فصل: تفسير الآيات رقم (111- 129)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 129‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏111‏)‏ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏113‏)‏ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ‏(‏114‏)‏ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏115‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏116‏)‏ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏117‏)‏ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏118‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ‏(‏119‏)‏ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏120‏)‏ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏121‏)‏ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ‏(‏122‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏123‏)‏ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏124‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏125‏)‏ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏127‏)‏ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏128‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏129‏)‏‏}‏

هذا المقطع الأخير من السورة- أو الدرس الأخير فيها- بقية في الأحكام النهائية في طبيعة العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره؛ تبدأ من تحديد العلاقة بين المسلم وربه، وتحديد طبيعة «الإسلام» الذي أعلنه؛ ومن بيان تكاليف هذا الدين، ومنهج الحركة به في مجالاته الكثيرة‏.‏

* إن الدخول في الإسلام صفقة بين متبايعين‏.‏‏.‏ الله- سبحانه- فيها هو المشتري والمؤمن فيها هو البائع‏.‏ فهي بيعة مع الله لا يبقى بعدها للمؤمن شيء في نفسه ولا في ماله يحتجزه دون الله- سبحانه- ودون الجهاد في سبيله لتكون كلمة الله العليا، وليكون الدين كله لله‏.‏ فقد باع المؤمن لله في تلك الصفقة نفسه وماله مقابل ثمن محدد معلوم، هو الجنة‏:‏ وهو ثمن لا تعدله السلعة، ولكنه فضل الله ومَنَّه‏:‏

‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وعدا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن‏.‏ ومن أوفى بعهده من الله‏؟‏ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم‏}‏‏.‏

* والذين باعوا هذه البيعة، وعقدوا هذه الصفقة هم صفوة مختارة، ذات صفات مميزة‏.‏‏.‏ منها ما يختص بذوات أنفسهم في تعاملها المباشر مع الله في الشعور والشعائر؛ ومنها ما يختص بتكاليف هذه البيعة في أعناقهم من العمل خارج ذواتهم لتحقيق دين الله في الأرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام على حدود الله في أنفسهم وفي سواهم‏:‏

‏{‏التائبون، العابدون، الحامدون، السائحون، الراكعون الساجدون، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، والحافظون لحدود الله‏.‏ وبشر المؤمنين‏}‏‏.‏

* والآيات التالية في السياق تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا هذه البيعة وعقدوا هذه الصفقة، وبين كل من لم يدخلوا معهم فيها- ولو كانوا أولى قربى- فقد اختلفت الوجهتان، واختلف المصيران، فالذين عقدوا هذه الصفقة هم أصحاب الجنة، والذين لم يعقدوها هم أصحاب الجحيم‏.‏ ولا لقاء في دنيا ولا في آخرة بين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم‏.‏ وقربى الدم والنسب إذن لا تنشئ رابطة، ولا تصلح وشيجة بين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم‏:‏

‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين- ولو كانوا أولي قربى- من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم‏.‏ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه‏.‏ إن إبراهيم لأواه حليم‏}‏‏.‏‏.‏

* وولاء المؤمن يجب أن يتمحض لله الذي عقد معه تلك الصفقة؛ وعلى أساس هذا الولاء الموحد تقوم كل رابطة وكل وشيجة- وهذا بيان من الله للمؤمنين يحسم كل شبهة ويعصم من كل ضلالة- وحسب المؤمنين ولاية الله لهم ونصرته؛ فهم بها في غنى عن كل ما عداه، وهو مالك الملك ولا قدرة لأحد سواه‏:‏

‏{‏وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، إن الله بكل شيء عليم، إن الله له ملك السماوات والأرض، يحيي ويميت، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير‏}‏‏.‏

* ولما كانت هذه طبيعة تلك البيعة؛ فقد كان التردد والتخلف عن الغزوة في سبيل الله أمراً عظيماً، تجاوز الله عنه لمن علم من نواياهم الصدق والعزم بعد التردد والتخلف؛ فتاب عليهم رحمة منه وفضلاً‏:‏

‏{‏لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم؛ ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم‏.‏ وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه؛ ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم‏}‏‏.‏‏.‏

* ومن ثم بيان محدد لتكاليف البيعة في أعناق أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب؛ أولئك القريبون من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذين يؤلفون القاعدة الإسلامية، ومركز الانطلاق الإسلامي؛ واستنكار لما وقع منهم من تخلف؛ مع بيان ثمن الصفقة في كل خطوة وكل حركة في تكاليف البيعة‏:‏

‏{‏ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه‏.‏ ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون‏}‏‏.‏‏.‏

* ومع هذا التحضيض العميق على النفرة للجهاد بيان لحدود التكليف بالنفير العام‏.‏ وقد اتسعت الرقعة وكثر العدد، وأصبح في الإمكان أن ينفر البعض ليقاتل ويتفقه في الدين؛ ويبقى البعض للقيام بحاجيات المجتمع كله من توفير للأزواد ومن عمارة للأرض، ثم تتلاقى الجهود في نهاية المطاف‏:‏

‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏.‏ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، لعلهم يحذرون‏!‏‏}‏‏.‏

* وفي الآية التالية تحديد لطريق الحركة الجهادية- بعدما أصبحت الجزيرة العربية بجملتها قاعدة للإسلام ونقطة لانطلاقه- وأصبح الخط يتجه إلى قتال المشركين كافة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله‏.‏‏.‏ وقتال أهل الكتاب كافة كذلك حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏‏.‏

* وعقب هذا البيان المفصل لبيان طبيعة البيعة ومقتضياتها وتكاليفها وخطها الحركي‏.‏‏.‏ يعرض السياق مشهداً من صفحتين تصوران موقف المنافقين وموقف المؤمنين من هذا القرآن وهو يتنزل بموحيات الإيمان القلبية، وبالتكاليف والواجبات العملية‏.‏ ويندد بالمنافقين الذين لا تهديهم التوجيهات والآيات، ولا تعظهم النذر والابتلاءات‏:‏

‏{‏وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول‏:‏ أيكم زادته هذه إيماناً؛ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون‏.‏ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون‏.‏ أو لا يرون أنهم يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون‏؟‏ وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض‏:‏ هل يراكم من أحد‏؟‏ ثم انصرفوا‏.‏ صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون‏}‏‏.‏‏.‏

*ويختم الدرس وتختم معه السورة بآيتين تصوران طبيعة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحرصه على المؤمنين ورأفته بهم ورحمته‏.‏ مع توجيهه- صلى الله عليه وسلم- إلى الاعتماد على الله وحده، والاستغناء عن المعرضين الذين لا يهتدون‏:‏

‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم‏.‏ فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم‏}‏‏.‏‏.‏

ولعله من خلال هذا العرض الإجمالي لمحتويات هذا المقطع الأخير في السورة يتجلى مدى التركيز على الجهاد؛ وعلى المفاصلة الكاملة على أساس العقيدة، وعلى الانطلاق بهذا الدين في الأرض- وفقاً للبيعة على النفس والمال بالجنة للقتل والقتال- لتقرير حدود الله والمحافظة عليها؛ أي لتقرير حاكمية الله للعباد، ومطاردة كل حاكمية مغتصبة معتدية‏!‏

ولعله من خلال هذا العرض الإجمالي لهذه الحقيقة كذلك يتجلى مدى التهافت والهزيمة التي تسيطر على شراح آيات الله وشريعة الله في هذا الزمان؛ وهم يحاولون جاهدين أن يحصروا الجهاد الإسلامي في حدود الدفاع الإقليمي عن «أرض الإسلام»‏!‏ بينما كلمات الله- سبحانه- تعلن في غير مواربة عن الزحف المستمر على من يلون «أرض الإسلام» هذه من الكفار؛ دون ذكر لأنهم معتدون‏!‏ فالاعتداء الأساسي متمثل في اعتدائهم على ألوهية الله- سبحانه- بتعبيد أنفسهم وتعبيد العباد لغير الله‏.‏ وهذا الاعتداء هو الذي يقتضي جهادهم ما استطاع المسلمون الجهاد‏!‏

وحسبنا هذه الإشارة في هذا التقديم المجمل للدرس الأخير، لنواجه نصوصه بالتفصيل‏.‏

‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وعدا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله‏؟‏ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم، التائبون العابدون الحامدون السائحون، الراكعون الساجدون، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، والحافظون لحدود الله، وبشر المؤمنين‏}‏‏.‏

هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عده من المرات، في أثناء حفظي للقرآن، وفي أثناء تلاوته، وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان‏.‏‏.‏ هذا النص- حين واجهته في «الظلال» أحسست أنني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان‏!‏

إنه نص رهيب‏!‏ إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله؛ وعن حقيقة البيعة التي أعطوها- بإسلامهم- طوال الحياة‏.‏ فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف ‏(‏المؤمن‏)‏ وتتمثل فيه حقيقة الإيمان‏.‏‏.‏ وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق‏!‏

حقيقة هذه البيعة- أو هذه المبايعة كما سماها الله كرماً منه وفضلاً وسماحة- أن الله- سبحانه- قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم؛ فلم يعد لهم منها شيء‏.‏‏.‏ لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله‏.‏ لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا‏.‏‏.‏ كلا‏.‏‏.‏ إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخير، ولا يناقش ولا يجادل، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام‏.‏‏.‏ والثمن‏:‏ هو الجنة‏.‏‏.‏ والطريق‏:‏ هو الجهاد والقتل والقتال‏.‏‏.‏ والنهاية‏:‏ هي النصر أو الاستشهاد‏:‏

‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون‏}‏‏.‏‏.‏

من بايع على هذا‏.‏ من أمضى عقد الصفقة‏.‏ من ارتضى الثمن ووفى‏.‏ فهو المؤمن‏.‏‏.‏ فالمؤمنون هم الذين اشترى الله منهم فباعوا‏.‏‏.‏ ومن رحمة الله أن جعل للصفقة ثمناً، وإلا فهو واهب الأنفس والأموال، وهو مالك الأنفس والأموال‏.‏ ولكنه كرم هذا لإنسان فجعله مريداً؛ وكرمه فجعل له أن يعقد العقود ويمضيها- حتى مع الله- وكرمه فقيده بعقوده وعهوده؛ وجعل وفاءه بها مقياس إنسانيته الكريمة؛ ونقضه لها هو مقياس ارتكاسه إلى عالم البهيمة‏:‏‏.‏‏.‏ شر البهيمة‏.‏‏.‏ ‏{‏إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون‏}‏ كما جعل مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء‏.‏

وإنها لبيعة رهيبة- بلا شك- ولكنها في عنق كل مؤمن- قادر عليها- لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه‏.‏ ومن هنا تلك الرهبة التي أستشعرها اللحظة وأنا أخط هذه الكلمات‏:‏

‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون‏}‏‏.‏‏.‏

عونك اللهم‏!‏ فإن العقد رهيب‏.‏‏.‏ وهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم «مسلمين» في مشارق الأرض ومغاربها، قاعدون، لا يجاهدون لتقرير ألوهية الله في الأرض، وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية وخصائصها في حياة العباد‏.‏

ولا يقتلون‏.‏ ولا يقتلون‏.‏ ولا يجاهدون جهاداً ما دون القتل والقتال‏!‏

ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين- على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم؛ ولم تكن مجرد معان يتملونها بأذهانهم، أو يحسونها مجردة في مشاعرهم‏.‏ كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها‏.‏ لتحويلها إلى حركة منظورة، لا إلى صورة متأملة‏.‏‏.‏ هكذا أدركها عبد الله بن رواحة- رضي الله عنه- في بيعة العقبة الثانية‏.‏ قال محمد بن كعب القرظي وغيره‏:‏ قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ‏(‏يعني ليلة العقبة‏)‏-‏:‏ اشترط لربك ولنفسك ما شئت‏.‏ فقال‏:‏ «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» قال‏:‏ فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك‏؟‏ قال‏:‏ «الجنة» قالوا‏:‏ ربح البيع، ولا نقيل ولا نستقيل‏.‏

هكذا‏.‏‏.‏ «ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل»‏.‏‏.‏ لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين؛ انتهى أمرها، وأمضى عقدها، ولم يعد إلى مرد من سبيل‏:‏ «لا نقيل ولا نستقيل» فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار؛ والجنة‏:‏ ثمن مقبوض لا موعود‏!‏ أليس الوعد من الله‏؟‏ أليس الله هو المشتري‏؟‏ أليس هو الذي وعد الثمن وعداً قديماً في كل كتبه‏:‏

‏{‏وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏ومن أوفى بعهده من الله‏؟‏‏}‏‏.‏

أجل‏!‏ ومن أوفى بعهده من الله‏؟‏

إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن‏.‏‏.‏ كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين الله‏.‏‏.‏ إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها‏:‏ ‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض‏}‏ ‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً‏}‏ إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه‏.‏ ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق‏!‏‏.‏‏.‏ بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق‏.‏‏.‏ إن دين الله لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية لله وحده‏.‏ ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق‏.‏‏.‏ بل لا بد أن يقطع عليه الطريق‏.‏‏.‏ ولا بد لدين الله أن ينطلق في «الأرض» كلها لتحرير «الإنسان» كله‏.‏ ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقاً‏!‏‏.‏‏.‏ وما دام في «الأرض» كفر‏.‏ وما دام في «الأرض» باطل‏.‏ وما دامت في «الأرض» عبودية لغير الله تذل كرامة «الإنسان» فالجهاد في سبيل الله ماض، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء‏.‏

وإلا فليس بالإيمان‏:‏ و«من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من النفاق» ‏(‏رواه الإمام أحمد، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي‏)‏‏.‏

‏{‏فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم‏}‏‏.‏

استبشروا بإخلاص أنفسكم وأموالكم لله، وأخذ الجنة عوضاً وثمناً، كما وعد الله‏.‏‏.‏ وما الذي فات‏؟‏ ما الذي فات المؤمن الذي يسلم لله نفسه وماله ويستعيض الجنة‏؟‏ والله ما فاته شيء‏.‏ فالنفس إلى موت، والمال إلى فوت‏.‏ سواء أنفقهما صاحبهما في سبيل الله أم في سبيل سواه‏!‏ والجنة كسب‏.‏ كسب بلا مقابل في حقيقة الأمر ولا بضاعة‏!‏ فالمقابل زائل في هذه الطريق أو ذاك‏!‏

ودع عنك رفعة الإنسان وهو يعيش لله‏.‏ ينتصر- إذ انتصر- لإعلاء كلمته، وتقرير دينه، وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه‏.‏ ويستشهد- إذا استشهد- في سبيله، ليؤدي لدينه شهادة بأنه خير عنده من الحياة‏.‏ ويستشعر في كل حركة وفي كل خطوة- أنه أقوى من قيود الأرض وأنه أرفع من ثقلة الأرض، والإيمان ينتصر فيه على الألم، والعقيدة تنتصر فيه على الحياة‏.‏

إن هذا وحده كسب‏.‏ كسب بتحقيق إنسانية الإنسان التي لا تتأكد كما تتأكد بانطلاقه من أوهاق الضرورة؛ وانتصار الإيمان فيه على الألم، وانتصار العقيدة فيه على الحياة‏.‏‏.‏ فإذا أضيفت إلى ذلك كله‏.‏‏.‏ الجنة‏.‏‏.‏ فهو بيع يدعو إلى الاستبشار؛ وهو فوز لا ريب فيه ولا جدال‏:‏

‏{‏فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم فيه، وذلك هو الفوز العظيم‏}‏‏.‏

ثم نقف وقفة قصيرة أمام قوله تعالى في هذه الآية‏:‏

‏{‏وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن‏}‏‏.‏‏.‏

فوعد الله للمجاهدين في سبيله في القرآن معروف مشهور مؤكد مكرور‏.‏‏.‏ وهو لا يدع مجالاً للشك في إصالة عنصر الجهاد في سبيل الله في طبيعة هذا المنهج الرباني؛ باعتباره الوسيلة المكافئة للواقع البشري- لا في زمان بعينه ولا في مكان بعينه- ما دام أن الجاهلية لا تتمثل في نظرية تقابل بنظرية ولكنها تتمثل في تجمع عضوي حركي، يحمي نفسه بالقوة المادية؛ ويقاوم دين الله وكل تجمع إسلامي على أساسه بالقوة المادية كذلك؛ ويحول دون الناس والاستماع لإعلان الإسلام العام بألوهية الله وحده للعباد، وتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعباد‏.‏ كما يحول دونهم ودون الانضمام العضوي إلى التجمع الإسلامي المتحرر من عبادة الطاغوت بعبوديته لله وحده دون العباد‏.‏‏.‏ ومن ثم يتحتم على الإسلام في انطلاقه في «الأرض» لتحقيق إعلانه العام بتحرير «الإنسان» أن يصطدم بالقوة المادية التي تحمي التجمعات الجاهلية؛ والتي تحاول بدورها- في حتمية لافكاك منها- أن تسحق حركة البعث الإسلامي وتخفت إعلانه التحريري، لاستبقاء العباد في رق العبودية للعباد‏!‏

فأما وعد الله للمجاهدين في التوراة والإنجيل‏.‏

فهو الذي يحتاج إلى شيء من البيان‏.‏‏.‏

إن التوراة والإنجيل اللذين في أيدي اليهود والنصارى اليوم لا يمكن القول بأنهما هما اللذان أنزلهما الله على نبيه موسى وعلى نبيه عيسى عليهما السلام‏!‏ وحتى اليهود والنصارى أنفسهم لا يجادلون في أن النسخة الأصلية لهذين الكتابين لا وجود لها؛ وأن ما بين أيديهم قد كتب بعد فترة طويلة ضاعت فيها معظم أصول الكتابين؛ ولم يبق إلا ما وعته ذاكرة بعد ذاكرة‏.‏‏.‏ وهو قليل‏.‏‏.‏ أضيف إليه الكثير‏!‏

ومع ذلك فما تزال في كتب العهد القديم إشارات إلى الجهاد، والتحريض لليهود على قتال أعدائهم الوثنيين، لنصر إلههم وديانته وعبادته‏!‏ وإن كانت التحريفات قد شوهت تصورهم لله- سبحانه- وتصورهم للجهاد في سبيله‏.‏

فأما في الأناجيل التي بين أيدي النصارى اليوم فلا ذكر ولا إشارة إلى جهاد‏.‏‏.‏ ولكننا في حاجة شديدة إلى تعديل المفهومات السائدة عن طبيعة النصرانية؛ فهذه المفهومات إنما جاءت من هذه الأناجيل التي لا أصل لها- بشهادة الباحثين النصارى أنفسهم‏!‏- وقبل ذلك بشهادة الله سبحانه كما وردت في كتابه المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏.‏

والله سبحانه يقول في كتابه المحفوظ‏:‏ إن وعده بالجنة لمن يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون؛ ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن‏.‏‏.‏ فهذا إذن هو القول الفصل الذي ليس بعده لقائل مقال‏!‏

إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن‏.‏ كل مؤمن على الإطلاق‏.‏ منذ كانت الرسل، ومنذ كان دين الله‏.‏‏.‏

ولكن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعة إلى القتال؛ إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال‏.‏ والمؤمنون الذين عقد الله معهم البيعة، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة‏:‏

‏{‏التائبون‏.‏ العابدون‏.‏ السائحون‏.‏ الراكعون الساجدون‏.‏ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر‏.‏ والحافظون لحدود الله‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏التائبون‏}‏‏.‏‏.‏ مما أسلفوا، العائدون إلى الله مستغفرين‏.‏ والتوبة شعور بالندم على ما مضى، وتوجه إلى الله فيما بقي، وكف عن الذنب، وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها بالترك، فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح‏.‏

‏{‏العابدون‏}‏‏.‏‏.‏ المتوجهون إلى الله وحده بالعبادة وبالعبودية، إقراراً بالربوبية‏.‏‏.‏ صفة هذه ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر، كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل وبكل قول وبكل طاعة وبكل اتباع‏.‏ فهي إقرار بالألوهية والربوبية لله في صورة عملية واقعية‏.‏

‏{‏الحامدون‏}‏‏.‏‏.‏ الذين تنطوي قلوبهم على الاعتراف للمنعم بالنعمة، وتلهج ألسنتهم بحمد الله في السراء والضراء‏.‏ في السراء للشكر على ظاهر النعمة، وفي الضراء للشعور بما في الابتلاء من الرحمة‏.‏

وليس الحمد هو الحمد في السراء وحدها، ولكنه الحمد في الضراء حين يدرك القلب المؤمن أن الله الرحيم العادل ما كان ليبتلي المؤمن إلا لخير يعلمه، مهما خفي على العباد إدراكه‏.‏

‏{‏السائحون‏}‏‏.‏‏.‏ وتختلف الروايات فيهم‏.‏ فمنها ما يقول‏:‏ إنهم المهاجرون‏.‏ ومنها ما يقول‏:‏ إنهم المجاهدون‏.‏ ومنها ما يقول‏:‏ إنهم المتنقلون في طلب العلم‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ إنهم الصائمون‏.‏‏.‏ ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق الله وسننه، ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر‏:‏ ‏{‏إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض‏:‏ ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك‏!‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد‏.‏ فمع التوبة والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت الله على هذا النحو الذي ينتهي بالإنابة إلى الله، وإدراك حكمته في خلقه، وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق‏.‏ لا للاكتفاء بهذا الإدراك وإنفاق العمر في مجرد التأمل والاعتبار‏.‏ ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا الإدراك‏.‏‏.‏

‏{‏الراكعون الساجدون‏}‏‏.‏‏.‏ الذين يقيمون الصلاة ويقومون بالصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم؛ وكأن الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم‏.‏

‏{‏الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر‏}‏‏.‏‏.‏ وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة الله، فيدين لله وحده ولا يدين لسواه، يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع؛ ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج الله وشرعه‏.‏‏.‏ ولكن حين لا يكون في الأرض مجتمع مسلم؛ وذلك حين لا يكون في الأرض مجتمع الحاكمية فيه لله وحده، وشريعة الله وحدها هي الحاكمية فيه، فإن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولاً إلى الأمر بالمعروف الأكبر، وهو تقرير ألوهية الله وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم‏.‏ والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولاً إلى النهي عن المنكر الأكبر‏.‏ وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس لغير الله عن طريق حكمهم بغير شريعة الله‏.‏‏.‏ والذين آمنوا بمحمد- صلى الله عليه وسلم- هاجروا وجاهدوا ابتداء لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة الله، وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة‏.‏ فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي‏.‏ ولم ينفقوا قط جهدهم، قبل قيام الدولة المسلمة والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل‏!‏ ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع‏.‏ فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر، كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم‏!‏

‏{‏والحافظون لحدود الله‏}‏‏.‏‏.‏ وهو القيام على حدود الله لتنفيذها في النفس وفي الناس‏.‏

ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها‏.‏‏.‏ ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم‏.‏ ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة الله وحدها في أمره كله؛ وإلا الذي يفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع؛ ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل شرع لم يأذن به الله‏.‏‏.‏ والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لإقامة هذا المجتمع‏.‏ ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود الله فيه‏.‏‏.‏ كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم‏!‏

هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد الله معها بيعته‏.‏ وهذه هي صفاتها ومميزاتها‏:‏ توبة ترد العبد إلى الله، وتكفه عن الذنب، وتدفعه إلى العمل الصالح‏.‏ وعبادة تصله بالله وتجعل الله معبوده وغايته ووجهته‏.‏ وحمد لله على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل لله والثقة المطلقة برحمته وعدله‏.‏ وسياحة في ملكوت الله مع آيات الله الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق‏.‏ وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة‏.‏ وحفظ لحدود الله يرد عنها العادين والمضيعين، ويصونها من التهجم والانتهاك‏.‏‏.‏

هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها الله على الجنة، واشترى منها الأنفس والأموال، لتمضي مع سنة الله الجارية منذ كان دين الله ورسوله ورسالاته‏.‏ قتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله؛ وقتل لأعداء الله الذين يحادّون الله؛ أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل، وبين الإسلام والجاهلية، وبين الشريعة والطاغوت، وبين الهدى والضلال‏.‏

وليست الحياة لهواً ولعباً‏.‏ وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعاً‏.‏ وليست الحياة سلامة ذليلة، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة‏.‏‏.‏ إنما الحياة هي هذه‏:‏ كفاح في سبيل الحق، وجهاد في سبيل الخير، وانتصار لإعلاء كلمة الله، أو استشهاد كذلك في سبيل الله‏.‏‏.‏ ثم الجنة والرضوان‏.‏‏.‏

هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون بالله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم‏}‏ وصدق الله‏.‏ وصدق رسول الله‏.‏‏.‏

والمؤمنون الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، أمة وحدهم، العقيدة في الله بينهم هي وشيجة الارتباط والتجمع الوحيدة‏.‏ وهذه السورة التي تقرر العلاقات الأخيرة بين الجماعة المسلمة ومن عداها، تحسم في شأن العلاقات التي لا تقوم على هذه الوشيجة‏.‏ وبخاصة بعد ذلك التخلخل الذي أنشاه التوسع الأفقي الشديد في المجتمع المسلم عقب فتح مكة، ودخول أفواج كثيرة في الإسلام لم يتم انطباعها بطابعه؛ وما تزال علاقات القربى عميقة الجذور في حياتها‏.‏ والآيات التالية تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا تلك البيعة وبين من لم يدخلوا معهم فيها- ولو كانوا أولي قربى- بعد ما اختلفت الوجهتان واختلفت العاقبتان في الدنيا والآخرة‏:‏

‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين- ولو كانوا أولي قربى- من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم‏.‏

وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، إن إبراهيم لأواه حليم‏.‏ وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، إن الله بكل شيء عليم‏.‏ إن الله له ملك السماوات والأرض، يحيي ويميت، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير‏}‏‏.‏

والظاهر أن بعض المسلمين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين ويطلبون إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يستغفر لهم؛ فنزلت الآيات تقرر أن في هذا الاستغفار بقية من تعلق بقرابات الدم، في غير صلة بالله، لذلك ما كان للنبي والذين آمنوا أن يفعلوه‏.‏‏.‏ ما كان لهم قطعاً وليس من شأنهم أصلاً‏.‏‏.‏ أما كيف يتبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، فالأرجح أن يكون ذلك بموتهم على الشرك، وانقطاع الرجاء من أن تكون لهم هداية إلى الإيمان‏.‏

إن العقيدة هي العروة الكبرى التي تلتقي فيها سائر الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية‏.‏ فإذا انبتَّت وشيجة العقيدة انبتَّت الأواصر الأخرى من جذورها، فلا لقاء بعد ذلك في نسب، ولا لقاء بعد ذلك في صهر‏.‏ ولا لقاء بعد ذلك في قوم‏.‏ ولا لقاء بعد ذلك في أرض‏.‏‏.‏ إما إيمان بالله فالوشيجة الكبرى موصولة، والوشائج الأخرى كلها تنبع منها وتلتقي بها‏.‏ أو لا إيمان فلا صلة إذن يمكن أن تقوم بين إنسان وإنسان‏.‏

‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، إن إبراهيم لأواه حليم‏}‏‏.‏‏.‏

فلا أسوة بإبراهيم في استغفاره لأبيه‏.‏ فإنما كان استغفار إبراهيم لأبيه بسبب وعده له أن يستغفر له الله لعله يهديه، ذلك إذ قال له‏:‏ ‏{‏سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً‏}‏ فلما أن مات أبوه على الشرك، وتبين إبراهيم أن أباه عدو لله لا رجاء في هداه، ‏{‏تبرأ منه‏}‏ وقطع صلته به‏.‏

‏{‏إن إبراهيم لأواه حليم‏}‏‏.‏‏.‏

كثير التضرع لله، حليم على من آذاه‏.‏ ولقد آذاه أبوه فكان حليماً؛ وتبين أنه عدو لله فتبرأ منه وعاد لله ضارعاً‏.‏

وقد ورد أنه لما نزلت الآيتان خشي الذين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين أن يكونوا قد ضلوا لمخالفتهم عن أمر الله في هذا فنزلت الآية التالية تطمئنهم من هذا الجانب، وتقرر القاعدة الإسلامية أنه لا عقوبة بغير نص؛ ولا جريمة بغير بيان سابق على الفعل‏:‏

‏{‏وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون‏.‏ إن الله بكل شيء عليم‏}‏‏.‏

إن الله لا يحاسب الناس إلا على ما بين لهم أن يتقوه ويحذروه ولا يأتوه‏.‏ وليس من شأنه أن يذهب بهدى قوم بعد إذ هداهم ويكلهم إلى الضلال لمجرد الفعل، ما لم يكن هذا الفعل مما نهاهم عنه قبلاً‏.‏‏.‏ ذلك أن الإنسان قاصر والله هو العليم بكل شيء‏.‏ ومنه البيان والتعليم‏.‏

ولقد جعل الله هذا الدين يسراً لا عسراً، فبين ما نهى عنه بياناً واضحاً، كما بين ما أمر به بياناً واضحاً‏.‏ وسكت عن أشياء لم يبين فيها بياناً- لا عن نسيان ولكن عن حكمة وتيسير- ونهى عن السؤال عما سكت عنه، لئلا ينتهي السؤال إلى التشديد‏.‏ ومن ثم فليس لأحد أن يحرم شيئاً من المسكوت عنه، ولا أن ينهى عما لم يبينه الله‏.‏ تحقيقاً لرحمة الله بالعباد‏.‏‏.‏

وفي نهاية هذه الآيات، وفي جو الدعوة إلى التجرد من صلات الدم والنسب، بعد التجرد من الأنفس والأموال يقرر أن الولي الناصر هو الله وحده‏.‏ وأنه مالك السماوات والأرض ومالك الموت والحياة‏.‏

‏{‏إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير‏}‏‏.‏‏.‏

فالأموال والأنفس، والسماوات والأرض، والحياة والموت، والولاية والنصرة‏.‏‏.‏ كلها بيد الله دون سواه‏.‏ وفي الصلة بالله وحده كفاية وغناء‏.‏

وهذه التوكيدات المتوالية، وهذا الحسم القاطع في علاقات القرابة تدل على ما كان يعتور بعض النفوس من اضطراب وأرجحة بين الروابط السائدة في البيئة، ورابطة العقيدة الجديدة‏.‏ مما اقتضى هذا الحسم الأخير، في السورة التي تتولى الحسم في كل علاقات المجتمع المسلم بما حوله‏.‏‏.‏ حتى الاستغفار للموتى على الشرك قد لقي هذا التشديد في شأنه‏.‏‏.‏ ذلك لتخلص القلوب من كل وشيجة إلا تلك الوشيجة‏.‏

إن التجمع على آصرة العقيدة وحدها هو قاعدة الحركة الإسلامية‏.‏ فهو أصل من أصول الاعتقاد والتصور‏:‏ كما أنه أصل من أصول الحركة والانطلاق‏.‏‏.‏ وهذا ما قررته السورة الحاسمة وكررته أيضاً‏.‏‏.‏

ولما كانت تلك طبيعة البيعة، كان التخلف عن الجهاد للقادرين- أياً كانت الأسباب- أمراً مستنكراً عظيماً؛ وكان ما بدا في الغزوة من التردد والتخلف ظاهرة لا بد من تتبعها والتركيز عليها‏.‏‏.‏ وفي الآيات التالية يبين مدى فضل الله ورحمته بالمؤمنين إذ يتجاوز عما بدا من التردد والتخلف من المؤمنين المخلصين، ويتوب عليهم فيما وقع منهم من أخطاء صغرت أم كبرت‏.‏‏.‏ كذلك يبين عن مصير الثلاثة الذين خلفوا بغير حكم في أمرهم- وهم المرجون لأمر الله الذين سبق ذكرهم حتى نزل هذا الحكم بعد فترة من الزمان‏:‏

‏{‏لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم‏.‏

وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه؛ ثم تاب عليهم ليتوبوا‏.‏ إن الله هو التواب الرحيم‏}‏‏.‏‏.‏

وتوبة الله على النبي- صلى الله عليه وسلم- تفهم بالرجوع إلى ما كان في أحداث الغزوة بجملتها؛ والظاهر أنها متعلقة بما سبق أن قال الله عنه لنبيه‏:‏ ‏{‏عفا الله عنك‏.‏ لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين‏}‏ ذلك حين استأذنه جماعة من أولي الطول بأعذار منتحلة فأذن لهم‏.‏ وقد عفا الله عنه في اجتهاده- صلى الله عليه وسلم- مع تنبيهه إلى أن الأولى كان هو التريث حتى يتبين الصادقين في أعذارهم من الكاذبين المتمحلين‏!‏

وتوبته على المهاجرين والأنصار يشير النص الذي بين أيدينا إلى ملابساتها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ابتعوه في ساعة العسرة من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم‏}‏‏.‏‏.‏ وقد كان بعضهم تثاقل في الخروج ثم لحق بالركب كما سنفصل- وهم من خلص المؤمنين- وبعضهم ما استمع للمنافقين المرجفين بهول لقاء الروم‏!‏ ثم ثبت الله قلبه ومضى بعد تردد‏.‏

ويحسن أن نستعرض بعض ظروف الغزوة وملابساتها لنعيش في جوها الذي يقرر الله- سبحانه- أنه كان ‏{‏ساعة العسرة‏}‏‏.‏ ولندرك طبيعة الانفعالات والحركات التي صاحبتها ‏(‏ونحن نلخص في هذا من السيرة لابن هشام، ومن إمتاع الأسماع للمقريزي، ومن البداية والنهاية لابن كثير، ومن تفسير ابن كثير‏)‏‏:‏

لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏.‏‏.‏‏}‏ أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم ‏(‏ويلاحظ أن الاشتباك بالروم كان قد سبق نزول هذه الآيات في غزوة مؤتة فهذا الأمر الأخير إنما جاء تقريراً للخطة الدائمة المستقرة في آخر ما نزل من القرآن‏)‏ وذلك في زمن عسرة من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاء، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال والزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، واخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له ‏(‏أي يقصد إليه‏)‏ إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس، لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته‏.‏ فأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم‏.‏

واستأذن بعض المنافقين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في التخلف مخافة الفتنة ببنات الروم‏!‏ فأذن‏!‏ وفي هذا نزل عتاب الله لنبيه في الإذن مصدرا بالعفو عنه في اجتهاده‏:‏

‏{‏عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين‏؟‏‏}‏ وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض‏:‏ لا تنفروا في الحر- زهادة في الجهاد، وشكاً في الحق، وإرجافاً برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم‏:‏ ‏{‏وقالوا‏:‏ لا تنفروا في الحر، قل‏:‏ نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون، فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون‏}‏ وبلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، يثبطون الناس عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك؛ فبعث إليهم النبي- صلى الله عليه وسلم- طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة، فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا‏.‏ ثم تاب الضحاك‏.‏

ثم إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جد في سفره وأمر الناس بالجهاز والإسراع‏.‏ وحض أهل الغنى على النفقة وحمل المجاهدين الذين لا يجدون ما يركبون؛ فحمل رجال من أهل الغنى محتسبين عند الله‏.‏ وكان في مقدمة المنفقين المحتسبين، عثمان بن عفان- رضي الله عنه- فأنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها‏.‏‏.‏ قال ابن هشام‏:‏ فحدثني من أثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض» وقال عبد الله بن أحمد في مسند أبيه- بإسناده- عن عبد الرحمن بن حباب السلمي، قال‏:‏ خطب النبي- صلى الله عليه وسلم- فحث على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان‏:‏ عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها‏.‏ قال‏:‏ ثم نزل مرقاة من المنبر، ثم حث، فقال عثمان‏:‏ عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها‏.‏ قال‏:‏ فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول بيده هكذا يحركها ‏(‏وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب‏)‏‏:‏ «ما على عثمان ما عمل بعد هذا»‏.‏‏.‏ ‏(‏وهكذا رواه الترمذي عن محمد بن يسار عن أبي داود الطيالسي، عن سكن بن المغيرة أبي محمد مولى لآل عثمان به‏.‏ وقال‏:‏ غريب من هذا الوجه‏)‏‏.‏ ورواه البيهقي من طريق عمرو بن مرزوق عن سكن بن المغيرة به، وقال‏:‏ ثلاث مرات وأنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها‏.‏‏.‏

وأخرج ابن جرير من طريق يحيى بن أبي كثير، ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة- بألفاظ مختلفة- قال‏:‏ حث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الصدقة ‏(‏يعني في غزوة تبوك‏)‏ فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف ‏(‏أي درهم‏)‏، فقال يا رسول الله، مالي ثمانية آلاف، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها‏.‏

فقال‏:‏ «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال‏:‏ يا رسول الله أصبت صاعين من تمر، صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي‏.‏ قال‏:‏ فلمزة المنافقون، وقالوا‏:‏ ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء‏.‏ وقالوا ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا‏؟‏‏!‏

في روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل ‏(‏وهو الذي بات يعمل عند يهودي ليحصل على صاعين أجرا له جاء بأحدهما لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏)‏ إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه‏!‏

ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهم البكاءون‏.‏ وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، فاستحملوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ‏(‏أي طلبوا منه أن يحملهم على ركائب إلى أرض المعركة، وكانوا أهل حاجة‏.‏ فقال‏:‏ «لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل ‏(‏من السبعة البكائين‏)‏ وهما يبكيان فقال‏:‏ ما يبكيكما‏؟‏ قال‏:‏ جئنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه‏.‏ فأعطاهما ناضحاً له ‏(‏أي جملاً يستقي عليه الماء‏)‏ فارتحلاه‏.‏ وزودهما شيئاً من تمر، فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق‏:‏ وأما علبة بن زيد ‏(‏أحد البكائين‏)‏ فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله، ثم بكى وقال‏:‏ اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغّبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوّى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض‏.‏‏.‏ ثم أصبح مع الناس‏.‏ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «أين المتصدق هذه الليلة‏؟‏» فلم يقيم أحد‏!‏ ثم قال‏:‏ «أي المتصدق‏؟‏ فليقم» فقام إليه فأخبره‏.‏ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «أبشر، فوالذي نفسي بيده، لقد كتبت لك في الزكاة المتقبلة»‏.‏

ثم خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمن معه وقد قارب عددهم ثلاثين ألفاً من أهل المدينة ومن قبائل الأعراب من حولها‏.‏ وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية من غير شك ولا ارتياب، منهم‏:‏ كعب ابن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية ‏(‏وهم الثلاثة الذين سيرد تفصيل قصتهم‏)‏ وأبو خيثمة وعمير بن وهب الجمحي‏.‏

‏.‏ وضرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عسكره على «ثنية الوداع» وضرب عبد الله بن أبي- رأس النفاق- عسكره على حدة، أسفل منه، قال ابن إسحاق‏:‏ ‏(‏وكانوا فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين‏)‏‏.‏‏.‏ ولكن الروايات الأخرى تقول‏:‏ إن الذين تخلفوا فعلاً دون المائة‏.‏‏.‏ فلما سار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب‏.‏

ثم مضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سائراً، فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون‏:‏ يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول‏:‏ «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه حتى قيل‏:‏ يا رسول الله، قد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال‏:‏ دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه» وتلوّم أبو ذر على بعيره ‏(‏أي انتظر عليه‏)‏، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ماشياً‏.‏ ونزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال‏:‏ يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده‏.‏ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «كن أبا ذر» فلما تأمله القوم قالوا‏:‏ يا رسول الله، هو والله أبو ذر‏.‏ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده»‏.‏

ثم إن أبا خيثمة رجع- بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً- إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه ‏(‏أي في حديقته‏)‏ قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء‏.‏ وهيأت له فيه طعاماً‏.‏ فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال‏:‏ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الضحَّ ‏(‏أي الشمس‏)‏ والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم‏؟‏‏!‏ ما هذا بالنصف‏!‏ ثم قال‏:‏ والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهيئا لي زاداً‏.‏ ففعلتا‏.‏ ثم قدم ناضحة فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أدركه حين نزل تبوك‏.‏‏.‏ وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطلب يطلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب‏:‏ إن لي ذنباً فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ففعل‏.‏

حتى إذا دنا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو نازل بتبوك قال الناس‏:‏ هذا راكب على الطريق مقبل‏.‏ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «كن أبا خيثمة» فقالوا‏:‏ يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أولى لك يا أبا خيثمة‏!‏» ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- الخبر‏.‏ فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خيراً، ودعا له بالخير‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له‏:‏ «مُخشن بن حُمير» ‏(‏قال ابن هشام‏:‏ ويقال‏:‏ مخشى‏)‏ يشيرون إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض‏:‏ أتحسبون جلاد بني الأصفر ‏(‏يعنون الروم‏)‏ كقتال العرب بعضهم بعضاً‏؟‏ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال‏.‏‏.‏ إرجافاً وترهيباً للمؤمنين‏.‏‏.‏ فقال مخشن بن حمير‏:‏ والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقاتلكم هذه‏.‏ وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني- لعمار بن ياسر‏:‏ «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن أنكروا فقل‏:‏ بلى قلتم كذا وكذا» فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- واقف على ناقته، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها ‏(‏وهو الحبل يشد على بطن البعير‏)‏ يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب‏.‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم ليقولن‏:‏ إنما كنا نخوض ونلعب‏.‏ قل‏:‏ أبالله وآياته ورسوله كنتم تسهزئون‏؟‏‏}‏ وقال مخشن بن حمير‏:‏ يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي‏!‏ وكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشن بن حمير‏.‏ فتسمى عبد الرحمن‏.‏ وسأل الله تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة، فلم يوجد له أثر‏.‏‏.‏

قال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال‏:‏ لما قفل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من تبوك- بعدما أقام بها بضع عشرة ليلة لم يلق فيها حرباً- هَمَّ جماعة من المنافقين بالفتك به، وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، فأخبر بخبرهم، فأمر الناس بالمسير من الوادي، وصعد هو العقبة، وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا، وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه‏.‏

عمار آخذ بزمام الناقة، وحذيفة يسوقها؛ فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم، فغضب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبصر حذيفة غضبه، فرجع إليهم ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد ظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم؛ فأسرعوا حتى خالطوا الناس؛ وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأمرهم فأسرعا حتى قطعوا العقبة، ووقفوا ينتظرون الناس‏.‏ ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحذيفة‏:‏ «هل عرفت هؤلاء القوم‏؟‏» قال‏:‏ ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم‏.‏ ثم قال‏:‏ «علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب‏؟‏» قالا‏:‏ لا‏.‏ فأخبرهما بما كانوا تمالأوا عليه، وسماهم لهما، واستكتمهما ذلك، فقال‏:‏ يا رسول الله، أفلا تأمر بقتلهم‏؟‏ فقال‏:‏

«أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»‏.‏

قال ابن كثير في البداية والنهاية‏:‏

وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي- صلى الله عليه وسلم- إنما أعلم بأسمائهم حذيفة ابن اليمان وحده‏.‏ وهذا هو الأشبه، والله أعلم‏.‏‏.‏

فأما العسرة التي لقيها المسلمون في الغزوة فقد وردت بعض الروايات بشواهد منها‏.‏‏.‏ قال ابن كثير في التفسير‏:‏

قال مجاهد وغير واحد نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم‏}‏‏.‏‏.‏ في غزوة تبوك‏.‏ وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر، في سنة مجدبة، وحر شديد، وعسر من الزاد والماء‏.‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ خرجوا إلى الشام على تبوك في لهبان الحر، على ما يعلم الله من الجهد، فأصابهم فيها جهد شديد حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها، فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم‏.‏

وروى ابن جرير- بإسناده- إلى عبد الله بن عباس‏:‏ أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة، فقال عمر بن الخطاب‏:‏ خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده‏.‏

وقال ابن جرير في قوله‏:‏ ‏{‏لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة‏}‏- أي من النفقة والظهر والزاد والماء- ‏{‏من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم‏}‏- أي عن الحق، ويشك في دين الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويرتاب للذين نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم- ‏{‏ثم تاب عليهم‏}‏ يقول‏:‏ ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه ‏{‏إنه بهم رؤوف رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

ولعل هذا الاستعراض أن يصور لنا اليوم كيف كانت ‏{‏العسرة‏}‏ كما ينقل لنا لمحة من الجو الذي عاشه المجتمع المسلم في تلك الفترة؛ يتجلى فيها تفاوت المقامات الإيمانية؛ من اليقين الجاد عند طائفة‏.‏ إلى الزلزلة والأرجحة تحت مطارق العسرة عند طائفة‏.‏ إلى القعود والتخلف- بغير ريبة- عند طائفة‏.‏ إلى النفاق الناعم عند طائفة‏.‏ إلى النفاق الفاجر عند طائفة‏.‏ إلى النفاق المتآمر عند طائفة‏.‏‏.‏ مما يشي أولاً بالحالة العامة للتركيب العضوي للمجتمع في هذه الفترة؛ ويشي ثانياً بمشقة الغزوة- في مواجهة الروم ومع العسرة- هذه المشقة الممحصة‏.‏ الممتحنة الكاشفة؛ والتي لعل الله سبحانه قد قدرها من أجل التمحيص والكشف والتمييز‏.‏

هذه هي العسرة التي تخلف فيها المتخلفون وكثرتهم من المنافقين الذين سلف بيان أمرهم‏.‏ ومن المؤمنين الذين لم يقعدوا شكاً ولا نفاقاً، إنما قعدوا كسلاً واسترواحاً للظلال في المدينة‏.‏ وهؤلاء جماعتان؛ جماعة قضي في أمرهم من قبل، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، واعترفوا بذنوبهم، وجماعة أخرى‏:‏ ‏{‏مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم‏}‏ وهم هؤلاء الثلاثة الذين خلفوا، أي تركوا بلا حكم‏.‏ وأرجئوا حتى يحكم الله فيهم‏.‏ وهنا تفصيل أمرهم بعد الإرجاء في الحكم والإرجاء في السياق‏.‏‏.‏

وقبل أن نقول نحن عن هؤلاء شيئاً في تفسير النص المصور لحالهم؛ وقبل أن نعرض الصورة الفنية المعجزه التي رسمها التعبير لهم ولحالهم، ندع أحدهم يتحدث عما كان‏.‏‏.‏ هو كعب بن مالك- رضي الله عنه-‏:‏ أخرج أحمد والبخاري ومسلم من طريق الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك- وكان قائد كعب من بنيه حين عمي- قال‏:‏ سمعت كعب ابن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، قال كعب‏:‏ لم أتخلف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها، إنما خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد‏.‏

ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزة؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز، واستقبل عدواً كثيراً، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان-‏.‏

قال كعب رضي الله عنه‏:‏ فقلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل‏.‏ وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وأنا إليها أصغو، فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدوا لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئاً، فأقول لنفسي‏:‏ أنا قادر على ذلك إن أردت‏.‏ فلم يزل ذلك يتهادى بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه ولم أقض في جهازي شيئاً، فلم يزل يتهادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، وليت أني فعلت؛ فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً من عذر الله‏.‏ ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك‏:‏ «ما فعل كعب بن مالك»‏؟‏ فقال رجل من بني سلمة‏:‏ يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه‏.‏ فقال له معاذ بن جبل‏:‏ بئسما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عنه إلا خيراً فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال كعب بن مالك‏:‏ فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول بماذا أخرج من سخطه غداً‏؟‏ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي‏.‏

فلما قيل‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم انج منه بشيء أبداً، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له‏.‏ وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً؛ فقبل رسول الله عليه وسلم منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله؛ حتى جئت؛ فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي‏:‏ «تعال» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي‏:‏ «ما خلفك‏؟‏ ألم تكن قد اشتريت ظهرك‏؟‏» فقلت يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أُعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه، وإني لأرجو فيه عقبى من الله‏.‏ والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك‏!‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك» فقمت‏.‏ وبادرني رجال من بني سلمة وأتبعوني فقالوا لي‏:‏ والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فلقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي، ثم قلت لهم‏:‏ هل لقي هذا معي أحد‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، لقيه معك رجلان قالا ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك‏.‏ فقلت‏:‏ من هما‏؟‏ قالوا مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً، لي فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي‏.‏

قال‏:‏ ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس- أو قال تغيروا لنا- حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما‏.‏ وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة وأقول في نفسي‏:‏ هل حرك شفتيه برد السلام أم لا‏؟‏ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، فإذا التفت نحوه أعرض عني، حتىإذا طال ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة- وهو ابن عمي وأحب الناس إلي- فسلمت عليه‏.‏

فوالله ما رد علي السلام‏.‏ فقلت‏:‏ له‏:‏ يا أبا قتادة أنشدك الله تعالى‏.‏ هل تعلم أني أحب الله ورسوله‏؟‏ قال فسكت، قال فعدت فنشدته فسكت؛ فعدت فنشدته‏.‏ قال‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار‏.‏

وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول‏:‏ من يدل على كعب ابن مالك‏؟‏ فطفق الناس يشيرون له إلي، حتى جاء فدفع إلي كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً، فقرأته فإذا فيه‏:‏

أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك‏.‏ فقلت حين قرأتها‏:‏ وهذه أيضاً من البلاء‏.‏ فتيممت بها التنور فسجرتها‏.‏‏.‏ حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذ برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال‏:‏ إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تعتزل امرأتك‏.‏ فقلت‏:‏ أطلقها أم ماذا أفعل‏؟‏ قال‏:‏ بل اعتزلها ولا تقربنها‏.‏ وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك‏.‏ فقلت لامرأتي‏:‏ الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر‏.‏ فجاءت امراة هلال بن أمية رسول الله صلى الله وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله، إن هلالاً شيخ ضائع، وليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه‏؟‏ قال «لا، ولكن لا يقربنك» فقالت‏:‏ إنه والله ما به من حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا‏.‏ فقال لي بعض أهلي‏:‏ لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك‏!‏ فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه‏.‏ فقلت‏:‏ والله لا أستأذن فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما أدري ما يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب‏.‏

قال‏:‏ فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا‏.‏ قال‏:‏ ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صارخاً أوفى على جبل سَلع يقول بأعلى صوته‏:‏ يا كعب بن مالك أبشر‏.‏ فخررت ساجداً؛ وعرفت أن الفرج؛ فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر‏.‏ فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض إليَّ رجل فرساً وسعى ساع من أسلم قِبلي، وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ؛ فاستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم- يتلقاني الناس فوجاً بعد فوج يهنئونني بالتوبة ويقولون‏:‏ ليهنك توبة الله عليك‏.‏

حتى دخلت المسجد‏.‏ فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد وحوله الناس، فقام إليّ طلحة ابن عبيد يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، قال‏:‏ فكان كعب رضي الله عنه لا ينساها لطلحة‏.‏

قال كعب رضي الله عنه‏:‏ فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور‏:‏ «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» قلت‏:‏ أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله‏؟‏ قال‏:‏ «لا بل من عند الله» وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه‏.‏ فلما جلست بين يديه قلت‏:‏ يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» فقلت‏:‏ إني أمسك سهمي الذي بخيبر‏.‏ وقلت يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت‏.‏ فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى يومي هذا كذباً، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي‏.‏ وأنزل الله‏:‏ ‏{‏لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار- إلى قوله وكونوا مع الصادقين‏}‏‏.‏

قال كعب‏:‏ فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه‏.‏ فإن الله قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، فقال‏:‏ ‏{‏سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس- إلى قوله- الفاسقين‏}‏ هذه هي قصة الثلاثة الذين خلفوا- كما رواها أحدهم كعب بن مالك- وفي كل فقرة منها عبرة، وفيها كلها صورة بارزة الخطوط عن القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي، ومتانة بنائها، وصفاء عناصرها، ونصاعة تصورها لمعنى الجماعة، ولتكاليف الدعوة، ولقيمة الأوامر، ولضرورة الطاعة‏.‏

فهذا كعب بن مالك- وزميلاه- يتخلفون عن ركب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ساعة العسرة‏.‏ يدركهم الضعف البشري الذي يحبب إليهم الظل والراحة، فيؤثرونها على الحر والشدة والسفر الطويل والكد الناصب‏.‏

ولكن كعباً ما يلبث بعد خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يحس ما فعل، يشعره به كل ما حوله‏:‏ «فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحزنني أنني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله»- يعني بمن عذر الله الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون‏.‏

فالعسرة لم تقعد بالمسلمين عن تلبية دعوة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الغزوة البعيدة الشقة‏.‏ لم يقعد إلا المطعون فيهم المظنون بهم النفاق، وإلا العاجزون الذين عذرهم الله‏.‏ أما القاعدة الصلبة للجماعة المسلمة فكانت أقوى روحاً من العسرة، وأصلب عوداً من الشدة‏.‏‏.‏

هذه واحدة‏.‏

والثانية هي التقوى‏.‏ التقوى التي تلجئ المخطئ إلى الصدق والإقرار‏.‏ والأمر بعد ذلك لله‏:‏ «فقلت‏:‏ يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر‏.‏ لقد أعطيت جدلاً‏.‏ ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله أن يسخطك علي‏.‏ ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى من الله‏.‏ والله ما كان لي عذر‏.‏ والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك»‏.‏

فالله حاضر في ضمير المؤمن المخطئ‏.‏ ومع حرصه البالغ على رضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهذا الرضى يومئذ يعز ويذل ويرفع ويخفض ويترك المسلم مرموقاً بالأنظار أو مهملاً لا ينظر إليه إنسان- مع هذا فإن مراقبة الله أقوى وتقوى الله أعمق؛ والرجاء في الله أوثق‏.‏

«ونهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الناس عن كلامنا‏.‏ أيها الثلاثة‏.‏ من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس- أو قال‏:‏ تغيروا لنا- حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف‏.‏ فلبثنا على ذلك خمسين ليلة‏.‏ فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما؛ وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم‏.‏ فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد‏.‏ وآتي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأسلم عليه في مجلسه بعد الصلاة، وأقول في نفسي‏:‏ هل حرك شفتيه برد السلام أم لا‏؟‏ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، فإذا التفت نحوه أعرض عني‏.‏ حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة- وهو ابن عمي وأحب الناس إلي- فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام‏.‏

فقلت له‏:‏ يا أبا قتادة أنشدك الله تعالى‏.‏ هل تعلم أني أحب الله ورسوله‏؟‏ قال‏:‏ فسكت‏.‏ قال‏:‏ فعدت فنشدته فسكت، فعدت فنشدته‏.‏ قال‏:‏ الله ورسول أعلم‏.‏ ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار «‏.‏

هكذا كان الضبط، وهكذا كانت الطاعة في الجماعة المسلمة- على الرغم من كل ما وقع من خلخلة بعد الفتح ومن بلبلة في ساعة العسرة-‏.‏‏.‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة‏.‏ فلا مخلوق يفتح فمه بكلمة، ولا مخلوق يلقى كعباً بأنس، ولا مخلوق يأخذ منه أو يعطي‏.‏ حتى ابن عمه وأحب الناس إليه، وقد تسور عليه داره، لا يرد عليه السلام، ولا يجيبه عن سؤال‏.‏ فإذا أجاب بعد الإلحاح لم يطمئن لهفته ولم يسكن قلقه، إنما قال‏:‏» الله ورسوله أعلم «‏.‏

وكعب في لهفته- وقد تنكرت له الأرض فلم تعد الأرض التي كان يعرف- يتلمس حركة من بين شفتي الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويخالسه النظر لعله يعلم أن رسول الله قد ألقى إليه بنظرة يحيا على الأمل فيها، ويطمئن إلى أنه لم يقطع من تلك الشجرة، ولم يكتب له الذبول والجفاف‏!‏

وبينما هو طريد شريد، لا يلقي إليه مخلوق من قومه بكلمة- ولو على سبيل الصدقة- يجيئه من قبل ملك غسان كتاب يمنيه بالعزة والكرامة والمجد والجاه‏.‏‏.‏ ولكنه بحركة واحدة يعرض عن هذا كله، وما يزيد على أن يلقي بالكتاب إلى النار، ويعد هذا بقية من البلاء، ويصبر على الابتلاء‏.‏

وتمتد المقاطعة فتعزل عنه زوجه‏.‏ لتدعه فريداً طريداً من الأنس كله، مخلفاً بين الأرض والسماء‏.‏ فيخجل أن يراجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في امرأته، لأنه لا يدري كيف يكون الجواب‏.‏

هذه صفحة‏.‏ والصفحة الأخرى هي صفحة البشرى‏.‏ بشرى القبول‏.‏ بشرى العودة إلى الصف‏.‏ بشرى التوبة من الذنب‏.‏ بشرى البعث والعودة إلى الحياة‏.‏‏.‏» فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا‏.‏ قد ضاقت علي نفسي، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، سمعت صارخاً أوفىَ على جبل سلع يقول بأعلى صوته‏:‏ يا كعب بن مالك أبشر‏.‏ فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء الفرج‏.‏ فآذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا وذهب قِبلَ صاحبيّ مبشرون، وركض إلي رجل فرساً، وسعى ساع من أسلم قِبلي وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس‏.‏ فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته‏.‏ والله ما أملك غيرهما يومئذ، فاستعرت ثوبين فلبستهما، فانطلقت أؤم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتلقاني الناس فوجاً بعد فوج يهنئونني بالتوبة، ويقولون‏:‏ ليهنك توبة الله عليك‏.‏

حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد وحوله، الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره‏.‏ قال‏:‏ فكان كعب لا ينساها لطلحة «‏.‏‏.‏

هكذا كانت الأحداث تقدر وتقوّم في هذه الجماعة‏.‏ وهكذا كانت توبة مقبولة تستقبل وتعظم؛ كانت بشرى يركض بها الفارس إلى صاحبها، ويهتف بها راكب الجبل ليكون أسرع بشارة‏.‏ وكانت التهنئة بها والاحتفاء بصاحبها جميلاً لا ينساه الطريد الذي رد إلى الجماعة واتصلت بها وشائجه، فهو في يوم كما قال عنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏» أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك «قالها- صلى الله عليه وسلم- وهو يبرق وجهه من السرور‏.‏ كما قال كعب، فهذا القلب الكبير الكريم الرحيم قد فاض به السرور أن تقبل الله توبة ثلاثة من أصحابه وردهم مكرمين إلى جماعته‏.‏

تلك هي قصة الثلاثة الذين خلفوا ثم تاب الله عليهم، وهذه هي بعض لمحات دلالتها الواضحة على حياة الجماعة الإسلامية، وعلى القيم التي كانت تعيش بها‏.‏

والقصة كما رواها أحد أصحابها، تقرب إلى نفوسنا معنى الآية‏:‏

‏{‏حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏ضاقت عليهم الأرض بما رحبت‏}‏‏.‏‏.‏

فما الأرض‏؟‏ إن هي إلا بأهلها‏.‏ إن هي إلا بالقيم السائدة فيها‏.‏ إن هي إلا بالوشائج والعلاقات بين أصحابها‏.‏ فالتعبير صادق في مدلوله الواقعي فوق صدقه في جماله الفني، الذي يرسم هذه الأرض تضيق بالثلاثة المخلفين، وتتقاصر أطرافها، وتنكمش رقعتها، فهم منها في حرج وضيق‏.‏

‏{‏وضاقت عليهم أنفسهم‏}‏‏.‏‏.‏

فكأنما هي وعاء لهم تضيق بهم ولا تسعهم، وتضغطهم فيتكرب أنفاسهم‏.‏

‏{‏وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه‏}‏‏.‏‏.‏

وليس هناك ملجأ من الله لأحد، وهو آخذ بأقطار الأرض والسماوات‏.‏ ولكن ذكر هذه الحقيقة هنا في هذا الجو المكروب يخلع على المشهد ظلاً من الكربة واليأس والضيق، لا مخرج منه إلا بالالتجاء إلى الله مفرج الكروب‏.‏‏.‏

ثم يجيء الفرج‏.‏‏.‏ ‏{‏ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم‏}‏‏.‏

تاب عليهم من هذا الذنب الخاص، ليتوبوا توبة عامة عن كل ما مضى، ولينيبوا إلى الله إنابة كاملة في كل ما سيأتي‏.‏ ومصداق هذا في قول كعب‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله‏.‏ قال‏:‏» أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك «قال فقلت‏:‏ فإني أمسك سهمي الذي بخيبر‏.‏ وقلت‏:‏ يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي إلا أحدث إلا صدقاً ما بقيت‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن مما أبلاني الله تعالى‏.‏ والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى يومي هذا‏.‏ وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي‏.‏

ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا- في ظلال القرآن- مع هذه القصة الموحية ومع التعبير القرآني الفريد فيها‏.‏ فحسبنا هنا ما وفق الله إليه فيها‏.‏

وفي ظل قصة التوبة على الذين ترددوا والذين تخلفوا؛ وفي ظل عنصر الصدق البادي في قصة الثلاثة الذين خلفوا؛ يجيء الهتاف للذين آمنوا جميعاً أن يتقوا الله ويكونوا مع الصادقين في إيمانهم من أهل السابقة؛ ويجيء التنديد بتخلف أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب، مع الوعد بالجزاء السخي للمجاهدين‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏.‏ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلاً، إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين‏.‏ ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون وادياً، إلا كتب لهم، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون‏}‏‏.‏‏.‏

إن أهل المدينة هم الذين تبنوا هذه الدعوة وهذه الحركة، فهم أهلها الأقربون‏.‏ وهم بها ولها‏.‏ وهم الذين آووا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبايعوه؛ وهم الذين باتوا يمثلون القاعدة الصلبة لهذا الدين في مجتمع الجزيرة كله‏.‏ وكذلك القبائل الضاربة من حول المدينة وقد أسلمت؛ وباتت تؤلف الحزام الخارجي للقاعدة‏.‏‏.‏ فهؤلاء وهؤلاء ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله‏.‏ وليس لهم أن يؤثروا أنفسهم على نفسه‏.‏‏.‏ وحين يخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الحر أو البرد‏.‏ في الشدة أو الرخاء‏.‏ في اليسر أو العسر‏.‏ ليواجه تكاليف هذه الدعوة وأعباءها، فإنه لا يحق لأهل المدينة، أصحاب الدعوة، ومن حولهم من الأعراب، وهم قريبون من شخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا عذر لهم في ألا يكونوا قد علموا، أن يشفقوا على أنفسهم مما يحتمله رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

من أجل هذه الاعتبارات يهتف بهم أن يتقوا الله وأن يكونوا مع الصادقين الذين لم يتخلفوا، ولم تحدثهم نفوسهم بتخلف، ولم يتزلزل إيمانهم في العسرة ولم يتزعزع‏.‏‏.‏ وهم الصفوة المختارة من السابقين والذين اتبعوهم بإحسان‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏}‏‏.‏

ثم يمضي السياق بعد هذا الهتاف مستنكراً مبدأ التخلف عن رسول الله‏:‏

‏{‏ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه‏}‏‏.‏

وفي التعبير تأنيب خفي‏.‏ فما يؤنب أحد يصاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأوجع من أن يقال عنه‏.‏ إنه يرغب بنفسه عن نفس رسول الله، وهو معه، وهو صاحبه‏!‏

وإنها لإشارة تلحق أصحاب هذه الدعوة في كل جيل‏.‏ فما كان لمؤمن أن يرغب بنفسه عن مثل ما تعرضت له نفس رسول الله في سبيل هذه الدعوة؛ وهو يزعم أنه صاحب دعوة؛ وأنه يتأسى فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم ‏!‏

إنه الواجب الذي يوجبه الحياء من رسول الله- فضلاً على الأمر الصادر من الله- ومع هذا فالجزاء عليه ما أسخاه‏!‏

‏{‏ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلاً، إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين‏.‏ ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون وادياً، إلا كتب لهم، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون‏}‏‏.‏‏.‏

إنه على الظمأ جزاء، وعلى النصب جزاء، وعلى الجوع جزاء‏.‏ وعلى كل موطئ قدم يغيظ الكفار جزاء‏.‏ وعلى كل نيل من العدو جزاء‏.‏ يكتب به للمجاهد عمل صالح، ويحسب به من المحسنين الذين لا يضيع لهم الله أجراً‏.‏

وإنه على النفقة الصغيرة والكبيرة أجر‏.‏ وعلى الخطوات لقطع الوادي أجر‏.‏‏.‏ أجر كأحسن ما يعمل المجاهد في الحياة‏.‏

ألا والله، إن الله ليجزل لنا العطاء‏.‏ وإنها والله للسماحة في الأجر والسخاء‏.‏ وإنه لمما يخجل أن يكون ذلك كله على أقل مما احتمله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الشدة واللأواء‏.‏ في سبيل هذه الدعوة التي نحن فيها خلفاء، وعليها بعده أمناء‏!‏

ويبدو أن تنزل القرآن في هذه السورة بالنكير على المتخلفين؛ والتنديد بالتخلف وبخاصة من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب؛ قد جعل الناس يتزاحمون في المدينة ليكونوا رهن إشارة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبخاصة من القبائل المحيطة بالمدينة‏.‏ مما اقتضى بيان حدود النفير العام- في الوقت المناسب للبيان من الناحية الواقعية- فقد اتسعت رقعة الأرض الإسلامية حتى كادت الجزيرة كلها تدين للإسلام، وكثر عدد الرجال المستعدين للجهاد، وقد بلغ من عددهم- بعد تخلف المتخلفين في تبوك- نحواً من ثلاثين ألفاً، الأمر الذي لم يتهيأ من قبل في غزوة من غزوات المسلمين‏.‏ وقد آن أن تتوزع الجهود في الجهاد وفي عمارة الأرض وفي التجارة وفي غيرها من شؤون الحياة التي تقوم بها أمة ناشئة؛ وهي تختلف عن مطالب القبيلة الساذجة، وعن حاجات المجتمع القبلي الأولية‏.‏

‏.‏ ونزلت الآية التالية تبين هذه الحدود في جلاء‏:‏

‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد وردت روايات متعددة في تفسير هذه الآية، وتحديد الفرقة التي تتفقه في الدين وتنذر قومها إذا رجعت إليهم‏.‏‏.‏ والذي يستقيم عندنا في تفسير الآية‏:‏ أن المؤمنين لا ينفرون كافة‏.‏ ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة- على التناوب بين من ينفرون ومن يبقون- لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة؛ وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم، بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة‏.‏‏.‏

والوجه في هذا الذي ذهبنا إليه- وله أصل من تأويل ابن عباس- رضي الله عنهما- ومن تفسير الحسن البصري، واختيار ابن جرير، وقول لابن كثير- أن هذا الدين منهج حركي، لا يفقهه إلا من يتحرك به؛ فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه؛ بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه؛ وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به‏.‏ أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا، لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا؛ ولا فقهوا فقههم؛ ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه المتحركون وبخاصة إذا كان الخروج مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والخروج بصفة عامة أدنى إلى الفهم والتفقه‏.‏

ولعل هذا عكس ما يتبادر إلى الذهن، من أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة، هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين‏!‏ ولكن هذا وهم، لا يتفق مع طبيعة هذا الدين‏.‏‏.‏ إن الحركة هي قوام هذا الدين؛ ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به، ويجاهدون لتقريره في واقع الناس، وتغليبه على الجاهلية، بالحركة العملية‏.‏

والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه؛ مهما تفرغوا لدراسته في الكتب- دراسة باردة‏!‏- وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس؛ ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق‏!‏

إن فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة‏.‏ ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة‏.‏ والذين يعكفون على الكتب والأوراق في هذا الزمان لكي يستنبطوا منها أحكاماً فقهية «يجددون» بها الفقه الإسلامي أو «يطورونه»- كما يقول المستشرقون من الصليبيين‏!‏- وهم بعيدون عن الحركة التي تسهتدف تحرير الناس من العبودية للعباد، وردهم إلى العبودية لله وحده، بتحكيم شريعة الله وحدها وطرد شرائع الطواغيت‏.‏

‏.‏ هؤلاء لا يفقهون طبيعة هذا الدين؛ ومن ثم لا يحسنون صياغة فقه هذا الدين‏!‏

إن الفقه الإسلامي وليد الحركة الإسلامية‏.‏‏.‏ فقد وجد الدين أولاً ثم وجد الفقه‏.‏ وليس العكس هو الصحيح‏.‏‏.‏ وجدت الدينونة لله وحده، ووجد المجتمع الذي قرر أن تكون الدينونة فيه لله وحده‏.‏‏.‏ والذي نبذ شرائع الجاهلية وعاداتها وتقاليدها؛ والذي رفض أن تكون شرائع البشر هي التي تحكم أي جانب من جوانب الحياة فيه‏.‏‏.‏ ثم أخذ هذا المجتمع يزاول الحياة فعلاً وفق المبادئ الكلية في الشريعة- إلى جانب الأحكام الفرعية التي وردت في أصل الشريعة- وفي أثناء مزاولته للحياة الفعلية في ظل الدينونة لله وحده، واستيحاء شريعته وحدها، تحقيقاً لهذه الدينونة، جدت له أقضية فرعية بتجدد الحالات الواقعية في حياته‏.‏‏.‏ وهنا فقط بدأ استنباط الأحكام الفقهية، وبدأ نمو الفقه الإسلامي‏.‏‏.‏ الحركة بهذا الدين هي التي أنشأت ذلك الفقه، والحركة بهذا الدين هي التي حققت نموه‏.‏ ولم يكن قط فقها مستنبطاً من الأوراق الباردة، بعيداً عن حرارة الحياة الواقعة‏!‏‏.‏‏.‏ من أجل ذلك كان الفقهاء متفقهين في الدين، يجيء فقههم للدين من تحركهم به، ومن تحركه مع الحياة الواقعة لمجتمع مسلم حي، يعيش بهذا الدين، ويجاهد في سبيله، ويتعامل بهذا الفقه الناشئ بسبب حركة الحياة الواقعة‏.‏

فأما اليوم‏.‏‏.‏ «فماذا»‏.‏‏.‏‏؟‏ أين هو المجتمع المسلم الذي قرر أن تكون دينونته لله وحده؛ والذي رفض بالفعل الدينونة لأحد من العبيد؛ والذي قرر أن تكون شريعة الله شريعته؛ والذي رفض بالفعل شرعية أي تشريع لا يجيء من هذا المصدر الشرعي الوحيد‏؟‏

لا أحد يملك أن يزعم أن هذا المجتمع المسلم قائم موجود‏!‏ ومن ثم لا يتجه مسلم يعرف الإسلام ويفقه منهجه وتاريخه، إلى محاولة تنمية الفقه الإسلامي أو «تجديده» أو «تطويره‏!‏» في ظل مجتمعات لا تعترف ابتداء بأن هذا الفقه هو شريعتها الوحيدة التي بها تعيش‏.‏ ولكن المسلم الجاد يتجه ابتداء لتحقيق الدينونة لله وحده؛ وتقرير مبدأ أن لا حاكمية إلا لله، وأن لا تشريع ولا تقنين إلا مستمداً من شريعته وحدها تحقيقاً لتلك الدينونة‏.‏‏.‏

إنه هزل فارغ لا يليق بجدية هذا الدين أن يشغل ناس أنفسهم بتنمية الفقه الإسلامي أو «تجديدة» أو «تطويره» في مجتمع لا يتعامل بهذا الفقه ولا يقيم عليه حياته‏.‏ كما أنه جهل فاضح بطبيعة هذا الدين أن يفهم أحد أنه يستطيع التفقه في هذا الدين وهو قاعد، يتعامل مع الكتب والأوراق الباردة، ويستنبط الفقه من قوالب الفقه الجامدة؛‏.‏‏.‏ إن الفقه لا يستنبط من الشريعة إلا في مجرى الحياة الدافق؛ وإلا مع الحركة بهذا الدين في عالم الواقع‏.‏

إن الدينونة لله وحده أنشأت المجتمع المسلم، والمجتمع المسلم أنشأ «الفقه الإسلامي»‏.‏

‏.‏ ولا بد من هذا الترتيب‏.‏‏.‏ لا بد أن يوجد مجتمع مسلم ناشئ من الدينونة لله وحده، مصمم على تنفيذ شريعته وحدها‏.‏ ثم بعد ذلك- لا قبله- ينشأ فقه إسلامي مفصل على قد المجتمع الذي ينشأ، وليس «جاهزاً» معداً من قبل‏!‏ ذلك أن كل حكم فقهي هو- بطبيعته- تطبيق للشريعة الكلية على حالة واقعة، ذات حجم معين، وشكل معين، وملابسات معينة‏.‏ وهذه الحالات تنشئها حركة الحياة، داخل الإطار الإسلامي لا بعيداً عنه، وتحدد حجمها وشكلها وملابساتها؛ ومن ثم «يفصل» لها حكم مباشر على «قدها»‏.‏‏.‏ فأما تلك الأحكام «الجاهزة» في بطون الكتب؛ فقد «فصلت» من قبل لحالات معينة في أثناء جريان الحياة الإسلامية على أساس تحكيم شرعة الله فعلاً‏.‏ ولم تكن وقتها «جاهزة» باردة‏!‏ كانت وقتها حية مليئة بالحيوية؛ وعلينا اليوم أن «نفصل» مثلها للحالات الجديدة‏.‏‏.‏ ولكن قبل ذلك يجب أن يوجد المجتمع الذي يقرر ألا يدين لغير الله في شرائعه؛ وألا يفصل حكماً شرعياً إلا من شريعة الله دون سواها‏.‏

وفي هذا يكون الجهد الجاد المثمر، اللائق بجدية هذا الدين‏.‏ وفي هذا يكون الجهاد الذي يفتح البصائر؛ ويمكن من التفقه في الدين حقاً‏.‏‏.‏ وغير هذا لا يكون إلا هزلاً تفرضه طبيعة هذا الدين؛ وإلا هروباً من واجب الجهاد الحقيقي تحت التستر بستار «تجديد الفقه الإسلامي» أو «تطويره»‏!‏‏.‏‏.‏ هروب خير منه الاعتراف بالضعف والتقصير؛ وطلب المغفرة من الله على التخلف والقعود مع المتخلفين القاعدين‏!‏

بعد ذلك ترد آية تضع خطة الحركة الجهادية ومداها كذلك‏.‏ وهما الخطة والمدى اللذان سار عليهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه من بعده بصفة عامة، فلم تشذ عنها إلا حالات كانت لها مقتضيات واقعة‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏‏.‏‏.‏

فأما خطة الحركة الجهادية التي تشير إليها الآية في قوله تعالى‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار‏}‏‏.‏‏.‏

فقد سارت عليها الفتوح الإسلامية، تواجه من يلون «دار الإسلام» ويجاورونها، مرحلة فمرحلة‏.‏ فلما أسلمت الجزيرة العربية- أو كادت ولم تبق إلا فلول منعزلة لا تؤلف قوة يخشى منها على دار الإسلام بعد فتح مكة- كانت غزوة تبوك على أطراف بلاد الروم‏.‏ ثم كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم وفي بلاد فارس، فلم يتركوا وراءهم جيوباً؛ ووحدت الرقعة الإسلامية، ووصلت حدودها، فإذا هي كتلة ضخمة شاسعة الأرجاء، متماسكة الأطراف؛‏.‏‏.‏ ثم لم يأتها الوهن فيما بعد إلا من تمزقها، وإقامة الحدود المصطنعة فيما بينها على أساس ملك البيوت، أو على أساس القوميات‏!‏ وهي خطة عمل أعداء هذا الدين على التمكين لها جهد طاقتهم وما يزالون يعملون‏.‏

وستظل هذه الشعوب التي جعل منها الإسلام «أمة واحدة» في «دار الإسلام» المتصلة الحدود- وراء فواصل الأجناس واللغات والأنساب والألوان- ستظل ضعيفة مهيضة إلا أن تثوب إلى دينها، وإلى رايته الواحدة؛ وإلا أن تتبع خطى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتدرك أسرار القيادة الربانية التي كفلت لها النصر والعز والتمكين‏.‏

ونقف مرة أخرى أمام قوله تعالى‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏‏.‏‏.‏

فنجد أمراً بقتال الذين يلون المسلمون من الكفار‏.‏ لا يذكر فيه أن يكونوا معتدين على المسلمين ولا على ديارهم‏.‏‏.‏ وندرك أن هذا هو الأمر الأخير، الذي يجعل «الانطلاق» بهذا الدين هو الأصل الذي ينبثق منه مبدأ الجهاد، وليس هو مجرد «الدفاع» كما كانت الأحكام المرحلية أول العهد بإقامة الدولة المسلمة في المدينة‏.‏

ويريد بعض الذين يتحدثون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام، وعن أحكام الجهاد في الإسلام، وبعض الذين يتعرضون لتفسير آيات الجهاد في القرآن‏.‏‏.‏ أن يتلمسوا لهذا النص النهائي الأخير قيداً من النصوص المرحلية السابقة؛ فيقيدوه بوقوع الاعتداء أو خوف الاعتداء‏!‏ والنص القرآني بذاته مطلق، وهو النص الأخير‏!‏ وقد عودنا البيان القرآني عند إيراد الأحكام، أن يكون دقيقاً في كل موضع؛ وألا يحيل في موضع على موضع؛ بل يتخير اللفظ المحدد؛ ويسجل التحفظات والاستثناءات والقيود والتخصيصات في ذات النص‏.‏ إن كان هناك تحفظ أو استثناء أو تقييد أو تخصيص‏.‏

ولقد سبق لنا في تقديم السورة في الجزء العاشر، وفي تقديم آيات القتال مع المشركين والقتال مع أهل الكتاب، أو فصلنا القول في دلالة النصوص والأحكام المرحلية والنصوص والأحكام النهائية على طبيعة المنهج الحركي للإسلام فحسبنا ما ذكرناه هناك‏.‏

إلا أن الذين يكتبون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام، وعن أحكام الجهاد في الإسلام، والذين يتصدون لتفسير الآيات المتضمنة لهذا الأحكام، يتعاظمهم ويهولهم أن تكون هذه هي أحكام الإسلام‏!‏ وأن يكون الله- سبحانه- قد أمر الذين آمنوا ان يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار، وأن يظلوا يقاتلون من يلونهم من الكفار، كلما وجد هناك من يلونهم من الكفار‏!‏‏.‏‏.‏ يتعاظمهم ويهولهم أن يكون الأمر الإلهي هكذا، فيروحون يتلمسون القيود للنصوص المطلقة؛ ويجدون هذه القيود في النصوص المرحلية السابقة‏!‏

إننا نعرف لماذا يهولهم هذا الأمر ويتعاظمهم على هذا النحو‏.‏‏.‏‏.‏

إنهم ينسون أن الجهاد في الإسلام جهاد في «سبيل الله»‏.‏‏.‏ جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله‏.‏

‏.‏ جهاد لتحرير «الإنسان» من العبودية لغير الله، ومن فتنته بالقوة عن الدينونة لله وحده والانطلاق من العبودية للعباد‏.‏‏.‏ ‏{‏حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله‏}‏ وأنه ليس جهاداً لتغليب مذهب بشري على مذهب بشري مثله‏.‏ إنما هو جهاد لتغليب منهج الله على مناهج العبيد‏!‏ وليس جهاداً لتغليب سلطان قوم على سلطان قوم، إنما هو جهاد لتغليب سلطان الله على سلطان العبيد‏!‏ وليس جهاداً لإقامة مملكة لعبد، وإنما هو جهاد لإقامة مملكة الله في الأرض‏.‏‏.‏ ومن ثم ينبغي له أن يطلق في «الأرض» كلها، لتحرير «الإنسان» كله‏.‏ بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام وبين ما هو خارج عنها‏.‏‏.‏ فكلها «أرض» يسكنها «الإنسان» وكلها فيها طواغيت تعبد العباد للعباد‏!‏

وحين ينسون هذه الحقيقة يهولهم طبعاً أن ينطلق منهج ليكتسح كل المناهج، وأن تنطلق أمة لتخضع سائر الأمم‏.‏‏.‏ إنها في هذا الوضع لا تستساغ‏!‏ وهي فعلاً لا تستساغ‏!‏‏.‏‏.‏ لولا أن الأمر ليس كذلك‏.‏ وليس له شبيه فيما بين أنظمة البشر اليوم من إمكان التعايش‏!‏ إنها كلها اليوم أنظمة بشرية‏.‏ فليس لواحد منها أن يقول‏:‏ إنه هو وحده صاحب الحق في البقاء‏!‏ وليس الحال كذلك في نظام إلهي يواجه أنظمة بشرية؛ ليبطل هذه الأنظمة كلها ويدمرها كي يطلق البشر جميعاً من ذلة العبودية للعباد؛ ويرفع البشر جميعاً إلى كرامة العبودية لله وحده بلا شريك‏!‏

ثم إنه يهولهم الأمر ويتعاظمهم لأنهم يواجهون هجوماً صليبياً منظماً لئيماً ماكراً خبيثاً يقول لهم‏:‏ إن العقيدة الإسلامية قد انتشرت بالسيف، وأن الجهاد كان لإكراه الآخرين على العقيدة الإسلامية؛ وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد‏!‏

والمسألة على هذا الوضع لا تكون مستساغة‏.‏‏.‏ لولا أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق‏.‏‏.‏ إن الإسلام يقوم على قاعدة‏:‏ ‏{‏لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي‏}‏ ولكن لماذا ينطلق إذن بالسيف مجاهداً؛ ولماذا اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ‏{‏يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون‏}‏‏؟‏‏.‏‏.‏ إنه لأمر آخر غير الإكراه على العقيدة كان هذا الجهاد‏.‏‏.‏ بل لأمر مناقض تماماً للإكراه على العقيدة‏.‏‏.‏ إنه لضمان حرية الاعتقاد كان هذا الجهاد؛‏.‏‏.‏ لأن الإسلام كإعلان عام لتحرير «الإنسان» في «الإرض» من العبودية للعباد؛ يواجه دائماً طواغيت في الأرض يخضعون العباد للعباد‏.‏ ويواجه دائماً أنظمة تقوم على أساس دينونة العبيد للعبيد؛ تحرس هذه الأنظمة قوة الدولة أو قوة تنظيمية في صورة من الصور؛ وتحول دون الناس في داخلها ودون سماع الدعوة الإسلامية؛ كما تحول دونهم ودون اعتناق العقيدة إذا ارتضتها نفوسهم، أو تفتنهم عنها بشتى الوسائل‏.‏‏.‏ وفي هذا يتمثل انتهاك حرية الاعتقاد بأقبح أشكاله‏.‏

‏.‏ ومن هنا ينطلق الإسلام بالسيف ليحطم هذه الأنظمة، ويدمر هذه القوى التي تحميها‏.‏‏.‏ ثم ماذا‏؟‏‏.‏‏.‏ ثم يترك الناس- بعد ذلك- أحراراً حقاً في اختيار العقيدة التي يريدونها‏.‏ إن شاءوا دخلوا في الإسلام، فكان لهم ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات، وكانوا إخواناً في الدين للسابقين في الإسلام‏!‏ وإن شاءوا بقوا على عقائدهم وأدوا الجزية، إعلاناً عن استسلامهم لانطلاق الدعوة الإسلامية بينهم بلا مقاومة؛ ومشاركة منهم في نفقات الدولة المسلمة التي تحميهم من اعتداء الذين لم يستسلموا بعد، وتكفل العاجز منهم والضعيف والمريض كالمسلمين سواء بسواء‏.‏

إن الإسلام لم يكره فرداً على تغيير عقيدته؛ كما انطلقت الصليبية على مدار التاريخ تذبح وتقتل وتبيد شعوباً بأسرها- كشعب الأندلس قديماً وشعب زنجبار حديثاً- لتكرههم على التنصر‏.‏ وأحياناً لا تقبل منهم حتى التنصر، فتبيدهم لمجرد أنهم مسلمون‏.‏‏.‏ وأحياناً لمجرد أنهم يدينون بمذهب نصراني مخالف لمذهب الكنيسة الرسمية‏.‏‏.‏ وقد ذهب مثلاً اثناء عشر ألفاً من نصارى مصر ضحايا بصور بشعة إذا أحرقوا أحياء على نار المشاعل لمجرد مخالفتهم لجزئية اعتقادية عن كنيسة روما تتعلق بانبثاق الروح القدس من الآب فقط، أو من الآب والابن معاً‏!‏ أو يتعلق بما إذا كان للمسيح طبيعة واحدة لاهوتية، أو طبيعة لاهوتية ناسوتية‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخر هذه الجزئيات الاعتقادية الجانبية‏!‏

وأخيراً فإن صورة الانطلاق في الأرض لمواجهة من يلون المسلمين من الكفار تهول المهزومين روحياً في هذا الزمان وتتعاظمهم؛ لأنهم يبصرون بالواقع من حولهم وبتكاليف هذا الانطلاق فيهولهم الأمر‏.‏‏.‏ وهو يهول فعلاً‏!‏‏.‏‏.‏ فهل هؤلاء الذين يحملون أسماء المسلمين، وهم شعوب مغلوبة على أمرها؛ أو قليلة الحيلة عموماً‏!‏ هل هؤلاء هم الذين سينطلقون في الأرض يواجهون أمم الأرض جميعاً بالقتال، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله‏؟‏‏!‏ إنه لأمر لا يتصور عقلاً‏.‏‏.‏ ولا يمكن أن يكون هذا هو أمر الله فعلاً

ولكن فات هؤلاء جميعاً أن يروا متى كان هذا الأمر‏؟‏ وفي أي ظرف‏؟‏ لقد كان بعد أن قامت للإسلام دولة تحكم بحكم الله؛ دانت لها الجزيرة العربية ودخلت في هذا الدين، ونظمت على أساسه‏.‏ وقبل ذلك كله كانت هناك العصبة المسلمة التي باعت أنفسها لله بيعة صدق، فنصرها الله يوماً بعد يوم، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة‏.‏‏.‏ وأن الزمان قد استدار اليوم كهيئته يوم بعث الله محمداً- صلى الله عليه وسلم- ليدعو الناس- في جاهليتهم- إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله‏.‏ فجاهد والقلة التي معه حتى قامت الدولة المسلمة في المدينة‏.‏ وأن الأمر بالقتال مر بمراحل وأحكام مترقية حتى انتهى إلى تلك الصورة الأخيرة‏.‏‏.‏ وأن بين الناس اليوم وهذه الصورة أن يبدأوا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول‏.‏

‏.‏ ثم يصلوا- يوم أن يصلوا- إلى هذه الصورة الأخيرة بإذن الله‏.‏‏.‏ ويومئذ لن يكونوا هم هذا الغثاء الذي تتقاسمه المذاهب والمناهج والأهواء؛ والذي تتقاسمة الرايات القومية والجنسية والعنصرية‏.‏ ولكنهم سيكونون العصبة المسلمة الواحدة التي ترفع راية‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ ولا ترفع معها راية أخرى ولا شعاراً، ولا تتخذ لها مذهباً ولا منهجاً من صنع العبيد في الأرض؛ إنما تنطلق باسم الله وعلى بركة الله‏.‏‏.‏

إن الناس لا يستطيعون أن يفقهوا أحكام هذا الدين، وهم في مثل ما هم فيه من الهزال‏!‏ إنه لن يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في حركة تستهدف تقرير ألوهية الله وحده في الأرض ومكافحة ألوهية الطواغيت‏!‏

إن فقه هذا الدين لا يجوز أن يؤخذ عن القاعدين، الذين يتعاملون مع الكتب والأوراق الباردة‏!‏ إن فقه هذا الدين فقه حياة وحركة وانطلاق‏.‏ وحفظ ما في متون الكتب‏.‏ والتعامل مع النصوص في غير حركة، لا يؤهل لفقه هذا الدين، ولم يكن مؤهلاً له في يوم من الأيام‏!‏

وأخيراً فإن الظروف التي نزل فيها قول الله تعالى‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏‏.‏‏.‏

تشير إلى أن أول المقصودين به كانوا هم الروم‏.‏‏.‏ وهم أهل كتاب‏.‏‏.‏ ولكن لقد سبق في السورة تقرير كفرهم الاعتقادي والعملي، بما في عقيدتهم من انحراف، وبما في واقعهم من تحكيم شرائع العبيد‏.‏‏.‏

وهذه لفتة لا بد من الوقوف عندها لفقه منهج هذا الدين في الحركة تجاه أهل الكتاب، المنحرفين عن كتابهم، المتحكمين إلى شرائع من صنع رجال فيهم‏!‏‏.‏‏.‏ وهي قاعدة تشمل كل أهل كتاب يتحاكمون- راضين- إلى شرائع من صنع الرجال وفيهم شريعة الله وكتابه، في أي زمان وفي أي مكان‏!‏

ثم لقد أمر الله المسلمين أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار وليجدوا فيهم غلظة، وعقب على هذا الأمر بقوله‏:‏

‏{‏أن الله يحب المتقين‏}‏‏.‏‏.‏

ولهذا التعقيب دلالته‏.‏‏.‏ فالتقوى هنا‏.‏‏.‏ التقوى التي يحب الله أهلها‏.‏‏.‏ هي التقوى التي تنطلق في الأرض تقاتل من يلون المسلمين من الكفار؛ وتقاتلهم في ‏{‏غلظة‏}‏ أي بلا هوادة ولا تميع ولا تراجع‏.‏‏.‏ حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله‏.‏

ولكنه ينبغي أن نعرف وأن يعرف الناس جميعاً أنها الغلظة على الذين من شأنهم أن يحاربوا وحدهم- وفي حدود الآداب العامة لهذا الدين- وليست هي الغلظة المطلقة من كل قيد وأدب‏!‏

إنه قتال يسبقه إعلان، وتخيير بين‏:‏ قبول الإسلام، أو أداء الجزية، أو القتال‏.‏‏.‏ ويسبقه نبذ العهد إن كان هناك عهد- في حالة الخوف من الخيانة- ‏(‏والأحكام النهائية تجعل العهد لأهل الذمة الذين يقبلون مسالمة الإسلام وأداء الجزية؛ ولا عهد في غير هذه الحالة إلا أن يكون بالمسلمين ضعف يجعل الحكم المتعين في حالتهم هذه هو الحكم المرحلي الذي كان في حالة تشبه الحالة التي هم فيها‏)‏‏.‏

وهذه آداب المعركة كلها، من وصية رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏

* «عن بريدة- رضي الله عنه- قال‏:‏ كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال‏:‏» اغزوا باسم الله، في سبيل الله‏.‏ قاتلوا من كفر بالله‏.‏ اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً‏.‏ فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم‏.‏ ادعهم إلى الإسلام‏.‏ فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم من الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين‏.‏ وإن هم أبوا فسلهم الجزية‏.‏ فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم‏.‏ فإن أبوا فاستعن بالله تعالى عليهم وقاتلهم‏.‏‏.‏‏.‏ «‏.‏‏.‏ ‏(‏أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي‏)‏‏.‏

* وعن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال‏:‏ وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن قتل النساء والصبيان»‏.‏‏.‏‏.‏ ‏(‏أخرجه الشيخان‏)‏‏.‏

وأرسل النبي- صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل- رضي الله عنه- إلى أهل اليمن معلماً فكانت وصيته له‏:‏

«إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله‏.‏ فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة‏.‏ فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم‏.‏ فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم‏.‏ واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»‏.‏

وأخرج أبو داود- بإسناده- عن رجل من جهينة‏.‏ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ «لعلكم تقاتلون قوماً فتظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم، فيصالحونكم على صلح، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك، فإنه لا يصلح لكم»‏.‏

وعن العرباض بن سارية قال‏:‏ «نزلنا مع رسول الله قلعة خيبر، ومعه من معه من المسلمين‏.‏

وكان صاحب خيبر رجلاً مارداً متكبراً‏.‏ فأقبل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ يا محمد‏!‏ لكم أن تذبحوا حمرنا، وتأكلوا ثمرنا، وتضربوا نساءنا‏؟‏ فغضب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال‏:‏ «يا ابن عوف اركب فرسك، ثم ناد‏:‏ إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن وأن اجتمعوا للصلاة» فاجتمعوا‏.‏ ثم صلى بهم، ثم قام فقال‏:‏ «أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئاً إلا ما في القرآن‏!‏ ألا وإني قد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء، إنها لمثل القرآن أو أكثر‏.‏ وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم، إذا أعطوا الذي عليهم»‏.‏

ورفع إليه- صلى الله عليه وسلم- بعد إحدى المواقع أن صبية قتلوا بين الصفوف، فحزن حزناً شديداً، فقال بعضهم‏:‏ ما يحزنك يا رسول الله وهم صبية للمشركين؛ فغضب النبي- صلى الله عليه وسلم-؛ وقال- ما معناه- إن هؤلاء خير منكم، إنهم على الفطرة، أو لستم أبناء المشركين‏.‏ فإياكم وقتل الأولاد‏.‏ إياكم وقتل الأولاد‏.‏

وهذه التعليمات النبوية هي التي سار عليها الخلفاء بعده‏:‏

روى مالك عن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- أنه قال‏:‏ «ستجدون قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له، ولا تقتلن امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً»‏.‏

وقال زيد بن وهب‏:‏ أتانا كتاب عمر- رضي الله عنه- وفيه‏:‏ «لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً، واتقوا الله في الفلاحين»‏.‏

ومن وصاياه‏!‏ «ولا تقتلوا هرماً ولا امرأة ولا وليداً، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن الغارات»‏.‏

وهكذا تتواتر الأخبار الخط العام الواضع لمستوى المنهج الإسلامي في قتاله لأعداءه، وفي آدابه الرفيعة، وفي الرعاية لكرامة الإنسان‏.‏ وفي قصر القتال على القوى المادية التي تحول بين الناس وبين أن يخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده‏.‏ وفي اليسر الذي يعامل به حتى أعداءه‏.‏ أما الغلظة فهي الخشونة في القتال والشدة؛ وليست هي الوحشية مع الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة، غير المحاربين أصلاً؛ وليست تمثيلاً بالجثث والأشلاء على طريقة المتبربرين الذين يسمون أنفسهم متحضرين في هذا الزمان‏.‏ وقد تضمن الإسلام ما فيه الكفاية من الأوامر لحماية غير المحاربين، ولاحترام بشرية المحاربين‏.‏ إنما المقصود هو الخشونة التي لا تميع المعركة؛ وهذا الأمر ضروري لقوم أمروا بالحرمة والرأفة في توكيد وتكرار فوجب استثناء حالة الحرب، بقدر ما تقتضي حالة الحرب، دون رغبة في التعذيب والتمثيل والتنكيل‏.‏

وقبيل ختام السورة التي تكلمت طويلاً عن المنافقين، تجيء آيات تصور طريقة المنافقين في تلقي آيات الله وفي استقبال تكاليف هذه العقيدة التي يتظاهرون بها كاذبين؛ وإلى جانبها صورة الذين آمنوا وتلقيهم لهذا القرآن الكريم‏:‏

‏{‏وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول‏:‏ أيكم زادته هذه إيماناً‏؟‏ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون؛ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون‏.‏

أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون‏؟‏ وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض‏:‏ هل يراكم من أحد‏؟‏ ثم انصرفوا‏.‏ صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون‏}‏‏.‏‏.‏

والسؤال في الآية الأولى‏:‏

‏{‏أيكم زادته هذه إيماناً‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

سؤال مريب، لا يقوله إلا الذي لم يستشعر وقع السورة المنزلة في قلبه‏.‏ وإلا لتحدث عن آثارها في نفسه، بدل التساؤل عن غيره‏.‏ وهو في الوقت ذاته يحمل رائحة التهوين من شأن السورة النازلة والتشكيك في أثرها في القلوب‏!‏

لذلك يجيء الجواب الحاسم ممن لا راد لما يقول‏:‏

‏{‏فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون‏}‏‏.‏‏.‏

فأما الذين آمنوا فقد أضيفت إلى دلائل الإيمان عندهم دلالة فزادتهم إيماناً؛ وقد خفقت قلوبهم بذكر ربهم خفقة فزادتهم إيماناً؛ وقد استشعروا عناية ربهم بهم في إنزال آياته عليهم فزادتهم إيماناً‏.‏‏.‏ وأما الذين في قلوبهم مرض، الذين في قلوبهم رجس من النفاق، فزادتهم رجساً إلى رجسهم، وماتوا وهم كافرون‏.‏‏.‏ وهو نبأ من الله صادق، وقضاء منه سبحانه محقق‏.‏

وقبل أن يعرض السياق الصورة الثانية لاستجابتهم يسأل مستنكراً حال هؤلاء المنافقين الذين لا يعظهم الابتلاء، ولا يردهم الامتحان‏:‏

‏{‏أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون‏؟‏‏}‏‏.‏

والفتنة كانت تكون بكشف سترهم، أو بنصر المسلمين بدونهم، أو بغيرهما من الصور، وكانت دائمة الوقوع كثيرة التكرار في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- وما يزال المنافقون يفتنون ولا يتوبون‏!‏

فأما الصورة الحية أو المشهد المتحرك فترسمه الآية الأخيرة، في شريط متحرك دقيق‏:‏

‏{‏وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض‏:‏ هل يراكم من أحد‏؟‏ ثم انصرفوا‏.‏ صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون‏!‏‏}‏‏.‏

وإننا- حين نتلو الآية- لنستحضر مشهد هؤلاء المنافقين وقد نزلت سورة‏.‏ فإذا بعضهم ينظر إلى بعض ويغمز غمزة المريب‏:‏

‏{‏هل يراكم من أحد‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ثم تلوح لهم غرة من المؤمنين وانشغال فإذا هم يتسللون على أطراف الأصابع في حذر‏:‏

‏{‏ثم انصرفوا‏}‏‏.‏‏.‏

تلاحقهم من العين التي لا تغفل ولا تنشغل دعوة قاصمة تناسب فعلتهم المريبة‏:‏

‏{‏صرف الله قلوبهم‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

صرفها عن الهدى فإنهم يستحقون أن يظلوا في ضلالهم يعمهون‏:‏

‏{‏بأنهم قوم لا يفقهون‏}‏‏.‏

عطلوا قلوبهم عن وظيفتها فهم يستحقون‏!‏

إنه مشهد كامل حافل بالحركة ترسمه بضع كلمات، فإذا هو شاخص للعيون كأنها تراه‏!‏

وتختم السورة بآيتين ورد أنهما مكيتان، وورد أنهما مدنيتان‏.‏ ونحن نأخذ بهذا الأخير، ونلمح مناسبتهما في مواضع متفرقة في هذا الدرس وفي جو السورة على العموم‏.‏ آيتين تتحدث إحداهما عن الصلة بين الرسول وقومه، وعن حرصه عليهم ورحمته بهم‏.‏ ومناسبتها حاضرة في التكاليف التي كلفتها الأمة المؤمنة في مناصرة الرسول ودعوته وقتال أعدائه واحتمال العسرة والضيق‏.‏ والآية الثانية توجيه لهذا الرسول أن يعتمد على ربه وحده حين يتولى عنه من يتولى، فهو وليه وناصره وكافيه‏:‏

‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تولوا فقل حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم‏}‏‏.‏‏.‏

ولم يقل‏:‏ جاءكم رسول منكم‏.‏ ولكن قال‏:‏ ‏{‏من أنفسكم‏}‏ وهي أشد حساسية وأعمق صلة، وأدل على نوع الوشيجة التي تربطهم به‏.‏ فهو بضعة من أنفسهم، تتصل بهم صلة النفس بالنفس، وهي أعمق وأحس‏.‏

‏{‏عزيز عليه ما عنتم‏}‏‏.‏‏.‏

يشق عليه عنتكم ومشقتكم‏.‏

‏{‏حريص عليكم‏}‏‏.‏‏.‏

لا يلقي بكم في المهالك، ولا يدفع بكم إلى المهاوي، فإذا هو كلفكم الجهاد، وركوب الصعاب، فما ذلك من هوان بكم عليه، ولا بقسوة في قلبه وغلظة، إنما هي الرحمة في صورة من صورها‏.‏ الرحمة بكم من الذل والهوان، والرحمة بكم من الذنب والخطيئة، والحرص عليكم أن يكون لكم شرف حمل الدعوة، وحظ رضوان الله، والجنة التي وعد المتقون‏.‏

ثم ينتقل الخطاب إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- يعرفه طريقه حين يتولى عنه من يتولى، ويصله بالقوة التي تحميه وتكفيه‏:‏

‏{‏فإن تولوا فقل‏:‏ حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم‏}‏‏.‏

فإليه تنتهي القوة والملك والعظمة والجاه، وهو حسب من لاذ به وحسب من والاه‏.‏

إنه ختام سورة القتال والجهاد‏:‏ الارتكان إلى الله وحده، والاعتماد على الله وحده، واستمداد القوة من الله وحده‏.‏‏.‏

‏{‏وهو رب العرش العظيم‏}‏‏.‏‏.‏

وبعد فإن هذه السورة المحكمة تحتوي بيان الأحكام النهائية في العلاقات الدائمة بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات حوله- كما بينا في خلال عرضها وتقديمها- ومن ثم ينبغي أن يرجع إلى نصوصها الأخيرة بوصفها الكلمة الأخيرة في تلك العلاقات؛ وأن يرجع إلى أحكامها بوصفها الأحكام النهائية المطلقة، حسبما تدل عليها نصوص السورة‏.‏ كما ينبغي ألا تقيد هذه النصوص والأحكام النهائية بنصوص وأحكام وردت من قبل- وهي التي سميناها أحكاماً مرحلية- مستندين في هذه التسمية‏:‏ أولاً وبالذات إلى ترتيب نزول الآيات‏.‏ ومستندين أخيراً إلى سير الأحداث في الحركة الإسلامية، وإدراك طبيعة المنهج الإسلامي في هذه الحركة‏.‏

‏.‏ هذه الطبيعة التي بيناها في التقديم للسورة وفي ثناياها كذلك‏.‏‏.‏

وهذا هو المنهج الذي لا يدركه إلا الذين يتحركون بهذا الدين حركة جهادية لتقرير وجوده في واقع الحياة؛ برد الناس إلى ربوبية الله وحده، وإخراجهم من عبادة العباد‏!‏

إن هنالك مسافة شاسعة بين فقه الحركة، وفقه الأوراق‏!‏ إن فقه الأوراق يغفل الحركة ومقتضياتها من حسابه، لأنه لا يزاولها ولا يتذوقها‏!‏ أما فقه الحركة فيرى هذا الدين وهو يواجه الجاهلية، خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة، وموقفاً موقفاً‏.‏ ويراه وهو يشرع أحكامه في مواجهة الواقع المتحرك، بحيث تجيء مكافئة لهذا الواقع وحاكمة عليه؛ ومتجددة بتجدده كذلك‏!‏

وأخيراً فإن تلك الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة؛ إنما جاءت وواقع المجتمع المسلم، وواقع الجاهلية من حوله كذلك، كلاهما يحتم اتخاذ تلك الإجراءات وتنفيذ تلك الأحكام‏.‏‏.‏ فأما حين كان واقع المجتمع المسلم وواقع الجاهلية من حوله يقتضي أحكاماً أخرى‏.‏‏.‏ مرحلية‏.‏‏.‏ فقد جاءت في السور السابقة نصوص وأحكام مرحلية‏.‏‏.‏

وحين يوجد المجتمع المسلم مرة أخرى ويتحرك‏!‏ فإنه يكون في حل من تطبيق الأحكام المرحلية في حينها‏.‏ ولكن عليه أن يعلم أنها أحكام مرحلية، وأن عليه أن يجاهد ليصل في النهاية إلى تطبيق الأحكام النهائية التي تحكم العلاقات النهائية بينه وبين سائر المجتمعات‏.‏‏.‏

والله الموفق، والله المعين‏.‏‏.‏