فصل: تفسير الآيات رقم (19- 43)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 43‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏19‏)‏ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ‏(‏20‏)‏ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ‏(‏21‏)‏ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏22‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ‏(‏23‏)‏ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏24‏)‏ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏25‏)‏ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ‏(‏26‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ‏(‏27‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ‏(‏28‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ ‏(‏29‏)‏ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ‏(‏30‏)‏ وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏32‏)‏ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏ لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏34‏)‏ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ‏(‏35‏)‏ وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ ‏(‏36‏)‏ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ ‏(‏37‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ‏(‏38‏)‏ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ‏(‏39‏)‏ وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ‏(‏40‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏41‏)‏ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏42‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

بعد المشاهد الهائلة في آفاق الكون وفي أعماق الغيب، وفي أغوار النفس التي استعرضها شطر السورة الأول، يأخذ الشطر الثاني في لمسات وجدانية وعقلية، وتصويرية دقيقة رفيقة، حول قضية الوحي والرسالة، وقضية التوحيد والشركاء، ومسألة الآيات واستعجال تأويل الوعيد‏.‏‏.‏ وهي جولة جديدة حول تلك القضايا في السورة‏.‏

وتبدأ هذه الجولة بلمسة في طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر، فالأول علم والثاني عمى‏.‏ وفي طبيعة المؤمنين وطبيعة الكافرين والصفات المميزة لهؤلاء وهؤلاء‏.‏ يتلوها مشهد من مشاهد القيامة، وما فيها من نعيم للأولين ومن عذاب للآخرين‏.‏ فلمسة في بسط الرزق وتقديره وردهما إلى الله‏.‏ فجولة مع القلوب المؤمنة المطمئنة بذكر الله‏.‏ فوصف لهذا القرآن الذي يكاد يسير الجبال وتقطع به الأرض ويكلم به الموتى‏.‏ فلمسة بما يصيب الكفار من قوارع تنزل بهم أو تحل قريباً من دارهم‏.‏ فجدل تهكمي حول الآلهة المدعاة‏.‏ فلمسة من مصارع الغابرين ونقص أطراف الأرض منهم حيناً بعد حين‏.‏ يختم هذا كله بتهديد الذين يكذبون برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم بتركهم للمصير المعلوم‏!‏

من ذلك نرى أن الإيقاعات والمطارق المتوالية في شطر السورة الأول، تحضّر المشاعر وتهيئها لمواجهة القضايا والمسائل في شطرها الثاني، وهي على استعداد وتفتح لتلقيها؛ وأن شطري السورة متكاملان؛ وكل منهما يوقع على الحس طرقاته وإيحاءاته لهدف واحد وقضية واحدة‏.‏

والقضية الأولى هي قضية الوحي‏.‏ وقد أثيرت في صدر السورة‏.‏ وهي تثار هنا مرة أخرى على نسق جديد‏.‏‏.‏

‏{‏أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى‏؟‏ إنما يتذكر أولوا الألباب‏}‏‏.‏‏.‏

إن المقابل لمن يعلم أن أنزل إليك من ربك هو الحق ليس هو من لا يعلم هذا، إنما المقابل هو الأعمى‏!‏ وهو أسلوب عجيب في لمس القلوب وتجسيم الفروق، وهو الحق في الوقت ذاته لا مبالغة فيه ولا زيادة ولا تحريف‏.‏ فالعمى وحده هو الذي ينشئ الجهل بهذه الحقيقة الكبرى الواضحة التي لا تخفى إلا على أعمى‏.‏ والناس إزاء هذه الحقيقة الكبيرة صنفان‏:‏ مبصرون فهم يعلمون، وعمي فهم لا يعلمون‏!‏ والعمى عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلاق القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح، وانفصالها عن مصدر الإشعاع‏.‏‏.‏

‏{‏إنما يتذكر أولو الألباب‏}‏‏.‏‏.‏

الذين لهم عقول وقلوب مدركة تذكر بالحق فتتذكر، وتنبه إلى دلائله فتتفكر‏.‏

وهذه صفات أولي الألباب هؤلاء‏:‏

‏{‏الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق‏}‏‏.‏‏.‏

وعهد الله مطلق يشمل كل عهد، وميثاق الله مطلق يشمل كل ميثاق‏.‏ والعهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان؛ والميثاق الأكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان‏.‏

وعهد الإيمان قديم وجديد‏.‏ قديم مع الفطرة البشرية المتصلة بناموس الوجود كله؛ المدركة إدراكاً مباشراً لوحدة الإرادة التي صدر عنها الوجود، ووحدة الخالق صاحب الإرادة، وأنه وحده المعبود‏.‏ وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في ظهور بني آدم فيما ارتضيناه لها من تفسير‏.‏‏.‏ ثم هو جديد مع الرسل الذين بعثهم الله لا لينشئوا عهد الإيمان ولكن ليجددوه ويذكروا به ويفصلوه، ويبينوا مقتضياته من الدينونة لله وحده والانخلاع من الدينونة لسواه، مع العمل الصالح والسلوك القويم، والتوجه به إلى الله وحده صاحب الميثاق القديم‏.‏‏.‏

ثم تترتب على العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر‏.‏ سواء مع الرسول أو مع الناس‏.‏ ذوي قرابة أو أجانب‏.‏ أفراداً أم جماعات‏.‏ فالذي يرعى العهد الأول يرعى سائر العهود، لأن رعايتها فريضة؛ والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما هو مطلوب منه للناس، لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق‏.‏

فهي القاعدة الضخمة الأولى التي يقوم عليها بنيان الحياة كله‏.‏ يقررها في كلمات‏.‏

‏{‏والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب‏}‏‏.‏‏.‏

هكذا في إجمال‏.‏ فكل ما أمر الله به أن يوصل يصلونه‏.‏ أي أنها الطاعة الكاملة والاستقامة الواصلة، والسير على السنة ووفق الناموس بلا انحراف ولا التواء‏.‏ لهذا ترك الأمر مجملاً، ولم يفصل مفردات ما أمر الله به أن يوصل، لأن هذا التفصيل يطول، وهو غير مقصود، إنما المقصود هو تصوير الاستقامة المطلقة التي لا تلتوي، والطاعة المطلقة التي لا تتفلت، والصلة المطلقة التي لا تنقطع‏.‏‏.‏ ويلمح عجز الآية إلى الشعور المصاحب في نفوسهم لهذه الطاعة الكاملة‏:‏

‏{‏ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب‏}‏‏.‏‏.‏

فهي خشية الله ومخافة العقاب الذي يسوء في يوم لقائه الرهيب‏.‏ وهم أولو الألباب الذين يتدبرون الحساب قبل يوم الحساب‏.‏

‏{‏والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم‏}‏‏.‏‏.‏

والصبر ألوان‏.‏ وللصبر مقتضيات‏.‏ صبر على تكاليف الميثاق‏.‏ من عمل وجهاد ودعوة واجتهاد‏.‏‏.‏ الخ وصبر على النعماء والبأساء‏.‏ وقل من يصبر على النعمة فلا يبطر ولا يكفر‏.‏ وصبر على حماقات الناس وجهالاتهم وهي تضيق الصدور‏.‏‏.‏ وصبر وصبر وصبر‏.‏‏.‏ كله ابتغاء وجه ربهم، لا تحرجاً من أن يقول الناس‏:‏ جذعوا‏.‏ ولا تجملاً ليقول الناس‏:‏ صبروا‏.‏ ولا رجاء في نفع من وراء الصبر‏.‏ ولا دفعاً لضر يأتي به الجزع‏.‏ ولا لهدف واحد غير ابتغاء وجه الله، والصبر على نعمته وبلواه‏.‏ صبر التسليم لقضائه والاستسلام لمشيئته والرضى والاقتناع‏.‏‏.‏

‏{‏وأقاموا الصلاة‏}‏‏.‏‏.‏

وهي داخلة في الوفاء بعهد الله وميثاقه، ولكنه يبرزها لأنها الركن الأول لهذا الوفاء، ولأنها مظهر التوجه الخالص الكامل لله، ولأنها الصلة بين العبد والرب، الخالصة له ليس فيها من حركة ولا كلمة لسواه‏.‏

‏{‏وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية‏}‏‏.‏

وهي داخلة في وصل ما أمر الله به أن يوصل، وفي الوفاء بتكاليف الميثاق‏.‏ ولكنه يبرزها لأنها الصلة بين عباد الله، التي تجمعهم في الله وهم في نطاق الحياة‏.‏ والتي تزكي نفس معطيها من البخل، وتزكي نفس آخذها من الغل؛ وتجعل الحياة في المجتمع المسلم لائقة بالبشر المتعاونين المتضامنين الكرام على الله‏.‏ والإنفاق سراً وعلانية‏.‏ السر حيث تصان الكرامة وتطلب المروءة، وتتحرج النفس من الإعلان‏.‏ والعلانية حيث تطلب الأسوة، وتنفذ الشريعة، ويطاع القانون‏.‏ ولكل موضعه في الحياة‏.‏

‏{‏ويدرأون بالحسنة السيئة‏}‏‏.‏‏.‏

والمقصود أنهم يقابلون السيئة بالحسنة في التعاملات اليومية لا في دين الله‏.‏ ولكن التعبير يتجاوز المقدمة إلى النتيجة‏.‏ فمقابلة السيئة بالحسنة تكسر شرة النفوس، وتوجهها إلى الخير؛ وتطفئ جذوة الشر، وترد نزغ الشيطان، ومن ثم تدرأ السيئة وتدفعها في النهاية‏.‏ فعجل النص بهذه النهاية وصدر بها الآية ترغيباً في مقابلة السيئة بالحسنة وطلباً لنتيجتها المرتقبة‏.‏‏.‏

ثم هي إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة عندما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها‏!‏ فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع، ويحتاج الشر إلى الدفع، فلا مكان لمقابلتها بالحسنة، لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلي‏.‏

ودرء السيئة بالحسنة يكون غالباً في المعاملة الشخصية بين المتماثلين‏.‏ فأما في دين الله فلا‏.‏‏.‏ إن المستعلي الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم‏.‏ والمفسدون في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم‏.‏ والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف، واستشارة الألباب، والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب‏.‏

‏{‏أولئك لهم عقبى الدار‏:‏ جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم؛ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب‏.‏ سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏أولئك‏}‏ في مقامهم العالي لهم عقبى الدار‏:‏ جنات عدن للإقامة والقرار‏.‏

في هذه الجنات يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم‏.‏ وهؤلاء يدخلون الجنة بصلاحهم واستحقاقهم‏.‏ ولكنهم يكرمون بتجمع شتاتهم، وتلاقي أحبابهم، وهي لذة أخرى تضاعف لذة الشعور بالجنان‏.‏

وفي جو التجمع والتلاقي يشترك الملائكة في التأهيل والتكريم، في حركة رائحة غادية‏:‏

‏{‏يدخلون عليهم من كل باب‏}‏‏.‏‏.‏

ويدعنا السياق نرى المشهد حاضراً وكأنما نشهده ونسمع الملائكة أطوافاً أطوافاًً‏:‏

‏{‏سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار‏}‏‏.‏‏.‏

فهو مهرجان حافل باللقاء والسلام والحركة الدائبة والإكرام‏.‏

وعلى الضفة الأخرى أولئك الذين لا ألباب لهم فيتذكروا‏.‏ ولا بصيرة لهم فيبصروا‏.‏ وهم على النقيض في كل شيء مع أولي الألباب‏:‏

‏{‏والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض‏.‏ أولئك لهم اللعنة، ولهم سوء الدار‏}‏‏.‏‏.‏

إنهم ينقضون عهد الله المأخوذ على الفطرة في صورة الناموس الأزلي؛ وينقضون من بعده كل عهد، فمتى نقض العهد الأول فكل عهد قائم عليه منقوض من الأساس‏.‏

الذي لا يرعى الله لا يبقى على عهد ولا ميثاق‏.‏ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل على وجه العموم والإطلاق‏.‏ ويفسدون في الأرض في مقابل صبر أولئك وإقامتهم للصلاة وإنفاقهم سراً وعلانية ودرء السيئة بالحسنة‏.‏ فالإفساد في الأرض يقابل هذا كله، وترك شيء من هذا كله إنما هو إفساد أو دافع إلى الإفساد‏.‏

‏{‏أولئك‏}‏‏.‏‏.‏ المبعدون المطرودون ‏{‏لهم اللعنة‏}‏ والطرد في مقابل التكريم هناك ‏{‏ولهم سوء الدار‏}‏ ولا حاجة إلى ذكرها، فقد عرفت بمقابلها هناك‏!‏

أولئك فرحوا بالحياة الدنيا ومتاعها الزائل فلم يتطلعوا إلى الآخرة ونعيمها المقيم‏.‏ مع أن الله هو الذي يقدر الرزق فيوسع فيه أو يضيق فالأمر كله إليه في الأولى والآخرة على السواء‏.‏ ولو ابتغوا الآخرة ما حرمهم الله متاع الأرض، وهو الذي أعطاهم إياه‏:‏

‏{‏الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏.‏ وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد سبقت الإشارة إلى الفارق الضخم بين من يعلم أن ما أنزل إلى الرسول من ربه هو الحق، ومن هو أعمى‏.‏ فالآن يحكي السياق شيئاً عن العمي الذين لا يرون آيات الله في الكون، والذين لا يكفيهم هذا القرآن، فإذا هم يطلبون آية‏.‏ وقد حكى السياق شيئاً كهذا في شطر السورة الأول، وعقب عليه بأن الرسول ليس إلا منذراً والآيات عند الله‏.‏ وهو الآن يحكيه ويعقب عليه ببيان أسباب الهدى وأسباب الضلال‏.‏ ويضع إلى جواره صورة القلوب المطمئنة بذكر الله، لا تقلق ولا تطلب خوارق لتؤمن وهذا القرآن بين أيديها‏.‏ هذا القرآن العميق التأثير، حتى لتكاد تسير به الجبال وتقطع به الأرض، ويكلم به الموتى لما فيه من سلطان وقوة ودفعة وحيوية‏.‏ وينهي الحديث عن هؤلاء الذين يتطلبون القوارع والخوارق بتيئيس المؤمنين منهم، وبتوجيههم إلى المثلات من قبلهم، وإلى ما يحل بالمكذبين من حولهم بين الحين والحين‏:‏

‏{‏ويقول الذين كفروا‏:‏ لولا أنزل عليه آية من ربه‏!‏ قل‏:‏ إن الله يضل من يشاء، ويهدي إليه من أناب‏:‏ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله‏.‏ ألا بذكر الله تطمئن القلوب‏.‏ الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك، وهم يكفرون بالرحمن‏.‏ قل‏:‏ هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت، وإليه متاب‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى‏.‏ بل لله الأمر جميعاً‏.‏ أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً‏.‏ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله‏.‏ إن الله لا يخلف الميعاد‏.‏

ولقد استهزئ برسل من قبلك، فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم‏.‏ فكيف كان عقاب‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن الرد على طلبهم آية خارقة، أن الآيات ليست هي التي تقود الناس إلى الإيمان، فللإيمان دواعيه الأصيلة في النفوس، وأسبابه المؤدية إليه من فعل هذه النفوس‏:‏

‏{‏قل‏:‏ إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب‏}‏‏.‏‏.‏

فالله يهدي من ينيبون إليه‏.‏ فالإنابة إلى الله هي التي جعلتهم أهلاً لهداه‏.‏ والمفهوم إذن أن الذين لا ينيبون هم الذين يستأهلون الضلال، فيضلهم الله‏.‏ فهو استعداد القلب للهدى وسعيه إليه وطلبه، أما القلوب التي لا تتحرك إليه فهو عنها بعيد‏.‏‏.‏

ثم يرسم صورة شفيفة للقلوب المؤمنة‏.‏ في جو من الطمأنينة والأنس والبشاشة والسلام‏:‏

‏{‏الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله‏}‏‏.‏‏.‏

تطمئن بإحساسها بالصلة بالله، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وفي حماه‏.‏ تطمئن من قلق الوحدة، وحيرة الطريق‏.‏ بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير‏.‏ وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضر ومن كل شر إلا بما يشاء، مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء‏.‏ وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة‏:‏

‏{‏ألا بذكر الله تطمئن القلوب‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فاتصلت بالله‏.‏ يعرفونها، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها، لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام، ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفرداً بلا أنيس‏.‏ فكل ما حوله صديق، إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه‏.‏

وليس أشقى على وجه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله‏.‏ ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون، لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله خالق الكون‏.‏ ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء‏؟‏ ولم يذهب‏؟‏ ولم يعاني ما يعاني في الحياة‏؟‏ ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة لأنة لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيء في هذا الوجود‏.‏ ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريداً وحيداً شارداً في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين‏.‏

وإن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكناً إلى الله، مطمئناً إلى حماه، مهما اوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد‏.‏‏.‏ ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله، فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله‏:‏

‏{‏ألا بذكر الله تطمئن القلوب‏}‏‏.‏‏.‏

هؤلاء المنيبون إلى الله، المطمئنون بذكر الله، يحسن الله مآبهم عنده، كما أحسنوا الإنابة إليه وكما أحسنوا العمل في الحياة‏:‏

‏{‏الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب‏}‏‏.‏

طوبى ‏(‏على وزن كبرى من طاب يطيب‏)‏ للتفخيم والتعظيم‏.‏ وحسن مآب إلى الله الذي أنابوا إليه في الحياة‏.‏‏.‏

أما أولئك الذين يطلبون آية فلم يستشعروا طمأنينة الإيمان فهم في قلق يطلبون الخوارق والمعجزات‏.‏ ولست أول رسول جاء لقومه بمثل ما جئت به حتى يكون الأمر عليهم غريباً، فقد خلت من قبلهم الأمم وخلت من قبلهم الرسل‏.‏ فإذا كفروا هم فلتمض على نهجك ولتتوكل على الله‏:‏

‏{‏كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم، لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك، وهم يكفرون بالرحمن‏.‏ قل‏:‏ هو ربي لا إله إلا هو، عليه توكلت وإليه متاب‏}‏‏.‏

والعجيب أنهم يكفرون بالرحمن، العظيم الرحمة، الذي تطمئن القلوب بذكره، واستشعار رحمته الكبرى‏.‏ وما عليك إلا أن تتلو عليهم الذي أوحينا إليك، فلهذا أرسلناك‏.‏ فإن يكفروا فأعلن لهم أن اعتمادك على الله وحده، وأنك تائب إليه وراجع، لا تتجه إلى أحد سواه‏.‏

وإنما أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن‏.‏ هذا القرآن العجيب، الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض‏.‏ أو يكلم به الموتى، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات، ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات‏.‏ ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء‏.‏ فإذا لم يستجيبوا فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون، وأن يدعوهم حتى يأتي وعد الله للمكذبين‏:‏

‏{‏ولو أن قرآناً سيرت به الجبال، أو قطعت به الأرض، أو كلم به الموتى‏.‏ بل لله الأمر جميعاً‏.‏ أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً‏.‏ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله‏.‏ إن الله لا يخلف الميعاد‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى‏.‏ لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثاراً في أقدار الحياة، بل أبعد أثراً في شكل الأرض ذاته‏.‏ فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض، إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ‏؟‏‏!‏

وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها‏.‏ طبيعته في دعوته وفي تعبيره‏.‏ طبيعته في موضوعه وفي أدائه‏.‏ طبيعته في حقيقته وفي تأثيره‏.‏‏.‏ إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة، يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام، واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحي به‏.‏ والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال، وهو تاريخ الأمم والأجيال؛ وقطعوا ما هو أصلب من الأرض، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد‏.‏ وأحيوا ما هو أخمد من الموتى‏.‏ وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام‏.‏ والتحول الذي تم في نفوس العرب وحياتهم فنقلهم تلك النقلة الضخمة دون أسباب ظاهرة إلا فعل هذا الكتاب ومنهجه في النفوس والحياة، أضخم بكثير من تحول الجبال عن رسوخها، وتحول الأرض عن جمودها، وتحول الموتى عن الموات‏!‏

‏{‏بل لله الأمر جميعاً‏}‏‏.‏

وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال‏.‏

فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم فما أجدر المؤمنين الذي يحاولون تحريكها أن ييأسوا من القوم؛ وأن يدعوا الأمر لله، فلو شاء لخلق الناس باستعداد واحد للهدى، فلهدى الناس جميعاً على نحو خلقة الملائكة لو كان يريد‏.‏ أو لقهرهم على الهدى بأمر قدري منه‏.‏‏.‏ ولكن لم يرد هذا ولا ذاك‏.‏ لأنه خلق هذا الإنسان لمهمة خاصة يعلم سبحانه أنها تقتضي خلقته على هذا النحو الذي كان‏.‏

فليدعوهم إذن لأمر الله‏.‏ وإذا كان الله قد قدر ألا يهلكهم هلاك استئصال في جيل كبعض الأقوام قبلهم، فإن قارعة من عنده بعد قارعة تنزل بهم فتصيبهم بالضر والكرب، وتهلك من كتب عليه منهم الهلاك‏.‏

‏{‏أو تحل قريباً من دارهم‏}‏‏.‏‏.‏

فتروعهم وتدعهم في قلق وانتظار لمثلها؛ وقد تلين بعض القلوب وتحركها وتحييها‏.‏

‏{‏حتى يأتي وعد الله‏}‏‏.‏‏.‏

الذي أعطاهم إياه، وأمهلهم إلى انتهاء أجله‏:‏

‏{‏إن الله لا يخلف الميعاد‏}‏‏.‏‏.‏

فهو آت لا ريب فيه، فملاقون فيه ما وعدوه‏.‏

والأمثلة حاضرة، وفي مصارع الغابرين عبرة، بعد الإنظار والإمهال‏:‏

‏{‏ولقد أستهزئ برسل من قبلك، فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم، فكيف كان عقاب‏؟‏‏}‏‏.‏

وهو سؤال لا يحتاج إلى جواب‏.‏ فلقد كان عقاباً تتحدث به الأجيال‏!‏‏!‏‏!‏

والقضية الثانية هي قضية الشركاء‏.‏ وقد أثيرت في الشطر الأول من السورة كذلك‏.‏ وهي تثار هنا في سؤال تهكمي حين تقرن هذه الشركاء إلى الله القائم على كل نفس، المجازي لها بما كسبت في الحياة‏.‏ وتنتهي هذه الجولة بتصوير العذاب الذي ينتظر المفترين لهذه الفرية في الدنيا والعذاب الأشق في الآخرة‏.‏ وفي مقابلة ما ينتظر المتقين من أمن وسلام‏!‏

‏{‏أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت‏؟‏ وجعلوا لله شركاء‏.‏ قل‏:‏ سموهم‏.‏ أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض‏؟‏ أم بظاهر من القول‏؟‏ بل زين للذين كفروا مكرهم، وصدوا عن السبيل، ومن يضلل الله فما له من هاد‏.‏ لهم عذاب في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أشق، وما لهم من الله من واق‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها‏.‏ تلك عقبى الذين اتقوا‏.‏ وعقبى الكافرين النار‏}‏‏.‏‏.‏

والله سبحانه رقيب على كل نفس، مسيطر عليها في كل حال، عالم بما كسبت في السر والجهر‏.‏ ولكن التعبير القرآني المصور يشخص الرقابة والسيطرة والعلم في صورة حسية على طريقة القرآن صورة ترتعد لها الفرائص‏:‏

‏{‏أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت‏}‏‏.‏

فلتتصور كل نفس أن عليها حارساً قائماً عليها مشرفاً مراقباً يحاسبها بما كسبت‏.‏ ومن‏؟‏ إنه الله‏!‏ فأية نفس لا ترتعد لهذه الصورة وهي في ذاتها حق، إنما يجسمها التعبير للإدراك البشري الذي يتأثر بالحسيات أكثر مما يتأثر بالتجريديات‏.‏

أفذلك كذلك‏؟‏ ثم يجعلون لله شركاء‏؟‏‏!‏ هنا يبدو تصرفهم مستنكراً مستغرباً في ظل هذا المشهد الشاخص المرهوب‏.‏

‏{‏وجعلوا لله شركاء‏}‏‏.‏‏.‏

الله القائم على كل نفس بما كسبت، لا تفلت منه ولا تروغ‏.‏

‏{‏قل‏:‏ سموهم‏}‏ ‏!‏ فإنهم نكرات مجهولة‏.‏ وقد تكون لهم أسماء‏.‏ ولكن التعبير هنا ينزلهم منزلة النكرات التي لا تعرف أسماؤها‏.‏

‏{‏أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ يا للتهكم‏!‏ أم إنكم أنتم البشر تعلمون ما لا يعلمه الله‏؟‏ فتعلمون أن هناك آلهة في الأرض، وغاب هذا عن علم الله‏؟‏‏!‏ إنها دعوى لا يجرؤون على تصورها‏.‏ ومع هذا فهم يقولونها بلسان الحال، حين يقول الله أن ليست هناك آلهة، فيدعون وجودها وقد نفاه الله‏!‏

‏{‏أم بظاهر من القول‏؟‏‏}‏‏.‏

تدعون وجودها بكلام سطحي ليس وراءه مدلول‏.‏ وهل قضية الألوهية من التفاهة والهزل بحيث يتناولها الناس بظاهر من القول‏؟‏‏!‏

وينتهي هذا التهكم بالتقرير الجاد الفاصل‏:‏

‏{‏بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل‏.‏ ومن يضلل الله فما له من هاد‏}‏‏.‏‏.‏

فالمسألة إذن أن هؤلاء كفروا وستروا أدلة الإيمان عنهم وستروا نفوسهم عن دلائل الهدى، فحقت عليهم سنة الله، وصورت لهم نفوسهم أنهم على صواب، وأن مكرهم وتدبيرهم ضد الدعوة حسن وجميل، فصدهم هذا عن السبيل الواصل المستقيم‏.‏ ومن تقتضي سنة الله ضلاله لأنه سار في طريق الضلال فلن يهديه أحد، لأن سنة الله لا تتوقف إذا حقت بأسبابها على العباد‏.‏

والنهاية الطبيعية لهذه القلوب المنتكسة هي العذاب‏:‏

‏{‏لهم عذاب في الحياة الدنيا‏}‏‏.‏

إن أصابتهم قارعة فيها، وإن حلت قريباً من دارهم فهو الرعب والقلق والتوقع‏.‏ وإلا فجفاف القلب من بشاشة الإيمان عذاب، وحيرة القلب بلا طمأنينة الإيمان عذاب‏.‏ ومواجهة كل حادث بلا إدراك للحكمة الكبرى وراء الأحداث عذاب‏.‏‏.‏

‏{‏ولعذاب الآخرة أشق‏}‏‏.‏‏.‏

ويتركه هنا بلا تحديد للتصور والتخيل بلا حدود‏.‏

‏{‏وما لهم من الله من واق‏}‏‏.‏

يحميهم من أخذه، ومن نكاله‏.‏ فهم معرضون بلا وقاية لما ينزله من عذاب‏.‏‏.‏

وعلى الضفة الأخرى ‏{‏المتقون‏}‏‏.‏‏.‏ في مقابل ‏{‏وما لهم من الله من واق‏}‏‏.‏ المتقون الذين وقوا أنفسهم بالإيمان والصلاح فهم في مأمن من العذاب‏.‏ بل لهم فوق الأمن الجنة التي وعدوها‏:‏ ‏{‏ذلك مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها‏}‏ فهو المتاع والاسترواح ومشهد الظل الدائم والثمر الدائم مشهد تطمئن له النفس وتستريح في مقابل المشقة هناك‏:‏

ذلك العذاب وهذه الجنة هما النهاية الطبيعية لهؤلاء وهؤلاء‏:‏

‏{‏تلك عقبى الذين اتقوا‏.‏

وعقبى الكافرين النار‏}‏‏.‏‏.‏

ويمضي السياق مع قضية الوحي وقضية التوحيد معاً يتحدث عن موقف أهل الكتاب من القرآن ومن الرسول صلى الله عليه وسلم ويبين للرسول أن ما أنزل عليه هو الحكم الفصل فيما جاءت به الكتب قبله، وهو المرجع الأخير، أثبت الله فيه ما شاء إثباته من أمور دينه الذي جاء به الرسل كافة؛ ومحا ما شاء محوه مما كان فيها لانقضاء حكمته‏.‏ فليقف عندما أنزل عليه، لا يطيع فيه أهواء أهل الكتاب في كبيرة ولا صغيرة‏.‏ أما الذين يطلبون منه آية، فالآيات بإذن الله وعلى الرسول البلاغ‏.‏

‏{‏والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك، ومن الأحزاب من ينكر بعضه‏.‏ قل‏:‏ إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به، إليه أدعو، وإليه مآب‏.‏ وكذلك أنزلناه حكماً عربياً، ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق‏.‏ ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك، وجعلنا لهم أزواجاً وذرية، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله‏.‏ لكل أجل كتاب‏.‏ يمحو الله ما يشاء‏.‏ ويثبت، وعنده أم الكتاب‏.‏ وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك، فإنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب‏}‏‏.‏‏.‏

إن الفريق الصادق من أهل الكتاب في الاستمساك بدينه، يجد في هذا القرآن مصداق القواعد الأساسية في عقيدة التوحيد؛ كما يجد الاعتراف بالديانات التي سبقته وكتبها، ودرسها مع الإكبار والتقدير، وتصور الآصرة الواحدة التي تربط المؤمنين بالله جميعاً‏.‏ فمن ثم يفرحون ويؤمنون‏.‏ والتعبير بالفرح هنا حقيقة نفسية في القلوب الصافية وهو فرح الالتقاء على الحق، وزيادة اليقين بصحة ما لديهم ومؤازرة الكتاب الجديد له‏.‏‏.‏

‏{‏ومن الأحزاب من ينكر بعضه‏}‏‏.‏‏.‏

الأحزاب من أهل الكتاب والمشركين‏.‏‏.‏ ولم يذكر السياق هذا البعض الذي ينكرونه، لأنه الغرض هو ذكر هذا الإنكار للرد عليه‏:‏

‏{‏قل‏:‏ إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به‏.‏ إليه أدعوا وإليه مآب‏}‏‏.‏‏.‏

فله وحده العبادة، وإليه وحده الدعوة، وله وحده المآب‏.‏

وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلن منهجه في مواجهة من ينكر بعض الكتاب، وهو استمساكه الكامل بكامل الكتاب الذي أنزل إليه من ربه، سواء فرح به أهل الكتاب كله، أم أنكر فريق منهم بعضه‏.‏ ذلك أن ما أنزل إليه هو الحكم الأخير، نزل بلغته العربية وهو مفهوم له تماماً، وإليه يرجع ما دام هو حكم الله الأخير في العقيدة‏:‏

‏{‏وكذلك أنزلناه حكماً عربياً‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من واق‏}‏‏.‏

فالذي جاءك هو العلم اليقين، وما يقوله الأحزاب أهواء لا تستند إلى علم أو يقين‏.‏ وهذا التهديد الموجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أبلغ في تقرير هذه الحقيقة، التي لا تسامح في الانحراف عنها، حتى ولو كان من الرسول، وحاشاه عليه الصلاة والسلام‏.‏

وإذا كان هناك اعتراض على بشرية الرسول فقد كان الرسل كلهم بشراً‏:‏

‏{‏ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك، وجعلنا لهم أزواجاً وذرية‏}‏‏.‏

وإذا كان الاعتراض بأنه لم يأت بخارقة مادية، فذلك ليس من شأنه إنما هو شأن الله‏:‏

‏{‏وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله‏}‏‏.‏‏.‏

وفق ما تقتضيه حكمته وعندما يشاء‏.‏

وإذا كان هناك خلاف جزئي بين ما أنزل على الرسول وما عليه أهل الكتاب، فإن لكل فترة كتاباً، وهذا هو الكتاب الأخير‏:‏

‏{‏لكل أجل كتاب‏.‏ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب‏}‏‏.‏‏.‏

فما انقضت حكمته يمحوه، وما هو نافع يثبته‏.‏ وعنده أصل الكتاب، المتضمن لكل ما يثبته وما يمحوه‏.‏ فعنه صدر الكتاب كله، وهو المتصرف فيه، حسبما تقتضي حكمته، ولا راد لمشيئته ولا اعتراض‏.‏

وسواء أخذهم الله في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء مما أوعدهم، أو توفاه إليه قبل ذلك، فإن هذا لا يغير من الأمر شيئاً، ولا يبدل من طبيعة الرسالة وطبيعة الألوهية‏:‏

‏{‏وإمّا نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب‏}‏‏.‏‏.‏

وفي هذا التوجيه الحاسم ما فيه من بيان طبيعة الدعوة وطبيعة الدعاة‏.‏‏.‏ إن الدعاة إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا تكاليف الدعوة في كل مراحلها؛ وليس عليهم أن يبلغوا بها إلا ما يشاؤه الله‏.‏ كما أنه ليس لهم أن يستعجلوا خطوات الحركة، ولا أن يشعروا بالفشل والخيبة، إذا رأوا قدر الله يبطئ بهم عن الغلب الظاهر والتمكين في الأرض، إنهم دعاة وليسوا إلا دعاة‏.‏

وإن يد الله القوية لبادية الآثار فيما حولهم، فهي تأتي الأمم القوية الغنية حين تبطر وتكفر وتفسد فتنقص من قوتها وتنقص من ثرائها وتنقص من قدرها؛ وتحصرها في رقعة من الأرض ضيقة بعد أن كانت ذات سلطان وذات امتداد، وإذا حكم الله عليها بالانحسار فلا معقب لحكمه، ولا بد له من النفاذ‏:‏

‏{‏أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها‏!‏ والله يحكم لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب‏}‏‏.‏‏.‏

وليسوا هم بأشد مكراً ولا تدبيراً ولا كيداً ممن كان قبلهم‏.‏ فأخذهم الله وهو أحكم تدبيراً وأعظم كيداً‏:‏

‏{‏وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعاً‏.‏ يعلم ما تكسب كل نفس، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار‏}‏‏.‏‏.‏

ويختم السورة بحكاية إنكار الكفار للرسالة‏.‏ وقد بدأها بإثبات الرسالة‏.‏

فيلتقي البدء والختام‏.‏ ويشهد الله مكتفياً بشهادته‏.‏ وهو الذي عنده العلم المطلق بهذا الكتاب وبكل كتاب‏:‏

‏{‏ويقول الذين كفروا‏:‏ لست مرسلاً‏.‏ قل‏:‏ كفى بالله شهيداً بيني وبينكم، ومن عنده علم الكتاب‏}‏‏.‏

وتنتهي السورة وقد طوفت بالقلب البشري في أرجاء الكون، وأرجاء النفس، ووقعت عليه إيقاعات مطردة مؤثرة عميقة‏.‏ وتركته بعد ذلك إلى شهادة الله التي جاء بها المطلع وجاء بها الختام، والتي يحسم بها كل جدل، وينتهي بعدها كل كلام‏.‏‏.‏

وبعد‏.‏‏.‏ ففي السورة معالم للعقيدة الإسلامية، وللمنهج القرآني في عرض هذه العقيدة‏.‏‏.‏ وكان من حق هذه المعالم أن نقف عندها في مواضعها؛ لولا أننا آثرنا ألا نقطع تدفق السياق القرآني في هذه السورة بتلك الوقفات؛ وأن نبقيها إلى النهاية لنقف أمامها متمهلين‏!‏

وقد أشرنا في أثناء استعراض السورة في سياقها إلى تلك المعالم إشارات سريعة؛ فنرجو أن نقف عندها الأن وقفات أطول بقدر المستطاع‏.‏

‏.‏‏.‏ والله المستعان‏.‏‏.‏

إن افتتاح السورة، وطبيعة الموضوعات التي تعالجها، وكثيراً من التوجيهات فيها‏.‏‏.‏ كل أولئك يدل دلالة واضحة على أن السورة مكية وليست مدنية كما جاء في بعض الروايات والمصاحف وأنها نزلت في فترة اشتد فيها الإعراض والتكذيب والتحدي من المشركين؛ كما كثر فيها طلب الخوارق من الرسول صلى الله عليه وسلم واستعجال العذاب الذي ينذرهم به؛ مما اقتضى حملة ضخمة تستهدف تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه على الحق الذي أنزل إليه من ربه، في وجه المعارضة والإعراض، والتكذيب والتحدي؛ والاستعلاء بهذا الحق، والإلتجاء إلى الله وحده؛ وإعلان وحدانيته إلهاً ورباً؛ والثبات على هذه الحقيقة؛ والاعتقاد بأنها هي وحدها الحق، مهما كذب بها المشركون‏.‏ كما تستهدف مواجهة المشركين بدلائل هذا الحق في الكون كله، وفي أنفسهم، وفي التاريخ البشري وأحداثه كذلك؛ مع حشد جميع هذه المؤثرات ومخاطبة الكينونة البشرية بها خطاباً مؤثراً موحياً عميق الإيقاع قوي الدلالة‏.‏

وهذه نماذج من التوكيدات على أن هذا الكتاب هو وحده الحق؛ وأن الإعراض عنه، والتكذيب به، والتحدي، وبطء الاستجابة، ووعورة الطريق‏.‏‏.‏ كلها لا تغير شيئاً من تلك الحقيقة الكبيرة‏:‏

* ‏{‏تلك آيات الكتاب، والذي أنزل إليك من ربك الحق، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

* ‏{‏ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات، وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم، وإن ربك لشديد العقاب‏.‏ ويقول الذين كفروا‏:‏ لولا أنزل عليه آية من ربه‏!‏ إنما أنت منذر، ولكل قوم هاد‏}‏‏.‏

* ‏{‏له دعوة الحق، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء، إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال‏}‏‏.‏

* ‏{‏كذلك يضرب الله الحق والباطل‏.‏

فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض‏.‏ كذلك يضرب الله الأمثال‏}‏‏.‏‏.‏

* ‏{‏أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى‏؟‏ إنما يتذكر أولوا الألباب‏}‏‏.‏‏.‏

* ‏{‏ويقول الذين كفروا‏:‏ لولا أنزل عليه آية من ربه‏!‏ قل‏:‏ إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب‏.‏ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله‏.‏ ألا بذكر الله تطمئن القلوب‏}‏‏.‏‏.‏

* ‏{‏كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك‏.‏ وهم يكفرون بالرحمن‏.‏ قل‏:‏ هو ربي، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وإليه متاب‏}‏‏.‏‏.‏

* ‏{‏والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك، ومن الأحزاب من ينكر بعضه، قل‏:‏ إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به، إليه أدعو، وإليه مآب‏.‏ وكذلك أنزلناه حكماً عربياً‏.‏ ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق‏}‏‏.‏‏.‏

* ‏{‏وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب‏}‏‏.‏‏.‏

* ‏{‏ويقول الذين كفروا‏:‏ لست مرسلاً‏.‏ قل‏:‏ كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا نلمس في هذه الطائفة من الآيات التي أوردناها طبيعة المواجهة التي كان المشركون يتحدون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتحدون بها هذا القرآن؛ ثم دلالة هذا التحدي ودلالة التوجيه الرباني إزاءه على طبيعة الفترة التي نزلت فيها السورة من العهد المكي‏.‏

ومن اللمحات البارزة في التوجيه الرباني لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجهر في مواجهة الإعراض والتكذيب والتحدي وبطء الاستجابة ووعورة الطريق بالحق الذي معه كاملاً؛ وهو أنه لا إله إلا الله، ولا رب إلا الله، ولا معبود إلا الله، وأن الله هو الواحد القهار، وأن الناس مردودون إليه فإما إلى جنة وإما إلى نار‏.‏‏.‏ وهي مجموعة الحقائق التي كان ينكرها المشركون ويتحدونه فيها‏.‏‏.‏ وألا يتبع أهواءهم فيصانعها ويترضاها بكتمان شيء من هذا الحق أو تأجيل إعلانه‏!‏ مع تهديده بما ينتظره من الله لو اتبع أهواءهم في شيء من هذا من بعد ما جاءه من العلم‏!‏‏.‏‏.‏

وهذه اللمحة البارزة تكشف لأصحاب الدعوة إلى الله عن طبيعة منهج هذه الدعوة التي لا يجوز لهم الاجتهاد فيها‏!‏ وهي أن عليهم أن يجهروا بالحقائق الأساسية في هذا الدين، وألا يخفوا منها شيئاً، وألا يؤجلوا منها شيئاً‏.‏‏.‏ وفي مقدمة هذه الحقائق‏:‏ أنه لا ألوهية ولا ربوبية إلا لله‏.‏ ومن ثم فلا دينونة ولا طاعة ولا خضوع ولا اتباع إلا لله‏.‏‏.‏ فهذه الحقيقة الأساسية يجب أن تعلن أياً كانت المعارضة والتحدي؛ وأياً كان الإعراض من المكذبين والتولي؛ وأياً كانت وعورة الطريق وأخطارها كذلك‏.‏‏.‏ وليس من «الحكمة والموعظة الحسنة» إخفاء جانب من هذه الحقيقة أو تأجليه، لأن الطواغيت في الأرض يكرهونه أو يؤذون الذين يعلنونه‏!‏ أو يعرضون بسببه عن هذا الدين، أو يكيدون له وللدعاة إليه‏!‏ فهذا كله لا يجوز أن يجعل الدعاة إلى هذا الدين يكتمون شيئاً من حقائقه الأساسية أو يؤجلونه؛ ولا أن يبدأوا مثلاً من الشعائر والأخلاق والسلوك والتهذيب الروحي، متجنبين غضب طواغيت الأرض لو بدأوا من إعلان وحدانية الألوهية والربوبية، ومن ثم توحيد الدينونة والطاعة والخضوع والاتباع لله وحده‏!‏

إن هذا لهو منهج الحركة بهذه العقيدة كما أراده الله سبحانه؛ ومنهج الدعوة إلى الله كما سار بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بتوجيه من ربه‏.‏

‏.‏ فليس لداع إلى الله أن يتنكب هذا الطريق؛ وليس له أن ينهج غير ذلك المنهج‏.‏‏.‏ والله بعد ذلك متكفل بدينه، وهو حسب الدعاة إلى هذا الدين وكافيهم شر الطواغيت‏!‏

والمنهج القرآني في الدعوة يجمع بين الحديث عن كتاب الله المتلوّ وهو هذا القرآن وبين كتاب الكون المفتوح؛ ويجعل الكون بجملته مصدر إيحاء للكينونة البشرية؛ بما فيه من دلائل شاهدة بسلطان الله وتقديره وتدبيره‏.‏ كما يضم إلى هذين الكتابين سجل التاريخ البشري، وما يحفظه من دلائل ناطقة بالسلطان والتقدير والتدبير أيضاً‏.‏ ويواجه الكينونة البشرية بهذا كله ويأخذ عليها أقطارها جميعاً؛ وهو يخاطب حسها وقلبها وعقلها جميعاً‏!‏

وهذه السورة تحوي من النماذج الباهرة في عرض صفحات الكتاب الكوني عقب الكتاب القرآني في مواجهة الكينونة البشرية بجملتها‏.‏‏.‏ وهذه بعض هذه النماذج‏:‏

‏{‏المر‏.‏ تلك آيات الكتاب‏.‏ والذي أنزل إليك من ربك الحق، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏.‏‏}‏ ‏{‏الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها؛ ثم استوى على العرش؛ وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، يدبر الأمر، يفصل الآيات، لعلكم بلقاء ربكم توقنون‏.‏ وهو الذي مد الأرض، وجعل فيها رواسي وأنهاراً، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين، يغشي الليل النهار، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏.‏ وفي الأرض قطع متجاورات، وجنات من أعناب، وزرع، ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الأكل، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏}‏ يحشد السياق هذه المشاهد الكونية، ليحيل الكون كله شاهداً ناطقاً بسلطان الله سبحانه في الخلق والإنشاء، والتدبير‏.‏ ثم يعجّب من أمر قوم يرون هذه الشواهد كلها، ثم يستكثرون قضية البعث والنشأة الأخرى، ويكذبون بالوحي من أجل أنه يقرر هذه الحقيقة القريبة‏.‏‏.‏ القريبة في ظل تلك المشاهد العجيبة‏.‏‏.‏

‏{‏وإن تعجب فعجب قولهم‏:‏ أئذا كنا تراباً أئنا لفي خلق جديد‏؟‏ أولئك الذين كفروا بربهم، وأولئك الأغلال في أعناقهم، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏

يعرض هذه الصفحة من الوجود الكوني ليعجّب من أمر قوم يجادلون في الله ويشركون به، وهم يشاهدون آثار ربوبيته وقدرته وسلطانه، ودينونة الكون له، وتصريفه وتدبيره لأمر العباد فيه؛ وعجز كل من عداه سبحانه عن الخلق والتدبير والتقدير‏:‏

‏{‏وهم يجادلون في الله، وهو شديد المحال‏.‏ له دعوة الحق، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال‏.‏ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً، وظلالهم بالغدو والآصال‏.‏‏.‏ قل‏:‏ من رب السماوات والأرض‏؟‏ قل‏:‏ الله‏.‏ قل‏:‏ أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً‏؟‏ قل‏:‏ هل يستوي الأعمى والبصير‏؟‏ أم هل تستوي الظلمات والنور‏؟‏ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم‏؟‏ قل‏:‏ الله خالق كل شيء، وهو الواحد القهار‏}‏ وهكذا يستحيل الكون معرضاً باهراً لدلائل القدرة وموحيات الإيمان، يخاطب الفطرة بالمنطق الشامل العميق؛ ويخاطب الكينونة البشرية جملة، بكل ما فيها من قوى الإدراك الباطنة والظاهرة، في تناسق عجيب‏.‏

ثم يضيف إلى صفحات الكتاب الكوني، صفحات التاريخ الإنساني؛ ويعرض آثار القدرة والسلطان والهيمنة والقهر والتدبير في حياة الإنسان‏:‏

‏{‏ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات‏!‏‏}‏ ‏{‏الله يعلم ما تحمل كل أنثى، وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده بمقدار‏.‏ عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال‏.‏ سوآء منكم من أسر القول ومن جهر به، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له، وما لهم من دونه من وال‏}‏ * ‏{‏الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وفرحوا بالحياة الدنيا، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله، إن الله لا يخلف الميعاد‏.‏ ولقد استهزئ برسل من قبلك، فأمليت للذين كفروا، ثم أخذتهم، فكيف كان عقاب‏}‏‏.‏‏.‏

* ‏{‏أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها‏؟‏ والله يحكم لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب‏}‏‏.‏

* ‏{‏وقد مكر الذين من قبلهم، فلله المكر جميعاً، يعلم ما تكسب كل نفس، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار‏!‏‏}‏‏.‏

وهكذا يحشد المنهج القرآني هذه الشواهد والدلائل في التاريخ البشري؛ ويحيلها إلى مؤثرات وموحيات، تخاطب الكينونة البشرية بجملتها في تناسق واتساق‏.‏

ونقف من هذا الحشد على معلم من معالم هذا المنهج في الدعوة إلى الله على بصيرة دعوة تخاطب الكينونة البشرية بجملتها، ولا تخاطب فيها جانباً واحداً من قواها المدركة‏.‏‏.‏ جانب الفكر والذهن، أو جانب الإلهام والبصيرة، أو جانب الحس والشعور‏.‏‏.‏

وهذا القرآن ينبغي أن يكون هو كتاب هذه الدعوة، الذي يعتمد عليه الدعاة إلى الله، قبل الاتجاه إلى أي مصدر سواه‏.‏ والذي ينبغي لهم بعد ذلك أن يتعلموا منه كيف يدعون الناس، وكيف يوقظون القلوب الغافية، وكيف يحيون الأرواح الخامدة‏.‏

إن الذي أوحى بهذا القرآن هو الله، خالق هذا الأنسان، العليم بطبيعة تكوينه، الخبير بدروب نفسه ومنحنياتها‏.‏‏.‏ وكما أن الدعاة إلى الله يجب أن يتبعوا منهج الله في البدء بتقرير ألوهية الله سبحانه وربوبيته وحاكميته وسلطانه؛ فإنهم كذلك يجب أن يسلكوا إلى القلوب طريق هذا القرآن في تعريف الناس بربهم الحق على ذلك النحو كما تنتهي هذه القلوب إلى الدينونة لله وحده، والاعتراف بربوبيته المتفردة وسلطانه‏.‏‏.‏

ولتعريف الناس بربهم الحق، ونفي كل شبهة شرك، يعنى المنهج القرآني ببيان طبيعة الرسالة، وطبيعة الرسول‏.‏‏.‏ ذلك أن انحرافات كثيرة في التصور الاعتقادي جاءت لأهل الكتاب من قبل، من جراء الخلط بين طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة وبخاصة في العقائد النصرانية حيث خلعت على عيسى عليه السلام خصائص الألوهية وخصائص الربوبية؛ ودخل أتباع شتى الكنائس في متاهة من الخلافات العقيدية المذهبية بسبب ذلك الخلط المنافي للحقيقة‏.‏

ولم تكن عقائد النصارى وحدهم هي التي دخلت في تلك المتاهة؛ فقد خبطت شتى الوثنيات في ذلك التيه؛ وتصورت للنبوة صفات غامضة؛ بعضها يصل بين النبوة والسحر‏!‏ وبعضها يصل بين النبوة والتنبؤات الكشفية‏!‏ وبعضها يصل بين النبوة والجن والأرواح الخفية‏!‏

وكثير من هذه التصورات كان يخالج الوثنية العربية‏.‏‏.‏ من أجل هذا كان بعضهم يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينبئهم بالغيب‏!‏ وبعضهم كان يقترح أن يصنع لهم خوارق مادية معينة‏!‏ كما أنهم كانوا يرمونه صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر، وبأنه «مجنون» أي على صلة بالجن‏!‏ بعضهم كان يطلب أن يكون معه ملك‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخر هذه المقترحات والتحديات والاتهامات التي كانت متلبسة بالتصورات الوثنية عن طبيعة النبي وطبيعة النبوة‏!‏

ولقد جاء هذا القرآن ليجلي الحقيقة كاملة عن طبيعة النبوة وطبيعة النبي؛ وعن طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول؛ وعن حقيقة الألوهية المتمثلة في الله وحده سبحانه وحقيقة العبودية التي تشمل كل ما خلق الله وكل من خلق؛ ومنهم أنبياء الله ورسله؛ فهم عباد صالحون؛ وليسوا خلقاً آخر غير البشر؛ وليس لهم من خصائص الألوهية شيء؛ وليسوا على اتصال بعوالم الجن والخفاء المسحور‏!‏ إنما هو الوحي من الله سبحانه وليس لهم وراءه شيء من القدرة على الخوارق إلا بإذن الله حين يشاء فهم بشر من البشر، وقع عليهم الاختيار، وبقيت لهم بشريتهم وعبوديتهم لله سبحانه كبقية خلق الله‏.‏

وفي هذه السورة نماذج من تجلية طبيعة النبوة والرسالة؛ وحدود النبي والرسول؛ وتخليص العقول والأفكار من رواسب الوثنيات كلها؛ وتحريرها من تلك الأساطير التي أفسدت عقائد أهل الكتاب من قبل؛ وردتها إلى الوثنية بأوهامها وأساطيرها‏!‏

وقد كانت تلك التجلية تواجه تحديات المشركين الواقعية؛ ولم تكن جدلاً ذهنياً، ولا بحثاً فلسفياً «ميتافيزيقياً»‏.‏‏.‏‏.‏ كانت «حركة» تواجه «الواقع» وتجاهده مجاهدة واقعية‏:‏

‏{‏ويقول الذين كفروا‏:‏ لولا أنزل عليه آية من ربه‏!‏ إنما أنت منذر، ولكل قوم هاد‏}‏ * ‏{‏ويقول الذين كفروا‏:‏ لولا أنزل عليه آية من ربه‏!‏ قل‏:‏ إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب‏}‏‏.‏‏.‏ * ‏{‏كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك، وهم يكفرون بالرحمن، قل‏:‏ هو ربي، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وإليه متاب‏}‏‏.‏‏.‏

* ‏{‏ولقد أرسلنا رسلا من قبلك، وجعلنا لهم أزواجاً وذرية، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله، لكل أجل كتاب‏}‏‏.‏‏.‏

* ‏{‏وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا تتجلى طبيعة الرسالة وحدود الرسول‏.‏‏.‏ إنما هو منذر، ليس عليه إلا البلاغ وليس له إلا أن يتلو ما أوحي إليه، وما كان له أن يأتي بخارقة إلا بإذن لله‏.‏ ثم هو عبد لله، الله ربه، وإليه متابه ومآبه؛ وهو بشر من البشر يتزوج وينسل؛ ويزاول بشريته كاملة بكل مقتضيات البشرية؛ كما يزاول عبوديته لله كاملة بكل مقتضيات العبودية‏.‏‏.‏

وبهذه النصاعة الكاملة في العقيدة الإسلامية تنتهي تلك الأوهام والأساطير المهِّومة في الفضاء والظلام، حول طبيعة النبوة وطبيعة النبي، وتخلص العقيدة من تلك التصورات المحيرة التي حفلت بها العقائد الكنسية كما حفلت بها شتى العقائد الوثنية؛ والتي قضت على «المسيحية» منذ القرن الأول لها أن تكون إحدى العقائد الوثنية في طبيعتها وحقيقتها، بعد ما كانت عقيدة سماوية على يد المسيح عليه السلام؛ تجعل المسيح عبداً لله؛ لا يأتي بآية إلا بإذن الله‏.‏

ولا ننتهي من هذه الوقفة قبل أن نلم بتلك اللفته البارزة في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب‏}‏‏.‏‏.‏

إن هذا القول إنما يقال للنبي صلى الله عليه وسلم الرسول الذي أوحي إليه من ربه‏.‏

وكلف مخاطبة الناس بهذه العقيدة‏.‏‏.‏ وخلاصة هذا القول‏:‏ إن أمر هذا الدين ليس إليه هو، ومآل هذه الدعوة ليس من اختصاصه‏!‏ إنما عليه البلاغ وليس عليه هداية الناس‏.‏ فالله وحده هو الذي يملك الهداية‏.‏ سواء حقق الله بعض وعده له من مصير القوم أو أدركه الأجل قبل تحقيق وعد الله، فهذا أو ذاك لا يغير من طبيعة مهمته‏.‏‏.‏ البلاغ‏.‏‏.‏ وحسابهم بعد ذلك على الله‏.‏‏.‏ وليس بعد هذا تجريد لطبيعة الداعية وتحديد لمهمته‏.‏ فواجبه محدد، والأمر كله في هذه الدعوة وفي كل شيء آخر لله‏.‏

بذلك يتعلم الدعاة إلى الله أن يتأدبوا في حق الله‏!‏ إنه ليس لهم أن يستعجلوا النتائج والمصائر‏.‏‏.‏ ليس لهم أن يستعجلوا هداية الناس، ولا أن يستعجلوا وعد الله ووعيده للمهتدين وللمكذبين‏.‏‏.‏ ليس لهم أن يقولوا‏:‏ لقد دعونا كثيراً فلم يستجب لنا إلا القليل؛ أو لقد صبرنا طويلاً فلم يأخذ الله الظالمين بظلمهم ونحن أحياء‏!‏‏.‏‏.‏ إنْ عليهم البلاغ‏.‏‏.‏ أما حساب الناس في الدنيا أو في الآخرة فهذا ليس من شأن العبيد‏.‏ إنما هو من شأن الله‏!‏ فينبغي تأدباً في حق الله واعترافاً بالعبودية له أن يترك له سبحانه، يفعل فيه ما يشاء ويختار‏.‏‏.‏

والسورة مكية‏.‏‏.‏ من أجل ذلك تحدد فيها وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم «بالبلاغ»‏.‏‏.‏ ذلك أن «الجهاد» لم يكن بعد قد كتب‏.‏ فأما بعد ذلك فقد أمر بالجهاد بعد البلاغ وهذا ما تنبغي ملاحظته في الطبيعة الحركية لهذا الدين‏.‏ فالنصوص فيه نصوص حركية؛ مواكبه لحركة الدعوة وواقعها؛ وموجهة كذلك لحركة الدعوة وواقعها‏.‏‏.‏ وهذا ما تغفل عنه كثرة «الباحثين» في هذا الدين في هذا الزمان‏.‏ وهم يزاولون «البحث» ولا يزاولون «الحركة» فلا يدركون من ثم مواقع النصوص القرآنية، وارتباطها بالواقع الحركي لهذا الدين‏!‏

وكثيرون يقرأون مثل هذا النص‏:‏ ‏{‏إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب‏}‏ ثم يأخذون منه أن مهمة الدعاة إلى الله تنتهي عند البلاغ‏.‏ فإذا قاموا «بالتبليغ» فقد أدوا ما عليهم‏!‏‏.‏‏.‏ أما «الجهاد»‏!‏ فلا أدري والله أين مكانه في تصور هؤلاء‏!‏

كما أن كثيرين يقرأون مثل هذا النص، فلا يلغون به الجهاد، ولكن يقيدونه‏!‏‏.‏‏.‏ دون أن يفطنوا إلى أن هذا نص مكي نزل قبل فرض الجهاد‏.‏ ودون أن يدركوا طبيعة ارتباط النصوص القرآنية بحركة الدعوة الإسلامية‏.‏ ذلك أنهم هم لا يزاولون الحركة بهذا الدين؛ إنما هم يقرأونه في الأوراق وهم قاعدون‏!‏ وهذا الدين لا يفقهه القاعدون‏.‏ فما هو بدين القاعدين‏!‏

على أن «البلاغ» يظل هو قاعدة عمل الرسول، وقاعدة عمل الدعاة بعده إلى هذا الدين‏.‏

وهذا البلاغ هو أول مراتب الجهاد‏.‏ فإنه متى صح، واتجه إلى تبليغ الحقائق الأساسية في هذا الدين قبل الحقائق الفرعية‏.‏‏.‏ أي متى اتجه إلى تقرير الألوهية والربوبية والحاكمية لله وحده منذ الخطوة الأولى؛ واتجه إلى تعبيد الناس لله وحده، وقصر دينونتهم عليه وخلع الدينونة لغيره‏.‏‏.‏ فإن الجاهلية لا بد أن تواجه الدعاة إلى الله، المبلغين التبليغ الصحيح، بالإعراض والتحدي، ثم بالإيذاء والمكافحة‏.‏‏.‏ ومن ثم تجئ مرحلة الجهاد في حينها، نتاجاً طبيعياً للتبليغ الصحيح لا محالة ‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين، وكفى بربك هادياً ونصيراً‏}‏ هذا هو الطريق‏.‏‏.‏ وليس هنالك غيره من طريق‏!‏

ثم نقف من السورة أمام معلم آخر، وهي تقرر كلمة الفصل في العلاقة بين اتجاه «الإنسان» وحركته وبين تحديد مآله ومصيره؛ وتقرير أن مشيئة الله به إنما تتحقق من خلال حركته بنفسه؛ وذلك مع تقرير أن كل حدث إنما يقع ويتحقق بقدر من الله خاص‏.‏‏.‏ ومجموعة النصوص الخاصة بهذا الموضوع في السورة كافية بذاتها لجلاء النظرة الإسلامية في هذه القضية الخطيرة‏.‏‏.‏ وهذه نماذج منها كافية‏:‏

* ‏{‏إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له، وما لهم من دونه من وال‏}‏‏.‏‏.‏

* ‏{‏للذين استجابوا لربهم الحسنى، والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به، أولئك لهم سوء الحساب، ومأواهم جهنم وبئس المهاد‏}‏‏.‏‏.‏

* ‏{‏قل‏:‏ إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب‏.‏ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب‏}‏‏.‏‏.‏

* ‏{‏أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً‏؟‏‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

* ‏{‏بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل، ومن يضلل الله فما له من هاد‏}‏‏.‏‏.‏

وواضح من النص الأول من هذه النصوص أن مشيئة الله في تغيير حال قوم إنما تجري وتنفذ من خلال حركة هؤلاء القوم بأنفسهم، وتغيير اتجاهها وسلوكها تغييراً شعورياً وعملياً‏.‏ فإذا غير القوم ما بأنفسهم اتجاهاً وعملاً غير الله حالهم وفق ما غيروا هم من أنفسهم‏.‏‏.‏ فإذا اقتضى حالهم أن يريد الله بهم السوء مضت إرادته ولم يقف لها أحد، ولم يعصمهم من الله شيء، ولم يجدوا لهم من دونه ولياً ولا نصيراً‏.‏

فأما إذا هم استجابوا لربهم، وغيروا ما بأنفسهم بهذه الاستجابة، فإن الله يريد بهم الحسنى، ويحقق لهم هذه الحسنى في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما جميعاً، فإذا لم يستجيبوا أراد بهم السوء، وكان لهم سوء الحساب، ولم تغن عنهم فدية إذا جاءوه غير مستجيبين يوم الحساب‏!‏

وواضح من النص الثاني أن الاستجابة أو عدم الاستجابة راجعة إلى اتجاههم وحركتهم؛ وأن مشيئة الله بهم إنما تتحقق من خلال هذه الحركة وذلك الاتجاه‏.‏

أما النص الثالث فإن مطلعه يتحدث عن طلاقة مشيئة الله في إضلال من يشاء‏.‏ ولكن عقب النص‏:‏ ‏{‏ويهدي إليه من أناب‏.‏‏.‏ الخ‏}‏ يقرر أن الله سبحانه يقضي بالهدى لمن ينيب إليه؛ فيدل هذا على أنه إنما يضل من لا ينيب ومن لا يستجيب، ولا يضل منيباً ولا مستجيباً‏.‏ وذلك وفق وعده سبحانه في قوله‏:‏ ‏{‏والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا‏}‏ فهذه الهداية وذلك الإضلال هما مقتضى مشيئته سبحانه بالعباد‏.‏ هذه المشيئة التي تجري وتتحقق من خلال تغيير العباد ما بأنفسهم، والاتجاه إلى الاستجابة أو الإعراض‏.‏

والنص الرابع يقرر أن الله لو شاء لهدى الناس جميعاً‏.‏‏.‏ وفي ظل مجموع النصوص يتضح أن المقصود هو أنه لو شاء سبحانه لخلق الناس باستعداد واحد للهدى، أو لقهرهم على الهدى‏.‏ ولكنه سبحانه شاء أن يخلقهم كما خلقهم مستعدين للهدى أو للضلال؛ ولم يشأ بعد ذلك أن يقهرهم على الهدى ولا أن يقهرهم على الضلال حاشاه‏!‏ إنما جعل مشيئته بهم تجري من خلال استجابتهم أو عدم استجابتهم لدلائل الهدى وموحيات الإيمان‏.‏

أما النص الخامس فيقرر أن الذين كفروا زُين لهم مكرهم وصُدوا عن السبيل‏.‏‏.‏ وأخذ أمثال هذا النص بمفرده هو الذي ساق إلى الجدل المعروف في تاريخ الفكر الإسلامي حول الجبر والاختيار‏.‏‏.‏ أما أخذه مع مجموعة النصوص كما رأينا فإنه يعطي التصور الشامل‏:‏ وهو أن هذا التزيين وهذا الصد عن السبيل، إنما كان من جراء الكفر وعدم الاستجابة لله‏.‏ أي من جراء تغيير الكفار ما بأنفسهم إلى ما يقتضي أن تجري مشيئة الله فيهم بالتزيين والصد والإضلال‏.‏

وتبقى تكملة لا بد منها لجلاء هذا الموضوع الذي كثر فيه الجدل في جميع الملل‏.‏‏.‏ ذلك أن اتجاه الناس بأنفسهم لا يوقع بذاته مصائرهم‏.‏ فهذه المصائر أحداث لا ينشئها إلا قدر الله؛ وكل حادث في هذا الكون إنما ينشأ ويقع ويتحقق بقدر من الله خاص؛ تتحقق به إرادته وتتم به مشيئته‏:‏ ‏{‏إنا كل شيء خلقناه بقدر‏}‏ وليست هنالك آلية في نظام الكون كله، ولا حتمية أسباب تنشئ بذاتها آثاراً‏.‏ فالسبب كالأثر كلاهما مخلوق بقدر‏.‏‏.‏ وكل ما يصنعه اتجاه الناس بأنفسهم هو أن تجري مشيئة الله بهم من خلال هذا الاتجاه، أما جريان هذه المشيئة وآثاره الواقعية فإنما يتحقق بقدر من الله خاص بكل حادث‏:‏ ‏{‏وكل شيء عنده بمقدار‏}‏ وهذا التصور كما أسلفنا عند مواجهة النص في سياق السورة يزيد من ضخامة التبعة الملقاة على هذا الكائن الإنساني؛ بقدر ما يجلو من كرامته في نظام الكون كله‏.‏ فهو وحده المخلوق الذي تجري مشيئة الله به من خلال اتجاهه وحركته‏.‏

‏.‏ وما أثقلها من تبعة‏!‏ وما أعظمها كذلك من كرامة‏!‏

وفي السورة كلمة الفصل كذلك في دلالة الكفر وعدم الاستجابة لهذا الحق الذي جاء به هذا الدين، على فساد الكينونة البشرية، وتعطل أجهزة الاستقبال الفطرية فيها، واختلال طبيعتها وخروجها عن سوائها‏.‏ فما يمكن أن تكون هناك بنية إنسانية سوية، غير مطموسة ولا معطلة ولا مشوهة؛ ثم يعرض عليها هذا الحق، ويبين لها بالصورة التي بينها المنهج القرآني؛ ثم لا تستجيب لهذا الحق بالإيمان والإسلام‏.‏ والفطرة الإنسانية بطبيعتها مصطلحة على هذا الحق في أعماقها؛ فإذا صُدت عنه فإنما يصدها صاحبها لآفة تجعله يختار لنفسه غير هذا الهدى؛ وتجعله بذلك مستحقاً للضلال، ومستحقاً للعذاب، كما قال الله سبحانه في السورة الأخرى؛ ‏{‏سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‏}‏ وفي هذه السورة ترد أمثال هذه الآيات الدالة على طبيعة الكفر فتقرر أنه عمىً وانطماس بصيرة، وأن الهدى دلالة على سلامة الكينونة البشرية من هذا العمى، ودلالة على سلامة القوى المدركة فيها؛ وأن في صفحة هذا الكون من الدلائل ما يبين عن الحق لمن يتفكرون ولمن يعقلون‏:‏

* ‏{‏أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى‏؟‏ إنما يتذكر أولوا الألباب‏.‏ الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب‏.‏ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم، وأقاموا الصلاة، وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية، ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

* ‏{‏ويقول الذين كفروا‏:‏ لولا أنزل عليه آية من ربه‏!‏ قل‏:‏ إن الله يضل من يشاء، ويهدي إليه من أناب‏.‏ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب‏.‏ الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين‏.‏ يغشي الليل النهار، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏.‏ وفي الأرض قطع متجاورات، وجنات من أعناب، وزرع، ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏}‏ وهكذا يتقرر أن الذين لا يستجيبون لهذا الحق هم بشهادة الله سبحانه عُمْي‏.‏ وأنهم لا يتفكرون ولا يعقلون‏.‏ وأن الذين يستجيبون له هم أولو الألباب، وهؤلاء تطمئن قلوبهم بذكر الله، وتتصل بما هي عارفة له ومصطلحة عليه بفطرتها العميقة، فتسكن وتستريح‏.‏

وإن الإنسان ليجد مصداق قول الله هذا في كل من يلقاه من الناس معرضاً عن هذا الحق الذي تضمنه دين الله، والذي جاء به في صورته الكاملة محمد رسول الله‏.‏

‏.‏ فإن هي إلا جبلات مؤوفة مطموسة‏.‏ وإن هي إلا كينونات معطلة في أهم جوانبها بحيث لا تتلقى إيقاعات هذا الوجود كله من حولها، وهو يسبح بحمد ربه؛ وينطق بوحدانيته وقدرته وتدبيره وتقديره‏.‏

وإذا كان الذين لا يؤمنون بهذا الحق عُمياً بشهادة الله سبحانه فإنه لا ينبغي لمسلم يزعم أنه يؤمن برسول الله، ويؤمن بأن هذا القرآن وحي من عند الله‏.‏‏.‏ لا ينبغي لمسلم يزعم هذا الزعم أن يتلقى في شأن من شؤون الحياة عن أعمى‏!‏ وبخاصة إذا كان هذا الشأن متعلقاً بالنظام الذي يحكم حياة الإنسان؛ أو بالقيم والموازين التي تقوم عليها حياته؛ أو بالعادات والسلوك والتقاليد والآداب التي تسود مجتمعه‏.‏‏.‏

وهذا هو موقفنا من نتاج الفكر غير الإسلامي بجملته فيما عدا المادية البحته وتطبيقاتها العملية مما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «أنتم أعلم بشؤون دنياكم» فإنه ما ينبغي قط لمسلم يعرف هدى الله ويعرف هذا الحق الذي جاء به رسول الله، أن يقعد مقعد التلميذ الذي يتلقى من أي إنسان لم يستجب لهذا الهدى ولم يعلم أنه الحق‏.‏‏.‏ فهو أعمى بشهادة الله سبحانه‏.‏‏.‏ ولن يرد شهادة الله مسلم‏.‏‏.‏ ثم يزعم بعد ذلك أنه مسلم‏!‏‏!‏‏!‏

إنه لا بد لنا أن نأخذ هذا الدين مأخذ الجد؛ وأن نأخذ تقريراته هذه مأخذ الجزم‏.‏‏.‏ وكل تميع في مثل هذه القضية هو تميع في العقيدة ذاتها؛ إن لم يكن هو رد شهادة الله سبحانه وهو الكفر البواح في هذه الصورة‏!‏

وأعجب العجب أن ناساً من الناس اليوم يزعمون أنهم مسلمون؛ ثم يأخذون في منهج الحياة البشرية عن فلان وفلان من الذين يقول عنهم الله سبحانه‏:‏ إنهم عمي‏.‏ ثم يظلون يزعمون بعد ذلك أنهم مسلمون‏!‏

إن هذا الدين جد لا يحتمل الهزل، وجزم لا يحتمل التميع، وحق في كل نص فيه وفي كل كلمة‏.‏‏.‏ فمن لم يجد في نفسه هذا الجد وهذا الجزم وهذه الثقة فما أغنى هذا الدين عنه‏.‏ والله غني عن العالمين‏!‏

وما يجوز أن يثقل الواقع الجاهلي على حس مسلم، حتى يتلقى من الجاهلية في منهج حياته؛ وهو يعلم أن ما جاءه به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق؛ وأن الذي لا يعلم أن هذا هو الحق ‏{‏أعمى‏}‏‏.‏ ثم يتبع هذا الأعمى، ويتلقى عنه، بعد شهادة الله سبحانه وتعالى‏.‏‏.‏

وأخيراً نقف أمام المعلم الأخير من المعالم التي تقيمها هذه السورة لهذا الدين‏.‏‏.‏

إن هناك علاقة وثيقة بين الفساد الذي يصيب حياة البشر في هذه الأرض وبين ذلك العمى عن الحق الذي جاء من عند الله لهداية البشر إلى الحق والصلاح والخير‏.‏

فالذين لا يستجيبون لعهد الله على الفطرة، ولا يستجيبون للحق الذي جاء من عنده ويعلمون أنه وحده الحق‏.‏‏.‏ هم الذين يفسدون في الأرض؛ كما أن الذين يعلمون أنه الحق ويستجيبون له هم الذين يصلحون في الأرض، وتزكو بهم الحياة‏:‏

* ‏{‏أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى‏؟‏ إنما يتذكر أولوا الألباب‏.‏ الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق‏.‏ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب‏.‏ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم، وأقاموا الصلاة، وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية، ويدرأون بالحسنة السيئة، أولئك لهم عقبى الدار‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

* ‏{‏والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض، أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار‏}‏‏.‏‏.‏

إن حياة الناس لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق‏.‏ ومن ثم يوفون بعهد الله على الفطرة، وبعهد الله على آدم وذريته، أن يعبدوه وحده، فيدينوا له وحده، ولا يتلقوا عن غيره، ولا يتبعوا إلا أمره ونهيه‏.‏ ومن ثم يصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويخشون ربهم فيخافون أن يقع منهم ما نهى عنه وما يغضبه؛ ويخافون سوء الحساب، فيجعلون الآخرة في حسابهم في كل حركة؛ ويصبرون على الاستقامة على عهد الله ذاك بكل تكاليف الاستقامة؛ ويقيمون الصلاة؛ وينفقون مما رزقهم الله سراً وعلانية؛ ويدفعون السوء والفساد في الأرض بالصلاح والإحسان‏.‏‏.‏

إن حياة الناس في الأرض لا تصلح إلا بمثل هذه القيادة المبصرة؛ التي تسير على هدى الله وحده؛ والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه‏.‏‏.‏ إنها لا تصلح بالقيادات الضالة العمياء، التي لا تعلم أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وحده؛ والتي تتبع من ثم مناهج أخرى غير منهج الله الذي ارتضاه للصالحين من عباده‏.‏‏.‏ إنها لا تصلح بالإقطاع والرأسمالية، كما أنها لا تصلح بالشيوعية والاشتراكية العلمية‏!‏‏.‏‏.‏ إنها كلها من مناهج العُمْي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو وحده الحق، الذي لا يجوز العدول عنه، ولا التعديل فيه‏.‏‏.‏ إنها لا تصلح بالثيوقراطية كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديمقراطية‏!‏ فكلها سواء في كونها من مناهج العُمي، الذين يقيمون من أنفسهم أرباباً من دون الله، تضع هي مناهج الحكم ومناهج الحياة، وتشرع للناس ما لم يأذن به الله؛ وتعبدهم لما تشرع، فتجعل دينونتهم لغير الله‏.‏

وآية هذا الذي نقوله استمداداً من النص القرآني هو هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض اليوم في جاهلية القرن العشرين‏.‏ وهو هذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها‏.‏‏.‏ سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية، وأوضاع الشيوعية والاشتراكية العلمية‏!‏‏.‏‏.‏ وسواء في ذلك أشكال الديكتاتورية في الحكم أو الديمقراطية‏!‏ إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد ومن تحلل ومن شقاء ومن قلق‏.‏‏.‏ لأنها كلها سواء من صنع العُمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده؛ ولا تلتزم من ثم بعهد الله وشرعه؛ ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه‏.‏

إن المسلم يرفض بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق كل منهج للحياة غير منهج الله؛ وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي؛ وكل وضع كذلك سياسي؛ غير المنهج الوحيد، والمذهب الوحيد، والشرع الوحيد الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من عباده‏.‏

ومجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله؛ فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه‏.‏

إن هذا الاعتراف فوق أنه يخالف بالضرورة مفهوم الإسلام الأساسي، فهو في الوقت ذاته يسلم الخلافة في هذه الأرض للعُمي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض‏.‏‏.‏ فهذا الفساد في الأرض مرتبط كل الارتباط بقيادة العُمي‏!‏‏.‏‏.‏

ولقد شقيت البشرية في تاريخها كله؛ وهي تتخبط بين شتى المناهج وشتى الأوضاع وشتى الشرائع بقيادة أولئك العُمي، الذين يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين على مدار القرون‏.‏ فلم تسعد قط؛ ولم ترتفع «إنسانيتها» قط، ولم تكن في مستوى الخلافة عن الله في الأرض قط، إلا في ظلال المنهج الرباني في الفترات التي فاءت فيها إلى ذلك المنهج القويم‏.‏

هذه بعض المعالم البارزة في هذه السورة، وقفنا عندها هذه الوقفات التي لا تبلغ مداها، ولكنها تشير إليها‏.‏

والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله‏.‏‏.‏