فصل: تفسير الآيات (114- 127):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



بعد ذلك تجيء آيتان في سياق السورة؛ هما من ناحية تكملة للمعاني والحقائق التي تستهدفها الفقرة السابقة التي انتهينا من الحديث عنها. ومن ناحية هما تمهيد للقضايا العقيدية المتعلقة بالسلطان والشريعة والحاكمية. وهي القضايا التي تستغرق ما تبقى من السورة..
الآيتان:
{وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون.
ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون}.
.. كذلك.. كالذي قدرناه من أن أولئك المشركين الذين يعلقون إيمانهم بمجيء الخوارق، ويعرضون عن دلائل الهدى وموحياته في الكون والنفس، لا يقع منهم الإيمان ولو جاءتهم كل آية..
كذلك الذي قدرناه في شأن هؤلاء، قدرنا أن يكون لكل نبي عدوهم شياطين الإنس والجن. وقدرنا أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليخدعوهم به ويغروهم بحرب الرسل وحرب الهدى. وقدرنا أن تصغي إلى هذا الزخرف أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، ويرضوه، ويقترفوا ما يقترفونه من العداوة للرسل وللحق؛ ومن الضلال والفساد في الأرض..
كل ذلك إنما جرى بقدر الله؛ وفق مشيئته. ولو شاء ربك ما فعلوه. ولمضت مشيئته بغير هذا كله؛ ولجرى قدره بغير هذا الذي كان. فليس شيء من هذا كله بالمصادفة. وليس شيء من هذا كله بسلطان من البشر كذلك أو قدرة!
فإذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض من المعركة الناشبة التي لا تهدأ بين الرسل والحق الذي معهم، وبين شياطين الإنس والجن وباطلهم وزخرفهم وغرورهم.. إذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض إنما يجري بمشيئة الله ويتحقق بقدر الله، فإن المسلم ينبغي أن يتجه إذن إلى تدبر حكمة الله من وراء ما يجري في الأرض، بعد أن يدرك طبيعة هذا الذي يجري والقدرة التي وراءه..
{وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً}..
بإرادتنا وتقديرنا، جعلنا لكل نبي عدوا.. هذا العدو هو شياطين الإنس والجن.. والشيطنة وهي التمرد والغواية والتمحض للشر صفة تلحق الإنس كما تلحق الجن. وكما أن الذي يتمرد من الجن ويتمحض للشر والغواية يسمى شيطاناً؛ فكذلك الذي يتمرد من الإنس ويتمحض للشر والغواية.. وقد يوصف بهذه الصفة الحيوان أيضا إذا شرس وتمرد واستشرى أذاه! وقد ورد: الكلب الأسود شيطان.
هؤلاء الشياطين- من الإنس والجن- الذين قدر الله أن يكونوا عدوا لكل نبي، يخدع بعضهم بعضا بالقول المزخرف، الذي يوحيه بعضهم إلى بعض- ومن معاني الوحي التأثير الداخلي الذي ينتقل به الأثر من كائن إلى كائن آخر- ويغر بعضهم بعضا، ويحرض بعضهم بعضاً على التمرد والغواية والشر والمعصية..
وشياطين الإنس أمرهم معروف ومشهود لنا في هذه الأرض، ونماذجهم ونماذج عدائهم لكل نبي، وللحق الذي معه، وللمؤمنين به، معروفة يملك أن يراها الناس في كل زمان.
فأما شياطين الجن- والجن كله- فهم غيب من غيب الله، لا نعرف عنه إلا ما يخبرنا به مَن عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو.. ومن ناحية مبدأ وجود خلائق أخرى في هذا الكون غير الإنسان وغير الأنواع والأجناس المعروفة في الأرض من الأحياء.
نقول من ناحية المبدأ نحن نؤمن بقول الله عنها، ونصدق بخبره في الحدود التي قررها. فأما أولئك الذين يتترسون بالعلم لينكروا ما يقرره الله في هذا الشأن، فلا ندري علام يرتكنون؟ إن علمهم البشري لا يزعم أنه أحاط بكل أجناس الأحياء، في هذا الكوكب الأرضي! كما أن علمهم هذا لا يعلم ماذا في الأجرام الأخرى! وكل ما يمكن أن يفترضه أن نوع الحياة الموجود في الأرض يمكن أولا يمكن أن يوجد في بعض الكواكب والنجوم.. وهذا لا يمكن أن ينفي- حتى لو تأكدت الفروض- أن أنواعاً أخرى من الحياة وأجناساً أخرى من الأحياء يمكن أن تعمر جوانب أخرى في الكون لا يعلم هذا العلم عنها شيئاً! فمن التحكم والتبجح أن ينفي أحد باسم العلم وجود هذه العوالم الحية الأخرى.
وأما من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن؛ والذي يتشيطن بعضه ويتمحض للشر والغواية- كإبليس وذريته- كما يتشيطن بعض الإنس.. من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن، نحن لا نعلم عنه إلا ما جاءنا الخبر الصادق به عن الله- سبحانه- وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعرف أن هذا الخلق مخلوق من مارج من نار. وأنه مزود بالقدرة على الحياة في الأرض وفي باطن الأرض وفي خارج الأرض أيضاً. وأنه يملك الحركة في هذه المجالات بأسرع مما يملك البشر. وأن منه الصالحين المؤمنين، ومنه الشياطين المتمردين. وأنه يرى بني آدم وبنو آدم لا يرونه- في هيئته الأصلية- وكم من خلائق ترى الإنسان ولا يراها الإنسان! وأن الشياطين منه مسلطون على بني الإنسان يغوونهم ويضلونهم، وهم قادرون على الوسوسة لهم والإيحاء بطريقة لا نعلمها. وأن هؤلاء الشياطين لا سلطان لهم على المؤمنين الذاكرين. وأن الشيطان مع المؤمن إذا ذكر الله خنس وتوارى، وإذا غفل برز فوسوس له! وأن المؤمن أقوى بالذكر من كيد الشيطان الضعيف. وأن عالم الجن يحشر مع عالم الإنس؛ ويحاسب؛ ويجازى بالجنة وبالنار كالجنس الإنساني. وأن الجن حين يقاسون إلى الملائكة يبدون خلقاً ضعيفاً لا حول له ولا قوة!
وفي هذه الآية نعرف أن الله سبحانه قد جعل لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن..
ولقد كان الله- سبحانه- قادراً- لو شاء- ألا يفعلوا شيئاً من هذا.. ألا يتمردوا؛ وألا يتمحضوا للشر؛ وألا يعادوا الأنبياء؛ وألا يؤذوا المؤمنين؛ وألا يضلوا الناس عن سبيل الله.. كان الله سبحانه قادرا أن يقهرهم قهراً على الهدى؛ أو أن يهديهم لو توجهوا للهدى؛ أو أن يعجزهم عن التصدي للأنبياء والحق والمؤمنين به.
ولكنه سبحانه ترك لهم هذا القدر من الاختيار. وأذن لهم أن تمتد أيديهم بالأذى لأولياء الله- بالقدر الذي تقضي به مشيئته ويجري به قدره- وقدر أن يبتلي أولياءه بأذى أعدائه؛ كما يبتلي أعداءه بهذا القدر من الاختيار والقدرة الذي أعطاهم إياه. فما يملك هؤلاء أن يوقعوا بأولياء الله من الأذى إلا ما قدره الله:
{ولو شاء الله ما فعلوه} فما الذي يخلص لنا من هذه التقريرات؟
* يخلص لنا ابتداء: أن الذين يقفون بالعداوة لكل نبي؛ ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء.. هم شياطين!. شياطين من الإنس ومن الجن.. وأنهم يؤدون جميعاً- شياطين الإنس والجن- وظيفة واحدة! وأن بعضهم يخدع بعضاً ويضله كذلك مع قيامهم جميعاً بوظيفة التمرد والغواية وعداء أولياء الله..
* ويخلص لنا ثانياً: أن هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئاً من هذا كله، ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء وإيذاء أتباعهم بقدرة ذاتية فيهم. إنما هم في قبضة الله. وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده. من تمحيص هؤلاء الأولياء، وتطهير قلوبهم، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء. فإذا اجتازوا الامتحان بقوة كف الله عنهم الابتلاء. وكف عنهم هؤلاء الأعداء. وعجز هؤلاء الأعداء أن يمدوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدر الله. وآب أعداء الله بالضعف والخذلان؛ وبأوزارهم كاملة يحملونها على ظهورهم:
{ولو شاء الله ما فعلوه} * ويخلص لنا ثالثا: أن حكمة الله الخالصة هي التي اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا- فهو إنما يبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة- وأن يدعهم يؤذون أولياءه فترة من الزمان- فهو إنما يبتلي أولياءه كذلك لينظروا: أيصبرون؟ أيثبتون على ما معهم من الحق بينما الباطل ينتفش عليهم ويستطيل؟ أيخلصون من حظ أنفسهم في أنفسهم ويبيعونها بيعة واحدة لله، على السراء وعلى الضراء سواء. وفي المنشط والمكره سواء؟ وإلا فقد كان الله قادراً على ألا يكون شيء من هذا الذي كان!
* ويخلص لنا رابعا: هوان الشياطين من الإنس والجن، وهوان كيدهم وأذاهم. فما يستطيلون بقوة ذاتية لهم؛ وما يملكون أن يتجاوزوا ما أذن الله به على أيديهم.. والمؤمن الذي يعلم أن ربه هو الذي يقدر، وهو الذي يأذن، خليق أن يستهين بأعدائه من الشياطين؛ مهما تبلغ قوتهم الظاهرة وسلطانهم المدَّعى. ومن هنا هذا التوجيه العلوي لرسول الله الكريم:
{فذرهم وما يفترون}..
دعهم وافتراءهم. فأنا من ورائهم قادر على أخذهم، مدخر لهم جزاءهم..
* وهناك حكمة أخرى غير ابتلاء الشياطين، وابتلاء المؤمنين.. لقد قدر الله أن يكون هذا العداء، وأن يكون هذا الإيحاء، وأن يكون هذا الغرور بالقول والخداع.. لحكمة أخرى:
{ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} أي لتستمع إلى ذلك الخداع والإيحاء قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة.
فهؤلاء يحصرون همهم كله في الدنيا. وهم يرون الشياطين في هذه الدنيا يقفون بالمرصاد لكل نبي. وينالون بالأذى أتباع كل نبي، ويزين بعضهم لبعض القول والفعل. فيخضعون للشياطين، معجبين بزخرفهم الباطل، معجبين بسلطانهم الخادع. ثم يكسبون ما يكسبون من الإثم والشر والمعصية والفساد. في ظل ذلك الإيحاء، وبسبب هذا الإصغاء..
وهذا أمر أراده الله كذلك جرى به قدره. لما وراءه من التمحيص والتجربة. ولما فيه من إعطاء كل أحد فرصته ليعمل لما هو ميسر له؛ ويستحق جزاءه بالعدل والقسطاس.
ثم لتصلح الحياة بالدفع؛ ويتميز الحق بالمفاصلة؛ ويتمحض الخير بالصبر؛ ويحمل الشياطين أوزارهم كاملة يوم القيامة.. وليجري الأمر كله وفق مشيئة الله.. أمر أعدائه وأمر أوليائه على السواء.. إنها مشيئة الله، والله يفعل ما يشاء.
والمشهد الذي يرسمه القرآن الكريم للمعركة بين شياطين الإنس والجن من ناحية، وكل نبي وأتباعه من ناحية أخرى؛ ومشيئة الله المهيمنة وقدره النافذ من ناحية ثالثة.. هذا المشهد بكل جوانبه جدير بأن نقف أمامه وقفة قصيرة:
إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون.. شياطين الإنس والجن.. تتجمع في تعاون وتناسق لإمضاء خطة مقررة.. هي عداء الحق الممثل في رسالات الأنبياء وحربه.. خطة مقررة فيها وسائلها.. {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً}.. يمد بعضهم بعضاً بوسائل الخداع والغواية؛ وفي الوقت ذاته يغوي بعضهم بعضا! وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمع للشر في حرب الحق وأهله.. إن الشياطين يتعاونون فيما بينهم؛ ويعين بعضهم بعضاً على الضلال أيضاً! إنهم لا يهدون بعضهم البعض إلى الحق أبداً. ولكن يزين بعضهم لبعض عداء الحق وحربه والمضي في المعركة معه طويلاً!
ولكن هذا الكيد كله ليس طلقياً.. إنه محاط به بمشيئة الله وقدره.. لا يقدر الشياطين على شيء منه إلا بالقدر الذي يشاؤه الله وينفذه بقدره. ومن هنا يبدو هذا الكيد- على ضخامته وتجمع قوى الشر العالمية كلها عليه- مقيداً مغلولاً! إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط. ولا يصيب من يشاء بلا معقب ولا مراجع- كما يحب الطغاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر، ليعلقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم.. كلا! إن إرادتهم مقيدة بمشيئة الله. وقدرتهم محدودة بقَدر الله. وما يضرون أولياء الله بشيء إلا بما أراده الله- في حدود الابتلاء- ومرد الأمر كله إلى الله.
ومشهد التجمع على خطة مقررة من الشياطين جدير بأن يسترعي وعي أصحاب الحق ليعرفوا طبيعة الخطة ووسائلها.. ومشهد إحاطة مشيئة الله وقدره بخطة الشياطين وتدبيرهم جدير كذلك بأن يملأ قلوب أصحاب الحق بالثقة والطمأنينة واليقين، وأن يعلق قلوبهم وأبصارهم بالقدرة القاهرة والقدر النافذ، وبالسلطان الحق الأصيل في هذا الوجود، وأن يطلق وجدانهم من التعلق بما يريده أو لا يريده الشياطين! وأن يمضوا في طريقهم يبنون الحق في واقع الخلق، بعد بنائه في قلوبهم هم وفي حياتهم. أما عداوة الشياطين، وكيد الشياطين، فليدعوهما للمشيئة المحيطة والقدر النافذ.
{ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون}..

.تفسير الآيات (114- 127):

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)}
الآن نجيء إلى القضية التي تعالجها بقية السورة؛ والتي كان التمهيد لها مطرداً في سياق السورة كله؛ وآخر هذا التمهيد ما ساقه من قضايا العقيدة الكبيرة؛ ومن واقع المعركة العقيدية الطويلة في الآيتين السابقتين. ومن تقرير سلطان الله المطلق فيما يقع من المعركة بين شياطين الإنس والجن وكل نبي. ومن قواعد الهدى والضلال وسنة الله التي يجري وفقها الضلال والهدى... إلى آخر ما استعرضناه في الصفحات السابقة.
الآن نجيء إلى القضية التي جعلت هذه المقدمات كلها قاعدة لها.. قضية الحل والحرمة فيما ذكر اسم الله عليه وما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح.. وهي تأخذ أهميتها من ناحية تقرير المبدأ الإسلامي الأول: مبدأ حق الحاكمية المطلقة لله وحده؛ وتجريد البشر من ادعاء هذا الحق أو مزاولته في أية صورة من الصور.. وحين تكون القضية هي قضية هذا المبدأ فإن الصغيرة تكون كالكبيرة في تحقيق هذا المبدأ أو نقضه.. ولا يهم أن يكون الأمر أمر ذبيحة يؤكل منها أو لا يؤكل؛ أو أن يكون أمر دولة تقام أو نظام مجتمع يوضع. فهذه كتلك من ناحية المبدأ. وهذه كتلك تعني الاعتراف بألوهية الله وحده؛ أو تعني رفض هذه الألوهية.