فصل: تفسير الآيات (114- 126):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وللحساب عليها والجزاء. ولقاعدة الجزاء عامة. القاعدة العادلة التي يعامل بها الله العباد. ويطلب إليهم أن يحاولوا محاكاتها في تعاملهم فيما بينهم، وأن يتخلقوا بخلق الله- خلق العدل- فيها:
{ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً}..
إنها آيات ثلاث تقرر المبادئ الكلية التي يعامل بها الله عباده؛ والتي يملك العباد أن يعاملوا بعضهم بعضاً بها، ويعاملوا الله على أساسها فلا يصيبهم السوء.
الآية الأولى تفتح باب التوبة على مصراعيه، وباب المغفرة على سعته؛ وتطمع كل مذنب تائب في العفو والقبول:
{ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً}.. إنه- سبحانه- موجود للمغفرة والرحمة حيثما قصده مستغفر منيب.. والذي يعمل السوء يظلم غيره. ويظلم نفسه. وقد يظلم نفسه وحدها إذا عمل السيئة التي لا تتعدى شخصه.. وعلى أية حال فالغفور الرحيم يستقبل المستغفرين في كل حين؛ ويغفر لهم ويرحمهم متى جاءوه تائبين. هكذا بلا قيد ولا شرط ولا حجاب ولا بوّاب! حيثما جاءوا تائبين مستغفرين وجدوا الله غفوراً رحيماً..
والآية الثانية تقرر فردية التبعة. وهي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي في الجزاء، والتي تثير في كل قلب شعور الخوف وشعور الطمأنينة. الخوف من عمله وكسبه. والطمأنينة من أن لا يحمل تبعة غيره.
{ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً}..
ليست هناك خطيئة موروثة في الإسلام، كالتي تتحدث عنها تصورات الكنيسة، كما أنه ليست هناك كفارة غير الكفارة التي تؤديها النفس عن نفسها.. وعندئذ تنطلق كل نفس حذرة مما تكسب. مطمئنة إلى أنها لا تحاسب إلا على ما تكسب.. توازن عجيب، في هذا التصور الفريد. هو إحدى خصائص التصور الإسلامي وأحد مقوماته، التي تطمئن الفطرة، وتحقق العدل الإلهي المطلق؛ المطلوب أن يحاكيه بنو الإنسان.
والآية الثالثة تقرر تبعة من يكسب الخطيئة ثم يرمي بها البريء.. وهي الحالة المنطبقة على حالة العصابة التي يدور عليها الكلام:
{ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً}..
البهتان في رميه البريء. والإثم في ارتكابه الذنب الذي رمى به البريء.. وقد احتملهما معه. وكأنما هما حمل يحمل. على طريقة التجسيم التي تبرز المعنى وتؤكده في التعبير القرآني المصور.
وبهذه القواعد الثلاث يرسم القرآن ميزان العدالة الذي يحاسب كل فرد على ما اجترح. ولا يدع المجرم يمضي ناجياً إذا ألقى جرمه على سواه.. وفي الوقت ذاته يفتح باب التوبة والمغفرة على مصراعيه؛ ويضرب موعداً مع الله- سبحانه- في كل لحظة للتائبين المستغفرين، الذين يطرقون الأبواب في كل حين.
بل يلجونها بلا استئذان فيجدون الرحمة والغفران!
وأخيراً يمن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أن عصمه من الانسياق وراء المتآمرين المبيتين؛ فأطلعه على مؤامراتهم التي يستخفون بها من الناس ولا يستخفون بها من الله- وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول- ثم يمتن عليه المنة الكبرى في إنزال الكتاب والحكمة وتعليمه ما لم يكن يعلم.. وهي المنة على البشرية كلها، ممثلة ابتداء في شخص أكرمها على الله وأقربها لله:
{ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً}.
إن هذه المحاولة ليست إلا واحدة من محاولات كثيرة، شتى الألوان والأنواع؛ مما بذله أعداء هذا الرسول الكريم ليضلوه عن الحق والعدل والصواب. ولكن الله- سبحانه- كان يتولاه بفضله ورحمته في كل مرة.
وكان الكائدون المتأمرون هم الذين يضلون ويقعون في الضلالة.. وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حافلة بتلك المحاولات؛ ونجاته وهدايته؛ وضلال المتآمرين وخيبتهم.
والله- سبحانه- يمتن عليه بفضله ورحمته هذه؛ ويطمئنه في الوقت ذاته أنهم لا يضرونه شيئاً. بفضل من الله ورحمة.
وبمناسبة المنة في حفظه من هذه المؤامرة الأخيرة؛ وصيانة أحكامه من أن تتعرض لظلم بريء وتبرئة جارم، وكشف الحقيقة له وتعريفه بالمؤامرة.. تجيء المنة الكبرى.. منة الرسالة:
{وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً}.
وهي منة الله على الإنسان في هذه الأرض. المنة التي ولد الإنسان معها ميلاداً جديداً. ونشأ بها الإنسان كما نشأ أول مرة بنفخة الروح الأولى..
المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية، لترقى بها في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة. عن طريق المنهج الرباني الفريد العجيب..
المنة التي لا يعرف قدرها إلا الذي عرف الإسلام وعرف الجاهلية- جاهلية الغابر والحاضر- وذاق الإسلام وذاق الجاهلية..
وإذا كانت منة يذكر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فلأنه هو أول من عرفها وذاقها. وأكبر من عرفها وذاقها. وأعرف من عرفها وذاقها..
{وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً}.

.تفسير الآيات (114- 126):

{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)}
يتصل هذا الدرس بالدرس السابق، بأكثر من صلة. فهو أولاً نزلت بعض آياته تعليقاً وتعقيباً على الأحداث التي تلت حادث اليهودي. من ارتداد بشير بن أبيرق ومشاقته للرسول صلى الله عليه وسلم وعودته إلى الجاهلية؛ التي تحدث هذا الدرس عنها، وعن تصوراتها وحماقاتها وعلاقاتها بالشيطان، ودور الشيطان فيها! ويقرر أن الله لا يغفر أن يشرك به. ويغفر ما دون ذلك- لمن يشاء. وهو ثانياً يتحدث عن النجوى والتآمر؛ وأنه لا خير في كثير مما يتناجون به، من أمثال ما بيتوا في ذلك الحادث وتناجوا. ويحدد أنواع النجوى التي يحبها الله؛ وهي التناجي في فعل الخير والمعروف والإصلاح بين الناس. ويقرر جزاء هذه النجوى وتلك عند الله.. وأخيراً يقرر القواعد العادلة التي يجازي بها الله على الأعمال؛ وأنها ليست تابعة لرغبات أحد من الناس وتمنياتهم. لا أماني المسلمين ولا أماني أهل الكتاب. إنما هي ترجع إلى عدل الله المطلق؛ وإلى الحق الذي لو اتبع أهواءهم لفسدت السماوات والأرض..
فالدرس كله، موضوعاً واتجاهاً، موصول الأسباب بالدرس السابق من هذه الناحية..
ثم هو حلقة من حلقات المنهج التربوي الحكيم، في إعداد هذه الجماعة لتكون الأمة التي تقود البشرية؛ بتفوقها التربوي والتنظيمي؛ وليعالج فيها مواضع الضعف البشري ورواسب المجتمع الجاهلي؛ وليخوض بها المعركة في ميادينها كلها.. وهو الهدف الذي تتوخاه السورة بشتى موضوعاتها، ويتولاه المنهج القرآني كله..
{لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً}..
لقد تكرر في القرآن النهي عن النجوى؛ وهي أن تجتمع طائفة بعيداً عن الجماعة المسلمة، وعن القيادة المسلمة، لتبيت أمراً.. وكان اتجاه التربية الإسلامية واتجاه التنظيم الإسلامي كذلك أن يأتي كل إنسان بمشكلته أو بموضوعه، فيعرضه على النبي صلى الله عليه وسلم مسارة إن كان أمراً شخصياً لا يريد أن يشيع عنه شيء في الناس. أو مساءلة علنية إن كان من الموضوعات ذات الصبغة العامة، التي ليست من خصوصيات هذا الشخص.
والحكمة في هذه الخطة، هو ألا تتكون جيوب في الجماعة المسلمة؛ وألا تنعزل مجموعات منها بتصوراتها ومشكلاتها، أو بأفكارها واتجاهاتها. وألا تبيت مجموعة من الجماعة المسلمة أمراً بليل، وتواجه به الجماعة أمراً مقرراً من قبل؛ أو تخفيه عن الجماعة وتستخفي به عن أعينها- وإن كانت لا تختفي به عن الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول.
وهذا الموضع أحد المواضع التي ورد فيها هذا النهي عن التناجي والتبييت بمعزل عن الجماعة المسلمة وقيادتها.
ولقد كان المسجد هو ندوة الجماعة المسلمة، تتلاقى فيه وتتجمع للصلاة ولشؤون الحياة. وكان المجتمع المسلم كله مجتمعاً مفتوحاً؛ تعرض مشكلاته- التي ليست بأسرار للقيادة في المعارك وغيرها؛ والتي ليست بمسائل شخصية بحتة لا يحب أصحابها أن تلوكها الألسن- عرضاً عاماً. وكان هذا المجتمع المفتوح من ثم مجتمعاً نظيفاً طلق الهواء. لا يتجنبه ليبيت من وراء ظهره، إلا الذين يتآمرون عليه! أو على مبدأ من مبادئه- من المنافقين غالباً- وكذلك اقترنت النجوى بالمنافقين في معظم المواضع.
وهذه حقيقة تنفعنا. فالمجتمع المسلم يجب أن يكون بريئاً من هذه الظاهرة، وأن يرجع أفراده إليه وإلى قيادتهم العامة بما يخطر لهم من الخواطر، أو بما يعرض لهم من خطط واتجاهات أو مشكلات!
والنص القرآني هنا يستثني نوعاً من النجوى.. هو في الحقيقة ليس منها، وإن كان له شكلها:
{إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}..
وذلك أن يجتمع الرجل الخير بالرجل الخير، فيقول له: هلم نتصدق على فلان فقد علمت حاجته في خفية عن الأعين. أو هلم إلى معروف معين نفعله أو نحض عليه. أو هلم نصلح بين فلان وفلان فقد علمت أن بينهما نزاعاً.. وقد تتكون العصبة من الخيرين لأداء أمر من هذه الأمور، وتتفق فيما بينها سراً على النهوض بهذا الأمر. فهذا ليس نجوى ولا تآمراً. ومن ثم سماه أمراً وإن كان له شكل النجوى، في مسارة الرجل الخير للخيرين أمثاله بأمر في معروف يعلمه أو خطر له..
على شرط أن يكون الباعث هو ابتغاء مرضاة الله:
{ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً}..
فلا يكون لهوى في الصدقة على فلان، أو الإصلاح بين فلان وعلان. ولا يكون ليشتهر الرجل بأنه- والله رجل طيب-! يحض على الصدقة والمعروف، ويسعى في الإصلاح بين الناس! ولا تكون هناك شائبة تعكر صفاء الاتجاه إلى الله، بهذا الخير. فهذا هو مفرق الطريق بين العمل يعمله المرء فيرضى الله عنه ويثيبه به. والعمل نفسه يعمله المرء فيغضب الله عليه، ويكتبه له في سجل السيئات!
{ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً}.
وقد ذكر في سبب نزول هذه المجموعة من الآيات. أن بشير بن أبيرق قد ارتد والتحق بالمشركين.. {من بعد ما تبين له الهدى}.. فقد كان في صفوف المسلمين، ثم اتبع غير سبيل المؤمنين.. ولكن النص عام، ينطبق على كل حالة، ويواجه كل حالة من مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم ومشاقته كفر وشرك وردة، ينطبق عليه ما ينطبق على ذلك الحادث القديم.
والمشاقة- لغة- أن يأخذ المرء شقاً مقابلاً للشق الذي يأخذه الآخر. والذي يشاق الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يأخذ له شقاً وجانباً وصفاً غير الصف والجانب والشق الذي يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى هذا أن يتخذ له منهجاً للحياة كلها غير منهجه، وأن يختار له طريقاً غير طريقه. فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء يحمل من عند الله منهجاً كاملاً للحياة يشتمل على العقيدة والشعائر التعبدية، كما يشتمل على الشريعة والنظام الواقعي لجوانب الحياة البشرية كلها.. وهذه وتلك كلتاهما جسم هذا المنهج، بحيث تزهق روح هذا المنهج إذا شطر جسمه فأخذ منه شق وطرح شق! والذي يشاق الرسول صلى الله عليه وسلم هو كل من ينكر منهجه جملة، أو يؤمن ببعض ويكفر ببعض، فيأخذ بشق منه ويطرح شقاً!
وقد اقتضت رحمة الله بالناس، ألا يحق عليهم القول، ولا يصلوا جهنم وساءت مصيراً، إلا بعد أن يرسل إليهم رسولاً. وبعد أن يبين لهم. وبعد أن يتبينوا الهدى. ثم يختاروا الضلالة. وهي رحمة الله الواسعة الحانية على هذا المخلوق الضعيف. فإذا تبين له الهدى. أي إذا علم أن هذا المنهج من عند الله. ثم شاق الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، ولم يتبعه ويطعه، ولم يرض بمنهج الله الذي تبين له، فعندئذ يكتب الله عليه الضلال، ويوليه الوجهة التي تولاها، ويلحقه بالكفار والمشركين الذين توجه إليهم. ويحق عليه العذاب المذكور في الآية بنصه:
{ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}..
ويعلل النص هذا المصير البائس السيئ، بأن مغفرة الله- سبحانه- تتناول كل شيء.. إلا أن يشرك به.. فهذه لا مغفرة لمن مات عليها:
{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً}..
والشرك بالله- كما أسلفنا في هذا الجزء عند تفسير مثل هذه الآية من قبل- يتحقق باتخاذ آلهة مع الله اتخاذاً صريحاً على طريقة الجاهلية العربية وغيرها من الجاهليات القديمة- كما يتحقق بعدم إفراد الله بخصائص الألوهية؛ والاعتراف لبعض البشر بهذه الخصائص. كإشراك اليهود والنصارى الذي حكاه القرآن من أنهم {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} ولم يكونوا عبدوهم مع الله. ولكن كانوا فقط اعترفوا لهم بحق التشريع لهم من دون الله. فحرموا عليهم وأحلوا لهم. فاتبعوهم في هذا.