فصل: تفسير الآيات (180- 189):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ولكنه- وهو يقدر النتائج كلها- أنفذ الشورى. وانفذ ما استقرت عليه ذلك كي تجابه الجماعة المسلمة نتائج التبعة الجماعية وتتعلم كيف تحتمل تبعة الرأي وتبعة العمل. لأن هذا في تقديره صلى الله عليه وسلم وفي تقدير المنهج الإسلامي الذي ينفذه أهم من اتقاء الخسائر الجسيمة ومن تجنيب الجماعة تلك التجربة المريرة. فتجنيب الجماعة التجربة معناه حرمانها الخبرة وحرمانها المعرفة وحرمانها التربية!
ثم يجيء الأمر الإلهي له بالشورى- بعد المعركة كذلك- تثبيتاً للمبدأ في مواجهة نتائجه المريرة.
فيكون هذا أقوى وأعمق في إقراره من ناحية وفي إيضاح قواعد المنهج من ناحية..
إن الإسلام لا يؤجل مزاولة المبدأ حتى تستعد الأمة لمزاولته! فهو يعلم أنها لن تستعد أبداً لمزاولته إلا إذا زاولته فعلاً وإن حرمانها من مزاولة مبادئ حياتها الأساسية- كمبدأ الشورى- شر من النتائج المريرة التي تتعرض لها في بدء استعماله وأن الأخطاء في مزاولته- مهما بلغت من الجسامة- لا تبرر إلغاءه بل لا تبرر وقفة فترة من الوقت لإنه إلغاء أو وقف لنموها الذاتي ونمو خبرتها بالحياة والتكاليف. بل هو إلغاء لوجودها كأمة إطلاقاً!
وهذا هو الإيحاء المستفاد من قوله تعالى- بعد كل ما كان من نتائج الشورى في المعركة: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}.
كما أن المزاولة العملية للمبادئ النظرية تتجلى في تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رفض أن يعود إلى الشورى بعد العزم على الرأي المعين واعتباره هذا تردداً وأرجحة. وذلك لصيانة مبدأ الشورى ذاته من أن يصبح وسيلة للتأرجح الدائم والشلل الحركي. فقال قولته التربوية المأثورة: «ما كان لنبي أن يضع لأمته حتى يحكم الله له». ثم جاء التوجيه الإلهي الأخير: {فإذا عزمت فتوكل على الله}.. فتطابق في- المنهج- التوجيه والتنفيذ..
6- وهناك حقيقة أخيرة نتعلمها من التعقيب القرآني على مواقف الجماعة المسلمة التي صاحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي تمثل أكرم رجال هذه الأمة على الله.. وهي حقيقة نافعة لنا في طريقنا إلى استئناف حياة إسلامية بعون الله..
إن منهج الله ثابت وقيمه وموازينه ثابتة والبشر يبعدون أو يقربون من هذا المنهج ويخطئون ويصيبون في قواعد التصور وقواعد السلوك. ولكن ليس شيء من أخطائهم محسوباً على المنهج ولا مغيراً لقيمه وموازينه الثابتة.
وحين يخطئ البشر في التصور أو السلوك فإنه يصفهم بالخطأ. وحين ينحرفون عنه فإنه يصفهم بالانحراف. ولا يتغاضى عن خطئهم وانحرافهم- مهما تكن منازلهم وأقدارهم- ولا ينحرف هو ليجاري انحرافهم!
ونتعلم نحن من هذا أن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج! وأنه من الخير للأمة المسلمة أن تبقى مبادئ منهجها سليمة ناصعة قاطعة وأن يوصف المخطئون والمنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه- أياً كانوا- وألا تبرر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبداً بتحريف المنهج وتبديل قيمه وموازينه. فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف.. فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص. والواقع التاريخي للإسلام ليس هو كل فعل وكل وضع صنعه المسلمون في تاريخهم. وإنما هو كل فعل وكل وضع صنعوه موافقاً تمام الموافقة للمنهج ومبادئه وقيمه الثابتة.
وإلا فهو خطأ أو انحراف لا يحسب على الإسلام وعلى تاريخ الإسلام؛ إنما يحسب على أصحابه وحدهم ويوصف أصحابه بالوصف الذي يستحقونه: من خطأ أو انحراف أو خروج على الإسلام.. إن تاريخ الإسلام ليس هو تاريخ المسلمين ولو كانوا مسلمين بالاسم أو باللسان! إن تاريخ الإسلام هو تاريخ التطبيق الحقيقي للإسلام في تصورات الناس وسلوكهم وفي أوضاع حياتهم ونظام مجتمعاتهم.. فالإسلام محور ثابت تدور حوله حياة الناس في إطار ثابت. فإذا هم خرجوا عن هذا الإطار أو إذا هم تركوا ذلك المحور بتاتاً فما للإسلام وما لهم يومئذ؟ وما لتصرفاتهم وأعمالهم هذه تحسب على الإسلام أو يفسر بها الإسلام؟ بل ما لهم هم يوصفون بأنهم مسلمون إذا خرجوا على منهج الإسلام وأبوا تطبيقه في حياتهم وهم إنما كانوا مسلمين لأنهم يطبقون هذا المنهج في حياتهم لا لأن أسماءهم أسماء مسلمين ولا لأنهم يقولون بأفواههم: إنهم مسلمون؟!
وهذا ما أراد الله- سبحانه- أن يعلمه للأمة المسلمة وهو يكشف أخطاء الجماعة المسلمة ويسجل عليها النقص والضعف ثم يرحمها بعد ذلك ويعفو عنها ويعفيها من جرائر النقص والضعف في حسابه. وإن يكن أذاقها جرائر هذا النقص والضعف في ساحة الابتلاء!

.تفسير الآيات (180- 189):

{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}
انتهى الاستعراض القرآني للمعركة- معركة أحد- ولكن المعركة الدائبة بين الجماعة المسلمة وأعدائها المحيطين بها في المدينة- وبخاصة اليهود- لم تكن قد انتهت بعد. معركة الجدل والمراء، والتشكيك والبلبلة، والكيد والدس، والتربص والتدبير.. هذه المعركة التي استغرقت الشطر الأكبر من هذه السورة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلى بني قينقاع عن جواره في المدينة، بعد ما كان منهم- عقب غزوة بدر- من غيظ وكيد، وتحرش بالمسلمين، ونقض للمواثيق التي عقدها معهم النبي صلى الله عليه وسلم عند مقدمه إلى المدينة، وقيام الدولة المسلمة برياسته مرتكنة إلى المسلمين من الأوس والخزرج.. ولكن كان بقي من حوله: بنو النضير، وبنو قريظة، وغيرهم من يهود خيبر وسواهم في الجزيرة.. وكلهم يتراسلون ويتجمعون، ويتصلون بالمنافقين في المدينة، وبالمشركين في مكة وفيما حول المدينة، ويكيدون للمسلمين كيداً لا ينقطع ولا يكف.
وقد ورد في أوائل سورة آل عمران تحذير لليهود أن يصيبهم على أيدي المسلمين ما أصاب المشركين: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} فلما أبلغهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التحذير- الذي جاء رداً على أفاعيلهم وما بدا منهم من الغيظ والدس والكيد عقب بدر- أساءوا أدبهم في استقباله؛ وقالوا: يا محمد. لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال. إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وإنك لم تلق مثلنا. ثم مضوا في دسهم وكيدهم، الذي روت هذه السورة منه الواناً شتى، حتى انتهى أمرهم بنقض ما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من العهد. فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فأجلاهم عن المدينة إلى أذرعات.. وبقيت الطائفتان الأخريان: بنو قريظة وبنو النضير بالمدينة على عهدهما- في الظاهر- مع الكيد والدس والتلبيس والتضليل والبلبلة والفتنة.. وسائر ما برعت فيه يهود في تاريخها كله، وسجله عليها السجل الصادق- كتاب الله- وتعارفه أهل الأرض كلهم، عن ذلك الجنس الملعون!
وفي هذا الدرس استعراض لبعض أفاعيل يهود وأقاويلها. يبدو فيه سوء الأدب مع الله- سبحانه- بعد سوء الفعل مع المسلمين. وهم يبخلون بالوفاء بتعهداتهم المالية للرسول صلى الله عليه وسلم ثم يزيدون فيقولون: {إن الله فقير ونحن أغنياء}!
ويبدو فيه التعلل الواهي، الذي يدفعون به دعوة الإسلام الموجهة إليهم؛ وكذب هذا التعلل، ومخالفته لواقعهم التاريخي المعروف.
هذا الواقع الذي ينضح بمخالفتهم لعهد الله معهم، وبكتمانهم لما أمرهم الله ببيانه من الحق، ونبذه وراء ظهورهم وشرائهم به ثمناً قليلاً. وبقتلهم أنبياءهم بغير حق، وقد جاءوهم بالخوارق التي طلبوها، وجاءوهم بالبينات فرفضوها.
وهذا الكشف المخجل لأفاعيل اليهود مع أنبيائهم، وأقاويلهم على ربهم، كان هو الأمر الذي يقتضيه سوء موقفهم من الجماعة المسلمة، وتأثير كيدهم ودسهم وإيذائهم- هم والمشركون- للمسلمين. كما كانت تقتضيه تربية الله للجماعة المسلمة تربية واعية؛ تبصرهم بما حولهم، وبمن حولهم؛ وتعرفهم طبيعة الأرض التي يعملون فيها، وطبيعة العقبات والفخاخ المنصوبة لهم، وطبيعة الآلام والتضحيات المرصودة لهم في الطريق.. وقد كان الكيد اليهودي للجماعة المسلمة في المدينة أقسى وأخطر من عداوة المشركين لهم في مكة. ولعله ما يزال أخطر ما يرصد للجماعات المسلمة في كل مكان، على مدار التاريخ..
ومن ثم نجد التوجيهات الربانية تتوالى على المسلمين في ثنايا الاستعراض المثير.. نجد توجيههم إلى حقيقة القيم الباقية والقيم الزائلة. فالحياة في هذه الأرض محدودة بأجل. وكل نفس ذائقة الموت على كل حال. إنما الجزاء هناك، والكسب والخسارة هناك. {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}.. وهم مبتلون في أموالهم وأنفسهم، والأذى سينالهم من أعدائهم المشركين وأهل الكتاب. فلا عاصم لهم إلا الصبر والتقوى، والمضي مع المنهج، الذي يزحزحهم عن النار!
وهذا التوجيه الإلهي للجماعة المسلمة في المدينة ما يزال هو هو، قائماً اليوم وغداً، يبصر كل جماعة مسلمة تعتزم سلوك الطريق، لإعادة نشأة الإسلام ولاستئناف حياة إسلامية في ظل الله.. يبصرها بطبيعة أعدائها- وهم هم مشركين وملحدين وأهل كتاب- الصهيونية العالمية والصليبية العالمية والشيوعية!- ويبصرها بطبيعة العقبات والفخاخ المرصودة في طريقها، وبطبيعة الآلام والتضحيات والأذى والابتلاء. ويعلق قلوبها وأبصارها بما هنالك. بما عند الله. ويهوّن عليها الأذى والموت والفتنة في النفس والمال. ويناديها- كما نادى الجماعة المسلمة الأولى-: {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}..
والقرآن هو القرآن. كتاب هذه الأمة الخالد. ودستورها الشامل. وحاديها الهادي. وقائدها الأمين. وأعداؤها هم أعداؤها.. والطريق هو الطريق..
{ولا يحسبن الذي يبخلون بما أتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير.
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير}..
لم ترد في الآية الأولى من هذه المجموعة رواية مؤكدة، عمن تعنيهم، ومن تحذرهم البخل، وعاقبة يوم القيامة.. ولكن ورودها في هذا السياق يرجح أنها متصلة بما بعدها من الآيات، في شأن اليهود. فهم- قبحهم الله- الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء. وهم الذين قالوا: إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار.
والظاهر أن الآيات في عمومها نزلت بمناسبة دعوة اليهود إلى الوفاء بالتزاماتهم المالية الناشئة عن معاهدتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوتهم كذلك إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والإنفاق في سبيل الله.
وقد نزل هذا التحذير التهديدي، مع فضح تعلات اليهود في عدم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم رداً على ما بدا من سوء أدبهم مع ربهم، ومن كذب تعلاتهم؛ ونزلت معه المواساة للرسول صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم، بما وقع للرسل قبله مع أقوامهم. ومنهم أنبياء بني إسرائيل، الذي قتلوهم بعد ما جاءوهم بالبينات والخوارق كما هو معروف في تاريخ بني إسرائيل:
{ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير}..
إن مدلول الآية عام. فهو يشمل اليهود الذين بخلوا بالوفاء بتعهداتهم، كما يشمل غيرهم ممن يبخلون بما آتاهم الله من فضله؛ ويحسبون أن هذا البخل خير لهم، يحفظ لهم أموالهم، فلا تذهب بالإنفاق.
والنص القرآني ينهاهم عن هذا الحسبان الكاذب؛ ويقرر أن ما كنزوه سيطوقونه يوم القيامة ناراً.. وهو تهديد مفزع.. والتعبير يزيد هذا البخل شناعة حين يذكر أنهم {يبخلون بما آتاهم الله من فضله}.. فهم لا يبخلون بمال أصيل لهم. فقد جاءوا إلى هذه الحياة لا يملكون شيئاً.. ولا جلودهم..! فآتاهم الله من فضله فأغناهم. حتى إذا طلب إليهم أن ينفقوا {من فضله} شيئاً لم يذكروا فضل الله عليهم. وبخلوا بالقليل، وحسبوا أن في كنزه خيراً لهم. وهو شر فظيع. وهم- بعد هذا كله- ذاهبون وتاركوه وراءهم. فالله هو الوارث: {ولله ميراث السماوات والأرض}.. فهذا الكنز إلى أمد قصير. ثم يعود كله إلى الله.
ولا يبقى لهم منه إلا القدر الذي أنفقوه ابتغاء مرضاته. فيبقى مدخراً لهم عنده، بدلاً من أن يطوقهم إياه يوم القيامة!
ثم يندد باليهود الذين وجدوا في أيديهم المال- الذي آتاهم الله من فضله- فحسبوا أنفسهم أغنياء عن الله، لا حاجة بهم إلى جزائه، ولا إلى الأضعاف المضاعفة التي يعدها لمن يبذل في سبيله- وهو ما يسميه تفضلاً منه ومنة إقراضاً له سبحانه- وقالوا في وقاحة: ما بال الله يطلب الينا أن نقرضه من مالنا. ويعطينا عليه الأضعاف المضاعفة، وهو ينهى عن الربا والأضعاف المضاعفة؟! وهو تلاعب بالألفاظ ينم عن القحة وسوء الأدب في حق الله: