فصل: تفسير الآيات رقم (47- 59)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 59‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏47‏)‏ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ‏(‏48‏)‏ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ‏(‏49‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ‏(‏50‏)‏ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ‏(‏51‏)‏ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ‏(‏52‏)‏ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ‏(‏53‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ‏(‏54‏)‏ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ‏(‏55‏)‏ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ‏(‏56‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏57‏)‏ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ‏(‏58‏)‏ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

انتهى الدرس السابق بالحديث عن الباقيات الصالحات؛ فهنا يصله بوصف اليوم الذي يكون للباقيات الصالحات وزن فيه وحساب، يعرضه في مشهد من مشاهد القيامة‏.‏ ويتبعه في السياق بإشارة إلى ما كان من إبليس يوم أمر بالسجود لآدم ففسق عن أمر ربه للتعجيب من ابناء آدم الذين يتخذون الشياطين أولياء، وقد علموا أنهم لهم أعداء، وبذلك ينتهون إلى العذاب في يوم الحساب‏.‏ ويعرج على الشركاء الذين لا يستجيبون لعبادهم في ذلك اليوم الموعود‏.‏

هذا وقد صرف الله في القرآن الأمثال للناس ليقوا أنفسهم شر ذلك اليوم، ولكنهم لم يؤمنوا، وطلبوا أن يحل بهم العذاب أو أن يأتيهم الهلاك الذي نزل بالأمم قبلهم‏.‏ وجادلوا بالباطل ليغلبوا به الحق، واستهزأوا بآيات الله ورسله‏.‏ ولولا رحمة الله لعجل لهم العذاب‏.‏‏.‏

هذا الشوط من مشاهد القيامة، ومن مصارع المكذبين يرتبط بمحور السورة الأصيل في تصحيح العقيدة، وبيان ما ينتظر المكذبين، لعلهم يهتدون‏.‏

‏{‏ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة، وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً‏.‏ وعرضوا على ربك صفاً‏.‏ لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة، بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً‏.‏ ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه؛ ويقولون‏:‏ يا ويلتنا‏!‏ مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها‏؟‏ ووجدوا ما عملوا حاضراً، ولا يظلم ربك أحداً‏}‏‏.‏

إنه مشهد تشترك فيه الطبيعة ويرتسم الهول فيه على صفحاتها وعلى صفحات القلوب‏.‏ مشهد تتحرك فيه الجبال الراسخة فتسير، فكيف بالقلوب، وتتبدى فيه الأرض عارية، وتبرز فيه صفحتها مكشوفة لا نجاد فيها ولا وهاد، ولا جبال فيها ولا وديان‏.‏ وكذلك تتكشف خبايا القلوب فلا تخفى منها خافية‏.‏

ومن هذه الأرض المستوية المكشوفة التي لا تخبئ شيئاً، ولا تخفي أحداً‏:‏ ‏{‏وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً‏}‏‏.‏

ومن الحشر الجامع الذي لا يخلف أحداً إلى العرض الشامل‏:‏ ‏{‏وعرضوا على ربك صفاً‏}‏‏.‏‏.‏ هذه الخلائق التي لا يحصى لها عدد، منذ أن قامت البشرية على ظهر هذه الأرض إلى نهاية الحياة‏.‏‏.‏ هذه الخلائق كلها محشورة مجموعة مصفوفة، لم يتخلف منها أحد، فالأرض مكشوفة مستوية لا تخفي أحداً‏.‏

وهنا يتحول السياق من الوصف إلى الخطاب‏.‏ فكأنما المشهد حاضر اللحظة، شاخص نراه ونسمع ما يدور فيه‏.‏ ونرى الخزي على وجوه القوم الذين كذبوا بذلك الموقف وأنكروه‏:‏ ‏{‏لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة‏.‏ بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً‏}‏‏.‏

هذا الالتفات من الوصف إلى الخطاب يحيي المشهد ويجسمه‏.‏ كأنما هو حاضر اللحظة، لا مستقبل في ضمير الغيب في يوم الحساب‏.‏

وإننا لنكاد نلمح الخزي على الوجوه، والذل في الملامح‏.‏

وصوت الجلالة الرهيب يجبه هؤلاء المجرمين بالتأنيب‏:‏ ‏{‏ولقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة‏}‏ وكنتم تزعمون أن ذلك لن يكون‏:‏ ‏{‏بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً‏}‏ ‏!‏

وبعد إحياء المشهد واستحضاره بهذا الالتفات من الوصف إلى الخطاب يعود إلى وصف ما هناك‏:‏

‏{‏ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه‏}‏ فهذا هو سجل أعمالهم يوضع أمامهم، وهم يتملونه ويراجعونه، فإذا هو شامل دقيق‏.‏ وهم خائفون من العاقبة ضيقو الصدور بهذا الكتاب الذي لا يترك شاردة ولا واردة، ولا تند عنه كبيرة ولا صغيرة‏:‏ ‏{‏يقولون‏:‏ يا ويلتنا‏.‏ مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، إلا أحصاها‏؟‏‏}‏ وهي قولة المحسور المغيظ الخائف المتوقع لأسوأ العواقب، وقد ضبط مكشوفاً لا يملك تفلتا ولا هرباً، ولا مغالطة ولا مداورة‏:‏ ‏{‏ووجدوا ما عملوا حاضراً‏}‏ ولاقوا جزاء عادلاً‏:‏ ‏{‏ولا يظلم ربك أحداً‏}‏‏.‏‏.‏

هؤلاء المجرمون الذين وقفوا ذلك الموقف كانوا يعرفون أن الشيطان عدو لهم، ولكنهم تولوه فقادهم إلى ذلك الموقف العصيب‏.‏ فما أعجب أن يتولوا إبليس وذريته وهم لهم عدو منذ ما كان بين آدم وإبليس‏:‏

‏{‏وإذا قلنا للملائكة‏:‏ اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه‏.‏ أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني، وهم لكم عدو، بئس للظالمين بدلاً‏}‏‏.‏

وهذه الإشارة إلى تلك القصة القديمة تجيء هنا للتعجيب من أبناء آدم الذين يتخذون ذرية إبليس أولياء من دون الله بعد ذلك العداء القديم‏.‏

واتخاذ إبليس وذريته أولياء يتمثل في تلبية دواعي المعصية والتولي عن دواعي الطاعة‏.‏

ولماذا يتولون أعداءهم هؤلاء، وليس لديهم علم ولا لهم قوة‏.‏ فالله لم يشهدهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم فيطلعهم على غيبه‏.‏ والله لا يتخذهم عضداً فتكون لهم قوة‏:‏

‏{‏ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم، وما كنت متخذ المضلين عضداً‏}‏‏.‏‏.‏

إنما هو خلق من خلق الله، لا يعلمون غيبه، ولا يستعين بهم سبحانه‏.‏‏.‏

‏{‏وما كنت متخذ المضلين عضداً‏}‏ فهل يتخذ الله سبحانه غير المضلين عضداً‏؟‏

وتعالى الله الغني عن العالمين، ذو القوة المتين‏.‏‏.‏ إنما هو تعبير فيه مجاراة لأوهام المشركين لتتبعها واستئصالها‏.‏ فالذين يتولون الشيطان ويشركون به مع الله، إنما يسلكون هذا المسلك توهماً منهم أن للشيطان علماً خفياً، وقوة خارقة‏.‏ والشيطان مضل، والله يكره الضلال والمضلين‏.‏ فلو أنه على سبيل الفرض والجدل كان متخذاً له مساعدين، لما اختارهم من المضلين‏!‏

وهذا هو الظل الذي يراد أن يلقيه التعبير‏.‏‏.‏

ثم يعرض مشهد من مشاهد القيامة يكشف عن مصير الشركاء ومصير المجرمين‏:‏

‏{‏ويوم يقول‏:‏ نادوا شركائي الذين زعمتم‏.‏ فدعوهم فلم يستجيبوا لهم‏.‏ وجعلنا بينهم موبقا‏.‏ ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها، ولم يجدوا عنها مصرفاً‏}‏‏.‏

إنهم في الموقف الذي لا تجدي فيه دعوى بلا برهان‏.‏ والديان يطالبهم أن يأتوا بشركائهم الذين زعموا، ويأمرهم أن يدعوهم ليحضروا‏.‏‏.‏ وإنهم لفي ذهول ينسون انها الآخرة، فينادون‏.‏ لكن الشركاء لا يجيبون‏!‏ وهم بعض خلق الله الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئاً في الموقف المرهوب‏.‏ وقد جعل الله بين المعبودين وعبادهم مهلكة لا يجتازها هؤلاء ولا هؤلاء‏.‏‏.‏ إنها النار ‏{‏وجعلنا بينهم موبقاً‏}‏‏.‏

ويتطلع المجرمون، فتمتلئ نفوسهم بالخوف والهلع، وهم يتوقعون في كل لحظة أن يقعوا فيها‏.‏ وما أشق توقع العذاب وهو حاضر، وقد أيقنوا أن لا نجاة منها ولا محيص‏:‏

‏{‏ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها، ولم يجدوا عنها مصرفاً‏}‏‏.‏

ولقد كان لهم عنها مصرف، لو أنهم صرفوا قلوبهم من قبل للقرآن، ولم يجادلوا في الحق الذي جاء به، وقد ضرب الله لهم فيه الأمثال ونوعها لتشمل جيمع الأحوال‏:‏

‏{‏ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل، وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً‏}‏‏.‏‏.‏

ويعبر السياق عن الإنسان في هذا المقام بانه ‏{‏شيء‏}‏ وأنه أكثر شيء جدلا‏.‏ ذلك كي يطامن الإنسان من كبريائه، ويقلل من غروره، ويشعر أنه خلق من مخلوقات الله الكثيرة‏.‏ وأنه أكثر هذه الخلائق جدلاً‏.‏ بعد ما صرف الله في هذا القرآن من كل مثل‏.‏

ثم يعرض الشبهة التي تعلق بها من لم يؤمنوا وهم كثرة الناس على مدار الزمان والرسالات‏:‏

‏{‏وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين، أو يأتيهم العذاب قبلاً‏}‏‏.‏‏.‏

فلقد جاءهم من الهدى ما يكفي للاهتداء‏.‏‏.‏ ولكنهم كانوا يطلبون أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم من هلاك استبعاداً لوقوعه واستهزاء أو أن يأتيهم العذاب مواجهة يرون أنه سيقع بهم‏.‏ وعندئذ فقط يوقنون فيؤمنون‏!‏

وليس هذا أو ذاك من شأن الرسل‏.‏ فأخذ المكذبين بالهلاك كما جرت سنة الله في الأولين بعد مجيء الخوارق وتكذيبهم بها أو إرسال العذاب‏.‏‏.‏ كله من أمر الله‏.‏ أما الرسل فهم مبشرون ومنذرون‏:‏

‏{‏وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين‏.‏ ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق‏.‏ واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا‏}‏‏.‏

والحق واضح‏.‏ ولكن الذين كفروا يجادلون بالباطل ليغلبوا به الحق ويبطلوه‏.‏ وهم حين يبطلون الخوارق، ويستعجلون بالعذاب لا يبتغون اقتناعاً، إنما هم يستهزئون بالآيات والنذر ويسخرون‏.‏

‏{‏ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه‏.‏ إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً، وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً‏}‏‏.‏‏.‏

فهؤلاء الذين يستهزئون بآيات الله ونذره لا يرجى منهم أن يفقهوا هذا القرآن، ولا أن ينتفعوا به‏.‏

لذلك جعل الله على قلوبهم أغطية تحول دون فقهه، وجعل في آذانهم كالصمم فلا يستمعون إليه‏.‏ وقدر عليهم الضلال بسبب استهزائهم وإعراضهم فلن يهتدوا إذن ابداً‏.‏ فللهدى قلوب متفتحة مستعدة للتلقي‏.‏

‏{‏وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب‏}‏‏.‏‏.‏

ولكن الله يمهلهم رحمة بهم، ويؤخر عنهم الهلاك الذي يستعجلون به، ولكنه لن يهملهم‏:‏

‏{‏بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً‏}‏‏.‏‏.‏

موعد في الدنيا يحل بهم فيه شيء من العذاب‏.‏ وموعد في الآخرة يوفون فيه الحساب‏.‏

ولقد ظلموا فكانوا مستحقين للعذاب أو الهلاك كالقرى قبلهم‏.‏ لولا أن الله قدر إمهالهم إلى موعدهم، لحكمة اقتضتها إرادته فيهم، فلم يأخذهم أخذ القرى؛ بل جعل لهم موعداً آخر لا يخلفونه‏:‏

‏{‏وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا‏.‏ وجعلنا لمهلكهم موعداً‏}‏‏.‏‏.‏

فلا يغرنهم إمهال الله لهم، فإن موعدهم بعد ذلك آت‏.‏ وسنة الله لا تتخلف‏.‏ والله لا يخلف الميعاد‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 82‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ‏(‏60‏)‏ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ‏(‏61‏)‏ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ‏(‏62‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ‏(‏63‏)‏ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا ‏(‏64‏)‏ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ‏(‏66‏)‏ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏67‏)‏ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ‏(‏68‏)‏ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ‏(‏69‏)‏ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏70‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ‏(‏71‏)‏ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏72‏)‏ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ‏(‏73‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ‏(‏74‏)‏ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏75‏)‏ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ‏(‏76‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ‏(‏77‏)‏ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏78‏)‏ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ‏(‏79‏)‏ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ‏(‏80‏)‏ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ‏(‏81‏)‏ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

هذه الحلقة من سيرة موسى عليه السلام لا تذكر في القرآن كله إلا في هذا الموضع من هذه السورة‏.‏ والقرآن لا يحدد المكان الذي وقعت فيه إلا بإنه ‏{‏مجمع البحرين‏}‏ ولا يحدد التاريخ الذي وقعت فيه من حياة موسى، هل كان ذلك هو في مصر قبل خروجه ببني إسرائيل أم بعد خروجه بهم منها‏؟‏ ومتى بعد الخروج‏:‏ قبل أن يذهب بهم إلى الأرض المقدسة، أم بعد ما ذهب بهم إليها فوقفوا حيالها لا يدخلون لأن فيها قوماً جبارين‏؟‏ أم بعد ذهابهم في التيه، مفرقين مبددين‏؟‏

كذلك لا يذكر القرآن شيئاً عن العبد الصالح الذي لقيه موسى‏.‏ من هو‏؟‏ ما اسمه‏؟‏ هل هو نبي أو رسول‏؟‏ أم عالم‏؟‏ أم ولي‏؟‏

وهناك روايات كثيرة عن ابن عباس وعن غيره في هذه القصة‏.‏ ونحن نقف عند نصوص القصة في القرآن‏.‏ لنعيش «في ظلال القرآن» ونعتقد أن لعرضها في القرآن على النحو الذي عرضت به، دون زيادة، ودون تحديد للمكان والزمان والأسماء، حكمة خاصة‏.‏ فنقف نحن عند النص القرآني نتملاه‏.‏‏.‏ ‏{‏وإذ قال موسى لفتاه‏:‏ لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا‏}‏‏.‏‏.‏

والأرجح والله أعلم أنه مجمع البحرين‏:‏ بحر الروم وبحر القلزم‏.‏ أي البحر الأبيض والبحر الأحمر‏.‏‏.‏ ومجمعهما مكان التقائهما في منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح‏.‏ أو أنه مجمع خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر‏.‏ فهذه المنطقة كانت مسرح تاريخ بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر‏.‏ وعلى أي فقد تركها القرآن مجملة فنكتفي بهذه الإشارة‏.‏

ونفهم من سياق القصة فيما بعد أنه كان لموسى عليه السلام هدف من رحلته هذه التي اعتزمها، وأنه كان يقصد من ورائها أمراً، فهو يعلن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة، ومهما يكن الزمن الذي ينفقه في الوصول‏.‏ وهو يعبر عن هذا التصميم بما حكاه القرآن من قوله‏:‏ ‏{‏أو أمضي حقبا‏}‏ والحقب قيل عام، وقيل ثمانون عاماً‏.‏ على أية حال فهو تعبير عن التصميم، لا عن المدة على وجه التحديد‏.‏

‏{‏فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا‏.‏ فلما جاوزا قال لفتاه‏:‏ آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا‏.‏ قال‏:‏ أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

والأرجح كذلك أن هذا الحوت كان مشوياً، وأن إحياءه واتخاذه سبيله في البحر سرباً كان آية من آيات الله لموسى، يعرف بهما موعده، بدليل عجب فتاه من اتخاذه سبيله في البحر، ولو كان يعني أنه سقط منه فغاص في البحر ما كان في هذا عجب‏.‏

ويرجح هذا الوجه أن الرحلة كلها مفاجآت غيبية‏.‏ فهذه إحداها‏.‏

وأدرك موسى أنه جاوز الموعد الذي حدده ربه له للقاء عبده الصالح‏.‏ وأنه هنالك عند الصخرة ثم عاد على أثره هو وفتاه فوجداه‏:‏

‏{‏قال‏:‏ ذلك ما كنا نبغ‏.‏ فارتدا على آثارهما قصصا‏.‏ فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما‏}‏‏.‏‏.‏

ويبدو أن ذلك اللقاء كان سر موسى وحده مع ربه، فلم يطلع عليه فتاه حتى لقياه‏.‏ ومن ثم ينفرد موسى والعبد الصالح في المشاهد التالية للقصة‏:‏

‏{‏قال له موسى‏:‏ هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا‏؟‏‏}‏‏.‏

بهذا الأدب اللائق بنبي، يستفهم ولا يجزم، ويطلب العلم الراشد من العبد الصالح العالم‏.‏

ولكن علم الرجل ليس هو العلم البشري الواضح الأسباب القريب النتائج، إنما هو جانب من العلم اللدني بالغيب أطلعه الله عليه بالقدر الذي أراده، للحكمة التي أرادها‏.‏ ومن ثم فلا طاقة لموسى بالصبر على الرجل وتصرفاته ولو كان نبياً رسولاً‏.‏ لأن هذه التصرفات حسب ظاهرها قد تصطدم بالمنطق العقلي، وبالأحكام الظاهرة، ولا بد من إدراك ما وراءها من الحكمة المغيبة؛ وإلا بقيت عجيبة تثير الاستنكار‏.‏ لذلك يخشى العبد الصالح الذي أوتي العلم اللدني على موسى ألا يصبر على صحبته وتصرفاته‏:‏

‏{‏قال‏:‏ إنك لن تستطيع معي صبراً‏.‏ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ويعزم موسى على الصبر والطاعة، ويستعين الله، ويقدم مشيئته‏:‏

‏{‏قال‏:‏ ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً‏}‏‏.‏‏.‏

فيزيد الرجل توكيداً وبياناً، ويذكر له شرط صحبته قبل بدء الرحلة، وهو أن يصبر فلا يسأل ولا يستفسر عن شيء من تصرفاته حتى يكشف له عن سرها‏:‏

‏{‏قال‏:‏ فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً‏}‏‏.‏

ويرضى موسى‏.‏‏.‏ وإذا نحن أمام المشهد الأول لهما‏:‏

‏{‏فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها‏}‏‏.‏‏.‏

سفينة تحملهما وتحمل معهما ركاباً، وهم في وسط اللجة؛ ثم يجيء هذا العبد الصالح فيخرق السفينة‏!‏ إن ظاهر الأمر هنا أن هذه الفعلة تعرض السفينة وركابها لخطر الغرق وتؤدي بهم إلى هذا الشر؛ فلماذا يقدم الرجل على هذا الشر‏؟‏

لقد نسي موسى ما قاله هو وما قاله صاحبه، أمام هذا التصرف العجيب الذي لا مبرر له في نظر المنطق العقلي‏!‏ والإنسان قد يتصور المعنى الكلي المجرد، ولكنه عندما يصطدم بالتطبيق العملي لهذا المعنى والنموذج الواقعي منه يستشعر له وقعاً غير التصور النظري‏.‏ فالتجربة العملية ذات طعم آخر غير التصور المجرد‏.‏ وها هو ذا موسى الذي نبه من قبل إلى أنه لا يستطيع صبراً على ما لم يحط به خبراً، فاعتزم الصبر واستعان بالمشيئة وبذل الوعد وقبل الشرط‏.‏

ها هو ذا يصطدم بالتجربة العملية لتصرفات هذا الرجل فيندفع مستنكراً‏.‏

نعم إن طبيعة موسى طبيعة انفعالية اندفاعية، كما يظهر من تصرفاته في كل أدوار حياته‏.‏ منذ أن وكز الرجل المصري الذي رآه يقتتل مع الإسرائيلي فقتله من اندفاعه‏.‏ ثم أناب إلى ربه مستغفراً معتذراً حتى إذا كان اليوم الثاني ورأى الإسرائيلي يقتتل مع مصري آخر، هم بالآخر مرة أخرى‏!‏

نعم إن طبيعة موسى هي هذه الطبيعة‏.‏ ومن ثم لم يصبر على فعلة الرجل ولم يستطع الوفاء بوعده الذي قطعه أمام غرابتها‏.‏ ولكن الطبيعة البشرية كلها تلتقي في أنها تجد للتجربة العملية وقعاً وطعماً غير التصور النظري‏.‏ ولا تدرك الأمور حق إدراكها إلا إذا ذاقتها وجربتها‏.‏

ومن هنا اندفع موسى مستنكراً‏:‏

‏{‏قال‏:‏ أخرقتها لتغرق أهلها‏؟‏ لقد جئت شيئا إمرا‏}‏‏.‏

وفي صبر ولطف يذكره العبد الصالح بما كان قد قاله منذ البداية‏:‏

‏{‏قال‏:‏ ألم أقل‏:‏ إنك لن تستطيع معي صبراً‏؟‏‏}‏‏.‏

ويعتذر موسى بنسيانه، ويطلب إلى الرجل أن يقبل عذره ولا يرهقه بالمراجعة والتذكير‏:‏

‏{‏قال‏:‏ لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً‏؟‏‏}‏‏.‏

ويقبل الرجل اعتذاره، فنجدنا أمام المشهد الثاني‏:‏

‏{‏فانطلقا‏.‏ حتى إذا لقيا غلاماً فقتله‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

وإذا كانت الأولى خرق سفينة واحتمال غرق من فيها؛ فهذه قتل نفس‏.‏ قتل عمد لا مجرد احتمال‏.‏ وهي فظيعة كبيرة لم يستطع موسى أن يصبر عليها على الرغم من تذكره لوعده‏:‏

‏{‏قال‏:‏ أقتلت نفساً زكية بغير نفس‏؟‏ لقد جئت شيئاً نكرا‏}‏‏.‏

فليس ناسياً في هذه المرة ولا غافلاً؛ ولكنه قاصد‏.‏ قاصد أن ينكر هذا النكر الذي لا يصبر على وقوعه ولا يتأول له اسباباً؛ والغلام في نظره بريء‏.‏ لم يرتكب ما يوجب القتل، بل لم يبلغ الحلم حتى يكون مؤاخذاً على ما يصدر منه‏.‏

ومرة أخرى يرده العبد الصالح إلى شرطه الذي شرط ووعده الذي وعد، ويذكره بما قال له أول مرة‏.‏ والتجربة تصدقه بعد التجربة‏:‏

‏{‏قال‏:‏ ألم أقل لك‏:‏ إنك لن تستطيع معي صبرا‏}‏‏.‏‏.‏

وفي هذه المرة يعين أنه قال له‏:‏ ‏{‏ألم أقل لك‏؟‏‏}‏ لك أنت على التعيين والتحديد‏.‏ فلم تقتنع وطلبت الصحبة وقبلت الشرط‏.‏

ويعود موسى إلى نفسه، ويجد أنه خالف عن وعده مرتين، ونسي ما تعهد به بعد التذكير والتفكير‏.‏ فيندفع ويقطع على نفسه الطريق، ويجعلها آخر فرصة أمامه‏:‏

‏{‏قال‏:‏ إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني‏.‏ قد بلغت من لدني عذراً‏}‏‏.‏

وينطلق السياق فإذا نحن أمام المشهد الثالث‏:‏

‏{‏فانطلقا‏.‏ حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه‏}‏‏.‏

إنهما جائعان، وهما في قرية أهلها بخلاء، لا يطعمون جائعاً، ولا يستضيفون ضيفاً‏.‏ ثم يجد أن جداراً مائلاً يهم أن ينقض‏.‏ والتعبير يخلع على الجدار حياة وإرادة كالأحياء فيقول‏:‏ ‏{‏يريد أن ينقض‏}‏ فإذا الرجل الغريب يشغل نفسه بإقامة الجدار دون مقابل‏!‏‏!‏‏!‏

وهنا يشعر موسى بالتناقض في الموقف‏.‏ ما الذي يدفع هذا الرجل أن يجهد نفسه ويقيم جداراً يهم بالانقضاض في قرية لم يقدم لهما أهلها الطعام وهما جائعان، وقد أبوا أن يستضيفوهما‏؟‏ أفلا أقل من أن يطلب عليه أجراً يأكلان منه‏؟‏

‏{‏قال‏:‏ لو شئت لاتخذت عليه أجرا‏}‏ ‏!‏

وكانت هي الفاصلة‏.‏ فلم يعد لموسى من عذر، ولم يعد للصحبة بينه وبين الرجل مجال‏:‏

‏{‏قال‏:‏ هذا فراق بيني وبينك‏.‏ سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً‏}‏‏.‏

وإلى هنا كان موسى ونحن الذين نتابع سياق القرآن أمام مفاجآت متوالية لا نعلم لها سراً‏.‏ وموقفنا منها كموقف موسى‏.‏ بل نحن لا نعرف من هو هذا الذي يتصرف تلك التصرفات العجيبة، فلم ينبئنا القرآن باسمه، تكملة للجو الغامض الذي يحيط بنا‏.‏ وما قيمة اسمه‏؟‏ إنما يراد به أن يمثل الحكمة الإلهية العليا، التي لا ترتب النتائج القريبة على المقدمات المنظورة، بل تهدف إلى أغراض بعيدة لا تراها العين المحدودة‏.‏ فعدم ذكر اسمه يتفق مع الشخصية المعنوية التي يمثلها‏.‏ وإن القوى الغيبية لتتحكم في القصة منذ نشأتها‏.‏ فها هو ذا موسى يريد أن يلقى هذا الرجل الموعود‏.‏ فيمضي في طريقه؛ ولكن فتاه ينسى غداءهما عند الصخرة، وكأنما نسيه ليعودا‏.‏ فيجد هذا الرجل هناك‏.‏ وكان لقاؤه يفوتهما لو سارا في وجهتهما، ولو لم تردهما الأقدار إلى الصخرة كرة أخرى‏.‏‏.‏ كل الجو غامض مجهول، وكذلك اسم الرجل الغامض المجهول في سياق القرآن‏.‏

ثم يأخذ السر في التجلي‏.‏‏.‏

‏{‏أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر، فأردت أن أعيبها؛ وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا‏}‏‏.‏

فبهذا العيب نجت السفينة من أن يأخذها ذلك الملك الظالم غصباً؛ وكان الضرر الصغير الذي أصابها اتقاء للضرر الكبير الذي يكنه الغيب لها لو بقيت على سلامتها‏.‏

‏{‏وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفرا‏.‏ فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحما‏}‏‏.‏‏.‏

فهذا الغلام الذي لا يبدو في حاضره ومظهره أنه يستحق القتل، قد كشف ستر الغيب عن حقيقته للعبد الصالح، فإذا هو في طبيعته كافر طاغ، تكمن في نفسه بذور الكفر والطغيان، وتزيد على الزمن بروزاً وتحققاً‏.‏‏.‏ فلو عاش لأرهق والديه المؤمنين بكفره وطغيانه، وقادهما بدافع حبهما له أن يتبعاه في طريقه‏.‏ فأراد الله ووجه إرادة عبده الصالح إلى قتل هذا الغلام الذي يحمل طبيعة كافرة طاغية، وأن يبدلهما الله خلفاً خيراً منه، وأرحم بوالديه‏.‏

ولو كان الأمر موكولاً إلى العلم البشري الظاهر، لما كان له إلا الظاهر من أمر الغلام، ولما كان له عليه من سلطان، وهو لم يرتكب بعد ما يستحق عليه القتل شرعاً‏.‏ وليس لغير الله ولمن يطلعه من عباده على شيء من غيبه أن يحكم على الطبيعة المغيبة لفرد من الناس‏.‏ ولا أن يرتب على هذا العلم حكماً غير حكم الظاهر الذي تأخذ به الشريعة‏.‏ ولكنه أمر الله القائم على علمه بالغيب البعيد‏.‏

‏{‏وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحاً، فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما، رحمة من ربك وما فعلته عن أمري‏.‏‏.‏ ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا‏}‏‏.‏‏.‏

فهذا الجدار الذي أتعب الرجل نفسه في إقامته، ولم يطلب عليه أجراً من أهل القرية وهما جائعان وأهل القرية لا يضيفونهما كان يخبئ تحته كنزاً، ويغيب وراءه مالاً لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة‏.‏ ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه‏.‏‏.‏ ولما كان أبوهما صالحاً فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما، ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته‏.‏

ثم ينفض الرجل يده من الأمر‏.‏ فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف‏.‏ وهو أمر الله لا أمره‏.‏ فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه ‏{‏رحمة من ربك وما فعلته عن أمري‏}‏‏.‏‏.‏

فالآن ينكشف الستر عن حكمة ذلك التصرف، كما انكشف عن غيب الله الذي لا يطلع عليه أحداً إلا من ارتضى‏.‏

وفي دهشة السر المكشوف والستر المرفوع يختفي الرجل من السياق كما بدا‏.‏ لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول‏.‏ فالقصة تمثل الحكمة الكبرى‏.‏ وهذه الحكمة لا تكشف عن نفسها إلا بمقدار‏.‏ ثم تبقى مغيبة في علم الله وراء الأستار‏.‏

وهكذا ترتبط في سياق السورة قصة موسى والعبد الصالح، بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب لله، الذي يدبر الأمر بحكمته، وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر، الواقفون وراء الأستار، لا يكشف لهم عما وراءها من الأسرار إلا بمقدار‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 110‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏83‏)‏ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ‏(‏84‏)‏ فَأَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏85‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ‏(‏86‏)‏ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏87‏)‏ وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ‏(‏88‏)‏ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏89‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ‏(‏90‏)‏ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ‏(‏91‏)‏ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏92‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ‏(‏93‏)‏ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ‏(‏94‏)‏ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ‏(‏95‏)‏ آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ‏(‏96‏)‏ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ‏(‏97‏)‏ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ‏(‏98‏)‏ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ‏(‏99‏)‏ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ‏(‏100‏)‏ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ‏(‏101‏)‏ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ‏(‏102‏)‏ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ‏(‏103‏)‏ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ‏(‏104‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ‏(‏105‏)‏ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ‏(‏106‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ‏(‏107‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ‏(‏108‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ‏(‏109‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

هذا الدرس الأخير في سورة الكهف قوامه قصة ذي القرنين، ورحلاته الثلاث إلى الشرق وإلى الغرب وإلى الوسط، وبناؤه للسد في وجه يأجوج ومأجوج‏.‏

والسياق يحكي عن ذي القرنين قوله بعد بناء السد‏:‏ ‏{‏قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً‏}‏‏.‏‏.‏ ثم يعقب الوعد الحق، بالنفخ في الصور ومشهد من مشاهد القيامة‏.‏‏.‏ ثم تختم السورة بثلاثة مقاطع، يبدأ كل مقطع منها‏:‏ بقوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏‏.‏

وهذه المقاطع، تلخص موضوعات السورة الرئيسية واتجاهاتها العامة‏.‏ وكأنما هي الإيقاعات الأخيرة القوية في اللحن المتناسق‏.‏‏.‏

وتبدأ قصة ذي القرنين على النحو التالي‏:‏

‏{‏ويسألونك عن ذي القرنين‏.‏ قل‏:‏ سأتلوا عليكم منه ذكراً‏}‏‏.‏‏.‏

وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة فقال‏:‏ «حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم‏:‏ سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء‏.‏‏.‏ فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا‏:‏ إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا‏.‏ قال‏:‏ فقالوا لهم‏:‏ سلوه عن ثلاث نأمركم بهن‏.‏ فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فرجل متقول تروا فيه رأيكم‏:‏ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول‏.‏ ما كان من أمرهم‏؟‏ فإنهم كان لهم حديث عجيب‏.‏ وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها‏.‏ ما كان نبؤه‏؟‏ وسلوه عن الروح ما هو‏؟‏ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم‏.‏‏.‏ فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش، فقالا‏:‏ يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد‏.‏ قد أمرنا أحبار يهود ان نسأله عن أمور‏.‏‏.‏ فأخبرهم بها‏.‏ فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا محمد أخبرنا‏.‏‏.‏ فسألوه عما أمرهم به‏.‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم-» أخبركم غداً عما سألتم عنه «- ولم يستثن فانصرفوا عنه‏.‏ ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبريل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة؛ وقالوا‏:‏ وعدنا محمد غداً، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه‏.‏ وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه؛ وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة‏.‏ ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف، وقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الروح‏.‏‏.‏‏}‏ الآية»‏.‏

هذه رواية‏.‏ وقد وردت عن ابن عباس رضي الله عنه رواية أخرى في سبب نزول آية الروح خاصة، ذكرها العوفي‏.‏ وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أخبرنا عن الروح‏.‏ وكيف تعذب الروح التي في الجسد وإنما الروح من الله‏؟‏ ولم يكن نزل عليه شيء‏.‏ فلم يحر إليهم شيئاً‏.‏ فأتاه جبريل فقال له‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏}‏‏.‏‏.‏ إلى آخر الرواية‏.‏

ولتعدد الروايات في أسباب النزول، نؤثر أن نقف في ظل النص القرآني المستيقن‏.‏ ومن هذا النص نعلم أنه كان هناك سؤال عن ذي القرنين‏.‏ لا ندري على وجه التحقيق من الذي سأله‏.‏ والمعرفة به لا تزيد شيئاً في دلالة القصة‏.‏ فلنواجه النص بلا زيادة‏.‏

إن النص لا يذكر شيئاً عن شخصية ذي القرنين ولا عن زمانه أو مكانه‏.‏ وهذه هي السمة المطردة في قصص القرآن‏.‏ فالتسجيل التاريخي ليس هو المقصود‏.‏ إنما المقصود هو العبرة المستفادة من القصة‏.‏ والعبرة تتحقق بدون حاجة إلى تحديد الزمان والمكان في أغلب الأحيان‏.‏

والتاريخ المدون يعرف ملكاً اسمه الاسكندر ذو القرنين‏.‏ ومن المقطوع به أنه ليس ذا القرنين المذكور في القرآن‏.‏ فالإسكندر الإغريقي كان وثنياً‏.‏ وهذا الذي يتحدث عنه القرآن مؤمن بالله وحده معتقد بالبعث والآخرة‏.‏

ويقول أبو الريحان البيروني المنجم في كتاب‏:‏ «الآثار الباقية عن القرون الخالية» إن ذا القرنين المذكور في القرآن كان من حمير مستدلاً باسمه‏.‏ فملوك حمير كانوا يلقبون بذي‏.‏ كذي نواس وذي يزن‏.‏ وكان اسمه أبو بكر بن افريقش‏.‏ وأنه رحل بجيوشه إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، فمر بتونس ومراكش وغيرهما؛ وبنى مدينة إفريقية فسميت القارة كلها باسمه‏.‏ وسمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس‏.‏

وقد يكون هذا القول صحيحاً‏.‏ ولكننا لا نملك وسائل تمحيصه‏.‏ ذلك انه لا يمكن البحث في التاريخ المدون عن ذي القرنين الذي يقص القرآن طرفاً من سيرته، شأنه شأن كثير من القصص الوارد في القرآن كقصص قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم‏.‏ فالتاريخ مولود حديث العهد جداً بالقياس إلى عمر البشرية‏.‏ وقد جرت قبل هذا التاريخ المدون أحداث كثيرة لا يعرف عنها شيئاً‏.‏ فليس هو الذي يستفتى فيها‏!‏

ولو قد سلمت التوراة من التحريف والزيادات لكانت مرجعاً يعتمد عليه في شيء من تلك الأحداث‏.‏

ولكن التوراة أحيطت بالأساطير التي لا شك في كونها أساطير‏.‏ وشحنت كذلك بالروايات التي لا شك في أنها مزيدة على الأصل الموحي به من الله‏.‏ فلم تعد التوارة مصدراً مستيقناً لما ورد فيها من القصص التاريخي‏.‏

وإذن فلم يبق إلا القرآن‏.‏ الذي حفظ من التحريف والتبديل‏.‏ هو المصدر الوحيد لما ورد فيه من القصص التاريخي‏.‏

ومن البديهي أنه لا تجوز محاكمة القرآن الكريم إلى التاريخ لسببين واضحين‏:‏

أولهما‏:‏ أن التاريخ مولود حديث العهد، فاتته أحداث لا تحصى في تاريخ البشرية، لم يعلم عنها شيئاً‏.‏ والقرآن يروي بعض هذه الأحداث التي ليس لها لدى التاريخ علم عنها‏!‏

وثانيهما‏:‏ أن التاريخ وإن وعى بعض هذه الأحداث هو عمل من أعمال البشر القاصرة يصيبه ما يصيب جميع أعمال البشر من القصور والخطأ والتحريف‏.‏ ونحن نشهد في زماننا هذا الذي تيسرت فيه أسباب الاتصال ووسائل الفحص أن الخبر الواحد أو الحادث الواحد يروى على أوجه شتى، وينظر إليه من زوايا مختلفة، ويفسر تفسيرات متناقضة‏.‏ ومن مثل هذا الركام يصنع التاريخ، مهما قيل بعد ذلك في التمحيص والتدقيق‏!‏

فمجرد الكلام عن استفتاء التاريخ فيما جاء به القرآن الكريم من القصص، كلام تنكره القواعد العلمية المقررة التي ارتضاها البشر، قبل أن تنكره العقيدة التي تقرر أن القرآن هو القول الفصل‏.‏ وهو كلام لا يقول به مؤمن بالقرآن، ولا مؤمن بوسائل البحث العلمي على السواء‏.‏ إنما هو مراء‏!‏‏!‏‏!‏

لقد سأل سائلون عن ذي القرنين‏.‏ سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فأوحى إليه الله بما هو وارد هنا من سيرته‏.‏ وليس أمامنا مصدر آخر غير القرآن في هذه السيرة‏.‏ فنحن لا نملك التوسع فيها بغير علم‏.‏ وقد وردت في التفاسير أقوال كثيرة، ولكنها لا تعتمد على يقين‏.‏ وينبغي أن تؤخذ بحذر، لما فيها من إسرائيليات وأساطير‏.‏

وقد سجل السياق القرآني لذي القرنين ثلاث رحلات‏:‏ واحدة إلى المغرب، وواحدة إلى المشرق، وواحدة إلى مكان بين السدين‏.‏‏.‏ فلنتابع السياق في هذه الرحلات الثلاث‏.‏

يبدأ الحديث عن ذي القرنين بشيء عنه‏:‏ ‏{‏إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً‏}‏‏.‏‏.‏

لقد مكن الله له في الأرض، فأعطاه سلطاناً وطيد الدعائم؛ ويسر له أسباب الحكم والفتح، وأسباب البناء والعمران، وأسباب السلطان والمتاع‏.‏‏.‏ وسائر ما هو من شأن البشر أن يمكنوا فيه في هذه الحياة‏.‏

‏{‏فأتبع سببا‏}‏‏.‏ ومضى في وجه مما هو ميسر له، وسلك طريقه إلى الغرب‏.‏

‏{‏حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة، ووجد عندها قوماً‏.‏ قلنا‏:‏ يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً‏.‏

قال‏:‏ أما من ظلم فسوف نعذبه، ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكرا‏.‏ وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى، وسنقول له من أمرنا يسرا‏}‏‏.‏

ومغرب الشمس هو المكان الذي يرى الرائي أن الشمس تغرب عنده وراء الأفق‏.‏ وهو يختلف بالنسبة للمواضع‏.‏ فبعض المواضع يرى الرائي فيها أن الشمس تغرب خلف جبل‏.‏ وفي بعض المواضع يرى أنها تغرب في الماء كما في المحيطات الواسعة والبحار‏.‏ وفي بعض المواضع يرى أنها تغرب في الرمال إذا كان في صحراء مكشوفة على مد البصر‏.‏‏.‏

والظاهر من النص أن ذا القرنين غرب حتى وصل إلى نقطة على شاطئ المحيط الأطلسي وكان يسمى بحر الظلمات ويظن أن اليابسة تنتهي عنده فرأى الشمس تغرب فيه‏.‏

والأرجح أنه كان عند مصب أحد الأنهار‏.‏ حيث تكثر الأعشاب ويتجمع حولها طين لزج هو الحمأ‏.‏ وتوجد البرك وكأنها عيون الماء‏.‏‏.‏ فرأى الشمس تغرب هناك و‏{‏وجدها تغرب في عين حمئة‏}‏‏.‏‏.‏ ولكن يتعذر علينا تحديد المكان، لأن النص لا يحدده‏.‏ وليس لنا مصدر آخر موثوق به نعتمد عليه في تحديده‏.‏ وكل قول غير هذا ليس مأموناً لأنه لا يستند إلى مصدر صحيح‏.‏

عند هذه الحمئة وجد ذو القرنين قوماً‏:‏ ‏{‏قلنا‏:‏ يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً‏}‏‏.‏

كيف قال الله هذا القول لذي القرنين‏؟‏ أكان ذلك وحياً إليه أم إنه حكاية حال‏.‏ إذ سلطه الله على القوم، وترك له التصرف في أمرهم فكأنما قيل له‏:‏ دونك وإياهم‏.‏ فإما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً‏؟‏ كلا القولين ممكن، ولا مانع من فهم النص على هذا الوجه أو ذاك‏.‏ والمهم أن ذا القرنين أعلن دستوره في معاملة البلاد المفتوحة، التي دان له أهلها وسلطه الله عليها‏.‏

‏{‏قال‏:‏ أما من ظلم فسوف نعذبه، ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكرا‏.‏ وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى، وسنقول له من أمرنا يسرا‏}‏‏.‏

أعلن أن للمعتدين الظالمين عذابه الدنيوي وعقابه، وأنهم بعد ذلك يردون إلى ربهم فيعذبهم عذاباً فظيعاً ‏{‏نكرا‏}‏ لا نظير له فيما يعرفه البشر‏.‏ أما المؤمنون الصالحون فلهم الجزاء الحسن، والمعاملة الطيبة، والتكريم والمعونة والتيسير‏.‏

وهذا هو دستور الحكم الصالح‏.‏ فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم‏.‏ والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء‏.‏‏.‏ وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزاء حسناً، ومكاناً كريماً وعوناً وتيسيراً؛ ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة‏.‏‏.‏ عندئذ يجد الناس ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج‏.‏ أما حين يضطرب ميزان الحكم فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم مقدمون في الدولة؛ وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون‏.‏

فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة إفساد‏.‏ ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد‏.‏

ثم عاد ذو القرنين من رحلة المغرب إلى رحلة المشرق، ممكناً له في الأرض، ميسرة له الأسباب‏:‏

‏{‏ثم أتبع سبباً‏.‏ حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا‏.‏ كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا‏}‏‏.‏

وما قيل عن مغرب الشمس يقال عن مطلعها‏.‏ فالمقصود هو مطلعها من الأفق الشرقي في عين الرائي‏.‏ والقرآن لم يحدد المكان‏.‏ ولكنه وصف طبيعته وحال القوم الذي وجدهم ذو القرنين هناك‏:‏ ‏{‏حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً‏}‏‏.‏‏.‏ أي إنها أرض مكشوفة، لا تحجبها عن الشمس مرتفعات ولا أشجار‏.‏ فالشمس تطلع على القوم فيها حين تطلع بلا ساتر‏.‏‏.‏ وهذا الوصف ينطبق على الصحارى والسهوب الواسعة‏.‏ فهو لا يحدد مكاناً بعينه‏.‏ وكل ما نرجحه أن هذا المكان كان في أقصى الشرق حيث يجد الرائي أن الشمس تطلع على هذه الأرض المستوية المكشوفة، وقد يكون ذلك على شاطئ إفريقية الشرقي‏.‏ وهناك احتمال لأن يكون المقصود بقوله‏:‏ ‏{‏لم نجعل لهم من دونها سترا‏}‏ إنهم قوم عراة الأجسام لم يجعل لهم ستراً من الشمس‏.‏‏.‏

ولقد أعلن ذو القرنين من قبل دستوره في الحكم، فلم يتكرر بيانه هنا، ولا تصرفه في رحلة المشرق لأنه معروف من قبل، وقد علم الله كل ما لديه من افكار واتجاهات‏.‏

ونقف هنا وقفة قصيرة أمام ظاهرة التناسق الفني في العرض‏.‏‏.‏ فإن المشهد الذي يعرضه السياق هو مشهد مكشوف في الطبيعة‏:‏ الشمس ساطعة لا يسترها عن القوم ساتر‏.‏ وكذلك ضمير ذي القرنين ونواياه كلها مكشوفة لعلم الله‏.‏‏.‏ وكذلك يتناسق المشهد في الطبيعة وفي ضمير ذي القرنين على طريقة التنسيق القرآنية الدقيقة‏.‏

‏{‏ثم أتبع سبباً‏.‏ حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولا‏.‏ قالوا‏:‏ يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض، فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً‏؟‏ قال‏:‏ ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً‏.‏ آتوني زبر الحديد‏.‏ حتى إذا ساوى بين الصدفين قال‏:‏ انفخوا‏.‏ حتى إذا جعله ناراً قال‏:‏ آتوني أفرغ عليه قطراً‏.‏ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً‏.‏ قال‏:‏ هذا رحمة من ربي، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء، وكان وعد ربي حقاً‏}‏‏.‏

ونحن لا نستطيع أن نجزم بشيء عن المكان الذي بلغ إليه ذو القرنين ‏{‏بين السدين‏}‏ ولا ما هما هذان السدان‏.‏ كل ما يؤخذ من النص أنه وصل إلى منطقة بين حاجزين طبيعيين، أو بين سدين صناعيين‏.‏

تفصلهما فجوة أو ممر‏.‏ فوجد هنالك قوماً متخلفين‏:‏ ‏{‏لا يكاد يفقهون قولاً‏}‏‏.‏

وعندما وجدوا فاتحاً قوياً، وتوسموا فيه القدرة والصلاح‏.‏‏.‏ عرضوا عليه أن يقيم لهم سداً في وجه يأجوج ومأجوج الذين يهاجمونهم من وراء الحاجزين، ويغيرون عليهم من ذلك الممر، فيعيثون في أرضهم فساداً؛ ولا يقدرون هم على دفعهم وصدهم‏.‏‏.‏ وذلك في مقابل خراج من المال يجمعونه له من بينهم‏.‏

وتبعاً للمنهج الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض فقد رد عليهم عرضهم الذي عرضوه من المال؛ وتطوع بإقامة السد؛ ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين؛ فطلب إلى أولئك القوم المتخلفين أن يعينوه بقوتهم المادية والعضلية‏:‏ ‏{‏فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً‏.‏ آتوني زبر الحديد‏}‏‏.‏‏.‏ فجمعوا له قطع الحديد، وكومها في الفتحة بين الحاحزين، فأصبحا كأنهما صدفتان تغلفان ذلك الكوم بينهما‏.‏ ‏{‏حتى إذا ساوى بين الصدفين‏}‏ وأصبح الركام بمساواة القمتين ‏{‏قال‏:‏ انفخوا‏}‏ على النار لتسخين الحديد ‏{‏حتى إذا جعله ناراً‏}‏ كله لشدة توهجه واحمراره ‏{‏قال‏:‏ آتوني أفرغ عليه قطراً‏}‏ أي نحاساً مذاباً يتخلل الحديد، ويختلط به فيزيده صلابه‏.‏

وقد استخدمت هذه الطريقة حديثاً في تقوية الحديد؛ فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته‏.‏ وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين، وسجله في كتابه الخالد سبقاً للعلم البشري الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله‏.‏

بذلك التحم الحاجزان، وأغلق الطريق على يأجوج ومأجوج ‏{‏فما اسطاعوا أن يظهروه‏}‏ ويتسوروه ‏{‏وما استطاعوا له نقباً‏}‏ فينفذوا منه‏.‏ وتعذر عليهم أن يهاجموا أولئك القوم الضعاف المتخلفين‏.‏ فأمنوا واطمأنوا‏.‏

ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به، فلم يأخذه البطر والغرور، ولم تسكره نشوة القوة والعلم‏.‏ ولكنه ذكر الله فشكره‏.‏ ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه‏.‏ وتبرأ من قوته إلى قوة الله، وفوض إليه الأمر، وأعلن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك قبل يوم القيامة، فتعود الأرض سطحاً أجرد مستوياً‏.‏

‏{‏قال‏:‏ هذا رحمة من ربي، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء‏.‏ وكان وعد ربي حقاً‏}‏‏.‏‏.‏

وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين‏.‏ النموذج الطيب للحاكم الصالح، يمكنه الله في الأرض، وييسر له الأسباب؛ فيجتاح الأرض شرقاً وغرباً؛ ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر، ولا يطغى ولا يتبطر، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق؛ ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه‏.‏‏.‏ إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به، ويساعد المتخلفين، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل؛ ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعبير والإصلاح، ودفع العدوان وإحقاق الحق‏.‏

ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته، وأنه راجع إلى الله‏.‏

وبعد فمن يأجوج ومأجوج‏؟‏ وأين هم الآن‏؟‏ وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون‏!‏

كل هذه أسئلة تصعب الإجابة عليها على وجه التحقيق، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد في القرآن، وفي بعض الأثر الصحيح‏.‏

والقرآن يذكر في هذا الموضع ما حكاه من قول ذي القرنين‏:‏ ‏{‏فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء، وكان وعد ربي حقاً‏}‏‏.‏

وهذا النص لا يحدد زماناً‏.‏ ووعد الله بمعنى وعده بدك السد ربما يكون قد جاء منذ أن هجم التتار، وانساحوا في الأرض، ودمروا الممالك تدميراً‏.‏

وفي موضع آخر في سورة الأنبياء‏:‏ ‏{‏حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون‏.‏ واقترب الوعد الحق‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وهذا النص كذلك لا يحدد زمانا معيناً لخروج يأجوج ومأجوج فاقتراب الوعد بمعنى اقتراب الساعة قد وقع منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء في القرآن‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏ والزمان في الحساب الإلهي غيره في حساب البشر‏.‏ فقد تمر بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو القرون، يراها البشر طويلة مديدة، وهي عند الله ومضة قصيرة‏.‏

وإذن فمن الجائز أن يكون السد قد فتح في الفترة ما بين‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة‏}‏ ويومنا هذا‏.‏ وتكون غارات المغول والتتار التي اجتاحت الشرق هي انسياح يأجوج ومأجوج‏.‏

وهنالك حديث صحيح رواه الإمام أحمد عن سفيان الثوري عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن أمها حبيبة، عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ «استيقظ الرسول صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول‏:‏» ويل للعرب من شر قد اقتربت‏.‏ فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا «وحلق ‏(‏بإصبعيه السبابة والإبهام‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون‏؟‏ قال‏:‏ نعم إذا كثر الخبيث»‏.‏

وقد كانت الرؤيا منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن‏.‏ وقد وقعت غارات التتار بعدها، ودمرت ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية على يد هولاكو في خلافة المستعصم آخر ملوك العباسيين‏.‏ وقد يكون هذا تعبير رؤيا الرسول- صلى الله عليه وسلم- وعلم ذلك عند الله‏.‏ وكل ما نقوله ترجيح لا يقين‏.‏

ثم نعود إلى سياق السورة‏.‏ فنجده يعقب على ذكر ذي القرنين للوعد الحق بمشهد من مشاهد القيامة‏.‏

‏{‏وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض، ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا؛ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً، الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري، وكانوا لا يستطيعون سمعا‏}‏‏.‏

وهو مشهد يرسم حركة الجموع البشرية من كل لون وجنس وأرض‏.‏ ومن كل جيل وزمان وعصر، مبعوثين منشرين‏.‏ يختلطون ويضطربون في غير نظام وفي غير انتباه، تتدافع جموعهم تدافع الموج وتختلط اختلاط الموج‏.‏‏.‏ ثم إذا نفخة التجمع والنظام‏:‏ ‏{‏ونفخ في الصُّور فجمعناهم جمعا‏}‏ فإذا هم في الصف في نظام‏!‏

ثم إذا الكافرون الذين أعرضوا عن ذكر الله حتى لكأن على عيونهم غطاء، ولكأن في أسماعهم صمماً‏.‏‏.‏ إذا بهؤلاء تعرض عليهم جهنم فلا يعرضون عنها كما كانوا يعرضون عن ذكر الله‏.‏ فما يستطيعون اليوم إعراضاً‏.‏ لقد نزع الغطاء عن عيونهم نزعاً فرأوا عاقبة الإعراض والعمى جزاء وفاقاً‏!‏

والتعبير ينسق بين الإعراض والعرض متقابلين في المشهد، متقابلين في الحركة على طريقة التناسق الفني في القرآن‏.‏

ويعقب على هذا التقابل بالتهكم اللاذع والسخرية المريرة‏:‏

‏{‏أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء‏.‏ إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا‏}‏‏.‏‏.‏

أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا مخلوقات الله المستعبدة له انصاراً لهم من دونه، ينصرونهم منه ويدفعون عنهم سلطانه‏؟‏ إذن فليلقوا عاقبة هذا الحسبان‏:‏ ‏{‏إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا‏}‏‏.‏‏.‏ ويا له من نزل مهيأ للاستقبال، لا يحتاج إلى جهد ولا انتظار‏.‏ فهو حاضر ينتظر النزلاء الكفار‏!‏

ثم تختم السورة بالإيقاعات الأخيرة، تلخص خطوطها الكثيرة، وتجمع إيقاعاتها المتفرقة‏:‏

فأما الإيقاع الأول فهو الإيقاع حول القيم والموازين كما هي في عرف الضالين، وكما هي على وجه اليقين‏.‏‏.‏ قيم الأعمال وقيم الأشخاص‏.‏‏.‏

‏{‏قل‏:‏ هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً‏.‏ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً‏؟‏ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً‏}‏‏.‏

‏{‏قل‏:‏ هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً‏}‏ الذين لا يوجد من هم أشد منهم خسراناً‏؟‏ ‏{‏الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا‏}‏ فلم يؤد بهم إلى الهدى، ولم ينته بهم إلى ثمرة أو غاية‏:‏ ‏{‏وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا‏}‏ لأنهم من الغفلة بحيث لا يشعرون بضلال سعيهم وذهابه سدى، فهم ماضون في هذا السعي الخائب الضال، ينفقون حياتهم فيه هدراً‏.‏‏.‏

قل هل ننبئكم من هم هؤلاء‏؟‏

وعندما يبلغ من استتارة التطلع والانتظار إلى هذا الحد يكشف عنهم فإذا هم‏:‏

‏{‏أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم‏}‏‏.‏‏.‏

وأصل الحبوط هو انتفاخ بطن الدابة حين تتغذى بنوع سام من الكلأ ثم تلقى حتفها‏.‏‏.‏ وهو أنسب شيء لوصف الأعمال‏.‏‏.‏ إنها تنتفخ وأصحابها يظنونها صالحة ناجحة رابحة‏.‏‏.‏ ثم تنتهي إلى البوار‏!‏

‏{‏أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً‏}‏‏.‏‏.‏

فهم مهملون، لا قيمة لهم ولا وزن في ميزان القيم الصحيحة ‏{‏يوم القيامة‏}‏‏.‏

ولهم بعد ذلك جزاؤهم‏:‏

‏{‏ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا‏}‏‏.‏

ويتم التعاون في المشهد بعرض كفة المؤمنين في الميزان وقيمتهم‏:‏

‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا‏.‏ خالدين فيها لا يبغون عنها حولا‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا النزل في جنات الفردوس في مقابل ذلك النزل في نار جهنم‏.‏ وشتان شتان‏!‏

ثم هذه اللفتة الدقيقة العميقة إلى طبيعة النفس البشرية وإحساسها بالمتاع في قوله‏:‏ ‏{‏لا يبغون عنها حولا‏}‏‏.‏‏.‏ وهي تحتاج منا إلى وقفة بإزاء ما فيها من عمق ودقة‏.‏‏.‏

إنهم خالدون في جنات الفردوس‏.‏‏.‏ ولكن النفس البشرية حوَّل قلب‏.‏ تمل الاطراد، وتسأم البقاء على حال واحدة أو مكان واحد؛ وإذا اطمأنت على النعيم من التغير والنفاد فقدت حرصها عليه‏.‏ وإذا مضى على وتيرة واحدة فقد تسأمه‏.‏ بل قد تنتهي إلى الضيق به؛ والرغبة في الفرار منه‏!‏

هذه هي الفطرة التي فطر عليها الأنسان لحكمة عليا تناسب خلافته للأرض، ودوره في هذه الخلافة‏.‏ فهذا الدور يقتضي تحوير الحياة وتطويرها حتى تبلغ الكمال المقدر لها في علم الله‏.‏ ومن ثم ركز في الفطرة البشرية حب التغيير والتبديل؛ وحب الكشف والاستطلاع، وحب الانتقال من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان، ومن مشهد إلى مشهد، ومن نظام إلى نظام‏.‏‏.‏ وذلك كي يندفع الإنسان في طريقه، يغير في واقع الحياة، ويكشف عن مجاهل الأرض؛ ويبدع في نظم المجتمع وفي أشكال المادة‏.‏‏.‏ ومن وراء التغير والكشف والإبداع ترتقي الحياة وتتطور؛ وتصل شيئاً فشيئاً إلى الكمال المقدر لها في علم الله‏.‏

نعم إنه مركوز في الفطرة كذلك ألفة القديم، والتعلق بالمألوف، والمحافظة على العادة‏.‏ ولكن ذلك كله بدرجة لا تشل عملية التطور والإبداع، ولا تعوق الحياة عن الرقي والارتفاع‏.‏ ولا تنتهي بالأفكار والأوضاع إلى الجمود والركود‏.‏ إنما هي المقاومة التي تضمن التوازن مع الاندفاع‏.‏ وكلما اختل التوازن فغلب الجمود في بيئة من البيئات انبعثت الثورة التي تدفع بالعجلة دفعة قوية قد تتجاوز حدود الاعتدال‏.‏ وخير الفترات هي فترات التعادل بين قوتي الدفع والجذب، والتوازن بين الدوافع والضوابط في جهاز الحياة‏.‏

فأما إذا غلب الركود والجمود‏.‏ فهو الإعلان بانحسار دوافع الحياة، وهو الإيذان بالموت في حياة الأفراد والجماعات سواء‏.‏

هذه هي الفطرة المناسبة لخلافة الإنسان في الأرض‏.‏ فأما في الجنة وهي دار الكمال المطلق‏.‏‏.‏ فإن هذه الفطرة لا تقابلها وظيفة‏.‏ ولو بقيت النفس بفطرة الأرض، وعاشت في هذا النعيم المقيم الذي لا تخشى عليه النفاد، ولا تتحول هي عنه، ولا يتحول هو عنها لانقلب النعيم جحيماً لهذه النفس بعد فترة من الزمان؛ ولأصبحت الجنة سجناً لنزلائها يودون لو يغادرونه فترة، ولو إلى الجحيم، ليرضوا نزعة التغير والتبديل‏!‏

ولكن بارئ هذه النفس وهو أعلم بها يحول رغباتها، فلا تعود تبغي التحول عن الجنة، وذلك في مقابل الخلود الذي لا تحول له ولا نفاد‏!‏

وأما الإيقاع الثاني فيصور العلم البشري المحدود بالقياس إلى العلم الإلهي الذي ليست له حدود؛ ويقربه إلى تصور البشر القاصر بمثال محسوس على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير‏.‏

‏{‏قل‏:‏ لو كان البحر مداداً لكلمات ربي، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً‏}‏‏.‏‏.‏

والبحر أوسع وأغزر ما يعرفه البشر، والبشر يكتبون بالمداد كل ما يكتبون؛ وكل ما يسجلون به علمهم الذي يعتقدون أنه غزير‏!‏

فالسياق يعرض لهم البحر بسعته وغزارته في صورة مداد يكتبون به كلمات الله الدالة على علمه؛ فإذا البحر ينفد وكلمات الله لا تنفد‏.‏ ثم إذا هو يمدهم ببحر آخر مثله، ثم إذا البحر الآخر ينفد كذلك وكلمات الله تنتظر المداد‏!‏

وبهذا التصوير المحسوس والحركة المجسمة يقرب إلى التصور البشري المحدود معنى غير المحدود، ونسبة المحدود إليه مهما عظم واتسع‏.‏

والمعنى الكلي المجرد يظل حائراً في التصور البشري ومائعاً حتى يتمثل في صورة محسوسة‏.‏ ومهما أوتي العقل البشري من القدرة على التجريد فإنه يظل في حاجة إلى تمثل المعنى المجرد في صور وأشكال وخصائص ونماذج‏.‏‏.‏ ذلك شأنه مع المعاني المجردة التي تمثل المحدود، فكيف بغير المحدود‏؟‏

لذلك يضرب القرآن الأمثال للناس؛ ويقرب إلى حسهم معانيه الكبرى بوضعها في صور ومشاهد، ومحسوسات ذات مقومات وخصائص وأشكال على مثال هذا المثال‏.‏

والبحر في هذا المثال يمثل علم الإنسان الذي يظنه واسعاً غزيراً‏.‏ وهو على سعته وغزارته محدود‏.‏ وكلمات الله تمثل العلم الإلهي الذي لا حدود له، والذي لا يدرك البشر نهايته؛ بل لا يستطيعون تلقيه وتسجيله‏.‏ فضلاً على محاكاته‏.‏

ولقد يدرك البشر الغرور بما يكشفونه من أسرار في أنفسهم وفي الآفاق، فتأخذهم نشوة الظفر العلمي، فيحسبون أنهم علموا كل شيء، أو أنهم في الطريق‏!‏

ولكن المجهول يواجههم بآفاقه المترامية التي لا حد لها، فإذا هم ما يزالون على خطوات من الشاطئ، والخضم أمامهم أبعد من الأفق الذي تدركه أبصارهم‏!‏

إن ما يطيق الإنسان تلقيه وتسجيله من علم ضئيل قليل، لأنه يمثل نسبة المحدود إلى غير المحدود‏.‏

فليعلم الإنسان ما يعلم؛ وليكشف من أسرار هذا الوجود ما يكشف‏.‏‏.‏ ولكن ليطامن من غروره العلمي، فسيظل أقصى ما يبلغه علمه ان يكون البحر مداداً في يده‏.‏ وسينفد البحر وكلمات الله لم تنفد؛ ولو أمده الله ببحر مثله فسينتهي من بين يديه وكلمات الله ليست إلى نفاد‏.‏‏.‏

وفي ظل هذا المشهد الذي يتضاءل فيه علم الإنسان ينطلق الإيقاع الثالث والأخير في السورة، فيرسم أعلى أفق للبشرية وهو أفق الرسالة الكاملة الشاملة‏.‏

فإذا هو قريب محدود بالقياس إلى الأفق الأعلى الذي تتقاصر دونه الأبصار، وتنحسر دونه الأنظار‏:‏

‏{‏قل‏:‏ إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد‏.‏ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً‏}‏‏.‏‏.‏

إنه أفق الألوهية الأسمى‏.‏‏.‏ فأين هنا آفاق النبوة، وهي على كل حال آفاق بشرية‏؟‏

‏{‏قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏ بشر يتلقى من ذلك الأفق الأسمى‏.‏ بشر يستمد من ذلك المعين الذي لا ينضب‏.‏ بشر لا يتجاوز الهدى الذي يتلقاه من مولاه‏.‏ بشر يتعلم فيعلم فيعلم‏.‏‏.‏ فمن كان يتطلع إلى القرب من ذلك الجوار الأسنى، فلينتفع بما يتعلم من الرسول الذي يتلقى، وليأخذ بالوسيلة التي لا وسيلة سواها‏:‏

‏{‏فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً‏}‏‏.‏‏.‏

هذا هو جواز المرور إلى ذلك اللقاء الأثير‏.‏

وهكذا تختم السورة التي بدأت بذكر الوحي والتوحيد بتلك الإيقاعات المتدرجة في العمق والشمول، حتى تصل إلى نهايتها فيكون هذا الإيقاع الشامل العميق، الذي ترتكز عليه سائر الأنغام في لحن العقيدة الكبير‏.‏‏.‏