فصل: تفسير الآيات (4- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



إن هذه الأنظمة والأوضاع ترفع راية الإسلام- أو على الأقل تعلن احترامها للدين- بينما هي تحكم بغير ما أنزل الله؛ وتقصي شريعة الله عن الحياة؛ وتحل ما حرم الله؛ وتنشر تصورات وقيماً مادية عن الحياة والأخلاق تدمر التصورات والقيم الإسلامية؛ وتسلط جميع أجهزة التوجيه والإعلام لتدمير القيم الأخلاقية الإسلامية، وسحق التصورات والاتجاهات الدينية؛ وتنفذ ما نصت عليه مؤتمرات المبشرين وبروتوكولات الصهيونيين، من ضرورة إخراج المرأة المسلمة إلى الشارع، وجعلها فتنة للمجتمع، باسم التطور والتحضر ومصلحة العمل والإنتاج؛ بينما ملايين الأيدي العاملة في هذه البلاد متعطلة لا تجد الكفاف! وتيسر وسائل الانحلال وتدفع الجنسين إليها دفعاً بالعمل والتوجيه.. كل ذلك وهي تزعم أنها مسلمة وأنها تحترم العقيدة! والناس يتوهمون أنهم يعيشون في مجتمع مسلم، وأنهم هم كذلك مسلمون! أليس الطيبون منهم يصلون ويصومون؟ أما أن تكون الحاكمية لله وحده أو تكون للأرباب المتفرقة، فهذا ما قد خدعتهم عنه الصليبية والصهيونية والتبشير والاستعمار والاستشراق وأجهزة الإعلام الموجهة؛ وأفهمتهم أنه لا علاقة له بالدين. وأن المسلمين يمكن أن يكونوا مسلمين؛ وفي دين الله؛ بينما حياتهم كلها تقوم على تصورات وقيم وشرائع وقوانين ليست من هذا الدين!
وإمعاناً في الخداع والتضليل؛ وإمعاناً من الصهيونية العالمية والصليبية العالمية في التخفي، فإنها تثير حروباً مصطنعة- باردة أو ساخنة- وعداوات مصطنعة في شتى الصور، بينها وبين هذه الأنظمة والأوضاع التي أقامتها والتي تكفلها بالمساعدات المادية والأدبية، وتحرسها بالقوى الظاهرة والخفية، وتجعل أقلام مخابراتها في خدمتها وحراستها المباشرة!
تثير هذه الحروب المصطنعة والعداوات المصطنعة، لتزيد من عمق الخدعة؛ ولتبعد الشبهة عن العملاء، الذين يقومون لها بما عجزت هي عن إتمامه في خلال ثلاثة قرون أو تزيد؛ من تدمير القيم والأخلاق؛ وسحق العقائد والتصورات؛ وتجريد المسلمين في هذه الرقعة العريضة من مصدر قوتهم الأول.
وهو قيام حياتهم على أساس دينهم وشريعتهم.. وتنفيذ المخططات الرهيبة التي تضمنتها بروتوكولات الصهيونيين ومؤتمرات المبشرين؛ في غفلة من الرقباء والعيون!
فإذا بقيت بقية في هذه الرقعة لم تجز عليها الخدعة؛ ولم تستسلم للتخدير باسم الدين المزيف؛ وباسم الأجهزة الدينية المسخرة لتحريف الكلم عن مواضعه؛ ولوصف الكفر بأنه الإسلام؛ والفسق والفجور والانحلال، بأنه تطور وتقدم وتجدد.. إذا بقيت بقية كهذه سلطت عليها الحرب الساحقة الماحقة؛ وصبت عليها التهم الكاذبة الفاجرة وسحقت سحقاً، بينما وكالات الأنباء العالمية وأجهزة الإعلام العالمية خرساء صماء عمياء!!!
ذلك بينما الطيبون السذج من المسلمين يحسبون أنها معركة شخصية، أو طائفية، لا علاقة لها بالمعركة المشبوبة مع هذا الدين؛ ويروحون يشتغلون في سذاجة بلهاء- من تأخذه الحمية للدين منهم وللأخلاق- بالتنبيه إلى مخالفات صغيرة، وإلى منكرات صغيرة، ويحسبون أنهم أدوا واجبهم كاملاً بهذه الصيحات الخافتة.. بينما الدين كله يسحق سحقاً، ويدمر من أساسه؛ وبينما سلطان الله يغتصبه المغتصبون، وبينما الطاغوت- الذي أمروا أن يكفروا به- هو الذي يحكم حياة الناس جملة وتفصيلاً!
إن اليهود الصهيونيين والنصارى الصليبيين يفركون أيديهم فرحاً بنجاح الخطة وجواز الخدعة؛ بعدما يئسوا من هذا الدين أن يقضوا عليه مواجهة باسم الإلحاد، أو يحولوا الناس عنه باسم التبشير، فترة طويلة من الزمان..
إلا أن الأمل في الله أكبر؛ والثقة في هذا الدين أعمق، وهم يمكرون والله خير الماكرين. وهو الذي يقول: {وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام} أما مواجهة دليل الخلق ودليل الحياة للوثة الإلحاد، فهي مواجهة قوية، لا يجد الملحدون إزاءها إلاّ المماحلة والمغالطة والالتواء:
إن وجود هذا الكون ابتداء، بهذا النظام الخاص، يستلزم- بمنطق الفطرة البديهي وبمنطق العقل الواعي على السواء- أن يكون وراءه خالق مدبر..
فالمسافة بين الوجود والعدم مسافة لا يملك الإدراك البشري أن يعبرها، إلا بتصور إله ينشئ ويخلق ويوجد هذا الوجود.
والذين يلحدون يعمدون إلى هذه الفجوة فيريدون ملأها بالمكابرة. ويقولون: إنه لا داعي لأن نفترض أنه كان هناك عدم قبل الوجود!.. ومن هؤلاء فيلسوف عرف بأنه فيلسوف الروحية المدافع عنها في وجه المادية. وعلى هذا الأساس ربما أشاد به بعض المخدوعين من المسلمين واستأنسوا بأقواله لدينهم كأنما ليؤازروا دين الله بقول عبد من العبيد.. هذا الفيلسوف هو برجسون.. اليهودي!!!
إنه يقول: إن هذا الوجود الكوني لم يسبقه عدم! وإن فرض الوجود بعدم العدم ناشئ من طبيعة العقل البشري الذي لا يستطيع أن يتصور إلا على هذا النحو.
فإلى أي منطق يا ترى يستند برجسون إذن في إثبات أن الوجود الكوني لم يسبقه عدم؟
إلى العقل؟ لا. فإن العقل- كما يقرر- لا يمكن أن يتصور إلا وجوداً بعد عدم! إلى وحي من الله؟ إنه لا يدعي هذا. وإن كان يقول: إن حدس المتصوفة كان دائماً يجد إلهاً ولابد أن نصدق هذا الحدس المطرد (الإله الذي يتحدث عنه برجسون ليس هو الله إنما هو الحياة!).. فأين المصدر الثالث الذي يعتمد عليه (برجسون) إذن في إثبات أن الوجود الكوني غير مسبوق بعدم؟ لا ندري!
إنه لابد من الالتجاء إلى تصور خالق خلق هذا الكون.. لابد من الالتجاء إلى هذا التصور لتعليل مجرد وجود الكون.. فكيف إذا كان الحال أنه لم يوجد مجرد وجود. ولكنه وجد محكوماً بنواميس لا تتخلف، محسوباً فيها كل شيء بمقاييس، قصارى العقول البشرية أن تدرك أطرافاً منها، بعد التدبر الطويل؟!
كذلك نشأة هذه الحياة. والمسافة بينها وبين المادة- أياً كان مدلول المادة ولو كان هو الإشعاع- لا يمكن تعليلها إلا بتصور وجود إله خالق مدبر. يخلق الكون بحالة تسمح بنشأة الحياة فيه؛ وتسمح بكفالة الحياة أيضاً بعد وجودها. والحياة الإنسانية بخصائصها الباهرة درجة فوق مجرد الحياة.. وأصله من طين.. أي من مادة هذه الأرض وجنسها؛ ولابد من إرادة مدبرة تمنحه الحياة، وتمنحه خصائص الإنسان عن قصد واختيار.
وكل المحاولات التي بذلها الملحدون لتعليل نشأة الحياة باءت بالفشل- عند العقل البشري ذاته- وآخر ما قرأته في هذا الباب محاولة (ديورانت) المتفلسف الأمريكي للتقريب بين نوع الحركة الذي في الذرة- وهو يسميه درجة من الحياة- ونوع الحياة المعروف في الأحياء. وذلك في جهد مستميت لملء الفجوة بين المادة الهامدة والحياة النابضة. بقصد الاستغناء عن الإله الذي ينشئ الحياة في الموات!
ولكن هذه المحاولة المستميتة لا تنفعه ولا تنفع الماديين في شيء.. ذلك أنه إن كانت الحياة صفة كامنة في المادة، ولم يكن وراء هذه المادة قوة أخرى ذات إرادة، فما الذي يجعل الحياة التي في المادة الكونية تتبدى في درجات بعضها أرقى وأعقد من بعض؟ فتتبدى في الذرة مجرد حركة آلية غير واعية. ثم تتبدى في النبات في صورة عضوية. ثم تتبدى في الأحياء المعروفة في صورة عضوية أكثر تركيباً وتعقيداً..
ما الذي جعل المادة- المتضمنة للحياة كما يقال- يأخذ بعضها من عنصر الحياة أكثر مما يأخذ البعض الأخر، بلا إرادة مدبرة؟ ما الذي جعل الحياة الكامنة في المادة، تختلف في مدارجها المترقية؟!
إننا نفهم هذا التفاوت يوم نقدر أن هناك إرادة مدبرة هي التي تصنع ذلك مختارة مريدة.
فأما حين تكون المادة (الحية ولنفرض ذلك!) هي وحدها، فإنه يستحيل على العقل البشري ذاته أن يفهم هذا التفاوت أو يعلله!
إن التعليل الإسلامي لانبثاق الحياة في درجاتها المتفاوتة هو الحل الوحيد لهذه الظاهرة التي لا تعللها المحاولات المادية البائسة!
وإذ كنا- في هذه الظلال- لا نخرج عن المنهج القرآني؛ فإننا لا نمضي أكثر من هذا في مواجهة لوثة الإلحاد ببراهين الخلق والتدبير والحياة.. فالقرآن الكريم لم يجعل قضية وجود الله قضيته. لعلم الله أن الفطرة ترفض هذه اللوثه. إنما القضية هي قضية توحيد الله؛ وتقرير سلطانه في حياة العبد؛ وهي القضية التي تتوخاها السورة في هذه الموجة التي استعرضناها.

.تفسير الآيات (4- 11):

{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)}
هذه هي الموجة التالية في افتتاح السورة؛ بعد الموجة الأولى ذات اللمسات العريضة.. الموجة التي غمرت الكون كله بحقيقة الوجود الإلهي متجلية في خلق السماوات والأرض، منشئة للظلمات والنور؛ ثم في خلق الإنسان من مادة هذه الأرض؛ وتقدير أجله الذي ينتهي بالموت؛ والاحتفاظ بسر الأجل الآخر المضروب للبعث؛ والإحاطة بسر الناس وجهرهم، وما يكسبون في السر والجهر..
هذا الوجود الإلهي الذي يتجلى في الآفاق والأنفس، هو وجود متفرد متوحد؛ ليس مثله وجود؛ لأنه ما من خالق غير الله؛ كما أنه وجود غامر باهر قاهر يبدو التكذيب في ظله والإعراض عن هذه الآيات الهائلة، منكراً قبيحاً، لا سند له، ولا عذر لصاحبه..
ومن ثم يعرض السياق موقف المشركين الذين يعارضون الدعوة الإسلامية في ظل هذا الوجود الغامر الباهر القاهر؛ فيبدو هذا الموقف منكراً قبيحاً، حتى في حس أصحابه الذين يواجههم هذا القرآن بهذه الحقيقة! ويكسب القرآن المعركة في الجولة الأولى. يكسبها في أعماق فطرة الناس، على الرغم من مكابرتهم ومن عنادهم الظاهرين!
وهو يعرض في هذه الموجة صورة العناد والمكابرة؛ ويواجهها بالتهديد مرة؛ وبتوجيه القلوب إلى مصارع المكذبين من قبل مرة؛ ويحشد فيها عدة مؤثرات وموحيات. بعد الهزة الأولى التي مضت بها تلك الموجة العريضة:
{وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين}..
إنهم يتخذون موقف الإعراض عناداً واصراراً. فليس الذي ينقصهم هو الآيات الداعية إلى الإيمان، ولا العلامات الدالة على صدق الدعوة والداعية، ولا البراهين الناطقة بما وراء الدعوة والداعية من ألوهية حقة، هي التي يدعون إلى الإيمان بها والاستسلام لها.. ليس هذا هو الذي ينقصهم، إنما تنقصهم الرغبة في الاستجابة، ويمسك بهم العناد والإصرار، ويقعد بهم الإعراض عن النظر والتدبر:
{وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين}..
وحين يكون الأمر كذلك. حين يكون الإعراض متعمدا ومقصوداً- مع توافر الأدلة، وتواتر الآيات ووضوح الحقائق- فإن التهديد بالبطش قد يحدث الهزة التي تفتح نوافذ الفطرة حين تسقط عنها حاجز الكبر والعناد:
{فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون}..
إنه الحق هذا الذي جاءهم من لدن خالق السماوات والأرض، وجاعل الظلمات والنور، وخالق الإنسان من طين، والإله في السماوات وفي الأرض الذي يعلم سرهم وجهرهم ويعلم ما يكسبون.
إنه الحق وقد كذبوا به، مصرين على التكذيب، معرضين عن الآيات، مستهزئين بالدعوة إلى الإيمان.. فليرتقبوا إذن أن يأتيهم الخبر اليقين عما كانوا به يستهزئون!
ويتركهم أمام هذا التهديد المجمل، الذي لا يعرفون نوعه ولا موعده.. يتركهم يتوقعون في كل لحظة أن تأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون! حيث يتكشف لهم الحق أمام العذاب المرتقب المجهول!
وفي موقف التهديد يلفت أعناقهم وأنظارهم وقلوبهم وأعصابهم إلى مصارع المكذبين من قبلهم- وقد كانوا يعرفون بعضها في دور عاد بالأحقاف وثمود بالحجر، وكانت أطلالهم باقية يمر عليها العرب في رحلة الشتاء للجنوب وفي رحلة الصيف للشمال، كما كانوا يمرون بقرى لوط المخسوفة ويعرفون ما يتناقله المحيطون بها من أحاديث- فالسياق يلفتهم إلى هذه المصارع وبعضها منهم قريب.
{ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين}..
ألم يروا إلى مصارع الأجيال الغابرة. وقد مكنهم الله في الأرض، وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان ما لم يعط مثله للمخاطبين من قريش في الجزيرة؛ وأرسل المطر عليهم متتابعاً ينشئ في حياتهم الخصب والنماء ويفيض عليهم من الأرزاق.. ثم ماذا؟ ثم عصوا ربهم، فأخذهم الله بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم جيلاً آخر، ورث الأرض من بعدهم؛ ومضوا هم لا تحفل بهم الأرض! فقد ورثها قوم آخرون! فما أهون المكذبين المعرضين أصحاب القوة والتمكين من البشر! ما أهونهم على الله؛ وما أهونهم على هذه الأرض أيضاً! لقد أهلكوا وغبروا فما أحست هذه الأرض بالخلاء والخواء؛ إنما عمرها جيل آخر؛ ومضت الأرض في دورتها كأن لم يكن هنا سكان؛ ومضت الحياة في حركتها كأن لم يكن هنا أحياء!
وهي حقيقة ينساها البشر حين يمكن الله لهم في الأرض. ينسون أن هذا التمكين إنما تم بمشيئة الله، ليبلوهم فيه: أيقومون عليه بعهد الله وشرطه، من العبودية له وحده، والتلقي منه وحده- بما أنه هو صاحب الملك وهم مستخلفون فيه- أم يجعلون من أنفسهم طواغيت، تدعي حقوق الألوهية وخصائصها؛ ويتصرفون فيما استخلفوا فيه تصرف المالك لا المستخلف.
إنها حقيقة ينساها البشر- إلا من عصم الله- وعندئذ ينحرفون عن عهد الله وعن شرط الاستخلاف؛ ويمضون على غير سنة الله؛ ولا يتبين لهم في أول الطريق عواقب هذا الانحراف، ويقع الفساد رويداً رويداً وهم ينزلقون ولا يشعرون.. حتى يستوفي الكتاب أجله؛ ويحق وعد الله.. ثم تختلف أشكال النهاية: مرة يأخذهم الله بعذاب الاستئصال- بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم كما وقع لكثير من الأقوام- ومرة يأخذهم بالسنين ونقص الأنفس والثمرات كما حدث كذلك لأقوام- ومرة يأخذهم بأن يذيق بعضهم بأس بعض؛ فيعذب بعضهم بعضاً، ويدمر بعضهم بعضاً، ويؤذي بعضهم بعضاً، ولا يعود بعضهم يأمن بعضاً؛ فتضعف شوكتهم في النهاية؛ ويسلط الله عليهم عباداً له- طائعين أو عصاة- يخضدون شوكتهم، ويقتلعونهم مما مكنوا فيه؛ ثم يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم بما مكنهم.