فصل: سورة مريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


سورة مريم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 40‏]‏

‏{‏كهيعص ‏(‏1‏)‏ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ‏(‏2‏)‏ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ‏(‏3‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ‏(‏4‏)‏ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ‏(‏5‏)‏ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ‏(‏6‏)‏ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ‏(‏7‏)‏ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ‏(‏8‏)‏ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ‏(‏9‏)‏ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ‏(‏10‏)‏ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ‏(‏11‏)‏ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ‏(‏12‏)‏ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ‏(‏13‏)‏ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ‏(‏14‏)‏ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏15‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ‏(‏16‏)‏ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ‏(‏17‏)‏ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ‏(‏18‏)‏ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ‏(‏19‏)‏ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ‏(‏20‏)‏ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ‏(‏21‏)‏ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ‏(‏22‏)‏ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ‏(‏23‏)‏ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ‏(‏24‏)‏ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ‏(‏25‏)‏ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ‏(‏26‏)‏ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ‏(‏27‏)‏ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ‏(‏28‏)‏ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ‏(‏29‏)‏ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ‏(‏30‏)‏ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ‏(‏31‏)‏ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ‏(‏32‏)‏ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏33‏)‏ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏34‏)‏ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏35‏)‏ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏36‏)‏ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏37‏)‏ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

يدور سياق هذه السورة على محور التوحيد؛ ونفي الولد والشريك؛ ويلم بقضية البعث القائمة على قضية التوحيد‏.‏‏.‏ هذا هو الموضوع الأساسي الذي تعالجه السورة، كالشأن في السورة المكية غالباً‏.‏

والقصص هو مادة هذه السورة‏.‏ فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى‏.‏ فقصة مريم ومولد عيسى‏.‏ فطرف من قصة إبراهيم مع أبيه‏.‏‏.‏ ثم تعقبها إشارات إلى النبيين‏:‏ إسحاق ويعقوب، وموسى وهرون، وإسماعيل، وإدريس‏.‏ وآدم ونوح‏.‏ ويستغرق هذا القصص حوالي ثلثي السورة‏.‏ ويستهدف إثبات الوحدانية والبعث، ونفي الولد والشريك، وبيان منهج المهتدين ومنهج الضالين من أتباع النبيين‏.‏

ومن ثم بعض مشاهد القيامة، وبعض الجدل مع المنكرين للبعث‏.‏

واستنكار للشرك ودعوى الولد؛ وعرض لمصارع المشركين والمكذبين في الدنيا وفي الآخرة‏.‏‏.‏ وكله يتناسق مع اتجاه القصص في السورة ويتجمع حول محورها الأصيل‏.‏

وللسورة، كلها جو خاص يظللها ويشيع فيها، ويتمشى في موضوعاتها‏.‏‏.‏

إن سياق هذه السورة معرض للانفعالات والمشاعر القوية‏.‏‏.‏ الانفعالات في النفس البشرية، وفي «نفس» الكون من حولها‏.‏ فهذا الكون الذي نتصوره جماداً لا حس له يعرض في السياق ذا نفس وحس ومشاعر وانفعالات، تشارك في رسم الجو العام للسورة‏.‏ حيث نرى السماوات والأرض والجبال تغضب وتنفعل حتى لتكاد تنفطر وتنشق وتنهد استنكاراً‏:‏

‏{‏أن دعوا للرحمن ولداً وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا‏}‏ أما الانفعالات في النفس البشرية فتبدأ مع مفتتح السورة وتنتهي مع ختامها‏.‏ والقصص الرئيسي فيها حافل بهذه الانفعالات في مواقفه العنيفة العميقة‏.‏ وبخاصة في قصة مريم وميلاد عيسى‏.‏

والظل الغالب في الجو هو ظل الرحمة والرضى والاتصال‏.‏ فهي تبدأ بذكر رحمة الله لعبده زكريا ‏{‏ذكر رحمة ربك عبده زكريا‏}‏ وهو يناجي ربه نجاء‏:‏ ‏{‏إذ نادى ربه نداء خفياً‏}‏‏.‏‏.‏ ويتكرر لفظ الرحمة ومعناها وظلها في ثنايا السورة كثيراً‏.‏ ويكثر فيها اسم ‏{‏الرحمن‏}‏‏.‏ ويصور النعيم الذي يلقاه المؤمنون به في صورة ود‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا‏}‏ ويذكر من نعمة الله على يحيى أن آتاه الله حناناً ‏{‏وحناناً من لدنا وزكاة وكان تقياً‏}‏‏.‏ ومن نعمة الله على عيسى أن جعله براً بوالدته وديعاً لطيفاً‏:‏ ‏{‏وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً‏}‏‏.‏‏.‏

وإنك لتحس لمسات الرحمة الندية ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال‏.‏ كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته‏.‏‏.‏ كذلك تحس أن للسورة إيقاعاً موسيقياً خاصاً‏.‏ فحتى جرس ألفاظها وفواصلها فيه رخاء وفيه عمق‏:‏ رضيا‏.‏ سريا‏.‏ حفيا‏.‏ نجياً‏.‏‏.‏ فأما المواضع التي تقتضي الشد والعنف، فتجيء فيها الفاصلة مشددة دالاً في الغالب‏.‏ مدّاً‏.‏ ضداً‏.‏ إدّاً، هدّاً، أو زاياً‏:‏ عزّا‏.‏ أزّاً‏.‏

وتنوع الإيقاع الموسيقي والفاصلة والقافية بتنوع الجو والموضوع يبدو جلياً في هذه السورة‏.‏

فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى فتسير الفاصلة والقافية هكذا‏:‏

‏{‏ذكر رحمة ربك عبده زكريا‏.‏ إذ نادى ربه نداء خفياً‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏}‏‏.‏

وتليها قصة مريم وعيسى فتسير الفاصلة والقافية على النظام نفسه‏:‏

‏{‏واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً‏.‏ فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً‏.‏‏.‏ الخ‏}‏

إلى أن ينتهي القصص، ويجيء التعقيب، لتقرير حقيقة عيسى ابن مريم، وللفصل في قضية بنوته‏.‏ فيختلف نظام الفواصل والقوافي‏.‏‏.‏ تطول الفاصلة، وتنتهي القافية بحرف الميم أو النون المستقر الساكن عند الوقف لا بالياء الممدودة الرخية‏.‏ على النحو التالي‏:‏ ‏{‏ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون‏.‏ ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له‏:‏ كن فيكون‏.‏‏.‏ الخ‏}‏‏.‏

حتى إذا انتهى التقرير والفصل وعاد السياق إلى القصص عادت القافية الرخية المديدة‏:‏

‏{‏واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً‏.‏ إذ قال لابيه‏:‏ يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً‏.‏‏.‏‏}‏ حتى إذا جاء ذكر المكذبين وما ينتظرهم من عذاب وانتقام، تغير الإيقاع الموسيقي وجرس القافية‏:‏

‏{‏قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً‏.‏ حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكاناً وأضعف جنداً‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏}‏ وفي موضع الاستنكار يشتد الجرس والنغم بتشديد الدال‏:‏

‏{‏وقالوا‏:‏ اتخذ الرحمن ولداً‏.‏ لقد جئتم شيئا إدا‏.‏ تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً‏.‏‏.‏ الخ‏}‏ وهكذا يسير الإيقاع الموسيقي في السورة وفق المعنى والجو؛ ويشارك في إبقاء الظل الذي يتناسق مع المعنى في ثنايا السورة، وفق انتقالات السياق من جو إلى جو ومن معنى إلى معنى‏.‏

ويسير السياق مع موضوعات السورة في أشواط ثلاثة‏:‏

الشوط الأول يتضمن قصة زكريا ويحيى، وقصة مريم وعيسى‏.‏ والتعقيب على هذه القصة بالفصل في قضية عيسى التي كثر فيها الجدل، واختلفت فيها أحزاب اليهود والنصارى‏.‏

والشوط الثاني يتضمن حلقة من قصة إبراهيم مع أبيه وقومه واعتزاله لملة الشرك وما عوضه الله من ذرية نسلت بعد ذلك أمة‏.‏ ثم إشارات إلى قصص النبيين، ومن اهتدى بهم ومن خلفهم من الغواة؛ ومصير هؤلاء وهؤلاء‏.‏ وينتهي بإعلان الربوبية الواحدة، التي تعبد بلا شريك‏:‏ ‏{‏رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً‏؟‏‏}‏ والشوط الثالث والأخير يبدأ بالجدل حول قضية البعث، ويستعرض بعض مشاهد القيامة‏.‏ ويعرض صورة من استنكار الكون كله لدعوى الشرك، وينتهي بمشهد مؤثر عميق من مصارع القرون‏!‏ ‏{‏وكم أهلكنا قبلهم من قرن‏.‏ هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً‏}‏ فنأخذ في الدرس الأول‏:‏

‏{‏كاف‏.‏

ها‏.‏ يا‏.‏ عين‏.‏ صاد‏}‏‏.‏‏.‏

هذه الأحرف المتقطعة التي تبدأ بها بعض السور، والتي اخترنا في تفسيرها أنها نماذج من الحروف التي يتألف منها هذا القرآن، فتجيء نسقاً جديداً لا يستطيعه البشر مع أنهم يملكون الحروف ويعرفون الكلمات، ولكنهم يعجزون أن يصوغوا منها مثل ما تصوغه القدرة المبدعة لهذا القرآن‏.‏

وبعدها تبدأ القصة الأولى‏.‏ قصة زكريا ويحيى‏.‏ والرحمة قوامها‏.‏ والرحمة تظللها‏.‏ ومن ثم يتقدمها ذكر الرحمة‏:‏ ‏{‏ذكر رحمة ربك عبده زكريا‏}‏‏.‏‏.‏

تبدأ القصة بمشهد الدعاء‏.‏ دعاء زكريا لربه في ضراعة وفي خفية‏:‏

‏{‏إذ نادى ربه نداء خفياً‏.‏ قال‏:‏ رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا، ولم أكن بدعائك رب شقياً‏.‏ وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً، فهب لي من لدنك ولياً، يرثني ويرث من آل يعقوب، واجعله رب رضياً‏}‏‏.‏‏.‏

إنه يناجي ربه بعيداً عن عيون الناس، بعيداً عن أسماعهم‏.‏ في عزلة يخلص فيها لربه، ويكشف له عما يثقل كاهله ويكرب صدره ويناديه في قرب واتصال‏:‏ ‏{‏رب‏.‏‏.‏‏}‏ بلا واسطة حتى ولا حرف النداء‏.‏ وإن ربه ليسمع ويرى من غير دعاء ولا نداء ولكن المكروب يستريح إلى البث، ويحتاج إلى الشكوى‏.‏ والله الرحيم بعباده يعرف ذلك من فطرة البشر، فيستحب لهم أن يدعوه وأن يبثوه ما تضيق به صدورهم‏.‏ ‏{‏وقال ربكم ادعوني أستجب لكم‏}‏ ليريحوا أعصابهم من العبء المرهق، ولتطمئن قلوبهم إلى أنهم قد عهدوا بأعبائهم إلى من هو أقوى وأقدر؛ وليستشعروا صلتهم بالجناب الذي لا يضام من يلجأ إليه، ولا يخيب من يتوكل عليه‏.‏

وزكريا يشكو إلى ربه وهن العظم‏.‏ وحين يهن العظم يكون الجسم كله قد وهن‏.‏ فالعظم هو أصلب ما فيه، وهو قوامه الذي يقوم به ويتجمع عليه‏.‏ ويشكو إليه اشتعال الرأس شيبا‏.‏ والتعبير المصور يجعل الشيب كأنه نار تشتعل ويجعل الرأس كله كأنما تشمله هذه النار المشتعلة، فلا يبقى في الرأس المشتعل سواد‏.‏

ووهن العظم واشتعال الرأس شيباً كلاهما كناية عن الشيخوخة وضعفها الذي يعانيه زكريا ويشكوه إلى ربه وهو يعرض عليه حاله ورجاءه‏.‏‏.‏

ثم يعقب عليه بقوله‏:‏ ‏{‏ألم أكن بدعائك رب شقياً‏}‏ معترفاً بأن الله قد عوده أن يستجيب إليه إذا دعاه، فلم يشق مع دعائه لربه، وهو في فتوته وقوته‏.‏ فما أحوجه الآن في هرمه وكبرته أن يستجيب الله له ويتم نعمته عليه‏.‏

فإذا صور حاله، وقدم رجاءه، ذكر ما يخشاه، وعرض ما يطلبه‏.‏‏.‏ إنه يخشى من بعده‏.‏ يخشاهم ألا يقوموا على تراثه بما يرضاه‏.‏ وتراثه هو دعوته التي يقوم عليها وهو أحد أنبياء بني إسرائيل البارزين وأهله الذين يرعاهم ومنهم مريم التي كان قيماً عليها وهي تخدم المحراب الذي يتولاه وماله الذي يحسن تدبيره وإنفاقه في وجهه‏.‏

وهو يخشى الموالي من ورائه على هذا التراث كله، ويخشى ألا يسيروا فيه سيرته‏.‏‏.‏ قيل لأنه يعهدهم غير صالحين للقيام على ذلك التراث‏.‏‏.‏

‏{‏وكانت امرأتي عاقراً‏}‏‏.‏‏.‏ لم تعقب فلم يكن له من ذريته من يملك تربيته وإعداده لوراثته وخلافته‏.‏

ذلك ما يخشاه‏.‏ فأما ما يطلبه فهو الولي الصالح، الذي يحسن الوراثة، ويحسن القيام على تراثه وتراث النبوة من آبائه وأجداده‏:‏ ‏{‏فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب‏}‏‏.‏

ولا ينسى زكريا، النبي الصالح، أن يصور أمله في ذلك الوريث الذي يرجوه في كبرته‏:‏ ‏{‏واجعله رب رضيا‏}‏ لا جباراً ولا غليظاً، ولا متبطراً ولا طموعاً‏.‏ ولفظة ‏{‏رضي‏}‏ تلقي هذه الظلال‏.‏ فالرضي الذي يرضى ويرضي‏.‏ وينشر ظلال الرضى فيما حوله ومن حوله‏.‏

ذلك دعاء زكريا لربه في ضراعة وخفية‏.‏ والألفاظ والمعاني والظلال والإيقاع الرخي‏.‏ كلها تشارك في تصوير مشهد الدعاء‏.‏

ثم ترتسم لحظة الاستجابة في رعاية وعطف ورضى‏.‏‏.‏ فالرب ينادي من الملأ الأعلى‏:‏ ‏{‏يا زكريا‏}‏‏.‏‏.‏ ويعجل له البشرى‏:‏ ‏{‏إنا نبشرك بغلام‏}‏ ويغمره بالعطف فيختار له اسم الغلام الذي بشره به‏:‏ ‏{‏اسمه يحيى‏}‏‏.‏ وهو اسم فذ غير مسبوق‏:‏ ‏{‏لم نجعل له من قبل سمياً‏}‏‏.‏‏.‏

إنه فيض الكرم الإلهي يغدقه على عبده الذي دعاه في ضراعة، وناجاه في خفية، وكشف له عما يخشى، وتوجه إليه فيما يرجو‏.‏ والذي دفعه إلى دعاء ربه خوفه الموالي من بعده على تراث العقيدة وعلى تدبير المال والقيام على الأهل بما يرضي الله‏.‏ وعلم الله ذلك من نيته فأغدق عليه وأرضاه‏.‏

وكأنما أفاق زكريا من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء، على هذه الاستجابة القريبة للدعاء‏.‏ فإذا هو يواجه الواقع‏.‏‏.‏ إنه رجل شيخ بلغ من الكبر عتياً، وهن عظمه واشتعل شيبه، وامرأته عاقر لم تلد له في فتوته وصباه‏:‏ فكيف يا ترى سيكون له غلام‏؟‏ إنه ليريد أن يطمئن، ويعرف الوسيلة التي يرزقه الله بها هذا الغلام‏:‏ ‏{‏قال‏:‏ رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً‏؟‏‏}‏‏.‏

إنه يواجه الواقع، ويواجه معه وعد الله‏.‏ وإنه ليثق بالوعد، ولكنه يريد أن يعرف كيف يكون تحقيقه مع ذلك الواقع الذي يواجهه ليطمئن قلبه‏.‏ وهي حالة نفسية طبيعية‏.‏ في مثل موقف زكريا النبي الصالح‏.‏ الإنسان‏!‏ الذي لا يملك أن يغفل الواقع، فيشتاق أن يعرف كيف يغيره الله‏!‏

هنا يأتيه الجواب عن سؤاله‏:‏ أن هذا هين على الله سهل‏.‏ ويذكره بمثل قريب في نفسه‏:‏ في خلقته هو وإيجاده بعد أن لم يكن‏.‏ وهو مثل لكل حي، ولكل شيء في هذا الوجود‏:‏

‏{‏قال‏:‏ كذلك قال ربك‏:‏ هو عليَّ هين‏.‏ وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً‏}‏‏.‏

وليس في الخلق هين وصعب على الله‏.‏ ووسيلة الخلق للصغير والكبير، وللحقير والجليل واحدة‏:‏ كن‏.‏ فيكون‏.‏

والله هو الذي جعل العاقر لا تلد‏.‏ وجعل الشيخ الفاني لا ينسل؛ وهو قادر على إصلاح العاقر وإزالة سبب العقم، وتجديد قوة الإخصاب في الرجل‏.‏ وهو أهون في اعتبار الناس من إنشاء الحياة ابتداء‏.‏ وإن كان كل شيء هيناً على القدرة‏:‏ إعادة أو إنشاء‏.‏

ومع ذلك فإن لهفة زكريا على الطمأنينة تدفع به أن يطلب آية وعلامة على تحقق البشرى فعلاً‏.‏ فأعطاه الله آية تناسب الجو النفسي الذي كان فيه الدعاء وكانت فيه الاستجابة‏.‏‏.‏ ويؤدي بها حق الشكر لله الذي وهبه على الكبر غلاماً‏.‏‏.‏ وذلك أن ينقطع عن دنيا الناس ويحيا مع الله ثلاث ليال ينطلق لسانه إذا سبح ربه، ويحتبس إذا كلم الناس، وهو سوي معافى في جوارحه لم يصب لسانه عوج ولا آفة‏.‏

‏{‏قال‏:‏ آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً‏}‏‏.‏‏.‏

وكان ذلك‏:‏

‏{‏فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك ليعيشوا في مثل الجو الذي يعيش فيه، وليشكروا الله معه على ما أنعم عليه وعليهم من بعده‏.‏

ويترك السياق زكريا في صمته وتسبيحه، ويسدل عليه الستار في هذا المشهد ويطوي صفحته ليفتح الصفحة الجديدة على يحيى؛ يناديه ربه من الملأ الأعلى‏:‏

‏{‏يا يحيى خذ الكتاب بقوة‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

لقد ولد يحيى وترعرع وصار صبياً، في الفجوة التي تركها السياق بين المشهدين‏.‏ على طريقة القرآن في عرضه الفني للقصص، ليبرز أهم الحلقات والمشاهد، وأشدها حيوية وحركة‏.‏

وهو يبدأ بهذا النداء العلوي ليحيى قبل أن يتحدث عنه بكلمة‏.‏ لأن مشهد النداء مشهد رائع عظيم، يدل على مكانة يحيى، وعلى استجابة الله لزكريا، في أن يجعل له من ذريته ولياً، يحسن الخلافة بعده في العقيدة وفي العشيرة‏.‏ فها هو ذا أول موقف ليحيى هو موقف انتدابه ليحمل الأمانة الكبرى‏.‏ ‏{‏يا يحيى خذ الكتاب بقوة‏}‏‏.‏‏.‏ والكتاب هو التوراة كتاب بني إسرائيل من بعد موسى، وعليه كان يقوم انبياؤهم يعلمون به ويحكمون‏.‏ وقد ورث يحيى أباه زكريا، ونودي ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم، لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة‏.‏‏.‏

وبعد النداء يكشف السياق عما زود به يحيى لينهض بالتبعة الكبرى‏:‏

‏{‏وآتيناه الحكم صبياً‏.‏ وحناناً من لدنا وزكاة، وكان تقياً‏}‏‏.‏‏.‏

فهذه هي المؤهلات التي زوده الله بها وأعده وأعانه على احتمال ما كلفه إياه عندما ناداه‏.‏‏.‏

آتاه الحكمة صبياً‏.‏ فكان فذاً في زاده، كما كان فذا في اسمه وفي ميلاده‏.‏ فالحكمة تأتي متأخرة‏.‏ ولكن يحيى قد زود بها صبياً‏.‏

وآتاه الحنان هبة لدنية لا يتكلفه ولا يتعلمه؛ إنما هو مطبوع عليه ومطبوع به‏.‏

والحنان صفة ضرورية للنبي المكلف رعاية القلوب والنفوس، وتألفها واجتذابها إلى الخير في رفق‏.‏

وآتاه الطهارة والعفة ونظافة القلب والطبع؛ يواجه بها أدران القلوب ودنس النفوس، فيطهرها ويزكيها‏.‏

‏{‏وكان تقياً‏}‏ موصولاً بالله، متحرجاً معه، مراقباً له، يخشاه ويستشعر رقابته عليه في سره ونجواه‏.‏

ذلك هو الزاد الذي آتاه الله يحيى في صباه، ليخلف أباه كما توجه إلى ربه وناداه نداء خفيا‏.‏ فاستجاب له ربه ووهب له غلاماً زكياً‏.‏‏.‏

وهنا يسدل الستار على يحيى كما أسدل من قبل على زكريا‏.‏ وقد رسم الخط الرئيسي في حياته، وفي منهجه، وفي اتجاهه‏.‏ وبرزت العبرة من القصة في دعاء زكريا واستجابة ربه له، وفي نداء يحيى وما زوده الله به‏.‏ ولم يعد في تفصيلات القصة بعد ذلك ما يزيد شيئاً في عبرتها ومغزاها‏.‏‏.‏

والآن فإلى قصة أعجب من قصة ميلاد يحيى‏.‏‏.‏ إنها قصة ميلاد عيسى‏.‏ وقد تدرج السياق من القصة الأولى ووجه العجب فيها هو ولادة العاقر من بعلها الشيخ، إلى الثانية ووجه العجب فيها هو ولادة العذراء من غير بعل‏!‏ وهي أعجب وأغرب‏.‏

وإذا نحن تجاوزنا حادث خلق الإنسان أصلاً وإنشائه على هذه الصورة، فإن حادث ولادة عيسى ابن مريم يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كله، ويكون حادثاً فذاً لا نظير له من قبله ولا من بعده‏.‏

والبشرية لم تشهد خلق نفسها وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها‏!‏ لم تشهد خلق الإنسان الأول من غير أب وأم، وقد مضت القرون بعد ذلك الحادث؛ فشاءت الحكمة الإلهية أن تبرز العجيبة الثانية في مولد عيسى من غير أب، على غير السنة التي جرت منذ وجد الإنسان على هذه الأرض، ليشهدها البشر؛ ثم تظل في سجل الحياة الإنسانية بارزة فذة تتلفت إليها الأجيال، إن عز عليها أن تتلفت إلى العجيبة الأولى التي لم يشهدها إنسان‏!‏

لقد جرت بسنة الله التي وضعها لامتداد الحياة بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل والأنواع بلا استثناء، حتى المخلوقات التي لا يوجد فيها ذكر وأنثى متميزان تتجمع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير والتأنيث‏.‏‏.‏ جرت هذه السنة أحقاباً طويلة حتى استقر في تصور البشر أن هذه الطريقة الوحيدة، ونسوا الحادث الأول‏.‏ حادث وجود الإنسان لأنه خارج عن القياس‏.‏ فأراد الله أن يضرب لهم مثل عيسى ابن مريم عليه السلام ليذكرهم بحرية القدرة وطلاقة الإرادة، وأنها لا تحتبس داخل النواميس التي تختارها‏.‏ ولم يتكرر حادث عيسى لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها الله، وأن ينفذ الناموس الذي اختاره‏.‏ وهذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار البشرية معلماً بارزاً على حرية المشيئة، وعدم احتباسها داخل حدود النواميس ‏{‏ولنجعله آية للناس‏}‏‏.‏

ونظراً لغرابة الحادث وضخامته فقد عز على فرق من الناس أن تتصوره على طبيعته وأن تدرك الحكمة في إبرازه، فجعلت تضفي على عيسى ابن مريم عليه السلام صفات ألوهية، وتصوغ حول مولده الخرافات والأساطير، وتعكس الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب، وهي إثبات القدرة الإلهية التي لا تتقيد تعكسها فتشوه عقيدة التوحيد‏.‏

والقرآن في هذه السورة يقص كيف وقعت هذه العجيبة، ويبرز دلالتها الحقيقية، وينفي تلك الخرافات والأساطير‏.‏

والسياق يخرج القصة في مشاهد مثيرة، حافلة بالعواطف والانفعالات، التي تهز من يقرؤها هزاً كأنما هو يشهدها‏:‏

‏{‏واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فاتخذت من دونهم حجاباً‏.‏ فأرسلنا إليها روحنا، فتمثل لها بشراً سوياً‏.‏ قالت‏:‏ إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً‏.‏ قال‏:‏ إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً‏.‏ قالت‏:‏ أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً‏؟‏ قال‏:‏ كذلكِ قال ربكِ هو عليَّ هين، ولنجعله آية للناس ورحمة منا‏.‏‏.‏ وكان أمراً مقضياً‏}‏‏.‏‏.‏

فهذا المشهد الأول فتاة عذراء‏.‏ قديسة، وهبتها أمها وهي في بطنها لخدمة المعبد‏.‏ لا يعرف عنها أحد إلا الطهر والعفة حتى لتنسب إلى هارون أبي سدنة المعبد الإسرائيلي المتطهرين ولا يعرف عن أسرتها إلا الطيبة والصلاح من قديم‏.‏

ها هي ذي تخلو إلى نفسها لشأن من شؤونها التي تقتضي التواري من أهلها والاحتجاب عن أنظارهم‏.‏‏.‏ ولا يحدد السياق هذا الشأن، ربما لأنه شأن خاص جداً من خصوصيات الفتاة‏.‏‏.‏

وها هي ذي في خلوتها، مطمئنة إلى انفرادها‏.‏ ولكن ها هي ذي تفاجأ مفاجأة عنيفة‏.‏‏.‏ إنه رجل مكتمل سوي‏:‏ ‏{‏فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً‏}‏‏.‏‏.‏ وها هي ذي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة يفجؤها رجل في خلوتها، فتلجأ إلى الله تستعيذ به وتستنجد وتستثير مشاعر التقوى في نفس الرجل، والخوف من الله والتحرج من رقابته في هذا المكان الخالي‏:‏ ‏{‏قالت‏:‏ إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً‏}‏ فالتقيّ ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن، ويرجع عن دفعة الشهوة ونزغ الشيطان‏.‏‏.‏

وهنا يتمثل الخيال تلك العذراء الطيبة البريئة ذات التربية الصالحة، التي نشأت في وسط صالح، وكفلها زكريا، بعد أن نذرت لله جنينا‏.‏‏.‏ وهذه هي الهزة الأولى‏.‏

‏{‏قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا‏}‏‏.‏‏.‏ وليتمثل الخيال مقدار الفزع والخجل‏.‏ وهذا الرجل السوي الذي لم تثق بعد بأنه رسول ربها فقد تكون حيلة فاتك يستغل طيبتها يصارحها بما يخدش سمع الفتاة الخجول، وهو أنه يريد أن يهب لها غلاماً، وهما في خلوة وهذه هي الهزة الثانية‏.‏

ثم تدركها شجاعة الأنثى المهددة في عرضها‏!‏ فتسأل في صراحة‏:‏ كيف‏؟‏

‏{‏قالت‏:‏ أنى يكون لي غلام، ولم يمسسني بشر، ولم أك بغياً‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ هكذا في صراحة‏.‏ وبالألفاظ المكشوفة‏.‏ فهي والرجل في خلوة‏.‏ والغرض من مباغتته لها قد صار مكشوفاً‏.‏ فما تعرف هي بعد كيف يهب لها غلاماً‏؟‏ وما يخفف من روع الموقف ان يقول لها‏:‏ ‏{‏إنما أنا رسول ربك‏}‏ ولا أنه مرسل ليهب لها غلاماً طاهراً غير مدنس المولد، ولا مدنس السيرة، ليطمئن بالها‏.‏ لا‏.‏ فالحياء هنا لا يجدي، والصراحة أولى‏.‏‏.‏ كيف‏؟‏ وهي عذراء لم يمسسها بشر، وما هي بغي فتقبل الفعلة التي تجيء منها بغلام‏!‏

ويبدو من سؤالها أنها لم تكن تتصور حتى اللحظة وسيلة أخرى لأن يهبها غلاماً إلا الوسيلة المعهودة بين الذكر ولأنثى‏.‏ وهذا هو الطبيعي بحكم التصور البشري‏.‏

‏{‏قال‏:‏ كذلك قال ربك‏:‏ هو عليَّ هين‏.‏ ولنجعله آية للناس، ورحمة منا‏}‏‏.‏‏.‏

فهذا الأمر الخارق الذي لا تتصور مريم وقوعه، هين على الله‏.‏ فأمام القدرة التي تقول للشيء كن فيكون، كل شيء هين، سواء جرت به السنة المعهودة أو جرت بغيره‏.‏ والروح يخبرها بأن ربها يخبّرها بأن هذا هين عليه‏.‏ وأنه أراد أن يجعل هذا الحادث العجيب آية للناس، وعلامة على وجوده وقدرته وحرية إرادته‏.‏ ورحمة لبني إسرائيل أولاً وللبشرية جميعاً، بإبراز هذا الحادث الذي يقودهم إلى معرفة الله وعبادته وابتغاء رضاه‏.‏

بذلك انتهى الحوار بين الروح الأمين ومريم العذراء‏.‏‏.‏ ولا يذكر السياق ماذا كان بعد الحوار، فهنا فجوة من فجوات العرض الفني للقصة‏.‏ ولكنه يذكر أن ما أخبرها به من أن يكون لها غلام وهي عذراء لم يمسسها بشر، وأن يكون هذا الغلام آية للناس ورحمة من الله‏.‏ أن هذا قد انتهى أمره، وتحقق وقوعه‏:‏ ‏{‏وكان أمراً مقضياً‏}‏ كيف‏؟‏ لا يذكر هنا عن ذلك شيئاً‏.‏

ثم تمضي القصة في مشهد جديد من مشاهدها؛ فتعرض هذه العذراء الحائرة في موقف آخر أشد هولاً‏:‏ ‏{‏فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً‏.‏ فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة؛ قالت‏:‏ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه هي الهزة الثالثة‏.‏‏.‏

إن السياق لا يذكر كيف حملته ولا كم حملته‏.‏ هل كان حملاً عادياً كما تحمل النساء وتكون النفخة قد بعثت الحياة والنشاط في البويضة فإذا هي علقة فمضغة فعظام ثم تكسى العظام باللحم ويستكمل الجنين أيامه المعهودة‏؟‏ إن هذا جائز‏.‏ فبويضة المرأة تبدأ بعد التلقيح في النشاط والنمو حتى تستكمل تسعة أشهر قمرية، والنفخة تكون قد أدت دور التلقيح فسارت البويضة سيرتها الطبيعية‏.‏‏.‏ كما أنه من الجائز في مثل هذه الحالة الخاصة أن لا تسير البويضة بعد النفخة سيرة عادية، فتختصر المراحل اختصاراً؛ ويعقبها تكون الجنين ونموه واكتماله في فترة وجيزة‏.‏

‏.‏ ليس في النص ما يدل على إحدى الحالتين‏.‏ فلا نجري طويلاً وراء تحقيق القضية التي لا سند لنا فيها‏.‏‏.‏ فلنشهد مريم تنتبذ مكاناً قصياً عن أهلها، في موقف أشد هولاً من موقفها الذي أسلفنا‏.‏ فلئن كانت في الموقف الأول تواجه الحصانة والتربية والأخلاق، بينها وبين نفسها، فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة‏.‏ ثم تواجه الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية‏.‏ تواجه المخاض الذي ‏{‏أجاءها‏}‏ إجاءة إلى جذع النخلة، واضطرها اضطراراً إلى الاستناد عليها‏.‏ وهي وحيدة فريدة، تعاني حيرة العذراء في أول مخاض، ولا علم لها بشيء، ولا معين لها في شيء‏.‏‏.‏ فإذا هي قالت‏:‏ ‏{‏يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً‏}‏ فإننا لنكاد نرى ملامحها، ونحس اضطراب خواطرها، ونلمس مواقع الألم فيها‏.‏ وهي تتمنى لو كانت ‏{‏نسياً‏}‏‏:‏ تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض، ثم تلقى بعد ذلك وتنسى‏!‏

وفي حدة الألم وغمرة الهول تقع المفاجأة الكبرى‏:‏

‏{‏فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً‏.‏ وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً‏.‏ فكلي واشربي وقري عيناً، فإما ترين من البشر أحداً فقولي‏:‏ إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا‏}‏‏.‏‏.‏

يا لله‏!‏ طفل ولد اللحظة يناديها من تحتها‏.‏ يطمئن قلبها ويصلها بربها، ويرشدها إلى طعامها وشرابها‏.‏ ويدلها على حجتها وبرهانها‏!‏

لا تحزني‏.‏‏.‏ ‏{‏قد جعل ربك تحتك سرياً‏}‏ فلم ينسك ولم يتركك، بل أجرى لك تحت قدميك جدولاً سارياً الأرجح أنه جرى للحظته من ينبوع أو تدفق من مسيل ماء في الجبل وهذه النخلة التي تستندين إليها هزيها فتساقط عليك رطباً‏.‏ فهذا طعام وذاك شراب‏.‏ والطعام الحلو مناسب للنفساء‏.‏ والرطب والتمر من أجود طعام النفساء‏.‏ ‏{‏فكلي واشربي‏}‏ هنيئاً‏.‏ ‏{‏وقري عيناً‏}‏ واطمئني قلباً‏.‏ فأما إذا واجهت أحداً فأعلنيه بطريقة غير الكلام، أنك نذرت للرحمن صوماً عن حديث الناس وانقطعت إليه للعبادة‏.‏ ولا تجيبي أحداً عن سؤال‏.‏‏.‏

ونحسبها قد دهشت طويلاً، وبهتت طويلاً، قبل أن تمد يدها إلى جذع النخلة تهزه ليساقط عليها رطباً جنياً‏.‏‏.‏ ثم أفاقت فاطمأنت إلى أن الله لا يتركها‏.‏ وإلى أن حجتها معها‏.‏‏.‏ هذا الطفل الذي ينطلق في المهد‏.‏‏.‏ فيكشف عن الخارقة التي جاءت به إليها‏.‏‏.‏

‏{‏فأتت به قومها تحمله‏.‏‏.‏ ‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏ فلنشهد هذا المشهد المثير‏:‏

إننا لنتصور الدهشة التي تعلو وجوه القوم ويبدو أنهم أهل بيتها الأقربون في نطاق ضيق محدود وهم يرون ابنتهم الطاهرة العذراء الموهوبة للهيكل العابدة المنقطعة للعبادة‏.‏‏.‏ يرونها تحمل طفلاً‏!‏

‏{‏قالوا‏:‏ يا مريم لقد جئت شيئا فريا‏.‏ يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغياً‏!‏‏}‏

إن ألسنتهم لتنطلق بالتقريع والتأنيب‏:‏ ‏{‏يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً‏}‏ فظيعاً مستنكراً‏.‏

ثم يتحول السخط إلى تهكم مرير‏:‏ ‏{‏يا أخت هارون‏}‏ النبي الذي تولى الهيكل هو وذريته من بعده والذي تنتسبين إليه بعبادتك وانقطاعك لخدمة الهيكل‏.‏ فيا للمفارقة بين تلك النسبة التي تنتسبينها وذلك الفعل الذي تقارفينه‏!‏ ‏{‏ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغياً‏}‏ حتى تأتي بهذه الفعلة التي لا يأتيها إلا بنات آباء السوء والأمهات البغايا‏!‏

وتنفذ مريم وصية الطفل العجيب التي لقنها إياها‏:‏

‏{‏فأشارت إليه‏}‏‏.‏‏.‏ فماذا نقول في العجب والغيظ الذي ساورهم وهم يرون عذراء تواجههم بطفل؛ ثم تتبجح فتسخر ممن يستنكرون فعلتها فتصمت وتشير لهم إلى الطفل ليسألوه عن سرها‏!‏

‏{‏قالوا‏:‏ كيف نكلم من كان في المهد صبياً‏؟‏‏}‏‏.‏

ولكن ها هي ذي الخارقة العجيبة تقع مرة أخرى‏:‏

‏{‏قال‏:‏ إني عبد الله، آتاني الكتاب، وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أين ما كنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً، وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً‏}‏‏.‏

وهكذا يعلن عيسى عليه السلام عبوديته لله‏.‏ فليس هو ابنه كما تدعي فرقة‏.‏ وليس هو إلهاً كما تدعي فرقة‏.‏ وليس هو ثالث ثلاثة هم إله واحد وهم ثلاثة كما تدعي فرقة‏.‏ ويعلن أن الله جعله نبياً، لا ولداً ولا شريكاً‏.‏ وبارك فيه، وأوصاه بالصلاة والزكاة مدة حياته‏.‏ والبر بوالدته والتواضع مع عشيرته‏.‏ فله إذن حياة محدودة ذات أمد‏.‏ وهو يموت ويبعث‏.‏ وقد قدر الله له السلام والأمان والطمأنينة يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً‏.‏‏.‏

والنص صريح هنا في موت عيسى وبعثه‏.‏ وهو لا يحتمل تأويلاً في هذه الحقيقة ولا جدالاً‏.‏

ولا يزيد السياق القرآني شيئاً على هذا المشهد‏.‏ لا يقول‏:‏ كيف استقبل القوم هذه الخارقة‏.‏ ولا ماذا كان بعدها من أمر مريم وابنها العجيب‏.‏ ولا متى كانت نبوته التي أشار إليها وهو يقول‏:‏

‏{‏آتاني الكتاب وجعلني نبياً‏}‏‏.‏‏.‏ ذلك أن حادث ميلاد عيسى هو المقصود في هذا الموضع‏.‏ فحين يصل به السياق إلى ذلك المشهد الخارق يسدل الستار ليعقب بالغرض المقصود في أنسب موضع من السياق، بلهجة التقرير، وإيقاع التقرير‏:‏

‏{‏ذلك عيسى ابن مريم‏.‏ قول الحق الذي فيه يمترون‏.‏ ما كان لله أن يتخذ من ولد‏.‏ سبحانه‏.‏ إذا قضى أمراً فإنما يقول له‏:‏ كن فيكون‏.‏ وإن الله ربي وربكم فاعبدوه‏.‏ هذا صراط مستقيم‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك عيسى ابن مريم، لا ما يقوله المؤلهون له أو المتهمون لأمه في مولده‏.‏‏.‏ ذلك هو في حقيقته وذلك واقع نشأته‏.‏ ذلك هو يقول قول الحق الذي فيه يمترون ويشكون‏.‏ يقولها لسانه ويقولها الحال في قصته‏:‏ ‏{‏ما كان لله أن يتخذ من ولد‏}‏ تعالى وتنزه فليس من شأنه أن يتخذ ولداً‏.‏

والولد إنما يتخذه الفانون للامتداد، ويتخذه الضعاف للنصرة‏.‏ والله باق لا يخشى فناء، قادر لا يحتاج معيناً‏.‏ والكائنات كلها توجد بكلمة كن‏.‏ وإذا قضى أمراً فإنما يقول له‏:‏ كن فيكون‏.‏‏.‏ فما يريد تحقيقه يحققه بتوجه الإرادة لا بالولد والمعين‏.‏‏.‏ وينتهي ما يقوله عيسى عليه السلام ويقوله حاله بإعلان ربوبية الله له وللناس، ودعوته إلى عبادة الله الواحد بلا شريك‏:‏ ‏{‏وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم‏}‏‏.‏‏.‏ فلا يبقى بعد شهادة عيسى وشهادة قصته مجال للأوهام والأساطير‏.‏‏.‏ وهذا هو المقصود بذلك التعقيب في لغة التقرير وإيقاع التقرير‏.‏

وبعد هذا التقرير يعرض اختلاف الفرق والأحزاب في أمر عيسى فيبدو هذا الاختلاف مستنكراً نابياً في ظل هذه الحقيقة الناصعة‏:‏

‏{‏فاختلف الأحزاب من بينهم‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد جمع الإمبراطور الروماني قسطنطين مجمعاً من الأساقفة وهو أحد المجامع الثلاثة الشهيرة بلغ عدد أعضائه ألفين ومائة وسبعين أسقفاً فاختلفوا في عيسى اختلافاً شديداً، وقالت كل فرقة فيه قولاً‏.‏‏.‏ قال بعضهم‏:‏ هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو ابن الله، وقال بعضهم‏:‏ هو أحد الأقانيم الثلاثة‏:‏ الأب والابن والروح القدس‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو ثالث ثلاثة‏:‏ الله إله وهو إله وأمه إله‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته‏.‏ وقالت فرق أخرى أقوالاً أخرى‏.‏ ولم يجتمع على مقالة واحدة اكثر من ثلاث مائة وثمانية اتفقوا على قول‏.‏ فمال إليه الإمبراطور ونصر أصحابه وطرد الآخرين وشرد المعارضين وبخاصة الموحدين‏.‏

ولما كانت العقائد المنحرفة قد قررتها مجامع شهدتها جموع الأساقفة فإن السياق هنا ينذر الكافرين الذين ينحرفون عن الإيمان بوحدانية الله، ينذرهم بمشهد يوم عظيم تشهده جموع أكبر، وترى ما يحل بالكافرين المنحرفين‏:‏

‏{‏فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم‏.‏ أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا، لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين‏.‏ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون‏}‏‏.‏

ويل لهم من ذلك المشهد في يوم عظيم‏.‏ بهذا التنكير للتفخيم والتهويل‏.‏ المشهد الذي يشهده الثقلان‏:‏ الإنس والجن، وتشهده الملائكة، في حضرة الجبار الذي أشرك به الكفار‏.‏

ثم يأخذ السياق في التهكم بهم وبإعراضهم عن دلائل الهدى في الدنيا‏.‏ وهم في ذلك المشهد أسمع الناس وأبصر الناس‏:‏

‏{‏أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا، لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين‏}‏‏.‏‏.‏

فما أعجب حالهم‏!‏‏.‏‏.‏ لا يسمعون ولا يبصرون حين يكون السمع والبصر وسيلة للهدى والنجاة‏.‏ وهم أسمع شيء وأبصر شيء يوم يكون السمع والبصر وسيلة للخزي ولإسماعهم ما يكرهون وتبصيرهم ما يتقون في مشهد يوم عظيم‏!‏

‏{‏وأنذرهم يوم الحسرة‏}‏‏.‏‏.‏ يوم تشتد الحسرات حتى لكأن اليوم ممحض للحسرة لا شيء فيه سواها، فهي الغالبة على جوه، البارزة فيه‏.‏ أنذرهم هذا اليوم الذي لا تنفع فيه الحسرات‏:‏ ‏{‏إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون‏}‏ وكأنما ذلك اليوم موصول بعدم إيمانهم، موصول بالغفلة التي هم فيها سادرون‏.‏

أنذرهم ذلك اليوم الذي لا شك فيه؛ فكل ما على الأرض ومن على الأرض عائد إلى الله، عودة الميراث كله إلى الوارث الوحيد‏!‏‏:‏

‏{‏إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون‏}‏‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 65‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏41‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ‏(‏42‏)‏ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ‏(‏43‏)‏ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ‏(‏44‏)‏ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ‏(‏45‏)‏ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ‏(‏46‏)‏ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ‏(‏47‏)‏ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ‏(‏48‏)‏ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ‏(‏49‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ‏(‏50‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ‏(‏51‏)‏ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ‏(‏52‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ‏(‏53‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ‏(‏54‏)‏ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ‏(‏55‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏56‏)‏ وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ‏(‏57‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ‏(‏58‏)‏ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ‏(‏59‏)‏ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ‏(‏60‏)‏ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ‏(‏61‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ‏(‏62‏)‏ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ‏(‏63‏)‏ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ‏(‏64‏)‏ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ‏(‏65‏)‏‏}‏

انتهت قصة ميلاد عيسى بكشف ما في أسطورة الولد من نكارة وكذب وضلال؛ وهي التي يستند إليها بعض أهل الكتاب في عقائدهم الفاسدة‏.‏ وتليها في السورة حلقة من قصة إبراهيم تكشف عما في عقيدة الشرك من نكارة وكذب وضلال كذلك‏.‏ وإبراهيم هو الذي ينتسب إليه العرب‏.‏ ويقول المشركون‏:‏ إنهم سدنة البيت الذي بناه هو وإسماعيل‏.‏

وتبدو في هذه الحلقة شخصية إبراهيم الرضي الحليم‏.‏‏.‏ تبدو وداعته وحلمه في ألفاظه وتعبيراته التي يحكي القرآن الكريم ترجمتها بالعربية، وفي تصرفاته ومواجهته للجهالة من أبيه‏.‏ كما تتجلى رحمة الله به وتعويضه عن أبيه وأهله المشركين ذرية صالحة تنسل أمة كبيرة، فيها الأنبياء وفيها الصالحون‏.‏ وقد خلف من بعدهم خلف أضاعوا واتبعوا الشهوات ينحرفون عن الصراط الذي سنه لهم أبوهم إبراهيم‏.‏ هم هؤلاء المشركون‏.‏‏.‏

ويصف الله إبراهيم بأنه كان صديقاً نبياً‏.‏ ولفظة صديق تحتمل معنى أنه كثير الصدق وأنه كثير التصديق‏.‏ وكلتاهما تناسب شخصية إبراهيم‏:‏

‏{‏واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً‏.‏ إذ قال لأبيه‏:‏ يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً‏؟‏ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً‏.‏ يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً‏.‏ يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

بهذا اللطف في الخطاب يتوجه إبراهيم إلى أبيه، يحاول أن يهديه إلى الخير الذي هداه الله إليه، وعلمه إياه؛ وهو يتحبب إليه فيخاطبه‏:‏ ‏{‏يا أبت‏}‏ ويسأله‏:‏ ‏{‏لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا‏؟‏‏}‏ والأصل في العبادة أن يتوجه بها الإنسان إلى من هو أعلى من الإنسان وأعلم وأقوى‏.‏ وأن يرفعها إلى مقام أسمى من مقام الإنسان وأسنى‏.‏ فكيف يتوجه بها إذن إلى ما هو دون الإنسان‏.‏ بل إلى ما هو في مرتبة أدنى من مرتبة الحيوان، لا يسمع ولا يبصر ولا يملك ضراً ولا نفعاً‏.‏ إذ كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام كما هو حال قريش الذين يواجههم الإسلام‏.‏

هذه هي اللمسة الأولى التي يبدأ بها إبراهيم دعوته لأبيه‏.‏ ثم يتبعها بأنه لا يقول هذا من نفسه، إنما هو العلم الذي جاءه من الله فهداه‏.‏ ولو أنه أصغر من أبيه سناً وأقل تجربه، ولكن المدد العلوي جعله يفقه ويعرف الحق؛ فهو ينصح أباه الذي لم يتلق هذا العلم، ليتبعه في الطريق الذي هدي إليه‏:‏

‏{‏يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سويا‏}‏‏.‏‏.‏

فليست هناك غضاضة في أن يتبع الوالد ولده، إذا كان الولد على اتصال بمصدر أعلى‏.‏

فإنما يتبع ذلك المصدر، ويسير في الطريق إلى الهدى‏.‏

وبعد هذا الكشف عما في عبادة الأصنام من نكارة، وبيان المصدر الذي يستمد منه إبراهيم ويعتمد عليه في دعوة أبيه‏.‏ يبين له أن طريقه هو طريق الشيطان، وهو يريد أن يهديه إلى طريق الرحمن، فهو يخشى أن يغضب الله عليه فيقضي عليه أن يكون من أتباع الشيطان‏.‏

‏{‏يا أبت لا تعبد الشيطان‏.‏ إن الشيطان كان للرحمن عصياً‏.‏ يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً‏}‏‏.‏

والشيطان هو الذي يغري بعبادة الأصنام من دون الله، فالذي يعبدها كأنما يتعبد الشيطان والشيطان عاص للرحمن‏.‏ وإبراهيم يحذر أباه أن يغضب الله عليه فيعاقبه فيجعله ولياً للشيطان وتابعاً‏.‏ فهداية الله لعبده إلى الطاعة نعمة؛ وقضاؤه عليه أن يكون من أولياء الشيطان نقمة‏.‏‏.‏ نقمة تقوده إلى عذاب أشد وخسارة أفدح يوم يقوم الحساب‏.‏

ولكن هذه الدعوة اللطيفة بأحب الألفاظ وأرقها لا تصل إلى القلب المشرك الجاسي، فإذا أبو إبراهيم يقابله بالاستنكار والتهديد والوعيد‏:‏

‏{‏قال‏:‏ أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم‏؟‏ لئن لم تنته لأرجمنك‏.‏ واهجرني مليا‏}‏‏.‏

أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم، وكاره لعبادتها ومعرض عنها‏؟‏ أو بلغ بك الأمر إلى هذا الحد من الجراءة‏؟‏ فهذا إنذار لك بالموت الفظيع إن أنت أصررت على هذا الموقف الشنيع‏:‏ ‏{‏لئن لم تنته لأرجمنك‏}‏ ‏!‏ فاغرب عن وجهي وابعد عني طويلاً‏.‏ استبقاء لحياتك إن كنت تريد النجاة‏:‏ ‏{‏واهجرني مليا‏}‏‏.‏

بهذه الجهالة تلقى الرجل الدعوة إلى الهدى‏.‏ وبهذه القسوة قابل القول المؤدب المهذب‏.‏ وذلك شأن الإيمان مع الكفر؛ وشأن القلب الذي هذبه الإيمان والقلب الذي أفسده الكفر‏.‏

ولم يغضب إبراهيم الحليم‏.‏ ولم يفقد بره وعطفه وأدبه مع أبيه‏:‏

‏{‏قال‏:‏ سلام عليك‏.‏ سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا‏.‏ وأعتزلكم وما تدعون من دون الله، وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً‏}‏‏.‏

سلام عليك‏.‏‏.‏ فلا جدال ولا أذى ولا رد للتهديد والوعيد‏.‏ سأدعو الله أن يغفر لك فلا يعاقبك بالاستمرار في الضلال وتولي الشيطان، بل يرحمك فيرزقك الهدى‏.‏ وقد عودني ربي أن يكرمني فيجيب دعائي‏.‏ وإذا كان وجودي إلى جوارك ودعوتي لك إلى الإيمان تؤذيك فسأعتزلك أنت وقومك، وأعتزل ما تدعون من دون الله من الآلهة‏.‏ وأدعو ربي وحده، راجياً بسبب دعائي لله ألا يجعلني شقياً‏.‏

فالذي يرجوه إبراهيم هو مجرد تجنيبه الشقاوة‏.‏‏.‏ وذلك من الأدب والتحرج الذي يستشعره‏.‏ فهو لا يرى لنفسه فضلاً، ولا يتطلع إلى أكثر من تجنيبه الشقاوة‏!‏

وهكذا اعتزل إبراهيم أباه وقومه وعبادتهم وآلهتهم وهجر أهله ودياره، فلم يتركه الله وحيداً‏.‏ بل وهب له ذرية وعوضه خيراً‏:‏

‏{‏فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب‏.‏

وكلاً جعلنا نبيا‏.‏ ووهبنا لهم من رحمتنا‏.‏ وجعلنا لهم لسان صدق علياً‏}‏‏.‏‏.‏

وإسحاق هو ابن إبراهيم، رزقه من سارة وكانت قبله عقيماً ويعقوب هو ابن إسحاق‏:‏ ولكنه يحسب ولداً لإبراهيم لأن إسحاق رزقه في حياة جده، فنشأ في بيته وحجره، وكان كأنه ولده المباشر؛ وتعلم ديانته ولقنها بنيه‏.‏ وكان نبياً كأبيه‏.‏

‏{‏ووهبنا لهم من رحمتنا‏}‏ إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونسلهم‏.‏‏.‏ والرحمة تذكر هنا لأنها السمة البارزة في جو السورة، ولأنها هبة الله التي تعوض إبراهيم عن أهله ودياره، وتؤنسه في وحدته واعتزاله‏.‏

‏{‏وجعلنا لهم لسان صدق عليا‏}‏‏.‏‏.‏ فكانوا صادقين في دعوتهم، مسموعي الكلمة في قومهم‏.‏ يؤخذ قولهم بالطاعة وبالتبجيل‏.‏

ثم يمضي السياق مع ذرية إبراهيم‏:‏ مستطرداً مع فرع إسحق فيذكر موسى وهارون‏:‏

‏{‏واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً وكان رسولاً نبيا‏.‏ وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً‏.‏ ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا‏}‏‏.‏‏.‏

فيصف موسى بأنه كان مخلصاً استخلصه الله له ومحضه لدعوته‏.‏ وكان رسولاً نبياً‏.‏ والرسول هو صاحب الدعوة من الأنبياء المأمور بإبلاغها للناس‏.‏ والنبي لا يكلف إبلاغ الناس دعوة إنما هو في ذاته صاحب عقيدة يتلقاها من الله‏.‏ وكان في بني إسرائيل أنبياء كثيرون وظيفتهم القيام على دعوة موسى والحكم بالتوراة التي جاء بها من عند الله‏:‏ ‏{‏يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا‏.‏ والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهدآء‏}‏ ويبين فضل موسى بندائه من جانب الطور الأيمن ‏(‏الأيمن بالنسبة لموسى إذ ذاك‏)‏ وتقريبه إلى الله لدرجة الكلام‏.‏ الكلام القريب في صورة مناجاة‏.‏ ونحن لا ندري كيف كان هذا الكلام، وكيف أدركه موسى‏.‏‏.‏ أكان صوتاً تسمعه الأذن أم يتلقاه الكيان الإنساني كله‏.‏ ولا نعلم كيف أعد الله كيان موسى البشري لتلقي كلام الله الأزلي‏.‏‏.‏ إنما نؤمن أنه كان‏.‏ وهو على الله هين أن يصل مخلوقه به بطريقة من الطرق، وهو بشر على بشريته، وكلام الله علوي على علويته‏.‏ ومن قبل كان الإنسان إنساناً بنفخة من روح الله‏.‏‏.‏

ويذكر رحمة الله بموسى في مساعدته بإرسال أخيه هارون معه حين طلب إلى الله أن يعينه به ‏{‏وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون‏}‏ وظل الرحمة هو الذي يظلل جو السورة كله‏.‏

ثم يعود السياق إلى الفرع الآخر من ذرية إبراهيم‏.‏ فيذكر إسماعيل أبا العرب‏:‏ ‏{‏واذكر في الكتاب إسماعيل، إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيا‏.‏ وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وكان عند ربه مرضيا‏}‏‏.‏‏.‏

وينوه من صفات إسماعيل بانه كان صادق الوعد‏.‏

وصدق الوعد صفة كل نبي وكل صالح، فلا بد أن هذه الصفة كانت بارزة في إسماعيل بدرجة تستدعي إبرازها والتنويه بها بشكل خاص‏.‏

وهو رسول فلا بد أن كانت له دعوة في العرب الأوائل وهو جدهم الكبير‏.‏ وقد كان في العرب موحدون أفراد قبيل الرسالة المحمدية، فالأرجح أنهم بقية الموحدين من أتباع إسماعيل‏.‏ ويذكر السياق من أركان العقيدة التي جاء بها الصلاة والزكاة وكان يأمر بهما أهله‏.‏‏.‏ ثم يثبت له أنه كان عند ربه مرضياً‏.‏‏.‏ والرضى سمة من سمات هذه السورة البارزة في جوها وهي شبيهة بسمة الرحمة، وبينهما قرابة‏!‏

وأخيراً يختم السياق هذه الإشارات بذكر إدريس‏:‏

‏{‏واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبيا‏.‏ ورفعناه مكاناً عليا‏}‏‏.‏

ولا نملك نحن تحديد زمان إدريس‏.‏ ولكن الأرجح أنه سابق على إبراهيم وليس من أنبياء بني إسرائيل فلم يرد ذكره في كتبهم‏.‏ والقرآن يصفه بأنه كان صديقاً نبياً ويسجل له أن الله رفعه مكاناً عليا‏.‏ فأعلى قدره ورفع ذكره‏.‏‏.‏

وهناك رأي نذكره لمجرد الاستئناس به ولا نقرره أو ننفيه، ويقول به بعض الباحثين في الآثار المصرية، وهو أن إدريس تعريب لكلمة «أوزريس» المصرية القديمة‏.‏ كما أن يحيى تعريب لكلمة يوحنا‏.‏ وكلمة اليسع تعريب لكلمة إليشع‏.‏‏.‏ وأنه هو الذي صيغت حوله أساطير كثيرة‏.‏ فهم يعتقدون أنه صعد إلى السماء وصار له فيها عرش عظيم‏.‏ وكل من وزنت أعماله بعد الموت فوجدت حسناته ترجح سيئاته فإنه يلحق بأوزريس الذي جعلوه إلهاً لهم‏.‏ وقد علمهم العلوم والمعارف قبل صعوده إلى السماء‏.‏

وعلى أية حال فنحن نكتفي بما جاء عنه في القرآن الكريم؛ ونرجح أنه سابق على أنبياء بني إسرائيل‏.‏

يستعرض السياق أولئك الأنبياء، ليوازن بين هذا الرعيل من المؤمنين الأتقياء وبين الذين خلفوهم سواء من مشركي العرب أو من مشركي بني إسرائيل‏:‏ فإذا المفارقة صارخة والمسافة شاسعة والهوة عميقة والفارق بعيد بين السلف والخلف‏:‏

‏{‏أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم، وممن حملنا مع نوح، ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل، وممن هدينا واجتبينا‏.‏ إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا‏.‏ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

والسياق يقف في هذا الاستعراض عند المعالم البارزة في صفحة النبوة في تاريخ البشرية ‏{‏من ذرية آدم‏}‏‏.‏ ‏{‏وممن حملنا مع نوح‏}‏‏.‏ ‏{‏ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل‏}‏‏.‏ فآدم يشمل الجميع، ونوح يشمل من بعده، وإبراهيم يشمل فرعي النبوة الكبيرين‏:‏ ويعقوب يشمل شجرة بني إسرائيل‏.‏ وإسماعيل وإليه ينتسب العرب ومنهم خاتم النبيين‏.‏

أولئك النبيون ومعهم من هدى الله واجتبى من الصالحين من ذريتهم‏.‏‏.‏ صفتهم البارزة‏:‏ ‏{‏إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا‏}‏‏.‏

‏.‏ فهم أتقياء شديدو الحساسية بالله؛ ترتعش وجداناتهم حين تتلى عليهم آياته، فلا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من تأثر، فتفيض عيونهم بالدموع ويخرون سجداً وبكياً‏.‏‏.‏

أولئك الأتقياء الحساسون الذين تفيض عيونهم بالدمع وتخشع قلوبهم لذكر الله‏.‏‏.‏ خلف من بعدهم خلف، بعيدون عن الله‏.‏ ‏{‏أضاعوا الصلاة‏}‏ فتركوها وجحدوها ‏{‏واتبعوا الشهوات‏}‏ واستغرقوا فيها‏.‏ فما أشد المفارقة، وما أبعد الشبه بين أولئك وهؤلاء‏!‏

ومن ثم يتهدد السياق هؤلاء الذين خالفوا عن سيرة آبائهم الصالحين‏.‏ يتهددهم بالضلال والهلاك‏:‏ ‏(‏فسوف يلقون غيا‏}‏ والغي الشرود والضلال، وعاقبة الشرود الضياع والهلاك‏.‏

ثم يفتح باب التوبة على مصراعيه تنسم منه نسمات الرحمة واللطف والنعمى‏:‏

‏{‏إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً، فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً‏.‏ جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب‏.‏ إنه كان وعده مأتيا‏.‏ لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً‏.‏ ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا‏.‏ تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا‏}‏‏.‏‏.‏

فالتوبة التي تنشئ الإيمان والعمل الصالح، فتحقق مدلولها الإيجابي الواضح‏.‏‏.‏ تنجي من ذلك المصير فلا يلقى أصحابها ‏{‏غياً‏}‏ إنما يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً‏.‏ يدخلون الجنة للإقامة‏.‏ الجنة التي وعد الرحمن عباده إياها فآمنوا بها بالغيب قبل أن يروها‏.‏ ووعد الله واقع لا يضيع‏.‏‏.‏

ثم يرسم صورة للجنة ومن فيها‏.‏‏.‏ ‏{‏لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً‏}‏ فلا فضول في الحديث ولا ضجة ولا جدال، إنما يسمع فيها صوت واحد يناسب هذا الجو الراضي‏.‏ صوت السلام‏.‏‏.‏ والرزق في هذه الجنة مكفول لا يحتاج إلى طلب ولا كد‏.‏ ولا يشغل النفس بالقلق والخوف من التخلف أو النفاد‏:‏ ‏{‏ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا‏}‏ فما يليق الطلب ولا القلق في هذا الجو الراضي الناعم الأمين‏.‏‏.‏

‏{‏تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً‏}‏‏.‏‏.‏ فمن شاء الوراثة فالطريق معروف‏:‏ التوبة والإيمان والعمل الصالح‏.‏ أما وراثة النسب فلا تجدي‏.‏ فقد ورث قوم نسب أولئك الأتقياء من النبيّين وممن هدى الله واجتبى؛ ولكنهم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فلم تنفعهم وراثة النسب ‏{‏فسوف يلقون غيّا‏}‏‏.‏‏.‏

ويختم هذا الدرس بإعلان الربوبية المطلقة لله، والتوجيه إلى عبادته والصبر على تكاليفها‏.‏ ونفي الشبيه والنظير‏:‏

‏{‏وما نتنزل إلا بأمر ربك، له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك، وما كان ربك نسيا‏.‏ رب السماوات والأرض وما بينهما، فاعبده واصطبر لعبادته‏.‏ هل تعلم له سميا‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وتتضافر الروايات على أن قوله‏:‏ ‏{‏وما نتنزل إلا بأمر ربك‏.‏‏.‏‏}‏ مما أمر جبريل عليه السلام أن يقوله للرسول صلى الله عليه وسلم رداً على استبطائه للوحي فترة لم يأته فيها جبريل‏.‏ فاستوحشت نفسه، واشتاقت للاتصال الحبيب‏.‏ فكلف جبريل أن يقول له‏:‏ ‏{‏وما نتنزل إلا بأمر ربك‏}‏ فهو الذي يملك كل شيء من أمرنا‏:‏

‏{‏له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك‏}‏ وهو لا ينسى شيئاً، إنما ينزل الوحي عندما تقتضي حكمته أن ينزل ‏{‏وما كان ربك نسيا‏}‏ فناسب بعد ذلك أن يذكر الاصطبار على عبادة الله مع إعلان الربوبية له دون سواه‏:‏

‏{‏رب السماوات والأرض وما بينهما‏}‏‏.‏

‏.‏ فلا ربوبية لغيره، ولا شرك معه في هذا الكون الكبير‏.‏

‏{‏فاعبده واصطبر لعبادته‏}‏‏.‏‏.‏ اعبده واصطبر على تكاليف العبادة‏.‏ وهي تكاليف الارتقاء إلى أفق المثول بين يدي المعبود، والثبات في هذا المرتقى العالي‏.‏ اعبده واحشد نفسك وعبئ طاقتك للقاء والتلقي في ذلك الأفق العلوي‏.‏‏.‏ إنها مشقة‏.‏ مشقة التجمع والاحتشاد والتجرد من كل شاغل، ومن كل هاتف ومن كل التفات‏.‏‏.‏ وإنها مع المشقة للذة لا يعرفها إلا من ذاق‏.‏ ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة، وإلا بالتجرد لها، والاستغراق فيها، والتحفز لها بكل جارحة وخالجة‏.‏ فهي لا تفشي سرها ولا تمنح عطرها إلا لمن يتجرد لها، ويفتح منافذ حسه وقلبه جميعاً‏.‏

‏{‏فاعبده واصطبر لعبادته‏}‏‏.‏‏.‏ والعبادة في الإسلام ليست مجرد الشعائر‏.‏ إنما هي كل نشاط‏:‏ كل حركة‏.‏ كل خالجة‏.‏ كل نية‏.‏ كل اتجاه‏.‏ وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلى الله وحده دو سواه‏.‏ مشقة تحتاج إلى الاصطبار‏.‏ ليتوجه القلب في كل نشاط من نشاط الأرض إلى السماء‏.‏ خالصاً من أوشاب الأرض وأوهاق الضرورات، وشهوات النفس، ومواضعات الحياة‏.‏

إنه منهج حياة كامل، يعيش الإنسان وفقه، وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة انه يتعبد الله؛ فيرتفع في نشاطه كله إلى أفق العبادة الطاهر الوضيء‏.‏ وإنه لمنهج يحتاج إلى الصبر والجهد والمعاناة‏.‏

فاعبده واصطبر لعبادته‏.‏‏.‏ فهو الواحد الذي يعبد في هذا الوجود والذي تتجه إليه الفطرة والقلوب‏.‏‏.‏ ‏{‏هل تعلم له سمياً‏؟‏‏}‏‏.‏ هل تعرف له نظيراً‏؟‏ تعالى الله عن السمي والنظير‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 98‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ‏(‏66‏)‏ أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ‏(‏67‏)‏ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ‏(‏68‏)‏ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ‏(‏69‏)‏ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا ‏(‏70‏)‏ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ‏(‏71‏)‏ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ‏(‏72‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ‏(‏73‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ‏(‏74‏)‏ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا ‏(‏75‏)‏ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا ‏(‏76‏)‏ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏77‏)‏ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ‏(‏78‏)‏ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ‏(‏79‏)‏ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ‏(‏80‏)‏ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ‏(‏81‏)‏ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ‏(‏82‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ‏(‏83‏)‏ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ‏(‏84‏)‏ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ‏(‏85‏)‏ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ‏(‏86‏)‏ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ‏(‏87‏)‏ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ‏(‏88‏)‏ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ‏(‏89‏)‏ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ‏(‏90‏)‏ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ‏(‏91‏)‏ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ‏(‏92‏)‏ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ‏(‏93‏)‏ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ‏(‏94‏)‏ وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ‏(‏95‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ‏(‏96‏)‏ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ‏(‏97‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

مضى السياق في السورة بقصص زكريا ومولد يحيى؛ ومريم ومولد عيسى؛ وإبراهيم واعتزاله لأبيه‏.‏ ومن خلف بعدهم من المهتدين والضالين، وبالتعقيب على هذا القصص بإعلان الربوبية الواحدة، التي تستحق العبادة بلا شريك؛ وهي الحقيقة الكبيرة التي يبرزها ذلك القصص بأحداثه ومشاهده وتعقيباته‏.‏

وهذا الدرس الأخير في السورة يمضي في جدل حول عقائد الشرك وحول إنكار البعث‏.‏ ويعرض في مشاهد القيامة مصائر البشر في مواقف حية حافلة بالحركة والانفعال، يشارك فيها الكون كله، سماواته وأرضه، إنسه وجنه، مؤمنوه وكافروه‏.‏

ويتنقل السياق بمشاهده بين الدنيا والآخرة، فإذا هما متصلتان‏.‏ تعرض المقدمة هنا في هذه الأرض، وتعرض نتيجتها هنالك في العالم الآخر، فلا تتجاوز المسافة بضع آيات أو بضع كلمات‏.‏ مما يلقي في الحس أن العالمين متصلان مرتبطان متكاملان‏.‏

‏{‏ويقول الإنسان‏:‏ أئذا ما مت لسوف أخرج حيا‏؟‏ أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا‏؟‏ فوربك لنحشرنهم والشياطين، ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا‏.‏ ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتياً‏.‏ ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا‏.‏ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيا‏.‏ ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا‏}‏‏.‏

يبدأ المشهد بذكر ما يقوله ‏{‏الإنسان‏}‏ عن البعث‏.‏ ذلك أن هذه المقولة قالتها صنوف كثيرة من البشر في عصور مختلفة؛ فكأنما هي شبهة ‏{‏الإنسان‏}‏ واعتراضه المتكرر في جميع الأجيال‏:‏

‏{‏ويقول الإنسان‏:‏ أئذا ما مت لسوف أخرج حيا‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهو اعتراض منشؤه غفلة الإنسان عن نشأته الأولى‏.‏ فأين كان‏؟‏ وكيف كان‏؟‏ إنه لم يكن ثم كان؛ والبعث أقرب إلى التصور من النشأة الأولى لو أنه تذكر‏:‏

‏{‏أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً‏؟‏‏}‏‏.‏

ثم يعقب على هذا الإنكار والاستكبار بقسم تهديدي‏.‏ يقسم الله تعالى بنفسه وهو أعظم قسم وأجله؛ أنهم سيحشرون بعد البعث فهذا أمر مفروغ منه‏:‏

‏{‏فوربك لنحشرنهم‏}‏‏.‏‏.‏ ولن يكونوا وحدهم‏.‏ فلنحشرنهم ‏{‏والشياطين‏}‏ فهم والشياطين سواء‏.‏ والشياطين هم الذين يوسوسون بالإنكار، وبينهما صلة التابع والمتبوع، والقائد والمقود‏.‏‏.‏

وهنا يرسم لهم صورة حسية وهم جاثون حول جهنم جثوّ الخزي والمهانة‏:‏ ‏{‏ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا‏}‏‏.‏‏.‏ وهي صورة رهيبة وهذه الجموع التي لا يحصيها العد محشورة محضرة إلى جهنم جاثية حولها، تشهد هولها ويلفحها حرها، وتنتظر في كل لحظة أن تؤخذ فتلقى فيها‏.‏ وهم جاثون على ركبهم في ذلة وفزع‏.‏‏.‏

وهو مشهد ذليل للمتجبرين المتكبرين، يليه مشهد النزع والجذب لمن كانوا أشد عتواً وتجبراً‏:‏

‏{‏ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا‏}‏‏.‏

‏.‏ وفي اللفظ تشديد، ليرسم بظله وجرسه صورة لهذا الانتزاع؛ تتبعها صورة القذف في النار، وهي الحركة التي يكملها الخيال‏!‏

وإن الله ليعلم من هم أولى بأن يصلوها، فلا يؤخذ جزافاً من هذه الجموع التي لا تحصى‏.‏ والتي أحصاها الله فرداً فرداً‏:‏

‏{‏ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً‏}‏‏.‏‏.‏ فهم المختارون ليكونوا طليعة المقذوفين‏!‏

وإن المؤمنين ليشهدون العرض الرهيب‏:‏ ‏{‏وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً‏}‏ فهم يردون فيدنون ويمرون بها وهي تتأجج وتتميز وتتلمظ؛ ويرون العتاة ينزعون ويقذفون‏.‏ ‏{‏ثم ننجي الذين اتقوا‏}‏ فتزحزح عنهم وينجون منها لا يكادون‏!‏ ‏{‏ونذر الظالمين فيها جثيا‏}‏‏.‏‏.‏

ومن هذا المشهد المفزع الذي يجثوا فيه العتاة جثو الخزي والمهانة، ويروح فيه المتقون ناجين‏.‏ ويبقى الظالمون فيه جاثين‏.‏‏.‏ من هذا المشهد إلى مشهد في الدنيا يتعالى فيه الكفار على المؤمنين، ويعيرونهم بفقرهم، ويعتزون بثرائهم ومظاهرهم وقيمهم في عالم الفناء‏:‏

‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات‏.‏ قال الذين كفروا للذين آمنوا‏:‏ أي الفريقين خير مقاماً وأحسن نديا‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إنها النوادي الفخمة والمجامع المترفة؛ والقيم التي يتعامل بها الكبراء والمترفون في عصور الفساد‏.‏ وإلى جانبها تلك المجتمعات المتواضعة المظهر والمنتديات الفقيرة إلا من الإيمان‏.‏ لا أبهة ولا زينة، ولا زخرف، ولا فخامة‏.‏‏.‏ هذه وتلك تتقابلان في هذه الأرض وتجتمعان‏!‏

وتقف الأولى بمغرياتها الفخمة الضخمة‏:‏ تقف بمالها وجمالها‏.‏ بسلطانها وجاهها‏.‏ بالمصالح تحققها، والمغانم توفرها، وباللذائذ والمتاع‏.‏ وتقف الثانية بمظهرها الفقير المتواضع، تهزأ بالمال والمتاع، وتسخر من الجاه والسلطان؛ وتدعو الناس إليها، لا باسم لذة تحققها، ولا مصلحة توفرها، ولا قربى من حاكم ولا اعتزاز بذي سلطان‏.‏ ولكن باسم العقيدة تقدمها إليهم مجردة من كل زخرف، عاطلة من كل زينة، معتزة بعزة الله دون سواه‏.‏‏.‏ لا بل تقدمها إليهم ومعها المشقة والجهد والجهاد والاستهتار، لا تملك أن تأجرهم على ذلك كله شيئاً في هذه الأرض، إنما هو القرب من الله، وجزاؤه الأوفى يوم الحساب‏.‏

وهؤلاء هم سادة قريش تتلى عليهم آيات الله على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فيقولون للمؤمنين الفقراء‏:‏ ‏{‏أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً‏؟‏‏}‏ الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد، أم الفقراء الذين يلتفون حوله‏.‏ أيهم خير مقاماً وأحسن نادياً‏؟‏ النضير بن الحارث وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة وإخوانهم من السادة، أم بلال وعمار وخباب وإخوانهم من المعدمين‏؟‏ أفلو كان ما يدعو إليه محمد خيراً أفكان أتباعه يكونون هم هؤلاء النفر الذين لا قيمة لهم في مجتمع قريش ولا خطر‏؟‏ وهم يجتمعون في بيت فقير عاطل كبيت خباب‏؟‏ ويكون معارضوه هم أولئك أصحاب النوادي الفخمة والمكانة الاجتماعية البارزة‏؟‏‏.‏

إنه منطق الأرض‏.‏ منطق المحجوبين عن الآفاق العليا في كل زمان ومكان‏.‏

وإنها لحكمة الله أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء، عاطلة من عوامل الإغراء‏.‏ ليقبل عليها من يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات؛ وينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع، ومن يشتهي الزينة والزخرف، ومن يطلب المال والمتاع‏.‏

ويعقب السياق على قولة الكفار التياهين، المتباهين، بما هم فيه من مقام وزينة بلمسة وجدانية ترجع القلب إلى مصارع الغابرين، على ما كانوا فيه من مقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين‏:‏

‏{‏وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً‏}‏‏.‏‏.‏

فلم ينفعهم أثاثهم ورياشهم وزينتهم ومظهرهم‏.‏ ولم يعصمهم شيء من الله حين كتب عليهم الهلاك‏.‏

ألا إن هذا الإنسان لينسى‏.‏ ولو تذكر وتفكر ما أخذه الغرور بمظهر؛ ومصارع الغابرين من حوله تلفته بعنف وتنذره وتحذره، وهو سادر فيما هو فيه، غافل عما ينتظره مما لقيه من كانوا قبله وكانوا أشد قوة وأكثر أموالاً وأولاداً‏.‏

يعقب السياق بتلك اللفتة ثم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم في صورة مباهلة بأن من كان من الفريقين في الضلالة فليزده الله مما هو فيه؛ حتى يأتي وعده في الدنيا أو في الآخرة‏:‏

‏{‏قل‏:‏ من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا، حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكاناً وأضعف جندا، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير مردا‏}‏‏.‏‏.‏

فهم يزعمون أنهم أهدى من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم أغنى وأبهى‏.‏ فليكن‏!‏ وليدع محمد ربه أن يزيد الضالين من الفريقين ضلالاً، وأن يزيد المهتدين منهما اهتداء‏.‏‏.‏ حتى إذا وقع ما يعدهم؛ وهو لا يعدو أن يكون عذاب الضالين في الدنيا بأيدي المؤمنين، أو عذابهم الأكبر يوم الدين فعندئذ سيعرفون‏:‏ أي الفريقين شر مكاناً وأضعف جندا‏.‏ ويومئذ يفرح المؤمنون ويعتزون ‏{‏والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير مردا‏}‏ خير من كل ما يتباهى به أهل الأرض ويتيهون‏.‏

ثم يستعرض السياق نموذجاً آخر من تبجح الكافرين، وقولة أخرى من أقوالهم يستنكرها ويعجب منها‏:‏

‏{‏أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال‏:‏ لأوتين مالا وولدا‏؟‏ أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا‏؟‏ كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مداً‏.‏ ونرثه ما يقول ويأتينا فردا‏}‏‏.‏‏.‏

ورد في سبب نزول هذه الآيات بإسناده عن خباب بن الأرث قال‏:‏ كنت رجلاً قيناً ‏(‏حداداً‏)‏ وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه منه فقال‏:‏ لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت‏:‏ لا والله، لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثم تبعث‏.‏

قال‏:‏ فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثَم مال وولد، فأعطيتك‏!‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال‏:‏ لأوتين مالاً وولدا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

وقولة العاص بن وائل نموذج من تهكم الكفار واستخفافهم بالبعث؛ والقرآن يعجب من أمره، ويستنكر ادعاءه‏:‏ ‏{‏أطلع الغيب‏؟‏‏}‏ فهو يعرف ما هنالك‏.‏ ‏{‏أم اتخذ عند الرحمن عهدا‏}‏ فهو واثق من تحققه‏؟‏ ثم يعقب‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏‏.‏ وهي لفظة نفي وزجر‏.‏ كلا لم يطلع على الغيب ولم يتخذ عند الله عهداً، إنما هو يكفر ويسخر؛ فالتهديد إذن والوعيد هو اللائق لتأديب الكافرين السافرين‏:‏ ‏{‏كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا‏}‏‏.‏‏.‏ سنكتب ما يقول فنسجله عليه ليوم الحساب فلا يُنسى ولا يقبل المغالطة‏.‏‏.‏ وهو تعبير تصويري للتهديد، وإلا فالمغالطة مستحيلة، وعلم الله لا تند عنه صغيرة ولا كبيرة‏.‏ ونمد له من العذاب مداً، فنزيده منه ونطيله عليه ولا نقطعه عنه‏!‏ ويستمر السياق في التهديد على طريقة التصوير أيضاً‏:‏ ‏{‏ونرثه ما يقول‏}‏ أي نأخذ ما يخلفه مما يتحدث عنه من مال وولد كما يفعل الوارث بعد موت المورث‏!‏ ‏{‏ويأتينا فردا‏}‏ لا مال معه ولا ولد ولا نصير له ولا سند، مجرداً ضعيفاً وحيداً فريداً‏.‏

فهل رأيت إلى هذا الذي كفر بآيات الله وهو يحيل على يوم لا يملك فيه شيئاً‏؟‏ يوم يجرد من كل ما يملك في هذه الدنيا‏؟‏ إنه نموذج من نماذج الكفار‏.‏ نموذج الكفر والادعاء والاستهتار‏.‏‏.‏

ويستطرد السياق في استعراض ظواهر الكفر والشرك‏:‏

‏{‏واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا، كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا‏.‏ ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا‏.‏ فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا‏.‏ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا، ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا‏.‏ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا‏}‏‏.‏

فهؤلاء الذين يكفرون بآيات الله يتخذون من دونه آلهة يطلبون عندها العزة، والغلب والنصرة، وكان فيهم من يعبد الملائكة ومن يعبد الجن ويستنصرونهم ويتقوون بهم‏.‏‏.‏ كلا‏!‏ فسيكفر الملائكة والجن بعبادتهم، وينكرونها عليهم، ويبرأون إلى الله منهم، ‏{‏ويكونون عليهم ضداً‏}‏ بالتبرؤ منهم والشهادة عليهم‏.‏

وإن الشياطين ليهيجونهم إلى المعاصي‏.‏ فهم مسلطون عليهم، مأذون لهم في إغوائهم منذ أن طلب إبليس إطلاق يده فيهم‏.‏‏.‏

‏{‏فلا تعجل عليهم‏}‏ ولا يضق صدرك بهم؛ فإنهم ممهلون إلى أجل قريب، وكل شيء من أعمالهم محسوب عليهم ومعدود‏.‏‏.‏ والتعبير يصور دقة الحساب تصويراً محسوساً ‏{‏إنما نعد لهم عدا‏}‏‏.‏‏.‏ وإنه لتصوير مرهوب، فيا ويل من يعد الله عليه ذنوبه وأعماله وأنفاسه، ويتتبعها ليحاسبه الحساب العسير‏.‏‏.‏ إن الذي يحس أن رئيسه في الأرض يتتبع أعماله وأخطاءه يفزع ويخاف ويعيش في قلق وحسبان‏.‏

‏.‏ فكيف بالله المنتقم الجبار‏؟‏‏!‏

وفي مشهد من مشاهد القيامة يصور عاقبة العد والحساب‏.‏ فأما المؤمنون فقادمون على الرحمن وفداً في كرامة وحسن استقبال‏:‏ ‏{‏يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا‏}‏‏.‏ وأما المجرمون فمسوقون إلى جهنم ورداً كما تساق القطعان‏.‏ ‏{‏ونسوق المجرمين إلى الجهنم وردا‏}‏‏.‏ ولا شفاعة يومئذ إلا لمن قدم عملاً صالحاً فهو عهد له عند الله يستوفيه‏.‏ وقد وعد الله من آمن وعمل صالحاً أن يجزيه الجزاء الأوفى، ولن يخلف الله وعداً‏.‏

ثم يستطرد السياق مرة أخرى إلى مقولة منكرة من مقولات المشركين‏.‏ ذلك حين يقول المشركون من العرب‏:‏ الملائكة بنات الله‏.‏ والمشركون من اليهود‏:‏ عزير ابن الله‏.‏ والمشركون من النصارى‏:‏ المسيح ابن الله‏.‏‏.‏ فينتفض الكون كله لهذه القولة المنكرة التي تنكرها فطرته، وينفر منها ضميره‏:‏

‏{‏وقالوا‏:‏ اتخذ الرحمن ولدا‏.‏ لقد جئتم شيئا إدّاً‏.‏ تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا‏}‏‏.‏‏.‏

إن جرس الألفاظ وإيقاع العبارات ليشارك ظلال المشهد في رسم الجو‏:‏ جو الغضب والغيرة والانتفاض‏!‏ وإن ضمير الكون وجوارحه لتنتفض، وترتعش وترجف من سماع تلك القولة النابية، والمساس بقداسة الذات العلية، كما ينتفض كل عضو وكل جارحة عندما يغضب الإنسان للمساس بكرامته أو كرامة من يحبه ويوقره‏.‏

هذه الانتفاضة الكونية للكلمة النابية تشترك فيها السماوات والأرض والجبال، والألفاظ بإيقاعها ترسم حركة الزلزلة والارتجاف‏.‏

وما تكاد الكلمة النابية تنطلق‏:‏ ‏{‏وقالوا‏:‏ اتخذ الرحمن ولدا‏}‏ حتى تنطلق كلمة التفظيع والتبشيع‏:‏ ‏{‏لقد جئتم شيئاً إدا‏}‏ ثم يهتز كل ساكن من حولهم ويرتج كل مستقر، ويغضب الكون كله لبارئه‏.‏ وهو يحس بتلك الكلمة تصدم كيانه وفطرته؛ وتجافي ما وقر في ضميره وما استقر في كيانه؛ وتهز القاعدة التي قام عليها واطمأن إليها‏:‏ ‏{‏تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا‏.‏ أن دعوا للرحمن ولدا‏.‏ وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا‏}‏‏.‏‏.‏

وفي وسط الغضبة الكونية يصدر البيان الرهيب‏:‏

‏{‏إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا‏.‏ لقد أحصاهم وعدهم عدا‏.‏ وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً‏}‏‏.‏

إن كل من في السماوات والأرض إلا عبد يأتي معبوده خاضعاً طائعاً، فلا ولد ولا شريك، إنما خلق وعبيد‏.‏

وإن الكيان البشري ليرتجف وهو يتصور مدلول هذا البيان‏.‏‏.‏ ‏{‏لقد أحصاهم وعدهم عدا‏}‏ فلا مجال لهرب أحد ولا لنسيان أحد ‏{‏وكلهم آتيه يوم القيامة فردا‏}‏ فعين الله على كل فرد‏.‏ وكل فرد يقدم وحيداً لا يأنس بأحد ولا يعتز بأحد‏.‏ حتى روح الجماعة ومشاعر الجماعة يجرد منها، فإذا هو وحيد فريد أمام الديان‏.‏

وفي وسط هذه الوحدة والوحشة والرهبة، إذا المؤمنون في ظلال ندية من الود السامي‏:‏ ود الرحمن‏:‏

‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً‏}‏‏.‏

وللتعبير بالود في هذا الجو نداوة رخية تمس القلوب، وروْح رضى يلمس النفوس‏.‏ وهو ود يشيع في الملأ الأعلى، ثم يفيض على الأرض والناس فيمتلئ به الكون كله ويفيض‏.‏‏.‏

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال‏:‏ يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه‏.‏ قال‏:‏ فيحبه جبريل‏.‏ ثم ينادي في أهل السماء‏:‏ إن الله يحب فلاناً فأحبوه‏.‏ قال‏:‏ فيحبه أهل السماء‏.‏ ثم يوضع له القبول في الأرض‏.‏ وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبريل فقال‏:‏ يا جبريل إني أبغض فلاناً فأبغضه‏.‏ قال‏:‏ فيبغضه جبريل‏.‏ ثم ينادي في أهل السماء‏:‏ إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه‏.‏ قال‏:‏ فيبغضه أهل السماء؛ ثم يوضع له البغضاء في الأرض»‏.‏

وبعد فإن هذه البشرى للمؤمنين المتقين، وذلك الإنذار للجاحدين الخصيمين هما غاية هذا القرآن‏.‏ ولقد يسره الله للعرب فأنزله بلسان الرسول صلى الله عليه وسلم ليقرأوه‏:‏

‏{‏فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لدّا‏}‏‏.‏‏.‏

وتختم السورة بمشهد يتأمله القلب طويلاً؛ ويرتعش له الوجدان طويلاً؛ ولا ينتهي الخيال من استعراضه

‏{‏وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا‏؟‏‏}‏‏.‏

وهو مشهد يبدؤك بالرجة المدمرة، ثم يغمرك بالصمت العميق‏.‏ كأنما يأخذ بك إلى وادي الردى، ويقفك على مصارع القرون؛ وفي ذلك الوادي الذي لا يكاد يحده البصر، يسبح خيالك مع الشخوص التي كانت تدب وتتحرك، والحياة التي كانت تنبض وتمرح‏.‏ والأماني والمشاعر التي كانت تحيا وتتطلع‏.‏‏.‏ ثم إذا الصمت يخيم، والموت يجثم، وإذا الجثث والأشلاء والبلى والدمار، لا نأمة‏.‏ لا حس‏.‏ لا حركة‏.‏ لا صوت‏.‏‏.‏ ‏{‏هل تحس منهم من أحد‏؟‏‏}‏ انظر وتلفت ‏{‏هل تسمع لهم ركزا‏}‏ تسمع وأنصت‏.‏ ألا إنه السكون العميق والصمت الرهيب‏.‏ وما من أحد إلا الواحد الحي الذي لا يموت‏.‏