فصل: تفسير الآيات رقم (204- 214)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏204- 214‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ‏(‏204‏)‏ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ‏(‏205‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏206‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏207‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏208‏)‏ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏209‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏210‏)‏ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏211‏)‏ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏212‏)‏ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏213‏)‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ‏(‏214‏)‏‏}‏

في ثنايا التوجيهات والتشريعات القرآنية- التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية- يجد الناظر في هذه التوجيهات كذلك منهجاً للتربية، قائماً على الخبرة المطلقة بالنفس الإنسانية، ومساربها الظاهرة والخفية؛ يأخذ هذه النفس من جميع أقطارها، كما يتضمن رسم نماذج من نفوس البشر، واضحة الخصائص جاهرة السمات، حتى ليخيل للإنسان وهو يتصفح هذه الخصائص والسمات، أنه يرى ذوات بعينها، تدب في الأرض، وتتحرك بين الناس، ويكاد يضع يده عليها، وهو يصيح‏:‏ هذه هي بعينها التي عناها القرآن‏!‏

وفي هذا الدرس نجد الملامح الواضحة لنموذجين من نماذج البشر‏:‏ الأول نموذج المرائي الشرير، الذلق اللسان‏.‏ الذي يجعل شخصه محور الحياة كلها‏.‏ والذي يعجبك مظهره ويسوؤك مخبره‏.‏ فإذا دعي إلى الصلاح وتقوى الله لم يرجع إلى الحق؛ ولم يحاول إصلاح نفسه؛ بل أخذته العزة بالإثم، واستنكف أن يوجه إلى الحق والخير‏.‏‏.‏ ومضى في طريقه يهلك الحرث والنسل‏!‏ والثاني نموذج المؤمن الصادق الذي يبذل نفسه كلها لمرضاة الله‏!‏ لا يستبقي منها بقية، ولا يحسب لذاته حساباً في سعيه وعمله، لأنه يفنى في الله، ويتوجه بكليته إليه‏.‏

وعقب عرض هذين النموذجين نسمع هتافاً بالذين آمنوا ليستسلموا بكليتهم لله، دون ما تردد، ودون ما تلفت، ودون ما تجربة لله بطلب الخوارق والمعجزات، كالذي فعلته بنو إسرائيل حين بدلت نعمة الله عليها وكفرتها‏.‏‏.‏ ويسمى هذا الاستسلام دخولاً في السلم‏.‏ فيفتح بهذه الكلمة باباً واسعاً للتصور الحقيقي الكامل لحقيقة الإيمان بدين الله، والسير على منهجه في الحياة ‏(‏كما سنفصل هذا عند مواجهة النص القرآني بإذن الله‏)‏‏.‏

وفي مواجهة نعمة الإيمان الكبرى، وحقيقة السلام التي تنشر ظلالها على الذين آمنوا‏.‏‏.‏ يعرض سوء تصور الكفار لحقيقة الأمر، وسخريتهم من الذين آمنوا بسبب ذلك التصور الضال‏.‏ ويقرر إلى جانب ذلك حقيقة القيم في ميزان الله‏:‏ ‏{‏والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة‏}‏‏.‏‏.‏

يلي هذا تلخيص لقصة اختلاف الناس‏.‏ وبيان للميزان الذي يجب أن يفيئوا إليه ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه‏.‏ وتقرير لوظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين ‏{‏الناس فيما اختلفوا فيه‏}‏‏.‏‏.‏

ويتطرق من هذا إلى ما ينتظر القائمين على هذا الميزان من مشاق الطريق؛ ويخاطب الجماعة المسلمة فيكشف لها عما ينتظرها في طريقها الشائك من البأساء والضراء والجهد الذي لقيته كل جماعة نيطت بها هذه الأمانة من قبل‏.‏ كي تعد نفسها لتكاليف الأمانة التي لا مفر منها ولا محيص عنها‏.‏ وكي تقبل عليها راضية النفس، مستقرة الضمير؛ تتوقع نصر الله كلما غام الأفق، وبدا أن الفجر بعيد‏!‏

وهكذا نرى أطرافاً من المنهج الرباني في تربية الجماعة المسلمة وإعدادها، تنحو أنحاء منوعة من الإيقاعات المؤثرة، تتخلل التوجيهات والتشريعات التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية‏.‏

‏{‏ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا، ويشهد الله على ما في قلبه، وهو ألد الخصام‏.‏ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد‏.‏ وإذا قيل له‏:‏ اتق الله أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد‏.‏‏.‏ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، والله رؤوف بالعباد‏}‏‏.‏‏.‏

هذه اللمسات العجيبة من الريشة المبدعة في رسم ملامح النفوس، تشي بذاتها بأن مصدر هذا القول المعجز ليس مصدراً بشرياً على الإطلاق‏.‏ فاللمسات البشرية لا تستوعب- في لمسات سريعة كهذه- أعمق خصائص النماذج الإنسانية، بهذا الوضوح، وبهذا الشمول‏.‏

إن كل كلمة أشبه بخط من خطوط الريشة في رسم الملامح وتحديد السمات‏.‏‏.‏ وسرعان ما ينتفض النموذج المرسوم كائناً حياً، مميز الشخصية‏.‏ حتى لتكاد تشير بأصبعك إليه، وتفرزه من ملايين الأشخاص، وتقول‏:‏ هذا هو الذي أراد إليه القرآن‏!‏‏.‏‏.‏ إنها عملية خلق أشبه بعملية الخلق التي تخرج كل لحظة من يد الباريء في عالم الأحياء‏!‏

هذا المخلوق الذي يتحدث، فيصور لك نفسه خلاصة من الخير، ومن الإخلاص، ومن التجرد، ومن الحب، ومن الترفع، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس‏.‏‏.‏ هذا الذي يعجبك حديثه‏.‏ تعجبك ذلاقة لسانه، وتعجبك نبرة صوته، ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح‏.‏‏.‏ ‏{‏ويشهد الله على ما في قلبه‏}‏‏.‏‏.‏ زيادة في التأثير والإيحاء، وتوكيداً للتجرد والإخلاص، وإظهاراً للتقوى وخشية الله‏.‏‏.‏ ‏{‏وهو ألد الخصام‏}‏ ‏!‏ تزدحم نفسه باللدد والخصومة، فلا ظل فيها للود والسماحة، ولا موضع فيها للحب والخير، ولا مكان فيها للتجمل والإيثار‏.‏

هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه، ويتنافر مظهره ومخبره‏.‏‏.‏‏.‏ هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان‏.‏‏.‏ حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء، وانكشف المستور، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد‏:‏

‏{‏وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها، ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد‏}‏‏.‏‏.‏

وإذا انصرف إلى العمل، كانت وجهته الشر والفساد، في قسوة وجفوة ولدد، تتمثل في إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات والإثمار، ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال‏.‏‏.‏ وإهلاك الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد من الحقد والشر والغدر والفساد‏.‏‏.‏ مما كان يستره بذلاقة اللسان، ونعومة الدهان، والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح‏.‏‏.‏ ‏{‏والله لا يحب الفساد‏}‏‏.‏‏.‏ ولا يحب المفسدين الذين ينشئون في الأرض الفساد‏.‏‏.‏ والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس؛ ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا، فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر‏.‏

ويمضي السياق يوضح معالم الصورة ببعض اللمسات‏:‏

‏{‏وإذا قيل له‏:‏ اتق الله أخذته العزة بالإثم‏.‏ فحسبه جهنم ولبئس المهاد‏}‏‏.‏‏.‏

إذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض؛ وأهلك الحرث والنسل؛ ونشر الخراب والدمار؛ وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد‏.‏ إذا فعل هذا كله ثم قيل له‏:‏ ‏{‏اتق الله‏}‏‏.‏‏.‏ تذكيراً له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه‏.‏‏.‏ أنكر أن يقال له هذا القول؛ واستكبر أن يوجه إلى التقوى؛ وتعاظم أن يؤخذ عليه خطأ وأن يوجه إلى صواب‏.‏ وأخذته العزة لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير ولكن ‏{‏بالإثم‏}‏‏.‏‏.‏ فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يذكر به، وأمام الله بلا حياء منه؛ وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه ‏;‏ ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء‏!‏

إنها لمسة تكمل ملامح الصورة، وتزيد في قسماتها وتمييزها بذاتها‏.‏‏.‏ وتدع هذا النموذج حياً يتحرك‏.‏ تقول في غير تردد‏:‏ هذا هو‏.‏ هذا هو الذي عناه القرآن‏!‏ وأنت تراه أمامك ماثلا في الأرض الآن وفي كل آن‏!‏

وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم؛ واللدد في الخصومة؛ والقسوة في الفساد؛ والفجور في الإفساد‏.‏‏.‏ في مواجهة هذا كله يجبهه السياق باللطمة اللائقة بهذه الجبلة النكدة‏:‏

‏{‏فحسبه جهنم ولبئس المهاد‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

حسبه‏!‏ ففيها الكفاية‏!‏ جهنم التي وقودها الناس والحجارة‏.‏ جهنم التي يكبكب فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون‏.‏ جهنم الحطمة التي تطلع على الأفئدة‏.‏ جهنم التي لا تبقي ولا تذر‏.‏ جهنم التي تكاد تميز من الغيظ‏!‏ حسبه جهنم ‏{‏ولبئس المهاد‏!‏‏}‏ ويا للسخرية القاصمة في ذكر ‏{‏المهاد‏}‏ هنا‏.‏‏.‏ ويا لبؤس من كان مهاده جهنم بعد الاعتزاز والنفخة والكبرياء‏!‏

‏.‏‏.‏‏.‏ ذلك نموذج من الناس‏.‏ يقابله نموذج آخر على الطرف الآخر من القياس‏:‏

‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله‏.‏ والله رؤوف بالعباد‏}‏‏.‏‏.‏

ويشري هنا معناها يبيع‏.‏ فهو يبيع نفسه كلها لله؛ ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية، ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله‏.‏ ليس له فيها شيء، وليس له من ورائها شيء‏.‏ بيعة كاملة لا تردد فها ولا تلفت ولا تحصيل ثمن، ولا استبقاء بقية لغير الله‏.‏‏.‏ والتعبير يحتمل معنى آخر يؤدي إلى نفس الغاية‏.‏‏.‏ يحتمل أن يشتري نفسه بكل أعراض الحياة الدنيا، ليعتقها ويقدمها خالصة لله، لا يتعلق بها حق آخر إلا حق مولاه‏.‏ فهو يضحي كل أعراض الحياة الدنيا ويخلص بنفسه مجردة لله‏.‏ وقد ذكرت الروايات سبباً لنزول هذه الآية يتفق مع هذا التأويل الأخير‏:‏

قال ابن كثير في التفسير‏:‏ قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة‏:‏ نزلت في صهيب بن سنان الرومي‏.‏ وذلك أنه لما أسلم بمكة، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل؛ فتخلص منهم، وأعطاهم ماله؛ فأنزل الله فيه هذه الآية؛ فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة، فقالوا له‏:‏ ربح البيع‏.‏

فقال‏:‏ وأنتم‏.‏ فلا أخسر الله تجارتكم‏.‏ وما ذاك‏؟‏ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية‏.‏‏.‏ «ويروى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال له‏:‏ ربح البيع صهيب»‏.‏ قال ابن مردويه‏:‏ حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن عبد الله بن مردويه، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا جعفر بن سليمان الضبي، حدثنا عوف، عن أبي عثمان النهدي، «عن صهيب، قال‏:‏ لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- قالت لي قريش‏:‏ يا صهيب‏.‏ قدمت إلينا ولا مال لك؛ وتخرج أنت ومالك‏؟‏ والله لا يكون ذلك أبداً‏.‏ فقلت لهم‏:‏ أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏!‏ فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏» ربح صهيب ربح صهيب «‏.‏‏.‏ مرتين‏.‏‏.‏»

وسواء كانت الآية نزلت في هذا الحادث، أو أنها كانت تنطبق عليه، فهي أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد‏.‏ وهي ترسم صورة نفس، وتحدد ملامح نموذج من الناس؛ ترى نظائره في البشرية هنا وهناك‏.‏

والصورة الأولى تنطبق على كل منافق مراء ذلق اللسان؛ فظ القلب، شرير الطبع، شديد الخصومة، مفسود الفطرة‏.‏‏.‏ والصورة الثانية تنطبق على كل مؤمن خالص الإيمان، متجرد لله، مرخص لأعراض الحياة‏.‏‏.‏ وهذا وذلك نموذجان معهودان في الناس؛ ترسمهما الريشة المبدعة بهذا الإعجاز؛ وتقيمهما أمام الأنظار يتأمل الناس فيهما معجزة القرآن، ومعجزة خلق الإنسان بهذا التفاوت بين النفاق والإيمان‏.‏ ويتعلم منهما الناس ألا ينخدعوا بمعسول القول، وطلاوة الدهان؛ وأن يبحثوا عن الحقيقة وراء الكلمة المزوقة، والنبرة المتصنعة، والنفاق والرياء والزواق‏!‏ كما يتعلمون منهما كيف تكون القيم في ميزان الإيمان‏.‏

وفي ظلال هاتين اللوحتين المشخصتين لنموذج النفاق الفاجر، ونموذج الإيمان الخالص‏.‏ يهتف بالجماعة المسلمة، باسم الإيمان الذي تعرف به، للدخول في السلم كافة، والحذر من اتباع خطوات الشيطان، مع التحذير من الزلل بعد البيان‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين‏.‏ فإن زللتم، من بعد ما جاءتكم البينات، فاعلموا أن الله عزيز حكيم‏}‏‏.‏‏.‏

إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان‏.‏ بهذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم بالله الذي يدعوهم‏.‏‏.‏ دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة‏.‏‏.‏

وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله، في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم‏.‏ أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور، ومن نية أو عمل، ومن رغبة أو رهبة، لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه‏.‏

استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية‏.‏ الاستسلام لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد؛ وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير، في الدنيا والآخرة سواء‏.‏

وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن‏.‏ وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية‏.‏‏.‏ وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا؛ ليخلصوا ويتجردوا؛ وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت‏.‏

والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام‏.‏ عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار‏.‏ لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال‏.‏ سلام مع النفس والضمير‏.‏ سلام مع العقل والمنطق‏.‏ سلام مع الناس والأحياء‏.‏ سلام مع الوجود كله ومع كل موجود‏.‏ سلام يرف في حنايا السريرة‏.‏ وسلام يظلل الحياة والمجتمع‏.‏ سلام في الأرض وسلام في السماء‏.‏

وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه، ونصاعة هذا التصور وبساطته‏.‏‏.‏

إنه إله واحد‏.‏ يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه؛ فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل؛ ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك- كما كان في الوثنية والجاهلية- إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح‏.‏

وهو إله قوي قادر عزيز قاهر‏.‏‏.‏ فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود‏.‏ وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح‏.‏ ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئاً، وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر‏.‏ ولم يعد يخشى فوت شيء‏.‏ ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء‏.‏

وهو إله عادل حكيم، فقوته وقدرته ضمان من الظلم، وضمان من الهوى، وضمان من البخس‏.‏ وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات‏.‏ ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والرعاية والأمان‏.‏

وهو رب رحيم ودود‏.‏ منعم وهاب‏.‏ غافر الذنب وقابل التوب‏.‏ يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء‏.‏ فالمسلم في كنفه آمن آنس، سالم غانم، مرحوم إذا ضعف، مغفور له متى تاب‏.‏‏.‏

وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام؛ فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه، وما يطمئن روحه، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام‏.‏‏.‏

كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب‏.‏

وبين الخالق والكون‏.‏ وبين الكون والإنسان‏.‏‏.‏ فالله خلق هذا الكون بالحق؛ وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة‏.‏ وهذا الإنسان مخلوق قصداً، وغير متروك سدى، ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده، ومسخر له ما في الأرض جميعاً‏.‏ وهو كريم على الله، وهو خليفته في أرضه‏.‏ والله معينه على هذه الخلافة‏.‏ والكون من حوله صديق مأنوس، تتجاوب روحه مع روحه، حين يتجه كلاهما إلى الله ربه‏.‏ وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به‏.‏ وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود الكبير، الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان‏!‏ والذي يؤلفون كلهم هذا المهرجان‏!‏

والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة، وهي توحي إليه أن له أجراً حين يرويها من عطش، وحين يعينها على النماء، وحين يزيل من طريقها العقبات‏.‏‏.‏ هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة‏.‏ عقيدة تسكب في روحه السلام؛ وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود؛ ويشيع من حوله الأمن والرفق، والحب والسلام‏.‏

والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه؛ ونفي القلق والسخط والقنوط‏.‏‏.‏ إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض؛ والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة‏.‏‏.‏ إن الحساب الختامي هناك؛ والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب‏.‏ فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه‏.‏ ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس، فسوف يوفاه بميزان الله‏.‏ ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد، فالعدل لا بد واقع‏.‏ وما الله يريد ظلماً للعباد‏.‏

والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات‏.‏ بلا تحرج ولا حياء فهناك الآخرة فيها عطاء، وفيها غناء، وفيها عوض عما يفوت‏.‏ وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة؛ وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين؛ وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود‏!‏

ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة، وأنه مخلوق ليعبد الله‏.‏‏.‏ من شأنها- ولا شك- أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء‏.‏ ترفع شعوره وضميره، وترفع نشاطه وعمله، وتنظف وسائله وأدواته‏.‏ فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله؛ وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه؛ وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج الله فيها‏.‏ فأولى به ألا يغدر ولا يفجر؛ وأولى به ألا يغش ولا يخدع؛ وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر؛ وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة‏.‏

وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل، وألا يعتسف الطريق، وألا يركب الصعب من الأمور‏.‏ فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة‏.‏‏.‏ ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع، وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق‏.‏ فهو يعبد في كل خطوة؛ وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة، وهو يرتقي صعداً إلى الله في كل نشاط وفي كل مجال‏.‏

وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله، في طاعة الله، لتحقيق إرادة الله‏.‏‏.‏ وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار؛ والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق؛ وبلا قنوط من عون الله ومدده؛ وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء‏.‏‏.‏ ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه‏.‏ فهو إنما يقاتل لله، وفي سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله؛ ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة‏.‏

كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة الله مع هذا الكون كله‏.‏ قانونه قانونه، ووجهته وجهته‏.‏ فلا صدام ولا خصام، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة‏.‏ وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به، وتتجه إلى الله وهو معها يتجه إلى الله‏.‏

والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة‏.‏ لا تتجاوز الطاقة؛ ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه؛ ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء؛ ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء‏.‏‏.‏ ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه‏.‏ يحمل منها ما يطيق حمله، ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام‏.‏

والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني، في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال‏.‏‏.‏ كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام‏.‏

هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق‏.‏ هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره‏.‏ ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب، تختلف درجة صفائه، ولكنه يظل في جملته خيراً من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر، وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية‏!‏

هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة- آصرة العقيدة- حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان، واللغات والألوان، وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان‏.‏‏.‏

هذا المجتمع الذي يسمع الله يقول له‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون إخوة‏}‏ والذي يرى صورته في قول النبي الكريم‏:‏ «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»‏.‏

هذا المجتمع الذي من آدابه‏:‏ ‏{‏وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏}‏ ‏{‏ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور‏}‏ ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن- فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم‏}‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب‏.‏ بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان‏.‏ ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون‏}‏ ‏{‏ولا يغتب بعضكم بعضاً‏.‏ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم‏}‏ هذا المجتمع الذي من ضماناته‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين‏}‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا‏}‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها‏}‏ و«كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله»‏.‏

ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة؛ ولا يتبجح فيه الإغراء، ولا تروج فيه الفتنة، ولا ينتشر فيه التبرج، ولا تتلفت فيه الأعين على العورات، ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات، ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديماً وحديثاً‏.‏‏.‏ هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة، والذي يسمع الله- سبحانه- يقول‏:‏ ‏{‏إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏ ‏{‏الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر؛ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين‏}‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون‏}‏ ‏{‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون‏.‏ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن، أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن، أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن، أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء‏.‏ ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون‏}‏ والذي يخاطب فيه نساء النبي- أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان‏:‏

‏{‏يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن‏.‏ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً‏.‏ وقرن في بيوتكن، ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة، وأطعن الله ورسوله‏.‏ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً‏}‏ وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها، ويأمن الزوج على زوجته، ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم، ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم‏.‏ حيث لا تقع العيون على المفاتن، ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم‏.‏ فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب‏.‏‏.‏ بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن، ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان‏!‏

وأخيراً إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملاً ورزقاً ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم، ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة، والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لو مات فيهم جائع؛ حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية‏.‏

والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع، بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع‏.‏ فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة، ولا يتسور على أحد بيته، ولا يتجسس على أحد فيه متجسس، ولا يذهب فيه دم هدراً والقصاص حاضر؛ ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهباً والحدود حاضرة‏.‏

المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون‏.‏ كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة الله لا بإرادة حاكم، ولا هوى حاشية ولا قرابة كبير‏.‏

وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية، الذي لا يخضع البشر فيه للبشر‏.‏ إنما يخضعون حاكمين ومحكومين لله ولشريعته؛ وينفذون حاكمين ومحكومين حكم الله وشريعته‏.‏ فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام الله رب العالمين وأحكم الحاكمين، في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين‏.‏‏.‏

هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة‏.‏ ليسلموا أنفسهم كلها لله؛ فلا يعود لهم منها شيء، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ؛ إنما تعود كلها لله في طواعية وفي انقياد وفي تسليم‏.‏‏.‏

ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان، في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام، أو التي عرفته ثم تنكرت له، وارتدت إلى الجاهلية، تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان‏.‏‏.‏ هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين‏.‏

وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو «السويد»‏.‏

حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام‏.‏ وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقداً والعلاج المجاني في المستشفيات‏.‏ وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت‏.‏‏.‏ وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب‏.‏‏.‏

ولكن ماذا‏؟‏ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان بالله‏؟‏

إنه شعب مهدد بالانقراض، فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط‏!‏ والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط‏!‏ والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات؛ ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة‏.‏ والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب‏.‏‏.‏ ثم الانتحار‏.‏‏.‏ والحال كهذا في أمريكا‏.‏‏.‏ والحال أشنع من هذا في روسيا‏.‏‏.‏

إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة‏.‏ فلا يذوق طعم السلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة، ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة‏.‏‏.‏ ولا تتبعوا خطوات الشيطان‏.‏ إنه لكم عدو مبين‏}‏‏.‏‏.‏

ولما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة‏.‏‏.‏ حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان‏.‏ فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان‏.‏ إما الدخول في السلم كافة، وإما اتباع خطوات الشيطان‏.‏ إما هدى وأما ضلال‏.‏ إما إسلام وإما جاهلية إما طريق الله وإما طريق الشيطان وإما هدى الله وإما غواية الشيطان‏.‏‏.‏ وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات‏.‏

إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحداً منها، أو يخلط واحدا منها بواحد‏.‏‏.‏ كلا‏!‏ إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر‏.‏‏.‏ إن هذا في سبيل الشيطان، سائر على خطوات الشيطان‏.‏‏.‏

ليس هنالك حل وسط، ولا منهج بين بين، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك‏!‏ إنما هناك حق وباطل‏.‏ هدى وضلال‏.‏ إسلام وجاهلية‏.‏ منهج الله أو غواية الشيطان‏.‏ والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة؛ ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان‏.‏ ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم، تلك العداوة الواضحة البينة، التي لا ينساها إلا غافل‏.‏ والغفلة لا تكون مع الإيمان‏.‏

ثم يخوفهم عاقبة الزلل بعد البيان‏:‏

‏{‏فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم‏}‏‏.‏

وتذكيرهم بأن الله ‏{‏عزيز‏}‏ يحمل التلويح بالقوة والقدرة والغلبة، وأنهم يتعرضون لقوة الله حين يخالفون عن توجيهه‏.‏‏.‏ وتذكيرهم بأنه ‏{‏حكيم‏}‏‏.‏ فيه إيحاء بأن ما اختاره لهم هو الخير، وما نهاهم عنه هو الشر، وأنهم يتعرضون للخسارة حين لا يتبعون أمره ولا ينتهون عما نهاهم عنه‏.‏‏.‏ فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في هذا المقام‏.‏‏.‏

بعد ذلك يتخذ السياق أسلوباً جديداً في التحذير من عاقبة الانحراف عن الدخول في السلم واتباع خطوات الشيطان‏.‏ فيتحدث بصيغة الغيبة بدلاً من صيغة الخطاب‏:‏

‏{‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة‏؟‏ وقضي الأمر، وإلى الله ترجع الأمور‏}‏‏.‏‏.‏

وهو سؤال استنكاري عن علة انتظار المترددين المتلكئين الذين لا يدخلون في السلم كافة‏.‏ ما الذي يقعد بهم عن الاستجابة‏؟‏ ماذا ينتظرون‏؟‏ وماذا يرتقبون‏؟‏ تراهم سيظلون هكذا في موقفهم حتى يأتيهم الله- سبحانه- في ظلل من الغمام وتأتيهم الملائكة‏؟‏ وبتعبير آخر‏:‏ هل ينتظرون ويتلكأون حتى يأتيهم اليوم الرعيب الموعود، الذي قال الله سبحانه‏:‏ إنه سيأتي فيه في ظلل من الغمام، ويأتي الملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً‏؟‏

وفجأة- وبينما نحن أمام السؤال الاستنكاري الذي يحمل طابع التهديد الرعيب- نجد أن اليوم قد جاء، وأن كل شيء قد انتهى، وأن القوم أمام المفاجأة التي كان يلوح لهم بها ويخوفهم إياها‏:‏

‏{‏وقضي الأمر‏}‏‏.‏‏.‏

وطوي الزمان، وأفلتت الفرصة، وعزت النجاة، ووقفوا وجهاً لوجه أمام الله؛ الذي ترجع إليه وحده الأمور‏:‏

‏{‏وإلى الله ترجع الأمور‏}‏‏.‏‏.‏

إنها طريقة القرآن العجيبة، التي تفرده وتميزه من سائر القول‏.‏ الطريقة التي تحيي المشهد وتستحضره في التو واللحظة، وتقف القلوب إزاءه وقفة من يرى ويسمع ويعاني ما فيه‏!‏

فإلى متى يتخلف المتخلفون عن الدخول في السلم؛ وهذا الفزع الأكبر ينتظرهم‏؟‏ بل هذا الفزع الأكبر يدهمهم‏!‏ والسلم منهم قريب‏.‏ السلم في الدنيا والسلم في الآخرة يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً‏.‏ يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً‏.‏ يوم يقضي الأمر‏.‏‏.‏ وقد قضي الأمر‏!‏ ‏{‏وإلى الله ترجع الأمور‏}‏‏.‏‏.‏

هنا يلتفت السياق لفتة أخرى‏.‏ فيخاطب النبي- صلى الله عليه وسلم- يكلفه أن يسأل بني إسرائيل- وهم نموذج التلكؤ في الاستجابة كما وصفتهم هذه السورة من قبل-‏:‏ كم آتاهم الله من آية بينة ثم لم يستجيبوا‏!‏ وكيف بدلوا نعمة الله، نعمة الإيمان والسلم، من بعد ما جاءتهم‏:‏

‏{‏سل بني إسرائيل‏:‏ كم آتيناهم من آية بينة، ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب‏}‏‏.‏‏.‏

والعودة هنا إلى بني إسرائيل عودة طبيعية، فهنا تحذير من موقف بنو إسرائيل فيه أصلاء‏!‏ موقف التلكؤ دون الاستجابة؛ وموقف النشوز وعدم الدخول في السلم كافة؛ وموقف التعنت وسؤال الخوارق، ثم الاستمرار في العناد والجحود‏.‏

‏.‏ وهذه هي مزالق الطريق التي يحذر الله الجماعة المسلمة منها، كي تنجو من عاقبة بني إسرائيل المنكودة‏.‏

‏{‏سل بني إسرائيل‏:‏ كم آتيناهم من آية بينة‏}‏‏.‏‏.‏

والسؤال هنا قد لا يكون مقصوراً على حقيقته‏.‏ إنما هو أسلوب من أساليب البيان، للتذكير بكثرة الآيات التي آتاها الله بني إسرائيل، والخوارق التي أجراها لهم‏.‏‏.‏ إما بسؤال منهم وتعنت، وإما ابتداء من عند الله لحكمة حاضرة‏.‏‏.‏ ثم ما كان منهم- على الرغم من كثرة الخوارق- من تردد وتلكؤ وتعنت ونكوص عن السلم الذي يظلل كنف الإيمان‏.‏

ثم يجيء التعقيب عاماً‏:‏

‏{‏ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب‏}‏‏.‏‏.‏

ونعمة الله المشار إليها هنا هي نعمة السلم‏.‏ أو نعمة الإيمان‏.‏ فهما مترادفان‏.‏ والتحذير من تبديلها يجد مصداقه أولاً في حال بني إسرائيل، وحرمانهم من السلم والطمأنينة والاستقرار، منذ أن بدلوا نعمة الله، وأبوا الطاعة الراضية، والاستسلام لتوجيه الله‏.‏ وكانوا دائماً في موقف الشاك المتردد، الذي يظل يطلب الدليل من الخارقة في كل خطوة وكل حركة؛ ثم لا يؤمن بالمعجزة، ولا يطمئن لنور الله وهداه، والتهديد بشدة عقاب الله يجد مصداقه أولاً في حال بني إسرائيل، ويجد مصداقه أخيراً فيما ينتظر المبدلين للنعمة المتبطرين عليها في كل زمان‏.‏

وما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في حياتها على الأرض قبل عقاب الآخرة‏.‏ وها هي ذي البشرية المنكودة الطالع في أنحاء الأرض كلها تعاني العقاب الشديد؛ وتجد الشقوة النكدة؛ وتعاني القلق والحيرة؛ ويأكل بعضها بعضاً؛ ويأكل الفرد منها نفسه وأعصابه، ويطاردها وتطارده بالأشباح المطلقة، وبالخواء القاتل الذي يحاول المتحضرون أن يملأوه تارة بالمسكرات والمخدرات، وتارة بالحركات الحائرة التي يخيل إليك معها أنهم هاربون تطاردهم الأشباح‏!‏

ونظرة إلى صورهم في الأوضاع العجيبة المتكلفة التي يظهرون بها‏:‏ من مائلة برأسها، إلى كاشفة عن صدرها، إلى رافعة ذيلها، إلى مبتدعة قبعة غريبة على هيئة حيوان‏!‏ إلى واضع رباط عنق رسم عليه تيتل أو فيل‏!‏ إلى لابس قميص تربعت عليه صورة أسد أو دب‏!‏

ونظرة إلى رقصاتهم المجنونة، وأغانيهم المحمومة، وأوضاعهم المتكلفة وأزيائهم الصارخة في بعض الحفلات والمناسبات؛ ومحاولة لفت النظر بالشذوذ الصارخ، أو ترضية المزاج بالتميز الفاضح‏.‏‏.‏

ونظرة إلى التنقل السريع المحموم بين الأهواء والأزواج والصداقات والأزياء بين فصل وفصل، لا بل بين الصباح والمساء‏!‏

كل أولئك يكشف عن الحيرة القاتلة التي لا طمأنينة فيها ولا سلام‏.‏ ويكشف عن حالة الملل الجاثم التي يفرون منها، وعن حالة «الهروب» من أنفسهم الخاوية وأرواحهم الموحشة، كالذي تطارده الجنة والأشباح‏.‏

وإن هو إلا عقاب الله، لمن يحيد عن منهجه، ولا يستمع لدعوته‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة‏}‏‏.‏‏.‏

وإن الإيمان الواثق لنعمة الله على عباده، لا يبدلها مبدل حتى يحيق به ذلك العقاب‏.‏‏.‏ والعياذ بالله‏.‏‏.‏

وفي ظل هذا التحذير من التلكؤ في الاستجابة، والتبديل بعد النعمة، يذكر حال الذين كفروا وحال الذين آمنوا؛ ويكشف عن الفرق بين ميزان الذين كفروا وميزان الذين آمنوا للقيم والأحوال والأشخاص‏:‏

‏{‏زين للذين كفروا الحياة الدنيا، ويسخرون من الذين آمنوا، والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة، والله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏‏.‏‏.‏

لقد زينت للذين كفروا هذه الحياة الدنيا؛ بأعراضها الزهيدة، واهتماماتها الصغيرة‏.‏ زينت لهم فوقفوا عندها لا يتجاوزونها؛ ولا يمدون بأبصارهم إلى شيء وراءها؛ ولا يعرفون قيماً أخرى غير قيمها‏.‏ والذي يقف عند حدود هذه الحياة الدنيا لا يمكن أن يسمو تصوره إلى تلك الاهتمامات الرفيعة التي يحفل بها المؤمن، ويمد إليها بصره في آفاقها البعيدة‏.‏‏.‏ إن المؤمن قد يحتقر أعراض الحياة كلها؛ لا لأنه أصغر منها همة أو أضعف منها طاقة، ولا لأنه سلبي لا ينمي الحياة ولا يرقيها‏.‏‏.‏ ولكن لأنه ينظر إليها من عل- مع قيامه بالخلافة فيها، وإنشائه للعمران والحضارة، وعنايته بالنماء والإكثار- فينشد من حياته ما هو أكبر من هذه الأعراض وأغلى‏.‏ ينشد منها أن يقر في الأرض منهجاً، وأن يقود البشرية إلى ما هو أرفع وأكمل، وأن يركز راية الله فوق هامات الأرض والناس، ليتطلع إليها البشر في مكانها الرفيع، وليمدوا بأبصارهم وراء الواقع الزهيد المحدود، الذي يحيا له من لم يهبه الإيمان رفعة الهدف، وضخامة الاهتمام، وشمول النظرة‏.‏

وينظر الصغار الغارقون في وحل الأرض، المستعبدون لأهداف الأرض‏.‏‏.‏ ينظرون للذين آمنوا، فيرونهم يتركون لهم وحلهم وسفسافهم، ومتاعهم الزهيد؛ ليحاولوا آمالاً كباراً لا تخصهم وحدهم، ولكن تخص البشرية كلها؛ ولا تتعلق بأشخاصهم إنما تتعلق بعقيدتهم؛ ويرونهم يعانون فيها المشقات؛ ويقاسون فيها المتاعب؛ ويحرمون أنفسهم اللذائذ التي يعدها الصغار خلاصة الحياة وأعلى أهدافها المرموقة‏.‏‏.‏ ينظر الصغار المطموسون إلى الذين آمنوا- في هذه الحال- فلا يدركون سر اهتماماتهم العليا‏.‏ عندئذ يسخرون منهم‏.‏ يسخرون من حالهم، ويسخرون من تصوراتهم، ويسخرون من طريقهم الذي يسيرون فيه‏!‏

‏{‏زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

ولكن هذا الميزان الذي يزن الكافرون به القيم ليس هو الميزان‏.‏‏.‏ إنه ميزان الأرض‏.‏ ميزان الكفر‏.‏ ميزان الجاهلية‏.‏‏.‏ أما الميزان الحق فهو في يد الله سبحانه‏.‏ والله يبلغ الذين آمنوا حقيقة وزنهم في ميزانه‏:‏

‏{‏والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة‏}‏‏.‏‏.‏

هذا هو ميزان الحق في يد الله‏.‏ فليعلم الذين آمنوا قيمتهم الحقيقية في هذا الميزان‏.‏ وليمضوا في طريقهم لا يحفلون سفاهة السفهاء، وسخرية الساخرين، وقيم الكافرين‏.‏

‏.‏ إنهم فوقهم يوم القيامة‏.‏ فوقهم عند الحساب الختامي الأخير‏.‏ فوقهم في حقيقة الأمر بشهادة الله أحكم الحاكمين‏.‏

والله يدخر لهم ما هو خير، وما هو أوسع من الرزق‏.‏ يهبهم إياه حيث يختار؛ في الدنيا أو في الآخرة، أو في الدارين وفق ما يرى أنه لهم خير‏:‏

‏{‏والله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏‏.‏‏.‏

وهو المانح الوهاب يمنح من يشاء، ويفيض على من يشاء لا خازن لعطائه ولا بوّاب‏!‏ وهو قد يعطي الكافرين زينة الحياة الدنيا لحكمة منه، وليس لهم فيما أعطوا فضل‏.‏ وهو يعطي المختارين من عباده ما يشاء في الدنيا أو في الآخرة‏.‏‏.‏ فالعطاء كله من عنده‏.‏ واختياره للأخيار هو الأبقى والأعلى‏.‏‏.‏

وستظل الحياة أبداَ تعرف هذين النموذجين من الناس‏.‏‏.‏ تعرف المؤمنين الذين يتلقون قيمهم وموازينهم وتصوراتهم من يد الله؛ فيرفعهم هذا التلقي عن سفساف الحياة وأعراض الأرض، واهتمامات الصغار؛ وبذلك يحققون إنسانيتهم؛ ويصبحون سادة للحياة، لا عبيداً للحياة‏.‏‏.‏ كما تعرف الحياة ذلك الصنف الآخر‏:‏ الذين زينت لهم الحياة الدنيا، واستعبدتهم أعراضها وقيمها؛ وشدتهم ضروراتهم وأوهاقهم إلى الطين فلصقوا به لا يرتفعون‏!‏

وسيظل المؤمنون ينظرون من عل إلى أولئك الهابطين؛ مهما أوتوا من المتاع والأعراض‏.‏ على حين يعتقد الهابطون أنهم هم الموهوبون، وأن المؤمنين هم المحرومون؛ فيشفقون عليهم تارة ويسخرون منهم تارة‏.‏ وهم أحق بالرثاء والإشفاق‏.‏‏.‏

وعلى ذكر الموازين والقيم؛ وظن الذين كفروا بالذين آمنوا؛ وحقيقة مكان هؤلاء ووزنهم عند الله‏.‏‏.‏ ينتقل السياق إلى قصة الاختلاف بين الناس في التصورات والعقائد، والموازين والقيم؛ وينتهي بتقرير الأصل الذي ينبغي أن يرجع إليه المختلفون؛ وإلى الميزان الأخير الذي يحكم فيما هم فيه مختلفون‏:‏

‏{‏كان الناس أمة واحدة؛ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين؛ وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه- وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم- فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه؛ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏‏.‏‏.‏

هذه هي القصة‏.‏‏.‏ كان الناس أمة واحدة‏.‏ على نهج واحد، وتصور واحد‏.‏ وقد تكون هذه إشارة إلى حالة المجموعة البشرية الأولى الصغيرة من أسرة آدم وحواء وذراريهم، قبل اختلاف التصورات والاعتقادات‏.‏ فالقرآن يقرر أن الناس من أصل واحد‏.‏ وهم أبناء الأسرة الأولى‏:‏ أسرة آدم وحواء‏.‏ وقد شاء الله أن يجعل البشر جميعاً نتاج أسرة واحدة صغيرة، ليقرر مبدأ الأسرة في حياتهم، وليجعلها هي اللبنة الأولى‏.‏ وقد غبر عليهم عهد كانوا فيه في مستوى واحد واتجاه واحد وتصور واحد في نطاق الأسرة الأولى‏.‏ حتى نمت وتعددت وكثر أفرادها، وتفرقوا في المكان، وتطورت معايشهم؛ وبرزت فيهم الاستعدادات المكنونة المختلفة، التي فطرهم الله عليها لحكمة يعلمها، ويعلم ما وراءها من خير للحياة في التنوع في الاستعدادات والطاقات والاتجاهات‏.‏

عندئذ اختلفت التصورات وتباينت وجهات النظر، وتعددت المناهج، وتنوعت المعتقدات‏.‏‏.‏ وعندئذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين‏.‏‏.‏

‏{‏وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه‏}‏‏.‏‏.‏

وهنا تتبين تلك الحقيقة الكبرى‏.‏‏.‏ إن من طبيعة الناس أن يختلفوا؛ لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم؛ يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض‏.‏‏.‏ إن هذه الخلافة تحتاج إلى وظائف متنوعة، واستعدادات شتى من ألوان متعددة؛ كي تتكامل جميعها وتتناسق، وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة، وفق التصميم الكلي المقدر في علم الله‏.‏ فلا بد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف؛ ولا بد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات‏.‏‏.‏ «ولا يزالون مختلفين- إلا من رحم ربك- ولذلك خلقهم»‏.‏‏.‏

هذا الاختلاف في الاستعدادات والوظائف ينشئ بدوره اختلافاً في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق‏.‏‏.‏ ولكن الله يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة الواقعة داخل إطار واسع عريض يسعها جميعاً حين تصلح وتستقيم‏.‏‏.‏ هذا الإطار هو إطار التصور الإيماني الصحيح‏.‏ الذي ينفسح حتى يضم جوانحه على شتى الاستعدادات وشتى المواهب وشتى الطاقات؛ فلا يقتلها ولا يكبحها؛ ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح‏.‏

ومن ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون؛ وحكم عدل يرجع إليه المختصمون؛ وقول فصل ينتهي عنده الجدل، ويثوب الجميع منه إلى اليقين‏:‏

‏{‏فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه‏}‏‏.‏

ولا بد أن نقف عند قوله تعالى ‏{‏بالحق‏}‏‏.‏‏.‏ فهو القول الفصل بأن الحق هو ما جاء به الكتاب؛ وأن هذا الحق قد أنزل ليكون هو الحكم العدل، والقول الفصل، فيما عداه من أقوال الناس وتصوراتهم ومناهجهم وقيمهم وموازينهم‏.‏‏.‏ لا حق غيره‏.‏ ولا حكم معه‏.‏ ولا قول بعده‏.‏ وبغير هذا الحق الواحد الذي لا يتعدد؛ وبغير تحكيمه في كل ما يختلف فيه الناس؛ وبغير الانتهاء إلى حكمه بلا مماحكة ولا اعتراض‏.‏‏.‏ بغير هذا كله لا يستقيم أمر هذه الحياة؛ ولا ينتهي الناس من الخلاف والفرقة؛ ولا يقوم على الأرض السلام؛ ولا يدخل الناس في السلم بحال‏.‏

ولهذه الحقيقة قيمتها الكبرى في تحديد الجهة التي يتلقى منها الناس تصوراتهم وشرائعهم؛ والتي ينتهون إليها في كل ما يشجر بينهم من خلاف في شتى صور الخلاف‏.‏‏.‏ إنها جهة واحدة لا تتعدد هي التي أنزلت هذا الكتاب بالحق؛ وهو مصدر واحد لا يتعدد هو هذا الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه‏.‏‏.‏

وهو كتاب واحد في حقيقته، جاء به الرسل جميعاً‏.‏ فهو كتاب واحد في أصله، وهي ملة واحدة في عمومها، وهو تصور واحد في قاعدته‏:‏ إله واحد، ورب واحد، ومعبود واحد، ومشرّع واحد لبني الإنسان‏.‏

‏.‏ ثم تختلف التفصيلات بعد ذلك وفق حاجات الأمم والأجيال؛ ووفق أطوار الحياة والارتباطات؛ حتى تكون الصورة الأخيرة التي جاء بها الإسلام، وأطلق الحياة تنمو في محيطها الواسع الشامل بلا عوائق‏.‏ بقيادة الله ومنهجه وشريعته الحية المتجددة في حدود ذلك المحيط الشامل الكبير‏.‏

وهذا الذي يقرره القرآن في أمر الكتاب هو النظرية الإسلامية الصحيحة في خط سير الأديان والعقائد‏.‏‏.‏ كل نبي جاء بهذا الدين الواحد في أصله، يقوم على القاعدة الأصيلة‏:‏ قاعدة التوحيد المطلق‏.‏‏.‏ ثم يقع الانحراف عقب كل رسالة، وتتراكم الخرافات والأساطير، حتى يبعد الناس نهائياً عن ذلك الأصل الكبير، وهنا تجيء رسالة جديدة تجدد العقيدة الأصيلة، وتنفي ما علق بها من الانحرافات، وتراعي أحوال الأمة وأطوارها في التفصيلات‏.‏‏.‏ وهذه النظرية أولى بالإتباع من نظريات الباحثين في تطور العقائد من غير المسلمين، والتي كثيرا ما يتأثر بها باحثون مسلمون، وهم لا يشعرون، فيقيمون بحوثهم على أساس التطور في أصل العقيدة وقاعدة التصور، كما يقول المستشرقون وأمثالهم من الباحثين الغربيين الجاهليين‏!‏

وهذا الثبات في أصل التصور الإيماني، هو الذي يتفق مع وظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، في كل زمان، ومع كل رسول، منذ أقدم الأزمان‏.‏

ولم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه الناس، وأن يكون هناك قول فصل ينتهون إليه‏.‏ ولم يكن بد كذلك أن يكون هذا الميزان من صنع مصدر آخر غير المصدر الإنساني، وأن يكون هذا القول قول حاكم عدل لا يتأثر بالهوى الإنساني، ولا يتأثر بالقصور الإنساني، ولا يتأثر بالجهل الإنساني‏!‏

وإقامة ذلك الميزان الثابت تقتضي علماً غير محدود‏.‏ علم ما كان وما هو كائن وما سيكون‏.‏ علمه كله لا مقيداً بقيود الزمان التي تفصل الوجود الواحد إلى ماض وحاضر ومستقبل، وإلى مستيقن ومظنون ومجهول، وإلى حاضر مشهود ومغيب مخبوء‏.‏‏.‏ ولا مقيداً بقيود المكان التي تفصل الوجود الواحد إلى قريب وبعيد، ومنظور ومحجوب، ومحسوس وغير محسوس‏.‏‏.‏ في حاجة إلى إله يعلم ما خلق، ويعلم من خلق‏.‏‏.‏ ويعلم ما يصلح وما يصلح حال الجميع‏.‏

وإقامة ذلك الميزان في حاجة كذلك إلى استعلاء على الحاجة، واستعلاء على النقص، واستعلاء على الفناء، واستعلاء على الفوت، واستعلاء على الطمع، واستعلاء على الرغبة والرهبة‏.‏‏.‏ واستعلاء على الكون كله بما فيه ومن فيه‏.‏‏.‏ في حاجة إلى إله، لا أرب له، ولا هوى، ولا لذة، ولا ضعف في ذاته- سبحانه- ولا قصور‏!‏

أما العقل البشري فبحسبه أن يواجه الأحوال المتطورة، والظروف المتغيرة، والحاجات المتجددة؛ ثم يوائم بينها وبين الإنسان في لحظة عابرة وظرف موقوت‏.‏ على أن يكون هناك الميزان الثابت الذي يفيء إليه، فيدرك خطأه وصوابه، وغيه ورشاده، وحقه وباطله، من ذلك الميزان الثابت‏.‏

‏.‏ وبهذا وحده تستقيم الحياة‏.‏ ويطمئن الناس إلى أن الذي يسوسهم في النهاية إله‏!‏

إن الكتاب لم ينزل بالحق ليمحو فوارق الاستعدادات والمواهب والطرائق والوسائل‏.‏ إنما جاء ليحتكم الناس إليه‏.‏‏.‏ وإليه وحده‏.‏‏.‏ حين يختلفون‏.‏‏.‏

ومن شأن هذه الحقيقة أن تنشئ حقيقة أخرى تقوم على أساسها نظرة الإسلام التاريخية‏:‏

إن الإسلام يضع ‏{‏الكتاب‏}‏ الذي أنزله الله ‏{‏بالحق‏}‏ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه‏.‏‏.‏ يضع هذا الكتاب قاعدة للحياة البشرية‏.‏ ثم تمضي الحياة‏.‏ فإما اتفقت مع هذه القاعدة، وظلت قائمة عليها، فهذا هو الحق‏.‏ وإما خرجت عنها وقامت على قواعد أخرى، فهذا هو الباطل‏.‏‏.‏ هذا هو الباطل ولو ارتضاه الناس جميعاً‏.‏ في فترة من فترات التاريخ‏.‏ فالناس ليسوا هم الحكم في الحق والباطل‏.‏ وليس الذي يقرره الناس هو الحق، وليس الذي يقرره الناس هو الدين‏.‏ إن نظرة الإسلام تقوم ابتداء على أساس أن فعل الناس لشيء، وقولهم لشيء، وإقامة حياتهم على شيء‏.‏‏.‏ لا تحيل هذا الشيء حقاً إذا كان مخالفاً للكتاب؛ ولا تجعله أصلاً من أصول الدين؛ ولا تجعله التفسير الواقعي لهذا الدين؛ ولا تبرره لأن أجيالاً متعاقبة قامت عليه‏.‏‏.‏

وهذه الحقيقة ذات أهمية كبرى في عزل أصول الدين عما يدخله عليها الناس‏!‏ وفي التاريخ الإسلامي مثلاً وقع انحراف، وظل ينمو وينمو‏.‏‏.‏ فلا يقال‏:‏ إن هذا الانحراف متى وقع وقامت عليه حياة الناس فهو إذن الصورة الواقعية للإسلام‏!‏ كلا‏!‏ إن الإسلام يظل بريئاً من هذا الواقع التاريخي‏.‏ ويظل هذا الذي وقع خطأ وانحرافاً لا يصلح حجة ولا سابقة؛ ومن واجب من يريد استئناف حياة إسلامية أن يلغيه ويبطله، وأن يعود إلى الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه‏.‏‏.‏

ولقد جاء الكتاب‏.‏‏.‏ ومع ذلك كان الهوى يغلب الناس من هناك ومن هناك؛ وكانت المطامع والرغائب والمخاوف والضلالات تبعد الناس عن قبول حكم الكتاب، والرجوع إلى الحق الذي يردهم إليه‏:‏

‏{‏وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات‏.‏‏.‏ بغياً بينهم‏}‏‏.‏‏.‏

فالبغي‏.‏‏.‏ بغي الحسد‏.‏ وبغي الطمع‏.‏ وبغي الحرص‏.‏ وبغي الهوى‏.‏‏.‏ هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج؛ والمضي في التفرق واللجاج والعناد‏.‏

وهذه حقيقة‏.‏‏.‏ فما يختلف اثنان على أصل الحق الواضح في هذا الكتاب، القوي الصادع المشرق المنير‏.‏‏.‏ ما يختلف اثنان على هذا الأصل إلا وفي نفس أحدهما بغي وهوى، أو في نفسيهما جميعاً‏.‏‏.‏ فأما حين يكون هناك إيمان فلا بد من التقاء واتفاق‏:‏

‏{‏فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه‏}‏‏.‏‏.‏

هداهم بما في نفوسهم من صفاء، وبما في أرواحهم من تجرد، وبما في قلوبهم من رغبة في الوصول إلى الحق‏.‏

وما أيسر الوصول حينئذ والاستقامة‏:‏

‏{‏والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏‏.‏‏.‏

هو هذا الصراط الذي يكشف عنه ذلك الكتاب‏.‏ وهو هذا المنهج الذي يقوم على الحق ويستقيم على الحق‏.‏ ولا تتقاذفه الأهواء والشهوات، ولا تتلاعب به الرغاب والنزوات‏.‏‏.‏

والله يختار من عباده لهذا الصراط المستقيم من يشاء، ممن يعلم منهم الاستعداد للهدى والاستقامة على الصراط؛ أولئك يدخلون في السلم، وأولئك هم الأعلون، ولو حسب الذين لا يزنون بميزان الله أنهم محرومون، ولو سخروا منهم كما يسخر الكافرون من المؤمنين‏!‏

وتنتهي هذه التوجيهات التي تستهدف إنشاء تصور إيماني كامل ناصع في قلوب الجماعة المسلمة‏.‏‏.‏ تنتهي بالتوجه إلى المؤمنين الذين كانوا يعانون في واقعهم مشقة الاختلاف بينهم وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب، وما كان يجره هذا الخلاف من حروب ومتاعب وويلات‏.‏‏.‏ يتوجه إليهم بأن هذه هي سنة الله القديمة، في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة، وليكونوا لها أهلاً‏:‏ أن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم؛ وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر؛ وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة؛ حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم، لم تزعزعهم شدة، ولم ترهبهم قوة، ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة‏.‏‏.‏ استحقوا نصر الله، لأنهم يومئذ أمناء على دين الله، مأمونون على ما ائتمنوا عليه، صالحون لصيانته والذود عنه‏.‏ واستحقوا الجنة لأن أرواحهم قد تحررت من الخوف وتحررت من الذل، وتحررت من الحرص على الحياة أو على الدعة والرخاء‏.‏ فهي عندئذ أقرب ما تكون إلى عالم الجنة، وارفع ما تكون عن عالم الطين‏:‏

‏{‏أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه‏:‏ متى نصر الله‏؟‏ ألا إن نصر الله قريب‏}‏‏.‏‏.‏

هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته- سبحانه- في تربية عباده المختارين، الذين يكل إليهم رايته، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته‏.‏ وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم‏.‏‏.‏

وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة‏.‏‏.‏ إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه‏.‏ من الرسول الموصول بالله، والمؤمنين الذين آمنوا بالله‏.‏ إن سؤالهم‏:‏ ‏{‏متى نصر الله‏؟‏‏}‏ ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة‏.‏ ولن تكون إلا محنة فوق الوصف، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب‏:‏ ‏{‏متى نصر الله‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة‏.‏‏.‏ عندئذ تتم كلمة الله، ويجيء النصر من الله‏:‏ ‏{‏ألا إن نصر الله قريب‏}‏‏.‏‏.‏

إنه مدخر لمن يستحقونه‏.‏ ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية‏.‏ الذين يثبتون على البأساء والضراء‏.‏ الذين يصمدون للزلزلة‏.‏

الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة‏.‏ الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله، وعندما يشاء الله‏.‏ وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى ‏{‏نصر الله‏}‏، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله‏.‏ ولا نصر إلا من عند الله‏.‏

بهذا يدخل المؤمنون الجنة، مستحقين لها، جديرين بها، بعد الجهاد والامتحان، والصبر والثبات، والتجرد لله وحده، والشعور به وحده، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه‏.‏

إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة، ويرفعها على ذواتها، ويطهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقاً وقوة وحيوية، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها‏.‏ وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجاً كما وقع، وكما يقع في كل قضية حق، يلقى أصحابها ما يلقون في أول الطريق، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم، وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين‏.‏‏.‏

على أنه- حتى إذا لم يقع هذا- يقع ما هو أعظم منه في حقيقته‏.‏ يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة، والحرص على الحياة نفسها في النهاية‏.‏‏.‏ وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء‏.‏ كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون، والمؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته‏.‏

وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف‏.‏‏.‏ وهذا هو الطريق‏.‏‏.‏

هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى، وللجماعة المسلمة في كل جيل‏.‏

هذا هو الطريق‏:‏ إيمان وجهاد‏.‏‏.‏ ومحنة وابتلاء‏.‏ وصبر وثبات‏.‏‏.‏ وتوجه إلى الله وحده‏.‏ ثم يجيء النصر‏.‏ ثم يجيء النعيم‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏215- 220‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏215‏)‏ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏216‏)‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏217‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏218‏)‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏219‏)‏ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏220‏)‏‏}‏

الظاهرة البارزة في هذا القطاع من السورة، هي ظاهرة الأسئلة عن أحكام‏.‏‏.‏ وهي كما قلنا عند الكلام عن قوله تعالى‏:‏ يسألونك عن الأهلة‏.‏‏.‏ في هذا الجزء‏.‏‏.‏ ظاهرة توحي بيقظة العقيدة واستيلائها على نفوس الجماعة المسلمة إذ ذاك، ورغبة المؤمنين في معرفة حكم العقيدة في كل شأن من شؤون حياتهم اليومية، كي يطابقوا بين تصرفهم وحكم العقيدة‏.‏‏.‏ وهذه آية المسلم‏:‏ أن يتحرى حكم الإسلام في الصغيرة والكبيرة من شؤون حياته، فلا يقدم على عمل حتى يستيقن من حكم الإسلام فيه‏.‏ فما أقره الإسلام كان هو دستوره وقانونه؛ وما لم يقره كان ممنوعاً عليه حراماً‏.‏ وهذه الحساسية هي آية الإيمان بهذه العقيدة‏.‏

كذلك كانت تثار بعض الأسئلة بسبب الحملات الكيدية التي يشنها اليهود والمنافقون، والمشركون كذلك حول بعض التصرفات؛ مما يدفع بعض المسلمين ليسأل عنها، إما ليستيقن من حقيقتها وحكمتها، وإما تأثراً بتلك الحملات والدعايات المسمومة‏.‏ فكان القرآن يتنزل فيها بالقول الفصل؛ فيثوب المسلمون فيها إلى اليقين؛ وتبطل الدسائس، وتموت الفتن، ويرتد كيد الكائدين إلى نحورهم‏.‏‏.‏

وهذا يصور جانباً من المعركة التي كان القرآن يخوضها تارة في نفوس المسلمين، وتارة في صف المسلمين، ضد الكائدين والمحاربين‏!‏

وفي هذا الدرس جملة من هذه الأسئلة‏:‏ سؤال عن الإنفاق‏.‏ مواضعه ومقاديره ونوع المال الذي تكون فيه النفقة‏.‏ وسؤال عن القتال في الشهر الحرام‏.‏ وسؤال عن الخمر والميسر‏.‏ وسؤال عن اليتامى‏.‏‏.‏ وبواعث هذه الأسئلة تمثل الأسباب التي ذكرناها من قبل‏.‏ وسنعرضها بالتفصيل عند استعراض النصوص‏.‏

‏{‏يسألونك ماذا ينفقون‏؟‏ قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل‏.‏ وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم‏}‏‏.‏‏.‏

لقد وردت آيات كثيرة في الإنفاق سابقة على هذا السؤال‏.‏ فالإنفاق في مثل الظروف التي نشأ فيها الإسلام ضرورة لقيام الجماعة المسلمة في وجه تلك الصعاب والمشاق والحرب التي كانت تواجهها وتكتنفها؛ ثم هو ضرورة من ناحية أخرى‏:‏ من ناحية التضامن والتكافل بين أفراد الجماعة؛ وإزالة الفوارق الشعورية بحيث لا يحس أحد إلا أنه عضو في ذلك الجسد، لا يحتجن دونه شيئاً، ولا يحتجز عنه شيئاً، وهو أمر له قيمته الكبرى في قيام الجماعة شعورياً، إذا كان سد الحاجة له قيمته في قيامها عملياً‏.‏

وهنا يسأل بعض المسلمين‏:‏ ‏{‏ماذا ينفقون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهو سؤال عن نوع ما ينفقون‏.‏‏.‏ فجاءهم الجواب يبين صفة الإنفاق؛ ويحدد كذلك أولى مصارفه وأقربها‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ ما أنفقتم من خير‏}‏‏.‏‏.‏

ولهذا التعبير إيحاءان‏:‏ الأول إن الذي ينفق خير‏.‏‏.‏ خير للمعطي وخير للآخذ وخير للجماعة وخير في ذاته فهو عمل طيب، وتقدمة طيبة، وشيء طيب‏.‏‏.‏ والإيحاء الثاني أن يتحرى المنفق أفضل ما عنده فينفق منه؛ وخير ما لديه فيشارك الآخرين فيه‏.‏

فالإنفاق تطهير للقلب وتزكية للنفس، ثم منفعة للآخرين وعون‏.‏ وتحري الطيب والنزول عنه للآخرين هو الذي يحقق للقلب الطهارة، وللنفس التزكية، وللإيثار معناه الكريم‏.‏

على أن هذا الإيحاء ليس إلزاماً، فالإلزام- كما ورد في آية أخرى- أن ينفق المنفق من الوسط، لا أردأ ما عنده ولا أغلى ما عنده‏.‏ ولكن الإيحاء هنا يعالج تطويع النفس لبذل ما هو خير، والتحبيب فيه، على طريقة القرآن الكريم في تربية النفوس، وإعداد القلوب‏.‏‏.‏

أما طريق الإنفاق ومصرفه فيجيء بعد تقرير نوعه‏:‏

‏{‏فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏‏.‏‏.‏

وهو يربط بين طوائف من الناس‏.‏ بعضهم تربطه بالمنفق رابطة العصب، وبعضهم رابطة الرحم، وبعضهم رابطة الرحمة، وبعضهم رابطة الإنسانية الكبرى في إطار العقيدة‏.‏‏.‏ وكلهم يتجاوزون في الآية الواحدة‏:‏ الوالدون‏.‏ والأقربون‏.‏ واليتامى والمساكين وابن السبيل‏.‏ وكلهم يتضامنون في رباط التكافل الاجتماعي الوثيق بين بني الإنسان في إطار العقيدة المتين‏.‏

ولكن هذا الترتيب في الآية وفي الآيات الأخرى، والذي تزيده بعض الأحاديث النبوية تحديداً ووضوحاً كالذي جاء في صحيح مسلم عن جابر «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لرجل‏:‏ ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

هذا الترتيب يشي بمنهج الإسلام الحكيم البسيط في تربية النفس الإنسانية وقيادتها‏.‏‏.‏ إنه يأخذ الإنسان كما هو، بفطرته وميوله الطبيعية واستعداداته؛ ثم يسير به من حيث هو كائن، ومن حيث هو واقف‏!‏ يسير به خطوة خطوة، صعداً في المرتقى العالي‏:‏ على هينة وفي يسر؛ فيصعد وهو مستريح، هو يلبي فطرته وميوله واستعداداته، وهو ينمي الحياة معه ويرقيها‏.‏ لا يحس بالجهد والرهق، ولا يكبل بالسلاسل والأغلال ليجر في المرتقى‏!‏ ولا تكبت طاقاته وميوله الفطرية ليحلق ويرف‏!‏ ولا يعتسف به الطريق اعتسافاً، ولا يطير به طيراناً من فوق الآكام‏!‏ إنما يصعدها به صعوداً هيناً ليناً وقدماه على الأرض وبصره معلق بالسماء، وقلبه يتطلع إلى الأفق الأعلى، وروحه موصولة بالله في علاه‏.‏

ولقد علم الله أن الإنسان يحب ذاته؛ فأمره أولاً بكفايتها قبل أن يأمره بالإنفاق على من سواها؛ وأباح له الطيبات من الرزق وحثه على تمتيع ذاته بها في غير ترف ولا مخيلة‏.‏ فالصدقة لا تبدأ إلا بعد الكفاية‏.‏ والرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول»‏.‏ وعن جابر- رضي الله عنه- قال «جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال‏:‏ يا رسول الله‏.‏ أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها‏.‏ فأعرض عنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك فأعرض عنه‏.‏ فأتاه من قبل ركنه الأيسر فقال مثل ذلك، فأعرض عنه‏.‏ ثم أتاه من خلفه فقال مثل ذلك، فأخذها- صلى الله عليه وسلم- فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته‏.‏ وقال‏:‏ يأتي أحدكم بما يملك فيقول‏:‏ هذه صدقة‏.‏ ثم يقعد يتكفف الناس‏!‏ خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى»‏.‏

ولقد علم الله أن الإنسان يحب- أول ما يحب- أفراد أسرته الأقربين‏.‏‏.‏ عياله‏.‏‏.‏ ووالديه‏.‏ فسار به خطوة في الإنفاق وراء ذاته إلى هؤلاء الذين يحبهم؛ ليعطيهم من ماله وهو راض؛ فيرضي ميله الفطري الذي لا ضير منه، بل فيه حكمة وخير؛ وفي الوقت ذاته يعول ويكفل ناساً هم أقرباؤه الأدنون، نعم، ولكنهم فريق من الأمة، إن لم يعطوا احتاجوا‏.‏ وأخذهم من القريب أكرم لهم من أخذهم من البعيد‏.‏ وفيه في الوقت ذاته إشاعة للحب والسلام في المحضن الأول؛ وتوثيق لروابط الأسرة التي شاء الله أن تكون اللبنة الأولى في بناء الإنسانية الكبير‏.‏

ولقد علم الله أن الإنسان يمد حبه وحميته بعد ذلك إلى أهله كافة- بدرجاتهم منه وصلتهم به- ولا ضير في هذا‏.‏ فهم أفراد من جسم الأمة وأعضاء في المجتمع‏.‏ فسار به خطوة أخرى في الإنفاق وراء أهله الأقربين، تساير عواطفه وميوله الفطرية، وتقضي حاجة هؤلاء، وتقوّي أواصر الأسرة البعيدة، وتضمن وحدة قوية من وحدات الجماعة المسلمة، مترابطة العرى وثيقة الصلات‏.‏

وعندما يفيض ما في يده عن هؤلاء وهؤلاء- بعد ذاته- فإن الإسلام يأخذ بيده لينفق على طوائف من المجموع البشري، يثيرون بضعفهم أو حرج موقفهم عاطفة النخوة وعاطفة الرحمة وعاطفة المشاركة‏.‏‏.‏ وفي أولهم اليتامى الصغار الضعاف؛ ثم المساكين الذين لا يجدون ما ينفقون، ولكنهم يسكتون فلا يسألون الناس كرامة وتجملاً؛ ثم أبناء السبيل الذين قد يكون لهم مال، ولكنهم انقطعوا عنه، وحالت بينهم وبينه الحوائل- وقد كانوا كثيرين في الجماعة المسلمة هاجروا من مكة تاركين وراءهم كل شيء- وهؤلاء جميعاً أعضاء في المجتمع؛ والإسلام يقود الواجدين إلى الإنفاق عليهم، يقودهم بمشاعرهم الطيبة الطبيعية التي يستجيشها ويزكيها‏.‏ فيبلغ إلى أهدافه كلها في هوادة ولين‏.‏ يبلغ أولاً إلى تزكية نفوس المنفقين‏.‏ فقد أنفقت طيبة بما أعطت، راضية بما بذلت، متجهة إلى الله في غير ضيق ولا تبرم‏.‏ ويبلغ ثانياً إلى إعطاء هؤلاء المحتاجين وكفالتهم‏.‏ ويبلغ ثالثاً إلى حشد النفوس كلها متضامنة متكافلة، في غير ما تضرر ولا تبرم‏.‏‏.‏ قيادة لطيفة مريحة بالغة ما تريد، محققة كل الخير بلا اعتساف ولا افتعال ولا تشديد‏!‏

ثم يربط هذا كله بالأفق الأعلى، فيستجيش في القلب صلته بالله فيما يعطي، وفيما يفعل، وفيما يضمر من نية أو شعور‏:‏

‏{‏وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم‏}‏‏.‏

عليم به، وعليم بباعثه، وعليم بالنية المصاحبة له‏.‏‏.‏ وهو إذن لا يضيع‏.‏ فهو في حساب الله الذي لا يضيع عنده شيء، والذي لا يبخس الناس شيئاً ولا يظلمهم، والذي لا يجوز عليه كذلك الرياء والتمويه‏.‏‏.‏

بهذا يصل بالقلوب إلى الأفق الأعلى، وإلى درجة الصفاء والتجرد والخلوص لله‏.‏‏.‏ في رفق وفي هوادة، وفي غير معسفة ولا اصطناع‏.‏‏.‏ وهذا هو المنهج التربوي الذي يضعه العليم الخبير‏.‏ ويقيم عليه النظام الذي يأخذ بيد الإنسان، كما هو، ويبدأ به من حيث هو؛ ثم ينتهي به إلى آماد وآفاق لا تصل إليها البشرية قط بغير هذه الوسيلة، ولم تبلغ إليها قط إلا حين سارت على هذا المنهج، في هذا الطريق‏.‏

وعلى هذا المنهج ذاته، يجري الأمر في فريضة الجهاد، التي تأتي تالية في السياق للحديث عن الإنفاق‏:‏

‏{‏كتب عليكم القتال وهو كره لكم‏.‏ وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم؛ وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم‏.‏ والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

إن القتال في سبيل الله فريضة شاقة‏.‏ ولكنها فريضة واجبة الأداء‏.‏ واجبة الأداء لأن فيها خيراً كثيراً للفرد المسلم، وللجماعة المسلمة، وللبشرية كلها‏.‏ وللحق والخير والصلاح‏.‏

والإسلام يحسب حساب الفطرة؛ فلا ينكر مشقة هذه الفريضة، ولا يهون من أمرها‏.‏ ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها‏.‏ فالإسلام لا يماري في الفطرة، ولا يصادمها، ولا يحرم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيل‏.‏‏.‏ ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر، ويسلط عليه نوراً جديداً إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق؛ ولكن وراءه حكمة تهون مشقته، وتسيغ مرارته، وتحقق به خيراً مخبوءاً قد لا يراه النظر الإنساني القصير‏.‏‏.‏ عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر؛ ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها‏.‏ نافذة تهب منها ريح رخية عندما تحيط الكروب بالنفس وتشق عليها الأمور‏.‏‏.‏ إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيراً‏.‏ ووراء المحبوب شراً‏.‏ إن العليم بالغايات البعيدة، المطلع على العواقب المستورة، هو الذي يعلم وحده‏.‏ حيث لا يعلم الناس شيئاً من الحقيقة‏.‏

وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة، وتتفتح منافذ الرجاء، ويستروح القلب في الهاجرة، ويجنح إلى الطاعة والأداء في يقين وفي رضاء‏.‏

هكذا يواجه الإسلام الفطرة، لا منكراً عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية، ولا مريداً لها على الأمر الصعب بمجرد التكليف‏.‏ ولكن مربياً لها على الطاعة، ومفسحاً لها في الرجاء‏.‏ لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير؛ ولترتفع على ذاتها متطوعة لا مجبرة، ولتحس بالعطف الإلهي الذي يعرف مواضع ضعفها، ويعترف بمشقة ما كتب عليها، ويعذرها ويقدرها؛ ويحدو لها بالتسامي والتطلع والرجاء‏.‏

وهكذا يربي الإسلام الفطرة، فلا تمل التكليف، ولا تجزع عند الصدمة الأولى، ولا تخور عند المشقة البادية، ولا تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة‏.‏ ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها ويمدها بعونه ويقويها‏.‏ وتصمم على المضي في وجه المحنة، فقد يكمن فيها الخير بعد الضر، واليسر بعد العسر، والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء‏.‏ ولا تتهالك على ما تحب وتلتذ‏.‏ فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة‏!‏ وقد يكون المكروه مختبئاً خلف المحبوب‏.‏ وقد يكون الهلاك متربصاً وراء المطمع البراق‏.‏

إنه منهج في التربية عجيب‏.‏ منهج عميق بسيط‏.‏ منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس الإنسانية وحناياها ودروبها الكثيرة‏.‏ بالحق وبالصدق‏.‏ لا بالإيحاء الكاذب، والتمويه الخادع‏.‏‏.‏ فهو حق أن تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمراً ويكون فيه الخير كل الخير‏.‏ وهو حق كذلك أن تحب النفس أمراً وتتهالك عليه‏.‏ وفيه الشر كل الشر‏.‏ وهو الحق كل الحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون‏!‏ وماذا يعلم الناس من أمر العواقب‏؟‏ وماذا يعلم الناس مما وراء الستر المسدل‏؟‏ وماذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقصور‏؟‏‏!‏

إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالماً آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه‏.‏ وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون، وتقلب الأمور، وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمناه‏.‏ وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعاً في يد القدر، يعمل ويرجو ويطمع ويخاف، ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل، وهو راض قرير‏.‏‏.‏ إنه الدخول في السلم من بابه الواسع‏.‏‏.‏ فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله‏.‏‏.‏ وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها وأن تطلب منه البرهان‏!‏ إن الإذعان الواثق والرجاء الهادئ والسعي المطمئن‏.‏‏.‏ هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة‏.‏‏.‏ وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق البسيط‏.‏ في يسر وفي هوادة وفي رخاء‏.‏ يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم فريضة القتال‏.‏ فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال‏.‏

وإن هذا الإيحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني، لا يقف عند حد القتال، فالقتال ليس إلا مثلاً لما تكرهه النفس، ويكون من ورائه الخير‏.‏‏.‏ إن هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها‏.‏ ويلقي ظلاله على أحداث الحياة جميعها‏.‏‏.‏ إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر‏.‏‏.‏ لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها، ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم الله إياها هي فئة العير والتجارة‏.‏

لا فئة الحامية المقاتلة من قريش‏.‏ ولكن الله جعل القافلة تفلت، ولقاهم المقاتلة من قريش‏!‏ وكان النصر الذي دوّى في الجزيرة العربية ورفع راية الإسلام‏.‏ فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده الله للمسلمين‏!‏ وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم‏؟‏ والله يعلم والناس لا يعلمون‏!‏

ولقد نسي فتى موسى ما كانا قد أعداه لطعامهما- وهو الحوت- فتسرب في البحر عند الصخرة‏.‏ ‏{‏فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً‏.‏ قال‏:‏ أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً‏.‏‏.‏ قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصاً‏.‏ فوجدا عبداً من عبادنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وكان هذا هو الذي خرج له موسى‏.‏ ولو لم يقع حادث الحوت ما ارتدا‏.‏ ولفاتهما ما خرجا لأجله في الرحلة كلها‏!‏

وكل إنسان- في تجاربه الخاصة- يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائها الخير العميم‏.‏ ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم‏.‏ وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته؛ ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذاً من الله أن فوت عليه هذا المطلوب في حينه‏.‏ وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثاً يكاد يتقطع لفظاعتها‏.‏ ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشئ له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل‏.‏

إن الإنسان لا يعلم‏.‏ والله وحده يعلم‏.‏ فماذا على الإنسان لو يستسلم‏؟‏

إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية‏.‏ لتؤمن وتسلم وتستسلم في أمر الغيب المخبوء، بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف‏.‏‏.‏

ومن قيادة الجماعة إلى السلم كانت الفتوى التالية في أمر القتال في الشهر الحرام‏:‏

‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه‏؟‏ قل‏:‏ قتال فيه كبير‏.‏ وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام؛ وإخراج أهله منه أكبر عند الله؛ والفتنة أكبر من القتل، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة‏.‏ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏.‏ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

وقد جاء في روايات متعددة أنها نزلت في سرية عبد الله بن جحش- رضي الله عنه- وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد بعثه مع ثمانية من المهاجرين ليس فيهم أحد من الأنصار ومعه كتاب مغلق وكلفه ألا يفتحه حتى يمضي ليلتين‏.‏ فلما فتحه وجد به‏:‏ «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بطن نخلة- بين مكة والطائف- ترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم‏.‏‏.‏ ولا تكرهن أحداً على المسير معك من أصحابك»

- وكان هذا قبل غزوة بدر الكبرى‏.‏ فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال‏:‏ سمعاً وطاعة‏.‏ ثم قال لأصحابه‏:‏ قد أمرني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أمضي إلى بطن نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منها بخبر‏.‏ وقد نهى أن استكره أحداً منكم‏.‏ فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع، فأنا ماض لأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف أحد منهم‏.‏ فسلك الطريق على الحجاز حتى إذا كان ببعض الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان- رضي الله عنهما- فتخلفا عن رهط عبد الله بن جحش ليبحثا عن البعير ومضى الستة الباقون‏.‏ حتى إذا كانت السرية ببطن نخلة مرت عير لقريش تحمل تجارة، فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون، فقتلت السرية عمراً ابن الحضرمي وأسرت اثنين وفر الرابع وغنمت العير‏.‏ وكانت تحسب أنها في اليوم الأخير من جمادى الآخرة‏.‏ فإذا هي في اليوم الأول من رجب- وقد دخلت الأشهر الحرم- التي تعظمها العرب‏.‏ وقد عظمها الإسلام وأقر حرمتها‏.‏‏.‏ فلما قدمت السرية بالعير والأسيرين على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام»‏.‏ فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً‏.‏ فلما قال ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا؛ وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا‏.‏ وقالت قريش‏:‏ قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال‏.‏ وقالت اليهود تفاءلوا بذلك على محمد‏.‏‏.‏ عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله‏.‏‏.‏ عمرو عمرت الحرب‏.‏ والحضرمي‏:‏ حضرت الحرب‏.‏ وواقد بن عبد الله‏:‏ وقدت الحرب‏!‏‏.‏

وانطلقت الدعاية المضللة على هذا النحو بشتى الأساليب الماكرة التي تروج في البيئة العربية، وتظهر محمداً وأصحابه بمظهر المعتدي الذي يدوس مقدسات العرب، وينكر مقدساته هو كذلك عند بروز المصلحة‏!‏ حتى نزلت هذه النصوص القرآنية‏.‏ فقطعت كل قول‏.‏ وفصلت في الموقف بالحق‏.‏ فقبض الرسول- صلى الله عليه وسلم- الأسيرين والغنيمة‏.‏

‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه‏؟‏ قل قتال فيه كبير‏}‏‏.‏‏.‏

نزلت تقرر حرمة الشهر الحرام، وتقرر أن القتال فيه كبيرة نعم‏!‏ ولكن‏:‏

‏{‏وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله‏.‏ والفتنة أكبر من القتل‏}‏‏.‏‏.‏

إن المسلمين لم يبدأوا القتال، ولم يبدأوا العدوان‏.‏

إنما هم المشركون‏.‏ هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله، والكفر به وبالمسجد الحرام، لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله‏.‏ ولقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون‏.‏ ولقد كفروا بالمسجد الحرام‏.‏ انتهكوا حرمته؛ فآذوا المسلمين فيه، وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة‏.‏ وأخرجوا أهله منه وهو الحرم الذي جعله الله آمناً، فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته‏.‏‏.‏

وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام‏.‏‏.‏ وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل‏.‏ وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام‏.‏ ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات؛ الذين يتخذون منها ستاراً حين يريدون، وينتهكون قداستها حين يريدون‏!‏ وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم، لأنهم عادون باغون أشرار، لا يرقبون حرمة، ولا يتحرجون أمام قداسة‏.‏ وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة‏!‏

لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل‏.‏ وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه، لتشويه موقف الجماعة المسلمة، وإظهارها بمظهر المعتدي‏.‏‏.‏ وهم المعتدون ابتداء‏.‏ وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء‏.‏

إن الإسلام منهج واقعي للحياة‏.‏ لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية‏.‏ إنه يواجه الحياة البشرية- كما هي- بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية‏.‏ يواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد‏.‏ يواجهها بحلول عملية تكافئ واقعياتها، ولا ترفرف في خيال حالم، ورؤى مجنحة‏:‏ لا تجدي على واقع الحياة شيئاً‏!‏

هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون‏.‏ لا يقيمون للمقدسات وزناً، ولا يتحرجون أمام الحرمات، ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة‏.‏ يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام‏!‏‏.‏‏.‏ ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام، ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات، ويرفعون أصواتهم‏:‏ انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام‏!‏

فكيف يواجههم الإسلام‏؟‏ يواجههم بحلول مثالية نظرية طائرة‏؟‏ إنه إن يفعل يجرد المسلمين الأخيار من السلاح، بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح، ولا يتورعون عن سلاح‏.‏‏.‏ ‏!‏ كلا إن الإسلام لا يصنع هذا، لأنه يريد مواجهة الواقع، لدفعه ورفعه‏.‏ يريد أن يزيل البغي والشر، وأن يقلم أظافر الباطل والضلال‏.‏ ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة، ويسلم القيادة للجماعة الطيبة‏.‏ ومن ثم لا يجعل الحرمات متاريس يقف خلفها المفسدون البغاة الطغاة ليرموا الطيبين الصالحين البناة، وهم في مأمن من رد الهجمات ومن نبل الرماة‏!‏

إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه‏.‏

ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين، ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان‏!‏

وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد‏.‏‏.‏ إنه يحرم الغيبة‏.‏‏.‏ ولكن لا غيبة لفاسق‏.‏‏.‏ فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه‏.‏ وهو يحرم الجهر بالسوء من القول‏.‏ ولكنه يستثني ‏{‏إلا من ظلم‏}‏‏.‏‏.‏ فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول، لأنه حق‏.‏ ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه‏!‏

ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلا مستوى الأشرار البغاة‏.‏ ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة‏.‏‏.‏ إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم، وإلى قتالهم وقتلهم، وإلى تطهير جو الحياة منهم‏.‏‏.‏ هكذا جهرة وفي وضح النهار‏.‏‏.‏

وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة، وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات‏.‏‏.‏ حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله‏.‏

هذا هو الإسلام‏.‏‏.‏ صريحاً واضحاً قوياً دامغاً، لا يلف ولا يدور؛ ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور‏.‏

وهذا هو القرآن يقف المسلمين على أرض صلبة، لا تتأرجح فيها أقدامهم، وهم يمضون في سبيل الله، لتطهير الأرض من الشر والفساد، ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس وتؤذيها الوساوس‏.‏‏.‏ هذا شر وفساد وبغي وباطل‏.‏‏.‏ فلا حرمة له إذن، ولا يجوز أن يتترس بالحرمات، ليضرب من ورائها الحرمات‏!‏ وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة؛ في سلام مع ضمائرهم، وفي سلام من الله‏.‏‏.‏

ويمضي السياق بعد بيان هذه الحقيقة، وتمكين هذه القاعدة، وإقرار قلوب المسلمين وأقدامهم‏.‏‏.‏ يمضي فيكشف لهم عن عمق الشر في نفوس أعدائهم، وأصالة العدوان في نيتهم وخطتهم‏:‏

‏{‏ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر؛ وعلى فتنة المسلمين عن دينهم؛ بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم‏.‏ وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل‏.‏‏.‏ إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين؛ ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم‏.‏ فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد‏.‏ إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج، ومن منهج قويم، ومن نظام سليم‏.‏‏.‏ إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد‏.‏ ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون‏.‏ ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه، ويردوهم كفاراً في صورة من صور الكفر الكثيرة‏.‏

ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم، وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين، وتتبع هذا المنهج، وتعيش بهذا النظام‏.‏

وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته، ولكن الهدف يظل ثابتاً‏.‏‏.‏ أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا‏.‏ وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحاً غيره، وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها‏.‏‏.‏ والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام، وينبهها إلى الخطر؛ ويدعوها إلى الصبر على الكيد، والصبر على الحرب، وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة؛ والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر‏:‏

‏{‏ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر، فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيه خالدون‏}‏‏.‏‏.‏

والحبوط مأخوذ من حبطت الناقة إذا رعت مرعى خبيثاً فانتفخت ثم نفقت‏.‏‏.‏ والقرآن يعبر بهذا عن حبوط العمل، فيتطابق المدلول الحسي والمدلول المعنوي‏.‏‏.‏ يتطابق تضخم العمل الباطل وانتفاخ مظهره، وهلاكه في النهاية وبواره‏.‏‏.‏ مع تضخم حجم الناقة وانتفاخها ثم هلاكها في النهاية بهذا الانتفاخ‏!‏

ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه؛ تحت مطارق الأذى والفتنة- مهما بلغت- هذا مصيره الذي قرره الله له‏.‏‏.‏ حبوط العمل في الدنيا والآخرة‏.‏ ثم ملازمة العذاب في النار خلوداً‏.‏

إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه، لا يمكن أن يرتد عنه ارتداداً حقيقياً أبداً‏.‏ إلا إذا فسد فساداً لا صلاح له‏.‏ وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة‏.‏ فالله رحيم‏.‏ رخص للمسلم- حين يتجاوز العذاب طاقته- أن يقي نفسه بالتظاهر، مع بقاء قلبه ثابتاً على الإسلام مطمئناً بالإيمان‏.‏ ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي، وفي الارتداد الحقيقي، بحيث يموت وهو كافر‏.‏‏.‏ والعياذ بالله‏.‏‏.‏

وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان‏.‏‏.‏ ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه، ويرتد عن إيمانه وإسلامه، ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه‏.‏‏.‏ وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله‏.‏ والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به، ويصبرون على الأذى في سبيله‏.‏ فهو معوضهم خيراً‏:‏ إحدى الحسنيين‏:‏ النصر أو الشهادة‏.‏

وهناك رحمته التي يرجوها من يؤذون في سبيله؛ لا ييئس منها مؤمن عامر القلب بالإيمان‏:‏

‏{‏إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله، والله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

ورجاء المؤمن في رحمة الله لا يخيبه الله أبداً‏.‏‏.‏ ولقد سمع أولئك النفر المخلص من المؤمنين المهاجرين هذا الوعد الحق، فجاهدوا وصبروا، حتى حقق الله لهم وعده بالنصر أو الشهادة‏.‏ وكلاهما خير‏.‏ وكلاهما رحمة‏.‏ وفازوا بمغفرة الله ورحمته‏:‏ ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

وهو هو طريق المؤمنين‏.‏

ثم يمضي السياق، يبين للمسلمين حكم الخمر والقمار‏.‏‏.‏ وكلتاهما لذة من اللذائذ التي كان العرب غارقين فيها‏.‏ يوم أن لم تكن لهم اهتمامات عليا ينفقون فيها نشاطهم، وتستغرق مشاعرهم وأوقاتهم‏:‏

‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر‏.‏ قل‏:‏ فيهما اثم كبير ومنافع للناس‏.‏ وإثمهما أكبر من نفعهما‏}‏‏.‏‏.‏

وإلى ذلك الوقت لم يكن قد نزل تحريم الخمر والميسر‏.‏ ولكن نصاً في القرآن كله لم يرد بحلهما‏.‏ إنما كان الله يأخذ بيد هذه الجماعة الناشئة خطوة خطوة في الطريق الذي أراده لها، ويصنعها على عينه للدور الذي قدره لها‏.‏ وهذا الدور العظيم لا تتلاءم معه تلك المضيعة في الخمر والميسر، ولا تناسبه بعثرة العمر، وبعثرة الوعي، وبعثرة الجهد في عبث الفارغين، الذين لا تشغلهم إلا لذائذ أنفسهم، أو الذين يطاردهم الفراغ والخواء فيغرقونه في السكر بالخمر والانشغال بالميسر؛ أو الذين تطاردهم أنفسهم فيهربون منها في الخمار والقمار؛ كما يفعل كل من يعيش في الجاهلية‏.‏ أمس واليوم وغداً‏!‏ إلا أن الإسلام على منهجه في تربية النفس البشرية كان يسير على هينة وفي يسر وفي تؤدة‏.‏‏.‏

وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم‏.‏ فالأشياء والأعمال قد لا تكون شراً خالصاً‏.‏ فالخير يتلبس بالشر، والشر يتلبس بالخير في هذه الأرض‏.‏ ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر‏.‏ فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، فتلك علة تحريم ومنع‏.‏ وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع‏.‏

هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلامي القرآني الرباني الحكيم‏.‏ وهو المنهج الذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته‏.‏ ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر‏.‏

عندما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني، أي بمسألة اعتقادية، فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسماً منذ اللحظة الأولى‏.‏

ولكن عندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة وتقليد، أو بوضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج، ويهيِّئ الظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة‏.‏

فعندما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك‏:‏ أمضى أمره منذ اللحظة الأولى‏.‏ في ضربة حازمة جازمة‏.‏ لا تردد فيها ولا تلفت، ولا مجاملة فيها ولا مساومة، ولا لقاء في منتصف الطريق‏.‏ لأن المسألة هنا مسألة قاعدة أساسية للتصور، لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام‏.‏

فأما في الخمر والميسر فقد كان الأمر أمر عادة وإلف‏.‏ والعادة تحتاج إلى علاج‏.‏‏.‏ فبدأ بتحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في نفوس المسلمين، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع‏.‏ وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى‏.‏‏.‏ ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون‏}‏

والصلاة في خمسة أوقات، معظمها متقارب، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة‏!‏ وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي؛ إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله‏.‏ فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترت حدة العادة وأمكن التغلب عليها‏.‏‏.‏ حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر‏:‏ ‏{‏إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون‏}‏ وأما في الرق مثلاً، فقد كان الأمر أمر وضع اجتماعي اقتصادي، وأمر عرف دولي وعالمي في استرقاق الأسرى وفي استخدام الرقيق، والأوضاع الاجتماعية المعقدة تحتاج إلى تعديل شامل لمقوماتها وارتباطاتها قبل تعديل ظواهرها وآثارها‏.‏ والعرف الدولي يحتاج إلى اتفاقات دولية ومعاهدات جماعية‏.‏‏.‏ ولم يأمر الإسلام بالرق قط، ولم يرد في القرآن نص على استرقاق الأسرى‏.‏ ولكنه جاء فوجد الرق نظاماً عالمياً يقوم عليه الاقتصاد العالمي‏.‏ ووجد استرقاق الأسرى عرفاً دولياً يأخذ به المحاربون جميعاً‏.‏‏.‏ فلم يكن بد أن يتريث في علاج الوضع الاجتماعي القائم والنظام الدولي الشامل‏.‏

وقد اختار الإسلام أن يجفف منابع الرق وموارده حتى ينتهي بهذا النظام كله- مع الزمن- إلا الإلغاء، دون إحداث هزة إجتماعية لا يمكن ضبطها ولا قيادتها‏.‏ وذلك مع العناية بتوفير ضمانات الحياة المناسبة للرقيق، وضمان الكرامة الإنسانية في حدود واسعة‏.‏

بدأ بتجفيف موارد الرق فيما عدا أسرى الحرب الشرعية ونسل الأرقاء‏.‏‏.‏ ذلك أن المجتمعات المعادية للإسلام كانت تسترق أسرى المسلمين حسب العرف السائد في ذلك الزمان‏.‏ وما كان الإسلام يومئذ قادراً على أن يجبر المجتمعات المعادية على مخالفة ذلك العرف السائد، الذي تقوم عليه قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي في أنحاء الأرض‏.‏ ولو أنه قرر إبطال استرقاق الأسرى لكان هذا إجراء مقصوراً على الأسرى الذين يقعون في أيدي المسلمين، بينما الأسارى المسلمون يلاقون مصيرهم السييء في عالم الرق هناك‏.‏ وفي هذا إطماع لأعداء الإسلام في أهل الإسلام‏.‏‏.‏ ولو أنه قرر تحرير نسل الأرقاء الموجود فعلاً قبل أن ينظم الأوضاع الاقتصادية للدولة المسلمة ولجميع من تضمهم لترك هؤلاء الأرقاء بلا مورد رزق ولا كافل ولا عائل، ولا أواصر قربى تعصمهم من الفقر والسقوط الخلقي الذي يفسد حياة المجتمع الناشئ‏.‏‏.‏ لهذه الأوضاع القائمة العميقة الجذور لم ينص القرآن على استرقاق الأسرى، بل قال‏:‏ ‏{‏فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق‏.‏ فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها‏}‏ ولكنه كذلك لم ينص على عدم استرقاقهم‏.‏ وترك الدولة المسلمة تعامل أسراها حسب ما تقتضيه طبيعة موقفها‏.‏ فتفادي من تفادي من الأسرى من الجانبين، وتتبادل الأسرى من الفريقين، وتسترق من تسترق وفق الملابسات الواقعية في التعامل مع أعدائها المحاربين‏.‏

وبتجفيف موارد الرق الأخرى- وكانت كثيرة جداً ومتنوعة- يقل العدد‏.‏‏.‏ وهذا العدد القليل أخذ الإسلام يعمل على تحريره بمجرد أن ينضم إلى الجماعة المسلمة ويقطع صلته بالمعسكرات المعادية‏.‏ فجعل للرقيق حقه كاملاً في طلب الحرية بدفع فدية عنه يكاتب عليها سيده‏.‏ ومنذ هذه اللحظة التي يريد فيها الحرية يملك حرية العمل وحرية الكسب والتملك، فيصبح أجر عمله له، وله أن يعمل في غير خدمة سيده ليحصل على فديته- أي إنه يصبح كياناً مستقلاً ويحصل على أهم مقومات الحرية فعلاً- ثم يصبح له نصيبه من بيت مال المسلمين في الزكاة‏.‏ والمسلمون مكلفون بعد هذا أن يساعدوه بالمال على استرداد حريته‏.‏‏.‏ وذلك كله غير الكفارات التي تقتضي عتق رقبة‏.‏ كبعض حالات القتل الخطأ، وفدية اليمين، وكفارة الظهار‏.‏‏.‏ وبذلك ينتهي وضع الرق نهاية طبيعية مع الزمن، لأن إلغاءه دفعة واحدة كان يؤدي إلى هزة لا ضرورة، لها وإلى فساد في المجتمع أمكن اتقاؤه‏.‏

فأما تكاثر الرقيق في المجتمع الإسلامي بعد ذلك؛ فقد نشأ من الانحراف عن المنهج الإسلامي، شيئاً فشيئاً‏.‏ وهذه حقيقة‏.‏‏.‏ ولكن مباديء الإسلام ليست هي المسؤولة عنه‏.‏‏.‏ ولا يحسب ذلك على الإسلام الذي لم يطبق تطبيقاً صحيحاً في بعض العهود لانحراف الناس عن منهجه، قليلاً أو كثيراً‏.‏‏.‏ ووفق النظرية الإسلامية التاريخية التي أسلفنا‏.‏‏.‏ لا تعد الأوضاع التي نشأت عن هذا الانحراف أوضاعاً إسلامية، ولا تعد حلقات في تاريخ الإسلام كذلك‏.‏ فالإسلام لم يتغير‏.‏ ولم تضف إلى مبادئه مبادئ جديدة‏.‏ إنما الذي تغير هم الناس‏.‏ وقد بعدوا عنه فلم يعد له علاقة بهم‏.‏ ولم يعودوا هم حلقة من تاريخه‏.‏

وإذا أراد أحد أن يستأنف حياة إسلامية، فهو لا يستأنفها من حيث انتهت الجموع المنتسبة إلى الإسلام على مدى التاريخ‏.‏ إنما يستأنفها من حيث يستمد استمداداً مباشراً من أصول الإسلام الصحيحة‏.‏‏.‏

وهذه الحقيقة مهمة جداً‏.‏ سواء من وجهة التحقيق النظري، أو النمو الحركي، للعقيدة الإسلامية وللمنهج الإسلامي‏.‏ ونحن نؤكدها للمرة الثانية في هذا الجزء بهذه المناسبة، لما نراه من شدة الضلال والخطأ في تصور النظرية التاريخية الإسلامية، وفي فهم الواقع التاريخي الإسلامي‏.‏ ومن شدة الضلال والخطأ في تصور الحياة الإسلامية الحقيقية والحركة الإسلامية الصحيحة‏.‏ وبخاصة في دراسة المستشرقين للتاريخ الإسلامي‏.‏ ومن يتأثرون بمنهج المستشرقين الخاطئ في فهم هذا التاريخ‏!‏ وفيهم بعض المخلصين المخدوعين‏!‏

ثم نمضي مع السياق في تقرير المباديء الإسلامية في مواجهة الأسئلة الاستفهامية‏:‏

‏{‏ويسألونك ماذا ينفقون‏؟‏ قل العفو‏.‏ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة‏}‏‏.‏‏.‏

لقد سألوا مرة‏:‏ ماذا ينفقون‏؟‏ فكان الجواب عن النوع والجهة‏.‏ فأما هنا فجاء الجواب عن المقدار والدرجة‏.‏‏.‏ والعفو‏:‏ الفضل والزيادة‏.‏

فكل ما زاد على النفقة الشخصية- في غير ترف ولا مخيلة- فهو محل للإنفاق‏.‏ الأقرب فالأقرب‏.‏ ثم الآخرون على ما أسلفنا‏.‏‏.‏ والزكاة وحدها لا تجزئ‏.‏ فهذا النص لم تنسخه آية الزكاة ولم تخصصه فيما أرى‏:‏ فالزكاة لا تبرئ الذمة إلا بإسقاط الفريضة‏.‏ ويبقى التوجيه إلى الإنفاق قائماً‏.‏ إن الزكاة هي حق بيت مال المسلمين تجبيها الحكومة التي تنفذ شريعة الله، وتنفقها في مصارفها المعلومة، ولكن يبقى بعد ذلك واجب المسلم لله ولعباد الله‏.‏ والزكاة قد لا تستغرق الفضل كله، والفضل كله محل للإنفاق بهذا النص الواضح؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «في المال حق سوى الزكاة»‏.‏ حق قد يؤديه صاحبه ابتغاء مرضاة الله- وهذا هو الأكمل والأجمل- فإن لم يفعل واحتاجت إليه الدولة المسلمة التي تنفذ شريعة الله، أخذته فأنفقته فيما يصلح الجماعة المسلمة‏.‏ كي لا يضيع في الترف المفسد‏.‏ أو يقبض عن التعامل ويخزن ويعطل‏.‏

‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة‏}‏‏.‏‏.‏

فهذا البيان لاستجاشة التفكر والتدبر في أمر الدنيا والآخرة‏.‏ فالتفكر في الدنيا وحدها لا يعطي العقل البشري ولا القلب الإنساني صورة كاملة عن حقيقة الوجود الإنساني‏.‏ وحقيقة الحياة وتكاليفها وارتباطاتها‏.‏ ولا ينشئ تصوراً صحيحاً للأوضاع والقيم والموازين‏.‏ فالدنيا شطر الحياة الأدنى والأقصر‏.‏ وبناء الشعور والسلوك على حساب الشطر القصير لا ينتهي أبداً إلى تصور صحيح ولا إلى سلوك صحيح‏.‏‏.‏ ومسألة الإنفاق بالذات في حاجة إلى حساب الدنيا والآخرة‏.‏ فما ينقص من مال المرء بالإنفاق يرد عليها طهارة لقلبه، وزكاة لمشاعره‏.‏ كما يرد عليه صلاحاً للمجتمع الذي يعيش فيه ووئاماً وسلاماً‏.‏ ولكن هذا كله قد لا يكون ملحوظاً لكل فرد‏.‏ وحينئذ يكون الشعور بالآخرة وما فيها من جزاء، وما فيها من قيم وموازين، مرجحاً لكفة الإنفاق، تطمئن إليه النفس، وتسكن له وتستريح‏.‏ ويعتدل الميزان في يدها فلا يرجح بقيمة زائفة ذات لألاء وبريق‏.‏

‏{‏ويسألونك عن اليتامى‏؟‏ قل‏:‏ إصلاح لهم خير‏.‏ وأن تخالطوهم فإخوانكم‏.‏ والله يعلم المفسد من المصلح‏.‏ ولو شاء الله لأعنتكم‏.‏ إن الله عزيز حكيم‏}‏‏.‏‏.‏

إن التكافل الاجتماعي هو قاعدة المجتمع الإسلامي‏.‏ والجماعة المسلمة مكلفة أن ترعى مصالح الضعفاء فيها‏.‏ واليتامى بفقدهم آباءهم وهم صغار ضعاف أولى برعاية الجماعة وحمايتها‏.‏ رعايتها لنفوسهم وحمايتها لأموالهم‏.‏ ولقد كان بعض الأوصياء يخلطون طعام اليتامى بطعامهم‏.‏ وأموالهم بأموالهم للتجارة فيها جميعاً؛ وكان الغبن يقع أحياناً على اليتامى‏.‏ فنزلت الآيات في التخويف من أكل أموال الأيتام‏.‏ عندئذ تحرج الأتقياء حتى عزلوا طعام اليتامى من طعامهم‏.‏ فكان الرجل يكون في حجره اليتيم‏.‏ يقدم له الطعام من ماله‏.‏ فإذا فضل منه شيء بقي له حتى يعاود أكله أو يفسد فيطرح‏!‏ وهذا تشدد ليس من طبيعة الإسلام‏.‏

فوق ما فيه من الغرم أحياناً على اليتيم‏.‏ فعاد القرآن يرد المسلمين إلى الاعتدال واليسر في تناول الأمور؛ وإلى تحري خير اليتيم والتصرف في حدود مصلحته‏.‏ فالإصلاح لليتامى خير من اعتزالهم‏.‏ والمخالطة لا حرج فيها إذا حققت الخير لليتيم فاليتامى أخوان للأوصياء‏.‏ كلهم أخوة في الإسلام‏.‏ أعضاء في الأسرة المسلمة الكبيرة‏.‏ والله يعلم المفسد من المصلح، فليس المعول عليه هو ظاهر العمل وشكله‏.‏ ولكن نيته وثمرته‏.‏ والله لا يريد إحراج المسلمين وإعناتهم والمشقة عليهم فيما يكلفهم‏.‏ ولو شاء الله لكلفهم هذا العنت‏.‏ ولكنه لا يريد‏.‏ وهو العزيز الحكيم‏.‏ فهو قادر على ما يريد‏.‏ ولكنه حكيم لا يريد إلا الخير واليسر والصلاح‏.‏

وهكذا يربط الأمر كله بالله؛ ويشده إلى المحور الأصيل التي تدور عليه العقيدة، وتدور عليه الحياة‏.‏‏.‏ وهذه هي ميزة التشريع الذي يقوم على العقيدة‏.‏ فضمانة التنفيذ للتشريع لا تجيء أبداً من الخارج، إن لم تنبثق وتتعمق في أغوار الضمير‏.‏‏.‏