فصل: تفسير الآيات (142- 152):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وهذه الكلمة من الله، وهذه الشهادة منه سبحانه، تسكب في قلب المؤمن الاعتزاز بما هو عليه. فهو وحده المهتدي. ومن لا يؤمن بما يؤمن به فهو المشاق للحق المعادي للهدى. ولا على المؤمن من شقاق من لا يهتدي ولا يؤمن، ولا عليه من كيده ومكره. ولا عليه من جداله ومعارضته. فالله سيتولاهم عنه، وهو كافيه وحسبه:
{فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم}.
إنه ليس على المؤمن إلا أن يستقيم على طريقته، وأن يعتز بالحق المستمد مباشرة من ربه، وبالعلامة التي يضعها الله على أوليائه، فيعرفون بها في الأرض:
{صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون}..
صبغة الله التي شاء لها أن تكون آخر رسالاته إلى البشر. لتقوم عليها وحدة إنسانية واسعة الآفاق، لا تعصب فيها ولا حقد، ولا أجناس فيها ولا ألوان.
ونقف هنا عند سمة من سمات التعبير القرآني ذات الدلالة العميقة.. إن صدر هذه الآية من كلام الله التقريري: {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة}.. أما باقيها فهو من كلام المؤمنين.
يلحقه السياق- بلا فاصل- بكلام الباريء سبحانه في السياق. وكله قرآن منزل. ولكن الشطر الأول حكاية عن قول الله، والشطر الثاني حكاية عن قول المؤمنين. وهو تشريف عظيم أن يلحق كلام المؤمنين بكلام الله في سياق واحد، بحكم الصلة الوثيقة بينهم وبين ربهم، وبحكم الاستقامة الواصلة بينه وبينهم. وأمثال هذا في القرآن كثير. وهو ذو مغزى كبير.
ثم تمضي الحجة الدامغة إلى نهايتها الحاسمة:
{قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون}..
ولا مجال للجدل في وحدانية الله وربوبيته. فهو ربنا وربكم، ونحن محاسبون بأعمالنا، وعليكم وزر أعمالكم. ونحن متجردون له مخلصون لا نشرك به شيئاً، ولا نرجو معه أحداً.. وهذا الكلام تقرير لموقف المسلمين واعتقادهم؛ وهو غير قابل للجدل والمحاجة واللجاج..
ومن ثم يضرب السياق عنه، وينتقل إلى مجال آخر من مجالات الجدل. يظهر أنه هو الآخر غير قابل للجاجة والمحال:
{أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى}.
وهم كانوا أسبق من موسى، وأسبق من اليهودية والنصرانية. والله يشهد بحقيقة دينهم- وهو الإسلام كما سبق البيان-:
{قل أأنتم أعلم أم الله}..
وهو سؤال لا جواب عليه! وفيه من الاستنكار ما يقطع الألسنة دون الجواب عليه!
ثم إنكم لتعلمون أنهم كانوا قبل أن تكون اليهودية والنصرانية. وكانوا على الحنيفية الأولى التي لا تشرك بالله شيئاً. ولديكم كذلك شهادة في كتبكم أن سيبعث نبي في آخر الزمان دينه الحنيفية، دين إبراهيم. ولكنكم تكتمون هذه الشهادة:
{ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله}..
والله مطلع على ما تخفون من الشهادة التي ائتمنتم عليها، وما تقومون به من الجدال فيها لتعميتها وتلبيسها:
{وما الله بغافل عما تعملون}..
وحين يصل السياق إلى هذه القمة في الإفحام، وإلى هذا الفصل في القضية، وإلى بيان ما بين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وبين اليهود المعاصرين من مفارقة تامة في كل اتجاه.. عندئذ يعيد الفاصلة التي ختم بها الحديث من قبل عن إبراهيم وذريته المسلمين:
{تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون}..
وفيها فصل الخطاب، ونهاية الجدل، والكلمة الأخيرة في تلك الدعاوى الطويلة العريضة.

.تفسير الآيات (142- 152):

{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}
الحديث في هذا الدرس يكاد يقتصر على حادث تحويل القبلة، والملابسات التي أحاطت به، والدسائس التي حاولها اليهود في الصف المسلم بمناسبته والأقاويل التي أطلقوها من حوله؛ ومعالجة آثار هذه الأقاويل في نفوس بعض المسلمين وفي الصف المسلم على العموم.
ولا توجد رواية قطعية في هذا الحادث، كما أنه لا يوجد قرآن يتعلق بتاريخه بالتفصيل. والآيات الخاصة به هنا تتعلق بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وكان هذا في المدينة بعد ستة عشر أو سبعة عشر شهراً من الهجرة.
ومجموع الروايات المتعلقة بهذا الحادث يمكن أن يستنبط منها- بالإجمال- أن المسلمين في مكة كانوا يتوجهون إلى الكعبة منذ أن فرضت الصلاة- وليس في هذا نص قرآني- وأنهم بعد الهجرة وجهوا إلى بيت المقدس بأمر إلهي للرسول صلى الله عليه وسلم يرجح أنه أمر غير قرآني. ثم جاء الأمر القرآني الأخير: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوكم شطره}.. فنسخه.
وعلى أية حال فقد كان التوجه إلى بيت المقدس- وهو قبلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى- سبباً في اتخاذ اليهود إياه ذريعة للاستكبار عن الدخول في الإسلام، إذ أطلقوا في المدينة ألسنتهم بالقول، بأن اتجاه محمد ومن معه إلى قبلتهم في الصلاة دليل على أن دينهم هو الدين، وقبلتهم هي القبلة؛ وأنهم هم الأصل، فأولى بمحمد ومن معه أن يفيئوا إلى دينهم لا أن يدعوهم إلى الدخول في الإسلام!
وفي الوقت ذاته كان الأمر شاقاً على المسلمين من العرب، الذين ألفوا في الجاهلية أن يعظموا حرمة البيت الحرام؛ وأن يجعلوه كعبتهم وقبلتهم. وزاد الأمر مشقة ما كانوا يسمعونه من اليهود من التبجح بهذا الأمر، واتخاذه حجة عليهم!
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء متجهاً إلى ربه، دون أن ينطق لسانه بشيء، تأدباً مع الله، وانتظاراً لتوجيهه بما يرضاه..
ثم نزل القرآن يستجيب لما يعتمل في صدر الرسول صلى الله عليه وسلم: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره}..
وتقول الروايات: إن هذا كان في الشهر السادس عشر أو السابع عشر من الهجرة، وإن المسلمين حينما سمعوا بتحويل القبلة، كان بعضهم في منتصف صلاة، فحولوا وجوهم شطر المسجد الحرام في أثناء صلاتهم، وأكملوا الصلاة تجاه القبلة الجديدة.
عندئذ انطلقت أبواق- يهود وقد عز عليهم أن يتحول محمد صلى الله عليه وسلم والجماعة المسلمة عن قبلتهم، وأن يفقدوا حجتهم التي يرتكنون إليها في تعاظمهم وفي تشكيك المسلمين في قيمة دينهم- انطلقت تلقي في صفوف المسلمين وقلوبهم بذور الشك والقلق في قيادتهم وفي أساس عقيدتهم.
قالوا لهم: إن كان التوجه- فيما مضى- إلى بيت المقدس باطلاً فقد ضاعت صلاتكم طوال هذه الفترة؛ وإن كانت حقاً فالتوجه الجديد إلى المسجد الحرام باطل، وضائعة صلاتكم إليه كلها.. وعلى أية حال فإن هذا النسخ والتغيير للأوامر- أو للآيات- لا يصدر من الله، فهو دليل على أن محمداً لا يتلقى الوحي من الله!
وتتبين لنا ضخامة ما أحدثته هذه الحملة في نفوس بعض المسلمين وفي الصف الإسلامي من مراجعة ما نزل من القرآن في هذا الموضوع، منذ قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها}- وقد استغرق درسين كاملين في الجزء الأول- ومن مراجعة هذا الدرس في هذا الجزء أيضاً. ومن التوكيدات والإيضاحات والتحذيرات التي سندرسها فيما يلي تفصيلاً عند استعراض النص القرآني.
أما الآن فنقول كلمة في حكمة تحويل القبلة، واختصاص المسلمين بقبلة خاصة بهم يتجهون إليها. فقد كان هذا حادثاً عظيماً في تاريخ الجماعة المسلمة، وكانت له آثار ضخمة في حياتها..
لقد كان تحويل القبلة أولاً عن الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية أشارت إليها آية في هذا الدرس:
{وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}.. فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ويعدونه عنوان مجدهم القومي.. ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله، وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة، المجرد من كل ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية على العموم.. فقد نزعهم نزعاً من الاتجاه إلى البيت الحرام، واختار لهم الاتجاه- فترة- إلى المسجد الأقصى، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، ومن كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول اتباعاً مجرداً من كل إيحاء آخر، اتباع الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة، ممن ينقلب على عقبيه اعتزازاً بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والقوم والأرض والتاريخ؛ أو تتلبس بها في خفايا المشاعر وحنايا الضمير أي تلبس من قريب أو من بعيد..
حتى إذا استسلم المسلمون، واتجهوا إلى القبلة التي وجههم إليها الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الوقت ذاته بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجة لهم، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام. ولكنه ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى بشأنه. هي حقيقة الإسلام. حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون خالصاً لله، وليكون تراثاً للأمة المسلمة التي نشأت تلبية لدعوة إبراهيم ربه أن يبعث في بنيه رسولاً منهم بالإسلام، الذي كان عليه هو وبنوه وحفدته.
كما مر في درس: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}. في الجزء الماضي.
ولقد كان الحديث عن المسجد الحرام: بنائه وعمارته، وما أحاط بهما من ملابسات؛ والجدل مع أهل الكتاب والمشركين حول إبراهيم وبنيه ودينه وقبلته، وعهده ووصيته.. كان هذا الحديث الذي سلف في هذه السورة خير تمهيد للحديث عن تحويل قبلة المسلمين من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بعد هذه الفترة. فتحويل قبلة المسلمين إلى المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم وإسماعيل، ودعوا عنده ذلك الدعاء الطويل.. يبدو في هذا السياق هو الاتجاه الطبيعي المنطقي مع وراثة المسلمين لدين إبراهيم وعهده مع ربه. فهو الاتجاه الحسي المتساوق مع الاتجاه الشعوري، الذي ينشئه ذلك التاريخ.
لقد عهد الله إلى إبراهيم أن يكون من المسلمين؛ وعهد إبراهيم بهذا الإسلام إلى بنيه من بعده، كما عهد به يعقوب- وهو إسرائيل- ولقد علم إبراهيم أن وراثة عهد الله وفضله لا تكون للظالمين.
ولقد عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل بإقامة قواعد البيت الحرام.. فهو تراث لهما، يرثه من يرثون عهد الله إليهما.. والأمة المسلمة هي الوارثة لعهد الله مع إبراهيم وإسماعيل ولفضل الله عليهما؛ فطبيعي إذن ومنطقي أن ترث بيت الله في مكة، وأن تتخذ منه قبلة.
فإذا اتجه المسلمون فترة من الزمان إلى المسجد الأقصى، الذي يتجه إليه اليهود والنصارى، فقد كان هذا التوجه لحكمة خاصة هي التي أشار إليها السياق، وبيناها فيما سبق. فالآن وقد شاء الله أن يعهد بالوراثة إلى الأمة المسلمة، وقد أبى أهل الكتاب أن يفيئوا إلى دين أبيهم إبراهيم- وهو الإسلام- فيشاركوا في هذه الوراثة.. الآن يجيء تحويل القبلة في أوانه. تحويلها إلى بيت الله الأول الذي بناه إبراهيم. لتتميز للمسلمين كل خصائص الوراثة. حسيها وشعوريها، وراثة الدين، ووراثة القبلة، ووراثة الفضل من الله جميعاً.
إن الاختصاص والتميز ضروريان للجماعة المسلمة: الاختصاص والتميز في التصور والاعتقاد؛ والاختصاص والتميز في القبلة والعبادة. وهذه كتلك لابد من التميز فيها والاختصاص. وقد يكون الأمر واضحاً فيما يختص بالتصور والاعتقاد؛ ولكنه قد لا يكون بهذه الدرجة من الوضوح فيما يختص بالقبلة وشعائر العبادة.. هنا تعرض التفاتة إلى قيمة أشكال العبادة.
إن الذي ينظر إلى هذه الأشكال مجردة عن ملابساتها، ومجردة كذلك عن طبيعة النفس البشرية وتأثراتها.. ربما يبدو له أن في الحرص على هذه الأشكال بذاتها شيئاً من التعصب الضيق، أو شيئاً من التعبد للشكليات ولكن نظرة أرحب من هذه النظرة، وإدراكاً أعمق لطبيعة الفطرة، يكشفان عن حقيقة أخرى لها كل الاعتبار.
إن في النفس الإنسانية ميلاً فطرياً- ناشئاً من تكوين الإنسان ذاته من جسد ظاهر وروح مغيب- إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة.
فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ أو لا تستقر حتى تتخذ لها شكلاً ظاهراً تدركه الحواس؛ وبذلك يتم التعبير عنها. يتم في الحس كما تم في النفس. فتهدأ حينئذ وتستريح؛ وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغاً كاملاً؛ وتحس بالتناسق بين الظاهر والباطن، وتجد تلبية مريحة لجنوحها إلى الأسرار والمجاهيل وجنوحها إلى الظواهر والأشكال في ذات الأوان.
وعلى هذا الأساس الفطري أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها. فهي لا تؤدى بمجرد النية، ولا بمجرد التوجه الروحي. ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلاً ظاهراً: قياماً واتجاهاً إلى القبلة وتكبيراً وقراءة وركوعاً وسجوداً في الصلاة. وإحراماً من مكان معين ولباساً معيناً وحركة وسعياً ودعاء وتلبية ونحراً وحلقاً في الحج. ونية وامتناعاً عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم.. وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة، ليؤلف بين ظاهر النفس وباطنها، وينسق بين طاقاتها، ويستجيب للفطرة جملة بطريقة تتفق مع تصوره الخاص.