فصل: تفسير الآيات رقم (26- 70)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 70‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏26‏)‏ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏27‏)‏ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ‏(‏28‏)‏ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏29‏)‏ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏30‏)‏ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏31‏)‏ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ‏(‏32‏)‏ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏34‏)‏ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏35‏)‏ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏37‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ‏(‏39‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏40‏)‏ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏41‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏42‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏44‏)‏ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏45‏)‏ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏48‏)‏ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏49‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏50‏)‏ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏51‏)‏ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏52‏)‏ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏53‏)‏ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏54‏)‏ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏56‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏58‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ‏(‏59‏)‏ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏60‏)‏ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏61‏)‏ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏64‏)‏ وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏65‏)‏ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏66‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

هذا الدرس كله لمسات وجدانية متتابعة، تنتهي كلها إلى هدف واحد‏:‏ مواجهة الفطرة البشرية بدلائل توحيد الله وصدق الرسول، واليقين باليوم الآخر‏.‏ والعدل فيه‏.‏

لمسات وجدانية تأخذ النفس من أقطارها، وتأخذ بها إلى أقطار الكون، في جولة واسعة شاملة‏.‏ جولة من الأرض إلى السماء‏.‏ ومن آفاق الكون إلى آفاق النفس‏.‏ ومن ماضي القرون إلى الحاضر القريب‏.‏ ومن الدنيا إلى الآخرة‏.‏‏.‏ في سياق‏.‏‏.‏

وفي الدرس الماضي لمسات من هذه، وجولات من هذه‏.‏‏.‏ ولكنها في هذا الدرس أظهر‏.‏‏.‏ فمن معرض الحشر، إلى مشاهد الكون، إلى ذات النفس، إلى التحدي بالقرآن، إلى التذكير بمصائر المكذبين من الماضين‏.‏ ومن ثم لمحة عابرة من الحشر في مشهد جديد، إلى تخويف من المفاجأة بالعذاب في صورة موحية للحس بالتوجس، إلى تصوير علم الله الشامل الذي لا يند عنه شيء، إلى بعض آيات الله في الكون، إلى الإنذار بما ينتظر المفترين على الله يوم الحساب‏.‏‏.‏

إنها جملة من اللمسات العميقة الصادقة، لا تملك فطرة سليمة التلقي، صحيحة الاستجابة، ألا تستجيب لها، وألا تتذاوب الحواجز والموانع فيها دون هذا الفيض من المؤثرات المستمدة من الحقائق الواقعة، ومن فطرة الكون وفطرة النفس وطبائع الوجود‏.‏‏.‏

لقد كان الكفار صادقين في إحساسهم بخطر القرآن على صفوفهم وهم يتناهون عن الاستماع إليه خيفة أن يجرفهم تأثيره ويزلزل قلوبهم‏!‏ وهم يريدون أن يظلوا على الشرك صامدين‏!‏

‏{‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون‏.‏ والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة، ما لهم من الله من عاصم، كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏‏.‏‏.‏

كانت آخر آية في الدرس السابق‏:‏ ‏{‏والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط المستقيم‏}‏ فهنا يبين عن قواعد الجزاء للمهتدين ولغير المهتدين‏.‏ ويكشف عن رحمة الله وفضله، وعن قسطه وعدله في جزاء هؤلاء وهؤلاء‏.‏

فأما الذين أحسنوا‏.‏ أحسنوا الاعتقاد، وأحسنوا العمل، وأحسنوا معرفة الصراط المستقيم، وإدراك القانون الكوني المؤدي إلى دار السلام‏.‏‏.‏ فأما هؤلاء فلهم الحسنى جزاء ما أحسنوا، وعليها زيادة من فضل الله غير محدودة‏:‏

‏{‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏}‏‏.‏‏.‏

وهم ناجون من كربات يوم الحشر، ومن أهوال الموقف قبل أن يفصل في أمر الخلق‏:‏

‏{‏ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة‏}‏‏.‏‏.‏

والقتر‏:‏ الغبار والسواد وكدرة اللون من الحزن أو الضيق‏.‏ والذلة‏:‏ الانكسار والمهانة أو الإهانة‏.‏ فلا يغشى وجوههم قتر ولا تكسو ملامحهم الذلة‏.‏‏.‏ والتعبير يوحي بأن في الموقف من الزحام والهول والكرب والخوف والمهانة ما يخلع آثاره على الوجوه، فالنجاة من هذا كله غنيمة، وفضل من الله يضاف إلى الجزاء المزيد فيه‏.‏

‏{‏أولئك‏}‏‏.‏‏.‏ أصحاب هذه المنزلة العالية البعيدة الآفاق ‏{‏أصحاب الجنة‏}‏ وملاكها ورفاقها ‏{‏هم فيها خالدون‏}‏‏.‏

‏{‏والذين كسبوا السيئات‏}‏‏.‏‏.‏

فكانت هي الربح الذي خرجوا به من صفقة الحياة‏!‏ هؤلاء ينالهم عدل الله، فلا يضاعف لهم الجزاء، ولا يزاد عليهم السوء‏.‏ ولكن‏:‏

‏{‏جزاء سيئة بمثلها‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وترهقهم ذلة‏}‏‏.‏‏.‏

تغشاهم وتركبهم وتكربهم‏.‏

‏{‏ما لهم من الله من عاصم‏}‏‏.‏‏.‏

يعصمهم ويمنعهم من المصير المحتوم، نفاذاً لسنة الله الكونية فيمن يحيد عن الطريق، ويخالف الناموس‏.‏‏.‏

ثم يرسم السياق صورة حسية للظلام النفسي والكدرة التي تغشى وجه المكروب المأخوذ المرعوب‏:‏

‏{‏كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً‏}‏‏.‏‏.‏

كأنما أخذ من الليل المظلم فقطع رقعاً غشيت بها هذه الوجوه‏!‏ وهكذا يغشى الجو كله ظلام من ظلام الليل المظلم ورهبة من رهبته، تبدو فيه هذه الوجوه ملفعة بأغشية من هذا الليل البهيم‏.‏‏.‏

‏{‏أولئك‏}‏‏.‏‏.‏ المبعدون في هذا الظلام والقتام ‏{‏أصحاب النار‏}‏‏.‏‏.‏ ملاكها ورفاقها ‏{‏هم فيها خالدون‏}‏‏.‏ ولكن أين الشركاء والشفعاء‏؟‏ وكيف لم يعصموهم من دون الله‏؟‏ هذه هي قصتهم في يوم الحشر العصيب‏:‏

‏{‏ويوم نحشرهم جميعاً، ثم نقول للذين أشركوا‏:‏ مكانكم أنتم وشركاؤكم‏.‏ فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم‏:‏ ما كنتم إيانا تعبدون‏.‏ فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين‏.‏‏.‏ هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت، وردوا إلى الله مولاهم الحق‏.‏ وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏‏.‏‏.‏

هذه هي قصة الشفعاء والشركاء في مشهد من مشاهد القيامة، مشهد حي أبلغ من الإخبار المجرد بأن الشركاء والشفعاء لن يعصموا عبادهم من الله، ولن يملكوا لهم خلاصاً ولا نجاة‏.‏

هؤلاء هم محشورون جميعاً‏.‏‏.‏ الكفار والشركاء‏.‏‏.‏ وهم كانوا يزعمونهم شركاء لله، ولكن القرآن يسميهم ‏{‏شركاءهم‏}‏ تهكماً من وجهة، وإشارة إلى أنهم من صنعهم هم ولم يكونوا يوماً شركاء لله‏.‏

هؤلاء هم جميعاً كفاراً وشركاء‏.‏ يصدر إليهم الأمر‏:‏

‏{‏مكانكم أنتم وشركاؤكم‏}‏‏.‏‏.‏

قفوا حيث أنتم‏.‏ ولا بد أن يكونوا قد تسمروا في أماكنهم‏!‏ فالأمر يومئذ للنفاذ‏.‏ ثم فرق بينهم وبين شركائهم وحجز بينهما في الموقف‏:‏

‏{‏فزيلنا بينهم‏}‏‏.‏‏.‏

وعندئذ لا يتكلم الذين كفروا ولكن يتكلم الشركاء يتكلمون ليبرئوا أنفسهم من الجريمة‏.‏ جريمة أن عبدهم هؤلاء الكفار مع الله، أو من دون الله، وإعلان أنهم لم يعلموا بعبادتهم إياهم ولم يشعروا، فهم إذن لم يشتركوا في الجناية، ويشهدون الله وحده على ما يقولون‏:‏

‏{‏وقال شركاؤهم‏:‏ ما كنتم إيانا تعبدون‏.‏ فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين‏}‏‏.‏‏.‏

هؤلاء هم الشركاء الذين كانوا يعبدون‏.‏ هؤلاء هم ضعاف يطلبون البراءة من إثم أتباعهم‏.‏ ويجعلون الله وحده شهيداً، ويطلبون النجاة من إثم لم يشاركوا فيه‏!‏

عندئذ، وفي هذا الموقف المكشوف، تختبر كل نفس ما أسلفت من عمل، وتدرك عاقبته إدراك الخبرة والتجربة‏:‏

‏{‏هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت‏}‏‏.‏

وهنالك يتكشف الموقف عن رب واحد حق يرجع إليه الجميع، وما عداه باطل‏:‏

‏{‏وردوا إلى الله مولاهم الحق‏}‏‏.‏‏.‏

وهنالك لا يجد المشركون شيئاً من دعاويهم ومزاعمهم وآلهتهم، فكله شرد عنهم ولم يعد له وجود‏:‏

‏{‏وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا يتجلى المشهد الحي، في ساحة الحشر، بكل حقائقه، وبكل وقائعه، وبكل مؤثراته واستجاباته‏.‏ تعرضه تلك الكلمات القلائل، فتبلغ من النفس ما لا يبلغه الإخبار المجرد، ولا براهين الجدل الطويل‏!‏

ومن جولة الحشر الذي تسقط فيه الدعاوى والأباطيل، ويتجلى فيه أن المولى هو الله المهيمن على الموقف وما فيه‏.‏ إلى جولة في واقعهم الذي يعيشون فيه، وإلى أنفسهم التي يعلمونها، وإلى المشاهد التي يرونها في الحياة‏.‏ بل إلى اعترافهم هم أنفسهم بأنها من أمر الله ومن خلق الله‏:‏

‏{‏قل‏:‏ من يرزقكم من السماء والأرض‏؟‏ أم من يملك السمع والأبصار‏؟‏ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي‏؟‏ ومن يدبر الأمر‏؟‏ فسيقولون‏:‏ الله‏.‏ فقل‏:‏ أفلا تتقون‏؟‏ فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال‏؟‏ فأنى تصرفون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد مر أن مشركي العرب لم يكونوا ينكرون وجود الله، ولا أنه الخالق، والرازق، والمدبر‏.‏ إنما كانوا يتخذون الشركاء للزلفى، أو يعتقدون أن لهم قدرة إلى جانب قدرة الله‏.‏ فهو هنا يأخذهم بما يعتقدونه هم أنفسهم، ليصحح لهم- عن طريق إيقاظ وعيهم وتدبرهم ومنطقهم الفطري- ذلك الخلط والضلال‏.‏

‏{‏قل‏:‏ من يرزقكم من السماء والأرض‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

من المطر الذي يحيي الأرض وينبت الزرع، ومن طعام الأرض نباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها، ثم سائر ما كانوا يحصلون عليه من الأرض لهم ولأنعامهم‏.‏ وذلك بطبيعة الحال ما كانوا يدركونه حينذاك من رزق السماء والأرض‏.‏ وهو أوسع من ذلك بكثير‏.‏ وما يزال البشر يكشفون كلما اهتدوا إلى نواميس الكون عن رزق بعد رزق في السماء والأرض، يستخدمونه أحياناً في الخير ويستخدمونه أحياناً في الشر حسبما تسلم عقادهم أو تعتل‏.‏ وكله من رزق الله المسخر للإنسان‏.‏ فمن سطح الأرض أرزاق ومن جوفها أرزاق‏.‏ ومن سطح الماء أرزاق ومن أعماقه أرزاق‏.‏ ومن أشعة الشمس أرزاق ومن ضوء القمر أرزاق‏.‏ حتى عفن الأرض كشف فيه عن دواء وترياق‏!‏

‏{‏أم من يملك السمع والأبصار‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

يهبها القدرة على أداء وظائفها أو يحرمها، ويصححها أو يمرضها، ويصرفها إلى العمل أو يلهيها، ويسمعها ويريها ما تحب أو ما تكره‏.‏‏.‏ ذلك ما كانوا يدركونه يومئذ من ملك السمع والأبصار‏.‏ وهو حسبهم لإدراك مدلول هذا السؤال وتوجيهه‏.‏ وما يزال البشر يكشفون من طبيعة السمع والبصر، ومن دقائق صنع الله في هذين الجهازين ما يزيد السؤال شمولاً وسعة‏.‏ وإن تركيب العين وأعصابها وكيفية إدراكها للمرئيات، أو تركيب الأذن وأجزائها وطريقة إدراكها للذبذبات، لعالم وحده يدير الرؤوس، عندما يقاس هذا الجهاز أو ذاك إلى أدق الأجهزة التي يعدها الناس من معجزات العلم في العصر الحديث‏!‏ وإن كان الناس يهولهم ويروعهم ويبهرهم جهاز يصنعه الإنسان، لا يقاس في شيء إلى صنع الله‏.‏

بينما هم يمرون غافلين بالبدائع الإلهية في الكون وفي أنفسهم كأنهم لا يبصرون ولا يدركون‏!‏

‏{‏ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وكانوا يعدون الساكن هو الميت، والنامي أو المتحرك هو الحي‏.‏ فكان مدلول السؤال عندهم مشهوداً في خروج النبتة من الحبة، والحبة من النبتة، وخروج الفرخ من البيضة، والبيضة من الفرخ‏.‏‏.‏ إلى آخر هذه المشاهدات‏.‏ وهو عندهم عجيب‏.‏ وهو في ذاته عجيب حتى بعد أن عرف أن الحبة والبيضة وأمثالهما ليست في الموتى بل في الأحياء؛ بما فيها من حياة كامنة واستعداد‏.‏ فإن كمون الحياة بكل استعداداتها ووراثاتها وسماتها وشياتها لأعجب العجب الذي تصنعه قدرة الله‏.‏‏.‏

وإن وقفة أمام الحبة والنواة، تخرج منهما النبتة والنخلة، أو أمام البيضة والبويضة يخرج منهما الفرخ والإنسان، لكافية لاستغراق حياة في التأمل والارتعاش‏!‏

وإلا فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة‏؟‏ وأين كان يكمن العود‏؟‏ وأين كانت تلك الجذور والساق والأوراق‏؟‏‏.‏‏.‏ وأين في النواة كان يكمن اللب واللحاء، والساق السامقة والعراجين والألياف‏؟‏ وأين يكمن كان الطعم والنكهة واللون والرائحة، والبلح والتمر، والرطب والبسر‏.‏‏.‏‏.‏‏؟‏

وأين في البيضة كان الفرخ‏؟‏ وأين يكمن كان العظم واللحم، والزغب والريش، واللون والشيات، والرفرفة والصوات‏.‏‏.‏‏.‏‏؟‏

وأين في البويضة كان الكائن البشري العجيب‏؟‏ أين كانت تكمن ملامحه وسماته المنقولة عن وراثات موغلة في الماضي متشعبة المنابع والنواحي‏؟‏ أين كانت نبرات الصوت، ونظرات العين، ولفتات الجيد، واستعدادات الأعصاب، ووراثات الجنس والعائلة والوالدين‏؟‏ وأين أين كانت تكمن الصفات والسمات والشيات‏؟‏

وهل يكفي أن نقول‏:‏ إن هذا العالم المترامي الأطراف كان كامناً في النبتة والنواة وفي البيضة والبويضة، لينقضي العجب العاجب الذي لا تفسير له ولا تأويل إلا قدرة الله وتدبير الله‏؟‏

وما يزال البشر يكشفون من أسرار الموت وأسرار الحياة، وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي، وتحول العناصر في مراحل إلى موت أو حياة، ما يزيد مساحة السؤال وعمقه وشموله كل يوم وكل لحظة‏.‏ وإن تحول الطعام الذي يموت بالطهي والنار إلى دم حي في الجسم الحي، وتحول هذا الدم إلى فضلات ميتة بالاحتراق، لأعجوبة يتسع العجب منها كلما زاد العلم بها‏.‏ وهي بعد كائنة في كل لحظة آناء الليل وأطراف النهار‏.‏ وإن الحياة لأعجوبة غامضة مثيرة تواجه الكينونة البشرية كلها بعلامات استفهام لا جواب عليها كلها إلا أن يكون هناك إله، يهب الحياة‏!‏

‏{‏ومن يدبر الأمر‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

في هذا الذي ذكر كله وفي سواه من شؤون الكون وشؤون البشر‏؟‏ من يدبر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق‏؟‏ ومن يدبر حركة هذه الحياة فتمضي في طريقها المرسوم بهذا النظام اللطيف العميق‏؟‏ ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر، والتي لا تخطئ مرة ولا تحيد‏؟‏ ومن ومن‏؟‏

‏{‏فسيقولون الله‏}‏‏.‏

فهم لم يكونوا ينكرون وجود الله، أو ينكرون يده في هذه الشؤون الكبار‏.‏ ولكن انحراف الفطرة كان يقودهم مع هذا الاعتراف إلى الشرك بالله، فيتوجهون بالشعائر إلى سواه، كما يتبعون شرائع لم يأذن بها الله‏.‏

‏{‏فقل‏:‏ أفلا تتقون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، والذي يدبر الأمر كله في هذا وفي سواه‏؟‏ إن الذي يملك هذا كله لهو الله، وهو الرب الحق دون سواه‏:‏

‏{‏فذلكم الله ربكم الحق‏}‏‏.‏‏.‏

والحق واحد لا يتعدد، ومن تجاوزه فقد وقع على الباطل، وقد ضل التقدير‏:‏

‏{‏فماذا بعد الحق إلا الضلال‏؟‏ فأنى تصرفون‏}‏‏.‏‏.‏

وكيف توجهون بعيداً عن الحق وهو واضح بين تراه العيون‏؟‏

بمثل هذا الانصراف عن الحق الواضح الذي يعترف المشركون بمقدماته وينكرون نتائجة اللازمة، ولا يقومون بمقتضياته الواجبة، قدر الله في سننه ونواميسه أن الذين يفسقون وينحرفون عن منطق الفطرة السليم وسنة الخلق الماضية لا يؤمنون‏:‏

‏{‏كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

لا لأنه يمنعهم من الإيمان‏.‏ فهذه دلائله قائمة في الكون، وهذه مقدماته قائمة في اعتقادهم‏.‏ ولكن لأنهم هم يحيدون عن الطريق الموصل إلى الإيمان، ويجحدون المقدمات التي في أيديهم، ويصرفون أنفسهم عن الدلائل المشهودة لهم، ويعطلون منطق الفطرة القويم فيهم‏.‏

ثم عودة إلى مظاهر قدرة الله، وهل للشركاء فيها من نصيب‏.‏

‏{‏قل‏:‏ هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده‏؟‏ قل‏:‏ الله يبدأ الخلق ثم يعيده‏.‏ فأنى تؤفكون‏؟‏ قل‏:‏ هل من شركائكم من يهدي إلى الحق‏؟‏ قل‏:‏ الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدِّي إلا أن يهدى‏؟‏ فما لكم‏؟‏ كيف تحكمون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه الأمور المسؤول عنها- من إعادة الخلق وهدايتهم إلى الحق- ليست من بدائه مشاهداتهم ولا من مسلمات اعتقاداتهم كالأولى‏.‏ ولكنه يوجه إليهم فيها السؤال ارتكاناً على مسلماتهم الأولى، فهي من مقتضياتها بشيء من التفكر والتدبر‏.‏ ثم لا يطلب إليهم الجواب، إنما يقرره لهم اعتماداً على وضوح النتائج بعد تسليمهم بالمقدمات‏.‏

‏{‏قل‏:‏ هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهم مسلمون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق غير مسلمين بإعادته، ولا بالبعث والنشور والحساب والجزاء‏.‏‏.‏ ولكن حكمة الخالق المدبر لا تكمل بمجرد بدء الخلق؛ ثم انتهاء حياة المخلوقين في هذه الأرض، ولم يبلغوا الكمال المقدر لهم، ولم يلقوا جزاء إحسانهم وإساءتهم، وسيرهم على النهج أو انحرافهم عنه‏.‏

إنها رحلة ناقصة لا تليق بخالق مدبر حكيم‏.‏ وإن الحياة الآخرة لضرورة من ضرورات الاعتقاد في حكمة الخالق وتدبيره وعدله ورحمته‏.‏ ولا بد من تقرير هذه الحقيقة لهم وهم الذين يعقتدون بأن الله هو الخالق، وهم الذين يسلمون كذلك بأنه يخرج الحي من الميت‏.‏ والحياة الأخرة قريبة الشبه بإخراج الحي من الميت الذي يسلمون به‏:‏

‏{‏قل‏:‏ الله يبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏‏.‏‏.‏

وإنه لعجيب أن يصرفوا عن إدراك هذه الحقيقة ولديهم مقدماتها‏:‏

‏{‏فأنى تؤفكون‏}‏‏.‏‏.‏

فتوجهون بعيداً عن الحق إلى الإفك وتضلون‏؟‏

‏{‏قل‏:‏ هل من شركائكم من يهدي إلى الحق‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

فينزل كتاباً، ويرسل رسولاً، ويضع نظاماً، ويشرع شريعة، وينذر ويوجه إلى الخير؛ ويكشف عن آيات الله في الكون والنفس؛ ويوقظ القلوب الغافلة، ويحرك المدارك المعطلة‏.‏ كما هو معهود لكم من الله ومن رسوله الذي جاءكم بهذا كله وعرضه عليكم لتهتدوا إلى الحق‏؟‏ وهذه قضية ليست من سابق مسلماتهم، ولكن وقائعها حاضرة بين أيديهم‏.‏ فليقررها لهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- وليأخذهم بها‏:‏

‏{‏قل‏:‏ الله يهدي للحق‏}‏‏.‏‏.‏

ومن هذه تنشأ قضية جديدة، جوابها مقرر‏:‏

‏{‏أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع‏؟‏ أم من لا يهدي إلا أن يهدى‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

والجواب مقرر‏.‏ فالذي يهدي الناس إلى الحق أولى بالاتباع، ممن لا يهتدي هو بنفسه إلا أن يهديه غيره‏.‏‏.‏

وهذا ينطبق سواء كان المعبودون حجارة أو أشجاراً أو كواكب‏.‏ أو كانوا من البشر- بما في ذلك عيسى عليه السلام، فهو ببشريته محتاج إلى هداية الله له، وإن كان هو قد بعث هادياً للناس- ومن عدا عيسى عليه السلام أولى بانطباق هذه الحقيقة عليه‏:‏

‏{‏فما لكم‏؟‏ كيف تحكمون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ما الذي وقع لكم وما الذي أصابكم‏؟‏ وكيف تقدرون الأمور، فتحيدون عن الحق الواضح المبين‏؟‏

فإذا فرغ من سؤالهم وإجابتهم، وتقرير الإجابة المفروضة التي تحتّمها البديهة وتحتّمها المقدمات المسلمة‏.‏‏.‏ عقب على هذا بتقرير واقعهم في النظر والاستدلال والحكم والاعتقاد‏.‏ فهم لا يستندون إلى يقين فيما يعتقدون أو يعبدون أو يحكمون، ولا إلى حقائق مدروسة يطمئن إليها العقل والفطرة، إنما يتعلقون بأوهام وظنون، يعيشون عليها ويعيشون بها؛ وهي لا تغني من الحق شيئا‏.‏

‏{‏وما يتبع أكثرهم إلا ظناً، إن الظن لا يغني من الحق شيئاً‏.‏ إن الله عليم بما يفعلون‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

فهم يظنون أن لله شركاء‏.‏ ولا يحققون هذا الظن ولا يمتحنونه عملاً ولا عقلاً‏.‏ وهم يظنون أن آباءهم ما كانوا ليعبدوا هذه الأصنام لو لم يكن فيها ما يستحق العبادة‏:‏ ولا يمتحنون هم هذه الخرافة، ولا يطلقون عقولهم من إسار التقليد الظني‏.‏ وهم يظنون أن الله لا يوحي إلى رجل منهم، ولا يحققون لماذا يمتنع هذا على الله‏.‏ وهم يظنون أن القرآن من عمل محمد ولا يحققون إن كان محمد- وهو بشر- قادراً على تأليف هذا القرآن، بينما هم لا يقدرون وهم بشر مثله‏.‏

‏.‏ وهكذا يعيشون في مجموعة من الظنون لا تحقق لهم من الحق شيئاً‏.‏ والله وحده هو الذي يعلم علم اليقين أفعالهم وأعمالهم‏.‏‏.‏

‏{‏إن الله عليم بما يفعلون‏}‏‏.‏‏.‏

وتفريعاً على هذا التعقيب، يأخذ بهم السياق في جولة جديدة حول القرآن تبدأ بنفي التصور لإمكان أن يكون القرآن مفترى من دون الله، وتحديهم أن يأتوا بسورة مثله‏.‏ وتثني بوصمهم بالتسرع في الحكم على ما لم يعلموه يقيناً أو يحققوه‏.‏ وتثلث بإثبات حالتهم في مواجهة هذا القرآن، وتثبيت الرسول- صلى الله عليه وسلم- على خطته أياً كانت استجابتهم أو عدم استجابتهم له، وتنتهي بالتيئيس من الفريق الضال والإيماء إلى مصيرهم الذي لا يظلمهم الله فيه؛ وإنما يستحقونه بما هم فيه من ضلال‏:‏

‏{‏وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله؛ ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون‏:‏ افتراه‏؟‏ قل‏:‏ فأتوا بسورة مثله، وادعوا استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين‏.‏ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله‏.‏ كذلك كذب الذين من قبلهم، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين‏.‏ ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به، وربك أعلم بالمفسدين‏.‏ وإن كذبوك فقل‏:‏ لي عملي ولكم عملكم؛ أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون‏.‏ ومنهم من يستمعون إليك، أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون‏؟‏ ومنهم من ينظر إليك، أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون‏؟‏ إن الله لا يظلم الناس شيئاً‏.‏ ولكن الناس أنفسهم يظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله‏}‏‏.‏‏.‏

فهو بخصائصه، الموضوعية والتعبيرية‏.‏ بهذا الكمال في تناسقه؛ وبهذا الكمال في العقيدة التي جاء بها وفي النظام الإنساني الذي يتضمن قواعده؛ وبهذا الكمال في تصوير حقيقة الألوهية، وفي تصوير طبيعة البشر، وطبيعة الحياة، وطبيعة الكون‏.‏‏.‏ لا يمكن أن يكون مفترى من دون الله، لأن قدرة واحدة هي التي تملك الإتيان به هي قدرة الله‏.‏ القدرة التي تحيط بالأوئل والأواخر، وبالظواهر والسرائر، وتضع المنهج المبرأ من القصور والنقص من آثار الجهل والعجز‏.‏‏.‏

‏{‏وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله‏}‏‏.‏‏.‏

ما كان من شأنه أصلاً أن يفترى‏.‏ فليس الافتراء هو المنفي، ولكن جواز وجوده هو المنفي‏.‏ وهو أبلغ في النفي وأبعد‏.‏

‏{‏ولكن تصديق الذي بين يديه‏}‏‏.‏‏.‏

من الكتب التي سبق بها الرسل‏.‏ تصديقها في أصل العقيدة، وفي الدعوة إلى الخير‏.‏

‏{‏وتفصيل الكتاب‏}‏‏.‏‏.‏ الواحد الذي جاء به الرسل جميعاً من عند الله، تتفق أصوله وتختلف تفصيلاته‏.‏‏.‏ وهذا القرآن يفصل كتاب الله ويبين وسائل الخير الذي جاء به، ووسائل تحقيقه وصيانته‏.‏

فالعقيدة في الله واحدة، والدعوة إلى الخير واحدة‏.‏ ولكن صورة هذا الخير فيها تفصيل، والتشريع الذي يحققه فيه تفصيل، يناسب نمو البشرية وقتها، وتطورات البشرية بعدها، بعد أن بلغت سن الرشد فخوطبت بالقرآن خطاب الراشدين، ولم تخاطب بالخوارق المادية التي لا سبيل فيها للعقل والتفكير‏.‏

‏{‏لا ريب فيه، من رب العالمين‏}‏‏.‏‏.‏

تقرير وتوكيد لنفي جواز افترائه عن طريق إثبات مصدره‏:‏ ‏{‏من رب العالمين‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏أم يقولون افتراه‏؟‏‏}‏‏.‏

بعد هذا النفي والتقرير، فهو إذان من صنع محمد، ومحمد بشر ينطق باللغة التي ينطقون بها، ولا يملك من حروفها إلا ما يملكون‏.‏ ‏(‏ألف‏.‏ لام‏.‏ ميم‏)‏‏.‏‏.‏ ‏(‏ألف‏.‏ لام‏.‏ را‏.‏‏)‏‏.‏‏.‏ ‏(‏ألف‏.‏ لام‏.‏ ميم‏.‏ صاد‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ فدونهم إذن- ومعهم من يستطيعون جمعهم- فليفتروا، كما افترى ‏(‏زعمهم‏)‏ محمد‏.‏ فليفتروا سورة واحدة لا قرآناً كاملاً‏:‏

‏{‏قل‏:‏ فأتوا بسورة مثله، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين‏}‏‏.‏‏.‏

وقد ثبت هذا التحدي؛ وثبت العجز عنه، وما يزال ثابتاً ولن يزال‏.‏ والذين يدركون بلاغة هذه اللغة، ويتذوقون الجمال الفني والتناسق فيها، يدركون أن هذا النسق من القول لا يستطيعه إنسان‏.‏ وكذلك الذين يدرسون النظم الاجتماعية، والأصول التشريعية، ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن، يدركون أن النظرة فيه إلى تنظيم الجماعة الإنسانية ومقتضيات حياتها من جميع جوانبها، والفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار والتقلبات في يسر ومرونة‏.‏‏.‏ كل أولئك أكبر من أن يحيط به عقل بشري واحد، أو مجموعة العقول في جيل واحد او في جميع الأجيال‏.‏ ومثلهم الذين يدرسون النفس الإنسانية ووسائل الأصول إلى التأثير فيها وتوجيهها ثم يدرسون وسائل القرآن وأساليبه‏.‏‏.‏

فليس هو إعجاز اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحده، ولكنه الاعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا وفي النظم والتشريعات والنفسيات وما إليها‏.‏‏.‏

والذين زاولوا فن التعبير، والذين لهم بصر بالأداء الفني، يدركون أكثر من غيرهم مدى ما في الأداء القرآني من إعجاز في هذا الجانب‏.‏ والذين زاولوا التفكير الاجتماعي والقانوني والنفسي، والإنساني بصفة عامة، يدركون أكثر من غيرهم مدى الإعجاز الموضوعي في هذا الكتاب أيضاً‏.‏

ومع تقدير العجز سلفاً عن بيان حقيقة هذا الإعجاز ومداه؛ والعجز عن تصويره بالأسلوب البشري‏.‏ ومع تقدير أن الحديث المفصل عن هذا الإعجاز- في حدود الطاقة البشرية- هو موضوع كتاب مستقل‏.‏ فسأحاول هنا أن ألم إلمامة خاطفة بشيء من هذا‏.‏‏.‏

إن الأداء القرآني يمتاز ويتميز من الأداء البشري‏.‏‏.‏ إن له سلطاناً عجيباً على القلوب ليس للأداء البشري؛ حتى ليبلغ أحياناً أن يؤثر بتلاوته المجردة على الذين لا يعرفون من العربية حرفاً‏.‏‏.‏ وهناك حوادث عجيبة لا يمكن تفسيرها بغير هذا الذي نقول- وإن لم تكن هي القاعدة- ولكن وقوعها يحتاج إلى تفسير وتعليل‏.‏

‏.‏ ولن أذكر نماذج مما وقع لغيري؛ ولكني أذكر حادثاً وقع لي وكان عليه معي شهود ستة، وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاماً‏.‏‏.‏ كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك؛ من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم‏.‏‏.‏ وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة‏!‏ والله يعلم- أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة؛ وحاول أن يزاول تبشيره معنا‏!‏‏.‏‏.‏ وقد يسر لنا قائد السفينة- وكان إنجليزياً- أن نقيم صلاتنا؛ وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمها- وكلهم نوبيون مسلمون- أن يصلي منهم معنا من لا يكون في «الخدمة» وقت الصلاة‏!‏ وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً، إذ كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة‏.‏‏.‏ وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة؛ والركاب الأجانب- معظمهم- متحلقون يرقبون صلاتنا‏!‏‏.‏‏.‏ وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح «القدَّاس‏!‏‏!‏‏!‏ فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا‏!‏ ولكن سيدة من هذا الحشد- عرفنا فيما بعد أنها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم» تيتو «وشيوعيته‏!‏- كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها‏.‏ جاءت تشد على أيدينا بحرارة؛ وتقول‏:‏- في إنجليزية ضعيفة- إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح‏!‏‏.‏‏.‏ وليس هذا موضع الشاهد في القصة‏.‏‏.‏ ولكن ذلك كان في قولها‏:‏ أي لغة هذه التي كان يتحدث بها» قسيسكم «‏!‏ فالمسكينة لا تتصور أن يقيم» الصلاة «إلا قسيس- أو رجل دين- كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة‏!‏ وقد صححنا لها هذا الفهم‏!‏‏.‏‏.‏ وأجبناها‏:‏ فقالت‏:‏ إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب، وإن كنت لم أفهم منها حرفاً‏.‏‏.‏ ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول‏:‏ ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه‏.‏‏.‏ إن الموضوع الذي لفت حسي، هو أن» الإمام «كانت ترد في أثناء كلامه- بهذه اللغة الموسيقية- فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه‏!‏ نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعاً‏.‏‏.‏ هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث في رعشة وقشعريرة‏!‏ إنها شيء آخر‏!‏ كما لو كان- الإمام- مملوءاً من الروح القدس‏!‏- حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها‏!‏- وتفكرنا قليلاً‏.‏ ثم أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة‏!‏ وكانت- مع ذلك- مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة، من سيدة لا تفهم مما تقول شيئاً‏!‏

وليست هذه قاعدة كما قلت‏.‏

ولكن وقوع هذه الحادثة- ووقوع أمثالها مما ذكره لي غير واحد- ذو دلالة على أن في هذا القرآن سرّاً آخر تلتقطه بعض القلوب لمجرد تلاوته‏.‏ وقد يكون إيمان هذه السيدة بدينها، وفرارها من الجحيم الشيوعي في بلادها، قد أرهف حسها بكلمات الله على هذا النحو العجيب‏.‏‏.‏ ولكن ما بالنا نعجب وعشرات الألوف ممن يستمعون إلى القرآن من عوامنا لا يطرق عقولهم منه شيء، ولكن يطرق قلوبهم إيقاعه- وسره هذا- وهم لا يفترقون كثيراً من ناحية فهم لغة القرآن عن هذه السيدة اليوغسلافيةّ‏!‏‏!‏‏!‏

ولقد أردت أن أقدم للحديث عن القرآن بسلطانه هذا الخفي العجيب‏.‏ قبل أن أتحدث عن الجوانب المدركة التي يعرفها أكثر من غيرهم من يزاولون فن التعبير‏.‏ ومن يزاولون التفكير والشعور‏!‏

* إن الأداء القرآني يمتاز بالتعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة في حيز يستحيل على البشر أن يعبروا فيه عن مثل هذه الأغراض، وذلك بأوسع مدلول، وأدق تعبير، وأجمله وأحياه أيضاً‏!‏ مع التناسق العجيب بين المدلول والعبارة والإيقاع والظلال والجو‏.‏ ومع جمال التعبير دقة الدلالة في آن واحد، بحيث لا يغني لفظ عن لفظ في موضعه، وبحيث لا يجور الجمال على الدقة ولا الدقة على الجمال‏.‏ ويبلغ من ذلك كله مستوى لا يدرك إعجازه أحد، كما يدرك ذلك من يزاولون فن التعبير فعلاً؛ لأن هؤلاء هم الذين يدركون حدود الطاقة البشرية في هذا المجال‏.‏ ومن ثم يتبينون بوضوح أن هذا المستوى فوق الطاقة البشرية قطعاً‏.‏

* وينشأ عن هذه الظاهرة ظاهرة أخرى في الأداء القرآني‏.‏‏.‏ هي أن النص الواحد يحوي مدلولات متنوعة متناسقة في النص؛ وكل مدلول منها يستوفي حظه من البيان والوضوح دون اضطراب في الأداء أو اختلاط بين المدلولات؛ وكل قضية وكل حقيقة تنال الحيز الذي يناسبها‏.‏ بحيث يستشهد بالنص الواحد في مجالات شتى؛ ويبدو في كل مرة أصيلاً في الموضع الذي استشهد به فيه؛ وكأنما هو مصوغ ابتداء لهذا المجال ولهذا الموضع‏!‏ وهي ظاهرة قرآنية بارزة لا تحتاج منا إلى أكثر من الإشارة إليها ‏(‏ولو راجع القارئ المقتطفات الواردة في التعريف بهذه السورة لوجد أن النص الواحد يرد للدلالة على أغراض شتى، وهو في كل مرة أصيل في موضعه تماماً‏.‏ وليس هذا إلا مثالاً‏)‏‏.‏

* وللأداء القرآني طابع بارز كذلك في القدرة على استحضار المشاهد، والتعبير المواجه كا لو كان المشهد حاضراً، بطريقة ليست معهودة على الإطلاق في كلام البشر؛ ولا يملك الأداء البشري تقليدها‏.‏ لأنه يبدو في هذه الحالة مضطرباً غير مستقيم مع أسلوب الكتابة‏!‏ وإلا فكيف يمكن للأداء البشري أن يعبر على طريقة الأداء القرآني مثلاً في مثل هذه المواضع‏:‏

‏{‏وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده- بغياً وعدواً- حتى إذا أدركه الغرق قال‏:‏ آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين‏}‏ ‏(‏وإلى هنا هي قصة تحكى‏.‏‏.‏ ثم يعقبها مباشرة خطاب موجه في مشهد حاضر‏.‏‏.‏ ‏{‏آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين‏؟‏‏!‏ فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية‏}‏ ثم يعود الأداء للتعقيب على المشهد الحاضر‏:‏ ‏{‏وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون‏}‏ ‏{‏قل‏:‏ أي شيء أكبر شهادة‏.‏ قل الله، شهيد بيني وبينكم، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ‏}‏ وإلى هنا أمر يوجه ورسول يتلقى‏.‏‏.‏ ثم فجأة نجد الرسول يسأل القوم‏:‏ ‏{‏أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى‏؟‏‏}‏ وإذا به يعود للتلقي في شأن هذا الذي سأل عنه قومه- وأجابوه‏!‏-‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ لا أشهد‏.‏ قل‏:‏ إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون‏}‏ وكذلك هذه الالتفاتات المتكررة في مثل هذه الآيات‏:‏ ‏{‏ويوم يحشرهم جميعاً‏.‏‏.‏ يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس‏.‏‏.‏ وقال أولياؤهم من الإنس‏:‏ ربنا استمتع بعضنا ببعض، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا‏.‏ قال‏:‏ النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله، إن ربك حكيم عليم‏.‏‏.‏ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون‏.‏‏.‏ يا معشر الجن والإنس، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي، وينذرونكم لقاء يومكم هذا‏؟‏‏.‏‏.‏ قالوا‏:‏ شهدنا على أنفسنا، وغرتهم الحياة الدنيا، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏.‏‏.‏ ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون‏}‏ وأمثالها كثير في القرآن كله‏.‏ وهو أسلوب متميز تماماً من الأسلوب البشري‏.‏ وإلا فمن شاء أن يماري، فليحاول أن يعبر على هذا النحو، ثم ليأت بكلام مفهوم مستقيم؛ فضلاً على أن يكون له هذا الجمال الرائع، وهذا الإيقاع المؤثر، وهذا التناسق الكامل‏!‏

هذه بعض جوانب الإعجاز في الأداء نلم بها سراعاً‏.‏ ويبقى الإعجاز الموضوعي؛ والطابع الرباني المتميز من الطابع البشري فيه‏.‏

إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية بجملتها؛ فلا يخاطب ذهنها المجرد مرة‏.‏ وقلبها الشاعر مرة‏.‏ وحسها المتوفز مرة‏.‏ ولكنه يخاطبها جملة، ويخاطبها من أقصر طريق؛ ويطرق كل أجهزة الاستقبال والتلقي فيها مرة واحدة كلما خاطبها‏.‏‏.‏ وينشئ فيها بهذا الخطاب تصورات وتأثرات وانطباعات لحقائق الوجود كلها، لا تملك وسيلة أخرى من الوسائل التي زاولها البشر في تاريخهم كله أن تنشئها بهذا العمق، وبهذا الشمول، وبهذه الدقة وهذا الوضوح، وبهذه الطريقة وهذا الأسلوب أيضاً‏!‏

وأنا أستعير هنا فقرات مقتبسة من القسم الثاني من كتاب‏:‏ «خصائص التصور ومقوماته» تعين على توضيح هذه الحقيقة؛ وهي تتحدث عن «المنهج القرآني في عرض مقومات التصور الإسلامي» في صورتها الجميلة الكاملة الشاملة المتناسقة المتوازنة، وأبرز خصائص هذا المنهج في العرض‏:‏

أنه يمتاز عن كل المناهج‏:‏

* أولاً‏:‏ بكونه يعرض الحقيقة- كما هي في عالم الواقع- في الأسلوب الذي يكشف كل زواياها، وكل جوانبها، وكل ارتباطاتها، وكل مقتضياتها‏.‏

‏.‏ وهو- مع هذا الشمول- لا يعقد هذه الحقيقة، ولا يلفها بالضباب‏!‏ بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها‏.‏‏.‏ ولم يشأ الله- سبحانه- رحمة منه بالعباد أن يجعل مخاطبتهم بمقومات هذا التصور أو إدراكهم لها، متوقفاً على سابق علم لهم‏.‏‏.‏ إطلاقاً‏.‏‏.‏ لأن العقيدة هي حاجة حياتهم الأولى؛ والتصور الذي تنشئه في عقولهم وقلوبهم هو الذي يحدد لهم طريقة تعاملهم مع الوجود كله؛ ويحدد لهم كذلك طريقة اتجاههم لتعلم أي علم، ولطلب أية معرفة‏.‏‏.‏ لهذا السبب لم يجعل الله إدراك هذه العقيدة متوقفاً على علم سابق‏.‏ ولسبب آخر هو أن الله يريد أن يكون هذا التصور الذي تنشئه حقائق العقيدة هو قاعدة علم البشر ومعرفتهم- بما أنه هو قاعدة تصورهم وتفسيرهم للكون من حولهم، ولما يجري فيه ولما يجري فيهم- كي يقوم علمهم وتقوم معرفتهم على أساس من الحق المستيقن الذي ليس هنالك غيره حق مستيقن‏.‏ ذلك أن كل ما يتلقاه الإنسان وكل ما يصل إليه- عن غير هذا المصدر- هو معرفة- «ظنية» ونتائج «محتملة» لا «قطعية» حتى ذلك «العلم التجريبي»‏.‏ فطريق العلم التجريبي هو القياس- لا الاستقراء والاستقصاء- فما يتسنى للبشر الاستقصاء والاستقراء في أية تجربة‏.‏ هذا على فرض صحة جميع الملاحظات والاستنتاجات والأحكام البشرية على الظواهر‏!‏ إنما قصارى «العلم» أن يقوم بعدد من التجارب، ثم يقيس على نتائجها‏.‏ والعلم نفسه يسلم بأن النتائج الناشئة عن هذا القياس ظنية محتملة لا يقينية قطعية ‏(‏وذلك بالإضافة إلى أن كل تجربة على حدة، تقوم على ترجيح أحد «الاحتمالات» لا على القطع الحتمي‏)‏‏.‏‏.‏ فلم يبق من علم مستيقن يمكن أن يحصل عليه البشر إلا العلم الذي يأتيهم من عند العليم الخبير، والذي يقصه عليهم من يقص الحق وهو خير الفاصلين‏.‏

* ثانياً‏:‏ بكونه مبرأ من الانقطاع والتمزق الملحوظين في الدراسات «العلمية» والتأملات «الفلسفية» والومضات «الفنية» جميعاً‏.‏ فهو لا يفرد كل جانب من جوانب ‏(‏الكل‏)‏ الجميل المتناسق بحديث مستقل‏.‏ كما تصنع أساليب الأداء البشرية‏.‏ وإنما هو يعرض هذه الجوانب في سياق موصول؛ يرتبط فيه عالم الشهادة بعالم الغيب‏.‏ وتتصل فيه حقائق الكون والحياة والإنسان بحقيقة الألوهية‏.‏ وتتصل فيه الدنيا بالآخرة‏.‏ وحياة الناس في الأرض بحياة الملأ الأعلى‏.‏‏.‏ في أسلوب تتعذر مجاراته أو تقليده؛ لأن الأسلوب البشري عندما يحاول تقليده في هذه الخاصية تبدو فيه الحقائق مختلطة مضطربة غامضة، غير واضحة ولا محددة ولا منسقة، كما تبدو في المنهج القرآني‏!‏

«وهذا الاتصال والارتباط في عرض جملة الحقائق في السياق القرآني الواحد؛ قد يختلف فيه التركيز على أي منها بين موضع وموضع‏.‏

ولكن هذا الترابط يبدو دائماً‏.‏ فعندما يكون التركيز في موضع من السياق القرآني مثلاً على تعريف الناس بربهم الحق، تتجلى هذه الحقيقة الكبيرة في آثار القدرة الإلهية الفاعلة في الكون والحياة والإنسان‏.‏ في عالم الغيب وعالم الشهادة سواء‏.‏‏.‏ وعندما يكون التركيز في موضع آخر على التعريف بحقيقة الكون، تتجلى العلاقة بين «حقيقة الألوهية» و«حقيقة الكون»، ويتطرق السياق كثيراً إلى حقيقة الحياة والأحياء، وإلى سنن الله في الكون والحياة‏.‏‏.‏ وعندما يكون التركيز على «حقيقة الإنسان» يتجلى ارتباطها بحقيقة الألوهية وبالكون والأحياء، وبعالم الغيب وعالم الشهادة على السواء‏.‏‏.‏ وعندما يكون التركيز على الدار الآخرة تذكر الحياة الدنيا وترتبطان بالله وبسائر الحقائق الأخرى‏.‏‏.‏ وكذلك عندما يكون التركيز على قضايا الحياة الدنيا‏.‏‏.‏ إلى آخر هذا النسق من العرض، الواضح الملامح في القرآن‏.‏

* ثالثاً‏:‏ بكونه- مع تماسك جوانب «الحقيقة» وتناسقها- يحافظ تماماً على إعطاء كل جانب من جوانبها- في الكل المتناسق- مساحته التي تساوي وزنه الحقيقي في ميزان الله- وهو الميزان- ومن ثم تبدو «حقيقة الألوهية» وخصائصها، وقضية «الألوهية والعبودية» بارزة مسيطرة محيطة شاملة؛ حتى ليبدو أن التعريف بتلك الحقيقة وتجلية هذه القضية هو موضوع القرآن الأساسي‏.‏‏.‏ وتشغل حقيقة عالم الغيب- بما فيه القدر والدار الآخرة- مساحة بارزة‏.‏ ثم تنال حقيقة الإنسان، وحقيقة الكون، وحقيقة الحياة، أنصبة متناسقة تناسق هذه الحقائق في عالم الواقع‏.‏‏.‏ وهكذا لا تدغم حقيقة من الحقائق، ولا تهمل، ولا تضيع معالمها في المشهد الكلي الذي تعرض فيه هذه الحقائق‏.‏‏.‏ وكما أن هذه الحقائق لا يطغى بعضها على بعض في التصور الإسلامي ذاته- كما بينا في فصل «التوازن» في القسم الأول- حيث لا ينتهي الإعجاب بالكون المادي ودقة نواميسه وتناسق أجزائه وقوانينه إلى تألهه- كمؤلهة العوالم المادية والأكوان الطبيعية قديماً وحديثاً‏!‏- ولا ينتهي الإعجاب بعظمة الحياة واهتدائها إلى وظائفها وتناسقها مع نفسها ومع المحيط الكوني إلى تأليهها- كأصحاب المذهب الحيوي‏!‏- ولا ينتهي الإعجاب بالإنسان، وتفرده في خصائصه والاستعدادات الكامنه في كيانه المنطلقة في تعامله مع الكون، إلى تأليه الإنسان- أو العقل- في صورة من الصور- كالمثاليين في عمومهم‏!‏- ولا ينتهي الإجلال للحقيقة الإلهية في ذاتها إلى إنكار وجود العوالم المادية أو احتقارها أو احتقار الكائن الإنساني- كالمذاهب الهندوكية والبوذية والنصرانية المحرفة-‏.‏

‏.‏ كما أن هذا التوازن هو طابع التصور الإسلامي ذاته، فكذلك هو طابع منهج العرض القرآني لمقومات هذا التصور والحقائق التي يقوم عليها بحيث تبدو كلها واضحة في المشهد الفريد الذي يرسمه للكل في السياق القرآني الواحد‏!‏ وهي خاصية قرآنية لا يملكها الأداء الإنساني‏!‏

* رابعاً‏:‏ بتلك الحيوية الدافقة المؤثرة الموحية- مع الدقة والتقرير والتحديد الحاسم، وهي تمنح هذه الحقائق حيوية وإيقاعاً وروعة وجمالاً، لا يتسامى إليها المنهج البشري في العرض ولا الأسلوب البشري في التعبير‏.‏ ثم هي في الوقت ذاته تعرض في دقة عجيبة، وتحديد حاسم؛ ومع ذلك لا تجور الدقة على الحيوية والجمال، ولا يجور التحديد على الإيقاع والروعة‏!‏

«ولا يمكن أن نصف نحن في أسلوبنا البشري، ملامح المنهج القرآني، فنبلغ من ذلك ما يبلغه تذوق هذا المنهج‏.‏ كما أنه لا يمكن أن نبلغ بهذا البحث كله عن» خصائص التصور الإسلامي ومقوماته «شيئاً مما يبلغه القرآن في هذا الشأن‏.‏‏.‏ وما نحاول تقديم هذا البحث للناس إلا لأن الناس قد بعدوا عن القرآن ببعدهم عن الحياة في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن؛ ولم يعودوا يزاولون تلك الملابسات، ولا يعانون تلك الاهتمامات التي كان يزاولها ويعانيها من كان يتنزل عليهم القرآن، بينما هم ينشئون المجتمع المسلم في وجه كل الملابسات القائمة حينذاك‏.‏ ومن ثم لم يعد الناس قادرين على تذوق المنهج القرآني ذاته، والاستمتاع بخصائصه ومذاقاته»‏.‏‏.‏‏.‏ انتهت المقتطفات‏.‏‏.‏

والقرآن يقدم حقائق العقيدة- إحياناً- في مجالات لا يخطر للفكر البشري عادة أن يلم بها، لأنها ليست من طبيعة ما يفكر فيه عادة أو يلتفت إليه على هذا النحو‏.‏

من هذا القبيل ما جاء في سورة الأنعام في تصوير حقيقة العلم الإلهي ومجالاته‏.‏‏.‏

‏{‏وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏}‏ فهذه المطارح المترامية، الخفية والظاهرة، ليست مما يتوجه الفكر البشري إلى ارتيادها على هذا النحو؛ وهو في معرض تصوير شمول العلم؛ مهما أراد تصوير هذا الشمول‏.‏ ولو أن فكراً بشرياً هو الذي يريد تصوير شمول العلم لاتجه اتجاهات أخرى تناسب اهتمامات الإنسان وطبيعة تصوراته‏.‏‏.‏ وذلك كما قلنا في تفسير هذه الآية من قبل في الجزء السابع‏:‏

«ننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز الناطق بمصدر هذا القرآن‏.‏

ننظر إليها من ناحية موضوعها، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر فليس عليه طابع البشر‏.‏‏.‏ إن الفكر البشري- حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع- موضوع شمول العلم وإحاطته- لا يرتاد هذه الآفاق‏.‏

‏.‏ إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع تآخر ولها حدود‏.‏ إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته‏.‏‏.‏ فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر، في كل أنحاء الأرض‏؟‏ إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء‏.‏ لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصي ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض‏.‏ ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه، ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل‏!‏ إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق ويعبر عنه الخالق‏!‏

«وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق‏:‏ ‏{‏ولا رطب ولا يابس‏}‏‏.‏ إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس ما بين أيديهم‏.‏‏.‏ فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل فهذا ليس معهوداً في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك‏!‏ إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق‏!‏

» ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة؛ وكل حبة مخبوءة، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين، وفي سجل محفوظ فما شأنهم بهذا‏؟‏ وما فائدته لهم‏؟‏ وما احتفالهم بتسجيله‏؟‏ إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك، الذي لا يند عنه شيء في ملكه‏.‏‏.‏ الصغير كالكبير، والحقير كالجليل، والمخبوء كالظاهر، والمجهول كالمعلوم، والبعيد كالقريب‏.‏‏.‏

«إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع‏.‏‏.‏ مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعاً، والحب المخبوء في أطواء الأرض جميعاً، والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعاً‏.‏‏.‏ إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري؛ وكذلك لا تلحظه العين البشرية؛ ولا تلم به النظرة البشرية‏.‏‏.‏ إن هذا المشهد إنما يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده، المشرف على كل شيء، المحيط بكل شيء، الحافظ لكل شيء، الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء‏.‏‏.‏ الصغير كالكبير، والحقير كالجليل، والمخبوء كالظاهر، والمجهول كالمعلوم، والبعيد كالقريب‏.‏‏.‏

» والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيداً حدود التصور البشري وحدود التعبير البشري أيضاً‏.‏ ويعلمون- من تجربتهم البشرية- أن مثل هذا المشهد، لا يخطر على القلب البشري؛ كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضاً‏.‏‏.‏ والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله، ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الاتجاه أصلاً‏!‏

«وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم‏.‏‏.‏

» كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع الفني في التعبير ذاته، فنرى آفاقاً من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر، على هذا المستوى السامق‏:‏ ‏{‏وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو‏}‏ آماد وآفاق وأغوار في «المجهول» المطلق‏.‏ في الزمان والمكان، وفي الماضي والحاضر والمستقبل وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان‏.‏

‏{‏ويعلم ما في البر والبحر‏}‏ آماد وآفاق وأغوار في «المنظور» على استواء وسعة وشمول‏.‏‏.‏ تناسب في عالم الشهود المشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب‏.‏

‏{‏وما تسقط من ورقة إلا يعلمها‏}‏ حركة الموت والفناء؛ وحركة السقوط والانحدار من علو إلى سفل، ومن حياة إلى اندثار‏.‏

‏{‏ولا حبة في ظلمات الأرض‏}‏ حركة البزوغ والنماء، المنبثقة من الغور إلى السطح، ومن كمون وسكون إلى اندفاع وانطلاق‏.‏

‏{‏ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏}‏ التعميم الشامل، الذي يشمل الحياة والموت‏.‏ والأزدهار والذبول، في كل حي على الإطلاق‏.‏‏.‏

فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق‏؟‏ من ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال‏؟‏‏.‏‏.‏ من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك كله، في مثل هذا النص القصير‏.‏‏.‏ من‏؟‏ إلا الله‏؟‏‏!‏

كذلك هذا النص الآخر عن شمول علم الله‏:‏

‏{‏يعلم ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، وهو الرحيم الغفور‏}‏ ويقف الإنسان أمام هذه الصفحة المعروضة في كلمات قليلة؛ فإذا هو أمام حشد هائل عجيب من الأشياء، والحركات، والأحجام، والأشكال، والصور، والمعاني، والهيئات، لا يصمد لها الخيال‏!‏

ولو أن أهل الأرض جميعاً وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع في لحظة واحدة، مما تشير إليه الآية لأعجزهم تتبعه وإحصاؤه عن يقين‏!‏

فكم من شيء في هذه اللحظة الواحدة يلج في الأرض‏؟‏ وكم من شيء في هذه اللحظة يخرج منها‏؟‏ وكم من شيء في هذه اللحظة ينزل من السماء‏؟‏ وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها‏؟‏

كم من شيء يلج في الأرض‏؟‏ كم من حبة تختبئ أو تخبأ في جنبات هذه الأرض‏؟‏ كم من دودة ومن حشرة ومن هامة ومن زاحفة تلج في الأرض في أقطارها المترامية‏؟‏ كم من قطرة ماء ومن ذرة غاز، ومن إشعاع كهرباء تندس في الأرض في أرجائها الفسيحة‏؟‏ وكم وكم مما يلج في الأرض، وعين الله عليه ساهرة لا تنام‏؟‏‏!‏

وكم يخرج منها‏؟‏ كم من نبتة تنبثق‏؟‏ وكم من نبع يفور‏؟‏ وكم من بركان يتفجر‏؟‏ وكم من غاز يتصاعد‏؟‏ وكم من مستور يتكشف‏؟‏ وكم من حشرة تخرج من بيتها المستور‏؟‏ وكم وكم مما يرى ومما لا يرى، ومما يعلم البشر ومما يجهلونه وهو كثير‏؟‏‏!‏

وكم مما ينزل من السماء‏؟‏ كم من نقطة مطر‏؟‏ وكم من شهاب ثاقب‏؟‏ وكم من شعاع محرق‏؟‏ وكم من شعاع منير‏؟‏ وكم من قضاء نافذ ومن قدر مقدور‏؟‏ وكم من رحمة تشمل الوجود وتخص بعض العبيد‏؟‏ وكم من رزق يبسطه الله لمن يشاء من عباده ويقدر‏؟‏‏.‏‏.‏ وكم وكم مما لا يحصيه إلا الله‏؟‏

وكم مما يعرج فيها‏؟‏ كم من نفس صاعد من نبات أو حيوان أو إنسان أو خلق آخر مما لا يعرفه الإنسان‏؟‏ وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مستسرة لم يسمعها إلا الله في علاه‏؟‏

وكم من روح من أرواح الخلائق التي نعلمها أو نجهلها متوفاة‏؟‏ وكم من ملك يعرج بأمر من روح الله‏؟‏ وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله‏؟‏

ثم كم من قطرة بخار صاعدة من بحر، ومن ذرة غاز صاعدة من جسم‏؟‏ وكم وكم مما لا يعلمه سواه‏؟‏‏!‏

كم في لحظة واحدة‏؟‏ وأين يذهب علم البشر وإحصاؤهم لما في اللحظة الواحدة ولو قضوا الأعمار الطوال في العد والإحصاء‏؟‏ وعلم الله الكامل الهائل اللطيف العميق يحيط بهذا كله في كل مكان وفي كل زمان‏.‏

‏.‏ وكل قلب وما فيه من نوايا وخواطر وماله من حركات وسكنات تحت عين الله، وهو مع هذا يستر ويغفر‏.‏‏.‏ ‏{‏وهو الرحيم الغفور‏}‏ وإن آية واحدة من القرآن كهذه الآية لمما يوحي بأن هذا القرآن ليس من قول البشر‏.‏ فمثل هذا الخاطر الكوني لا يخطر بطبيعته على قلب بشر‏.‏ ومثل هذا التصور الكوني لا دافع إليه من طبيعة تصور البشر، ومثل هذه الإحاطة باللمسة الواحدة تتجلى فيها صنعة الله بارئ هذا الوجود التي لا تشبهها صنعة العبيد‏!‏

كذلك يبدو الطابع الإلهي في هذا القرآن في طريقة استدلاله بأشياء وأحداث مثيرة صغيرة في ظاهرها؛ وهي ذات حقيقة ضخمة تناسب الموضوع الضخم الذي يستدل بها عليه‏.‏‏.‏ كما يبدو في قوله تعالى‏:‏

‏{‏نحن خلقناكم فلولا تصدقون‏!‏ أفرأيتم ما تمنون‏؟‏ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون‏؟‏ نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين‏.‏ على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون‏.‏ ولقد علمتم النشأة الأولى، فلولا تذكرون‏!‏‏}‏ ‏{‏أفرأيتم الماء الذي تشربون‏؟‏ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون‏؟‏ لو نشاء جعلناه أجاجاً، فلولا تشكرون‏!‏‏}‏ ‏{‏أفرأيتم النار التي تورون‏؟‏ أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون‏؟‏ نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين‏}‏ ‏{‏فسبح باسم ربك العظيم‏}‏ إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة، قضايا كونية كبرى يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود، وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصوراً كاملاً لهذا الوجود، كما يجعل منها منهجاً للنظر والتفكير، وحياة للأرواح والقلوب، ويقظة في المشاعر والحواس‏.‏ يقظة لظواهر هذا الوجود التي تتطالع الناس صباح مساء وهم غافلون، ويقظة لأنفسهم وما يجري من العجائب والخوارق فيها‏!‏

إنه لا يكل الناس إلى الحوادث الفذة الخارقة والمعجزات الخاصة المعدودة‏.‏ كذلك لا يكلفهم أن يبحثوا عن الخوارق والمعجزات والآيات والدلائل بعيداً عن أنفسهم، ولا عن مألوف حياتهم، ولا عن الظواهر الكونية القريبة منهم المعروفة لهم‏.‏‏.‏ إنه لا يبعد بهم في فلسفات معقدة، أو مشكلات عقلية عويصة، أو تجارب علمية لا يملكها كل أحد‏.‏‏.‏ لكي ينشئ في نفوسهم عقيدة، وتصوراً للكون والحياة قائماً على هذه العقيدة‏.‏

إن أنفسهم من صنع الله؛ وظواهر الكون حولهم من إبداع قدرته‏.‏ والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده‏.‏ وهذا القرآن قرآنه‏.‏ ومن ثم يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم، والمبثوثة في الكون من حولهم‏.‏ يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لهم، التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها‏.‏ لأنهم لطول ألفتهم بها غفلوا عن مواضع الإعجاز فيها‏.‏ يأخذهم إليها ليفتح عيونهم عليها، فتطلع على السر الهائل المكنون فيها‏.‏ سر القدرة المبدعة، وسر الوحدانية المفردة، وسر الناموس الأزلي الذي يعمل في كيانهم هم أنفسهم كما يعمل في الكون من حولهم؛ والذي يحمل دلائل الإيمان؛ وبراهين العقيدة فيبثها في كيانهم، أو يوقظها في فطرتهم بتعبير أدق‏.‏

وعلى هذا المنهج يسير، وهو يعرض عليهم آيات القدرة المبدعة في خلقهم هم أنفسهم‏.‏ وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم‏.‏ وفي الماء الذي يشربون‏.‏ وفي النار التي يوقدون- وهي أبسط ما يقع تحت أبصارهم من مألوفات حياتهم- كذلك يصور لهم لحظة النهاية‏.‏ نهاية الحياة على هذه الأرض وبدء الحياة في العالم الآخر‏.‏ اللحظة التي يواجهها كل أحد، والتي تنتهي عندها كل حيلة، والتي تقف الأحياء وجهاً لوجه أمام القدرة المطلقة المتصرفة وقفة فاصلة، لا محاولة فيها ولا مجال‏!‏ حيث تسقط جميع الأقنعة، وتبطل جميع التعلات‏.‏

إن طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره‏.‏‏.‏ إنه المصدر الذي صدر منه الكون‏.‏ فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون‏.‏ فمن أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال، وأضخم الخلائق‏.‏‏.‏ الذرة يظن أنها مادة بناء الكون؛ والخلية يظن أنها مادة بناء الحياة‏.‏‏.‏ والذرة على صغرها معجزة في ذاتها؛ والخلية على ضآلتها آية في ذاتها‏.‏‏.‏ وهنا في القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني‏.‏‏.‏ المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان‏:‏ النسل‏.‏ الزرع‏.‏ والماء‏.‏ والنار‏.‏ والموت‏.‏‏.‏ أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه‏؟‏ أي ساكن كهف لم يشهد نشأة حياة جنينية، ونشأة حياة نباتية‏.‏ ومسقط ماء‏.‏ وموقد نار‏.‏ ولحظة وفاة‏؟‏‏.‏‏.‏ من هذه المشاهدات التي رآها كل إنسان ينشئ القرآن العقيدة، لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة‏.‏‏.‏ وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة بذاتها هي أضخم الحقائق الكونية، وأعظم الأسرار الربانية؛ فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان؛ وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان‏.‏

ولسنا نملك المضي أبعد من هذا في بيان طبيعة «هذا القرآن» الدالة على مصدره‏.‏ ففي هذا القدر كفاية لنعود إلى سياق السورة‏.‏‏.‏

وصدق الله العظيم‏:‏

‏{‏وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

‏{‏أم يقولون افتراه‏؟‏ قل‏:‏ فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين‏}‏‏.‏

ويضرب السياق عن المضي في الجدل بعد هذا التحدي، ليقرر أنهم لا يتبعون إلا الظن، فهم يحكمون على ما لم يعلموه‏.‏ والحكم يجب أن يسبقه العلم، وألا يعتمد على مجرد الهوى أو مجرد الظن‏.‏ والذي حكموا عليه هنا هو الوحي بالقرآن وصدق ما فيه من الوعد والوعيد‏.‏ لقد كذبوا بهذا وليس لديهم من علم يقوم عليه التكذيب، ولما يأتهم تأويله الوقعي بوقوعه‏:‏

‏{‏بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله‏}‏‏.‏‏.‏

شأنهم في هذا شأن المكذبين من قبلهم، الظالمين المشركين بربهم‏.‏ فليتأمل المتأمل كيف كان مصير الأولين ليعرف حقيقة مصير الآخرين‏:‏

‏{‏كذلك كذب الذين من قبلهم، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

وإذا كان أكثرهم لا يتبعون إلا الظن، ويكذبون بما لم يحصل لهم عنه علم، فإن هناك منهم من يؤمن بهذا الكتاب، فليسوا جميعهم من المكذبين‏:‏

‏{‏ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به‏.‏ وربك أعلم بالمفسدين‏}‏‏.‏‏.‏

والمفسدون هم الذين لا يؤمنون‏.‏ وما يقع الفساد في الأرض كما يقع بضلال الناس عن الإيمان بربهم والعبودية له وحده‏.‏ وما نجم الفساد في الأرض إلا من الدينونة لغير الله، وما يتبع هذا من شر في حياة الناس في كل اتجاه‏.‏ شر اتباع الهوى في النفس والغير؛ وشر قيام أرباب أرضية تفسد كل شيء لتستبقي ربوبيتها المزيفة‏.‏‏.‏ تفسد أخلاق الناس وأرواحهم وأفكارهم وتصوراتهم‏.‏‏.‏ ثم تفسد مصالحهم وأموالهم‏.‏ في سبيل بقائها المصطنع الزائف‏.‏ وتاريخ الجاهلية في القديم والحديث فائض بهذا الفساد الذي ينشئه المفسدون الذين لا يؤمنون‏.‏

ويعقب على تقرير مواقفهم من هذا الكتاب بتوجيه الخطاب للرسول- صلى الله عليه وسلم- بألا يتأثر بتكذيب المكذبين، وأن ينفض يديه منهم، ويعلنهم ببراءته من عملهم، ويفاصلهم على ما معه من الحق في وضوح وفي حسم وفي يقين‏:‏

‏{‏وإن كذبوك فقل‏:‏ لي عملي ولكم عملكم‏.‏ أنتم بريئون مما أعمل، وأنا بريء مما تعملون‏}‏‏.‏‏.‏

وهي لمسة لوجدانهم، باعتزالهم وأعمالهم، وتركهم لمصيرهم منفردين، بعد بيان ذلك المصير المخيف‏.‏ وذلك كما تترك طفلك المعاند الذي يأبى أن يسير معك، وفي وسط الطريق وحده يواجه مصيره فريداً لا يجد منك سنداً‏.‏ وكثيراً ما يفلح هذا الأسلوب من التهديد‏!‏

ويمضي السياق يستعرض حال بعضهم من الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهم يستمعون إليه بآذانهم وقلوبهم مغلقة‏.‏ وينظرون إليه بعيونهم وبصيرتهم مطموسة، فلا يئوبون من السمع والنظر بشيء، ولا يهتدون إلى الطريق‏:‏

‏{‏ومنهم من يستمعون إليك‏.‏ أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون‏؟‏ ومنهم من ينظر إليك‏.‏ أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن هؤلاء الخلائق الذين يستمعون ولا يعقلون ما سمعوا، وينظرون ولا يميزون ما نظروا‏.‏‏.‏ إن هؤلاء لكثير، في كل زمان وفي كل مكان‏.‏

والرسول- صلى الله عليه وسلم- لا يملك لهم شيئاً‏.‏ لأن حواسهم وجوارحهم مطموسة الاتصال بعقولهم وقلوبهم، فكأنها معطلة لا تؤدي حقيقة وظيفتها‏.‏ والرسول- صلى الله عليه وسلم- لا يسمع الصم، ولا يبصر العمي‏.‏ فذلك من شأن الله وحده عز وجل‏.‏ والله سن سنة وترك الخلق لمقتضى السنة‏.‏ وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول ليهتدوا بها؛ فإذا هم عطلوها حقت عليهم سنته التي لا تتخلف ولا تحابي، ولقوا جزاءهم عدلاً، ولم يظلمهم الله شيئاً‏:‏

‏{‏إن الله لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وفي هذه الآيات الأخيرة تسرية عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مما يجده في نفسه من ضيق بهذا التكذيب لما معه من الحق، وبهذا العناد الصفيق بعد تكرار البيان والإعلام، وذلك بما يقرره له ربه من أن إباءهم الهدى لم يكن عن تقصير منه في الجهد‏.‏ ولا قصور فيما معه من الحق‏.‏ ولكن هؤلاء كالصم العمي‏.‏ وما يفتح الآذان والعيون إلا الله‏.‏ فهو شأن خارج عن طبيعة الدعوة والداعية داخل في اختصاص الله‏.‏

وفيها كذلك تحديد حاسم لطبيعة العبودية ومجالها- حتى ولو تمثلت في شخص رسول الله‏.‏ فهو عبد من عباد الله لا قدرة له خارج مجال العبودية‏.‏ والأمر كله لله‏.‏

بعد ذلك يلمس وجدانهم لمسة خاطفة بمشهد من مشاهد القيامة، تبدو فيه الحياة الدنيا التي تزحم حسهم، وتشغل نفوسهم، وتأكل اهتماماتهم‏.‏‏.‏ رحلة سريعة، قضاها الناس هناك، ثم عادوا إلى مقرهم الدائم ودارهم الأصيلة‏.‏

‏{‏ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم‏.‏ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله، وما كانوا مهتدين‏}‏‏.‏‏.‏

وفي هذه الجولة الخاطفة ننظر فإذا المحشورون مأخوذون بالمفاجأة، شاعرون أن رحلتهم الدنيوية كانت قصيرة قصيرة، حتى لكأنها ساعة من نهار قضوها في التعارف، ثم أسدل الستار‏.‏

أو هذا مجرد تشبيه لهذا الحياة الدنيا، وللناس الذين دخلوا ثم خرجوا، كأن لم يفعلوا شيئاً سوى اللقاء والتعارف‏؟‏

إنه لتشبيه، ولكنه حق اليقين وإلا فهل ينتهي البشر في هذه الأرض من عملية التعارف‏؟‏ إنهم يجيئون ويذهبون وما يكاد أحدهم ينتهي من التعرف إلى الآخرين، وما تكاد الجماعة فيهم تنتهي من التعرف إلى الجماعات الأخرى‏.‏ ثم يذهبون‏.‏

وإلا فهل هؤلاء الأفراد الذين يتنازعون ويتعاركون ويقع من سوء التفاهم بينهم وبين بعضهم في كل ساعة ما يقع‏.‏‏.‏ هل هؤلاء تم تعارفهم كما ينبغي أن يكون‏؟‏

وهذه الشعوب المتناحرة، والدول المتخاصمة- لا تتخاصم على حق عام، ولا على منهج سليم، إنما تتعارك على الحطام والأعراض- هذه‏.‏ هل عرف بعضها بعضاً‏؟‏ وهي ما تكاد تفرغ من خصام حتى تدخل في خصام‏.‏

إنه تشبيه لتمثيل قصر الحياة الدنيا‏.‏

ولكنه يصور حقيقة أعمق فيما يكون بين الناس في هذه الحياة‏.‏‏.‏ ثم يرحلون‏!‏

وفي ظل هذا المشهد تبدو الخسارة الفادحة لمن جعلوا همهم كله هو هذه الرحلة الخاطفة، وكذبوا بلقاء الله، وشغلوا عنه واستغرقوا في تلك الرحلة- بل تلك الومضة- فلم يستعدوا لهذا اللقاء بشيء يلقون به ربهم؛ ولم يستعدوا كذلك بشيء للإقامة الطويلة في الدار الباقية‏:‏

‏{‏قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله، وما كانوا مهتدين‏}‏‏.‏‏.‏

ومن هذا المشهد الخاطف ليوم الحشر، وما سبقه من أيام الحياة في الأرض إلى حديث مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- في شأن وعيد الله للمكذبين؛ ذلك الوعيد الغامض، لا يدرون إن كان سيعاجلهم غداً، أم إنهم سينظرون إلى يوم الدين‏.‏ ليبقى مصلتاً فوق رؤوسهم لعلهم يتقون ويهتدون‏.‏‏.‏ وشيئاً فشيئاً تنتهي الجولة التي بدأت بالحديث عن الوعيد إلى نهايتها يوم لا ينفع الفداء ولو كان ما في الأرض كله، ويوم يقضي الله بالقسط لا يظلم أحداً‏.‏‏.‏ وذلك على طريقة القرآن في وصل الدنيا بالآخرة، في كلمات ولحظات، في تصوير حي يلمس القلوب، ويصور في الوقت ذاته حقيقة الاتصال بين الدارين والحياتين كما هما في الواقع، وكما ينبغي أن يكونا في التصور الإسلامي الصحيح‏:‏

‏{‏وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم، ثم الله شهيد على ما يفعلون‏.‏ ولكل أمة رسول، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون‏.‏ ويقولون‏:‏ متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏؟‏ قل‏:‏ لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله، لكل أمة أجل، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏.‏ قل أرأيتم‏:‏ إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ماذا يستعجل منه المجرمون‏.‏ أثم إذا ما وقع آمنتم به‏؟‏ آلآن وقد كنتم به تستعجلون‏؟‏ ثم قيل للذين ظلموا‏:‏ ذوقوا عذاب الخلد، هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون‏.‏ ويستبئونك أحق هو‏؟‏ قل‏:‏ إي وربي إنه لحق، وما أنتم بمعجزين‏.‏ ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به، وأسروا الندامة لما رأوا العذاب، وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون‏}‏‏.‏

تبدأ هذه الجولة بتقرير أن مرجع القوم إلى الله، سواء وقع بعض الوعيد الذي كلف الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يبلغه لهم، في حياته أو بعد وفاته‏.‏ فالمرجع إلى الله في الحالين‏.‏ وهو شهيد على ما يفعلون في حضور الرسول بالحياة، وفي غيبته بالوفاة‏.‏ فلن يضيع شيء من أعمالهم ولن تعفيهم وفاة الرسول- صلى الله عليه وسلم- مما يوعدون‏.‏

‏{‏وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم، ثم الله شهيد على ما يفعلون‏}‏‏.‏‏.‏ فالأمور مدبرة سائرة حسب التدبير، لا يخرج منها حرف، ولا يتغير بالطوارئ والظروف‏.‏ ولكن كل قوم يُنظرون حتى يجيء رسولهم، فينذرهم ويبين لهم، وبذلك يستوفون حقهم الذي فرضه الله على نفسه بألا يعذب قوماً إلا بعد الرسالة، وبعد الإعذار لهم بالتبيين‏.‏

وعندئذ يقضي بينهم بالقسط حسب استجابتهم للرسول‏:‏

‏{‏ولكل أمة رسول، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون‏}‏‏.‏

ونقف من هاتين الآيتين أمام حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية التي يرتكز عليها التصور الإسلامي كله‏.‏ وعناية المنهج القرآني بتوضيحها وتقريرها في كل مناسبة، وفي صور شتى متنوعة‏.‏‏.‏

إنه يقال للرسول- صلى الله عليه وسلم- إن أمر هذه العقيدة، وأمر القوم الذين يخاطبون بها‏.‏ كله لله، وأن ليس لك من الأمر شيء‏.‏ دورك فيها هو البلاغ، أما ما وراء لك فكله لله‏.‏ وقد ينقضي أجلك كله ولا ترى نهاية القوم الذين يكذبونك ويعاندونك ويؤذونك، فليس حتماً على الله أن يريك عاقبتهم، وما ينزله بهم من جزاء‏.‏‏.‏ هذا له وحده سبحانه‏!‏ أما أنت- وكل رسول- فعليك البلاغ‏.‏‏.‏ ثم يمضي الرسول ويدع الأمر كله لله‏.‏‏.‏ ذلك كي يعلم العبيد مجالهم، وكي لا يستعجل الدعاة قضاء الله مهما طال عليهم في الدعوة ومهما تعرضوا فيها للعذاب‏!‏‏!‏

‏{‏ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وقد كانوا يسألون في تحد واستعجال، طالبين وقوع ما يوعدهم به النبي- صلى الله عليه وسلم- من قضاء الله فيهم، كما قضى الله بين الأمم التي جاءتها رسلها فكذبت، فأخذ الله المكذبين‏:‏ والجواب‏:‏

‏{‏قل‏:‏ لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله، لكل أمة أجل، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏‏.‏‏.‏

وإذا كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فهو لا يملك لهم الضر والنفع بطبيعة الحال‏.‏ ‏(‏وقد قدم ذكر الضر هنا، وإن كان مأموراً أن يتحدث عن نفسه، لأنهم هم يستعجلون الضر، فمن باب التناسق قدم ذكر الضر، أما في موضع آخر في سورة الأعراف فقدم النفع في مثل هذا التعبير، لأنه الأنسب أن يطلبه لنفسه وهو يقول‏:‏ ‏{‏ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء‏}‏ ‏{‏قل‏:‏ لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً‏.‏‏.‏ إلا ما شاء الله‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

فالأمر إذن لله يحقق وعيده في الوقت الذي يشاؤه‏.‏ وسنة الله لا تتخلف، وأجله الذي أجله لا يستعجل‏:‏

‏{‏لكل أمة أجل، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏‏.‏‏.‏

والأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي‏.‏ هلاك الاستئصال كما وقع لبعض الأمم الخالية، وقد ينتهي بالهلاك المعنوي‏.‏ هلاك الهزيمة والضياع‏.‏ وهو ما يقع للأمم، إما لفترة تعود بعدها للحياة، وإما دائماً فتضمحل وتنمحي شخصيتها وتنتهي إلى اندثارها كأمة، وإن بقيت كأفراد‏.‏‏.‏ وكل أولئك وفق سنة الله التي لا تتبدل، لا مصادفة ولا جزافاً ولا ظلماً ولا محاباة‏.‏

فالأمم التي تأخذ بأسباب الحياة تحيا والأمم التي تنحرف عنها تضعف أو تضمحل أو تموت بحسب انحرافها‏.‏ والأمة الإسلامية منصوص على أن حياتها في اتباع رسولها، والرسول يدعوها لما يحييها‏.‏ لا بمجرد الاعتقاد، ولكن بالعمل الذي تنص عليه العقيدة في شتى مرافق الحياة‏.‏ وبالحياة وفق المنهج الذي شرعه الله لها، والشريعة التي أنزلها، والقيم التي قررها‏.‏ وإلا جاءها الأجل وفق سنة الله‏.‏

ثم يبادرهم السياق بلمسة وجدانية تنقلهم من موقف السائل المستهزئ المتحدي، إلى موقف المهدَّد الذي قد يفاجئه المحظور في كل لحظة من الليل أو النهار‏:‏

‏{‏قل‏:‏ أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً، ماذا يستعجل منه المجرمون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

فهذا العذاب المغيب الذي لا يُعلم موقعه وموعده؛ والذي قد يحل بياتاً وأنتم نيام، أو نهاراً وأنتم أيقاظ، لا يجديكم في رده الصحو‏.‏‏.‏ ما الذي يستعجل منه المجرمون‏؟‏ وهو عذاب لا خير لهم في استعجاله على كل حال‏.‏

وبينما هم في مفاجأة السؤال الذي ينقل مشاعرهم إلى تصور الخطر وتوقعه، تفجؤهم الآية التالية بوقوعه فعلاً‏.‏‏.‏ وهو لم يقع بعد‏.‏‏.‏ ولكن التصور القرآني يرسمه واقعاً، ويغمر به المشاعر، ويلمس به الوجدان‏:‏

‏{‏أثم إذا ما وقع آمنتم به‏؟‏ آلآن وقد كنتم به تستعجلون‏؟‏‏!‏‏}‏‏.‏

فكأنما قد وقع‏.‏ وكأنما قد آمنوا به، وكأنما يخاطبون بهذا التبكيت في مشهد حاضر يشهدونه الآن‏!‏

وتتمة المشهد الحاضر‏:‏

‏{‏ثم قيل للذين ظلموا‏:‏ ذوقوا عذاب الخلد‏.‏ هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا نجدنا مع السياق في ساحة الحساب والعذاب، وقد كنا منذ لحظات وفقرات في الدنيا نشهد خطاب الله لرسوله عن هذا المصير‏!‏‏!‏

وختام هذه الجولة، هو استنباء القوم للرسول‏:‏ إن كان هذا الوعيد حقاً‏.‏ فهم مزلزلون من الداخل تجاهه يريدون أن يستوثقوا وليس بهم من يقين‏.‏ والجواب بالإيجاب حاسم مؤكد بيمين‏:‏

‏{‏ويستنبئونك‏:‏ أحق هو‏؟‏ قل‏:‏ إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏إي وربي‏}‏‏.‏‏.‏

الذي أعرف قيمة ربوبيته فلا أقسم به حانثاً، ولا أقسم به إلا في جد وفي يقين‏.‏‏.‏

‏{‏إنه لحق وما أنتم بمعجزين‏}‏‏.‏‏.‏

ما أنتم بمعجزين أن يأتي بكم، وما أنتم بمعجزين أن يحاسبكم، وأن يجازيكم‏.‏

وبينما نحن معهم على هذه الأرض في استنباء وجواب‏.‏ إذا نحن فجأة- مع السياق في نقلة من نقلات الأسلوب القرآني المصور- في ساحة الحساب والجزاء‏.‏ مبدئياً على وجه الفرض والتقدير‏.‏

‏{‏ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به‏}‏‏.‏‏.‏

فلا يقبل منها حتى على فرض وجوده معها‏.‏

ولا تكتمل الآية حتى يكون الفرض قد وقع وقضى الأمر‏:‏

‏{‏وأسروا الندامة لما رأوا العذاب‏}‏‏.‏‏.‏

أخذتهم وهلة المفاجأة فسقط في أيديهم، والتعبير يرسم للخيال صورة الكمد يظلل الوجوه، دون أن تنطق الشفاه‏!‏

‏{‏وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون‏}‏‏.‏

وانتهى المشهد الذي بدأ منذ نصف آية فرضاً وانتهى واقعاً، على طريقة التصوير القرآني المؤثر المثير‏.‏

والتعقيب المؤكد للحشر والحساب، جولة أخرى مع القدرة في بعض مجاليها في السماء والأرض وفي الحياة والموت‏.‏ جولة عابرة لتوكيد معنى القدرة الكفيلة بتحقق الوعد‏.‏ ثم نداء عام للناس أجمعين للانتفاع بهذا القرآن الذي يحمل لهم الموعظة والهدى وشفاء الصدور‏.‏

‏{‏ألا إن لله ما في السماوات والأرض‏.‏ ألا إن وعد الله حق، ولكن أكثرهم لا يعلمون‏.‏ هو يحيي ويميت‏.‏ وإليه ترجعون‏.‏ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، قل‏:‏ بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏ألا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ بهذا الإعلان المدوي‏.‏ ‏{‏ألا إن لله ما في السماوات والأرض‏}‏‏.‏ والذي يملك ما في السماوات والأرض يملك أن يجعل وعده حقاً فلا يعجزه عن تحقيقه معجز، ولا يعوقه عن تصديقه معوق‏:‏

‏{‏ألا إن وعد الله حق‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وهم لجهلهم يشكون أو يكذبون‏.‏

‏{‏هو يحيي ويميت‏}‏‏.‏‏.‏

والذي يملك الحياة والموت، يملك الرجعة والحساب‏.‏‏.‏

‏{‏وإليه ترجعون‏}‏‏.‏‏.‏

إنه تعقيب سريع للتوكيد السريع بعد الاستعراض المثير‏.‏

ثم يعقبه النداء الجامع للبشرية جميعاً‏:‏

‏{‏يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

جاءتكم في ذلك الكتاب الذي ترتابون فيه‏.‏ وجاءتكم الموعظة ‏{‏من ربكم‏}‏ فليس هو كتاباً مفترى، وليس ما فيه من عند بشر‏.‏ جاءتكم الموعظة لتحيي قلوبكم، وتشفي صدوركم من الخرافة التي تملؤها، والشك الذي يسيطر عليها، والزيغ الذي يمرضها، والقلق الذي يحيرها‏.‏ جاءت لتفيض عليها البرء والعافية واليقين والاطمئنان والسلام مع الإيمان‏.‏ وهي لمن يرزق الإيمان هدى إلى الطريق الواصل، ورحمة من الضلال والعذاب‏:‏

‏{‏قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون‏}‏‏.‏‏.‏

فبهذا الفضل الذي آتاه الله عباده، وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان‏.‏‏.‏ فبذلك وحده فليفرحوا‏.‏ فهذا هو الذي يستحق الفرح‏.‏ لا المال ولا أعراض هذه الحياة‏.‏ إن ذلك هو الفرح العلوي الذي يطلق النفس من عقال المطامع الأرضية والأعراض الزائلة، فيجعل هذه الأعراض خادمة للحياة لا مخدومة؛ ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها لا عبداً خاضعاً لها‏.‏ والإسلام لا يحقر أعراض الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها‏.‏ إنما هو يزنها بوزنها ليستمتع بها الناس وهم أحرار الإرادة طلقاء اليد، مطمحهم أعلى من هذه الأعراض، وآفاقهم أسمى من دنيا الأرض‏.‏ الإيمان عندهم هو النعمة، وتأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف‏.‏ والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم لا سلطان لها عليهم‏.‏

عن عقبة بن الوليد عن صفوان بن عمرو‏:‏ سمعت أيفع بن عبد الله الكلاعي يقول‏:‏ لما قدم خراج العراق إلى عمر- رضي الله عنه- خرج عمر ومولى له، فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل يقول‏:‏ الحمد لله تعالى‏.‏

ويقول مولاه‏:‏ هذا والله من فضله الله ورحمته، فقال عمر‏:‏ كذبت ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون‏}‏‏.‏

هكذا كان الرعيل الأولون ينظرون إلى قيم الحياة‏.‏ كانوا يعدون الفضل الأول والرحمة الأولى هي ما جاءهم من الله من موعظة وهدى‏.‏ فأما المال، وأما الثراء، وأما النصر ذاته فهو تابع‏.‏ لذلك كان النصر يأتيهم، وكان المال ينثال عليهم، وكان الثراء يطلبهم‏.‏‏.‏ إن طريق هذه الأمة واضح‏.‏ إنه في هذا الذي يسنه لها قرآنها، وفي سيرة الصدر الأول الذين فهموه من رجالها‏.‏‏.‏ هذا هو الطريق‏.‏

إن الأرزاق المادية، والقيم المادية، ليست هي التي تحدد مكان الناس في هذه الأرض‏.‏‏.‏ في الحياة الدنيا فضلاً عن مكانهم في الحياة الأخرى‏.‏‏.‏ إن الأرزاق المادية، والتيسيرات المادية، والقيم المادية، يمكن أن تصبح من أسباب شقوة البشرية- لا في الآخرة المؤجلة ولكن في هذه الحياة الواقعة- كما نشهد اليوم في حضارة المادة الكالحة‏!‏

إنه لا بد من قيم أخرى تحكم الحياة الإنسانية؛ وهذه القيم الأخرى هي التي يمكن أن تعطي للأرزاق المادية والتيسيرات المادية قيمتها في حياة الناس؛ وهي التي يمكن أن تجعل منها مادة سعادة وراحة لبني الإنسان‏.‏

إن المنهج الذي يحكم حياة مجموعة من البشر هو الذي يحدد قيمة الأرزاق المادية في حياتهم‏.‏ هو الذي يجعلها عنصر سعادة أو عنصر شقاء‏.‏ كما يجعلها سبباً للرقي الإنساني أو مزلقاً للارتكاس‏!‏

ومن هنا كان التركيز على قيمة هذا الدين في حياة أهله‏:‏

‏{‏يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين‏.‏ قل‏:‏ بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون‏}‏‏.‏‏.‏

ومن هنا كان الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة يدركون هذه القيمة العليا، فيقول عمر- رضي الله عنه- عن المال والأنعام‏:‏ «ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون‏}‏‏.‏‏.‏

لقد كان عمر- رضي الله عنه- يفقه دينه‏.‏ كان يعرف أن فضل الله ورحمته يتمثلان بالدرجة الأولى في هذا الذي أنزله الله لهم‏:‏ موعظة من ربهم، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين‏.‏ لا فيما يجمعون من المال والإبل والأرزاق‏!‏

لقد كانوا يدركون قيمة النقلة البعيدة التي نقلها لهم هذا الدين، من وهدة الجاهلية التي كانوا فيها‏.‏‏.‏ وإنها لنقلة بعيدة بالقياس إلى الجاهلية في كل زمان ومكان‏.‏‏.‏ بما فيها جاهلية القرن العشرين‏.‏

إن النقلة الأساسية التي تتمثل في هذا الدين هي إعتاق رقاب العباد من العبودية للعباد؛ وتحريرهم من هذه العبودية، وتعبيدهم لله وحده، وإقامة حياتهم كلها على أساس هذا الانطلاق الذي يرفع تصوراتهم، ويرفع قيمهم، ويرفع أخلاقهم‏.‏

ويرفع حياتهم كلها من العبودية إلى الحرية‏:‏

ثم تجيء الأرزاق المادية والتيسيرات المادية، والتمكين المادي، تبعاً لهذا التحرر وهذا الانطلاق‏.‏ كما حدث في تاريخ العصبة المسلمة، وهي تكتسح الجاهليات حولها، وتهيمن على مقاليد السلطان في الأرض، وتقود البشرية إلى الله، لتستمتع معها بفضل الله‏.‏‏.‏

والذين يركزون على القيم المادية، وعلى الإنتاج المادي، ويغفلون تلك القيمة الكبرى الأساسية، هم أعداء البشرية الذين لا يريدون لها أن ترتفع على مستوى الحيوان وعلى مطالب الحيوان‏.‏

وهم لا يطلقونها دعوة بريئة؛ ولكنهم يهدفون من ورائها إلى القضاء على القيم الإيمانية، وعلى العقيدة التي تعلق قلوب الناس بما هو أرفع من مطالب الحيوان- دون أن تغفل ضروراتهم الأساسية- وتجعل لهم مطالب أساسية أخرى إلى جوار الطعام والمسكن والجنس التي يعيش في حدودها الحيوان‏!‏

وهذا الصياح المستمر بتضخيم القيم المادية، والإنتاج المادي، بحيث يطغى الانشغال به على حياة الناس وتفكيرهم وتصوراتهم كلها‏.‏‏.‏ وبحيث يتحول الناس إلى آلات تلهث وراء هذه القيمة، وتعدها قيمة الحياة الكبرى؛ وتنسى في عاصفة الصياح المستمر‏.‏‏.‏ الإنتاج‏.‏‏.‏ الإنتاج‏.‏‏.‏ كل القيم الروحية والأخلاقية؛ وتدوس هذه القيم كلها في سبيل الإنتاج المادي‏.‏‏.‏ هذا الصياح ليس بريئاً؛ إنما هو خطة مدبرة لإقامة أصنام تعبد بدل أصنام الجاهلية الأولى؛ وتكون لها السيادة العليا على القيم جميعاً‏!‏

وعندما يصبح الإنتاج المادي صنماً يكدح الناس حوله ويطوفون به في قداسة الأصنام؛ فإن كل القيم والاعتبارات الأخرى تداس في سبيله وتنتهك‏.‏‏.‏ الأخلاق‏.‏ الأسرة‏.‏ الأعراض‏.‏ الحريات الضمانات‏.‏‏.‏‏.‏ كلها‏.‏‏.‏ كلها إذا تعارضت مع توفير الإنتاج يجب أن تداس‏!‏ فماذا تكون الأرباب والأصنام إن لم تكن هي هذه‏؟‏ إنه ليس من الحتم أن يكون الصنم حجراً أو خشباً‏.‏ فقد يكون قيمة واعتباراً ولافتة ولقباً‏!‏

إن القيمة العليا يجب أن تبقى لفضل الله ورحمته المتمثلين في هداه الذي يشفي الصدور، ويحرر الرقاب، ويعلي من القيم الإنسانية في الإنسان‏.‏ وفي ظل هذه القيمة العليا يمكن الانتفاع برزق الله الذي أعطاه للناس في الأرض؛ وبالتصنيع الذي يوفر الإنتاج المادي؛ وبالتيسيرات المادية التي تقلل من شدة الكدح؛ وبسائر هذه القيم التي تدق الجاهلية حولها الطبول في الأرض‏!‏

وبدون وجود تلك القيمة العليا وسيادتها تصبح الأرزاق والتيسيرات والإنتاج لعنة يشقى بها الناس؛ لأنها يومئذ تستخدم في إعلاء القيم الحيوانية والآلية، على حساب القيم الإنسانية العلوية‏.‏

وصدق الله العظيم‏:‏

‏{‏يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين‏.‏ قل‏:‏ بفضل الله وبرحمته فبذلك فيلفرحوا هو خير مما يجمعون‏}‏‏.‏‏.‏

وفي ظل هذا الحديث عن فضل الله ورحمته، المتمثلين فيما جاء للناس من موعظة وهدى وشفاء لما في الصدور، يتعرض السياق للجاهلية، وهي تزاول حياتها العملية، لا وفق ما جاء من عند الله؛ ولكن وفق أهواء البشر، واعتدائهم على خصائص الله سبحانه، ومزاولتهم أمر التحليل والتحريم فيما رزقهم الله‏:‏

‏{‏قل‏:‏ أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً‏!‏ قل‏:‏ آلله أذن لكم‏؟‏ أم على الله تفترون‏؟‏ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة‏؟‏ إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثرهم لا يشكرون‏}‏‏.‏

قل‏:‏ ماذا ترون في رزق الله الذي أنزله إليكم‏؟‏- وكل ما جاء من عند الله في عليائه إلى البشر فهو منزل من ذلك المقام الأعلى- ماذا ترون في هذا الرزق الذي أعطاه لكم، لتتصرفوا فيه وفق إذنه وشرعه، فإذا أنتم- من عند أنفسكم ودون إذن من الله لكم- تحرمون منه أنواعاً وتحلون منه أنواعاً‏.‏ والتحريم والتحليل تشريع‏.‏ والتشريع حاكمية‏.‏ والحاكمية ربوبية، وأنتم تزاولونها من عند أنفسكم‏:‏

‏{‏قل‏:‏ آلله أذن لكم‏؟‏ أم على الله تفترون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إنها القضية التي يتكرر ذكرها في القرآن الكريم؛ وتواجه بها الجاهلية بين الحين والحين‏.‏‏.‏ ذلك أنها القضية الكبرى التالية لشهادة أن لا إله إلا الله‏.‏ بل إنها هي هي في حالة التطبيق الواقعي في الحياة‏.‏

إن الاعتراف بأن الله هو الخالق الرازق يستتبعه حتماً أن يكون الله هو الرب المعبود؛ وأن يكون هو الذي يحكم في أمر الناس كله‏.‏‏.‏ ومنه أمر هذه الأرزاق التي أعطاها الله للبشر، وهي تشمل كل ما يرزقهم من السماء والأرض‏.‏‏.‏ والجاهليون العرب كانوا يعترفون بوجود الله- سبحانه- وبأنه الخالق الرازق- كما يعترف اليوم ناس يسمون أنفسهم «المسلمين‏!‏»‏.‏ ثم كانوا مع هذا الاعتراف يزاولون التحريم والتحليل لأنفسهم فيما رزقهم الله- كما يزاول ذلك اليوم ناس يسمون أنفسهم «المسلمين‏!‏»- وهذا القرآن يواجههم بهذا التناقض بين ما يعترفون به من وجود الله ومن أنه الخالق الرازق؛ وما يزاولونه في حياتهم من ربوبية لغير الله تتمثل في التشريع الذي يزاوله نفر منهم‏!‏ وهو تناقض صارخ يدمغهم بالشرك؛ كما يدمغ كل من يزاول هذا التناقض اليوم وغداً وإلى آخر الزمان‏.‏ مهما اختلفت الأسماء واللافتات‏.‏ فالإسلام حقيقة واقعة لا مجرد عنوان‏!‏

ولقد كان الجاهليون العرب يزعمون- كما يزعم اليوم ناس ممن يسمون أنفسهم «المسلمين»- أن هذا الذي يزاولونه من التحريم والتحليل إنما أذن لهم به الله‏.‏ أو كانوا يقولون عنه‏:‏ شريعة الله‏!‏

وقد ورد في سورة الأنعام ادعاؤهم أن هذا الذي يحرمونه وهذا الذي يحلونه شرعه الله‏.‏‏.‏ وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء- بزعمهم- وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه‏.‏ سيجزيهم بما كانوا يفترون‏}‏

فهم كانوا يقولون‏:‏ إن الله يشاء هذا، ولا يشاء هذا‏.‏‏.‏ افتراء على الله‏.‏‏.‏ كما أن ناساً اليوم يدعون أنفسهم «مسلمين» يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون‏:‏ شريعة الله‏!‏

والله يجبههم هنا بالافتراء، ثم يسألهم ماذا تظنون بربكم يوم القيامة وأنتم تفترون عليه‏:‏

‏{‏وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وصيغة الغائب تشمل جنس الذين يفترون على الله الكذب وتنتظمهم جميعاً‏.‏‏.‏ فما ظنهم يا ترى‏؟‏ ما الذي يتصورون أن يكون في شأنهم يوم القيامة‏!‏‏!‏ وهو سؤال تذوب أمامه حتى الجبلات الصلدة الجاسية‏!‏

‏{‏إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثرهم لا يشكرون‏}‏‏.‏‏.‏

والله ذو فضل على الناس برزقه هذا المادي الذي أودعه هذا الكون من أجلهم؛ وأودع فيهم القدرة على معرفة مصادره؛ والنواميس التي تحكم هذه المصادر، وأقدرهم كذلك على التنويع في أشكاله، والتحليل والتركيب في مادته لتنويع هذه الأشكال‏.‏‏.‏ وكله في الكون وفيهم من رزق الله‏.‏‏.‏

والله ذو فضل على الناس بعد ذلك بزرقه وفضله ورحمته التي أنزلها في منهجه هدى للناس وشفاء لما في الصدور؛ ليهدي الناس إلى منهج الحياة السليم القويم؛ الذي يزاولون به خير ما في إنسانيتهم من قوى وطاقات؛ ومشاعر واتجاهات؛ والذي ينسقون به بين خير الدنيا وخير الآخرة؛ كما ينسقون به بين فطرتهم وفطرة الكون الذي يعيشون فيه ويتعاملون معه‏.‏

ولكن أكثر الناس لا يشكرون على هذا الرزق وذاك‏.‏‏.‏ فإذا هم يحيدون عن منهج الله وشرعه؛ وإذا هم يشركون به غيره‏.‏‏.‏ ثم يشقون في النهاية بهذا كله‏.‏‏.‏ يشقون لأنهم لا ينتفعون بهذا الذي هو شفاء لما في الصدور‏!‏

وإنه لتعبير عجيب عن حقيقة عميقة‏.‏‏.‏ إن هذا القرآن شفاء لما في الصدور بكل معنى من معاني الشفاء‏.‏‏.‏ إنه يدب في القلوب فعلاً دبيب الشفاء في الجسم المعلول‏!‏ يدب فيها بإيقاعه ذي السلطان الخفي العجيب‏.‏ ويدب فيها بتوجيهاته التي توقظ أجهزة التلقي الفطرية، فتهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب‏.‏ ويدب فيها بتنظيماته وتشريعاته التي تضمن أقل احتكاك ممكن بين المجموعات البشرية في الحياة اليومية‏.‏ ويدب فيها بإيحاءاته المطمئنة التي تسكب الطمأنينة في القلوب إلى الله، وإلى العدل في الجزاء، وإلى غلبة الخير، وإلى حسن المصير‏.‏‏.‏

وإنها لعبارة تثير حشداً وراء حشد من المعاني والدلائل، تعجز عنها لغة البشر ويوحي بها هذا التعبير العجيب‏!‏

لا يشكرون‏.‏‏.‏ والله هو المطلع على السرائر، المحيط بكل مضمر وظاهر، الذي لا يغيب عن علمه ولا يبعد عن متناوله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء‏.‏‏.‏ هذه هي اللمسة الجديدة للمشاعر والضمائر في السياق، ليخرج منها إلى طمأنة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ومن معه بأنهم في رعايته وولايته، لا يضرهم المكذبون، الذين يتخذون مع الله شركاء وهم واهمون‏:‏

‏{‏وما تكون في شأن، وما تتلو منه من قرآن، ولا تعملون من عمل، إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه؛ وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين‏.‏

ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏.‏ الذين آمنوا وكانوا يتقون‏.‏ لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، لا تبديل لكلمات الله، ذلك هو الفوز العظيم، ولا يحزنك قولهم، إن العزة لله جميعاً، هو السميع العليم، ألا أن لله من في السماوات ومن في الأرض، وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، إن يتبعون إلا الظن، وإن هم إلا يخرصون‏.‏ هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون‏}‏‏.‏‏.‏

إن الشعور بالله على النحو الذي تصوره الآية الأولى من هذا السياق‏:‏

‏{‏وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ شعور مطمئن ومخيف معاً، مؤنس ومرهب معاً‏.‏‏.‏ وكيف بهذا المخلوق البشري وهو مشغول بشأن من شؤونه يحس أن الله معه، شاهد أمره وحاضر شأنه‏.‏ الله بكل عظمته، وبكل هيبته، وبكل جبروته، وبكل قوته‏.‏ الله خالق هذا الكون وهو عليه هين‏.‏ ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان‏.‏‏.‏ الله مع هذا المخلوق البشري‏.‏ الذرة التائهة في الفضاء لولا عناية الله تمسك بها وترعاها‏!‏ إنه شعور رهيب‏.‏ ولكنه كذلك شعور مؤنس مطمئن‏.‏ إن هذه الذرة التائهة ليست متروكة بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية‏.‏‏.‏ إن الله معها‏:‏

‏{‏وما تكون في شأن، وما تتلو منه من قرآن، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه‏.‏‏.‏‏}‏

إنه ليس شمول العلم وحده، ولكن شمول الرعاية، ثم شمول الرقابة‏.‏‏.‏

‏{‏وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين‏}‏‏.‏‏.‏

ويسبح الخيال مع الذرات السابحة في الأرض أو في السماء- ومعها علم الله- ومع ما هو أصغر من الذرة وأكبر محصوراً في علم الله‏.‏‏.‏ ويرتعش الوجدان إشفاقاً ورهبة، ويخشع القلب إجلالاً وتقوى، حتى يطامن الإيمان من الروعة والرهبة، ويهدهد القلب الواجف بأنس القرب من الله‏.‏

وفي ظل هذا الأنس، وفي طمأنينة هذا القرب‏.‏‏.‏ يأتي الإعلان الجاهر‏:‏

‏{‏ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏.‏ الذين آمنوا وكانوا يتقون‏.‏ لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏.‏ لا تبديل لكلمات الله‏.‏ ذلك هو الفوز العظيم‏}‏‏.‏‏.‏

وكيف يخاف أولياء الله أو يحزنون والله معهم هكذا في كل شأن وفي كل عمل وفي كل حركة أو سكون‏؟‏ وهم أولياء الله، المؤمنون به الأتقياء المراقبون له في السر والعلن‏:‏

‏{‏الذين آمنوا وكانوا يتقون‏}‏‏.‏

كيف يخافون وكيف يحزنون، وهم على اتصال بالله لأنهم أولياؤه‏؟‏ وعلام يحزنون ومم يخافون، والبشرى لهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏؟‏ إنه الوعد الحق الذي لا يتبدل- لا تبديل لكلمات الله-‏:‏

‏{‏ذلك هو الفوز العظيم‏}‏‏.‏‏.‏

إن أولياء الله الذين يتحدث عنهم السياق هم المؤمنون حق الإيمان المتقون حق التقوى‏.‏ والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل‏.‏ والعمل هو تنفيذ ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه‏.‏‏.‏ هكذا يجب أن نفهم معنى الولاية لله‏.‏ لا كما يفهمه العوام، من أنهم المهبولون المخبولون الذين يدعونهم بالأولياء‏!‏

وفي ظل هذه الرعاية والحماية لأولياء الله يخاطب النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو أولى الأولياء، بما يطمئنه تجاه المكذبين والمفترين، وكانوا في ذلك الوقت هم أصحاب القوة والجاه‏:‏

‏{‏ولا يحزنك قولهم‏.‏ إن العزة لله جميعاً‏.‏ هو السميع العليم‏}‏‏.‏‏.‏

ويفرد الله بالعزة هنا، ولا يضيفها إلى الرسول والمؤمنين- كما في الموضع الآخر- لأن السياق سياق حماية لله لأوليائه‏.‏ فيفرده بالعزة جميعاً- وهي أصلاً لله وحده، والرسول والمؤمنون يستمدونها منه- ليجرد منها الناس جميعاً، ومشركو قريش العتاة داخلون في الناس‏.‏ أما الرسول- صلى الله عليه وسلم- فهو في الحماية الإلهية التي أضفاها على أوليائه‏.‏ فلا يحزن لما يقولون‏.‏ والله معه وهو السميع العليم‏.‏ الذي يسمع قولهم ويعلم كيدهم ويحمي أولياءه مما يقال ومما يكاد‏.‏ وفي ملك يده كل من في السماوات وكل من في الأرض من إنس وجن وملائكة، ومن عصاة وتقاة، فكل ذي قوة من خلقه داخل في سلطانه وملكه‏:‏

‏{‏ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه حكمة ذكر «من» هنا لا «ما» لأن المقصود إثبات أن الأقوياء كالضعفاء كلهم في ملك يده سواء‏.‏ فالسياق جار فيها مجراه‏.‏

‏{‏وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء‏}‏‏.‏‏.‏

فهؤلاء الشركاء الموهومون ليسوا في حقيقتهم شركاء لله في شيء؛ وعبادهم ليسوا على يقين مما يزعمون لهم من شركة‏:‏

‏{‏إن يتبعون إلا الظن‏.‏ وإن هم إلا يخرصون‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

ثم لفتة إلى بعض مجالي القدرة في المشاهد الكونية التي يغفل عنها الناس بالتكرار‏:‏

‏{‏هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً‏.‏ إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون‏}‏‏.‏‏.‏

والمالك للحركة وللسكون، الذي يجعل الليل ليسكن فيه الناس، ويجعل النهار مبصراً يقود الناس فيتحركون‏!‏ ويبصرهم فيبصرون‏.‏‏.‏ ممسك بمقاليد الحركة والسكون، قادر على الناس، قادر على حماية أوليائه من الناس‏.‏ ورسوله- صلى الله عليه وسلم- في مقدمة أوليائه‏.‏

ومن معه من المؤمنين‏.‏‏.‏

‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون‏}‏‏.‏‏.‏

يسمعون فيتدبرون ما يسمعون‏.‏

والمنهج القرآني يستخدم المشاهدة الكونية كثيراً في معرض الحديث عن قضية الألوهية والعبودية‏.‏ ذلك أن هذا الكون بوجوده وبمشاهده شاهد ناطق للفطرة لا تملك لمنطقه رداً‏.‏ كذلك يخاطب الناس بما في علاقتهم بهذا الكون من تناسق‏.‏ وهم يجدون هذا في حياتهم فعلاً‏.‏

فهذا الليل الذي يسكنون فيه، وهذا النهار الذي يبصرون به، هما ظاهرتان كونيتان شديدتا الاتصال بحياتهم‏.‏ وتناسق هذه الظواهر الكونية مع حياة الناس يحسونه هم- ولو لم يتعمقوا في البحث و«العلم»‏.‏ ذلك أن فطرتهم الداخلية تفهم عن هذا الكون لغته الخفية‏!‏

وهكذا لم يكن البشر في عماية عن لغة الكون حتى جاءتهم «العلوم الحديثة‏!‏» لقد كانوا يفهمون هذه اللغة بكينونتهم كلها‏.‏ ومن ثم خاطبهم بها العليم الخبير منذ تلك القرون‏.‏ وهي لغة متجددة بتجدد المعرفة، وكلما ارتقى الناس في المعرفة كانوا أقدر على فهمها، متى تفتحت قلوبهم بالإيمان ونظرت بنور الله في هذه الآفاق‏!‏

والافتراء على الله بالشركاء يكون بنسبة ولد لله- سبحانه- وقد كان مشركو العرب يزعمون أن الملائكة بنات الله‏.‏

وختام هذا الدرس جولة مع هذا النوع من الشرك والافتراء تبدأ بالحجة في الدنيا وتنتهي بالعذاب في الآخرة على طريقة القرآن‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ اتخذ الله ولداً، سبحانه هو الغني، له ما في السماوات وما في الأرض، إن عندكم من سلطان بهذا، أتقولون على الله ما لا تعلمون‏؟‏ قل‏:‏ إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون‏.‏ متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم، ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون‏}‏‏.‏‏.‏

وعقيدة أن لله- سبحانه- ولداً، عقيدة ساذجة، منشؤها قصور في التصور، يعجز عن إدراك الفارق الهائل بين الطبيعة الإلهية الأزلية الباقية، والطبيعة البشرية المخلوقة الفانية؛ والقصور كذلك عن إدراك حكمة السنة التي جرت بتوالد أبناء الفناء، وهو التكملة الطبيعية لما فيهم من نقص وقصور لا يكونان لله‏.‏

فالبشر يموتون، والحياة باقية إلى أجل معلوم، فإلى أن ينقضي هذا الأجل فحكمة الخالق تقتضي امتداد البشر، والولد وسيلة لهذا الامتداد‏.‏

والبشر يهرمون ويشيخون فيضعفون‏.‏ والولد تعويض عن القوة الشائخة بقوة فتية، تؤدي دورها في عمارة الأرض- كما شاء الله- وتعين الضعفاء والشيوخ على بقية الحياة‏.‏

والبشر يكافحون فيما يحيط بهم، ويكافحون أعداؤهم من الحيوان والناس‏.‏ فهم في حاجة إلى التساند، والولد أقرب من يكون إلى العون في هذه الأحوال‏.‏

والبشر يستكثرون من المال الذي يجلبونه لأنفسهم بالجهد الذي يبذلونه، والولد يعين على الجهد الذي يجلب المال‏.‏‏.‏

وهكذا إلى سائر ما اقتضته حكمة الخالق لعمارة هذه الأرض، حتى ينقضي الأجل، ويقضي الله أمراً كان مفعولاً‏.‏

وليس شيء من ذلك كله متعلقاً بالذات الإلهية، فلا الحاجة إلى الامتداد، ولا الحاجة إلى العون عند الشيخوخة، ولا الحاجة إلى النصير، ولا الحاجة إلى المال‏.‏ ولا الحاجة إلى شيء ما مما يخطر أو لا يخطر على البال متعلقة بذات الله تعالى‏.‏‏.‏

ومن ثم تنتفي حكمة الولد، لأن الطبيعة الإلهية لا يتعلق بها غرض خارج عن ذاته، يتحقق بالولد‏.‏ وما قضت حكمة الله أن يتولد البشر إلا لأن طبيعتهم قاصرة تحتاج إلى هذا النوع من التكملة‏.‏ فهي تقتضي الولد اقتضاء‏.‏ وليست المسألة جزافاً‏.‏

ومن ثم كان الرد على فرية‏:‏ ‏{‏قالوا اتخذ الله ولداً‏}‏‏.‏‏.‏ هو‏:‏

‏{‏سبحانه‏!‏ هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏‏.‏

‏{‏سبحانه‏!‏‏.‏‏.‏‏}‏ تنزيها لذاته العلية عن مستوى هذا الظن أو الفهم أو التصوّر‏.‏ ‏{‏هو الغني‏}‏‏.‏‏.‏ بكل معاني الغنى، عن الحاجات التي أسلفنا وعن سواها مما يخطر ومما لا يخطر على البال‏.‏ مما يقتضي وجود الولد‏.‏ والمقتضيات هي التي تسمح بوجود المقتضيات، فلا يوجد شيء عبثاً بلا حاجة ولا حكمة ولا غاية‏.‏ ‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏‏.‏ فكل شيء ملكه‏.‏ ولا حاجة به- سبحانه- لأن يملك شيئاً بمساعدة الولد‏.‏ فالولد إذن عبث‏.‏ تعالى الله سبحانه عن العبث‏!‏

ولا يدخل القرآن الكريم في جدل نظري حول الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسوتية، مما جد عند المتكلمين، وفي الفلسفات الأخرى‏.‏ لأنه يلمس الموضوعات في واقعها القريب إلى الفطرة‏.‏ ويتعامل مع الموضوع ذاته لا مع فروض جدلية قد تترك الموضوع الحاصر نهائياً وتصبح غرضاً في ذاتها‏!‏

فيكتفي هنا بهذه اللمسة التي تمس واقعهم، وحاجتهم إلى الولد، وتصورهم لهذه الحاجة، وانتفاء وجودها بالقياس إلى الله الغني الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض، ليبلغ من نفوسهم موضع الاقتناع أو موضع الإفحام، بلا جدل نظري يضعف أثر اللمسة النفسية التي تستجيب لها الفطرة في يسر وهوادة‏.‏

ثم يجبههم بالواقع، وهو أنهم لا يملكون برهاناً على ما يدعون‏.‏ ويسمي البرهان سلطاناً، لأن البرهان قوة، وصاحب البرهان قوي ذو سلطان‏:‏

‏{‏إن عندكم من سلطان بهذا‏}‏‏.‏‏.‏

ما عندكم من حجة ولا برهان على ما تقولون‏.‏

‏{‏أتقولون على الله ما لا تعلمون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وقول الإنسان ما لا يعلم منقصة لا تليق‏.‏ فكيف إذا كان هذا القول بلا علم على الله- سبحانه-‏!‏ إنه جريمة إذن أكبر من كل جريمة‏.‏ فهو أولاً ينافي ما يستحقه الله من عباده من تنزيه وتعظيم، لأنه وصف له بمقتضيات الحدوث والعجز والنقص والقصور‏.‏ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً‏.‏ ولأنه ضلال في تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق، ينشأ عنه ضلال في تصور كل علاقات الحياة والناس والمعاملات‏.‏ فكلها فرع من تصور هذه العلاقة‏.‏

وكل ما ابتدعه الكهنة لأنفهسم في الوثنيات من سلطان؛ وكل ابتدعته الكنيسة لها من سلطان، إنما نشأ عن تصور العلاقة بين الله تعالى وبناته الملائكة‏:‏ أو بين الله تعالى وعيسى بن مريم من صلة الأبوة والبنوة، وحكاية الخطيئة، ومنها نشأت مسألة الاعتراف، ومسألة قيام كنيسة المسيح بتوصيل الناس بأبي المسيح ‏(‏بزعمهم‏)‏‏.‏‏.‏ إلى نهاية السلسلة التي متى بدأت الحلقة الأولى فيها بفساد تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق فسدت الحلقات التالية كلها في كل ضروب الحياة‏.‏

فليست المسألة مجرد فساد في التصور الاعتقادي، ولكنه مسألة الحياة برمتها‏.‏ وكل ما وقع بين الكنيسة وبين العلم والعقل من عداء، انتهى إلى تخلص المجتمع من سلطان الكنيسة بتخلصه من سلطان الدين نفسه‏!‏ إنما نشأ من هذه الحلقة‏.‏ حلقة فساد تصور العلاقة بين الله وخلقه‏.‏ وجر في ذيوله شراً كثيراً تعاني البشرية كلها ويلاته في التيارات المادية وما وراءها من بلايا وأرزاء‏.‏

ومن ثم كان حرص العقيدة الإسلامية على تجلية هذه العلاقة تجلية كاملة لا لبس فيها ولا إبهام‏.‏‏.‏ الله خالق أزلي باق، لا يحتاج إلى الولد‏.‏ والعلاقة بينه وبين الناس جميعاً هي علاقة الخالق بخلقه دون استثناء‏.‏ وللكون والحياة والأحياء سنن ماضية لا تتخلف ولا تحابي‏.‏ فمن اتبع هذه السنن أفلح وفاز، ومن حاد عنها ضل وخسر‏.‏‏.‏ الناس في هذا كلهم سواء‏.‏ وكلهم مرجعهم إلى الله‏.‏ وليس هنالك من شفعاء ولا شركاء‏.‏ وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً‏.‏ ولكل نفس ما عملت‏.‏ ولا يظلم ربك أحداً‏.‏

عقيدة بسيطة واضحة، لا تدع مجالاً لتأويل فاسد، ولا تنحني أو تنحرف بالقلب في دروب ومنحنيات، وفي في سحب وضباب‏!‏

ومن ثم يقف الجميع سواء أمام الله وكلهم مخاطب بالشريعة، وكلهم مكلف بها، وكلهم حفيظ عليها، وبذلك تستقيم العلاقات بين الناس بعضهم وبعض، نتيجة استقامة العلاقة بينهم وبين الله‏.‏

‏{‏قل‏:‏ إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون‏}‏‏.‏‏.‏

لا يفلحون أي فلاح‏.‏ لا يفلحون في شِعب ولا طريق‏.‏ لا يفلحون في الدنيا ولا في الأخرى‏.‏ والفلاح الحقيقي هو الذي ينشأ من مسايرة سنن الله الصحيحة، المؤدية إلى الخير وارتقاء البشر وصلاح المجتمع، وتنمية الحياة، ودفعها إلى الإمام‏.‏ وليس هو مجرد الإنتاج المادي مع تحطم القيم الإنسانية، ومع انتكاس البشر إلى مدارج الحيوانية‏.‏ فذلك فلاح ظاهري موقوت، منحرف عن خط الرقي الذي يصل بالبشرية إلى أقصى ما تطيقه طبيعتها من الاكتمال‏.‏

‏{‏متاع في الدنيا‏.‏ ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون‏}‏‏.‏‏.‏

مجرد متاع واط‏.‏ وهو متاع قصير الأمد‏.‏ وهو متاع مقطوع لأنه لا يتصل بالمتاع اللائق بالبشرية في الدار الآخرة‏.‏ إنما يعقبه ‏{‏العذاب الشديد‏}‏ ثمرة للانحراف عن سنن الله الكونية المؤدية إلى المتاع العالي اللائق ببني الإنسان‏.‏