فصل: تفسير الآيات رقم (14- 45)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 45‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏15‏)‏ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏16‏)‏ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏17‏)‏ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏18‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏19‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏22‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏23‏)‏ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏24‏)‏ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏25‏)‏ فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏26‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏27‏)‏ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏28‏)‏ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏29‏)‏ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏30‏)‏ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏32‏)‏ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏34‏)‏ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏35‏)‏ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏36‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏37‏)‏ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ‏(‏38‏)‏ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ‏(‏39‏)‏ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏40‏)‏ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏42‏)‏ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ‏(‏43‏)‏ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏44‏)‏ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

انتهى الشوط الأول بالحديث عن سنة الله في ابتلاء الذين يختارون كلمة الإيمان، وفتنتهم حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين‏.‏ وقد أشار إلى الفتنة بالأذى، والفتنة بالقرابة، والفتنة بالإغواء والإغراء‏.‏

وفي هذا الشوط يعرض نماذج من الفتن التي اعترضت دعوة الإيمان في تاريخ البشرية الطويل من لدن نوح عليه السلام‏.‏ يعرضها ممثلة فيما لقيه الرسل حملة دعوة الله منذ فجر البشرية‏.‏ مفصلاً بعض الشيء في قصة إبراهيم ولوط، مجملاً فيما عداها‏.‏

وفي هذا القصص تتمثل ألوان من الفتن، ومن الصعاب والعقبات في طريق الدعوة‏.‏

ففي قصة نوح عليه السلام تتبدى ضخامة الجهد وضآلة الحصيلة‏.‏ فقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ثم لم يؤمن له إلا القليل ‏{‏فأخذهم الطوفان وهم ظالمون‏}‏‏.‏‏.‏

وفي قصة إبراهيم مع قومه يتبدى سوء الجزاء وطغيان الضلال‏.‏ فقد حاول هداهم ما استطاع، وجادلهم بالحجة والمنطق‏:‏ ‏{‏فما كان جواب قومه إلا أن قالوا‏:‏ اقتلوه أو حرقوه‏}‏‏.‏

وفي قصة لوط يتبدى تبجح الرذيلة واستعلانها، وسفورها بلا حياء ولا تحرج، وانحدار البشرية إلى الدرك الأسفل من الانحراف والشذوذ؛ مع الاستهتار بالنذير‏:‏ ‏{‏فما كان جواب قومه إلا أن قالوا‏:‏ ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين‏}‏‏.‏‏.‏

وفي قصة شعيب مع مدين يتبدى الفساد والتمرد على الحق والعدل، والتكذيب‏:‏ ‏{‏فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين‏}‏‏.‏

وتذكر الإشارة إلى عاد وثمود بالاعتزاز بالقوة والبطر بالنعمة‏.‏

كما تذكر الإشارة إلى قارون وفرعون وهامان بطغيان المال، واستبداد الحكم، وتمرد النفاق‏.‏

ويعقب على هذا القصص بمثل يضربه لهوان القوى المرصودة في طريق دعوة الله، وهي مهما علت واستطالت ‏{‏كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً‏.‏ وإن أوهن البيتوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون‏}‏‏.‏

وينتهي هذا الشوط بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتلو الكتاب، وأن يقيم الصلاة، وأن يدع الأمر بعد ذلك لله ‏{‏والله يعلم ما تصنعون‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فأخذهم الطوفان وهم ظالمون‏.‏ فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين‏}‏‏.‏‏.‏

والراجح أن فترة رسالته التي دعا فيها قومه كانت ألف سنة إلا خمسين عاماً‏.‏ وقد سبقتها فترة قبل الرسالة غير محددة، وأعقبتها فترة كذلك بعد النجاة من الطوفان غير محددة‏.‏ وهو عمر طويل مديد، يبدو لنا الآن غير طبيعي ولا مألوف في أعمار الأفراد‏.‏ ولكننا نتلقاه من أصدق مصدر في هذا الوجود وهذا وحده برهان صدقه فإذا أردنا له تفسيراً فإننا نستطيع أن نقول‏:‏ إن عدد البشرية يومذاك كان قليلاً ومحدوداً، فليس ببعيد أن يعوض الله هذه الأجيال عن كثرة العدد طول العمر، لعمارة الأرض وامتداد الحياة‏.‏

حتى إذا تكاثر الناس وعمرت الأرض لم يعد هناك داع لطول الأعمار‏.‏ وهذه الظاهرة ملحوظة في أعمار كثير من الأحياء‏.‏ فكلما قل العدد وقل النسل طالت الأعمار، كما في النسور وبعض الزواحف كالسلحفاة‏.‏ حتى ليبلغ عمر بعضها مئات الأعوام‏.‏ بينما الذباب الذي يتوالد بالملايين لا تعيش الواحدة منه أكثر من أسبوعين‏.‏ والشاعر يعبر عن هذه الظاهرة بقوله‏:‏

بغاث الطير أكثرها فراخاً *** وأم الصقر مقلاة نزور

ومن ثم يطول عمر الصقر‏.‏ وتقل أعمار بغاث الطير‏.‏ ولله الحكمة البالغة‏.‏ وكل شيء عنده بمقدار‏.‏ ولم تثمر ألف سنة إلا خمسين عاماً غير العدد القليل الذين آمنوا لنوح‏.‏ وجرف الطوفان الكثرة العظمى وهم ظالمون بكفرهم وجحودهم وإعراضهم عن الدعوة المديدة، ونجا العدد القليل من المؤمنين، وهم أصحاب السفينة‏.‏ ومضت قصة الطوفان والسفينة ‏{‏آية للعالمين‏}‏ تحدثهم عن عاقبة الكفر والظلم على مدار القرون‏.‏

وبعد قصة نوح يطوي السياق القرون حتى يصل إلى الرسالة الكبرى‏.‏ رسالة إبراهيم‏:‏

‏{‏وإبراهيم إذ قال لقومه‏:‏ اعبدوا الله واتقوه‏.‏ ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون‏.‏ إنما تعبدون من دون الله أوثاناً، وتخلقون إفكاً‏.‏ إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه، واشكروا له، إليه ترجعون‏.‏ وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم، وما على الرسول إلا البلاغ المبين‏}‏‏.‏‏.‏

لقد دعاهم دعوة بسيطة واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض؛ وهي مرتبة في عرضها ترتيباً دقيقاً يحسن أن يتملاه أصحاب الدعوات‏.‏‏.‏

لقد بدأ ببيان حقيقة الدعوة التي يدعوهم إليها‏:‏

‏{‏اعبدوا الله واتقوه‏}‏‏.‏‏.‏

ثم ثنى بتحبيب هذه الحقيقة إليهم، وما تتضمنه من الخير لهم، لو كانوا يعلمون أين يكون الخير‏:‏

‏{‏ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وفي هذا التعقيب ما يحفزهم إلى نفي الجهل عنهم، واختيار الخير لأنفسهم‏.‏ وهو في الوقت ذاته حقيقة عميقة لا مجرد تهييج خطابي‏!‏

وفي الخطوة الثالثة بين لهم فساد ما هم عليه من العقيدة من عدة وجوه‏:‏ أولها أنهم يعبدون من دون الله أوثاناً والوثن‏:‏ التمثال من الخشب وهي عبادة سخيفة، وبخاصة إذا كانوا يعدلون بها عن عبادة الله‏.‏‏.‏ وثانيها‏:‏ أنهم بهذه العبادة لا يستندون إلى برهان أو دليل، وإنما يخلقون إفكاً وينشئون باطلاً، يخلقونه خلقاً بلا سابقة أو مقدمة، وينشئونه إنشاء من عند أنفسهم بلا أصل ولا قاعدة‏.‏‏.‏ وثالثها‏:‏ أن هذه الأوثان لا تقدم لهم نفعاً، ولا ترزقهم شيئاً‏:‏

‏{‏إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً‏}‏‏.‏‏.‏

وفي الخطوة الرابعة يوجههم إلى الله ليطلبوا منه الرزق‏.‏ الأمر الذي يهمهم ويمس حاجتهم‏:‏

‏{‏فابتغوا عند الله الرزق‏}‏‏.‏‏.‏

والرزق مشغلة النفوس، وبخاصة تلك التي لم يستغرقها الإيمان‏.‏ ولكن ابتغاء الرزق من الله وحده حقيقة لا مجرد استثارة للميول الكامنة في النفوس‏.‏

وفي النهاية يهتف بهم إلى واهب الأرزاق المتفضل بالنعم، ليعبدوه ويشكروه‏:‏

‏{‏واعبدوه واشكروا له‏}‏‏.‏‏.‏

وأخيراً يكشف لهم أنه لا مفر من الله، فمن الخير أن يثوبوا إليه مؤمنين عابدين شاكرين‏:‏

‏{‏إليه ترجعون‏}‏‏.‏‏.‏

فإن كذبوا بعد ذلك كله فما أهون ذلك‏!‏ فلن يضر الله شيئاً، ولن يخسر رسوله شيئاً‏.‏ فقد كذب الكثيرون من قبل، وما على الرسول إلا واجب التبليغ‏:‏

‏{‏وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم، وما على الرسول إلا البلاغ المبين‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا يأخذهم خطوة خطوة، ويدخل إلى قلوبهم من مداخلها، ويوقع على أوتارها في دقة عميقة، وهذه الخطوات تعد نموذجاً لطريقة الدعوة جديراً بأن يتملاه أصحاب كل دعوة، لينسجوا على منواله في مخاطبة النفوس والقلوب‏.‏

وقبل أن يمضي السياق إلى نهاية القصة، يقف وقفة يخاطب بها كل منكر لدعوة الإيمان بالله على الإطلاق؛ المكذبين بالرجعة إلى الله والبعث والمآب‏:‏

‏{‏أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده‏؟‏ إن ذلك على الله يسير‏.‏ قل‏:‏ سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، ثم الله ينشئ النشأة الآخرة، إن الله على كل شيء قدير، يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، وإليه تقلبون‏.‏ وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير‏.‏ والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي، وأولئك لهم عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

إنه خطاب لكل منكر لله ولقائه‏.‏ خطاب دليله هذا الكون؛ ومجاله السماء والأرض؛ على طريقة القرآن في اتخاذ الكون كله معرضاً لآيات الإيمان ودلائله؛ وصفحة مفتوحة للحواس والقلوب، تبحث فيها عن آيات الله، وترى دلائل وجوده ووحدانيته، وصدق وعده ووعيده‏.‏ ومشاهد الكون وظواهره حاضرة أبداً لا تغيب عن إنسان‏.‏ ولكنها تفقد جدتها في نفوس الناس بطول الألفة؛ ويضعف إيقاعها على قلوب البشر بطول التكرار‏.‏ فيردهم القرآن الكريم إلى تلك الروعة الغامرة، وإلى تلك الآيات الباهرة بتوجيهه الموحي، المحيي للمشاهد والظواهر في القلوب والضمائر، ويثير تطلعهم وانتباههم إلى أسرارها وآثارها‏.‏ ويجعل منها دلائله وبراهينه التي تراها الأبصار وتتأثر بها المشاعر، ولا يتخذ طرائق الجدل الذهني البارد والقضايا المنطقية التي لا حياة فيها ولا حركة‏.‏‏.‏ تلك التي وفدت على التفكير الإسلامي من خارجه فظلت غريبة عليه، وفي القرآن المثل والمنهج والطريق‏.‏‏.‏

‏{‏أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق‏؟‏ ثم يعيده‏.‏ إن ذلك على الله يسير‏}‏‏.‏‏.‏

وإنهم ليرون كيف يبدئ الله الخلق‏.‏ يرونه في النبتة النامية، وفي البيضة والجنين، وفي كل ما لم يكن ثم يكون؛ مما لا تملك قدرة البشر مجتمعين ومنفردين أن يخلقوه أو يدعوا أنهم خالقوه‏!‏ وإن سر الحياة وحده لمعجز، كان وما يزال؛ معجز في معرفة منشئه وكيف جاء ودع عنك أن يحاوله أحد أو يدعيه ولا تفسير له إلا أنه من صنع الله الذي يبدئ الخلق في كل لحظة تحت أعين الناس وإدراكهم، وهم يرون ولا يملكون الإنكار‏!‏

فإذا كانوا يرون إنشاء الخلق بأعينهم؛ فالذي أنشأه يعيده‏:‏

‏{‏إن ذلك على الله يسير‏}‏‏.‏

وليس في خلق الله شيء عسير عليه تعالى‏.‏ ولكنه يقيس البشر بمقاييسهم‏.‏ فالإعادة أيسر من البدء في تقديرهم‏.‏ وإلا فالبدء كالإعادة، والإعادة كالبدء بالقياس إلى قدرة الله سبحانه‏.‏ وإنما هو توجه الإرادة وكلمة‏:‏ كن‏.‏ فيكون‏.‏‏.‏

ثم يدعوهم إلى السير في الأرض، وتتبع صنع الله وآياته في الخلق والإنشاء، في الجامد والحي سواء، ليدركوا أن الذي أنشأ يعيد بلا عناء‏:‏

‏{‏قل‏:‏ سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق؛ ثم الله ينشئ النشأة الآخرة‏.‏ إن الله على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏

والسير في الأرض يفتح العين والقلب على المشاهد الجديدة التي لم تألفها العين ولم يملها القلب‏.‏ وهي لفتة عميقة إلى حقيقة دقيقة‏.‏ وإن الإنسان ليعيش في المكان الذي ألفه فلا يكاد ينتبه إلى شيء من مشاهده أو عجائبه؛ حتى إذا سافر وتنقل وساح استيقظ حسه وقلبه إلى كل مشهد، وإلى كل مظهر في الأرض الجديدة، مما كان يمر على مثله أو أروع منه في موطنه دون التفات ولا انتباه‏.‏ وربما عاد إلى موطنه بحس جديد وروح جديد ليبحث ويتأمل ويعجب بما لم يكن يهتم به قبل سفره وغيبته‏.‏ وعادت مشاهد موطنه وعجائبها تنطق له بعد ما كان غافلاً عن حديثها؛ أو كانت لا تفصح له بشيء ولا تناجيه‏!‏

فسبحان منزل هذا القرآن، الخبير بمداخل القلوب وأسرار النفوس‏.‏

‏{‏قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق‏}‏‏.‏‏.‏

إن التعبير هنا بلفظ الماضي ‏{‏كيف بدأ الخلق‏}‏ بعد الأمر بالسير في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق‏.‏ يثير في النفس خاطراً معيناً‏.‏‏.‏ ترى هنالك في الأرض ما يدل على نشأة الحياة الأولى، وكيفية بدء الخليقة فيها‏.‏ كالحفريات التي يتتبعها بعض العلماء اليوم ليعرفوا منها خط الحياة؛ كيف نشأت‏؟‏ وكيف انتشرت‏؟‏ وكيف ارتقت‏؟‏ وإن كانوا لم يصلوا إلى شيء في معرفة سر الحياة‏:‏ ما هي‏؟‏ ومن أين جاءت إلى الأرض‏؟‏ وكيف وجد فيها أول كائن حيّ‏؟‏ ويكون ذلك توجيهاً من الله للبحث عن نشأة الحياة الأولى والاستدلال به عند معرفتها على النشأة الآخرة‏.‏‏.‏

ويقوم بجانب هذا الخاطر خاطر آخر‏.‏ ذلك أن المخاطبين بهذه الآية أول مرة لم يكونوا مؤهلين لمثل هذا البحث العلمي الذي نشأ حديثاً؛ فلم يكونوا بمستطيعين يومئذ أن يصلوا من ورائه إلى الحقيقة المقصودة به لو كان ذلك هو المقصود فلا بد أن القرآن كان يطلب منهم أمراً آخر داخلاً في مقدورهم، يحصلون منه على ما ييسر لهم تصور النشأة الآخرة‏.‏

ويكون المطلوب حينئذ أن ينظروا كيف تبدأ الحياة في النبات والحيوان والإنسان في كل مكان‏.‏ ويكون السير في الأرض كما أسلفنا لتنبيه الحواس والمشاعر برؤية المشاهد الجديدة، ودعوتها إلى التأمل والتدبر في آثار قدرة الله على إنشاء الحياة التي تبرز في كل لحظة من لحظات الليل والنهار‏.‏

وهناك احتمال أهم يتمشى مع طبيعة هذا القرآن؛ وهو أنه يوجه توجيهاته التي تناسب حياة الناس في أجيالهم جميعاً، ومستوياتهم جميعاً، وملابسات حياتهم جميعاً، ووسائلهم جميعاً‏.‏ ليأخذ كل منها بما تؤهله له ظروف حياته ومقدراته‏.‏ ويبقى فيها امتداد يصلح لقيادة الحياة ونموها أبداً‏.‏ ومن ثم لا يكون هناك تعارض بين الخاطرين‏.‏

هذا أقرب وأولى‏.‏

‏{‏إن الله على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏

يبدأ الحياة ويعيدها بهذه القدرة المطلقة التي لا تتقيد بتصورات البشر القاصرة، وما يحسبونه قوانين يقيسون عليها الممكن وغير الممكن، بما يعرفونه من تجاربهم المحدودة‏!‏

ومن قدرة الله على كل شيء‏:‏ تعذيبه لمن يشاء ورحمته لمن يشاء، وإليه وحده المآب؛ لا يعجزه أحد، ولا يمتنع عليه أحد‏:‏

‏{‏يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، وإليه تقلبون‏.‏ وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء‏.‏ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير‏}‏‏.‏‏.‏

والعذاب والرحمة يتبعان مشيئة الله؛ من حيث أنه بين طريق الهدى وطريق الضلال؛ وخلق للإنسان من الاستعداد ما يختار به هذا أو ذاك، ويسر له الطريقين سواء، وهو بعد ذلك، وما يختار غير أن اتجاهه إلى الله ورغبته في هداه، ينتهيان به إلى عون الله له كما كتب على نفسه وإعراضه عن دلائل الهدى وصده عنها يؤديان به إلى الانقطاع والضلال‏.‏ ومن ثم تكون الرحمة ويكون العذاب‏.‏

‏{‏وإليه تقلبون‏}‏‏.‏‏.‏

تعبير عن المآب فيه عنف، يناسب المعنى بعده‏:‏

‏{‏وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء‏}‏‏.‏‏.‏

فليس لكم من قوة في هذا الوجود تمتنعون بها من الانقلاب إلى الله‏.‏ لا من قوتكم في الأرض، ولا من قوة ما تعبدونه أحياناً من الملائكة والجن وتحسبون له قوة في السماء‏.‏

‏{‏وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير‏}‏‏.‏‏.‏

وأين من دون الله الولي والنصير‏؟‏ أين الولي والنصير من الناس‏؟‏ أو من الملائكة والجن‏؟‏ وكلهم عباد من خلق الله لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فوق أن يملكوا لسواهم شيئاً‏؟‏

‏{‏والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك أنه لا ييأس الإنسان من رحمة الله إلا حين يكفر قلبه، وينقطع ما بينه وبين ربه‏.‏ وكذلك هو لا يكفر إلا وقد يئس من اتصال قلبه بالله، وجفت نداوته، ولم يعد له إلى رحمة الله سبيل‏.‏ والعاقبة معروفة‏:‏ ‏{‏وأولئك لهم عذاب أليم‏}‏‏.‏

وبعد هذا الخطاب المعترض في ثنايا القصة، الذي جاء خطاباً لكل منكر لدعوة الإيمان ولقوم إبراهيم ضمناً‏.‏‏.‏ بعد هذا الخطاب يعود لبيان جواب قوم إبراهيم، فيبدو هذا الجواب غريباً عجيباً، ويكشف عن تبجح الكفر والطغيان، بما يملك من قوة ومن سلطان‏:‏

‏{‏فما كان جواب قومه إلا أن قالوا‏:‏ اقتلوه أو حرقوه‏.‏ فأنجاه الله من النار‏.‏ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

اقتلوه أو حرقوه‏.‏‏.‏ رداً على تلك الدعوة الواضحة البسيطة المرتبة التي خاطب بها قلوبهم وعقولهم على النحو الذي بينا قيمته في عرض الدعوات‏.‏

وإذ أن الطغيان أسفر عن وجهه الكالح؛ ولم يكن إبراهيم عليه السلام يملك له دفعاً، ولا يستطيع منه وقاية‏.‏ وهو فرد أعزل لا حول له ولا طول‏.‏ فهنا تتدخل القدرة سافرة كذلك‏.‏ تتدخل بالمعجزة الخارقة لمألوف البشر‏:‏

‏{‏فأنجاه الله من النار‏}‏‏.‏‏.‏

وكان في نجاته من النار على النحو الخارق الذي تمت به آية لمن تهيأ قلبه للإيمان‏.‏ ولكن القوم لم يؤمنوا على الرغم من هذه الآية الخارقة، فدل هذا على أن الخوارق لا تهدي القلوب، إنما هو الاستعداد للهدى والإيمان‏:‏

‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

الآية الأولى هي تلك النجاة من النار‏.‏ والآية الثانية هي عجز الطغيان عن إيذاء رجل واحد يريد الله له النجاة‏.‏ والآية الثالثة هي أن الخارقة لا تهدي القلوب الجاحدة‏.‏ ذلك لمن يريد أن يتدبر تاريخ الدعوات، وتصريف القلوب، وعوامل الهدى والضلال‏.‏

ويمضي في القصة بعد نجاة إبراهيم من النار‏.‏ فلقد يئس من إيمان القوم الذين لم تلن قلوبهم للمعجزة الواضحة‏.‏ فإذا هو يجبههم بحقيقة أمرهم، قبل أن يعتزلهم جميعاً‏:‏

‏{‏وقال‏:‏ إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا، ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض، ويلعن بعضكم بعضاً، ومأواكم النار، وما لكم من ناصرين‏}‏‏.‏‏.‏

إنه يقول لهم‏:‏ إنكم اتخذتم الأوثان من دون الله، لا اعتقاداً واقتناعاً بأحقية هذه العبادة؛ إنما يجامل بعضكم بعضاً، ويوافق بعضكم بعضاً، على هذه العبادة؛ ولا يريد الصاحب أن يترك عبادة صاحبه حين يظهر الحق له استبقاء لما بينكم من مودة على حساب الحق والعقيدة‏!‏ وإن هذا ليقع في الجماعات التي لا تأخذ العقيدة مأخذ الجد، فيسترضي الصاحب صاحبه على حساب العقيدة؛ ويرى أمرها أهون من أن يخالف عليه صديقه‏!‏ وهي الجد كل الجد‏.‏ الجد الذي لا يقبل تهاوناً ولا استرخاء ولا استرضاء‏.‏

ثم يكشف لهم عن صفحتهم في الآخرة‏.‏ فإذا المودة التي يخشون أن يمسوها بالخلاف على العقيدة، والتي يبقون على عبادة الأوثان محافظة عليها‏.‏‏.‏ إذا هي يوم القيامة عداء ولعن وانفصام‏:‏

‏{‏ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً‏}‏‏.‏‏.‏

يوم يتنكر التابعون للمتبوعين، ويكفر الأولياء بالأولياء، ويتهم كل فريق صاحبه أنه أضله، ويلعن كل غوي صاحبه الذي أغواه‏!‏

ثم لا يجدي ذلك الكفر والتلاعن شيئاً، ولا يدفع عن أحد عذاباً‏:‏

‏{‏ومأواكم النار وما لكم من ناصرين‏}‏‏.‏

النار التي أرادوا أن يحرقوه بها، فنصره الله منها ونجاه‏.‏ فأما هم فلا نصرة لهم ولا نجاة‏!‏

وانتهت دعوة إبراهيم لقومه، والمعجزة التي لا شك فيها‏.‏ انتهت هذه وتلك بإيمان فرد واحد غير امرأته هو لوط‏.‏ ابن أخيه فيما تذكر بعض الروايات‏.‏ وهاجر معه من أور الكلدانيين في العراق، إلى ما وراء الأردن حيث استقر بهما المقام‏:‏

‏{‏فآمن له لوط، وقال‏:‏ إني مهاجر إلى ربي، إنه هو العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏

ونقف أمام قولة لوط‏:‏ ‏{‏إني مهاجر إلى ربي‏}‏‏.‏‏.‏ لنرى فيم هاجر‏.‏ إنه لم يهاجر للنجاة‏.‏ ولم يهاجر إلى أرض أو كسب أو تجارة‏.‏ إنما هاجر إلى ربه‏.‏ هاجر متقرباً له ملتجئاً إلى حماه‏.‏ هاجر إليه بقلبه وعقيدته قبل أن يهاجر بلحمه ودمه‏.‏ هاجر إليه ليخلص له عبادته ويخلص له قلبه ويخلص له كيانه كله في مهجره، بعيداً عن موطن الكفر والضلال‏.‏ بعد أن لم يبق رجاء في أن يفيء القوم إلى الهدى والإيمان بحال‏.‏

وعوض الله إبراهيم عن وطنه وعن قومه وعن أهله عوضه عن هذا كله ذرية تمضي فيها رسالة الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها‏.‏ فكل الأنبياء وكل الدعوات بعده كانت في ذريته‏.‏ وهو عوض ضخم في الدنيا وفي الآخرة‏:‏

‏{‏ووهبنا له إسحاق ويعقوب‏.‏ وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب‏.‏ وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏‏.‏

وهو فيض من العطاء جزيل، يتجلى فيه رضوان الله سبحانه على الرجل الذي يتمثل فيه الخلوص لله بكليته، والذي أجمع الطغيان على حرقه بالنار، فكان كل شيء من حوله برداً وسلاماً، وعطفاً وإنعاماً‏.‏ جزاءً وفاقاً‏.‏

ثم تأتي قصة لوط عقب قصة إبراهيم، بعد ما هاجر إلى ربه مع إبراهيم، فنزلا بوادي الأردن؛ ثم عاش لوط وحده في إحدى القبائل على ضفاف البحر الميت أو بحيرة لوط كما سميت فيما بعد‏.‏ وكانت تسكن مدينة سدوم‏.‏ وصار لوط منهم بالصهر والمعيشة‏.‏

ثم حدث أن فشا في القوم شذوذ عجيب، يذكر القرآن أنه يقع لأول مرة في تاريخ البشرية‏.‏ ذلك هو الميل الجنسي المنحرف إلى الذكور بدلاً من الإناث اللاتي خلقهن الله للرجال، لتتكون من الجنسين وحدات طبيعية منتجة تكفل امتداد الحياة بالنسل وفق الفطرة المطردة في جميع الأحياء‏.‏ إذ خلقها الله أزوجاً‏:‏ ذكراناً وإناثاً‏.‏ فلم يقع الشذوذ والانحراف إلى الجنس المماثل قبل قوم لوط هؤلاء‏:‏

‏{‏ولوطاً إذ قال لقومه‏:‏ إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين‏.‏ أئنَّكم لتأتون الرجال، وتقطعون السبيل، وتأتون في ناديكم المنكر‏.‏

فما كان جواب قومه إلا أن قالوا‏:‏ ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين‏.‏ قال‏:‏ رب انصرني على القوم المفسدين‏}‏‏.‏‏.‏

ومن خطاب لوط لقومه يظهر أن الفساد قد استشرى فيهم بكل ألوانه‏.‏ فهم يأتون الفاحشة الشاذة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين‏:‏

يأتون الرجال‏.‏ وهي فاحشة شاذة قذرة تدل على انحراف الفطرة وفسادها من أعماقها‏.‏ فالفطرة قد تفسد بتجاوز حد الاعتدال والطهارة مع المرأة، فتكون هذه جريمة فاحشة، ولكنها داخلة في نطاق الفطرة ومنطقها‏.‏ فأما ذلك الشذوذ الآخر فهو انخلاع من فطرة الأحياء جميعاً‏.‏ وفساد في التركيب النفسي والتركيب العضوي سواء‏.‏ فقد جعل الله لذة المباشرة الجنسية بين الزوجين متناسقة مع خط الحياة الأكبر، وامتداده بالنسل الذي ينشأ عن هذه المباشرة‏.‏ وجهز كيان كل من الزوجين بالاستعداد للالتذاذ بهذه المباشرة، نفسياً وعضوياً، وفقاً لذلك التناسق‏.‏ فأما المباشرة الشاذة فلا هدف لها، ولم يجهز الله الفطرة بالتذاذها تبعاً لانعدام الهدف منها‏.‏ فإذا وجد فيها أحد لذة فمعنى هذا أنه انسلخ نهائياً من خط الفطرة، وعاد مسخاً لا يرتبط بخط الحياة‏!‏

ويقطعون السبيل، فينهبون المال، ويروعون المارة، ويعتدون على الرجال بالفاحشة كرهاً‏.‏ وهي خطوة أبعد في الفاحشة الأولى، إلى جانب السلب والنهب والإفساد في الأرض‏.‏‏.‏

ويأتون في ناديهم المنكر‏.‏ يأتونه جهاراً وفي شكل جماعي متفق عليه، لا يخجل بعضهم من بعض‏.‏ وهي درجة أبعد في الفحش، وفساد الفطرة، والتبجح بالرذيلة إلى حد لا يرجى معه صلاح‏!‏

والقصة هنا مختصرة، وظاهر أن لوطاً أمرهم في أول الأمر ونهاهم بالحسنى؛ وأنهم أصروا على ما هم فيه، فخوفهم عذاب الله، وجبههم بشناعة جرائمهم الكبرى‏:‏

‏{‏فما كان جواب قومه إلا أن قالوا‏:‏ ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين‏}‏‏.‏‏.‏

فهو التبجح في وجه الإنذار، والتحدي المصحوب بالتكذيب، والشرود الذي لا تنتظر منه أوبة‏.‏ وقد أعذر إليهم رسولهم فلم يبق إلا أن يتوجه إلى ربه طالباً نصره الأخير‏:‏

‏{‏قال‏:‏ رب انصرني على القوم المفسدين‏}‏‏.‏‏.‏

وهنا يسدل الستار على دعاء لوط، ليرفع عن الاستجابة‏.‏ وفي الطريق يلم الملائكة المكلفون بالتنفيذ بإبراهيم، يبشرونه بولد صالح من زوجه التي كانت من قبل عقيماً‏:‏

‏{‏ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا‏:‏ إنا مهلكو أهل هذه القرية، إن أهلها كانوا ظالمين‏.‏ قال‏:‏ إن فيها لوطاً‏.‏ قالوا‏:‏ نحن أعلم بمن فيها، لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا المشهد‏.‏ مشهد الملائكة مع إبراهيم‏.‏ مختصر في هذا الموضع لأنه ليس مقصوداً؛ قد سبق في قصة إبراهيم أن الله وهب له إسحاق ويعقوب؛ وولادة اسحاق هي موضوع البشرى، ومن ثم لم يفصل قصتها هنا لأن الغرض هو إتمام قصة لوط‏.‏ فذكر أن مرور الملائكة بإبراهيم كان للبشرى‏.‏ ثم أخبروه بمهمتهم الأولى‏:‏

‏{‏إنا مهلكو أهل هذه القرية‏.‏

إن أهلها كانوا ظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

وأدركت إبراهيم رقته ورأفته، فراح يذكر الملائكة أن في هذه القرية لوطاً؛ وهو صالح وليس بظالم‏!‏

وأجابه الرسل بما يطمئنه من ناحيته، ويكشف له عن معرفتهم بمهمتهم وأنهم أولى بهذه المعرفة‏!‏

‏{‏قالوا‏:‏ نحن أعلم بمن فيها؛ لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين‏}‏‏.‏‏.‏

وقد كان هواها مع القوم، تقر جرائمهم وانحرافهم، وهو أمر عجيب‏.‏

وينتقل إلى مشهد ثالث‏.‏ مشهد لوط وقد جاء إليه الملائكة في هيئة فتية صباح ملاح؛ وهو يعلم شنشنة قومه، وما ينتظر ضيوفه هؤلاء منهم من سوء لا يملك له دفعاً‏.‏ فضاق صدره وساءه حضورهم إليه، في هذا الظرف العصيب‏:‏

‏{‏ولما أن جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

ويختصر هنا هجوم القوم على الضيوف، ومحاورة لوط لهم، وهم في سعار الشذوذ المريض‏.‏‏.‏ ويمضي إلى النهاية الأخيرة‏.‏ إذ يكشف له الرسل عن حقيقتهم، ويخبرونه بمهمتهم، وهو في هذا الكرب وذلك الضيق‏:‏

‏{‏وقالوا‏:‏ لا تخف ولا تحزن‏.‏ إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين‏.‏ إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون‏}‏‏.‏‏.‏

وترسم هذه الآية مشهد التدمير الذي أصاب القرية وأهلها جميعاً إلا لوطاً وأهله المؤمنين وقد كان هذا التدمير بأمطار وأحجار ملوثة بالطين‏.‏ ويغلب أنها ظاهرة بركانية قلبت المدينة وابتلعتها؛ وأمطرت عليها هذا المطر الذي يصاحب البراكين‏.‏

وما تزال آثار هذا التدمير باقية تحدث عن آيات الله لمن يعقلها ويتدبرها من القرون‏:‏

‏{‏ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون‏}‏‏.‏‏.‏

وكان هذا هو المصير الطبيعي لهذه الشجرة الخبيثة التي فسدت وأنتنت، فلم تعد صالحة للإثمار ولا للحياة‏.‏ ولم تعد تصلح إلا للاجتثاث والتحطيم‏.‏

ثم إشارة إلى قصة شعيب ومدين‏:‏

‏{‏وإلى مدين أخاهم شعيباً، فقال‏:‏ يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر، ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏.‏ فكذبوه فأخذتهم الرجفة، فأصبحوا في دارهم جاثمين‏}‏‏.‏‏.‏

وهي إشارة تبين وحدة الدعوة، ولباب العقيدة‏:‏ ‏{‏اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر‏}‏‏.‏‏.‏ وعبادة الله الواحد هي قاعدة العقيدة‏.‏ ورجاء اليوم الآخر كفيل بتحويلهم عما كانوا يرجونه في هذه الحياة الدنيا من الكسب المادي الحرام بالتطفيف في الكيل والميزان، وغصب المارين بطريقهم للتجارة، وبخس الناس أشياءهم، والإفساد في الأرض، والاستطالة على الخلق‏.‏

وفي اختصار يذكر انتهاء أمرهم إلى تكذيب رسولهم؛ وأخذهم بالهلاك والتدمير، على سنة الله في أخذ المكذبين‏.‏

‏{‏فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين‏}‏‏.‏‏.‏

وقد تقدم بيان الرجفة التي زلزلت عليهم بلادهم ورجتها بعد الصيحة المدوية التي أسقطت قلوبهم وتركتهم مصعوقين حيث كانوا في دارهم لا يتحركون‏.‏ فأصبحوا فيها جاثمين‏.‏ جزاء ما كانوا يروعون الناس وهم يخرجون عليهم مغيرين صائحين‏!‏

وإشارة كذلك إلى مصرع عاد وثمود‏:‏

‏{‏وعاداً وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم؛ وزين لهم الشيطان أعمالهم، فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين‏}‏‏.‏

وعاد كانت تسكن بالأحقاف في جنوب الجزيرة بالقرب من حضرموت، وثمود كانت تسكن بالحجر في شمال الجزيرة بالقرب من وادي القرى‏.‏ وقد هلكت عاد بريح صرصر عاتية، وهلكت ثمود بالصيحة المزلزلة‏.‏ وبقيت مساكنها معروفة للعرب يمرون عليها في رحلتي الشتاء والصيف، ويشهدون آثار التدمير، بعد العز والتمكين‏.‏

وهذه الإشارة المجملة تكشف عن سر ضلالهم، وهو سر ضلال الآخرين‏.‏

‏{‏وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين‏}‏‏.‏‏.‏

فقد كانت لهم عقول، وكانت أمامهم دلائل الهدى؛ ولكن الشيطان استهواهم وزين لهم أعمالهم‏.‏ وأتاهم من هذه الثغرة المكشوفة، وهي غرورهم بأنفسهم، وإعجابهم بما يأتونه من الأعمال، وانخداعهم بما هم فيه من قوة ومال ومتاع‏.‏ ‏{‏فصدهم عن السبيل‏}‏ سبيل الهدى الواحد المؤدي إلى الإيمان‏.‏ وضيع عليهم الفرصة ‏{‏وكانوا مستبصرين‏}‏ يملكون التبصر، وفيهم مدارك ولهم عقول‏.‏

وإشارة إلى قارون وفرعون وهامان‏.‏ ‏{‏ولقد جاءهم موسى بالبينات، فاستكبروا في الأرض، وما كانوا سابقين‏}‏‏.‏‏.‏

وقارون كان من قوم موسى فبغى عليهم بثروته وعلمه، ولم يستمع نصح الناصحين بالإحسان والاعتدال والتواضع وعدم البغي والفساد‏.‏ وفرعون كان طاغية غشوماً، يرتكب أبشع الجرائم وأغلظها، ويسخر الناس ويجعلهم شيعاً، ويقتل ذكور بني إسرائيل ويستحيي نساءهم عتواً وظلماً‏.‏ وهامان كان وزيره المدبر لمكائده، المعين له على ظلمه وبطشه‏.‏

‏{‏ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض‏}‏‏.‏‏.‏

فلم يعصمهم الثراء والقوة والدهاء‏.‏ لم تعصمهم من أخذ الله، ولم تجعلهم ناجين ولا مفلتين من عذاب الله، بل أدركهم وأخذهم كما سيجيء‏.‏

‏{‏وما كانوا سابقين‏}‏‏.‏‏.‏

هؤلاء الذين ملكوا القوة والمال وأسباب البقاء والغلبة، قد أخذهم الله جميعاً‏.‏ بعد ما فتنوا الناس وآذوهم طويلاً‏:‏

‏{‏فكلاً أخذنا بذنبه، فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا‏.‏ وما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏‏.‏

فعاد أخذهم حاصب وهو الريح الصرصر التي تتطاير معها حصباء الأرض فتضربهم وتقتلهم، وثمود أخذتهم الصيحة‏.‏ وقارون خسف به وبداره الأرض، وفرعون وهامان غرقا في اليم وذهبوا جميعاً مأخوذين بظلمهم‏.‏ ‏{‏وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

والآن‏.‏ وعلى مصارع العتاة البغاة من الكفرة والظلمة والفسقة على مدار القرون‏.‏‏.‏ والآن‏.‏ وبعد الحديث في مطالع السورة عن الفتنة والابتلاء والإغراء‏.‏‏.‏ الآن يضرب المثل لحقيقة القوى المتصارعة في هذا المجال‏.‏‏.‏ إن هنالك قوة واحدة هي قوة الله‏.‏ وما عداها من قوة الخلق فهو هزيل واهن، من تعلق به أو احتمى، فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهية‏.‏ فهي وما تحتمي به سواء‏:‏

‏{‏مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون‏.‏

إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم‏.‏ وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون‏}‏‏.‏‏.‏

إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القوى في هذا الوجود‏.‏ الحقيقة التي يغفل عنها الناس أحياناً، فيسوء تقديرهم لجميع القيم، ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات، وتختل في أيديهم جميع الموازين‏.‏ ولا يعرفون إلى أين يتوجهون‏.‏ ماذا يأخذون وماذا يدعون‏؟‏

وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض، فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم، ويخشونها ويفزعون منها، ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حماها‏!‏

وتخدعهم قوة المال، يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة‏.‏ ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب؛ ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون‏!‏

وتخدعهم قوة العلم يحسبونها أصل القوة وأصل المال، وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول، ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عباد في المحاريب‏!‏

وتخدعهم هذه القوى الظاهرة‏.‏ تخدعهم في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات وفي أيدي الدول، فيدورون حولها، ويتهافتون عليها، كما يدور الفراش على المصباح، وكما يتهافت الفراش على النار‏!‏

وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة، وتملكها، وتمنحها، وتوجهها، وتسخرها كما تريد، حيثما تريد‏.‏

وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد، أو الجماعات، أو الدول‏.‏‏.‏ كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت‏.‏‏.‏ حشرة ضعيفة رخوة واهنة لا حماية لها من تكوينها الرخو، ولا وقاية لها من بيتها الواهن‏.‏

وليس هنالك إلا حماية الله، وإلا حماه، وإلا ركنه القوي الركين‏.‏

هذه الحقيقة الضخمة هي التي عني القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة، فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها؛ وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض ودكت بها المعاقل والحصون‏.‏

لقد استقرت هذه الحقيقة الضخمة في كل نفس، وعمرت كل قلب، واختلطت بالدم، وجرت معه في العروق، ولم تعد كلمة تقال باللسان، ولا قضية تحتاج إلى جدل‏.‏ بل بديهة مستقرة في النفس، لا يجول غيرها في حس ولا خيال‏.‏

قوة الله وحدها هي القوة‏.‏ وولاية الله وحدها هي الولاية‏.‏ وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل؛ مهما علا واستطال، ومهما تجبر وطغى، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل‏.‏

إنها العنكبوت‏:‏ وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت‏:‏ ‏{‏وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون‏}‏‏.‏

وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرضون للفتنة والأذى، وللإغراء والإغواء‏.‏ لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة، وهم يواجهون القوى المختلفة‏.‏ هذه تضر بهم وتحاول أن تسحقهم‏.‏ وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم‏.‏‏.‏ وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله، وفي حساب العقيدة حين تصح العقيدة، وحين تعرف حقيقة القوى وتحسن التقويم والتقدير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 69‏]‏

‏{‏وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏46‏)‏ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ‏(‏47‏)‏ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏48‏)‏ بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ‏(‏49‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏50‏)‏ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏51‏)‏ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏52‏)‏ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏53‏)‏ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏54‏)‏ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏55‏)‏ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ‏(‏56‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏58‏)‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏59‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏60‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏61‏)‏ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏62‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏63‏)‏ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏64‏)‏ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏65‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏66‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ‏(‏67‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏68‏)‏ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

هذا هو الشوط الأخير في سورة العنكبوت‏.‏ وقد مضى منها شوطان في الجزء العشرين‏.‏ ومحور السورة كما أسلفنا هو الحديث عن الفتنة والابتلاء لمن يقول كلمة الإيمان، لتمحيص القلوب وتمييز الصادقين والمنافقين بمقياس الصبر على الفتنة والابتلاء‏.‏‏.‏ وذلك مع التهوين من شأن القوى الأرضية التي تقف في وجه الإيمان والمؤمنين؛ وتفتنهم بالأذى وتصدهم عن السبيل، وتوكيد أخذ الله للمسيئين ونصره للمؤمنين الذين يصبرون على الفتنة، ويثبتون للابتلاء‏.‏ سنة الله التي مضت في الدعوات من لدن نوح عليه السلام‏.‏ وهي السنة التي لا تتبدل، والتي ترتبط بالحق الكبير المتلبس بطبيعة هذا الكون، والذي يتمثل كذلك في دعوة الله الواحدة التي لا تتبدل طبيعتها‏.‏

وقد انتهى الشوط الثاني في نهاية الجزء السابق بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به إلى تلاوة ما أوحي إليه من الكتاب، وإقامة الصلاة لذكر الله، ومراقبة الله العليم بما يصنعون‏.‏

وفي الشوط الأخير يستطرد في الحديث عن هذا الكتاب، والعلاقة بينه وبين الكتب قبله‏.‏ ويأمر المسلمين ألا يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، فبدلوا في كتابهم، وانحرفوا إلى الشرك، والشرك ظلم عظيم وأن يعلنوا إيمانهم بالدعوات كلها وبالكتب جميعها‏.‏ فهي حق من عند الله مصدق لما معهم‏.‏

ثم يتحدث عن إيمان بعض أهل الكتاب بهذا الكتاب الأخير على حين يكفر به المشركون الذين أنزل الله الكتاب على نبيهم، غير مقدرين لهذه المنة الضخمة، ولا مكتفين بهذا الفضل المتمثل في تنزيل الكتاب على رسول منهم، يخاطبهم به، ويحدثهم بكلام الله‏.‏ ولم يكن يتلو من قبله كتاباً ولا يخطه بيمينه، فتكون هناك أدنى شبهة في أنه من عمله ومن تأليفه‏!‏

ويحذر المشركين استعجالهم بعذاب الله، ويهددهم بمجيئه بغتة، ويصور لهم قربه منهم، وإحاطة جهنم بهم، وحالهم يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏.‏

ثم يلتفت إلى المؤمنين الذين يتلقون الفتنة والإيذاء في مكة؛ يحضهم على الهجرة بدينهم إلى الله ليعبدوه وحده‏.‏ يلتفت إليهم في أسلوب عجيب، يعالج كل هاجسة تخطر في ضمائرهم، وكل معوق يقعد بهم، ويقلب قلوبهم بين أصابع الرحمن في لمسات تشهد بأن منزل هذا القرآن هو خالق هذه القلوب؛ فما يعرف مساربها ومداخلها الخفية، ويلمسها هكذا إلا خالقها اللطيف الخبير‏.‏

وينتقل من هذا إلى التعجيب من حال أولئك المشركين، وهم يتخبطون في تصوراتهم فيقرون لله سبحانه يخلق السماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر، وتنزيل الماء من السماء، وإحياء الأرض الموات؛ وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله وحده مخلصين له الدين‏.‏‏.‏ ثم هم بعد ذلك يشركون بالله، ويكفرون بكتابه، ويؤذون رسوله، ويفتنون المؤمنين به‏.‏

ويذكر المشركين بنعمة الله عليهم بهذا الحرم الآمن الذي يعيشون فيه، والناس من حولهم في خوف وقلق‏.‏ وهم يفترون على الله الكذب ويشركون به آلهة مفتراة‏.‏ ويعدهم على هذا جهنم وفيها مثوى للكافرين‏.‏

وتختم السورة بوعد من الله أكيد بهداية المجاهدين في الله، يريدون أن يخلصوا إليه، مجتازين العوائق والفتن والمشاق وطول الطريق، وكثرة المعوقين‏.‏

‏{‏ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا‏:‏ آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون‏}‏‏.‏‏.‏

إن دعوة الله التي حملها نوح عليه السلام والرسل بعده حتى وصلت إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم لهي دعوة واحدة من عند إله واحد، ذات هدف واحد، هو رد البشرية الضالة إلى ربها، وهدايتها إلى طريقه، وتربيتها بمنهاجه‏.‏ وإن المؤمنين بكل رسالة لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات‏:‏ كلها أمة واحدة، تعبد إلهاً واحداً‏.‏ وإن البشرية في جميع أجيالها لصنفان اثنان‏:‏ صنف المؤمنين وهم حزب الله‏.‏ وصنف المشاقين لله وهم حزب الشيطان، بغض النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان‏.‏ وكل جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون‏.‏

هذه هي الحقيقة الضخمة العظيمة الرفيعة التي يقوم عليها الإسلام؛ والتي تقررها هذه الآية من القرآن؛ هذه الحقيقة التي ترفع العلاقات بين البشر عن أن تكون مجرد علاقة دم أو نسب، أو جنس، أو وطن‏.‏ أو تبادل أو تجارة‏.‏ ترفعها عن هذا كله لتصلها بالله، ممثلة في عقيدة واحدة تذوب فيها الأجناس والألوان؛ وتختفي فيها القوميات والأوطان؛ ويتلاشى فيها الزمان والمكان‏.‏ ولا تبقى إلا العروة الوثقى في الخالق الديان‏.‏

ومن ثم يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى؛ لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة، والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة، والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله، الموافقة لما قبلها من الدعوات، المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر‏.‏‏.‏ ‏{‏إلا الذين ظلموا منهم‏}‏ فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية؛ وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة‏.‏ فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة‏.‏ وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عندما قامت له دولة في المدينة‏.‏

وإن بعضهم ليفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حاسن أهل الكتاب وهو في مكة مطارد من المشركين‏.‏ فلما أن صارت له قوة في المدينة حاربهم، مخالفاً كل ما قاله فيهم وهو في مكة‏!‏ وهو افتراء ظاهر يشهد هذا النص المكي عليه‏.‏ فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى مقصورة على من لم يظلم منهم، ولم ينحرف عن دين الله‏.‏

وعن التوحيد الخالص الذي جاءت به جميع الرسالات‏.‏

‏{‏وقولوا‏:‏ آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وإذن فلا حاجة إلى الشقاق والنزاع، والجدل والنقاش‏.‏ وكلهم يؤمنون بإله واحد، والمسلمون يؤمنون بما أنزل إليهم وما أنزل إلى من قبلهم، وهو في صميمه واحد، والمنهج الإلهي متصل الحلقات‏.‏

‏{‏وكذلك أنزلنا إليك الكتاب‏.‏ فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به، ومن هؤلاء من يؤمن به، وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون‏}‏‏.‏‏.‏

«كذلك»‏.‏ على النهج الواحد المتصل‏.‏ وعلى السنة الواحدة التي لا تتبدل‏.‏ وعلى الطريقة التي يوحي بها الله لرسله ‏{‏وكذلك أنزلنا إليك الكتاب‏}‏‏.‏‏.‏ فوقف الناس بإزائه في صفين‏:‏ صف يؤمن به من أهل الكتاب ومن قريش، وصف يجحده ويكفر به مع إيمان أهل الكتاب وشهادتهم بصدقه، وتصديقه لما بين أيديهم‏.‏‏.‏ ‏{‏وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون‏}‏‏.‏‏.‏ فهذه الآيات من الوضوح والاستقامة بحيث لا ينكرها إلا الذي يغطي روحه عنها ويسترها، فلا يراها ولا يتملاها‏!‏ والكفر هو التغطية والحجاب في أصل معناه اللغوي، وهو ملحوظ في مثل هذا التعبير‏.‏

‏{‏وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك‏.‏ إذن لارتاب المبطلون‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا يتتبع القرآن الكريم مواضع شبهاتهم حتى الساذج الطفولي منها‏.‏ فرسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بينهم فترة طويلة من حياته، لا يقرأ ولا يكتب؛ ثم جاءهم بهذا الكتاب العجيب الذي يعجز القارئين الكاتبين‏.‏ ولربما كانت تكون لهم شبهة لو أنه كان من قبل قارئاً كاتباً‏.‏ فما شبهتهم وهذا ماضيه بينهم‏؟‏

ونقول‏:‏ إنه يتتبع مواضع شبهاتهم حتى الساذج الطفولي منها‏.‏ فحتى على فرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارئاً كاتباً، ما جاز لهم أن يرتابوا‏.‏ فهذا القرآن يشهد بذاته على أنه ليس من صنع البشر‏.‏ فهو أكبر جداً من طاقة البشر ومعرفة البشر، وآفاق البشر‏.‏ والحق الذي فيه ذو طبيعة مطلقة كالحق الذي في هذا الكون‏.‏ وكل وقفة أمام نصوصه توحي للقلب بأن وراءه قوة، وبأن في عباراته سلطاناً، لا يصدران عن بشر‏!‏

‏{‏بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون‏}‏‏.‏‏.‏

فهو دلائل واضحة في صدور الذين وهبهم الله العلم، لا لبس فيها ولا غموض، ولا شبهة فيها ولا ارتياب‏.‏ دلائل يجدونها بينة في صدورهم، تطمئن إليها قلوبهم، فلا تطلب عليها دليلاً وهي الدليل‏.‏ والعلم الذي يستحق هذا الاسم، وهو الذي تجده الصدور في قرارتها، مستقراً فيها، منبعثاً منها؛ يكشف لها الطريق، ويصلها بالخيط الواصل إلى هناك‏!‏ ‏{‏وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون‏}‏‏.‏‏.‏ الذين لا يعدلون في تقدير الحقائق وتقويم الأمور، والذين يتجاوزون الحق والصراط المستقيم‏.‏

‏{‏وقالوا‏:‏ لولا أنزل عليه آيات من ربه‏.‏ قل‏:‏ إنما الآيات عند الله، وإنما أنا نذير مبين‏}‏‏.‏

يعنون بذلك الخوارق المادية التي صاحبت الرسالات من قبل في طفولة البشرية‏.‏ والتي لا تقوم حجة إلا على الجيل الذي يشاهدها‏.‏ بينما هذه هي الرسالة الأخيرة التي تقوم حجتها على كل من بلغته دعوتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها‏.‏ ومن ثم جاءت آياتها الخوارق آيات متلوة من القرآن الكريم المعجز الذي لا تنفد عجائبه، والذي تتفتح كنوزه لجميع الأجيال؛ والذي هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، يحسونها خوارق معجزة كلما تدبروها، وأحسوا مصدرها الذي تستمد منه سلطانها العجيب‏!‏

‏{‏قل‏:‏ إنما الآيات عند الله‏}‏‏.‏‏.‏ يظهرها عند الحاجة إليها، وفق تقديره وتدبيره‏.‏ وليس لي أن أقترح على الله شيئاً‏.‏ ليس هذا من شأني ولا من أدبي ‏{‏وإنما أنا نذير مبين‏}‏‏.‏ أنذر وأحذر وأكشف وأبين؛ فأؤدي ما كلفته‏.‏ ولله الأمر بعد ذلك والتدبير‏.‏

إنه تجريد العقيدة من كل وهم وكل شبهة‏.‏ وإيضاح حدود الرسول وهو بشر مختار‏.‏ فلا تتلبس بصفات الله الواحد القهار‏.‏ ولا تغيم حولها الشبهات التي غامت على الرسالات حين برزت فيها الخوارق المادية، حتى اختلطت في حس الناس والتبست بالأوهام والخرافات‏.‏ ونشأت عنها الانحرافات‏.‏

وهؤلاء الذين يطلبون الخوارق يغفلون عن تقدير فضل الله عليهم بتنزيل هذا القرآن‏:‏

‏{‏أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم؛ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

وإنه للبطر بنعمة الله ورعايته التي تجل عن الشكر والتقدير‏.‏ أو لم يكفهم أن يعيشوا مع السماء بهذا القرآن‏؟‏ وهو يتنزل عليهم، يحدثهم بما في نفوسهم، ويكشف لهم عما حولهم؛ ويشعرهم أن عين الله عليهم؛ وأنه معنيٌّ بهم حتى ليحدثهم بأمرهم‏.‏ ويقص عليهم القصص ويعلمهم‏.‏ وهم هذا الخلق الصغير الضئيل التائه في ملكوت الله الكبير‏.‏ وهم وأرضهم وشمسهم التي تدور عليها أرضهم‏.‏‏.‏ ذرات تائهة في هذا الفضاء الهائل لا يمسكهن إلا الله‏.‏ والله بعد ذلك يكرمهم حتى لينزل عليهم كلماته تتلى عليهم‏.‏ ثم هم لا يكتفون‏!‏

‏{‏إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

فالذين يؤمنون هم الذين يجدون مس هذه الرحمة في نفوسهم، وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم منته على البشرية بهذا التنزيل؛ ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إلى حضرته وإلى مائدته وهو العلي الكبير‏.‏ وهم الذين ينفعهم هذا القرآن، لأنه يحيا في قلوبهم، ويفتح لهم عن كنوزه ويمنحهم ذخائره، ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور‏.‏

فأما الذين لا يشعرون بهذا كله، فيطلبون آية يصدقون بها هذا القرآن‏!‏ هؤلاء المطموسون الذين لا تتفتح قلوبهم للنور‏.‏ هؤلاء لا جدوى من المحاولة معهم؛ وليترك أمر الفصل بينه وبينهم إلى الله‏!‏

‏{‏قل‏:‏ كفى بالله بيني وبينكم شهيداً، يعلم ما في السموات والأرض‏.‏ والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون‏}‏‏.‏

وشهادة من يعلم ما في السماوات والأرض أعظم شهادة‏.‏ وهو الذي يعلم أنهم على الباطل‏:‏

‏{‏والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون‏}‏‏.‏‏.‏

الخاسرون على الإطلاق‏.‏ الخاسرون لكل شيء‏.‏ الخاسرون للدنيا والآخرة‏.‏ الخاسرون لأنفسهم وللهدى والاستقامة والطمأنينة والحق والنور‏.‏

إن الإيمان بالله كسب‏.‏ كسب في ذاته‏.‏ والأجر عليه بعد ذلك فضل من الله‏.‏ إنه طمأنينة في القلب واستقامة على الطريق، وثبات على الأحداث؛ وثقة بالسند، واطمئنان للحمى، ويقين بالعاقبة‏.‏ وإن هذا في ذاته لهو الكسب؛ وهو هو الذي يخسره الكافرون‏.‏ و‏{‏أولئك هم الخاسرون‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يمضي في الحديث عن أولئك المشركين‏.‏ عن استعجالهم بالعذاب‏.‏ وجهنم منهم قريب‏:‏

‏{‏ويستعجلونك بالعذاب، ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب، وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون‏.‏ يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين‏.‏ يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ويقول‏:‏ ذوقوا ما كنتم تعملون‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد كان المشركون يسمعون النذير، ولا يدركون حكمة الله في إمهالهم إلى حين؛ فيستعجلون الرسول صلى الله عليه وسلم بالعذاب على سبيل التحدي‏.‏ وكثيراً ما يكون إمهال الله استدراجاً للظالمين ليزدادوا عتواً وفساداً‏.‏ أو امتحاناً للمؤمنين ليزدادوا إيماناً وثباتاً؛ وليتخلف عن صفوفهم من لا يطيق الصبر والثبات‏.‏ أو استبقاء لمن يعلم سبحانه أن فيهم خيراً من أولئك المنحرفين حتى يتبين لهم الرشد من الغي فيثوبوا إلى الهدى‏.‏ أو استخراجاً لذرية صالحة من ظهورهم تعبد الله وتنحاز إلى حزبه ولو كان آباؤهم من الضالين‏.‏‏.‏ أو لغير هذا وذاك من تدبير الله المستور‏.‏‏.‏

ولكن المشركين لم يكونوا يدركون شيئاً من حكمة الله وتدبيره، فكانوا يستعجلون بالعذاب على سبيل التحدي‏.‏‏.‏ ‏{‏ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب‏}‏‏.‏‏.‏ وهنا يوعدهم الله بمجيء العذاب الذي يستعجلونه‏.‏ مجيئه في حينه‏.‏ ولكن حيث لا ينتظرونه ولا يتوقعونه‏.‏ وحيث يبهتون له ويفاجأون به‏:‏ ‏{‏وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد جاءهم هذا العذاب من بعد في بدر‏.‏ وصدق الله‏.‏ ورأوا بأعينهم كيف يحق وعد الله‏.‏ ولم يأخذهم الله بالهلاك الكامل كأخذ المكذبين قبلهم؛ كما أنه لم يستجب لهم في إظهار خارقة مادية كي لا يحق عليهم وعده بهلاك من يكذبون بعد الخارقة المادية‏.‏ لأنه قدر للكثيرين منهم أن يؤمنوا فيما بعد، وأن يكونوا من خيرة جند الإسلام؛ وأخرج من ظهورهم من حملوا الراية جيلاً بعد جيل، إلى أمد طويل‏.‏ وكان ذلك كله وفق تدبير الله الذي لا يعلمه إلا الله‏.‏

وبعد الوعيد بعذاب الدنيا الذي يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون، جعل يكرر استنكاره لاستعجالهم بالعذاب، وجهنم لهم بالمرصاد‏:‏

‏{‏يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين‏}‏‏.‏‏.‏

وعلى طريقة القرآن في التصوير، وفي استحضار المستقبل كأنه مشهود، صور لهم جهنم محيطة بالكافرين‏.‏ وذلك بالقياس إليهم مستقبل مستور؛ ولكنه بالقياس إلى الواقع المكشوف لعلم الله حاضر مشهود‏.‏

وتصويره على حقيقته المستورة يوقع في الحس رهبة، ويزيد استعجالهم بالعذاب نكارة‏.‏ فأنى يستعجل من تحيط به جهنم، وتهم أن تطبق عليه وهو غافل مخدوع‏؟‏‏!‏

ويرسم لهم صورتهم في جهنم هذه المحيطة بهم؛ وهم يستعجلون بالعذاب‏:‏

‏{‏يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ويقول‏:‏ ذوقوا ما كنتم تعملون‏}‏‏.‏‏.‏

وهو مشهد مفزع في ذاته، يصاحبه التقريع المخزي والتأنيب المرير‏:‏ ‏{‏ذوقوا ما كنتم تعملون‏}‏‏.‏‏.‏ فهذه نهاية الاستعجال بالعذاب؛ والاستخفاف بالنذير‏.‏

ويدع الجاحدين المكذبين المستهترين في مشهد العذاب يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ليلتفت إلى المؤمنين، الذين يفتنهم أولئك المكذبون عن دينهم، ويمنعونهم من عبادة ربهم‏.‏‏.‏ يلتفت إليهم يدعوهم إلى الفرار بدينهم، والنجاة بعقيدتهم‏.‏ في نداء حبيب وفي رعاية سابغة، وفي أسلوب يمس كل أوتار القلوب‏:‏

‏{‏يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة، فإياي فاعبدون‏.‏ كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون‏.‏ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، نعم أجر العاملين، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون‏.‏ وكأي من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم، وهو السميع العليم‏}‏‏.‏‏.‏

إن خالق هذه القلوب، الخبير بمداخلها، العليم بخفاياها، العارف بما يهجس فيها، وما يستكن في حناياها‏.‏‏.‏ إن خالق هذه القلوب ليناديها هذا النداء الحبيب‏:‏ يا عبادي الذين آمنوا‏:‏ يناديها هكذا وهو يدعوها إلى الهجرة بدينها‏.‏ لتحس منذ اللحظة الأولى بحقيقتها‏.‏ بنسبتها إلى ربها وإضافتها إلى مولاها‏:‏ ‏{‏يا عبادي‏}‏‏.‏‏.‏

هذه هي اللمسة الأولى‏.‏ واللمسة الثانية‏:‏ ‏{‏إن أرضي واسعة‏}‏‏.‏‏.‏

أنتم عبادي‏.‏ وهذه أرضي‏.‏ وهي واسعة‏.‏ فسيحة تسعكم‏.‏ فما الذي يمسككم في مقامكم الضيق، الذي تفتنون فيه عن دينكم، ولا تملكون أن تعبدوا الله مولاكم‏؟‏ غادروا هذا الضيق يا عبادي إلى أرضي الواسعة، ناجين بدينكم، أحراراً في عبادتكم ‏{‏فإياي فاعبدون‏}‏‏.‏

إن هاجس الأسى لمفارقة الوطن هو الهاجس الأول الذي يتحرك في النفس التي تدعى للهجرة‏.‏ ومن هنا يمس قلوبهم بهاتين اللمستين‏:‏ بالنداء الحبيب القريب‏:‏ ‏{‏يا عبادي‏}‏ وبالسعة في الأرض‏:‏ ‏{‏إن أرضي واسعة‏}‏ وما دامت كلها أرض الله، فأحب بقعة منها إذن هي التي يجدون فيها السعة لعبادة الله وحده دون سواه‏.‏

ثم يمضي يتتبع هواجس القلوب وخواطرها‏.‏ فإذا الخاطر الثاني هو الخوف من خطر الهجرة‏.‏ خطر الموت الكامن في محاولة الخروج وقد كان المشركون يمسكون بالمؤمنين في مكة، ولا يسمحون لهم بالهجرة عندما أحسوا بخطرهم بعد خروج المهاجرين الأولين ثم خطر الطريق لو قدر لهم أن يخرجوا من مكة‏.‏ ومن هنا تجيء اللمسة الثانية‏:‏

‏{‏كل نفس ذائقة الموت‏.‏ ثم إلينا ترجعون‏}‏‏.‏‏.‏

فالموت حتم في كل مكان، فلا داعي أن يحسبوا حسابه، وهم لا يعلمون أسبابه‏.‏ وإلى الله المرجع والمآب‏.‏ فهم مهاجرون إليه، في أرضه الواسعة، وهم عائدون إليه في نهاية المطاف‏.‏

وهم عباده الذين يؤويهم إليه في الدنيا والآخرة‏.‏ فمن ذا يساوره الخوف، أو يهجس في ضميره القلق، بعد هذه اللمسات‏؟‏

ومع هذا فإنه لا يدعهم إلى هذا الإيواء وحده؛ بل يكشف عما أعده لهم هناك‏.‏ وإنهم ليفارقون وطناً فلهم في الأرض عنه سعة‏.‏ ويفارقون بيوتاً فلهم في الجنة منها عوض‏.‏ عوض من نوعها وأعظم منها‏:‏

‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها‏}‏‏.‏

وهنا يهتف لهم بالعمل والصبر والتوكل على الله‏:‏

‏{‏نعم أجر العاملين، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون‏}‏‏.‏‏.‏

وهي لمسة التثبيت والتشجيع لهذه القلوب، في موقف القلقلة والخوف والحاجة إلى التثبيت والتشجيع‏.‏ ثم يهجس في النفس خاطر القلق على الرزق، بعد مغادرة الوطن والمال ومجال العمل والنشاط المألوف، وأسباب الرزق المعلومة‏.‏ فلا يدع هذا الخاطر دون لمسة تقر لها القلوب‏:‏

‏{‏وكأي من دابة لا تحمل رزقها، الله يرزقها وإياكم‏}‏‏.‏‏.‏

لمسة توقظ قلوبهم إلى الواقع المشهود في حياتهم‏.‏ فكم من دابة لا تحصل رزقها ولا تجمعه ولا تحمله ولا تهتم به، ولا تعرف كيف توفره لنفسها، ولا كيف تحتفظ به معها‏.‏ ومع هذا فإن الله يرزقها ولا يدعها تموت جوعاً‏.‏ وكذلك يرزق الناس‏.‏ ولو خيل إليهم أنهم يخلقون رزقهم وينشئونه‏.‏ إنما يهبهم الله وسيلة الرزق وأسبابه‏.‏ وهذه الهبة في ذاتها رزق من الله، لا سبيل لهم إليه إلا بتوفيق الله‏.‏ فلا مجال للقلق على الرزق عند الهجرة‏.‏ فهم عباد الله يهاجرون إلى أرض الله يرزقهم الله حيث كانوا‏.‏ كما يرزق الدابة لا تحمل رزقها، ولكن الله يرزقها ولا يدعها‏.‏

ويختم هذه اللمسات الرفيقة العميقة بوصلهم بالله، وإشعارهم برعايته وعنايته، فهو يسمع لهم ويعلم حالهم، ولا يدعهم وحدهم‏:‏ ‏{‏وهو السميع العليم‏}‏‏.‏‏.‏

وتنتهي هذه الجولة القصيرة؛ وقد لمست كل حنية في تلك القلوب؛ ولبت كل خاطر هجس فيها في لحظة الخروج‏.‏ وقد تركت مكان كل مخافة طمأنينة، ومكان كل قلق ثقة، ومكان كل تعب راحة‏.‏ وقد هدهدت تلك القلوب وغمرتها بشعور القربى والرعاية والأمان في كنف الله الرحيم المنان‏.‏

ألا إنه لا يدرك هواجس القلوب هكذا إلا خالق القلوب‏.‏ ولا يداوي القلوب هكذا إلا الذي يعلم ما في القلوب‏.‏

وبعد هذه الجولة مع المؤمنين يرتد السياق إلى التناقض في موقف المشركين وتصوراتهم‏.‏ فهم يقرون بخلق الله للسماوات والأرض وتسخيره للشمس والقمر وإنزاله الماء من السماء وإحيائه الأرض بعد موتها‏.‏ وما يتضمنه هذا من بسط الرزق لهم أو تضييقه عليهم‏.‏ وهم يتوجهون لله وحده بالدعاء عند الخوف‏.‏‏.‏ ثم هم بعد ذلك كله يشركون بالله، ويؤذون من يعبدونه وحده، ويفتنونهم عن عقيدتهم التي لا تناقض فيها ولا اضطراب، وينسون نعمة الله عليهم في تأمينهم في البيت الحرام، وهم يروعون عباده في بيته الحرام‏:‏

‏{‏ولئن سألتهم‏:‏ من خلق السماوات والأرض، وسخر الشمس والقمر ليقولن‏:‏ الله‏.‏

فأنى يؤفكون‏؟‏ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له، إن الله بكل شيء عليم‏.‏ ولئن سألتهم‏:‏ من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن‏:‏ الله‏.‏ قل‏:‏ الحمد لله، بل أكثرهم لا يعقلون‏.‏ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، لو كانوا يعلمون‏.‏ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين‏.‏ فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون، ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون‏.‏ أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم‏؟‏ أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون‏؟‏ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه‏؟‏ أليس في جهنم مثوى للكافرين‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه الآيات ترسم صورة لعقيدة العرب إذ ذاك؛ وتوحي بأنه كان لها أصل من التوحيد؛ ثم وقع فيها الانحراف‏.‏ ولا عجب في هذا فهم من أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وقد كانوا بالفعل يعتقدون أنهم على دين إبراهيم، وكانوا يعتزون بعقيدتهم على هذا الأساس؛ ولم يكونوا يحفلون كثيراً بالديانة الموسوية أو المسيحية وهما معهم في الجزيرة العربية، اعتزازاً منهم بأنهم على دين إبراهيم‏.‏ غير منتبهين إلى ما صارت إليه عقيدتهم من التناقض والانحراف‏.‏

كانوا إذا سئلوا عن خالق السماوات والأرض، ومسخر الشمس والقمر، ومنزل الماء من السماء، ومحيي الأرض بعد موتها بهذا الماء‏.‏‏.‏ يقرون أن صانع هذا كله هو الله‏.‏ ولكنهم مع هذا يعبدون أصنامهم، أو يعبدون الجن، أو يعبدون الملائكة؛ ويجعلونهم شركاء لله في العبادة، وإن لم يجعلوهم شركاء له في الخلق‏.‏‏.‏ هو تناقض عجيب‏.‏ تناقض يُعجِّب الله منه في هذه الآيات‏:‏ ‏{‏فأنى يؤفكون‏}‏‏؟‏ أي كيف يصرفون عن الحق إلى هذا التخليط العجيب‏؟‏ ‏{‏بل أكثرهم لا يعقلون‏}‏ فليس يعقل من يقبل عقله هذا التخليط‏!‏

وبين السؤال عن خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر؛ والسؤال عن منزل الماء من السماء ومحيي الأرض بعد موتها‏.‏ يقرر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له فيربط سنة الرزق بخلق السماوات والأرض وسائر آثار القدرة والخلق، ويكل هذا إلى علم الله بكل شيء‏:‏ ‏{‏إن الله بكل شيء عليم‏}‏‏.‏‏.‏

والرزق ظاهر الارتباط بدورة الأفلاك، وعلاقتها بالحياة والماء والزرع والإنبات‏.‏ وبسط الرزق وتضييقه بيد الله؛ وفق الأوضاع والظواهر العامة المذكورة في الآيات‏.‏ فموارد الرزق من ماء ينزل، وأنهار تجري، وزروع تنبت، وحيوان يتكاثر‏.‏ ومن معادن وفلزات في جوف الأرض، وصيد في البر والبحر‏.‏‏.‏ إلى نهاية موارد الرزق العامة، تتبع كلها نواميس السماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر تبعية مباشرة ظاهرة‏.‏

ولو تغيرت تلك النواميس عما هي عليه أدنى تغيير لظهر أثر هذا في الحياة كلها على سطح الأرض؛ وفي المخبوء فيها من الثروات الطبيعية الأخرى سواء بسواء‏.‏ فحتى هذا المخبوء في جوف الأرض؛ إنما يتم تكوينه وتخزينه واختِلافه من مكان إلى مكان وفق أسباب من طبيعة الأرض ومن مجموعة تأثراتها بالشمس والقمر‏!‏

والقرآن يجعل الكون الكبير ومشاهده العظيمة هي برهانه وحجته، وهي مجال النظر والتدبر للحق الذي جاء به‏.‏ ويقف القلب أمام هذا الكون وقفة المتفكر المتدبر، اليقظ لعجائبه، الشاعر بيد الصانع وقدرته، المدرك لنواميسه الهائلة، بلفتة هادئة يسيرة، لا تحتاج إلى علم شاق عسير، إنما تحتاج إلى حس يقظ وقلب بصير‏.‏ وكلما جلا آية من آيات الله في الكون وقف أمامها يسبح بحمد الله ويربط القلوب بالله‏:‏ ‏{‏قل الحمد لله‏.‏ بل أكثرهم لا يعقلون‏}‏ ‏!‏‏.‏

وبمناسبة الحديث عن الحياة في الأرض وعن الرزق والبسط فيه والقبض، يضع أمامه الميزان الدقيق للقيم كلها‏.‏ فإذا الحياة الدنيا بأرزاقها ومتاعها لهو ولعب حين تقاس بالحياة في الدار الآخرة‏:‏

‏{‏وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، لو كانوا يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

فهذه الحياة الدنيا في عمومها ليست إلا لهواً ولعباً حين لا ينظر فيها إلى الآخرة‏.‏ حين تكون هي الغاية العليا للناس‏.‏ حين يصبح المتاع فيها هو الغاية من الحياة‏.‏ فأما الحياة الآخرة فهي الحياة الفائضة بالحيوية‏.‏ هي ‏{‏الحيوان‏}‏ لشدة ما فيها من الحيوية والامتلاء‏.‏

والقرآن لا يعني بهذا أن يحض على الزهد في متاع الدنيا والفرار منه وإلقائه بعيداً‏.‏ إن هذا ليس روح الإسلام ولا اتجاهه‏.‏ إنما يعني مراعاة الآخرة في هذا المتاع، والوقوف فيه عند حدود الله‏.‏ كما يقصد الاستعلاء عليه فلا تصبح النفس أسيرة له، يكلفها ما يكلفها فلا تتأبى عليه‏!‏ والمسألة قيم يزنها بميزانها الصحيح‏.‏ فهذه قيمة الدنيا وهذه قيمة الآخرة كما ينبغي أن يستشعرها المؤمن؛ ثم يسير في متاع الحياة الدنيا على ضوئها، مالكاً لحريته معتدلاً في نظرته‏:‏ الدنيا لهو ولعب، والآخرة حياة مليئة بالحياة‏.‏

وبعد هذه الوقفة للوزن والتقويم يمضي في عرض ما هم فيه من متناقضات‏:‏

‏{‏فإذا ركبوا في الفلك دعوا لله مخلصين له الدين‏.‏ فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا كذلك من التناقض والاضطراب‏.‏ فهم إذا ركبوا في الفلك؛ وأصبحوا على وجه اليم كاللعبة تتقاذفها الأمواج؛ لم يذكروا إلا الله‏.‏ ولم يشعروا إلا بقوة واحدة يلجأون إليها هي قوة الله‏.‏ ووحدوه في مشاعرهم وعلى ألسنتهم سواء؛ وأطاعوا فطرتهم التي تحس وحدانية الله‏:‏ ‏{‏فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون‏}‏ ونسوا وحي الفطرة المستقيم؛ ونسوا دعاءهم لله وحده مخلصين له الدين؛ وانحرفوا إلى الشرك بعد الإقرار والتسليم‏!‏

وغاية هذا الانحراف أن ينتهي بهم إلى الكفر بما آتاهم الله من النعمة، وما آتاهم من الفطرة، وما آتاهم من البينة؛ وأن يتمتعوا متاع الحياة الدنيا المحدود إلى الأجل المقدور‏.‏