فصل: تفسير الآيات رقم (29- 35)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 35‏]‏

‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏29‏)‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏30‏)‏ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏31‏)‏ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏32‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏34‏)‏ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

هذا المقطع الثاني في سياق السورة؛ يستهدف تقرير الأحكام النهائية في العلاقات بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب؛ كما استهدف المقطع الأول منها تقرير الأحكام النهائية في العلاقات بين هذا المجتمع والمشركين في الجزيرة‏.‏

وإذا كانت نصوص المقطع الأول في منطوقها تواجه الواقع في الجزيرة يومئذ؛ وتتحدث عن المشركين فيها؛ وتحدد صفات ووقائع وأحداثاً تنطبق عليهم انطباقاً مباشراً‏.‏ فإن النصوص في المقطع الثاني- الخاصة بأهل الكتاب- عامة في لفظها ومدلولها؛ وهي تعني كل أهل الكتاب‏.‏ سواء منهم من كان في الجزيرة ومن كان خارجها كذلك‏.‏

هذه الأَحكام النهائية التي يتضمنها هذا المقطع تحتوي تعديلات أساسية في القواعد التي كانت تقوم عليها العلاقات من قبل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب- وبخاصة النصارى منهم- فلقد كانت وقعت المواقع قبل ذلك مع اليهود؛ ولكن حتى هذا الوقت لم يكن قد وقع منها شيء مع النصارى‏.‏

والتعديل البارز في هذه الأحكام الجديدة هو الأمر بقتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏.‏‏.‏ فلم تعد تقبل منهم عهود موادعة ومهادنة إلى على هذا الأساس‏.‏‏.‏ أساس إعطاء الجزية‏.‏‏.‏ وفي هذه الحالة تتقرر لهم حقوق الذمي المعاهد؛ ويقوم السلام بينهم وبين المسلمين‏.‏ فأما إذا هم اقتنعوا بالإسلام عقيدة فاعتنقوه فهم من المسلمين‏.‏‏.‏

إنهم لا يُكرَهون على اعتناق الإسلام عقيدة‏.‏ فالقاعدة الإسلامية المحكمة هي‏:‏ ‏{‏لا إكراه في الدين‏}‏ ولكنهم لا يتركون على دينهم إلا إذا أعطوا الجزية، وقام بينهم وبين المجتمع المسلم عهد على هذا الأساس‏.‏

وهذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته إلى بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية من ناحية‏.‏ ثم لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي، ومراحله المتعددة، ووسائله المتجددة المكافئة للواقع البشري المتغير من الناحية الأخرى‏.‏

وطبيعة العلاقة الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية هي عدم إمكان التعايش إلا في ظل أوضاع خاصة وشروط خاصة؛ قاعدتها ألا تقوم في وجه الإعلان العام الذي يتضمنه الإسلام لتحرير الإنسان بعبادة الله وحده والخروج من عبادة البشر للبشر، أية عقبات مادية من قوة الدولة، ومن نظام الحكم، ومن أوضاع المجتمع على ظهر الأرض‏!‏ ذلك أن منهج الله يريد أن يسيطر، ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده- كما هو الإعلان العام للإسلام- ومناهج الجاهلية تريد- دفاعاً عن وجودها- أن تسحق الحركة المنطلقة بمنهج الله في الأرض، وأن تقضي عليها‏.‏‏.‏

وطبيعة المنهج الحركي الإسلامي أن يقابل هذا الواقع البشري بحركة مكافئة له ومتفوقة عليه، في مراحل متعددة ذات وسائل متجددة‏.‏

‏.‏ والأحكام المرحلية والأحكام النهائية في العلاقات بين المجتمع المسلم والمجتمعات الجاهلية تمثل هذه الوسائل في تلك المراحل‏.‏

ومن أجل أن يحدد السياق القرآني في هذا المقطع من السورة طبيعة هذه العلاقات، حدد حقيقة ما عليه أهل الكتاب؛ ونص على أنه «شرك» و«كفر» و«باطل» وقدم الوقائع التي يقوم عليها هذا الحكم، سواء من واقع معتقدات أهل الكتاب والتوافق والتضاهي بينها وبين معتقدات ‏{‏الذين كفروا من قبل‏}‏‏.‏ أو من سلوكهم وتصرفهم الواقعي كذلك‏.‏

والنصوص الحاضرة تقرر‏:‏

أولاً‏:‏ أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏.‏

ثانياً‏:‏ أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله‏.‏

ثالثاً‏:‏ أنهم لا يدينون دين الحق‏.‏

رابعاً‏:‏ أن اليهود منهم قالت‏:‏ عزير ابن الله‏.‏ وأن النصارى منهم قالت‏:‏ المسيح ابن الله وأنهم في هذين القولين يضاهئون قول الذين كفروا من قبل سواء من الوثنيين الإغريق، أو الوثنيين الرومان، أو الوثنيين الهنود، أو الوثنيين الفراعنة، أو غيرهم من الذين كفروا ‏(‏وسنفصل فيما بعد أن التثليث عند النصارى، وادعاء البنوة لله منهم أو من اليهود مقتبس من الوثنيات السابقة وليس من أصل النصرانية ولا اليهودية‏)‏‏.‏

خامساً‏:‏ أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله‏.‏ كما اتخذوا المسيح رباً‏.‏ وأنهم بهذا خالفوا عما أمروا به من توحيد الله والدينونة له وحده، وأنهم لهذا «مشركون»‏!‏

سادساً‏:‏ أنهم محاربون لدين الله يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وأنهم لهذا «كافرون»‏!‏

سابعاً‏:‏ أن كثيراً من أحبارهم ورهبانهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله‏.‏

وعلى أساس هذه الأوصاف وهذا التحديد لحقيقة ما عليه أهل الكتاب، قرر الأحكام النهائية التي تقوم عليها العلاقات بينهم وبين المؤمنين بدين الله، القائمين على منهج الله‏.‏‏.‏

ولقد يبدو أن هذا التقرير لحقيقة ما عليه أهل الكتاب، مفاجئ ومغاير للتقريرات القرآنية السابقة عنهم؛ كما يحلو للمستشرقين والمبشرين وتلاميذهم أن يقولوا، زاعمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غير أقواله وأحكامه عن أهل الكتاب عندما أحس بالقوة والقدرة على منازلتهم‏!‏

ولكن المراجعة الموضوعية للتقريرات القرآنية- المكية والمدنية- عن أهل الكتاب، تظهر بجلاء أنه لم يتغير شيء في أصل نظرة الإسلام إلى عقائد أهل الكتاب التي جاء فوجدهم عليها، وانحرافها وبطلانها؛ وشركهم وكفرهم بدين الله الصحيح- حتى بما أنزل عليهم منه وبالنصيب الذي أوتوه من قبل- أما التعديلات فهي محصورة في طريقة التعامل معهم‏.‏‏.‏ وهذه- كما قلنا مراراً- تحكمها الأحوال والأوضاع الواقعية المتجددة‏.‏ أما الأصل الذي تقوم عليه- وهو حقيقة ما عليه أهل الكتاب- فهو ثابت منذ اليوم الأول في حكم الله عليهم‏.‏

ونضرب هنا بعض الأمثلة من التقريرات القرآنية عن أهل الكتاب وحقيقة ما هم عليه‏.‏

‏.‏ ثم تستعرض مواقفهم الواقعية من الإسلام وأهله، تلك المواقف التي انتهت إلى هذه الأحكام النهائية في التعامل معهم‏:‏

في مكة لم تكن توجد جاليات يهودية أو نصرانية ذات عدد أو وزن في المجتمع‏.‏‏.‏ إنما كان هناك أفراد، يحكي القرآن عنهم أنهم استقبلوا الدعوة الجديدة إلى الإسلام بالفرح والتصديق والقبول؛ ودخلوا في الإسلام، وشهدوا له ولرسوله بأنه الحق المصدق لما بين أيديهم‏.‏‏.‏ ولا بد أن يكون هؤلاء ممن كان قد بقي على التوحيد من النصارى واليهود؛ وممن كان معهم شيء من بقايا الكتب المنزلة‏.‏‏.‏ وفي أمثال هؤلاء وردت مثل هذه الآيات‏:‏

‏{‏الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون‏.‏ وإذا يتلى عليهم قالوا‏:‏ آمنا به، إنه الحق من ربنا، إنا كنا من قبله مسلمين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 52- 53‏]‏

‏{‏قل‏:‏ آمنوا به أو لا تؤمنوا، إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً، ويقولون‏:‏ سبحان ربنا، إن كان وعد ربنا لمفعولاً‏.‏ ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 107-109‏]‏ ‏{‏قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله، فآمن واستكبرتم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏‏.‏

‏{‏وكذلك أنزلنا إليك الكتاب، فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به، ومن هؤلاء من يؤمن به، وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 47‏]‏‏.‏

‏{‏أفغير الله أبتغى حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، فلا تكونن من الممترين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 114‏]‏‏.‏

‏{‏والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك، ومن الأحزاب من ينكر بعضه‏.‏ قل‏:‏ إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به، إليه أدعوا وإليه مآب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وقد تكررت هذه الاستجابة من أفراد كذلك في المدينة؛ حكى عنهم القرآن بعض المواقف في السور المدنية؛ مع النص في بعضها على أنهم من النصارى، ذلك أن اليهود كانوا قد اتخذوا موقفاً آخر غير ما كان يتخذه أفراد منهم في مكة، عندما أحسوا خطر الإسلام في المدينة‏:‏

‏{‏وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، أولئك لهم أجرهم عند ربهم، إن الله سريع الحساب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 199‏]‏‏.‏

‏{‏لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا‏:‏ إنا نصارى‏.‏ ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً، وأنهم لا يستكبرون‏.‏ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، يقولون‏:‏ ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين‏.‏ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين‏؟‏ فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك جزاء المحسنين‏}‏

‏[‏المائدة‏:‏ 82- 85‏]‏‏.‏

ولكن موقف هؤلاء الأفراد لم يكن يمثل موقف الغالبية من أهل الكتاب في الجزيرة- ومن اليهود منهم بصفة خاصة- فقد جعل هؤلاء يشنون على الإسلام، منذ أن أحسوا خطره عليهم في المدينة، حرباً خبيثة، يستخدمون فيها كل الوسائل التي حكاها القرآن عنهم في نصوص كثيرة؛ كما أنهم في الوقت ذاته رفضوا الدخول في الإسلام طبعاً؛ وأنكروا وجحدوا ما في كتبهم من البشارة بالرسول- صلى الله عليه وسلم- ومن تصديق القرآن لما بين أيديهم من بقايا كتبهم الحقة، مما كان أولئك الأفراد الطيبون يعترفون به ويقرونه ويجاهرون به في وجه المنكرين الجاحدين‏!‏‏.‏‏.‏ كذلك أخذ القرآن يتنزل بوصف هذا الجحود وتسجيله؛ وبتقرير ما عليه أهل الكتاب هؤلاء من الانحراف والفساد والبطلان في شتى السور المدنية‏.‏‏.‏ على أن القرآن المكي لم يخل من تقريرات عن حقيقة ما عليه أهل الكتاب‏.‏ نذكر من ذلك‏:‏

‏{‏ولما جاء عيسى بالبينات قال‏:‏ قد جئتكم بالحكمة، ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه، فاتقوا الله وأطيعون‏.‏ إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم، فاختلف الأحزاب من بينهم، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 63- 65‏]‏‏.‏

‏{‏وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم- بغياً بينهم‏}‏ ‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 14‏]‏‏.‏

‏{‏وإذ قيل لهم‏:‏ اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم، وقولوا‏:‏ حطة وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين‏.‏ فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم، فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون‏.‏ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت، إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 161- 163‏]‏‏.‏

‏{‏وإذ تأذّن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 167‏]‏‏.‏

‏{‏فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون‏:‏ سيغفر لنا، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه‏.‏ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق، ودرسوا ما فيه‏؟‏ والدار الآخرة خير للذين يتقون، أفلا تعقلون‏؟‏‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 169‏]‏‏.‏

أما القرآن المدني فقد تضمن الكلمة الأخيرة في حقيقة ما عليه أهل الكتاب؛ كما حكى عنهم أشنع الوسائل وأبشع الطرق في حرب هذا الدين وأهله في قطاعات طويلة من سور البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وغيرها‏.‏ قبل أن يقرر الكلمة النهائية في أمرهم كله في سورة التوبة‏.‏ وسنكتفي هنا بنماذج محددة من هذه التقريرات القرآنية الكثيرة‏.‏

‏{‏أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون‏؟‏ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا‏:‏ آمنا‏.‏ وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا‏:‏ أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم‏؟‏ أفلا تعقلون‏؟‏ أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون‏؟‏ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيَّ، وإن هم إلا يظنون‏.‏ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون‏:‏ هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون‏}‏

‏[‏البقرة‏:‏ 75- 79‏]‏‏.‏

‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل، وآتينا عيسى ابن مريم البينات، وأيدناه بروح القدس، أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم، ففريقاً كذّبتم وفريقاً تقتلون‏؟‏ وقالوا‏:‏ قلوبنا غلف‏.‏ بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون‏.‏ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين‏.‏ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله- بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده- فباءوا بغضب على غضب، وللكافرين عذاب مهين‏.‏ وإذا قيل لهم‏:‏ آمنوا بما أنزل الله قالوا‏:‏ نؤمن بما أنزل علينا، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم‏.‏ قل‏:‏ فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين‏!‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 87- 91‏]‏‏.‏

‏{‏قل‏:‏ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله‏؟‏ والله شهيد على ما تعملون‏.‏ قل‏:‏ يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء‏؟‏ وما الله بغافل عما تعملون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 98-99‏]‏‏.‏

‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا‏:‏ هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً‏؟‏ أولئك الذين لعنهم الله، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً‏}‏ ‏{‏النساء‏:‏ 51- 52‏]‏‏.‏

‏{‏لقد كفر الذين قالوا‏:‏ إن الله هو المسيح ابن مريم، وقال المسيح‏:‏ يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار‏.‏ لقد كفر الذين قالوا‏:‏ إن الله ثالث ثلاثة، وما من إله إلا إله واحد، وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم‏.‏ أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم‏.‏ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمه صديقة، كانا يأكلان الطعام‏.‏ انظر كيف نبين لهم الآيات، ثم انظر أنى يؤفكون‏!‏‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 72- 75‏]‏‏.‏

من مراجعة هذه النصوص القرآنية وأمثالها- وهو كثير في القرآن المكي والمدني على السواء- يتبين أن النظرة إلى حقيقة ما عليه أهل الكتاب من الانحراف عن دين الله الصحيح لم يتغير فيها شيء في التقريرات الأخيرة الواردة في السورة الأخيرة‏.‏

وأن وصمهم بالانحراف والفسوق والشرك والكفر ليس جديداً، ولا يعبر عن اتجاه جديد فيما يختص بحقيقة الاعتقاد‏.‏‏.‏ وذلك مع ملاحظة أن القرآن الكريم ظل يسجل للفريق المهتدي الصالح من أهل الكتاب هداه وصلاحه‏.‏ فقال تعالى منصفاً للصالحين منهم‏:‏

‏{‏ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون‏}‏ ‏{‏الأعراف‏:‏ 159‏]‏‏.‏

‏{‏ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً، ذلك بأنهم قالوا‏:‏ ليس علينا في الأميين سبيل، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏‏.‏

‏{‏ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس، وباءوا بغضب من الله، وضربت عليهم المسكنة، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء بغير حق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون‏.‏ ليسوا سواء‏:‏ من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات، وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه؛ والله عليم بالمتقين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 112- 115‏]‏‏.‏

أما الذي وقع فيه التعديل فعلاً فهو أحكام التعامل مع أهل الكتاب‏.‏ فترة بعد فترة‏.‏ ومرحلة بعد مرحلة‏.‏ وواقعة بعد واقعة‏.‏ وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين في مواجهة أحوال أهل الكتاب وتصرفاتهم ومواقفهم مع المسلمين‏.‏

ولقد جاء زمان كان يقال فيه للمسلمين‏:‏

‏{‏ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن- إلا الذين ظلموا منهم- وقولوا‏:‏ آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 46‏]‏‏.‏

‏{‏قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل، وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون‏.‏ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما هم في شقاق، فسيكفيكهم الله، وهو السميع العليم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136- 137‏]‏‏.‏

‏{‏قل‏:‏ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم‏:‏ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله‏.‏ فإن تولوا فقولوا‏:‏ اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏‏.‏

‏{‏ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره، إن الله على كل شيء قدير‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 109‏]‏‏.‏

ثم أتى الله بأمره الذي وكل المؤمنين إليه؛ فوقعت أحداث، وتعدلت أحكام، وجرى المنهج الحركي الواقعي الإيجابي في طريقه حتى كانت هذه الأحكام النهائية الأخيرة، في هذه السورة، على النحو الذي رأينا‏.‏‏.‏

إنه لم يتغير شيء في نظرة هذا الدين إلى حقيقة ما عليه أهل الكتاب من فساد العقيدة؛ ومن الشرك بالله والكفر بآياته‏.‏

‏.‏ إنما الذي تغير هو قاعدة التعامل‏.‏‏.‏ وهذه إنما تحكمها تلك الأصول التي أسلفنا الحديث عنها في مطلع هذا الفصل التمهيدي لهذا المقطع من سياق السورة، في هذه الفقرات‏:‏

«وهذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته، إلا بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية من ناحية‏.‏ ثم لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي ومراحله المتعددة، ووسائله المتجددة، المكافئة للواقع البشري المتغير، من الناحية الأخرى‏.‏‏.‏‏.‏ الخ»‏.‏

والآن نأخذ في شيء من استعراض طبيعة الموقف بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم سواء من الناحية الموضوعية الثابتة، أو من ناحية المواقف التاريخية الواقعة‏.‏‏.‏‏.‏ فهذه هي العناصر الرئيسية التي انتهت إلى هذه الأحكام النهائية‏.‏

إن طبيعة الموقف بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم يجب البحث عنها أولاً‏:‏ في تقريرات الله- سبحانه- عنها، باعتبار أن هذه هي الحقيقة النهائية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ وباعتبار أن هذه التقريرات- بسبب كونها ربانية- لا تتعرض لمثل ما تتعرض له الاستنباطات والاستدلالات البشرية من الأخطاء‏.‏‏.‏ وثانياً‏:‏ في المواقف التاريخية المصدقة لتقريرات الله سبحانه‏!‏

إن الله سبحانه يقرر طبيعة موقف أهل الكتاب من المسلمين في عدة مواضع من كتابه الكريم‏.‏‏.‏ وهو تارة يتحدث عنهم- سبحانه- وحدهم، وتارة يتحدث عنهم مع الذين كفروا من المشركين؛ باعتبار أَن هنالك وحدة هدف- تجاه الإسلام والمسلمين- تجمع الذين كفروا من أهل الكتاب والذين كفروا من المشركين‏.‏ وتارة يتحدث عن مواقف واقعية لهم تكشف عن وحدة الهدف ووحدة التجمع الحركي لمواجهة الإسلام والمسلمين‏.‏‏.‏ والنصوص التي تقرر هذه الحقائق من الوضوح والجزم بحيث لا يحتاج منا إلى تعليق‏.‏‏.‏ وهذه نماذج منها‏.‏‏.‏

‏{‏ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 105‏]‏‏.‏

‏{‏ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم، من بعد ما تبين لهم الحق‏}‏ ‏{‏البقرة‏:‏ 109‏]‏‏.‏

‏{‏ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 120‏]‏‏.‏

‏{‏ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 69‏]‏‏.‏

‏{‏وقالت طائفة من أهل الكتاب‏:‏ آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 72- 73‏]‏‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 100‏]‏‏.‏

‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل، والله أعلم بأعدائكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 44- 45‏]‏‏.‏

‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا‏:‏ هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً‏}‏

‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏‏.‏

وفي هذه النماذج وحدها ما يكفي لتقرير حقيقة موقف أهل الكتاب من المسلمين‏.‏‏.‏‏.‏ فهم يودون لو يرجع المسلمون كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق‏.‏ وهم يحددون موقفهم النهائي من المسلمين بالإصرار على أن يكونوا يهوداً أو نصارى، ولا يرضون عنهم ولا يسالمونهم إلا أن يتحقق هذا الهدف، فيترك المسلمون عقيدتهم نهائياً‏.‏ وهم يشهدون للمشركين الوثنيين بأنهم أهدى سبيلاً من المسلمين‏!‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

وإذا نحن راجعنا الأهداف النهائية للمشركين تجاه الإسلام والمسلمين كما يقررها الله- سبحانه- في قوله تعالى‏:‏

‏{‏ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏‏.‏

‏{‏ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏‏.‏

‏{‏إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

‏{‏وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إِلاًّ ولا ذمة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

‏{‏لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ ولا ذمة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 10‏]‏‏.‏

إذا نحن راجعنا هذه التقريرات الربانية عن المشركين، وجدنا أن الأهداف النهائية لهم تجاه الإسلام والمسلمين، هي بعينها- وتكاد تكون بألفاظها- هي الأهداف النهائية لأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين كذلك‏.‏‏.‏ مما يجعل طبيعة موقفهم مع الإسلام والمسلمين هي ذاتها طبيعة موقف المشركين‏.‏

وإذا نحن لاحظنا أن التقريرات القرآنية الواردة في هؤلاء وهؤلاء ترد في صيغ نهائية، تدل بصياغتها على تقرير طبيعة دائمة، لا على وصف حالة مؤقتة، كقوله تعالى في شأن المشركين‏:‏

‏{‏ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا‏}‏

وقوله تعالى في شأن أهل الكتاب‏:‏

‏{‏ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم‏}‏

إذا نحن لاحظنا ذلك تبين لنا بغير حاجة إلى أي تأويل للنصوص، أنها تقرر طبيعة أصيلة دائمة للعلاقات؛ ولا تصف حالة مؤقتة ولا عارضة‏!‏

فإذا نحن ألقينا نظرة سريعة على الواقع التاريخي لهذه العلاقات، متمثلة في مواقف أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- من الإسلام وأهله، على مدار التاريخ، تبين لنا تماماً ماذا تعنيه تلك النصوص والتقريرات الإلهية الصادقة؛ وتقرر لدينا أنها كانت تقرر طبيعة مطردة ثابتة، ولم تكن تصف حالة مؤقتة عارضة‏.‏

إننا إذا استثنينا حالات فردية- أو حالات جماعات قليلة- من التي تحدث القرآن عنها وحواها الواقع التاريخي بدت فيها الموادة للإسلام والمسلمين؛ والاقتناع بصدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصدق هذا الدين‏.‏ ثم الدخول فيه والانضمام لجماعة المسلمين‏.‏‏.‏ وهي الحالات التي أشرنا إليها فيما تقدم‏.‏‏.‏ فإننا لا نجد وراء هذه الحالات الفردية أو الجماعية القليلة المحدودة، إلا تاريخاً من العداء العنيد، والكيد الناصب، والحرب الدائبة، التي لم تفتر على مدار التاريخ‏.‏

فأما اليهود فقد تحدثت شتى سور القرآن عن مواقفهم وأفاعيلهم وكيدهم ومكرهم وحربهم؛ وقد وعى التاريخ من ذلك كله ما لم ينقطع لحظة واحدة منذ اليوم الأول الذي واجههم الإسلام في المدينة حتى اللحظة الحاضرة‏!‏

وليست هذه الظلال مجالاً لعرض هذا التاريخ الطويل‏.‏

ولكننا سنشير فقط إلى قليل من كثير من تلك الحرب المسعورة التي شنها اليهود على الإسلام وأهله على مدار التاريخ‏.‏‏.‏

لقد استقبل اليهود رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولاً يعرفون صدقه، وديناً يعرفون أنه الحق‏.‏‏.‏

استقبلوه بالدسائس والأكاذيب والشبهات والفتن يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود‏.‏‏.‏ شككوا في رسالة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهم يعرفونه؛ واحتضنوا المنافقين وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في الجو وبالتهم والأكاذيب‏.‏ وما فعلوه في حادث تحويل القبلة، وما فعلوه في حادث الإفك، وما فعلوه في كل مناسبة، ليس إلا نماذج من هذا الكيد اللئيم‏.‏‏.‏ وفي مثل هذه الأفاعيل كان يتنزل القرآن الكريم‏.‏ وسور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والحشر والأحزاب والتوبة وغيرها تضمنت من هذا الكثير‏:‏

‏{‏ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم- وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا- فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين، بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله- بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده- فباءوا بغضب على غضب، وللكافرين عذاب مهين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 89- 90‏]‏‏.‏

‏{‏ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 101‏]‏‏.‏

‏{‏سيقول السفهاء من الناس‏:‏ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها‏.‏ قل‏:‏ لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 142‏]‏‏.‏

‏{‏يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون‏.‏ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون‏؟‏‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 70- 71‏]‏‏.‏

‏{‏وقالت طائفة من أهل الكتاب‏:‏ آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 72‏]‏‏.‏

‏{‏وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 78‏]‏‏.‏

‏{‏قل‏:‏ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون‏؟‏ قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 98- 99‏]‏‏.‏

‏{‏يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء‏!‏ فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، فقالوا‏:‏ أرنا الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة بظلمهم؛ ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏‏.‏

‏{‏يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 32‏]‏‏.‏

كذلك شهد التاريخ نقض اليهود لعهودهم مرة بعد مرة وتحرشهم بالمسلمين، مما أدى إلى وقائع بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر‏.‏ كما شهد تأليب اليهود للمشركين في الأحزاب، مما هو معروف مشهور‏.‏

ثم تابع اليهود كيدهم للإسلام وأهله منذ ذلك التاريخ‏.‏‏.‏ كانوا عناصر أساسية في إثارة الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان بن عفان- رضي الله عنه- وانتثر بعدها شمل التجمع الإسلامي إلى حد كبير‏.‏‏.‏

وكانوا رأس الفتنة فيما وقع بعد ذلك بين علي- رضي الله عنه- ومعاوية‏.‏‏.‏ وقادوا حملة الوضع في الحديث والسيرة وروايات التفسير‏.‏‏.‏ وكانوا من الممهدين لحملة التتار على بغداد وتقويض الخلافة الإسلامية‏.‏‏.‏‏.‏

فأما في التاريخ الحديث فهم وراء كل كارثة حلت بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض؛ وهم وراء كل محاولة لسحق طلائع البعث الإسلامي؛ وهم حماة كل وضع من الأوضاع التي تتولى هذه المحاولة في كل أرجاء العالم الإسلامي‏!‏

ذلك شأن اليهود، فأما شأن الفريق الآخر من أهل الكتاب، فهو لا يقل إصراراً على العداوة والحرب من شأن اليهود‏!‏

لقد كانت بين الرومان والفرس عداوات عمرها قرون‏.‏‏.‏ ولكن ما إن ظهر الإسلام في الجزيرة؛ وأحست الكنيسة بخطورة هذا الدين الحق على ما صنعته هي بأيديها وسمته «المسيحية» وهو ركام من الوثنيات القديمة، والأضاليل الكنسية، متلبساً ببقايا من كلمات المسيح- عليه السلام- وتاريخه‏.‏‏.‏ حتى رأينا الرومان والفرس ينسون ما بينهم من نزاعات تاريخيه قديمة وعداوات وثارات عميقة، ليواجهوا هذا الدين الجديد‏.‏

ولقد أخذ الروم يتجمعون في الشمال هم وعمالهم من الغساسنة لينقضوا على هذا الدين‏.‏ وذلك بعد أن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى عامل بصرى من قبل الروم- وكان المسلمون يؤمنون الرسل ولكن النصارى غدروا برسول النبي صلى الله عليه وسلم وقتلوه- مما جعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبعث بجيش الأمراء الشهداء الثلاثة‏:‏ زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة في غزوة «مؤتة» فوجدوا تجمعاً للروم تقول الروايات عنه‏:‏ إنه مائة ألف من الروم ومعه من عملائهم في الشام من القبائل العربية النصرانية مائة ألف أخرى؛ وكان جيش المسلمين لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل‏.‏ وكان ذلك في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة‏.‏

ثم كانت غزوة تبوك التي يدور عليها معظم هذه السورة ‏(‏وسيجيء تفصيل القول فيها في موضعه إن شاء الله تعالى‏)‏‏.‏

ثم كان جيش أسامة بن زيد الذي أعده رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبيل وفاته؛ ثم أنفذه الخليفة الراشد أبو بكر- رضي الله عنه- إلى أطراف الشام؛ لمواجهة تلك التجمعات الرومانية التي تستهدف القضاء على هذا الدين‏!‏

ثم اشتعل مرجل الحقد الصليبي منذ موقعة اليرموك الظافرة، التي أعقبها انطلاق الإسلام لتحرير المستعمرات الإمبراطورية الرومانية في الشام ومصر وشمال إفريقية وجزر البحر الأبيض‏.‏ ثم بناء القاعدة الإسلامية الوطيدة في الأندلس في النهاية‏.‏

إن «الحروب الصليبية» المعروفة بهذا الاسم في التاريخ، لم تكن هي وحدها التي شنتها الكنيسة على الإسلام، لقد كانت هذه الحروب مبكرة قبل هذا الموعد بكثير‏.‏‏.‏ لقد بدأت في الحقيقة منذ ذلك التاريخ البعيد‏.‏‏.‏ منذ أن نسي الرومان عداواتهم مع الفرس؛ وأخذ النصارى يعينون الفرس ضد الإسلام في جنوب الجزيرة‏.‏ ثم بعد ذلك في «مؤتة»‏.‏ ثم فيما تلا موقعة اليرموك الظافرة‏.‏‏.‏ ثم تجلت ضراوتها ووحشيتها في الأندلس عندما زحفت الصليبية على القاعدة الإسلامية في أوربة، وارتكبت من الوحشية في تعذيب ملايين المسلمين وقتلهم هناك ما لم يعرف التاريخ له نظيراً من قبل‏.‏‏.‏ وكذلك تجلت في الحروب الصليبية في الشرق بمثل هذه البشاعة التي لا تتحرج ولا تتذمم؛ ولا تراعي في المسلمين إِلاًّ ولا ذمة‏.‏

ومما جاء في كتاب «حضارة العرب» لجوستاف لوبون- وهو فرنسي مسيحي-‏:‏

«كان أول ما بدأ به ريكاردوس الإنجليزي أنه قتل أمام معسكر المسلمين، ثلاث آلاف أسير سلموا أنفسهم إليه، بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم‏.‏ ثم أطلق لنفسه العنان باقتراف القتل والسلب، مما أثار صلاح الدين الأيوبي النبيل، الذي رحم نصارى القدس، فلم يمسهم بأذى، والذي أمد فيليب وقلب الأسد بالمرطبات والأدوية والأزواد، أثناء مرضهما»‏.‏

كذلك كتب كاتب مسيحي آخر ‏(‏اسمه يورجا‏)‏ يقول‏:‏

«ابتدأ الصليبيون سيرهم على بيت المقدس بأسوأ طالع، فكان فريق من الحجاج يسفكون الدماء في القصور التي استولوا عليها‏.‏ وقد أسرفوا في القسوة فكانوا يبقرون البطون‏.‏ ويبحثون عن الدنانير في الأمعاء‏!‏ أما صلاح الدين، فلما استرد بيت المقدس بذل الأمان للصليبيين، ووفى لهم بجميع عهوده، وجاد المسلمون على أعدائهم ووطأوهم مهاد رأفتهم، حتى أن الملك العادل، شقيق السلطان، أطلق ألف رقيق من الأسرى، ومنّ على جميع الأرمن، وأذن للبطريرك بحمل الصليب وزينة الكنيسة، وأبيح للأميرات والملكة بزيارة أزواجهن»‏.‏

ولا يتسع المجال في الظلال لاستعراض ذلك الخط الطويل للحروب الصليبية- على مدار التاريخ- ولكن يكفي أن نقول‏:‏ إن هذه الحرب لم تضع أوزارها قط من جانب الصليبية‏.‏ ويكفي أن نذكر ماذا حدث في زنجبار حديثاً‏.‏ حيث أبيد المسلمون فيها عن بكرة أبيهم، فقتل منهم اثنا عشر ألفاً وألقي الأربعة الآلاف الباقون في البحر منفيين من الجزيرة‏!‏ ويكفي أن نذكر ماذا وقع في قبرص، حيث منع الطعام والماء عن الجهات التي يقطنها بقايا المسلمين هناك ليموتوا جوعاً وعطشاً، فوق ما سلط عليهم من التقتيل والتذبيح والتشريد‏!‏ ويكفي أن نذكر ما تزاوله الحبشة في اريترية وفي قلب الحبشة، وما تزاوله كينيا مع المائة ألف مسلم الذين ينتمون إلى أصل صومالي، ويريدون أن ينضموا إلى قومهم المسلمين في الصومال‏!‏ ويكفي أن نعلم ماذا تحاوله الصليبية في السودان الجنوبي‏!‏

ويكفي لتصوير نظرة الصليبيين إلى الإسلام أن ننقل فقرة من كتاب لمؤلف أوربي صدر سنة 1944 يقول فيه‏؟‏

«لقد كنا نخوّف بشعوب مختلفة، ولكننا بعد اختبار، لم نجد مبرراً لمثل هذا الخوف‏.‏

‏.‏ لقد كنا نخوّف من قبل بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر، وبالخطر البلشفي‏.‏ إلا أن هذا التخويف كله لم يتفق كما تخيلناه‏.‏ إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد‏!‏ ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا، أما الشعوب الصفراء فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها‏.‏ ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قوته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته‏.‏‏.‏ إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي «‏.‏

ولا نستطيع أن نمضي أبعد من ذلك في استعراض تاريخ تلك الحرب العاتية التي أعلنتها الصليبية على الإسلام وما تزال‏.‏‏.‏ وقد تحدثنا من قبل مراراً في أجزاء الظلال السابقة- بمناسبة النصوص القرآنية الكثيرة- عن طبيعة هذه المعركة، الطويلة، ومسائلها وأشكالها‏.‏ فحسبنا هذه الإشارات السريعة هنا بالإحالة على بعض المراجع الأخرى القريبة‏.‏

وهكذا نرى من هذا الاستعراض السريع- بالإضافة إلى ما قلناه من قبل عن طبيعة الإعلان الإسلامي العام بتحرير الإنسان‏.‏ وتحفز الجاهلية في الأرض كلها لسحق الحركة التي تحمل هذا الإعلان العام وتنطلق به في الأرض كلها- أن هذه الأحكام الأخيرة الواردة في هذه السورة، هي المتقضى الطبيعي لهذه الحقائق كلها مجتمعة؛ وأنها ليست أحكاماً محددة بزمان، ولا مقيدة بحالة‏.‏ وإن كان هذا في الوقت ذاته لا ينسخ الأحكام المرحلية السابقة النسخ الشرعي الذي يمنع العمل بها في الظروف والملابسات التي تشابه الظروف والملابسات التي تنزلت فيها‏.‏ فهناك دائماً طبيعة المنهج الإسلامي الحركية، التي تواجه الواقع البشري مواجهة واقعية، بوسائل متجددة، في المراحل المتعددة‏.‏

وحقيقة أن هذه الأحكام النهائية الواردة في هذه السورة كانت تواجه حالة بعينها في الجزيرة؛ وكانت تمهيداً تشريعياً للحركة المتمثلة في غزوة تبوك، لمواجهة تجمع الروم على أطراف الجزيرة مع عمالهم للانقضاض على الإسلام وأهله- وهي الغزوة التي يقوم عليها محور السورة- ولكن وضع أهل الكتاب تجاه الإسلام وأهله لم يكن وليد مرحلة تاريخية معينة‏.‏

إنما كان وليد حقيقة دائمة مستقرة؛ كما أن حربهم للإسلام والمسلمين لم تكن وليدة فترة تاريخية معينة‏.‏ فهي ما تزال معلنة ولن تزال‏.‏‏.‏ إلا أن يرتد المسلمون عن دينهم تماماً‏!‏‏.‏‏.‏ وهي معلنة بضراوة وإصرار وعناد، بشتى الوسائل على مدار التاريخ‏!‏ ومن ثم فهذه الأحكام الواردة في هذه السورة أحكام أصيلة وشاملة وغير موقوتة بزمان ولا مقيدة بمكان‏.‏‏.‏ ولكن العمل بالأحكام إنما يتم في إطار المنهج الحركي الإسلامي، الذي يجب أن يتم الفقه به، قبل أن يتحدث المتحدثون عن الأحكام في ذاتها‏.‏ وقبل أن يحمل واقع ذراري المسلمين- الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان- وضعفهم وانكسارهم على دين الله القوي المتين‏!‏

إن الأحكام الفقهية في الإسلام كانت- وستظل دائماً- وليدة الحركة وفق المنهج الإسلامي‏.‏ والنصوص لا يمكن فهمها إلا باستصحاب هذه الحقيقة‏.‏‏.‏ وفرق بعيد بين النظرة إلى النصوص كأنها قوالب في فراغ؛ والنصوص في صورتها الحركية وفق المنهج الإسلامي‏.‏ ولا بد من هذا القيد‏:‏ «الحركة وفق المنهج الإسلامي» فليست هي الحركة المطلقة خارج المنهج؛ بحيث نعتبر «الواقع البشري» هو الأصل أياً كانت الحركة التي أنشأته، ولكن «الواقع البشري» يصبح عنصراً أساسياً في فقه الأحكام إذا كان قد أنشأه المنهج الإسلامي ذاته‏.‏

وفي ظل هذه القاعدة تسهل رؤية تلك الأحكام النهائية في العلاقات بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم؛ وهي تتحرك الحركة الحية؛ في مجالها الواقعي؛ وفق ذلك المنهج الحركي الواقعي الإيجابي الشامل‏.‏

وحسبنا هذا التمهيد المجمل لنواجه في ظله النصوص القرآنية الواردة في هذا المقطع‏:‏

‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏‏.‏‏.‏

هذه الآية- والآيات التالية لها في السياق- كانت تمهيداً لغزوة تبوك؛ ومواجهة الروم وعمالهم من الغساسنة المسيحيين العرب‏.‏‏.‏ وذلك يلهم أن الأوصاف الواردة فيها هي صفات قائمة بالقوم الموجهة إليهم الغزوة؛ وأنها إثبات حالة واقعة بصفاتها القائمة‏.‏ وهذا ما يلهمه السياق القرآني في مثل هذه المواضع‏.‏‏.‏ فهذه الصفات القائمة لم تذكر هنا على أنها شروط لقتال أهل الكتاب؛ إنما ذكرت على أنها أمور واقعة في عقيدة هؤلاء الأقوام وواقعهم؛ وأنها مبررات ودوافع للأمر بقتالهم‏.‏ ومثلهم في هذا الحكم كل من تكون عقيدته وواقعه كعقيدتهم وواقعهم‏.‏‏.‏

وقد حدد السياق من هذه الصفات القائمة‏:‏

أولاً‏:‏ أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏.‏

ثانياً‏:‏ أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله‏.‏

ثالثاً‏:‏ أنهم لا يدينون دين الحق‏.‏

ثم بين في الآيات التالية كيف أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق‏.‏

وذلك بأنهم‏:‏

أولاً‏:‏ قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله؛ وأن هذا القول يضاهئ قول الذين كفروا من قبلهم من الوثنيين‏.‏ فهم مثلهم في هذا الاعتقاد الذي لا يعد صاحبه مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر‏.‏ ‏(‏وسنبين بالضبط كيف أنه لا يؤمن باليوم الآخر‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، والمسيح ابن مريم‏.‏ وأن هذا مخالف لدين الحق‏.‏‏.‏ وهو الدينونة لله وحده بلا شركاء‏.‏‏.‏ فهم بهذا مشركون لا يدينون دين الحق‏.‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم‏.‏ فهم محاربون لدين الله‏.‏ ولا يحارب دين الله مؤمن بالله واليوم الآخر يدين دين الحق أبداً‏.‏

رابعاً‏:‏ يأكل كثير من أحبارهم ورهبانهم أموال الناس بالباطل‏.‏ فهم إذن لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ‏(‏سواء كان المقصود برسوله رسولهم أو محمد صلى الله عليه وسلم‏)‏‏:‏

وهذه الصفات كلها كانت واقعة بالقياس إلى نصارى الشام والروم‏.‏ كما أنها واقعة بالقياس إلى غيرهم منذ أن حرفت المجامع المقدسة دين المسيح عليه السلام؛ وقالت ببنوة عيسى عليه السلام، وبتثليث الأقانيم- على كل ما بين المذاهب والفرق من خلاف يلتقي كله على التثليث‏!‏- على مدار التاريخ حتى الآن‏!‏

وإذن فهو أمر عام، يقرر قاعدة مطلقة في التعامل مع أهل الكتاب، الذين تنطبق عليهم هذه الصفات التي كانت قائمة في نصارى العرب ونصارى الروم‏.‏‏.‏ ولا يمنع من هذا العموم أن الأوامر النبوية استثنت أفراداً وطوائف بأعيانها لتترك بلا قتال كالأطفال والنساء والشيوخ والعجزة والرهبان الذين حبسوا انفسهم في الأديرة‏.‏‏.‏‏.‏ بوصفهم غير محاربين- فقد منع الإسلام أن يقاتل غير المحاربين من أية ملة- وهؤلاء لم تستثنهم الأوامر النبوية لأنهم لم يقع منهم اعتداء بالفعل على المسلمين‏.‏ ولكن لأنه ليس من شأنهم أصلاً أن يقع منهم الاعتداء‏.‏ فلا محل لتقييد هذا الأمر العام بأن المقصود به هم الذين وقع منهم اعتداء فعلاً- كما يقول المهزومون الذين يحاولون أن يدفعوا عن الإسلام الاتهام‏!‏- فالاعتداء قائم ابتداء‏.‏ الاعتداء على ألوهية الله‏!‏ والاعتداء على العباد بتعبيدهم لغير الله‏!‏ والإسلام حين ينطلق للدفاع عن ألوهية الله- سبحانه- والدفاع عن كرامة الإنسان في الأرض، لا بد أن تواجهه الجاهلية بالمقاومة والحرب والعداء‏.‏‏.‏ ولا مفر من مواجهة طبائع الأشياء‏!‏

إن هذه الآية تأمر المسلمين بقتال أهل الكتاب ‏{‏الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏‏.‏‏.‏ والذي يقول ببنوة عزير لله أو بنوة المسيح لله لا يمكن أن يقال عنه‏:‏ إنه يؤمن بالله‏.‏ وكذلك الذي يقول‏:‏ إن الله هو المسيح ابن مريم‏.‏ أو إن الله ثالث ثلاثة‏.‏ أن إن الله تجسد في المسيح‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخر التصورات الكنسية التي صاغتها المجامع المقدسة على كل ما بينها من خلاف‏!‏‏.‏

‏.‏ والذين يقولون‏:‏ إنهم لن يدخلوا النار إلا أياماً معدودات مهما ارتكبوا من آثام بسبب أنهم أبناء الله وأحباؤه وشعب الله المختار، والذين يقولون‏:‏ إن كل معصية تغفر بالاتحاد بالمسيح وتناول العشاء المقدس؛ وأنه لا مغفرة إلا عن هذا الطريق‏!‏ هؤلاء وهؤلاء لا يقال‏:‏ إنهم يؤمنون باليوم الآخر‏.‏‏.‏

وهذه الآية تصف أهل الكتاب هؤلاء بأنهم ‏{‏لا يحرمون ما حرم الله ورسوله‏}‏‏.‏ وسواء كان المقصود بكلمة ‏{‏رسوله‏}‏ هو رسولهم الذي أرسل إليهم، أو هو النبي- صلى الله عليه وسلم- فالفحوى واحدة‏.‏ ذلك أن الآيات التالية فسرت هذا بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل‏.‏ وأكل أموال الناس بالباطل محرم في كل رسالة وعلى يد كل رسول‏.‏‏.‏ وأقرب النماذج لأكل أموال الناس بالباطل هو المعاملات الربوية‏.‏ وهو ما يأخذه رجال الكنيسة مقابل «صك الغفران»‏!‏ وهو الصد عن دين الله والوقوف في وجهه بالقوة وفتنة المؤمنين عن دينهم‏.‏ وهو تعبيد العباد لغير الله وإخضاعهم لأحكام وشرائع لم ينزلها الله‏.‏‏.‏ فهذا كله ينطبق عليه‏:‏ ‏{‏ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله‏}‏‏.‏‏.‏ وهذا كله قائم في أهل الكتاب، كما كان قائماً يومذاك‏!‏

كذلك تصفهم الآية بأنهم ‏{‏لا يدينون دين الحق‏}‏‏.‏‏.‏ وهذا واضح مما سبق بيانه‏.‏ فليس بدين الحق أي اعتقاد بربوبية أحد مع الله‏.‏ كما أنه ليس بدين الحق التعامل بشريعة غير شريعة الله، وتلقي الأحكام من غير الله، والدينونة لسلطان غير سلطان الله‏.‏ وهذا كله قائم في أهل الكتاب، كما كان قائماً فيهم يومذاك‏.‏‏.‏

والشرط الذي يشترطه النص للكف عن قتالهم ليس أن يسلموا‏.‏‏.‏ فلا إكراه في الدين‏.‏ ولكن أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏.‏‏.‏ فما حكمة هذا الشرط، ولماذا كانت هذه هي الغاية التي ينتهي عندها القتال‏؟‏

إن أهل الكتاب بصفاتهم تلك حرب على دين الله اعتقاداً وسلوكاً؛ كما أنهم حرب على المجتمع المسلم بحكم طبيعة التعارض والتصادم الذاتيين بين منهج الله ومنهج الجاهلية الممثلة في عقيدة أهل الكتاب وواقعهم- وفق ما تصوره هذه الآيات- كما أن الواقع التاريخي قد أثبت حقيقة التعارض وطبيعة التصادم؛ وعدم إمكان التعايش بين المنهجين؛ وذلك بوقوف أهل الكتاب في وجه دين الله فعلاً، وإعلان الحرب عليه وعلى أهله بلا هوادة خلال الفترة السابقة لنزول هذه الآية ‏(‏وخلال الفترة اللاحقة لها إلى اليوم أيضاً‏!‏‏)‏‏.‏

والإسلام- بوصفه دين الحق الوحيد القائم في الأرض- لا بد أن ينطلق لإزالة العوائق المادية من وجهه؛ ولتحرير الإنسان من الدينونة بغير دين الحق؛ على أن يدع لكل فرد حرية الاختيار، بلا إكراه منه ولا من تلك العوائق المادية كذلك‏.‏

وإذن فإن الوسيلة العملية لضمان إزالة العوائق المادية، وعدم الإكراه على اعتناق الإسلام في الوقت نفسه، هي كسر شوكة السلطات القائمة على غير دين الحق؛ حتى تستسلم؛ وتعلن استسلامها بقبول إعطاء الجزية فعلاً‏.‏

وعندئذ تتم عملية التحرير فعلاً، بضمان الحرية لكل فرد أن يختار دين الحق عن اقتناع‏.‏ فإن لم يقتنع بقي على عقيدته، وأعطى الجزية‏.‏ لتحقيق عدة أهداف‏:‏

أولها‏:‏ أن يعلن بإعطائها استسلامه وعدم مقاومته بالقوة المادية للدعوة إلى دين الله الحق‏.‏

وثانيها‏:‏ أن يساهم في نفقات الدفاع عن نفسه وماله وعرضه وحرماته التي يكفلها الإسلام لأهل الذمة ‏(‏الذين يؤدون الجزية فيصبحون في ذمة المسلمين وضمانتهم‏)‏ ويدفع عنها من يريد الاعتداء عليها من الداخل أو من الخارج بالمجاهدين من المسلمين‏.‏

وثالثها‏:‏ المساهمة في بيت مال المسلمين الذي يضمن الكفالة والإعاشة لكل عاجز عن العمل، بما في ذلك أهل الذمة، بلا تفرقة بينهم وبين المسلمين دافعي الزكاة‏.‏

ولا نحب أن نستطرد هنا إلى الخلافات الفقهية حول من تؤخذ منهم الجزية ومن لا تؤخذ منهم‏.‏ ولا عن مقادير هذه الجزية‏.‏ ولا عن طرق ربطها ومواضع هذا الربط‏.‏‏.‏ ذلك أن هذه القضية برمتها ليست معروضة علينا اليوم، كما كانت معروضة علىعهود الفقهاء الذين أفتوا فيها واجتهدوا رأيهم في وقتها‏.‏

إنها قضية تعتبر اليوم «تاريخية» وليست «واقعية»‏.‏‏.‏ إن المسلمين اليوم لا يجاهدون‏!‏‏.‏‏.‏ ذلك أن المسلمين اليوم لا يوجدون‏!‏‏.‏‏.‏ إن قضية «وجود» الإسلام ووجود المسلمين هي التي تحتاج اليوم إلى علاج‏!‏

والمنهج الإسلامي- كما قلنا من قبل مراراً- منهج واقعي جاد؛ يأبى أن يناقش القضايا المعلقة في الفضاء؛ ويرفض أن يتحول إلى مباحث فقهية لا تطبق في عالم الواقع- لأن الواقع لا يضم مجتمعاً مسلماً تحكمه شريعة الله، ويصرّف حياته الفقه الإسلامي- ويحتقر الذين يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بمثل هذه المباحث في أقضية لا وجود لها بالفعل؛ ويسميهم «الأرأيتيين» الذين يقولون‏:‏ «أرأيت لو أن كذا وقع فما هو الحكم‏؟‏»‏.‏

إن نقطة البدء الآن هي نقطة البدء في أول عهد الناس برسالة الإسلام‏.‏‏.‏ أن يوجد في بقعة من الأرض ناس يدينون دين الحق؛ فيشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله‏.‏‏.‏ ومن ثم يدينون لله وحده بالحاكمية والسلطان والتشريع؛ ويطبقون هذا في واقع الحياة‏.‏‏.‏ ثم يحاولون أن ينطلقوا في الأرض بهذا الإعلان العام لتحرير الإنسان‏.‏‏.‏ ويومئذ- ويومئذ فقط- سيكون هناك مجال لتطبيق النصوص القرآنية والأحكام الإسلامية في مجال العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات‏.‏‏.‏ ويومئذ- ويومئذ فقط- يجوز الدخول في تلك المباحث الفقهية، والاشتغال بصياغة الأحكام، والتقنين للحالات الواقعة التي يواجهها الإسلام بالفعل، لا في عالم النظريات‏!‏

وإذا كنا قد تعرضنا لتفسير هذه الآية- من ناحية الأصل والمبدأ- فإنما فعلنا هذا لأنها تتعلق بمسألة اعتقادية وترتبط بطبيعة المنهج الإسلامي‏.‏

وعند هذا الحد نقف، فلا نتطرق وراءه إلى المباحث الفقهية الفرعية احتراماً لجدية المنهج الإسلامي وواقعيته وترفعه على هذا الهزال‏!‏

‏{‏وقالت اليهود‏:‏ عزير ابن الله؛ وقالت النصارى‏:‏ المسيح ابن الله‏.‏ ذلك قولهم بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل‏.‏ قاتلهم الله‏!‏ أنى يؤفكون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

لما أمر الله المسلمين بقتال أهل الكتاب ‏{‏حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏‏.‏‏.‏ كانت هنالك ملابسات في واقع المجتمع المسلم في المدينة- تحدثنا عنها في تقديم السورة وتقديم المقطع الأول منها- تدعو إلى توكيد هذا الأمر وتقويته؛ وجلاء الأسباب والعوامل التي تحتمه؛ وإزالة الشبهات والمعوقات التي تحيك في بعض النفوس تجاهه‏.‏ وبخاصة أن طاعة هذا الأمر كانت تقتضي مواجهة الروم في أطراف الشام‏.‏ والروم كانوا مرهوبين من العرب قبل الإسلام؛ وكانوا مسيطرين على شمال الجزيرة لفترة طويلة؛ ولهم أعوان من القبائل العربية، وسلطنة خاضعة لنفوذهم هي سلطنة الغساسنة‏.‏‏.‏ وحقيقة أن هذه لم تكن أول ملحمة يخوضها المسلمون مع الروم، بعد أن أعز الله أولئك العرب بالإسلام، وجعل منهم أمة تواجه الروم والفرس بعد أن كانوا قبائل لا تجرؤ ولا تفكر في الالتحام بالروم والفرس؛ وكل ما عرف عنها من شجاعة إنما يتبدى في قتال بعضها لبعض، وفي الغارات والثارات والنهب والسلب‏!‏ ولكن مهابة الروم كانت ما تزال باقية في أعماق النفوس- وبخاصة تلك التي لم يتم انطباعها بالطابع الإسلامي الأصيل- وكانت آخر ملحمة كبيرة بين المسلمين والروم- وهي غزوة مؤتة- ليست في صالح المسلمين‏.‏ وقد احتشد فيها من الروم وعملائهم من نصارى العرب ما روي أنه مائتا ألف‏!‏

كل هذه الملابسات- سواء ما يتعلق منها بتركيب المجتمع المسلم في هذه الفترة؛ أو ما يختص برواسب المهابة للروم والتخوف من الالتحام معهم؛ مضافاً إليها ظروف الغزوة ذاتها- وقد سميت غزوة العسرة لما سنبينه من الظروف التي أحاطت بها- وفوق ذلك كله شبهة أن الروم وعمالهم من نصارى العرب هم أهل كتاب‏.‏‏.‏ كل هذه الملابسات دعت إلى زيادة الإيضاحات والبيانات القوية لتقرير حتمية هذا الأمر، وإزلة الشبهات والمعوقات النفسية، وجلاء الأسباب والعوامل لتلك الحتمية‏.‏‏.‏

وفي هذه الآية يبين السياق القرآني ضلال عقيدة أهل الكتاب هؤلاء؛ وأنها تضاهئ عقيدة المشركين من العرب، والوثنيين من قدامى الرومان وغيرهم‏.‏ وأنهم لم يستقيموا على العقيدة الصحيحة التي جاءتهم بها كتبهم؛ فلا عبرة إذن بأنهم أهل كتاب، وهم يخالفون في الاعتقاد الأصل الذي تقوم عليه العقيدة الصحيحة في كتبهم‏.‏ والذي يلفت النظر هو ذكر اليهود هنا وقولهم‏:‏ عزير ابن الله؛ في حين أن الآيات كانت بصدد التوجيه والتحضير لمواجهة الروم وحلفائهم من نصارى العرب‏.‏

‏.‏ وذلك- على ما نرجح- يرجع إلى أمرين‏:‏

الأول‏:‏ أنه لما كان نص الآيات عاماً؛ والأمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون عاما؛ فقد اقتضى السياق بيان الأصل الاعتقادي الذي يستند إليه هذا الأمر العام في شأن أهل الكتاب عامة من اليهود والنصارى سواء‏.‏

الثاني‏:‏ أن اليهود كانوا قد رحلوا من المدينة إلى أطراف الشام؛ بعدما اشتبكوا مع الإسلام والمسلمين في حرب مريرة منذ مقدم الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة؛ انتهت بإجلاء بني قينقاع وبني النضير إلى أطراف الشام؛ هم وأفراد من بني قريظة‏.‏ فكان اليهود يومئذ في طريق الانطلاق الإسلامي إلى أطراف الشام‏.‏ مما اقتضى أن يشملهم ذلك الأمر، وأن يشملهم هذا البيان‏.‏

وقول النصارى‏:‏ ‏{‏المسيح ابن الله‏}‏ معلوم مشهور؛ وما تزال عليه عقائدهم حتى اللحظة منذ أن حرفها بولس، ثم تم تحريفها على أيدي المجامع المقدسة- كما سنبين- فأما قول اليهود‏:‏ ‏{‏عزير ابن الله‏}‏ فليس شائعاً ولا معروفاً اليوم‏.‏ والذي في كتب اليهود المدونة الباقية سفر باسم «عزرا»- وهو عزير- نعت فيه بأنه كاتب ماهر في توارة موسى، وأنه وجه قلبه لالتماس شريعة الرب‏.‏‏.‏ ولكن حكاية هذا القول عن اليهود في القرآن دليل قاطع على أن بعضهم على الأقل- وبخاصة يهود المدينة- زعموا هذا الزعم، وراج بينهم؛ وقد كان القرآن يواجه اليهود والنصارى مواجهة واقعية؛ ولو كان فيما يحكيه من أقوالهم ما لا وجود له بينهم لكان هذا حجة لهم على تكذيب ما يرويه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولما سكتوا عن استخدام هذا على أوسع نطاق‏!‏

وقد أورد المرحوم الشيخ رشيد رضا في الجزء العاشر من تفسير المنار ‏(‏ص 378- ص 385‏)‏ خلاصة مفيدة عن مكانة عزرا عند اليهود وعلق عليها كذلك تعليقاً مفيداً ننقل منه هنا فقرات تفيدنا في بيان حقيقة ما عليه اليهود إجمالاً‏.‏ قال‏:‏

«جاء في دائرة المعارف اليهودية ‏(‏طبعة 1903‏)‏ أن عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملي لليهودية الذي تفتحت فيه أزهاره وعبق شذا ورده‏.‏ وأنه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة ‏(‏وفي الأصل عربة أو مركبة الشريعة‏)‏ لو لم يكن جاء بها موسى ‏(‏التلمود 21 ب‏)‏ فقد كانت نسيت‏.‏ ولكن عزرا أعادها أو أحياها‏.‏ ولولا خطايا بني إسرائيل لاستطاعوا رؤية الآيات ‏(‏المعجزات‏)‏ كما رأوها في عهد موسى‏.‏‏.‏ اه‏.‏‏.‏ وذكر فيها أنه كتب الشريعة بالحروف الأشورية- وكان يضع علامة على الكلمات التي يشك فيها- وأن مبدأ التاريخ اليهودي يرجع إلى عهده‏.‏

وقال الدكتور جورج بوست في قاموس الكتاب المقدس‏:‏ عزرا ‏(‏عون‏)‏ كاهن يهودي وكاتب شهير سكن بابل مدة» ارتحشثتا «الطويل الباع؛ وفي السنة السابعة لملكه أباح لعزرا بأن يأخذ عدداً وافراً من الشعب إلى أورشليم سنة 457 ق‏.‏

م ‏(‏عزرا ص 7‏)‏ وكانت مدة السفر أربعة أشهر‏.‏

«ثم قال‏:‏ وفي تقليد اليهود يشغل عزرا موضعاً يقابل بموضع موسى وإيليا؛ ويقولون إنه أسس المجمع الكبير، وأنه جمع أسفار الكتاب المقدس، وأدخل الأحرف الكلدانية عوض العبرانية القديمة، وأنه ألف أسفار» الأيام «و» عزرا «و» نحميا «‏.‏

» ثم قال‏:‏ ولغة سفر «عزرا» من ص 4‏:‏ 8- 6‏:‏ 19 كلدانية، وكذلك ص 7‏:‏ 1- 27، وكان الشعب بعد رجوعهم من السبي يفهمون الكلدانية أكثر من العبرانية‏.‏ ا ه‏.‏

«وأقول‏:‏ إن المشهور عند مؤرخي الأمم، حتى أهل الكتاب منهم، أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام ووضعها في تابوت العهد أو بجانبه، قد فقدت قبل عهد سليمان عليه السلام‏.‏ فإنه لما فتح التابوت في عهده لم يوجد فيه غير اللوحين اللذين كتبت فيهما الوصايا العشر، كما تراه في سفر الملوك الأول‏.‏ وأن ‏(‏عزرا‏)‏ هذا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي بالحروف الكلدانية، واللغة الكلدانية الممزوجة ببقايا اللغة العبرية التي نسي اليهود معظمها‏.‏ ويقول أهل الكتاب‏:‏ إن عزرا كتبها كما كانت بوحي أو بإلهام من الله‏.‏‏.‏ وهذا ما لا يسلمه لهم غيرهم، وعليه اعتراضات كثيرة مذكورة في مواضعها من الكتب الخاصة بهذا الشأن، حتى من تآليفهم، كذخيرة الألباب للكاثوليك- وأصله فرنسي- وقد عقد الفصلين الحادي عشر والثاني عشر لذكر بعض الاعتراضات على كون الأسفار الخمسة لموسى‏.‏ ومنها قوله‏:‏

» جاء في سفر عزرا ‏(‏4 ف 14 عدد 21‏)‏ أن جميع الأسفار المقدسة حرقت بالنار في عهد «نبوخذ نصر» حيث قال‏:‏ «إن النار أبطلت شريعتك فلم يعد سبيل لأي امرئ أن يعرف ما صنعت‏!‏» ويزاد على ذلك أن عزرا أعاد بوحي الروح القدس تأليف الأسفار المقدسة التي أبادتها النار، وعضده فيها كتبة خمسة معاصرون، ولذلك ترى «ثرثوليانوس» والقديس «إيريناوس» والقديس «إيرونيموس» والقديس «يوحنا الذهبي» والقديس «باسيليوس» وغيرهم يدعون عزرا‏:‏ مرمم الأسفار المقدسة المعروفة عند اليهود‏.‏‏.‏ اه‏.‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏ «نكتفي بهذا البيان هنا ولنا فيه غرضان‏:‏ ‏(‏أحدهما‏)‏‏:‏ أن جميع أهل الكتاب مدينون لعزير هذا في مستند دينهم وأصل كتبهم المقدسة عندهم‏.‏ ‏(‏وثانيهما‏)‏‏:‏ أن هذا المستند واهي النسيان متداعي الأركان، وهذا هو الذي حققه علماء أوربة الأحرار‏.‏ فقد جاء في ترجمته من دائرة المعارف البريطانية بعد ذكر ما في سفره وسفر نحميا من كتابته للشريعة‏:‏ أنه جاء في روايات أخرى متأخرة عنها أنه لم يعد إليهم الشريعة التي أحرقت فقط، بل أعاد جميع الأسفار العبرية التي كانت قد أتلفت، وأعاد سبعين سفراً غير قانونية ‏(‏أبو كريف‏)‏ ثم قال كاتب الترجمة فيها‏:‏ وإذا كانت الأسطورة الخاصة بعزرا هذا قد كتبها مَن كتبها من المؤرخين بأقلامهم من تلقاء أنفسهم، ولم يستندوا في شيء منها إلى كتاب آخر، فكتاب هذا العصر يرون أن أسطورة عزرا قد اختلقها أولئك الرواة اختلاقاً‏.‏

‏.‏‏.‏ ‏(‏انظر ص 14 ج 9 من الطبعة الرابعة عشرة سنة 1929‏)‏‏.‏

«وجملة القول‏:‏ أن اليهود كانوا وما يزالون يقدسون عزيرا هذا حتى إن بعضهم أطلق عليه لقب» ابن الله «‏.‏ ولا ندري أكان إطلاقه عليه بمعنى التكريم الذي أطلق على إسرائيل وداود وغيرهما، أم بالمعنى الذي سيأتي قريباً عن فيلسوفهم ‏(‏فيلو‏)‏ وهو قريب من فلسفة وثنيي الهند التي هي أصل عقيدة النصارى‏.‏ وقد اتفق المفسرون على أن إسناد هذا القول إليهم يراد به بعضهم لا كلهم‏.‏‏.‏

‏.‏‏.‏‏.‏» وأما الذين قالوا هذا القول من اليهود فهم بعض يهود المدينة، كالذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود‏:‏ يد الله مغلولة، غلت أيديهم‏}‏ الآية‏.‏‏.‏ والذين قال فيهم‏:‏ ‏{‏لقد كفر الذين قالوا‏:‏ إن الله فقير ونحن أغنياء‏}‏ رداً على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً‏}‏ ويحتمل أن يكون قد سبقهم إليه غيرهم ولم ينقل إلينا‏.‏‏.‏

«روى ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس ‏(‏رضي‏)‏ قال‏:‏ أتى رسول الله ‏(‏ص‏)‏ سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وأبو أنس وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا‏:‏ كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله‏؟‏‏!‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

» ومن المعلوم أن بعض النصارى الذين قالوا‏:‏ إن المسيح ابن الله كانوا من اليهود‏.‏ وقد كان ‏(‏فيلو‏)‏ الفيلسوف اليهودي الإسكندري المعاصر للمسيح يقول‏:‏ إن لله ابناً هو كلمته التي خلق بها الأشياء‏.‏ فعلى هذا لا يبعد أن يكون بعض المتقدمين على عصر البعثة المحمدية قد قالوا‏:‏ إن عزيراً ابن الله بهذا المعنى «‏.‏‏.‏

ومن هذا البيان يتضح ما وراء حكاية القرآن لقول اليهود هذا- في هذه المناسبة التي يتوخاها السياق- فهي تقرير حقيقة ما عليه فريق من أهل الكتاب من فساد الاعتقاد، الذي لا يتفق معه أن يكونوا مؤمنين بالله، أو أن يكونوا يدينون دين الحق‏.‏ وهذه هي الصفة الأساسية التي قام عليها حكم القتال‏.‏ وإن يكن القصد من القتال ليس هو إكراههم على الإسلام؛ وإنما هو كسر شوكتهم التي يقفون بها في وجه الإسلام؛ واستسلامهم لسلطانه ليتحرر الأفراد- في ظل هذا الاستسلام- من التأثر بالضغوط التي تقيد إرادتهم في اختيار دين الحق من غير إكراه من هنا أو من هناك‏.‏

أما قول النصارى «المسيح ابن الله» وأنه ثالث ثلاثة فهو- كما قلنا- شائع مشهور، وعليه جميع مذاهبهم منذ أن حرف بولس رسالة المسيح القائمة على التوحيد كبقية الرسالات؛ ثم أتمت تحريفها المجامع المقدسة، وقضت على أصل فكرة التوحيد قضاء نهائياً‏!‏

وسنكتفي مرة أخرى بنقل ملخص جيد في عقائد النصارى عن تفسير المنار للأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا- جاء فيه بعنوان‏:‏ «ثالوث‏:‏ Trinite- y»

«كلمة تطلق عند النصارى على وجود ثلاثة أقانيم معاً في اللاهوت تعرف بالأب والابن والروح القدس، وهذا التعليم هو من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية والشرقية وعموم البروتستانت إلا ما ندر، والذين يتمسكون بهذا التعليم يذهبون إلى أنه مطابق لنصوص الكتاب المقدس، وقد أضاف اللاهوتيون إليه شروحاً وإيضاحات اتخذوها من تعاليم المجامع القديمة وكتابات آباء الكنيسة العظام‏.‏ وهي تبحث عن طريقة ولادة الأقنوم الثاني وانبثاق الأقنوم الثالث، وما بين الأقانيم الثلاثة من النسبة، وصفاتهم المميزة وألقابهم‏.‏ ومع أن لفظة ثالوث لا توجد في الكتاب المقدس، ولا يمكن أن يؤتى بآية من العهد القديم تصرح بتعليم الثالوث، قد اقتبس المؤلفون المسيحيون القدماء آيات كثيرة تشير إلى وجود صورة جمعية في اللاهوت؛ ولكن إذ كانت تلك الآيات قابلة لتفاسير مختلفة كانت لا يؤتى بها كبرهان قاطع على تعليم الثالوث بل كرموز إلى الوحي الواضح الصريح الذي يعتقدون أنه مذكور في العهد الجديد‏.‏ وقد اقتبس منه مجموعان كبيران من الآيات كحجج لإثبات هذا التعليم ‏(‏أحدهما‏)‏ الآيات التي ذكر فيها الأب والابن والروح القدس معاً ‏(‏والآخر‏)‏ التي ذكر فيها كل منهم على حدة والتي تحتوي على نوع أخص صفاتهم ونسبة أحدهم إلى الآخر‏.‏

» والجدال عن الأقانيم في اللاهوت ابتدأ في العصر الرسولي‏.‏ وقد نشأ على الأكثر عن تعاليم الفلاسفة الهيلانيين والغنوسطيين فإن ثيوفيلوس أسقف إنطاكية في القرن الثاني استعمل كلمة «ترياس» باليونانية، ثم كان «ترتليانوس» أول من استعمل كلمة «ترينيتاس» المرادفة لها ومعناها الثالوث، وفي الأيام السابقة للمجمع النيقاوي حصل جدال مستمر في هذا التعليم وعلى الخصوص في الشرق؛ وحكمت الكنيسة على كثير من الآراء بأنها أراتيكية ومن جملتها آراء الأبيونيين الذين كانوا يعتقدون أن المسيح إنسان محض «والسابيليين» الذين كانوا يعقتدون أن الأب والابن والروح القدس إنما هي صور مختلفة أعلن بها الله نفسه للناس «والأريوسيين» الذين كانوا يعتقدون أن الابن ليس أزلياً كالأب بل هو مخلوق منه قبل العالم، ولذلك هو دون الأب وخاضع له، «والمكدونيين» الذين أنكروا كون الروح القدس أقنوما‏.‏

«وأما تعليم الكنيسة فقد قرره المجمع النيقاوي سنة 325 للميلاد، ومجمع القسطنطينية سنة 381 وقد حكما بأن الابن والروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الأب، وأن الروح القدس منبثق من الأب، ومجمع طليطلة المنعقد سنة 589 حكم بأن الروح القدس منبثق من الابن أيضاً، وقد قبلت الكنيسة اللاتينية بأسرها هذه الزيادة وتمسكت بها، وأما الكنيسة اليونانية فمع أنها كانت في أول الأمر ساكتة لا تقاوم قد أقامت الحجة فيما بعد على تغيير القانون حاسبة ذلك بدعة‏.‏

«وعبارة ‏(‏ومن الابن أيضاً‏)‏ لا تزال من جملة الموانع الكبرى للاتحاد بين الكنيسة اليونانية والكاثوليكية، وكتب اللوثيريين والكنائس المصلحة أثبتت تعليم الكنيسة الكاثوليكية للثالوث على ما كان عليه من دون تغيير، ولكن قد ضاد ذلك منذ القرن الثالث عشر جمهور كبير من اللاهوتيين وعدة طوائف جديدة كالسوسينيانيين والجرمانيين والموحدين والعموميين وغيرهم حاسبين ذلك مضاداً للكتاب المقدس والعقل، وقد أطلق» سويد تيراغ «الثالوث على أقنوم المسيح معلماً بثالوث‏.‏ ولكن لا ثالوث الأقانيم بل ثالوث الأقنوم‏.‏ وكان يفهم بذلك أن ما هو إلهي في طبيعة المسيح هو الأب، وأن الإلهي الذي اتحد بناسوت المسيح هو الابن، وأن الإلهي الذي انبثق منه هو الروح القدس، وانتشار مذهب العقليين في الكنائس اللوثيرية والمصلحة أضعف مدة من الزمان اعتقاد الثالوث بين عدد كبير من اللاهوتيين الجرمانيين‏.‏

» وقد ذهب ‏(‏كنت‏)‏ إلى أن الأب والابن والروح القدس إنما تدل على ثلاث صفات أساسية في اللاهوت، وهي القدرة والحكمة والمحبة، أو على ثلاثة فواعل عليا وهي الخلق والحفظ والضبط، وقد حاول كل من هيجين وشلنغ أن يجعلا لتعليم الثالوث أساساً تخيليا وقد اقتدى بهما اللاهوتيون الجرمانيون المتأخرون، وحاولوا المحاماة عن تعليم الثالوث بطرق مبنية على أسس تخيلية ولاهوتية؛ وبعض اللاهوتيين الذين يعتمدون على الوحي لا يتمسكون بتعليم استقامة الرأي الكنائسية بالتدقيق كما هي مقررة في مجمعي نيقية والقسطنطينية المسكونيين، وقد قام محامون كثيرون في الأيام المتأخرة لعضد آراء السابيليين على الخصوص «اه‏.‏

ومن هذا العرض المجمل المفيد، يتبين أن جميع الطوائف والمذاهب المسيحية الكنسية لا تدين دين الحق، الذي يقوم على توحيد الله سبحانه؛ وعلى أنه ليس كمثله شيء؛ وأنه لا ينبثق منه- سبحانه- أحد‏!‏

وكثيراً ما ذكر» الأريوسيون «على أنهم» موحدون «وإطلاق اللفظ هكذا مضلل فالآريوسيون لا يوحدون التوحيد المفهوم من دين الله الحق، إنما هم يخلطون‏!‏ فبينما هم يقررون أن المسيح ليس أزلياً كالله- وهذا حق-- يقررون في الوقت نفسه أنه ‏(‏الابن‏)‏ ‏!‏ وأنه مخلوق من ‏(‏الأب‏)‏ قبل خلق العالم‏!‏ وهذا لا يعتبر من» التوحيد «الحقيقي في شيء‏!‏

ولقد صدر حكم الله بالكفر الصريح على من يقولون‏:‏ المسيح ابن الله‏.‏

وعلى من يقولون‏:‏ المسيح هو الله‏.‏ وعلى من يقولون‏:‏ إن الله ثالث ثلاثة‏.‏ ولا تجتمع صفة الكفر وصفة الإيمان في عقيدة، ولا في قلب‏.‏ إنما هما أمران مختلفان‏!‏

والتعقيب القرآني على قول اليهود‏:‏ ‏{‏عزير ابن الله‏}‏‏.‏ وقول النصارى‏:‏ ‏{‏المسيح ابن الله‏}‏ يثبت أنهم في هذا يماثلون قول الذين كفروا من قبل ومعتقداتهم وتصوراتهم‏:‏

‏{‏ذلك قولهم بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل‏}‏‏.‏‏.‏

فهو أولاً يثبت أن هذا القول صادر منهم، وليس مقولاً عنهم‏.‏ ومن ثم يذكر ‏{‏أفواههم‏}‏ لاستحضار الصورة الحسية الواقعية- على طريقة القرآن في التصوير- إذ أنه مفهوم أن قولهم يكون بأفواههم‏.‏ فهذه الزيادة ليست لغواً- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وليست إطناباً زائداً، إنما هي طريقة التعبير القرآنية التصويرية؛ فهي التي تستحضر «صورة» القول، وتحيلها واقعية كأنها مسموعة مرئية‏!‏ وذلك فضلاً على ما تؤديه من معنى بياني آخر- إلى جانب استحياء الصورة وإثباتها- وهو أن هذا القول لا حقيقة له في عالم الواقع؛ إنما هو مجرد قول بالأفواه، ليس وراءه موضوع ولا حقيقة‏!‏

ثم نجيء إلى ناحية أخرى من الإعجاز القرآني الدال على مصدره الرباني‏.‏ ذلك قول الله سبحانه‏:‏

‏{‏يضاهئون قول الذين كفروا من قبل‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد كان المفسرون يقولون عن هذه الآية‏:‏ إن المقصود بها أن قولتهم ببنوة أحد لله، تماثل قول المشركين العرب ببنوة الملائكة لله‏.‏‏.‏ وهذا صحيح‏.‏‏.‏ ولكن دلالة هذا النص القرآني أبعد مدى‏.‏ ولم يتضح هذا المدى البعيد إلا حديثاً بعد دراسة عقائد الوثنيين في الهند ومصر القديمة والإغريق‏.‏ مما اتضح معه أصل العقائد المحرفة عند أهل الكتاب- وبخاصة النصارى- وتسربها من هذه الوثنيات إلى تعاليم «بولس الرسول» أولاً؛ ثم إلى تعاليم المجامع المقدسة أخيراً‏.‏‏.‏

إن الثالوث المصري المؤلف من أوزوريس وإيزيس وحوريس هو قاعدة الوثنية الفرعونية‏.‏ وأزوريس يمثل ‏(‏الأب‏)‏ وحوريس يمثل ‏(‏الابن‏)‏ في هذا الثالوث‏.‏

وفي علم اللاهوت الإسكندري الذي كان يدرس قبل المسيح بسنوات كثيرة «الكلمة هي الإله الثاني» ويدعى أيضاً «ابن الله البكر»‏.‏

والهنود كانوا يقولون بثلاثة أقانيم أو ثلاث حالات يتجلى فيها الإله‏:‏ «برهما» في حالة الخلق والتكوين‏.‏ و«فشنو» في حالة الحفظ والقوامة‏.‏ و«سيفا» في حالة الإهلاك والإبادة‏.‏‏.‏ وفي هذه العقيدة، أن «فشنو» هو ‏(‏الابن‏)‏ المنبثق والمتحول عن اللاهوتية في ‏(‏برهما‏)‏ ‏!‏

وكان الأشوريون يؤمنون بالكلمة، ويسمونها ‏(‏مردوخ‏)‏ ويعتقدون أن مردوخ هذا هو ابن الله البكر‏!‏

وكان الإغريق يقولون بالإله المثلث الأقانيم‏.‏ وإذا شرع كهنتهم في تقديم الذبائح يرشون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات، ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصابع، ويرشون المجتمعين حول المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات‏.‏

‏.‏ إشارة إلى التثليث‏.‏‏.‏ وهذه الشعائر هي التي أخذتها الكنيسة بما وراءها من العقائد الوثنية وضمتها للنصرانية تضاهئ بها قول الذين كفروا من قبل‏!‏

ومراجعة عقائد الوثنيين القدامى- التي لم تكن معروفة وقت نزول القرآن- مع هذا النص القرآني‏:‏ ‏{‏يضاهئون قول الذين كفروا من قبل‏}‏- كما أنها تثبت أن أهل الكتاب لا يدينون دين الحق، ولا يؤمنون بالله الإيمان الصحيح- تبين كذلك جانباً من جوانب الإعجاز في القرآن الكريم، بالدلالة على مصدره، أنه من لدن عليم خبير‏.‏‏.‏

وبعد هذا التقرير والبيان تختم الآية المبينة لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من الكفر والشرك، بقوله تعالى‏:‏

‏{‏قاتلهم الله‏!‏ أنى يؤفكون‏؟‏‏}‏‏.‏

و‏.‏‏.‏ نعم‏.‏‏.‏ قاتلهم الله‏!‏ كيف يُصرفون عن الحق الواضح البسيط، إلى هذه الوثنية المعقدة الغامضة التي لا تستقيم لدى عقل أو ضمير‏؟‏‏!‏

ثم ينتقل السياق القرآني إلى صفحة أخرى من صحائف الانحراف الذي عليه أهل الكتاب؛ تتمثل في هذه المرة لا في القول والاعتقاد وحدهما؛ ولكن كذلك في الواقع القائم على الاعتقاد الفاسد‏:‏

‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم‏.‏ وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً، لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون‏}‏‏.‏‏.‏

وفي هذه الآية استمرار في وجهة السياق في هذا المقطع من السورة‏.‏ من إزالة الشبهة في أن هؤلاء أهل كتاب‏.‏‏.‏ فهم إذن على دين الله‏.‏‏.‏ فهي تقرر أنهم لم يعودوا على دين الله، بشهادة واقعهم- بعد شهادة اعتقادهم- وأنهم أمروا بأن يعبدوا الله وحده، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله- كما اتخذوا المسيح ابن مريم رباً- وأن هذا منهم شرك بالله‏.‏ تعالى الله عن شركهم‏.‏‏.‏ فهم إذن ليسوا مؤمنين بالله اعتقاداً وتصورا؛ كما أنهم لا يدينون دين الحق واقعاً وعملاً‏.‏

وقبل أن نقول‏:‏ كيف اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً، نحب أن نعرض الروايات الصحيحة التي تضمنت تفسير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للآية‏.‏ وهو فصل الخطاب‏.‏

الأحبار‏:‏ جمع حَبر أو حِبر بفتح الحاء أو بكسرها، وهو العالم من أهل الكتاب وكثر إطلاقه على علماء اليهود‏.‏‏.‏ والرهبان‏:‏ جمع راهب، وهو عند النصارى المتبتل المنقطع للعبادة؛ وهو عادة لا يتزوج، ولا يزاول الكسب، ولا يتكلف للمعاش‏.‏

وفي «الدر المنثور»‏.‏‏.‏ روى الترمذي ‏(‏وحسنه‏)‏ وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه وغيرهم عن عدي بن حاتم- رضي الله عنه- قال‏:‏ أتيت النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ في سورة براءة‏:‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله‏}‏ فقال‏:‏ «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه»‏.‏

وفي تفسير ابن كثير‏:‏ وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير- من طرق- عن عدي بن حاتم- رضي الله عنه- أنه لما بلغته دعوة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه‏.‏ ثم منّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقدم عدي المدينة- وكان رئيساً في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم- فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله‏}‏ قال‏:‏ فقلت‏:‏ إنهم لم يعبدوهم‏.‏ فقال‏:‏ «بلى‏!‏ إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم‏:‏ فذلك عبادتهم إياهم‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

وقال السدي‏:‏ استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً‏}‏ أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام، وما حلله فهو الحلال وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ‏.‏

وقال الألوسي في التفسير‏:‏

«الأكثرون من المفسرين قالوا‏:‏ ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا أنهم آلهة العالم‏.‏ بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم»‏.‏‏.‏

ومن النص القرآني الواضح الدلالة؛ ومن تفسير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو فصل الخطاب، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار‏.‏

* أن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً بمعنى الاعتقاد بألوهيتهم أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم‏.‏‏.‏ ومع هذا فقد حكم الله- سبحانه- عليهم بالشرك في هذه الآية- وبالكفر في آية تالية في السياق- لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها‏.‏‏.‏ فهذا وحده- دون الاعتقاد والشعائر- يكفي لاعتبار من يفعله مشركاً بالله، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين‏.‏

* أن النص القرآني يسوي في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله، بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقاداً وقدموا إليه الشعائر في العبادة‏.‏ فهذه كتلك سواء في اعتبار فاعلها مشركاً بالله، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين‏.‏‏.‏

* أن الشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده؛ ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته؛ ولا تقديم الشعائر التعبدية له‏.‏

‏.‏ كما هو واضح من الفقرة السابقة‏.‏‏.‏ ولكنا إنما نزيدها هنا بياناً‏!‏

وهذه الحقائق- وإن كان المقصود الأول بها في السياق هو مواجهة الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك من التردد والتهيب للمعركة مع الروم، وجلاء شبهة أنهم مؤمنون بالله لأنهم أهل كتاب- هي كذلك حقائق مطلقة تفيدنا في تقرير «حقيقة الدين» عامة‏.‏‏.‏

إن دين الحق الذي لا يقبل الله من الناس كلهم ديناً غيره هو «الإسلام»‏.‏‏.‏ والإسلام لا يقوم إلا باتباع الله وحده في الشريعة- بعد الاعتقاد بألوهيته وحده وتقديم الشعائر التعبدية له وحده- فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة الله صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى من أنهم مشركون لا يؤمنون بالله- مهما كانت دعواهم في الإيمان- لأن هذا الوصف يلحقهم بمجرد اتباعهم لتشريع العباد لهم من دون الله، بغير إنكار منهم يثبت منه أنهم لا يتبعون إلا عن إكراه واقع بهم، لا طاقة لهم بدفعه، وأنهم لا يقرون هذا الافتئات على الله‏.‏‏.‏

إن مصطلح «الدين» قد انحسر في نفوس الناس اليوم، حتى باتوا يحسبونه عقيدة في الضمير، وشعائر تعبدية تقام‏!‏ وهذا ما كان عليه اليهود الذين يقرر هذا النص المحكم- ويقرر تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنهم لم يكونوا يؤمنون بالله، وأنهم أشركوا به، وأنهم خالفوا عن أمره بألا يعبدوا إلا إلهاً واحداً، وأنهم اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله‏.‏

إن المعنى الأول للدين هو الدينونة- أي الخضوع والاستسلام والاتباع- وهذا يتجلى في اتباع الشرائع كما يتجلى في تقديم الشعائر‏.‏ والأمر جد لا يقبل هذا التميع في اعتبار من يتبعون شرائع غير الله- دون إنكار منهم يثبتون به عدم الرضا عن الافتئات على سلطان الله- مؤمنين بالله، مسلمين، لمجرد أنهم يعتقدون بألوهية الله سبحانه ويقدمون له وحده الشعائر‏.‏‏.‏ وهذا التميع هو أخطر ما يعانيه هذا الدين في هذه الحقبة من التاريخ؛ وهو أفتك الأسلحة التي يحاربه بها أعداؤه؛ الذين يحرصون على تثبيت لافتة «الإسلام» على أوضاع، وعلى أشخاص، يقرر الله سبحانه في أمثالهم أنهم مشركون لا يدينون دين الحق، وأنهم يتخذون أرباباً من دون الله‏.‏‏.‏ وإذا كان أعداء هذا الدين يحرصون على تثبيت لافتة الإسلام على تلك الأوضاع وهؤلاء الأشخاص؛ فواجب حماة هذا الدين أن ينزعوا هذه اللافتات الخادعة؛ وأن يكشفوا ما تحتها من شرك وكفر واتخاذ أرباب من دون الله‏.‏‏.‏ ‏{‏وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون‏}‏‏.‏

‏.‏‏.‏

ثم يمضي السياق خطوة أخرى في تحريض المؤمنين على القتال‏:‏

‏{‏يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون‏.‏ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله‏.‏ ولو كره المشركون‏}‏‏.‏‏.‏

إن أهل الكتاب هؤلاء لا يقفون عند حد الانحراف عن دين الحق، وعبادة أرباب من دون الله‏.‏ وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر- وفق المفهوم الصحيح للإيمان بالله واليوم الآخر- إنما هم كذلك يعلنون الحرب على دين الحق؛ ويريدون إطفاء نور الله في الأرض المتمثل في هذا الدين، وفي الدعوة التي تنطلق به في الأرض، وفي المنهج الذي يصوغ على وفقه حياة البشر‏.‏‏.‏

‏{‏يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم‏}‏‏.‏‏.‏

فهم محاربون لنور الله‏.‏ سواء بما يطلقونه من أكاذيب ودسائس وفتن؛ أو بما يحرضون به أتباعهم وأشياعهم على حرب هذا الدين وأهله، والوقوف سداً في وجهه- كما كان هو الواقع الذي تواجهه هذه النصوص وكما هو الواقع على مدار التاريخ‏.‏

وهذا التقرير- وإن كان يراد به استجاشة قلوب المسلمين إذا ذاك- هو كذلك يصور طبيعة الموقف الدائم لأهل الكتاب من نور الله المتمثل في دينه الحق الذي يهدي الناس بنور الله‏.‏

‏{‏ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون‏}‏‏.‏‏.‏

وهو الوعد الحق من الله، الدال على سنته التي لا تتبدل، في إتمام نوره بإظهار دينه ولو كره الكافرون‏.‏‏.‏

وهو وعد تطمئن له قلوب الذين آمنوا؛ فيدفعهم هذا إلى المضي في الطريق على المشقة واللأواء في الطريق؛ وعلى الكيد والحرب من الكافرين ‏(‏والمراد بهم هنا هم أهل الكتاب السابق ذكرهم‏)‏‏.‏‏.‏ كما أنه يتضمن في ثناياه الوعيد لهؤلاء الكافرين وأمثالهم على مدار الزمان‏!‏

ويزيد السياق هذا الوعيد وذلك الوعد توكيداً‏:‏

‏{‏هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون‏}‏‏.‏‏.‏

وفي هذا النص يتبين أن المراد بدين الحق الذي سبق في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏‏.‏‏.‏ هو هذا الدين الذي أرسل الله به رسوله الأخير‏.‏ وأن الذين لا يدينون بهذا الدين هم الذين يشملهم الأمر بالقتال‏.‏‏.‏

وهذا صحيح على أي وجه أوّلنا الآية‏.‏ فالمقصود إجمالاً بدين الحق هو الدينونة لله وحده في الاعتقاد والشعائر والشرائع- وهذه هي قاعدة دين الله كله، وهو الدين الممثل أخيراً فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم- فأيما شخص أو قوم لم يدينوا لله وحده في الاعتقاد والشعائر والشرائع مجتمعة؛ انطبق عليهم أنهم لا يدينون دين الحق، ودخلوا في مدلول آية القتال‏.‏

‏.‏ مع مراعاة طبيعة المنهج الحركي للإسلام، ومراحله المتعددة، ووسائله المتجددة كما قلنا مراراً‏.‏

‏{‏هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا توكيد لوعد الله الأول‏:‏ ‏{‏ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون‏}‏‏.‏‏.‏ ولكن في صورة أكثر تحديداً‏.‏ فنور الله الذي قرر سبحانه أن يتمه، هو دين الحق الذي أرسل به رسوله ليظهره على الدين كله‏.‏

ودين الحق- كما أسلفنا- هو الدينونة لله وحده في الاعتقاد والعبادة والتشريع مجتمعة‏.‏ وهو متمثل في كل دين سماوي جاء به رسول من قبل‏.‏ ولا يدخل فيه طبعاً تلك الديانات المحرفة المشوهة المشوبة بالوثنيات في الاعتقاد التي عليها اليهود والنصارى اليوم‏.‏ كما لا تدخل فيه الأنظمة والأوضاع التي ترفع لافتة الدين، وهي تقيم في الأرض أرباباً يعبدها الناس من دون الله، في صورة الاتباع للشرائع التي لم ينزلها الله‏.‏

والله سبحانه يقول‏:‏ إنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله‏.‏‏.‏ ويجب أن نفهم ‏{‏الدين‏}‏ بمدلوله الواسع الذي بيناه، لندرك أبعاد هذا الوعد الإلهي ومداه‏.‏‏.‏

إن ‏{‏الدين‏}‏ هو «الدينونة»‏.‏‏.‏ فيدخل فيه كل منهج وكل مذهب وكل نظام يدين الناس له بالطاعة والاتباع والولاء‏.‏‏.‏

والله سبحانه يعلن قضاءه بظهور دين الحق الذي أرسل به رسوله على ‏{‏الدين‏}‏ كله بهذا المدلول الشامل العالم‏!‏

إن الدينونة ستكون لله وحده‏.‏ والظهور سيكون للمنهج الذي تتمثل فيه الدينونة لله وحده‏.‏

ولقد تحقق هذا مرة على يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخلفائه ومن جاء بعدهم فترة طويلة من الزمان‏.‏ وكان دين الحق أظهر وأغلب؛ وكانت الأديان التي لا تخلص فيها الدينونة لله تخاف وترجف‏!‏ ثم تخلى أصحاب دين الحق عنه؛ خطوة فخطوة بفعل عوامل داخلة في تركيب المجتمعات الإسلامية من ناحية وبفعل الحرب الطويلة المدى، المنوعة الأساليب، التي أعلنها عليه أعداؤه من الوثنيين وأهل الكتاب سواء‏.‏‏.‏

ولكن هذه ليست نهاية المطاف‏.‏‏.‏ إن وعد الله قائم، ينتظر العصبة المسلمة، التي تحمل الراية وتمضي مبتدئة من نقطة البدء، التي بدأت منها خطوات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يحمل دين الحق ويتحرك بنور الله‏.‏‏.‏

ثم يخطو السياق الخطوة الأخيرة في هذا المقطع من السورة، مصوراً كيف أن أهل الكتاب لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، بعد ما أشار إلى هذه الحقيقة في قوله‏:‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله‏}‏ التي فسرها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأنهم «أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم»‏.‏ فبين أنهم إذن لا يحرمون ما حرم الله ورسوله؛ إنما يحرمون ما حرمه عليهم الأحبار والرهبان‏!‏

يخطو السياق الخطوة الأخيرة في بيان هذه الحقيقة مخاطباً بها الذين آمنوا كاشفاً لهم في هذا الخطاب عن حقيقة أهل الكتاب‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا، إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله‏.‏

والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم‏.‏ يوم يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم‏.‏ هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون‏}‏‏.‏‏.‏

وفي الآية الأولى استطراد في بيان دور الأحبار والرهبان الذين اتخذهم أهل الكتاب أرباباً من دون الله، فاتبعوهم فيما يشرعون لهم من المعاملات ومن العبادات سواء‏.‏ فهؤلاء الأحبار والرهبان يجعلون من أنفسهم ويجعلهم قومهم أرباباً تتبع وتطاع؛ وهم فيما يشرعون يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله‏.‏

وأكل أموال الناس كان يتمثل في صور شتى وما يزال‏:‏

منها ما يأخذونه على فتاوى تحليل الحرام وتحريم الحلال لصالح من يملكون المال أو السلطان‏.‏ ومنها ما يأخذه القسيس أو الكاهن مقابل الاعتراف له بالخطايا وغفرانه- بالسلطان المخول للكنيسة في زعمهم- لتلك الخطايا‏!‏ ومنها الربا- وهو أوسع أبوابها وأبشعها- وغيرها كثير‏.‏

كذلك ما يجمعونه من أموال الناس لمحاربة دين الحق؛ وقد كان الرهبان والأساقفة والكرادلة والبابوات يجمعون مئات الملايين في الحروب الصليبية، وما يزالون يجمعونها للتبشير والاستشراق للصد عن سبيل الله‏.‏

ولا بد أن نلحظ الدقة القرآنية والعدل الإلهي في قول الله تعالى في ذلك‏.‏

‏{‏إن كثيرا ًمن الأحبار والرهبان‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

للاحتراز من الحكم على القليل منها الذي لا يزاول هذه الخطيئة‏.‏ ولا بد من أفراد في أية جماعة من الناس فيهم بقية خير‏.‏‏.‏ ولا يظلم ربك أحداً‏.‏‏.‏

والكثير من الأحبار والرهبان يكنزون هذه الأموال التي يأكلونها بالباطل‏.‏ وقد شهد تاريخ هؤلاء الناس أموالاً ضخمة تنتهي إلى أيدي رجال الدين وتؤول إلى الكنائس والأديرة‏.‏ وقد جاء عليهم زمان كانوا أكثر ثراء من الملوك المتسلطين والأباطرة الطغاة‏!‏

والسياق القرآني يصور عذابهم في الآخرة بما كنزوا، وعذاب كل من يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله، في مشهد من المشاهد التصويرية الرائعة المروعة‏:‏

‏{‏والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم‏.‏ يوم يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون‏}‏‏.‏‏.‏

إن رسم المشهد هكذا في تفصيل؛ وعرض مشهد العملية منذ خطواتها الأولى إلى خطواتها الأخيرة، ليطيل المشهد في الخيال والحس‏.‏‏.‏ وهي إطالة مقصودة‏.‏

‏{‏والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

ويسكت السياق‏:‏ وتنتهي الآية على هذا الإجمال والإبهام في العذاب‏.‏‏.‏

ثم يأخذ في التفصيل بعد الإجمال‏:‏

‏{‏يوم يحمى عليها في نار جهنم‏}‏‏.‏

وينتظر السامع عملية الإحماء ثم ها هي ذي حميت واحمرت وها هي ذي معدة مهيأة فليبدأ العذاب الأليم ها هي ذي الجباه تكوى لقد انتهت عملية الكي في الجباه فليداروا على الجنوب ها هي ذي الجنوب تكوى لقد انتهت هذه فليداروا على الظهور ها هي ذي الظهور تكوى لقد انتهى هذا اللون من العذاب ‏;‏ فليتبعه الترذيل والتأنيب هذا ما كنزتم لأنفسكم هذا هو بذاته الذي كنزتموه للذة فانقلب أداة لهذا اللون الأليم من العذاب فذوقوا ما كنتم تكنزون ذوقوه بذاته فهو هو الذي تذوقون منه مسه للجنوب والظهور والجباه ألا إنه لمشهد مفزع مروع يعرض في تفصيل وتطويل وأناة وهو يعرض أولاً لتصوير مصائر الكثير من الأحبار والرهبان ثم لتصوير مصائر الكانزين للذهب والفضة لا ينفقونها في سبيل اللّه والسياق يمهد لغزوة العسرة كذلك حينذاك وبعد فلا بد أن نقف هنا وقفة قصيرة للتعقيب نبرز فيها دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة ومن دين ومن خلق ومن سلوك وذلك بالإضافة إلى الإشارات التي أوردناها خلال الفقرات السابقة إن تعرية أهل الكتاب من شبهة أنهم على شيء من دين اللّه ألزم وأشد ضرورة من بيان حال المشركين الصريحين في شركهم الشاهدين على أنفسهم بالكفر بظاهر عقائدهم وشعائرهم ذلك أن نفوس المسلمين لا تنطلق الانطلاق الكامل لمواجهة الجاهلية إلا حين يتجلى لها تماماً وجه الجاهلية ووجه الجاهلية مكشوف صريح فيما يختص بالمشركين ‏;‏ وليس الحال كذلك فيما يختص بأهل الكتاب ومن يزعمون أنهم على شيء من دين اللّه من أمثالهم كالشأن في الغالبية العظمى ممن يدعون أنفسهم اليوم مسلمين ولقد احتاج الانطلاق الكامل لمواجهة المشركين كثيراً من البيان في هذه السورة نظراً للملابسات التي شرحناها في التقديم لهذه السورة وفي التقديم للمقطع الأول منها كذلك حيث قال اللّه سبحانه للمؤمنين كيف يكون للمشركين عهد عند اللّه وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن اللّه يحب المتقين كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمة ‏;‏ يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات اللّه ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة وأولئك هم المعتدون ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فاللّه أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب اللّه على من يشاء واللّه عليم حكيم ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون الخ الخ وإذا كان الانطلاق لمجاهدة المشركين قد اقتضى كل هذه الحملة وأمرهم ظاهر نظراً لتلك الملابسات التي كانت قائمة في التكوين العضوي للمجتمع المسلم في تلك الفترة فقد كان الانطلاق لمجاهدة أهل الكتاب في حاجة إلى حملة أشد وأعمق تستهدف أول ما تستهدف تعرية أهل الكتاب هؤلاء من تلك اللافتة الشكلية التي لم تعد وراءها حقيقة ‏;‏ وتظهرهم على حقيقتهم الواقعية مشركين كالمشركين كفاراً كالكفار محاربين للّه ولدينه الحق كأمثالهم من المشركين الكافرين ضلالاً يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه في مثل هذه النصوص القاطعة الصريحة قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقالت اليهود عزير ابن اللّه وقالت النصارى المسيح ابن اللّه ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم اللّه أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه الخ وذلك بالإضافة إلى التقريرات القرآنية الحاسمة في السور المكية والمدنية على السواء عن حقيقة ما انتهى إليه أمر أهل الكتاب من الشرك والكفر والخروج من دين اللّه الذي جاءهم به أنبياؤهم من قبل ‏;‏ فضلاً على وقفتهم من رسالة اللّه الأخيرة التي على أساس موقفهم منها يتحدد وصفهم بالكفر أو بالإيمان فلقد سبق أن ووجه أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء من دين اللّه أصلاً في قوله تعالى قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين المائدة كذلك سبق وصفهم بالكفر وضمهم إلى المشركين في هذه الصفة يهوداً ونصارى أو مجتمعين في صفة أهل الكتاب في مثل قوله تعالى وقالت اليهود يد اللّه مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً المائدة لقد كفر الذين قالوا إن اللّه هو المسيح ابن مريم المائدة لقد كفر الذين قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة المائدة لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة البينة وغيرها كثير أثبتنا بعضه فيما تقدم والقرآن الكريم مكيُّه ومدنيّه حافل بمثل هذه التقريرات وإذا كانت الأحكام القرآنية قد جعلت لأهل الكتاب بعض الامتيازات في التعامل عن المشركين وذلك كإحلال طعامهم للمسلمين وإجازة التزوج بالمحصنات أي العفيفات من نسائهم فإن ذلك لم يكن مبيناً على أساس أنهم على شيء من دين اللّه الحق ‏;‏ ولكن كان مراعى فيه واللّه أعلم أن لهم أصلاً من دين وكتاب وإن كانوا لا يقيمونه فمن الممكن محاكمتهم إلى هذا الأصل الذي يدعون أنهم عليه فهم في هذا يفترقون عن المشركين الوثنيين الذين لا كتاب لهم ‏;‏ لأنه ليس لهم من أصل يردون إليه ويمكن محاكمتهم له أما تقريرات القرآن عن حقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة ودين فهي صريحة وحاسمة في أنهم ليسوا على شيء من دين اللّه ‏;‏ بعد ما تركوا كتبهم ودينهم إلى ذلك الذي صنعه لهم أحبارهم ورهبانهم ومجامعهم وكنائسهم وفي قول اللّه سبحانه فصل الخطاب في هذا الموضوع والمهم الآن أن نبرز دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من العقيدة والدين إن هذه اللافتة المضللة التي ليس وراءها شيء من الحقيقة تحول دون الانطلاق الإسلامي الكامل لمواجهة الجاهلية فتتحتم إذن إزالة هذه اللافتة ‏;‏ وتعريتهم من ظلها الخادع ‏;‏ وكشفهم على حقيقتهم الواقعة ولا نغفل الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك والتي أشرنا إليها من قبل سواء منها ما يختص بالتكوين العضوي لهذا المجتمع يومها وما يختص بظروف الغزوة ذاتها في الحر والعسرة وما يختص كذلك بالتهيب من لقاء الروم بسبب ما كان لهم في نفوس العرب قبل الإسلام من هيبة وسمعة ومخافة ولكن الأعمق من هذا كله هو ما يحيك في النفس المسلمة عند الأمر بقتال أهل الكتاب على هذا النحو الشامل وهم أهل كتاب وأعداء هذا الدين الراصدون لحركات البعث الإسلامي الجديدة في هذا الجيل يرصدونها عن خبرة واسعة بطبيعة النفس البشرية وبتاريخ الحركة الإسلامية على السواء وهم من أجل ذلك حريصون كل الحرص على رفع لافتة إسلامية على الأوضاع والحركات والاتجاهات والقيم والتقاليد والأفكار التي يعدونها ويقيمونها ويطلقونها لسحق حركات البعث الإسلامي الجديدة في أرجاء الأرض جميعاً ذلك لتكون هذه اللافتة الخادعة مانعة من الانطلاق الحقيقي لمواجهة الجاهلية الحقيقية القابعة وراء تلك اللافتة الكاذبة لقد أخطأوا مضطرين مرة أو مرات في إعلان حقيقة بعض الأوضاع والحركات ‏;‏ وفي الكشف عن الوجه الكالح للجاهلية المنقضة على الإسلام فيها وأقرب مثال لذلك حركة أتاتورك اللاإسلامية الكافرة في تركيا وكان وجه الاضطرار فيها هو حاجتهم الملحة إلى إلغاء آخر مظهر للتجمع الإسلامي تحت راية العقيدة ذلك المظهر الذي كان يتمثل في قيام الخلافة وهو وإن كان مجرد مظهر كان آخر عروة تنقض قبل نقض عروة الصلاة كما قال رسول اللّه ص «ينقض هذا الدين عروة عروة فأولها الحكم وآخرها الصلاة» ولكن أولئك الأعداء الواعين من أهل الكتاب والملحدين الذين لا يجتمعون إلا حين تكون المعركة مع هذا الدين لم يكادوا يتجاوزون منطقة الاضطرار في الكشف عن الوجهة اللاإسلامية الكافرة في حركة أتاتورك حتى عادوا يحرصون بشدة على ستر الأوضاع التالية المماثلة لحركة أتاتورك في وجهتها الدينية بستار الإسلام ‏;‏ ويحرصون على رفع تلك اللافتة الخادعة على تلك الأوضاع وهي أشد خطراً على الإسلام من حركة أتاتورك السافرة ويفتنون افتناناً في ستر حقيقة هذه الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها اقتصادياً وسياسياً وفكرياً ‏;‏ ويهيئون لها أسباب الحماية بأقلام مخابراتهم وبأدوات إعلامهم العالمية ‏;‏ وبكل ما يملكونه من قوة وحيلة وخبرة ‏;‏ ويتعاون أهل الكتاب والملحدون على تقديم المعونات المتنوعة لها ‏;‏ لتؤدي لهم هذه المهمة التي لم تنته منها الحروب الصليبية قديماً ولا حديثاً ‏;‏ يوم كانت هذه الحروب الصليبية معركة سافرة بين الإسلام وأعدائه المكشوفين الظاهرين والسذج ممن يدعون أنفسهم مسلمين يخدعون في هذه اللافتة ومن هؤلاء السذج كثير من الدعاة إلى الإسلام في الأرض فيتحرجون من إنزالها عن الجاهلية القائمة تحتها ويتحرجون من وصف هذه الأوضاع بصفتها الحقيقية التي تحجبها هذه اللافتة الخادعة صفة الشرك والكفر الصريحة ويتحرجون من وصف الناس الراضين بهذه الأوضاع بصفتهم الحقيقية كذلك وكل هذا يحول دون الانطلاق الحقيقي الكامل لمواجهة هذه الجاهلية مواجهة صريحة ‏;‏ لا تحرج فيها ولا تأثم من وصفها بصفتها الحقيقية الواقعة بذلك تقوم تلك اللافتة بعملية تخدير خطرة لحركات البعث الإسلامي ‏;‏ كما تقوم حاجزاً دون الوعي الحقيقي ودون الانطلاق الحقيقي لمواجهة جاهلية القرن العشرين التي تتصدى لسحق الجذور الباقية لهذا الدين هؤلاء السذج من الدعاة إلى الإسلام أخطر في نظري على حركات البعث الإسلامي من أعداء هذا الدين الواعين الذين يرفعون لافتة الإسلام على الأوضاع والحركات والاتجاهات والأفكار والقيم والتقاليد التي يقيمونها ويكفلونها لتسحق لهم هذا الدين إن هذا الدين يَغلب دائماً عندما يصل الوعي بحقيقته وحقيقة الجاهلية إلى درجة معينة في نفوس العصبة المؤمنة في أي زمان وفي أي مكان والخطر الحقيقي على هذا الدين ليس كامناً في أن يكون له أعداء أقوياء واعون مدربون ‏;‏ بقدر ما يكمن في أن يكون له أصدقاء سذج مخدوعون يتحرجون في غير تحرج ‏;‏ ويقبلون أن يتترس أعداؤهم بلافتة خادعة من الإسلام ‏;‏ بينما يرمون الإسلام من وراء هذه اللافتة الخادعة إن الواجب الأول للدعاة إلى هذا الدين في الأرض أن ينزلوا تلك اللافتات الخادعة المرفوعة على الأوضاع الجاهلية والتي تحمي هذة الأوضاع المقامة لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعاً وإن نقطة البدء في أية حركة إسلامية هي تعرية الجاهلية من ردائها الزائف ‏;‏ وإظهارها على حقيقتها شركاً وكفراً ووصف الناس بالوصف الذي يمثل واقعهم ‏;‏ كيما تواجههم الحركة الإسلامية بالطلاقة الكاملة بل كيما ينتبه هؤلاء الناس أنفسهم إلى حقيقة ما انتهى إليه حالهم وهي الحقيقة التي انتهى إليها حال أهل الكتاب كما يقررها الحكيم الخبير عسى أن يوقظهم هذا التنبيه إلى تغيير ما بأنفسهم ليغير اللّه ما بهم من الشقوة والنكد والعذاب الأليم الذي هم فيه مبلسون وكل تحرج في غير موضعه ‏;‏ وكل انخداع بالأشكال والظواهر واللافتات ‏;‏ هو تعويق لنقطة الانطلاق الأولى لأية حركة إسلامية في الأرض جميعاً ‏;‏ وهو تمكين لأعداء هذا الدين من مكرهم الذي أرادوه بالحرص على إقامة تلك اللافتات بعد ما انكشفت حركة أتاتورك في التاريخ الحديث ‏;‏ وباتت عاجزة عن المضي خطوة واحدة بعد إلغاء آخر مظهر من مظاهر التجمع الإسلامي على أساس العقيدة نظراً لانكشاف وجهتها هذا الانكشاف الصريح مما دعا كاتباً صليبياً شديد المكر عميق الخبث مثل ولفرد كانتول سميث في كتابه الإسلام في التاريخ الحديث إلى محاولة تغطية حركة أتاتورك مرة أخرى ونفي الإلحاد عنها واعتبارها أعظم وأصح حركة بعث إسلامي كذا في التاريخ الحديث الدرس السادس تحريم النسيء وإعادة شهور السنة لوضعها الأصلي مقدمة الدرس السادس هذا المقطع في السياق استطراد في إزالة المعوقات التي كانت قائمة في طريق النفرة إلى جهاد الروم وحلفائهم من نصارى العرب في شمال الجزيرة ذلك أن الاستنفار لهذه الغزوة تبوك كان في رجب من الأشهر الحرم ولكن كانت هناك ملابسة واقعة وهي أن رجب في هذا العام لم يكن في موعده الحقيقي وذلك بسبب النسيء الذي ورد ذكره في الآية الثانية كما سنبين فقد ورد أن ذا الحجة في هذا العام لم يكن في موعده كذلك إنما كان في ذي القعدة فكأن رجب كان في جمادى الآخرة وسر هذا الاضطراب كله هو اضطراب الجاهلية في تقاليدها ‏;‏ وعدم التزامها بالحرمات إلا شكلاً ‏;‏ والتأويلات والفتاوى التي تصدر عن البشر ما دام أن أمر التحليل والتحريم يوكل في الجاهلية إلى البشر وبيان هذه القضية أن اللّه حرم الأشهر الحرم الأربعة وهي الثلاثة المتوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم والشهر الرابع المفرد رجب والواضح أن هذا التحريم كان مع فرض الحج في أشهره المعلومات منذ إبراهيم وإسماعيل وعلى كثرة ما حرف العرب في دين إبراهيم وعلى شدة ما انحرفوا عنه في جاهليتهم قبل الإسلام ‏;‏ فإنهم بقوا يعظمون الأشهر الحرم هذه ‏;‏ لارتباطها بموسم الحج ‏;‏ الذي كانت تقوم عليه حياة الحجازيين وبخاصة سكان مكة كيما يكون هناك السلام الشامل في الجزيرة الذي يسمح بالموسم والانتقال إليه والتجارة فيه ثم كانت بعد ذلك تعرض حاجات لبعض القبائل العربية تتعارض مع تحريم هذه الأشهر وهنا تلعب الأهواء ‏;‏ ويقوم من يفتي باستحلال أحد الأشهر الحرم عن طريق تأخيره في عام وتقديمه في عام آخر فتكون عدة الأشهر المحرمة أربعة ولكن أعيان هذه الأشهر تتبدل ليواطئوا عدة ما حرم اللّه فيحلوا ما حرم اللّه فلما كان هذا العام التاسع كان رجب الحقيقي غير رجب وكان ذو الحجة الحقيقي غير ذي الحجة كان رجب هو جمادى الآخرة وكان ذو الحجة هو ذا القعدة وكان النفير في جمادى الآخرة فعلاً وواقعاً ولكنه كان في رجب اسماً بسبب هذا النسيء فجاءت هذه النصوص تبطل النسيء ‏;‏ وتبين مخالفته ابتداء لدين اللّه الذي يجعل التحليل والتحريم والتشريع كله حقاً خالصاً للّه ‏;‏ وتجعل مزاولته من البشر بغير ما أذن اللّه كفراً بل زيادة في الكفر ومن ثم تزيل العقبة التي تحيك في بعض النفوس من استحلال رجب وفي الوقت ذاته تقرر أصلاً من أصول العقيدة الأساسية ‏;‏ وهو قصر حق التشريع في الحل والحرمة على اللّه وحده وتربط هذه الحقيقة بالحق الأصيل في بناء الكون كله يوم خلق اللّه السماوات والأرض فتشريع اللّه للناس إنما هو فرع عن تشريعه للكون كله بما فيه هؤلاء الناس والحيدة عنه مخالفة لأصل تكوين هذا الكون وبنائه ‏;‏ فهو زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا وحقيقة أخرى تقررها هذه النصوص تتعلق بما سبق تقريره في المقطع السابق مباشرة من اعتبار أهل الكتاب مشركين وضمهم في العداوة والجهاد إلى المشركين والأمر بقتالهم كافة المشركين وأهل الكتاب كما أنهم يقاتلون المسلمين كافة الأمر الذي يقرره الواقع التاريخي كله ‏;‏ كما تقرره من قبل كلمات اللّه سبحانه وهي تعبر عن وحدة الهدف تماماً بين المشركين وأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين وعن وحدة الصف التي تجمعهم كذلك عند ما تكون المعركة مع الإسلام والمسلمين مهما يكن بينهم هم من عداوات قبل ذلك وثارات واختلافات في تفصيلات العقيدة كذلك لا تقدم شيئاً ولا تؤخر في تجمعهم جميعاً في وجه الانطلاق الإسلامي ‏;‏ وفي عملهم متجمعين لسحق الوجود الإسلامي وهذه الحقيقة الأخيرة الخاصة بأن أهل الكتاب مشركون كالمشركين وأن المشركين هؤلاء وهؤلاء يقاتلون المسلمين كافة فوجب على المسلمين أن يقاتلوهم كافة بالإضافة إلى الحقيقة الأولى وهي أن النسيء زيادة في الكفر لأنه مزاولة للتشريع بغير ما أنزل اللّه فهو كفر يضاف إلى الكفر الاعتقادي ويزيد فيه هاتان الحقيقتان هما المناسبة التي تربط هاتين الآيتين بما قبلهما وما بعدهما في السياق ‏;‏ الذي يعالج المعوقات دون النفير العام والانطلاق الإسلامي تجاه المشركين وأهل الكتاب‏.‏