فصل: تفسير الآيات (41- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وهكذا ينبغي أن تفهم حدود الإسلام، في ظل نظامه المتكامل؛ الذي يضع الضمانات للجميع لا لطبقة على حساب طبقة.. والذي يتخذ أسباب الوقاية قبل أن يتخذ أسباب العقوبة. والذي لا يعاقب إلا المعتدين بلا مبرر للاعتداء.. وبعد بيان هذه الحقيقة العامة نستطيع أن نأخذ في الحديث عن حد السرقة..السرقة هي أخذ مال الغير، المحرّز، خفية.. فلابد أن يكون المأخوذ مالاً مقوّماً.. والحد المتفق عليه تقريباً بين فقهاء المسلمين للمال الذي يعد أخذه من حرزه خفية سرقة هو ما يعادل ربع دينار.. أي حوالي خمسة وعشرين قرشاً بنقدنا الحاضر.. ولابد أن يكون هذا المال محرّزاً وأن يأخذه السارق من حرزه، ويخرج به عنه.. فلا قطع مثلاً على المؤتمن على مال إذا سرقه. والخادم المأذون له بدخول البيت لا يقطع فيما يسرق لانه ليس محرّزاً منه. ولا على المستعير إذا جحد العارية. ولا على الثمار في الحقل حتى يؤويها الجرين. ولا على المال خارج البيت أو الصندوق المعد لصيانته.. وهكذا.. ولابد أن يكون هذا المال المحرّز للغير.. فلا قطع حين يسرق الشريك من مال شريكه لأن له فيه شركة فليس خالصاً للغير. والذي يسرق من بيت مال المسلمين لا يقطع لأن له نصيباً فيه فليس خالصاً للغير كذلك.. والعقوبة في مثل هذه الحالات ليست هي القطع، وإنما هي التعزير.. (والتعزير عقوبة دون الحد، بالجلد أو بالحبس أو بالتوبيخ أو بالموعظة في بعض الحالات التي يناسبها هذا حسب رأي القاضي والظروف المحيطة).
والقطع يكون لليد اليمنى إلى الرسغ. فإذا عاد كان القطع في الرجل اليسرى إلى الكعب وهذا هو القدر المتفق عليه في القطع.. ثم تختلف بعد ذلك آراء الفقهاء عند الثالثة والرابعة.
والشبهه تدرأ الحد.. فشبهة الجوع والحاجة تدرأ الحد. وشبهة الشركة في المال تدرأ الحد. ورجوع المعترف في اعترافه- إذا لم يكن هناك شهود- شبهة تدرأ الحد. ونكول الشهود شبهة.. وهكذا..
ويختلف الفقهاء فيما يعدونه شبهة. فأبو حنيفة مثلاً يدرأ الحد في سرقة ما هو مباح الأصل- حتى بعد إحرازه- كسرقة الماء بعد إحرازه، وسرقة الصيد بعد صيده، لأن كليهما مباح الأصل. وإباحة الأصل تورث شبهة في بقائه مباحاً بعد إحرازه. والشركة العامة فيه تورث شبهة في بقاء الشركة بعد الإحراز.. بينما مالك والشافعي وأحمد لا يدرأون الحدّ في مثل هذه الحالة. ويدرأ أبو حنيفة الحدّ في سرقة كل ما يسارع إليه الفساد، كالطعام الرطب والبقول واللحم والخبز وما أشبه.
ويخالفه أبو يوسف ويأخذ برأي الثلاثة.
ولا نملك أن نمضي في تفصيل اختلافات الفقهاء في هذا المجال، فتطلب في كتب الفقة؛ وحسبنا هذه الأمثلة للدلالة على سماحة الإسلام وحرصه على ألا يأخذ الناس بالشبهات.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ادرأوا الحدود بالشبهات» وعمر ابن الخطاب يقول: لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إليَّ من أن أقيمها بالشبهات..
ولكن لابد من كلمة في ملاءمة عقوبة القطع في السرقة؛ بعد بيان موجبات التشدد في أخذ السارق بالحد، في المجتمع المسلم في دار الإسلام؛ بعد توافر أسباب الوقاية وضمانات العدالة..
وعلة فرض عقوبة القطع للسرقة أن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أن يزيد كسبه بكسب غيره. فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال، ويريد أن ينميه من طريق الحرام. وهو لا يكتفي بثمرة عمله، فيطمع في ثمرة عمل غيره. وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور، أو ليرتاح من عناء الكد والعمل. أو ليأمن على مستقبله. فالدافع الذي يدفع إلى السرقة ويرجع إلى هذه الاعتبارات هو زيادة الكسب أو زيادة الثراء.. وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع. لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب، إذ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أياً كان. ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء. وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل، والتخوف الشديد على المستقبل.
فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة. فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية، وارتكب الإنسان الجريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة، فلا يعود للجريمة مرة ثانية.
ذلك هو الأساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية. وإنه لعمري خير أساس قامت عليه عقوبة السرقة من يوم نشأة عالمنا حتى الآن... وتجعل القوانين الحبس عقوبة السرقة. وهي عقوبة قد أخفقت في محاربة الجريمة على العموم. والسرقة على الخصوص. والعلة في هذا الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة. لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل إلا مدة الحبس، وما حاجته إلى الكسب في المحبس وهو موفر الطلبات مكفي الحاجات؟ فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب. وكان لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته، من طريق الحلال والحرام على السواء! واستطاع أن يخدع الناس وأن يظهر أمامهم بمظهر الشريف، فيأمنوا جانبه، ويتعاونوا معه.
فإن وصل في الخاتمة إلى ما يبغي فذلك هو الذي أراد؛ وإن لم يصل إلى بغيته فإنه لم يخسر شيئاً، ولم تفته منفعة ذات بال.
أما عقوبة القطع فتحول بين السارق وبين العمل، أو تنقص من قدرته على العمل والكسب نقصاً كبيراً؛ ففرصة زيادة الكسب مقطوع بضياعها على كل حال، ونقص الكسب إلى حد ضئيل أو انقطاعه هو المرجح في أغلب الأحوال، ولن يستطيع أن يخدع الناس أو يحملهم على الثقة به والتعاون معه رجل يحمل أثر الجريمة في جسمه، وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه. فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة مقطوع به إذا كانت العقوبة القطع؛ وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس. وفي طبيعة الناس كلهم- لا السارق وحده- أن لا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة، وألا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة.
وأعجب بعد ذلك ممن يقولون: إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية في عصرنا الحاضر. كأن الإنسانية والمدنية أن نقابل السارق بالمكافأة على جريمته، وأن نشجعه على السير في غوايته، وأن نعيش في خوف واضطراب، وأن نكد ونشقى ليستولي على ثمار عملنا العاطلون واللصوص!
ثم أعجب بعد ذلك مرة ثانية ممن يقولون: إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية، كأن المدنية والإنسانية أن ننكر العلم الحديث والمنطق الدقيق؛ وأن ننسى طبائع البشر، ونتجاهل تجارب الأمم؛ وأن نلغي عقولنا، ونهمل النتائج التي وصل إليها تفكيرنا، لنأخذ بما يقوله قائله فلا يجد عليه دليلاً إلا التهويل والتضليل!
وإذا كانت العقوبة الصالحة حقاً هي التي تتفق مع المدنية والإنسانية، فإن عقوبة الحبس قد حق عليها الإلغاء، وعقوبة القطع قد كتب لها البقاء. لأن الأخيرة تقوم على أساس متين من علم النفس. وطبائع البشر وتجارب الأمم، ومنطق العقول والأشياء. وهي نفس الأسس التي تقوم عليها المدنية والإنسانية. أما عقوبة الحبس فلا تقوم على أساس من العلم ولا التجربة، ولا تتفق مع منطق العقول ولا طبائع الأشياء.
إن أساس عقوبة القطع هو دراسة نفسية الإنسان وعقليته. فهي إذن عقوبة ملائمة للأفراد، وهي في الوقت ذات صالحة للجماعة، لأنها تؤدي إلى تقليل الجرائم، وتأمين المجتمع. وما دامت العقوبة ملائمة للفرد وصالحة للجماعة، فهي أفضل العقوبات وأعدلها.
ولكن ذلك كله لا يكفي عند بعض الناس لتبرير عقوبة القطع، لأنهم يرونها- كما يقولون- عقوبة موسومة بالقسوة. وتلك حجتهم الأولى والأخيرة. وهي حجة داحضة. فإن اسم العقوبة مشتق من العقاب، ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوما بالرخاوة والضعف، بل يكون لعباً أو عبثاً أو شيئاً قريباً من هذا.
فالقسوة لابد أن تتمثل في العقوبة حتى يصح تسميتها بهذا الاسم والله سبحانه وهو أرحم الراحمين يقول وهو يشدد عقوبة السرقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله فهي تنكيل من الله رادع والردع عن ارتكاب الجريمة رحمة بمن تحدثه نفسه بها لأنه يكفه عنها ورحمة بالجماعة كلها لأنه يوفر لها الطمأنينة ولن يدعي أحد أنه أرحم بالناس من خالق الناس إلا وفي قلبه عمى وفي روحه أنطماس والواقع يشهد أن عقوبة القطع لم تطبق في خلال نحو قرن من الزمان في صدر الإسلام إلا في آحاد؛ لأن المجتمع بنظامه والعقوبة بشدتها والضمانات بكفايتها لم تنتج إلا هذه الآحاد ثم يفتح الله باب التوبة لمن يريد أن يتوب على أن يندم ويرجع ويكف؛ ثم لا يقف عند هذه الحدود السلبية بل يعمل عملا صالحا ويأخذ في خير إيجابي فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم فالظلم عمل إيجابي شرير مفسد؛ ولا يكفي أن يكف الظالم عن ظلمه ويقعد بل لابد أن يعوضه بعمل إيجابي خير مصلح على أن الأمر في المنهج الرباني أعمق من هذا فالنفس الإنسانية لابد أن تتحرك فإذا هي كفت عن الشر والفساد ولم تتحرك للخير والصلاح بقي فيها فراغ وخواء قد يرتدان بها إلى الشر والفساد فأما حين تتحرك إلى الخير والصلاح فإنها تأمن الارتداد إلى الشر والفساد؛ بهذه الإيجابية وبهذا الامتلاء إن الذي يربي بهذا المنهج هو الله الذي خلق والذي يعلم من خلق وعلى ذكر الجريمة والعقوبة وذكر التوبة والمغفرة يعقب السياق القرآني بالمبدأ الكلي الذي تقوم عليه شريعة الجزاء في الدنيا والآخرة فخالق هذا الكون ومالكه هو صاحب المشيئة العليا فيه وصاحب السلطان الكلي في مصائره هو الذي يقرر مصائره ومصائر من فيه كما أنه هو الذي يشرع للناس في حياتهم ثم يجزيهم على عملهم في دنياهم وآخرتهم ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير فهي سلطة واحدة سلطة الملك يصدر عنها التشريع في الدنيا ويصدر عنها الجزاء في الآخرة ولا تعدد ولا انقسام ولا انفصام ولا يصلح أمر الناس إلا حين تتوحد سلطة التشريع وسلطة الجزاء في الدنيا والآخرة سواء ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله.

.تفسير الآيات (41- 50):

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}
يتناول هذا الدرس أخطر قضية من قضايا العقيدة الإسلامية، والمنهج الإسلامي. ونظام الحكم والحياة في الإسلام.. وهي القضية التي عولجت في سورتي آل عمران والنساء من قبل.. ولكنها هنا في هذه السورة تتخذ شكلاً محدداً مؤكداً؛ يدل عليها النص بألفاظه وعباراته، لا بمفهومه وإيحائه..
إنها قضية الحكم والشريعة والتقاضي- ومن ورائها قضية الألوهية والتوحيد والايمان- والقضية في جوهرها تتلخص في الإجابة على هذا السؤال: أيكون الحكم والشريعة والتقاضي حسب مواثيق الله وعقوده وشرائعه التي استحفظ عليها أصحاب الديانات السماوية واحدة بعد الأخرى؛ وكتبها على الرسل، وعلى من يتولون الأمر بعدهم ليسيروا على هداهم؟ أم يكون ذلك كله للأهواء المتقلبة، والمصالح التي لا ترجع الى أصل ثابت من شرع الله، والعرف الذي يصطلح عليه جيل أو أجيال؟ وبتعبير آخر: أتكون الألوهية والربوبية والقوامة لله في الأرض وفي حياة الناس؟ أم تكون كلها أو بعضها لأحد من خلقه يشرع للناس ما لم يأذن به الله؟
الله- سبحانه- يقول: إنه هو الله لا إله إلا هو. وإن شرائعه التي سنها للناس بمقتضى ألوهيته لهم وعبوديتهم له، وعاهدهم عليها وعلى القيام بها؛ هي التي يجب أن تحكم هذه الأرض، وهي التي يجب أن يتحاكم، إليها الناس وهي التي يجب أن يقضي بها الأنبياء ومن بعدهم من الحكام..
والله- سبحانه- يقول: إنه لا هوادة في هذا الأمر، ولا ترخص في شيء منه، ولا انحراف عن جانب ولو صغير. وإنه لا عبرة بما تواضع عليه جيل، أو لما اصطلح عليه قبيل، مما لم يأذن به الله في قليل ولا كثير!
والله- سبحانه- يقول: إن المسألة- في هذا كله- مسألة إيمان أو كفر؛ أو إسلام أو جاهلية؛ وشرع أو هوى. وإنه لا وسط في هذا الأمر ولا هدنة ولا صلح! فالمؤمنون هم الذين يحكمون بما أنزل الله- لا يخرمون منه حرفاً ولا يبدلون منه شيئاً- والكافرون الظالمون الفاسقون هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله. وأنه إما أن يكون الحكام قائمين على شريعة الله كاملة فهم في نطاق الإيمان. وإما أن يكونوا قائمين على شريعة أخرى مما لم يإذن به الله، فهم الكافرون الظالمون الفاسقون. وأن الناس إما أن يقبلوا من الحكام والقضاة حكم الله وقضاءه في أمورهم فهم مؤمنون.. وإلا فما هم بالمؤمنين.. ولا وسط بين هذا الطريق وذاك؛ ولا حجة ولا معذرة، ولا احتجاج بمصلحة. فالله رب الناس يعلم ما يصلح للناس؛ ويضع شرائعه لتحقيق مصالح الناس الحقيقية. وليس أحسن من حكمه وشريعته حكم أو شريعة.
وليس لأحد من عباده أن يقول: إنني أرفض شريعة الله، أو إنني أبصر بمصلحة الخلق من الله.. فإن قالها- بلسانه أو بفعله- فقد خرج من نطاق الإيمان.. هذه هي القضية الخطيرة الكبيرة التي يعالجها هذا الدرس في نصوص تقريرية صريحة.. ذلك إلى جانب ما يصوره من حال اليهود في المدينة، ومناوراتهم ومؤامراتهم مع المنافقين: {من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم}. وما يوجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم لمواجهة هذا الكيد الذي لم تكف عنه يهود، منذ أن قامت للإسلام دولة في المدينة..