على السمك ويحوّطون عليه في يوم السبت؛ حتى إذا جاء الأحد سارعوا إليه فجمعوه؛ وقالوا‏:‏ إنهم لم يصطادوه في السبت، فقد كان في الماء- وراء الحواجيز- غير مصيد‏!‏

وراح فريق منهم آخر يرى ما يفعلون من الاحتيال على الله‏!‏ فيحذر الفريق العاصي مغبة احتياله‏!‏ وينكر عليه ما يزاوله من الاحتيال‏!‏

بينما مضى فريق ثالث يقول للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر‏:‏ ما فائدة ما تزاولونه مع هؤلاء العصاة، وهم لا يرجعون عما هم آخذون فيه‏؟‏ وقد كتب الله عليهم الهلاك والعذاب‏؟‏

‏{‏وإذ قالت أمة منهم‏:‏ لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً‏؟‏‏}‏‏.‏

فلم تعد هناك جدوى من الوعظ لهم، ولم تعد هناك جدوى لتحذيرهم‏.‏ بعدما كتب الله عليهم الهلاك أو العذاب الشديد؛ بما اقترفوه من انتهاك لحرمات الله‏.‏

‏{‏قالوا‏:‏ معذرة إلى ربكم، ولعلهم يتقون‏}‏‏.‏‏.‏

فهو واجب نؤديه‏:‏ واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتخويف من انتهاك الحرمات، لنبلغ إلى الله عذرنا، ويعلم أن قد أدينا واجبنا‏.‏ ثم لعل النصح يؤثر في تلك القلوب العاصية فيثير فيها وجدان التقوى‏.‏

وهكذا انقسم سكان الحاضرة إلى ثلاث فرق‏.‏‏.‏ أو ثلاث أمم‏.‏‏.‏ فالأمة في التعريف الإسلامي هي مجموعة الناس التي تدين بعقيدة واحدة وتصور واحد وتدين لقيادة واحدة، وليست كما هي في المفهوم الجاهلي القديم أو الحديث، مجموعة الناس التي تسكن في إقليم واحد من الأرض وتحكمها دولة واحدة‏!‏ فهذا مفهوم لا يعرفه الإسلام، إنما هي من مصطلحات الجاهلية القديمة أو الحديثة‏!‏

وقد انقسم سكان القرية الواحدة إلى ثلاث أمم‏:‏ أمة عاصية محتالة‏.‏ وأمة تقف في وجه المعصية والاحتيال وقفة إيجابية بالإنكار والتوجيه والنصيحة‏.‏ وأمة تدع المنكر وأهله، وتقف موقف الإنكار السلبي ولا تدفعه بعمل إيجابي‏.‏‏.‏ وهي طرائق متعددة من التصور والحركة، تجعل الفرق الثلاث أمماً ثلاثاً‏!‏

فلما لم يجد النصح، ولم تنفع العظة، وسدر السادرون في غيهم، حقت كلمة الله، وتحققت نذره‏.‏ فإذا الذين كانوا ينهون عن السوء في نجوة من السوء‏.‏ وإذا الأمة العاصية يحل بها العذاب الشديد الذي سيأتي بيانه‏.‏ فأما الفرقة الثالثة- أو الأمة الثالثة- فقد سكت النص عنها‏.‏‏.‏ ربما تهوينا لشأنها- وإن كانت لم تؤخذ بالعذاب- إذ أنها قعدت عن الإنكار الإيجابي، ووقفت عند حدود الإنكار السلبي‏.‏ فاستحقت الإهمال وإن لم تستحق العذاب‏:‏

‏{‏فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم‏:‏ كونوا قردة خاسئين‏}‏‏.‏‏.‏

لقد كان العذاب البئيس- أي الشديد- الذي حل بالعصاة المحتالين، جزاء إمعانهم في المعصية- التي يعتبرها النص هي الكفر، الذي يعبر عنه بالظلم مرة وبالفسق مرة كما هو الغالب في التعبير القرآني عن الكفر والشرك بالظلم والفسق؛ وهو تعبير يختلف عن المصطلح الفقهي المتأخر عن هذه الألفاظ إذ أن مدلولها القرآني ليس هو المدلول الذي جعل يشيع في التعبير الفقهي المتأخر- كان ذلك العذاب البئيس هو المسخ عن الصورة الآدمية إلى الصورة القردية‏!‏ لقد تنازلوا هم عن آدميتهم، حين تنازلوا عن أخص خصائصها- وهو الإرادة التي تسيطر على الرغبة- وانتكسوا إلى عالم «الحيوان» حين تخلوا عن خصائص «الإنسان»‏.‏

فقيل لهم أن يكونوا حيث أرادوا لأنفسهم من الانتكاس والهوان‏!‏

أما كيف صاروا قردة؛ وكيف حدث لهم بعد أن صاروا قردة‏؟‏ هل انقرضوا كما ينقرض كل ممسوخ يخرج عن جنسه‏؟‏ أم تناسلوا وهم قردة‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخر هذه المسائل التي تتعدد فيها روايات التفسير‏.‏‏.‏‏.‏ فهذا كله مسكوت عنه في القرآن الكريم؛ وليس وراءه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيء‏.‏‏.‏ فلا حاجة بنا نحن إلى الخوض فيه‏.‏

لقد جرت كلمة الله التي يجري بها الخلق والتكوين ابتداء؛ كما يجري بها التحوير والتغيير‏.‏‏.‏ كلمة «كن»‏.‏

‏{‏قلنا لهم‏:‏ كونوا قردة خاسئين‏}‏‏.‏‏.‏

فكانوا قردة مهينين‏.‏ كما جرى القول الذي لا راد له؛ ولا يعجز قائله عن شيء سبحانه‏!‏

ثم كانت اللعنة الأبدية على الجميع- إلا الذين يؤمنون بالنبي الأمي ويتبعونه- بما انتهى إليه أمرهم بعد فترة من المعصية التي لا تنتهي؛ وصدرت المشيئة الإلهية بالحكم الذي لا راد له ولا معقب عليه‏:‏

‏{‏وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب‏.‏ إن ربك لسريع العقاب، وإنه لغفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

فهو إذْنُ الأبد الذي تحقق منذ صدروه؛ فبعث الله على اليهود في فترات من الزمان من يسومهم سوء العذاب‏.‏ والذي سيظل نافذاً في عمومه، فيبعث الله عليهم بين آونة وأخرى من يسومهم سوء العذاب‏.‏ وكلما انتعشوا وانتفشوا وطغوا في الأرض وبغوا، جاءتهم الضربة ممن يسلطهم الله من عباده على هذه الفئة الباغية النكدة، الناكثة العاصية، التي لا تخرج من معصية إلا لتقع في معصية؛ ولا تثوب من انحراف حتى تجنح إلى انحراف‏.‏‏.‏

ولقد يبدو أحياناً أن اللعنة قد توقفت، وأن يهود قد عزت واستطالت‏!‏ وإن هي إلا فترة عارضة من فترات التاريخ‏.‏‏.‏ ولا يدري إلا الله من ذا الذي سيسلط عليهم في الجولة التالية، وما بعدها إلى يوم القيامة‏.‏

لقد تأذن الله بهذا الأمر الدائم إلى يوم القيامة- كما أخبر الله نبيه في قرآنه- معقباً على هذا الأمر بتقرير صفة الله سبحانه في العذاب والرحمة‏.‏

‏{‏إن ربك لسريع العقاب، وإنه لغفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

فهو بسرعة عقابه يأخذ الذين حقت عليهم كلمته بالعذاب- كما أخذ القرية التي كانت حاضرة البحر- وهو بمغفرته ورحمته يقبل التوبة ممن يثوب من بني إسرائيل، ممن يتبعون الرسول النبي الذي يجدونه مكتوباً عندهم، في التوراة والإنجيل‏.‏‏.‏ فليس عذابه- سبحانه- عن نقمة ولا إحنة‏.‏ إنما هو الجزاء العادل لمن يستحقونه، ووراءه المغفرة والرحمة‏.‏‏.‏

ثم تمضي خطوات القصة مع خطوات التاريخ، من بعد موسى وخلفائه، مع الأجيال التالية في بني إسرائيل إلى الجيل الذي كان يواجه الرسول- صلى الله عليه وسلم- والجماعة المسلمة في المدينة‏:‏

‏{‏وقطعناهم في الأرض أمماً‏.‏

‏.‏ منهم الصالحون ومنهم دون ذلك‏.‏‏.‏ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون‏.‏ فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب، يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون‏:‏ سيغفر لنا‏.‏ وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه‏.‏ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق، ودرسوا ما فيه، والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون‏!‏ والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة، إنا لا نضيع أجر المصلحين‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه بقية الآيات المدنية الواردة في هذا السياق تكملة لقصة بني إسرائيل من بعد موسى‏.‏‏.‏ ذلك حين تفرق اليهود في الأرض؛ جماعات مختلفة المذاهب والتصورات، مختلفة المشارب والمسالك‏.‏ فكان منهم الصالحون وكان منهم من هم دون الصلاح‏.‏ وظلت العناية الإلهية تواليهم بالابتلاءات‏.‏ تارة بالنعماء وتارة بالبأساء، لعلهم يرجعون إلى ربهم، ويثوبون إلى رشدهم، ويستقيمون على طريقهم‏:‏

‏{‏وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون‏}‏‏.‏‏.‏

والمتابعة بالابتلاء رحمة من الله بالعباد، وتذكير دائم لهم، ووقاية من النسيان المؤدي إلى الاغترار والبوار‏.‏‏.‏

‏{‏فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى، ويقولون‏:‏ سيغفر لنا‏.‏ وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه‏}‏‏.‏‏.‏

وصفة هذا الخلف الذي جاء بعد ذلك السلف من قوم موسى‏:‏ أنهم ورثوا الكتاب ودرسوه‏.‏‏.‏ ولكنهم لم يتكيفوا به ولم تتأثر به قلوبهم ولا سلوكهم‏.‏‏.‏ شأن العقيدة حين تتحول إلى ثقافة تدرس وعلم يحفظ‏.‏‏.‏ وكلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا تهافتوا عليه، ثم تأولوا وقالوا‏:‏ ‏{‏سيغفر لنا‏}‏‏.‏‏.‏ وهكذا كلما عرض لهم من أعراض الدنيا جديد تهافتوا عليه من جديد‏!‏

ويسأل سؤال استنكار‏:‏

‏{‏ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق‏؟‏ ودرسوا ما فيه‏؟‏‏}‏‏.‏

ألم يؤخذ عليهم ميثاق الله في الكتاب ألا يتأولوا ولا يحتالوا على النصوص، وألا يخبروا عن الله إلا بالحق‏.‏‏.‏ فما بالهم يقولون‏:‏ ‏{‏سيغفر لنا‏}‏ ويتهافتون على أعراض الحياة الدنيا‏؟‏ ويبررون لأنفسهم هذا بالتقول على الله وتأكيد غفرانه لهم، وهم يعلمون أن الله إنما يغفر لمن يتوبون حقاً؛ ويقلعون عن المعصية فعلاً؛ وليس هذا حالهم، فهم يعودون كلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا‏!‏ وهم درسوا هذا الكتاب وعرفوا ما فيه‏!‏

بلى‏!‏ ولكن الدراسة لا تجدي ما لم تخالط القلوب‏.‏ وكم من دارسين للدين وقلوبهم عنه بعيد‏.‏ إنما يدرسونه ليتأولوا ويحتالوا، ويحرفوا الكلم عن مواضعه، ويجدوا المخارج للفتاوى المغرضة التي تنيلهم عرض الحياة الدنيا‏.‏‏.‏ وهل آفة الدين إلا الذين يدرسونه دراسة؛ ولا يأخذونه عقيدة؛ ولا يتقون الله ولا يرهبونه‏؟‏‏!‏

‏{‏والدار الآخرة خير للذين يتقون‏.‏ أفلا تعقلون‏؟‏‏}‏‏.‏

نعم‏!‏ إنها الدار الآخرة‏!‏ إن وزنها في قلوب الذين يتقون هو وحده الذي يرجح الكفة‏.‏

وهو وحده الذي يعصم من فتنة العرض الأدنى القريب في هذه الدنيا‏.‏‏.‏ نعم إنها هي التي لا يصلح قلب ولا تصلح حياة إلا بها؛ ولا تستقيم نفس ولا تستقيم حياة إلا بملاحظتها‏.‏‏.‏ وإلا فما الذي يعدل في النفس البشرية الرغبة الملحة في حيازة كل عرض يلوح لها من أعراض هذه الأرض‏؟‏ وما الذي يحجزها عن الطمع ويكفها عن البغي‏؟‏ وما الذي يهدئ فيها هياج الرغائب وسعار الشهوات وجنون المطامع‏؟‏ وما الذي يطمئنها في صراع الحياة الدنيا على النصيب الذي لا يضيع بفوات الحياة الدنيا‏؟‏ وما الذي يثبتها في المعركة بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وأعراض الأرض تفر من بين يديها وتنأى‏؟‏ والشر يتبجح والباطل يطغى‏؟‏

لا شيء يثبت على الغير والأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج وفي هذه المعركة الكبرى، إلا اليقين في الآخرة، وأنها خير للذين يتقون، ويعفون، ويترفعون، ويثبتون على الحق والخير في وجه الزعازع والأعاصير والفتن، ويمضون في الطريق لا يتلفتون‏.‏‏.‏ مطمئنين واثقين، ملء قلوبهم اليقين‏.‏‏.‏

وهذه الدار الآخرة غيب من الغيب الذي يريد دعاة «الاشتراكية العلمية» أن يلغوه من قلوبنا ومن عقيدتنا ومن حياتنا؛ ويحلوا محله تصوراً كافراً جاهلاً مطموساً يسمونه‏:‏ «العلمية»‏.‏‏.‏

ومن أجل هذه المحاولة البائسة تفسد الحياة، وتفسد النفوس؛ وينطلق السعار المجنون الذي لا يكبحه إلاَّ ذلك اليقين‏.‏‏.‏ ينطلق سعار الرشوة والفساد والطمع والطغيان‏.‏ وينتشر داء الإهمال وقلة المبالاة والخيانة في كل مجال‏.‏‏.‏

إن «العلمية» التي تناقض «الغيبية» جهالة من جهالات القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر‏.‏ جهالة يرجع عنها «العلم البشري» ذاته، ولا يبقى يرددها في القرن العشرين إلا الجهال‏!‏ جهالة تناقض فطرة «الإنسان» ومن ثم تفسد «الحياة» ذلك الإفساد الذي يهدد البشرية بالدمار‏!‏ ولكنه المخطط الصهيوني الرهيب الذي يريد أن يسلب البشرية كلها قوام حياتها وصلاحها‏.‏ ليسهل تطويعها لملك صهيون في نهاية المطاف‏!‏ والذي تردده الببغاوات هنا وهناك، بينما الأوضاع التي أقامتها الصهيونية وكفلتها في أنحاء الأرض تمضي عن علم في تنفيذ المخطط الرهيب هنا وهناك‏!‏

ولأن قضية الآخرة، وقضية التقوى قضيتان أساسيتان في العقيدة وفي الحياة، يحيل السياق القرآني المخاطبين الذين يتهافتون على عرض هذا الأدنى‏.‏‏.‏ عرض الحياة الدنيا‏.‏‏.‏ إلى العقل‏:‏

‏{‏والدار الآخرة خير للذين يتقون‏.‏‏.‏ أفلا تعقلون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ولو كان العقل هو الذي يحكم لا الهوى‏.‏‏.‏ ولو كان العلم الحق لا الجهالة التي تسمى العلم هو الذي يقضي‏.‏‏.‏ لكانت الدار الآخرة خيراً من عرض هذا الأدنى‏.‏ ولكانت التقوى زاداً للدين والدنيا جميعاً‏:‏

‏{‏والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة، إنا لا نضيع أجر المصلحين‏}‏‏.‏

وهو تعريض بالذين أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه؛ ثم هم لا يتمسكون بالكتاب الذي درسوه، ولا يعملون به، ولا يحكمونه في تصوراتهم وحركاتهم؛ ولا في سلوكهم وحياتهم‏.‏

‏.‏ غير أن الآية تبقى- من وراء ذلك التعريض- مطلقة، تعطي مدلولها كاملاً، لكل جيل ولكل حالة‏.‏

إن الصيغة اللفظية‏:‏ ‏{‏يمسكون‏}‏‏.‏‏.‏ تصور مدلولاً يكاد يحس ويرى‏.‏‏.‏ إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة‏.‏‏.‏ الصورة التي يحب الله أن يؤخذ بها كتابه وما فيه‏.‏‏.‏ في غير تعنت ولا تنطع ولا تزمت‏.‏‏.‏ فالجد والقوة والصرامة شيء والتعنت والتنطع والتزمت شيء آخر‏.‏‏.‏ إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر ولكنها تنافي التميع‏!‏ ولا تنافي سعة الأفق ولكنها تنافي الاستهتار‏!‏ ولا تنافي مراعاة الواقع ولكنها تنافي أن يكون «الواقع» هو الحكم في شريعة الله‏!‏ فهو الذي يجب أن يظل محكوماً بشريعة الله‏!‏

والتمسك بالكتاب في جد وقوة وصرامة؛ وإقامة الصلاة- أي شعائر العبادة- هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة‏.‏‏.‏ والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقروناً إلى الشعائر يعني مدلولاً معيناً‏.‏ إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس‏.‏ فهما طرفان للمنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس، ولا تصلح بسواه‏.‏‏.‏ والإشارة إلى الإصلاح في الآية‏:‏

‏{‏إنا لا نضيع أجر المصلحين‏}‏‏.‏‏.‏

يشير إلى هذه الحقيقة‏.‏‏.‏ حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملاً، وإقامة الشعائر عبادة هما أداة الإصلاح الذي لا يضيع الله أجره على المصلحين‏.‏

وما تفسد الحياة كلها إلا بترك طرفي هذا المنهج الرباني‏.‏‏.‏ ترك الاستمساك الجاد بالكتاب وتحكيمه في حياة الناس؛ وترك العبادة التي تصلح القلوب فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص، كالذي كان يصنعه أهل الكتاب؛ وكالذي يصنعه أهل كل كتاب، حين تفتر القلوب عن العبادة فتفتر عن تقوى الله‏.‏‏.‏

إنه منهج متكامل‏.‏ يقيم الحكم على أساس الكتاب؛ ويقيم القلب على أساس العبادة‏.‏‏.‏ ومن ثم تتوافى القلوب مع الكتاب؛ فتصلح القلوب، وتصلح الحياة‏.‏

إنه منهج الله، لا يعدل عنه ولا يستبدل به منهجاً آخر، إلا الذين كتبت عليهم الشقوة وحق عليهم العذاب‏!‏

وفي ختام حلقات القصة في هذه السورة يذكر كيف كان الله قد أخذ على بني إسرائيل الميثاق‏:‏

‏{‏وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع بهم‏.‏ خذوا ما آتيناكم بقوة، واذكروا ما فيه لعلكم تتقون‏}‏‏.‏

إنه ميثاق لا ينسى‏.‏‏.‏ فقد أخذ في ظرف لا ينسى‏!‏ أخذ وقد نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع بهم‏!‏ ولقد كانوا متقاعسين يومها عن إعطاء الميثاق؛ فأعطوه في ظل خارقة هائلة كانت جديرة بأن تعصمهم بعد ذلك من الانتكاس‏.‏ ولقد أمروا في ظل تلك الخارقة القوية أن يأخذوا ميثاقهم بقوة وجدية، وأن يستمسكوا به في شدة وصرامة، وألا يتخاذلوا ولا يتهاونوا ولا يتراجعوا في ميثاقهم الوثيق، وأن يظلوا ذاكرين لما فيه، لعل قلوبهم تخشع وتتقي‏.‏ وتظل موصولة بالله لا تنساه‏!‏

ولكن إسرائيل هي إسرائيل‏!‏ نقضت الميثاق، ونسيت الله، ولجت في المعصية، حتى استحقت غضب الله ولعنته‏.‏ وحق عليها القول، بعدما اختارها الله على العالمين في زمانها، وأفاء عليها من عطاياه‏.‏ فلم تشكر النعمة، ولم ترع العهد، ولم تذكر الميثاق‏.‏‏.‏ وما ربك بظلام للعبيد‏.‏‏.‏