فصل: تفسير الآيات (67- 81):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (67- 81):

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}
يمضي هذا الدرس في بيان حال أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- وكشف الانحراف فيما يعتقدون، وكشف السوء فيما يصنعون؛ في تاريخهم كله- وبخاصة اليهود- كما يمضي في تقرير نوع العلاقة بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم والجماعة المسلمة؛ وواجب الرسول صلى الله عليه وسلم في تعامله معهم وواجب المسلمين.. ذلك إلى تقرير حقائق أساسية ضخمة في أصول التصور الاعتقادي؛ وفي أصول النشاط الحركي للجماعة المسلمة، تجاه المعتقدات المنحرفة وتجاه المنحرفين.
لقد نادى الله- سبحانه- الرسول صلى الله عليه وسلم وكلفه تبليغ ما أنزل إليه من ربه.. كل ما أنزل إليه.. لا يستبقي منه شيئاً، ولا يؤخر منه شيئاً مراعاة للظروف والملابسات، أو تجنباً للاصطدام بأهواء الناس. وواقع المجتمع.. وإن لم يفعل فما يكون قد بلغ..
ومن هذا الذي كلف الرسول صلى الله عليه وسلم تبليغه أن يجابه أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم.. هكذا قاطعة جازمة صريحة جاهرة.. وأن يعلن كذلك كفر اليهود بنقضهم الميثاق وقتلهم الأنبياء، وكفر النصارى بقولهم: إن الله هو المسيح عيسى بن مريم، وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة. كما يعلن أن المسيح- عليه السلام- أنذر بني إسرائيل عاقبة الشرك، وتحريم الله الجنة على المشركين.. وأن بني إسرائيل لعنوا على لسان داود وعيسى بن مريم بعصيانهم وعدوانهم.
وينتهي الدرس بكشف موقف أهل الكتاب من مظاهرة المشركين على المسلمين. وإعلان أن هذا ناشئ من عدم إيمانهم بالله والنبي. وأنهم مدعوون إلى الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وإلا فما هم بالمؤمنين..
ونأخذ بعد هذا الإجمال في مواجهة النصوص بالتفصيل:
{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}..
إنه الأمر الجازم الحاسم للرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه كاملاً، وألا يجعل لأي اعتبار من الاعتبارات حساباً وهو يصدع بكلمة الحق.. هذا، وإلا فما بلغ وما أدّى وما قام بواجب الرسالة.. والله يتولى حمايته وعصمته من الناس، ومن كان الله له عاصماً فماذا يملك له العباد المهازيل!
إن كلمة الحق في العقيدة لا ينبغي أن تجمجم! إنها يجب أن تبلغ كاملة فاصلة؛ وليقل من شاء من المعارضين لها كيف شاء؛ وليفعل من شاء من أعدائها ما يفعل؛ فإن كلمة الحق في العقيدة لا تملق الأهواء؛ ولا تراعي مواقع الرغبات؛ إنما تراعي أن تصدع حتى تصل إلى القلوب في قوة وفي نفاذ.
وكلمة الحق في العقيدة حين تصدع تصل إلى مكامن القلوب التي يكمن فيها الاستعداد للهدى.. وحين تجمجم لا تلين لها القلوب التي لا استعداد فيها للإيمان؛ وهي القلوب التي قد يطمع صاحب الدعوة في أن تستجيب له لو داهنها في بعض الحقيقة!
{إن الله لا يهدي القوم الكافرين}..
وإذن فلتكن كلمة الحق حاسمة فاصلة كاملة شاملة.. والهدى والضلال إنما مناطهما استعداد القلوب وتفتحها، لا المداهنة ولا الملاطفة على حساب كلمة الحق أو في كلمة الحق!
إن القوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة، لا يعني الخشونة والفظاظة؛ فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة- وليس هنالك تعارض ولا اختلاف بين التوجيهات القرآنية المتعددة- والحكمة والموعظة الحسنة لا تجافيان الحسم والفصل في بيان كلمة الحق. فالوسيلة والطريقة إلى التبليغ شيء غير مادة التبليغ وموضوعه. والمطلوب هو عدم المداهنة في بيان كلمة الحق كاملة في العقيدة، وعدم اللقاء في منتصف الطريق في الحقيقة ذاتها. فالحقيقة الاعتقادية ليس فيها أنصاف حلول.. ومنذ الأيام الأولى للدعوة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة في طريقة التبليغ، وكان يفاصل مفاصلة كاملة في العقيدة، فكان مأموراً أن يقول: {يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون..} فيصفهم بصفتهم؛ ويفاصلهم في الأمر، ولا يقبل أنصاف الحلول التي يعرضونها عليه، ولا يدهن فيدهنون، كما يودون! ولا يقول لهم: إنه لا يطلب إليهم إلا تعديلات خفيفة فيما هم عليه، بل يقول لهم: إنهم على الباطل المحض، وإنه على الحق الكامل.. فيصدع بكلمة الحق عالية كاملة فاصلة، في أسلوب لا خشونة فيه ولا فظاظة..
وهذا النداء، وهذا التكليف، في هذه السورة:
{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين}..
يبدو من السياق- قبل هذا النداء وبعده- أن المقصود به مباشرة هو مواجهة أهل الكتاب بحقيقة ما هم عليه، وبحقيقة صفتهم التي يستحقونها بما هم عليه.. ومواجهتهم بأنهم ليسوا على شيء.. ليسوا على شيء من الدين ولا العقيدة ولا الإيمان.. ذلك أنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم.
ومن ثم فلا شيء مما يدعونه لأنفسهم من أنهم أهل كتاب وأصحاب عقيدة وأتباع دين:
{قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم..}.
وحينما كلف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يواجههم بأنهم ليسوا على شيء من الدين والعقيدة والإيمان.. بل ليسوا على شيء أصلاً يرتكن عليه! حينما كلف الرسول صلى الله عليه وسلم بمواجهتهم هذه المواجهة الحاسمة الفاصلة، كانوا يتلون كتبهم؛ وكانوا يتخذون لأنفسهم صفة اليهودية أو النصرانية؛ وكانوا يقولون: إنهم مؤمنون.. ولكن التبليغ الذي كلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يواجههم به، لم يعترف لهم بشيء أصلاً الا مما كانوا يزعمون لأنفسهم، لأن الدين، ليس كلمات تقال باللسان؛ وليس كتباً تقرأ وترتل؛ وليس صفة تورث وتدعى. إنما الدين منهج حياة. منهج يشمل العقيدة المستسرة في الضمير، والعبادة الممثلة في الشعائر، والعبادة التي تتمثل في إقامة نظام الحياة كلها على أساس هذا المنهج.. ولما لم يكن أهل الكتاب يقيمون الدين على قواعده هذه، فقد كلف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يواجههم بأنهم ليسوا على دين؛ وليسوا على شيء أصلاً من هذا القبيل!
وإقامة التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، مقتضاها الأول الدخول في دين الله الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقد أخذ الله عليهم الميثاق أن يؤمنوا بكل رسول ويعزروه وينصروه. وصفة محمد وقومه عندهم في التوراة وعندهم في الإنجيل- كما أخبر الله وهو أصدق القائلين- فهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم: (سواء كان المقصود بقوله: {وما أنزل إليهم من ربهم} هو القرآن- كما يقول بعض المفسرين- أو هو الكتب الأخرى التي أنزلت لهم كزبور داود).. نقول إنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم إلا أن يدخلوا في الدين الجديد، الذي يصدق ما بين يديهم ويهيمن عليه.. فهم ليسوا على شيء- بشهادة الله سبحانه- حتى يدخلوا في الدين الاخير.. والرسول صلى الله عليه وسلم قد كلف أن يواجههم بهذا القرار الإلهي في شأنهم؛ وأن يبلغهم حقيقة صفتهم وموقفهم؛ وإلا فما بلغ رسالة ربه.. ويا له من تهديد!
وكان الله- سبحانه- يعلم أن مواجهتهم بهذه الحقيقة الحاسمة، وبهذه الكلمة الفاصلة، ستؤدي إلى أن تزيد كثيراً منهم طغياناً وكفراً، وعناداً ولجاجاً.. ولكن هذا لم يمنع من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يواجههم بها؛ وألا يأسى على ما يصيبهم من الكفر والطغيان والظلال والشرود بسبب مواجهتهم بها؛ لأن حكمته- سبحانه- تقتضي أن يصدع بكلمة الحق؛ وأن تترتب عليها آثارها في نفوس الخلق.
فيهتدي من يهتدي عن بينة، ويضل من يضل عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيَّ عن بينة:
{وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين}..
وكان الله- سبحانه- يرسم للداعية بهذه التوجيهات منهج الدعوة؛ ويطلعه على حكمة الله في هذا المنهج؛ ويسلي قلبه عما يصيب الذين لا يهتدون، إذا هاجتهم كلمة الحق فازدادوا طغياناً وكفراً؛ فهم يستحقون هذا المصير البائس؛ لأن قلوبهم لا تطيق كلمة الحق؛ ولا خير في أعماقها ولا صدق. فمن حكمة الله أن تواجه بكلمة الحق؛ ليظهر ما كمن فيها وما بطن؛ ولتجهر بالطغيان والكفر؛ ولتستحق جزاء الطغاة والكافرين!
ونعود إلى قضية الولاء والتناصر والتعاون بين المسلمين وأهل الكتاب- على ضوء هذا التبليغ الذي كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ضوء نتائجه التي قدر الله أن تكون في زيادة الكثيرين منهم طغياناً وكفراً.. فماذا نجد..؟
نجد أن الله- سبحانه- يقرر أن أهل الكتاب ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم.. وحتى يدخلوا في الدين الأخير تبعاً لهذه الإقامة كما هو بديهي من دعوتهم إلى الإيمان بالله والنبي. في المواضع الأخرى المتعددة.. فهم إذن لم يعودوا على دين الله ولم يعودوا أهل دين يقبله الله.
ونجد أن مواجهتهم بهذه الحقيقة قد علم الله أنها ستزيد الكثيرين منهم طغياناً وكفراً.. ومع هذا فقد أمر رسوله أن يواجههم بها دون مواربة. ودون أسى على ما سيصيب الكثيرين منها!
فإذا نحن اعتبرنا كلمة الله في هذه القضية هي كلمة الفصل- كما هو الحق والواقع- لم يبق هنالك موضع لاعتبار أهل الكتاب.. أهل دين.. يستطيع المسلم أن يتناصر معهم فيه للوقوف في وجه الإلحاد والملحدين؛ كما ينادي بعض المخدوعين وبعض الخادعين! فأهل الكتاب لم يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم؛ حتى يعتبرهم المسلم على شيء وليس للمسلم أن يقرر غير ما قرره الله: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} وكلمة الله باقية لا تغيرها الملابسات والظروف!
وإذا نحن اعتبرنا كلمة الله هي كلمة الفصل- كما هو الحق والواقع- لم يكن لنا أن نحسب حساباً لأثر المواجهة لأهل الكتاب بهذه الحقيقة، في هياجهم علينا، وفي اشتداد حربهم لنا، ولم يكن لنا أن نحاول كسب مودتهم بالاعتراف لهم بأنهم على دين نرضاه منهم ونقرهم عليه، ونتناصر نحن وإياهم لدفع الإلحاد عنه- كما ندفع الإلحاد عن ديننا الذي هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس.
إن الله- سبحانه- لا يوجهنا هذا التوجيه. ولا يقبل منا هذا الاعتراف. ولا يغفر لنا هذا التناصر، ولا التصور الذي ينبعث التناصر منه. لأننا حينئذ نقرر لأنفسنا غير ما يقرر؛ ونختار في أمرنا غير ما يختار؛ ونعترف بعقائد محرفة أنها دين إلهي، يجتمع معنا في آصرة الدين الإلهي.. والله يقول: إنهم ليسوا على شيء، حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم.. وهم لا يفعلون!
والذين يقولون: إنهم مسلمون- ولا يقيمون ما أنزل إليهم من ربهم- هم كأهل الكتاب هؤلاء، ليسوا على شيء كذلك. فهذه كلمة الله عن أهل أي كتاب لا يقيمونه في نفوسهم وفي حياتهم سواء. والذي يريد أن يكون مسلماً يجب عليه- بعد إقامة كتاب الله في نفسه وفي حياته- أن يواجه الذين لا يقيمونه بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموه. وأن دعواهم أنهم على دين، يردها عليهم رب الدين. فالمفاصلة في هذا الأمر واجبة؛ ودعوتهم إلى الإسلام من جديد هي واجب المسلم الذي أقام كتاب الله في نفسه وفي حياته. فدعوى الإسلام باللسان أو بالوراثة دعوى لا تفيد إسلاماً، ولا تحقق إيماناً، ولا تعطي صاحبها صفة التدين بدين الله، في أي ملة، وفي أي زمان!
وبعد أن يستجيب هؤلاء أو أولئك؛ ويقيموا كتاب الله في حياتهم؛ يملك المسلم أن يتناصر معهم في دفع غائلة الإلحاد والملحدين، عن الدين وعن المتدينين.. فأما قبل ذلك فهو عبث؛ وهو تمييع، يقوم به خادع أو مخدوع!
إن دين الله ليس راية ولا شعاراً ولا وراثة! إن دين الله حقيقة تتمثل في الضمير وفي الحياة سواء. تتمثل في عقيدة تعمر القلب، وشعائر تقام للتعبد، ونظام يصرف الحياة.. ولا يقوم دين الله إلا في هذا الكل المتكامل؛ ولا يكون الناس على دين الله إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وفي حياتهم.. وكل اعتبار غير هذا الاعتبار تمييع للعقيدة، وخداع للضمير؛ لا يقدم عليه مسلم نظيف الضمير!